أصول التربية
المؤلف: محمد منير مرسي
التصنيف: علوم التربية
عرض PDFالوصف:
محمد منير مرسي، أصول التربية، عالم الكتب.
مقدمة
تعتبر أصول التربية من الأمور التي لا يستطيع أي دارس للتربية أن يستغني عنها لأنها تمثل ركيزة رئيسية في تكوينه وإعداده. وتبرز أهمية دراسة أصول التربية مع تزايد النظرة إلى الاعتراف بالتربية كمهنة إنسانية راقية. وإذا كانت المهنة تقوم على التخصص فإن هذا التخصص لا يتأتى إلا من خلال الإعداد المهني الطويل الذي يقوم في أساسه على دراسة الأصول العلمية للمهنة. ودراسة هذه الأصول تمثل ركيزة هامة لدارس التربية لأنها تساعده على تكوين الحس المهني لديه وتساعده على إصدار الأحكام واتخاذ القرارات المهنية التي تتطلبها المواقف الميدانية المختلفة في ممارسته للتربية. ومن هنا كانت أهمية هذا الكتاب الذي يحاول أن يقدم لدارسي التربية الأصول الثقافية والاجتماعية والفلسفية للتربية في صورة واضحة مبسطة.
وقد صدر هذا الكتاب عام 1984 وصدرت له عدة طبعات بعدها. وهو يخرج في هذه الطبعة الحديثة في صورة منقحة ومزيدة.
ولا تقتصر أهمية هذا الكتاب على دارسي التربية وإنما تمثل أهمية مماثلة لراسمي السياسات التعليمية والمهتمين بإعداد المعلمين وتدريبهم والمشتغلين بالعلوم التربوية. والعاملين بالتربية والتعليم من مربيين ومعلمين.
إلى كل هؤلاء نقدم هذا الكتاب آملين أن يجدوا فيه بعض زاد قصدنا من ورائه الخير والنفع.. وعلى الله قصد السبيل.
القاهرة 1993/9/21
1 - د. محمد منير مرسي
أستاذ التربية المقارنة والإدارة التعليمية
الصفحة 10
التربية - مفهومها - تطورها - أهميتها - أصولها
إذا بحثنا في المعاجم اللغوية العربية لتحديد معنى التربية فإننا نجد أنها ترجع في أصلها اللغوي العربي إلى الفعل )ربا – يربو( أي نما وزاد. وفي التنزيل الحكيم وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وريت " أي نمت وزادت لما يداخلها من الماء والنبات. وتقول ربي في بيت فلان أي نشأ فيه. ورباه بمعنى نشأه ونمى قواه الجسدية والعقلية والخلقية.. وفي التنزيل الحكيم أيضا: " قال ألم نربك فينا
وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين «. " وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " . وورد في " الصحاح " في اللغة والعلوم أن التربية هي " تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية كي تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف " . وهكذا يتضمن المعنى اللغوي التربية عملية النمو والزيادة. ومن الطبيعي أن يكون هذا النمو وتلك الزيادة من جنس الشيء وطبيعته. وبالنسبة للإنسان يكون هذا النمو في جسمه وعقله وخلقه وكل مقومات شخصيته. وهذا المعنى اللغوي للتربية على أنها عملية نمو هو لب معنى التربية بمعناها الاصطلاحي في أذهان المربين.
والواقع أن هناك عدة معان للتربية تتفرع كلها من عملية النمو. فهي بالمعنى الواسع تتضمن كل عملية تساعد على تشكيل عقل الفرد وخلقه وجسمه باستثناء ما قد
يتدخل في هذا التشكيل من عمليات تكوينية أو وراثية. وهي بهذا المعنى تعنى التنشئة الاجتماعية المتكاملة للفرد.
والتربية بمعناها الضيق تعنى غرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسسات معينة أنشئت لهذا الغرض كالمدارس مثلا. وهي بهذا المعنى تصبح مرادفة للتعليم. ولا شك في أن التعليم هو جانب جزئي من جوانب التربية يقتصر على تنمية الجانب العقلي والمعرفي. وهذا المعنى للتربية هو من جانب المتعلم سواء كان تعلمه من خلال اكتشافاته وخبراته الخاصة أو من خلال تعلمه على أيدي أناس آخرين.
ويشار إلى علم التربية أحيانا بالبيداغوجيا - وهي كلمة ترجع في
الصفحة 18
أصلها إلى الإغريق وتعنى " توجيه الأولاد " وتتكون من مقطعين Panel وتعنى ولد و
وتعنى توجيه. والبيداغوجي عند الإغريق تعنى المربى أو المشرف على تربية
الأولاد. وتشير بيترسون في كتابها عن التدريس الناجح ( 1992 ) إلى أن مالكوم نویلز
قد طور في كتابه ) Self Directed Learning ص 27)
مصطلحا جديدا هو Andragogy كمصطلح مناسب للتدريس للكبار وأنه يمكن أن يطلق
على التعليم النشط. ذلك أن الطريقة البيداغوجية في نظر بيترسون مناسبة للصغار لأنها تؤكد على اعتماد المتعلم على المعلم في التدريس وعلى قيادته وسلطته ونفوذه لكن مناسبة هذه الطريقة لتعليم الكبار في محل تساؤل لأن للكبار خبراتهم وتجاربهم في الحياة.
ويقدم معجم العلوم السلوكية عدة تعريفات للتربية من أهمها :
1- أن التربية تعنى التغييرات المتتابعة التي تحددت للفرد والتي تؤثر في معرفته واتجاهاته وسلوكه كنتيجة للدراسة والتعليم المدرسي.
2-أن التربية تعنى نمو الفرد الناتج عن الخبرة أكثر من كونه ناتجا عن النضج.
ويقدم " جود “في معجمه التربوي أربعة معان للتربية:
1- هي مجموعة العمليات التي من خلالها يقوم الفرد بتنمية قدراته واتجاهاته وصور أخرى من السلوك ذات القيمة الإيجابية في المجتمع الذي يحيا فيه.
2-هي العملية الاجتماعية التي يخضع الأفراد من خلالها لتأثيرات بيئة أو وسط
منتقى ومضبوط ) كالمدرسة مثلا) وذلك حتى يمكن لهم أن يحققوا كفاءتهم الاجتماعية وأقصى نموهم الفردي.
3-هي الفن الذي بواسطته يتوفر لكل جيل من الأجيال معرفة الماضي في صورة منظمة.
الصفحة 19
هي مصطلح عام يقصد به عادة المقررات المهنية التي تقدم في معاهد التعليم العالية لإعداد المعلمين - مثل : علم النفس التربوي - فلسفة التربية - تاريخ التربية - المناهج وطرق التدريس والإدارة والإشراف .. الخ
ماذا يقول فلاسفة التربية ومفكروها ؟
إذا رجعنا إلى ما يقوله فلاسفة التربية لتحديد مفهوم التربية نجد هناك عدة تعريفات : فقديما عرف أفلاطون التربية بأنها تدريب الفطرة الأولى للطفل على الفضيلة من خلال اكتسابه العادات المناسبة . ويقول لودج : " هناك معنيان للتربية أحدهما واسع والثاني ضيق . أما المعنى الواسع فيعنى أن التربية تعادل الخبرة أي خبرة الكائن الحي في تفاعله مع بيئته الطبيعية . أما في معناها الضيق فيقصد بها التعليم المدرسي " . ويعرف " ميلتون " التربية الصحيحة بأنها التربية التي تساعد الفرد على تأدية واجباته العامة والخاصة في السلم والحرب بصورة مناسبة وماهرة . ويرى " توماس الإكويني " أن الهدف من التربية تحقيق السعادة من خلال غرس الفضائل العقلية والخلقية . ويرى " هيجل " أن الهدف من التربية العمل على تشجيع روح الجماعة وتخليص الفرد من روح الأنانية . ويعرف " دوركايم " التربية بأنها الإجراء الذي تمارسه الأجيال الأكبر سنا على الأجيال التي لم تستعد بعد للحياة الاجتماعية . وهدف التربية إيقاظ وتنمية تلك الجوانب الجسمية والعقلية والخلقية للطفل التي يتطلبها منه كل من المجتمع والبيئة التي أعد من أجلها .
ويعرف " هرمان هورن" وهو أحد الفلاسفة المثاليين التربية بأنها العملية الخارجية للتوافق السامي مع الله من جانب الإنسان الحر الواعي الناضج جسميا وعقليا . كما يعبر عن هذا التوافق في بنية الإنسان العقلية والانفعالية والإرادية . ويقول " بتسالوتزي " في معنى التربية " إن التربية الحقة المثمرة تتمثل أمامي كشجرة غرسها على مقربة من مياه جارية . بذرتها الصغيرة تنمو منها الشجرة وتستمد منها صفاتها المدفونة في العلمي والشجرة كلها سلسلة متصلة الحلقات مكونة من أجزاء عضوية . والإنسان يشبه هذه الشجرة . ففي الطفل تكمن تلك الملكات والقوى الإنسانية التي تنمو فيما بعد . كما أن الفرد وأعضائه المختلفة لا تلبث أن تتشكل وتصير وحدة
الصفحة 20
كاملة. ويقول " ديوي " في التربية " إني أعتقد أن الطفل الذي نريد تربيته فرد اجتماعي وأن المجتمع وحدة عضوية مؤلفة من أفراد . وإذا نحن أسقطنا العامل الاجتماعي من حساب الطفل بقينا أمام شيء مجرد - وإذا أسقطنا العامل الفردي من المجتمع لم يبق إلا جمهور بغير حركة أو حياة . من أجل ذلك كان لابد للتربية أن تبدأ بالنظر في قوى الطفل واهتماماته وعاداته . وكان لابد أن تضبط بالرجوع إلى هذه الاعتبارات ولابد أن تفسر على الدوام هذه القوى والاهتمامات والعادات بمعرفة ما تدل عليه . ولابد من ترجمتها إلى نظائرها الاجتماعية أي إلى اللغة التي بها تستطيع القيام بخدمة اجتماعية .
وفي عبارة أخرى نجد أن " جون ديوي " وهو أحد فلاسفة التربية البراجماتيين يعلن أن : " التربية قد تعرف بأنها عملية مستمرة لإعادة بناء الخبرة بهدف توسيع وتعميق مضمونها الاجتماعي "
وهكذا يرى " ديوى " أن التربية نمو إلى ما هو أحسن بالنسبة للفرد والجماعة . وفي رأيه أنه ليست هناك أهداف ثابتة للتربية .
ويتفق جون ديوى مع فرويل على أن للتربية وجهين أو جانبين أحدهما سيكولوجي والآخر اجتماعي . ومن ثم فإن التربية تعنى بتربية " فرد في مجتمع فالاعتبارات السيكولوجية تمثل قاعدة العملية التربية . وكذلك طبيعة مجتمع تمثل قاعدة أخرى لها . والتربية تحدث من خلال اشتراك الفرد في المجتمع . ويتفق " بستالوتزي " مع " فرويل " على أن التربية يجب أن تستهدف الإصلاح الاجتماعي من خلال تنمية إمكانيات الفرد . وتبعا للتفكير المسيحي " فإن التربية تعنى بصفة أساسية إعداد الإنسان لما ينبغي أن يكون عليه ولما ينبغي أن يفعله هنا على الأرض بقصد بلوغ الغاية العليا في الآخرة " .
والتربية في الإسلام تعنى بلوغ الكمال بالتدريج . ويقصد بالكمال هنا كمال الجسم والعقل والخلق والدين، لأن الإنسان موضوع التربية . والإنسان خليفة الله على الأرض وكرمه على كثير من خلقه وجعل الملائكة تسجد له . ولذلك يجب أن تأتي تربية
الصفحة 21
الإنسان متمشية مع مطالب هذه الخلافة بجوانبها المختلفة . وستفصل ذلك عند الكلام عن خصائص المفهوم الشامل للتربية الإسلامية .
مفهوم التربية والمفاهيم الأخرى :
يختلط مفهوم التربية بغيره من المفاهيم الأخرى المتصلة كما سبق أن رأينا في عرضنا السابق لمفهوم التربية . ومن المفاهيم التي تختلط بالتربية مفهوم " التعليم " . وكثير من وزارات التربية في البلاد العربية تحمل الاسمين معا " التربية والتعليم " ويقصد بالتربية هنا ما يدور في المدارس والمؤسسات التعليمية أي التربية المدرسية أو الرسمية .
ويختلط مفهوم التربية أيضا بالتعليم . والتعلم بصرف النظر عن تعدد نظرياته هو تغير في الأداء يحدث تحت شروط الممارسة . وهو بهذا المعنى يشمل الإنسان والحيوان . فكما أن الإنسان يتعلم فإن الحيوان أيضا يتعلم . ويختلف التعلم عن مفهوم التربية المدرسية في أن التعلم لا يقتصر على المدارس أو مؤسسات التعليم . فالإنسان يتعلم في داخل المدرسة وخارجها . كما أنه يتعلم طول حياته . وبهذا يختلف التعلم عن التربية المدرسية وإن كان إحدى وسائلها . كما أن التعلم يختلف عن التربية بصفة عامة سواء كانت مدرسية أو غير مدرسية في أنه يمكن أن يتم في ظل أي ظروف مقصودة أو غير مقصودة . أما التربية فإنها عملية مقصودة موجهة . وقد يختلط مفهوم التربية بالتدريب . والخط المميز بينها يتمثل في عملية التفكير النقدي . فالتربية على عكس التدريب تتضمن تفكيرا نقديا . في حين أن التدريب هو عادة عملية محكومة يقصد بها اكتساب أو تحسين مهارات سلوكية أو أدائية معينة . وهذا ينسحب على الإنسان والحيوان . فالحيوان يمكن تدريبه كما هو معروف . وقد شاع في الماضي استخدام كلمة التدريب وما زالت تستخدم في مجالات التدريب المهني أو التدريب أثناء الخدمة وإن كان استخدام المصطلح الأخير في طريقه إلى الاندثار بالنسبة لميدان التربية والتعليم . فيكثر الآن على سبيل المثال استخدام " تربية المعلمين أثناء الخدمة " بدلا من تدريب المعلمين أثناء الخدمة .
الصفحة 22
ويمكننا توضيح العلاقة بين هذه المفاهيم بالقول بأنها ترتبط فيما بينها بدوائر تتسع وتضيق . وأوسع هذه الدوائر وأشملها دائرة الحياة بما فيها من خبرات هائلة . يأتي بعدها دائرة التعلم وتليها في الاتساع يليها دائرة التربية ثم دائرة التدريب وهي أضيق الدوائر . أما التعليم المدرسي فإنه يشتمل على قطاع من كل هذه الدوائر .
ويصور أحد رجال التربية العلاقة بين هذه المفاهيم المتداخلة بالشكل التالي :
) انظر الرسم التوضيحي صفحة 23(
إختلاف النظرة إلى مفهوم التربية :
لقد اختلفت النظرة إلى التربية كما رأينا من التعاريف السابقة . ويبدو أن هذا الإختلاف قائم منذ فجر التاريخ . ففي عبارة مشهورة لأرسطو يقول فيها " تختلف
الصفحة 23
الآراء حول موضوعات التربية . فالناس لا تتوحد فكرتهم بالنسبة لما ينبغي أن يتعلمه النشء ولا بالنسبة للكمال الإنساني ولا بالنسبة لأفضل حياة ممكنة . بل وليس من الواضح ما إذا كان الواجب توجيه التربية أساسا إلى العقل أو الخلق . وما إذا كانت مواد الدراسة المناسبة هي تلك المفيدة في الحياة أو تلك التي تصنع الكمال أو تلك التي تنمى أواصر المعرفة . ليس جميع الناس سواء في تقديرهم للكمال الإنساني المتميز .ومن ثم فمن الطبيعي أن يختلفوا حول الإعداد المناسب للوصول إليه . ومن الطبيعي بالنسبة لموضوع هام كالتربية أن تختلف وجهات النظر فيه . فقد ينظر إلى التربية على أنها تهذيب الخلق وتنمية الأخلاق الحميدة في الإنسان وتربيته على الكمال والفضيلة . وهذا هو مفهوم التربية بمعناها التهذيبي أو التأديبي . وقد ينظر إلى التربية على أنها عملية روحية لتعميق إيمان الإنسان بخالقه وتقوية صلته به . وقد يقصد بها تسامى الإنسان عن رغباته الدنيوية وحاجاته المادية والبيولوجية . وقد يقصد بها عملية إعداد الإنسان لحياة الكبار أو تكيفه لبيئته المادية والاجتماعية . وقد ينظر إلى التربية على أنها خدمة المثل العليا للمجتمع أو خدمة المثل العليا للفرد . وقد يجمع بين النظريتين في ظل الديمقراطية مثلا . وقد ينظر إلى التربية على أنها عملية تنمية اجتماعية للفرد والمجتمع معا . وقد ينظر إليها على أنها عملية اقتصادية تعنى استثمار الأموال في الموارد البشرية التي هي عنصر هام من عناصر الإنتاج
الرئيسية . ويصبح هدف التربية في ظلها المفهوم إعداد القوى البشرية المدربة التي تستطيع أن تقوم بدورها في مجال العمل والإنتاج، وأن التربية لها دور رئيسي في عملية التنمية الاقتصادية ولها عائدها ومردودها الاقتصادي الذي يفوق أي عائد نحصل عليه من أي مجال استثماري آخر . وهذا هو مفهوم التربية بمعناها الاقتصادي . وقد يجمع بين أكثر من وجهة نظر من النظرات السابقة ، وقد يجمع بينها جميعا .
وهناك معنى آخر مخالف لكل ما سبق وهو أنه قد ينظر إلى التربية على أنها أحد فروع المعرفة الأكاديمية الذي ينقسم إلى تخصصات مختلفة في فلسفة التربية وأصولها وتاريخها ومناهجها وطرق تدريسها وغيرها من التخصصات التي تنقسم إليها وهكذا يمكن القول بأن للتربية منطلقات إنسانية وقومية وتنموية وعلمية واجتماعية . كما أن هذه المنطلقات يمكن
الصفحة 24
أن ترمى إلى تحقيق أهداف متعددة منها ما هو من أجل المحافظة على المجتمع وتماسكه، ومنها ما هو للتغيير والتجديد أو البناء أو الحراك الاجتماعي .
التربية كعملية ونتيجة :
قد ينظر إلى التربية على أنها غاية في حد ذاتها تستهدف مساعدة الفرد على تحقيق ذاته وتنمية قدراته وإمكانياته وتزويده بالمهارات المعرفية والسلوكية والعملية التي تمكنه من أن يحيا حياة حرة كريمة بعيدة عن قيود الجهل وشبح الفقر وإهدار القيم والكرامة الإنسانية .
وقد ينظر إلى التربية على أنها وسيلة لتحقيق كل ما سبق أو على أنها وسيلة لخدمة أغراض الدولة والمجتمع . وتصبح التربية في هذه الحالة وسيلة الدولة أو المجتمع في خدمة أغراضها التي تستهدفها . وقد يكون ذلك بدون التضحية بالفرد نفسه أو قد يكون في ذلك تضحية به وبقيمته وكرامته كما في التربية الديكتاتورية .
ويصرف النظر عن اختلاف النظرة إلى التربية فإنه يجب أن نميز بين التربية كنتيجة والتربية كعملية . فالتربية كنتيجة تعنى ما يحدث للفرد من خلال النمو والتعليم باكتساب ألوان المعرفة والمثل العليا والنمو الجسمي والعقلي والانفعالي والوجداني والاجتماعي . وهي كعملية تعنى كل المؤثرات التربوية والثقافية التي يتعرض لها الفرد بصورة منظمة موجهة من خلال منظمات متخصصة أو بصورة غير منظمة من كل القوى المعلمة والمربية في المجتمع كالأسرة والمؤسسات الدينية وجميع وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وجماعة الرفاق والصحبة وغيرها .
وقد سبق أن أشرنا إلى أن التربية عملية نمو للفرد . ولكن ليس كل عملية نمو تصاحب الإنسان أو تطرأ عليه تعتبر تربية إلا إذا كانت في الاتجاه المرغوب من قبل الأسرة والمجتمع ومنظماته الدينية والثقافية والتربوية . فهناك ألوان من السلوك غير المرغوب فيه يكتسبها الفرد من قرناء السوء . وهي لا تعتبر تربية لأنها لا تحظى بالقبول من المجتمع .
الصفحة 25
وهناك مظاهر من النمو الإنساني لا تدخل في نطاق التربية . فظهور الأسنان ونمو الشعر مثلا كلها مظاهر النمو الإنساني تحدث نتيجة للنضج . وهي مظاهر للنمو مرغوب فيها . وتعتبر ضرورية لاكتمال صورة الإنسان كما أرادها الخالق عز وجل . كما أنها ضرورية لما يترتب عليها من أهمية لبقاء الإنسان واستمراره في الحياة من ناحية ، وما تستلزمه من مطالب تربوية مترتبة عليها من ناحية أخرى . والنمو الجسمي مثلا يحتاج إلى تمرين وتدريب وممارسة ورياضة ليشب قويا صحيحا مؤديا لوظائفه
بانتظام . ويترتب على ذلك نتائج إيجابية لوظائف الجسم الأخرى . إن المثل يقول " العقل السليم في الجسم السليم " . وهو ما يوضح العلاقة العضوية بينهما.
وهكذا يمكن تقسيم مظاهر النمو التي تحدث للإنسان إلى نوعين رئيسيين تبعا لأسباب حدوثها . فمنها ما يحدث نتيجة النضج وهو ما أشرنا إليه من قبل . ومنها ما يحدث نتيجة التعلم . ويشمل ذلك كل ألوان السلوك المكتسب للإنسان من مهارات ومفاهيم وعادات واتجاهات وقيم وغيرها . وهناك علاقة عضوية بين النضج والتعلم فالنضج أساس التعلم . فتعلم الإنسان مهارة الكتابة مثلا يتطلب مستوى معينا من
النضج الجسمي وتعلمه المعارف والعلوم يتطلب أيضا مستوى معينا من النضج العقلي .وهكذا .
وهذا النمو الذي يطرأ على الإنسان سواء كان جسميا أو عقليا أو نفسيا أو اجتماعيا يحدث نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته المادية والاجتماعية التي يعيش فيها . وهذا يعني تداخل عناصر مختلفة في بيئة الإنسان في إحداث هذا النمو . وتشمل هذه العناصر كل القوى المعلمة في المجتمع إلا أن هذه القوى تختلف فيما بينها تبعا لدرجات القصد في التربية . فبعضها قد يؤدى إلى نمو الإنسان دون أن يكون هناك غرض مقصود لإحداث هذا النمو من جانب القوى المحدثة له . ولهذا تختلط مظاهر النمو المرغوب فيها وغير المرغوب فيها نتيجة لذلك . فالفرد يتعرض لخبرات سارة ومؤلمة . كما يتعرض لمواقف مختلفة في بيئته الطبيعية ويتعلم منها أشياء غير مقصود تعلمها لذاتها : وهذا النوع من النمو يطلق عليه تربية البيئة أو الوسط .
الصفحة 26
وهناك أيضا مظاهر أخرى للنمو تحدث نتيجة قيام الأسرة أو المؤسسات الدينية والاقتصادية والعسكرية . وفي مثل هذه الحالة يكون النمو مقصودا لذاته لكنه يأتي من جانب أفراد أو هيئات تختلف عن هيئات التربية والتعليم بمعناها المدرسي . ويطلق على هذا النوع من التربية ، التربية غير المدرسية تمييزا له عن التربية المدرسية والتي تتم في نطاق منظم من خلال تنظيم مدرسي له برامجه ومناهجه . وله معلموه ومشرفوه والقائمون عليه . فهذا النوع من التربية تبلغ درجات القصد فيه حدها المهني
الأقصى . لأنها تعتبر أن وظيفتها الأولى هي التربية . وهي تهدف إليها عن قصد وتكرس كل جهودها للبلوغ إلى أهدافها .
خلاصة :
يمكننا أن نستخلص من كل التعريفات السابقة أن التربية عمل إنساني – وهذا يعنى أن للإنسان طبيعة خاصة يتميز بها عن جميع التصنيفات الأخرى من الكائنات الحية .
والتربية عملية نشاط متعلق بالأفراد فمعنى أننا نربي أننا نقوم بعملية نشاط . ومعنى أن يكون الفرد قد تربى أن يكون قد مر بعملية نشاط . فالتربية لا تعنى في التحليل النهائي المعرفة والمهارة والأخلاق ولكنها تعنى أن الفرد قد تربى من خلال عملية النشاط .
والتربية عملية نمو تتضمن ما يصبح عليه الفرد في المستقبل . وهي عملية توجيه بمعنى أن التربية تتطلب إشرافا تربويا على الفرد الذي يتربى ويتم ذلك التوجيه عن طريق الأفراد المسموح لهم بالقيام بعملية التوجيه . كذلك يمكن للذات أن توجه الفرد لنموه ، وهي ما تسمى بالتربية الذاتية وهي جزء هام من العمل التربوي كله . وكذلك يمكن أن يكون التوجيه قصديا متعمدا كالصديق الذي يوجه نمو صديقه عن قصد يعتبر مربيا . وعمليات التوجيه القصدية ترمى إلى التأثير في نمو الفرد وفي تعلمه . ومن
هنا يمكن أن نصل إلى تعريف التربية بأنها عملية قصدية يتم عن طريقها توجيه الأفراد لنمو أفراد آخرين . إن الاعتراض الرئيسي على هذا التعريف للتربية هو أنه تعريف ضيق جدا لأنه يؤكد على التوجيه القصدي للنمو الإنساني . بينما يمكن أن يتعلم
الصفحة 27
الإنسان أيضا بغير قصد وتعمد . ويمكن أن يرد على هذا النقد بأن التعريف الضيق مقصود لذاته لأنه يعطى درجة من الدقة والتحديد دون إهمال للمعاني العادية الهامة . وهذا التعريف وسط بين المفهوم الضيق للتربية بأنها " التعليم في المدرسة " والمفهوم الواسع للتربية " بأنها الحياة " ( فينكس : 1965 ) .
تطور مفهوم التربية :
شهد مفهوم التربية عدة تطورات هامة على مر العصور ، فكان هذا التطور نتيجة التحولات الاجتماعية من جانب، واتساع النظرة العلمية إلى ميدان التربية من جانب آخر : ومن أهم هذه التحولات :
1- أن ميدان التربية انتقل من مرحلة الجهود المبعثرة وغير المنظمة عندما كانت التربية مسئولية الأسرة وغيرها من قطاعات المجتمع إلى مرحلة الجهود المنظمة التي تخطط لها البرامج وتنظم لها المشروعات وتكرس لها الجهود وتصدر بشأنها القوانين والتشريعات التي تنظمها وترسى قواعدها .
2- أنها انتقلت من مرحلة احتكار الأسرة لها إلى مرحلة المنظمات المتخصصة التي تقوم بها وتشرف عليها وتوجهها . وتظهر إلى جانب الأسرة المؤسسات الدينية والعسكرية والاقتصادية . وأخيرا ظهرت المدرسة كمنظمة تربوية رسمية .
3- أنها انتقلت من مرحلة تعليم القلة والصفوة إلى تعليم جماهير الشعب ، كل الشعب . فقد كانت التربية في الماضي مقصورة على فئة مختارة من الناس قادرة اقتصاديا واجتماعيا . أما الآن فقد أصبحت التربية حقا لكل إنسان تعترف به المواثيق الدولية والقومية على السواء . وترتب على ذلك التزام كثير من الدول بتوفير حد أدنى من التعليم لكل أبنائها بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة أو المكانة الاجتماعية . وقد يعجب الإنسان من النمو الكمي الهائل الذي حدث في ميدان التربية خلال السنوات الأخيرة مما يدل على مدى التحول الجماهيري للتربية والتعليم في عصرنا الراهن . كما يتزايد من ناحية أخرى عدد السنوات التي يقضيها كل فرد في المدرسة مما يدل على مدى التوسع الرأسي
الصفحة 28
إلى جانب التوسع الأفقي . وقد جاء هذا بالطبع نتيجة لنمو المفاهيم الاجتماعية وغلبة المؤسسات الديمقراطية من ناحية، وزيادة أمال الناس ومطامحهم في الحياة من ناحية أخرى . وترتبط جماهيرية التعليم وزيادة الطلب الاجتماعي عليه بالضغوط الهائلة التي يواجهها أي نظام تعليمي في أي بقعة من العالم لكي يسمح باستمرار وعلى كل المستويات بقبول أعداد متزايدة من التلاميذ . ومن يدري ربما يأتي الوقت الذي تصبح فيه المراحل الجامعية العليا للتعليم حقا جماهيريا أيضا·
4 - أنها انتقلت من كونها عملية تعليمية ضيقة تعنى بالحفظ والاستظهار والتحصيل إلى كونها عملية ثقافية دينامية تتسامى بعقل الإنسان وفكره وضميره وخلقه . كما تتكامل فيها الأبعاد الجسمية والنفسية والاجتماعية وغيرها . وأصبحت التربية تقوم على مفهوم شامل متكامل له أبعاد فردية واجتماعية معا
5 -أنها انتقلت من كونها عملية مرحلية تنتهي عند مرحلة تعليمية معينة أو زمن معين إلى كونها عملية مستمرة مدى حياة الإنسان من المهد إلى اللحد . فالإنسان يتعلم ما بقي فيه حياة .
6 - وانتقلت التربية بمفهومها المهني من كونها عملية يستطيع أن يقوم بها أي فرد إلى كونها عملية مهنية تتطلب الإعداد والمران قبل ممارستها . وهكذا تتزايد النظرة إلى التربية كمهنة لها احترامها كغيرها من المهن . ومع أن التربية لم تصل بعد إلى الدرجة التي تفرض فيها كل قواعد المهنة وأصولها لاعتبارات معروفة فإنها لا شك ماضية في هذا الطريق . إن التربية والتعليم مهنة من أشرف المهن وأقدسها بعد الرسالات السماوية . وهي في الواقع أساس غيرها من المهن . فمن الذي يكون الطبيب والمهندس والمحامي ورجل الأدب والفن . إنه المعلم . فالمعلم هو أساس تكوين الأفراد في المهن المختلفة . ولم يعد التعليم مهنة من لا مهنة له كما كان في الماضي ، وإنما أصبح عملية لها أصولها التي ينبغي أن يلم بها من يتصدى للاشتغال بالتعليم من خلال إعداده إعدادا مهنيا في معاهد وكليات خاصة .
الصفحة 29
وكل الحقائق والمعلومات التي يلم بها المعلم عن العملية التربوية وشخصية المتعلم ونموه ومطالب هذا النمو من الناحية التربوية والمنهج المدرسي وأصوله وطرائق التدريس المختلفة واستخدام تكنولوجيا التعليم كلها جوانب أساسية يلم بها المعلم وتكون الحس المهني لديه . فالتعليم مهنة لأنه يقوم على التخصص ويحتاج لإعداد طويل يتدرب فيه معلم المستقبل على أن يعد نفسه عقليا وعمليا للدخول في المهنة . والتعليم مهنة لها دستور أخلاقها الذي ينص على أن هدف المهنة خدمة المجتمع قبل أن يكون هدفها الكسب المادي ، كما أن هذا الدستور الأخلاقي يفرض على المعلم ألا يبخل على تلاميذه بالمعرفة وأن يعلمهم الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة . ولا يجوز له أن يستغل ضعف تلاميذه بالسيطرة الفكرية عليهم أو ينقل إليهم تعصبه لفكرة معينة . وعليه أن يكون موضوعيا في معالجة القضايا العلمية والجدلية على السواء وأن يكون بناءا لا هداما فالدور المهني للمعلم يجعل منه عضوا نافعا للمجتمع يخدم أهدافه الكبرى . ولا يجوز للمعلم أن يحصل على مكاسب شخصية من تلاميذه أو من آبائهم . ولا يجوز له أن يسخرهم لخدمته .
التعليم مهنة أيضا لها روابطها المهنية ونقاباتها واتحاداتها التي تحفظ للمهنة شكلها الرسمي والتنظيمي وتكون حامية لها من خلال ما تضعه من شروط تنظم الدخول في المهنة كما تنظم واجباتها والتزاماتها .
إن التربية مهنة تتوسل بالنظرية من أجل خدمة التطبيق . وهي في ذلك شأنها شأن المهن الأخرى لها أصول متعددة تستوحى منها أبعادها وخصائصها . ويلزم دارسي التربية والمشتغلين بها على السواء معرفة تلك الأصول وإدراك هذه الأبعاد حتى يتكون الحس المهني لديهم ويتعمق إيمانهم بالمهنة ويزيد حرصهم على نموها وتطورها ولا شك في أن تعميق الجوانب المهنية للتربية يزيد من علو مكانتها وارتقاء شأنها في نظر المجتمع . وإن مما يزيد من قدر المعلم ومكانته في مجتمعنا المعاصر أن يصبح مقتدرا يمارس المهنة على أصول علمية لا يلم بها غيره .
إن ما يميز المعلم عن غيره هو أن المعلم المهني يستند في ممارسته للمهنة وفي اتخاذه للقرارات التربوية المختلفة على أسس علمية يعده بها الإعداد المهني الطويل
الصفحة 30
الذي تلقاه قبل دخوله المهنة . في حين أن المعلم غير المهن - ونعني به الذي لم يسبق له إعداد مهني - فإنه يمارس المهنة ويتخذ قراراته التربوية بالاجتهاد الشخصي والمحاولة والخطأ . والفرق كبير بين النوعين . وإن مما يزيد من مكانة مهنة التعليم ويرفع من شأنها أن يتوحد المصدر الذي يتخرج منه المعلم بصرف النظر عن المرحلة التي يعمل بها المعلم . وإذا كانت مطالب الإعداد ستختلف بالطبع باختلاف المرحلة التعليمية التي يعد لها المعلم فإن هذا لا يعنى تعدد مصادر إعداد المعلم بل يجب توحيد هذه المصادر في مصدر واحد .
إن توحيد مصدر إعداد المعلم أمر تفرضه النظرة إلى التربية كمهنة شأنها في ذلك شأن المهن الأخرى . وإذا كان الطبيب يعد في كلية الطب والمهندس في كلية الهندسة والمحامي في كلية الحقوق ، فإن إعداد المعلم يجب أن يتمثل في كلية التربية باعتبارها الصيغة المهنية المناسبة . ويجب أن يترك أمر إعداد المعلم أيضا شأنه شأن المهن الأخرى إلى الجامعة وليس لوزارات التربية والتعليم . فوزارة الصحة مثلا لا تقوم بإعداد الطبيب . وكذلك الحال بالنسبة للمهن الأخرى فلماذا تقوم وزارة التربية بالإشراف على عداد المعلم . وإذا كان التطور التاريخي لمهنة التعليم قد حتم أن تقوم وزارات التربية بهذا الدور فقد آن الأوان لكي تتخلى وزارات التربية عن هذه المسئولية للجامعات وقد توفرت لها كل إمكانيات القيام بهذا الدور في إعداد المعلم . إن هذا التوحيد سيكون له آثار بعيدة المدى على مستقبل تور مهنة التعليم والارتقاء بشأنها والارتفاع بمستواها وتحقيق وحدة المهنة ونقاوتها وتكاتفها وضمان الوصول بمستويات المهنة إلى معدلات عالية من الكفاءة والفاعلية .
إن النظام التكاملي لإعداد المعلم كما هو متمثل في كليات التربية يعتبر صيغة مناسبة لإعداد المعلم ويجب تعزيزه والأخذ به في كل الدول العربية . ويجب ألا يفهم من هذا الكلام أننا نريد الوقوف عند صيغة واحدة جامدة وإنما ما نعنيه توحيد الصيغة كمصدر ، كما تتوحد كليات الطب والهندسة وغيرها كمصادر للإعداد للمهن . وفي نطاق صيغة كليات التربية يمكن الأخذ بنظم متنوعة لإعداد المعلم كالنظام التناوبي أو المعاود أو المتسارع الذي يجمع بين الإعداد والعمل في الميدان في نفس الوقت ينظر إلى النظام التتابعي لإعداد المعلم المتبع حاليا على أنه نظام يمكن أن يوصف بأنه
الصفحة 31
في حقيقته نظام للطوارئ أو الباب الخلفي للدخول إلى مهنة التدريس . ولهذا النظام عيوب كثيرة في مقدمتها أنه لا يجتذب أحسن العناصر لأن من يلتحق بهذا النظام يكون من خريجي الجامعة الذين لم يتيسر لهم العمل الذي يتطلعون إليه فيتوجهون عن غير رغبة عادة إلى طريق التدريس كملاذ أخير . وبدلا من هذا النظام يمكن النظر في إطالة سنوات إعداد المعلم في كليات التربية إلى خمس سنوات بدلا من أربع . وهو ما تفرضه التطورات الراهنة في مهنة التعليم .
ويحق لنا أن نتساءل هنا : هل هناك حقيقة فرق بين أداء المعلم المهني وغيره ؟ إننا أحيانا نسمع من المسئولين في وزارات التربية والتعليم وهي الوزارات التي تستخدم المعلمين أنهم لا يلحظون فرقا حقيقيا في الأداء بين المعلم التربوي وغيره وهذه قضية خطيرة لأنها وإن كانت تشير إلى ضعف إعداد المعلم التربوي فإنها أيضا توحى بأن التعليم أمر يقدر عليه أي إنسان ، أي أنها تؤكد ما يقال عادة بأن التعليم مهنة من لا مهنة له . وهنا مكمن الخطر . إننا نريد أن نرتقي بالتعليم ليصبح في مصاف المهن الراقية . وهذا لا يتأتى إلا إذا سلمنا بضرورة الإعداد المهني ووضعنا له الضمانات الكفيلة بإنجاحه وزيادة فاعليته.
إن المعلم التربوي المهني يستند في قراراته التربوية كما أشرنا إلى الأصول العلمية للعملية التربوية التي تدرب عليها خلال إعداده كمعلم - وهو يتعلم من خلال هذا الإعداد ما يساعده على تكوين الحس المهني لديه ، كما يمكنه من إصدار الأحكام المهنية . فالحقائق والمفاهيم والأسس والنظريات التي يتعلمها عن شخصية المتعلم من حيث نمو قدراته واستعداداته ودوافعه واهتماماته وميوله وقوانين التعلم المختلفة وشروط التعلم الجيد ونظرياته المختلفة وما يتعلمه عن المادة الدراسية وأسس اختيارها وتقديمها للمتعلم وطرائق التدريس واستخدام تكنولوجيا التعليم وأساليب التعليم المستخدمة تزوده بالمهارات المعرفية والسلوكية التي تمكنه من ممارسة عمله على أسس علمية وليس بطريقة ارتجالية اجتهادية . كما أن المواد الدراسية التربوية التاريخية والفلسفية والمقارنة التي يدرسها تتكامل فيما بينها لتكون لديه المناخ المناسب الذي يمكنه من ممارسة عمله بطريقة عقلانية رشيدة . ومن هنا فلا بدل أن ينعكس كل ذلك على أداء المعلم المهني
الصفحة 32
ولابد له أن يكون متميزا في هذا الأداء عن غيره ممن لم يتلقوا هذا الإعداد المهني.
أهمية التربية :
تلعب التربية دورا رئيسيا هاما في حياة الشعوب جميعها المتقدمة منها والنامية على السواء فقد برزت أهمية التربية وقيمتها في تطوير هذه الشعوب وتنميتها الاجتماعية والاقتصادية وفى زيادة قدرتها الذاتية على مواجهة التحديات الحضارية التي تواجهها . وتبدو أهمية التربية في الجوانب الآتية :
ولتزايد أهمية التربية في حياة الشعوب أصبحت تمثل اهتماما قوميا لكل الحكومات والشعوب . ولا يمكن لأي حكومة الآن أن تترك الحبل على الغارب في ميدان التربية أو التعليم لتتولاه الجهود المحلية أو الخاصة دون توجيه قومي من جانب الدولة . وهذه ظاهرة تنسحب بدرجات متفاوتة على كل شعوب العالم المعاصر حتى في الدول التي درجت التقاليد التربوية بها على اعتبار التعليم ليس
الصفحة 33
مسئولية الحكومة وإنما هو مسئولية السلطات المحلية أو الولايات . وأوضح أمثلة على ذلك التحول الحادث الآن في التعليم الأمريكي والبريطاني . وكلتا الدولتين تولى على المستوى القومي اهتماما متزايدا قد يصل أحيانا حد التعارض مع المقررات الدستورية في حالة التعليم الأمريكي . وما أردنا أن نؤكده هنا أن التربية أصبحت تمثل عصب الحياة للشعوب المعاصرة . وهي لهذا تعتبر مسألة حيوية على جانب كبير من الأهمية ترصد لها هذه الشعوب الأموال اللازمة وتخطط لها وتوجهها .
2- أنها عامل هام في التنمية الاقتصادية للمجتمعات . فالعنصر البشرى أهم ما تمتلكه أي دولة حتى بالنسبة للدول الفقيرة في مواردها الطبيعية وثرواتها الاقتصادية كاليابان مثلا التي اعتبرت نموذجا حيا لدور التربية في تنمية العنصر البشري القادر على تحقيق التقدم والرخاء لبلاده. وهناك أمثلة أخرى مشابهة من الدانمارك وكوريا الجنوبية. لقد تلك الدور الهام الذي تقوم به التربية في زيادة الإنتاج القومي وبالتالي زيادة الدخل القومي . وأصبح ينظر إلى التربية من الناحية الاقتصادية على أنها استثمار في الموارد البشرية . كما أن التربية لها دور هام آخر في تنشيط المؤسسات الصناعية والإنتاجية من خلال تطوير المعرفة وأساليب العمل والإنتاج بهذه المؤسسات . وهناك كثير من الدراسات العالمية التي أولت اهتماما لدراسة العائد الاقتصادي للتعليم وأوضحت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا العائد يفوق أضعافا مضاعفة نظيره من أي عائد أخر يأتي عن طريق أي استثمار في أي مجال آخر غير مجال التعليم . إن الفرد هو هدف التنمية ووسيلتها . وهو أمر تضعه كل دول العالم المعاصر نصب أعينها
3- أنها عامل هام في التنمية الاجتماعية، ومع أنه لا يمكن فصل التنمية الاقتصادية عن التنمية الاجتماعية للارتباط العضوي الوثيق بينها ، فإن هذا الفصل له ما يبرره من جانب المعالجة العلمية . فالتربية دورها الهام في التنمية الاجتماعية للأفراد من حيث كونهم أفرادا في علاقة اجتماعية تفرضها عليهم أنوارهم المتعددة في المجتمع كالقيام بدور المواطنة الصالحة القادرة على تحمل
الصفحة 34
المسئوليات والقيام بالواجبات التي تفرضها هذه المواطنة وممارسة الحقوق والواجبات القومية والاجتماعية والقيام بدور الأب والأم ودور الزوج أو الزوجة وغيرها من الأدوار الاجتماعية . ولا شك في أن نجاح القيام بهذه الأدوار يتوقف على درجة النضج التربوي والوعي الثقافي والفكري لدى الفرد . وبمعنى آخر يتوقف على مدى نجاح التربية في تكوين الاتجاهات السليمة لدى الفرد نحو المؤسسات المختلفة في المجتمع ونحو نفسه ونحو أهله ومواطنيه ونحو مجتمعه ككل بل ونحو الإنسانية جمعاء .
4- أنها ضرورة لإرساء الديمقراطية الصحيحة . فهناك مثل يقول : " كلما تعلم الإنسان زادت حريته . . وهذا يعنى ارتباط الحرية بالتعليم ، فالتعليم إذن يحرر الإنسان من قيود العبودية والجهل . والحرية أو الديمقراطية لا يمكن أن تعمل في ظل الأمية أو الفقر الثقافي ، ولا يمكن أن تتصور شخصا جاهلا يمارس بنجاح حقوقه السياسية في الانتخاب والتصويت أو إبداء الرأي والمشورة . وهذا بالطبع يبرز أهمية التربية في تكوين المواطن الحر المستنير القادر على المشاركة الواعية في تقدم بلاده .
5-أنها ضرورة التماسك الاجتماعي والوحدة القومية والوطنية . فالتربية عامل عام في توحيد المشارب والاتجاهات الدينية والفكرية والثقافية لدى أفراد المجتمع . وهي بهذا تساعدهم في خلق وحدة فكرية تمكنهم من التفاهم والتفاعل . وتؤدى إلى ترابطهم وتماسكهم . ويمكن للتربية أن تكون سلاحا ذا حديث . فكما أنها وسيلة للوحدة الفكرية والقومية فإنها يمكن أن تكون وسيلة لتفريق الناس وإيجاد العداوة بينهم كما يحدث في الدول العنصرية كجنوب أفريقيا وغيرها مثلا . ففي هذه الدول تستخدم التربية سلاحا للهدم والتدمير ضد الجانب الآخر بدلا من أن تكون سلاحا للبناء والتعمير كما هو المفروض . ونظرا لأهمية التربية في إرساء قواعد الوحدة القومية للبلاد فإن السلطات الحكومية في مختلف البلاد تحرص على توحيد الاتجاهات التربوية والتعليمية داخل بلادها وتحريم كل نشاط تربوي أو تعليمي يتعارض مع ذلك . ومن الضمانات التي تتخذها الدول عادة في تحقيق
الصفحة 35
ذلك . فرض إشرافها على التعليم الأجنبي أو الخاص أو أي تعليم آخر يتوقع منه اتجاهات تربوية متباينة.
6- أنها عامل هام في إحداث الحراك الاجتماعي . ويقصد بالحراك الاجتماعي في جانبه الإيجابي ، ترقى الأفراد وتقدمهم في السلم الاجتماعي . والتربية دور هام في هذا التقدم والترقي لأنها تزيد من نوعية الفرد وترتفع بقيمته بمقدار ما يحصل منها . ومن ثم يتحسن دخل الفرد ويزداد بمقدار ما يجيد من مهارات معرفية وعملية لازمة لسوق العمل والإنتاج ويترتب على زيادة دخله تحسن في وضعه الاقتصادي وبالتالي زيادة وضعه الاجتماعي نتيجة لعلو مكانته في نظر الناس . يضاف إلى ذلك أن التربية إلى جانب ما يترتب عليها من زيادة الوضع الاقتصادي تعمل على ترقية أفراق الفرد واهتماماته . وترفع من مستوى طموحه وتفجر أماله في الحياة . وهذه كلها عوامل تؤدى بالفرد في النهاية إلى الترقي في السلم الاجتماعي . وكما أن التربية يمكن أن تكون في جانبها الإيجابي حراكا اجتماعيا إلى أعلى فإنها في جانبها السلبي تكون حراكا اجتماعيا إلى أسفل عندما يقل حظ الفرد منها ويهبط بمستواه عما ينبغي أن يكون عليه نسبة لأهله وأسرته . ولذلك تعتبر التربية عاملا هاما في تحسين معيشة الأفراد وتنويب الفوارق الطبقية بينهم . كما أنها في النهاية تضيف إلى تحسين المستوى الاجتماعي للمجتمع ككل . وترفع من قدرته الذاتية على إحداث التقدم الاجتماعي المنشود .
7- أنها ضرورية لبناء الدولة العصرية . ويعتبر الكلام السابق عن الجوانب المختلفة لأهمية التربية مندرجا تحت هذا العنوان . فالدولة العصرية محصلة لكل هذ الجوانب . ومفهوم الدولة العصرية واسع مطاط ويتسع كل هذه الجوانب . وإذا كانت الدولة العصرية تعنى الدولة التي تعيش عصرها على أساس من التقدم العلمي والتكنولوجي ويتمتع فيها الفرد بالحياة الحرة الكريمة ويرفرف على جوانبها أعلام الرفاهية والعدالة الاجتماعية ، فإن التربية تلعب الدور الرئيسي في إحداث كل ذلك ، ولذلك تعتبر التربية المدخل الحقيقي لتقدم الشعوب وتحقيق عزها ورخائها.
الصفحة 36
أصول التربية وعلومها
مقدمة :
يقصد بأصول التربية في أوسع معانيها كل ما تستند إليه التربية من مبادئ وأسس ومفاهيم وأساليب نظرية وتطبيقية تحكم الهمل التربوي وتوجه الممارسات التربوية .
إن التربية كما أشرنا مهنة تتوسل بالنظرية من أجل خدمة التطبيق ، وهي في ذلك شأنها شأن المهن الأخرى لها أصول متعددة تستوحى منها أبعادها وخصائصها ويلزم دارسي التربية والمشتغلين بها على السواء معرفة تلك الأصول وإدراك الأبعاد حتى يتعمق إيمانهم بالمهنة ويزيد حرصهم على نموها وتطورها .
إن أول ما يدرسه طالب التربية من أصولها هي الأصول التاريخية ، فيتعلم عن نشأة المدرسة وتطورها عبر عصور التاريخ، ويدرس كيف نشأت التربية كمؤسسة من مؤسسات المجتمع لنقل الثقافة من جيل إلى جيل آخر حتى يتوفر للمجتمع صفة الاستمرار الحضاري . وجزء من الأصول التاريخية للتربية يتمثل في دراسة تطور الفكر التربوي أو بعبارة أخرى تصور المفكرين لما يجب أن تكون عليه التربية وما هي الوظائف الحقيقية التي تؤديها للمجتمع . وكيف كانت المدرسة في العصور المختلفة تواجه مشكلات المجتمع ، وهل يمكن الاستفادة من خبرات الماضي في هذا الصدد في حل مشكلات اليوم . وهذا البعد التاريخي يعطى للتربية بعد الطول .
وبالإضافة إلى الأصول التاريخية نجد أصولا اجتماعية للتربية وذلك لأن التربية مؤسسة اجتماعية والمدرسة منظمة من منظمات التربية في المجتمع ، أي أنها لا تنشأ في فراغ إنما تنشأ في نظام اجتماعي وتستمد منه خصائصها ومقوماتها ، بل لابد لها من أن تتعامل وتتفاعل مع بقية منظمات المجتمع الأخرى حتى تحقق فاعلية النظام ككل ، ونجد المدرسة تلعب أكثر من دور في المجتمع عامة والمجتمع العصري خاصة. فبالإضافة إلى نقل الثقافة والمحافظة عليها ، نجدها تقوم بإعداد وتدريب القوى
الصفحة 40
البشرية اللازمة لتنشيط منظمات المجتمع المختلفة من مصانع ومستشفيات ومرافق ودور للعبادة . ونجدها كذلك تلعب دورا رئيسيا في الضبط والتكامل الاجتماعي . كما أنها أداة للتغير والتجديد في المجتمع تصنع التغير وتحدد ملامح التجديد . وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن هناك تعارضا أو تناقضا بين وظيفة المحافظة على الثقافة ووظيفة تجديدها ولكن المحافظة لا تعنى تثبيت القوالب والأنماط القديمة للثقافة وإنما تعنى تقديم خبرات الأجيال الماضية إلى الجيل الحاضر أو المختار من هذه الخبرات . وبذلك يتفاعلون معها ويعملون فكرهم فيها . وعن طريق التفكير وإعمال الفكر يتم الاختراع والابتكار والتعديل والإضافة فبمقدار ما يفكر الأفراد بمقدار ما يتغير المجتمع وتحدث فيه ظاهرة الإغناء الثقافي . وهي ظاهرة صحية على طريق التغير الاجتماعي .
وترتبط بالأصول الاجتماعية - أو دراسة التربية في إطار اجتماعي – الأصول النفسية أو دراسة التربية من حيث تأثيرها في الفرد الذي هو محور العملية التعليمية . فمن أجل التلميذ ينشئ المجتمع المدارس ويجهزها بالأثاث والإمكانيات ويعد لها المدرسين . وهذا التلميذ يهم دارس التربية من عدة نوايا أهمها : كيف ينمو ؟ وما هي خصائص نموه ؟ ومشكلات مراحل النمو المختلفة ؟ ويجيب على هذه الأسئلة وغيرها علم نفس النمو . ثم يتعرض للتلميذ أيضا من زاوية ثانية وهي تتعلق بكيفية تعلمه والعوامل التي تحكم الموقف التعليمي وتؤثر فيه . ويختص بذلك فرع التعلم في مجال علم النفس وهو فرع هام للتطبيق التربوي . إذ أننا نوجه أساليبنا وطرقنا التربوية حسب ما نصل إليه من نتائج في مجال سيكولوجية التعلم . ونستطيع القول بأن الأصول الاجتماعية والنفسية التربية تمثل بعد " العرض " من أبعاد التربية .
ويبقى بعد ذلك الأصول الفلسفية للتربية . وهي الأصول التي نستوحي منها بعد العمق " . ولا شك في أن المهنة تسمو على الحرفة وتختلف عنها في كونها تعتمد على أصول عملية توجه تطبيقاتها . كما يوجد فيها قانون للأخلاقيات يرتبط به أبناؤها ويلتزمون بروحه وينصه في تصرفاتهم في أثناء وخارج العمل المهني على السواء . ومهنة التربية تستند إلى أصول علمية كبيرة مستمدة من ميادين دراسية خاصة من العلوم الإنسانية والاجتماعية وفى مقدمتها علم النفس والإنسان والاجتماع والاقتصاد.
الصفحة 41
وهذا يجعل التربية ميدانا غير مستقل بذاته . ولكنها ميدان متداخل التخصصات مع ميادين أخرى . ولا شك في أن أعمال الفكر في المسائل التربوية والنظر إلى القضايا التربوية بعمق وتمحيص وتكوين فلسفة واضحة للتربية ترتبط بفلسفة المجتمع ذاته وتعكس حاجاته لما يزيد من مهنة التربية ويؤكد دورها للفرد والمجتمع على السواء .
هذه هي الأصول المتعددة للتربية . ولقد أردنا أن نؤكد بهذا العرض الموجز لها عدة حقائق رئيسية أهمها :
1-أن التربية مهنة وسيلتها النظرية وغايتها التطبيق
2- أن التربية كمجال للدراسة تستمد أصولها ومحتواها من ميادين المعرفة الأخرى
3- أن التربية مؤسسة اجتماعية والمدرسة منظمة لها انشاها المجتمع لتحقيق أهداف مؤسسة التربية في " تثقيف " أبنائه وإعدادهم .
4-ان التربية مجال معتمد على المجالات الأخرى . ولذلك فإن مناهج البحث فيها تعتمد على تخصص الباحث والخلفيات الثقافية التي تحكم تخصصه . فإذا كان متخصصا في علم النفس غلب على منهجه الجانب التجريبي والإحصائي - وظهر اهتمامه بالظواهر النفسية ووضح تركيزه على الفرد المتعلم وسلوكه - وإذا كان الباحث من علماء الاجتماع وضح اهتمامه باجتماعيات التربية وتركيزه على المدرسة كنظام اجتماعي جزئي أو فرعى وعلاقة الجزء بالكل . وإذا كان الباحث من هواة التاريخ غلب المنهج التاريخي على تناوله للتربية وهكذا .. إن قارئ التربية يجد نفسه مضطرا للاطلاع على الكثير من مناهج البحث وخصائص كل منهج ليستطيع تفهم ما يقرأ .
علوم التربية :
ينظر إلى التربية بمعناها العمى على أنها علم ممتد التخصص أي أنه يتمد على تخصصات العلوم الأخرى. ويرجع ذلك إلى أن الإنسان موضوع التربية وهو أيضا موضع اهتمام كل العلوم الأخرى . والواقع أن التربية ليست وحدها دون سائر العلوم
الصفحة 42
موضع اهتمام كل العلوم الأخرى . والواقع أن التربية ليست وحدها دون سائر العلوم في اعتمادها على غيرها . فالعلوم بصفة عامة على اختلاف ميادينها يعتمد كل منها على الآخر بدرجات متفاوتة. فالإحصاء والرياضة مثلا يدخلان في كل العلوم ، وعلم الطب يحتاج إلى علم الأحياء والكيمياء والطبيعة وغيرها . والجغرافيا والتاريخ يحتاج كل منهما للآخر ، وكذلك بالنسبة للتاريخ والآداب وهكذا .. بيد أن اعتماد التربية على غيرها من العلوم قد يكون أكثر بالنسبة لغيرها من العلوم . وهذا يرجع كما أشرنا إلى أن التربية تحتاج كل هذه العلوم في محاولتها لفهم الجوانب المختلفة للإنسان وهي جوانب معقدة ومتشعبة تحتاج تضافر كل هذه العلوم . ويمكن أن نميز من بين علوم التربية تصنيفين رئيسيين يندرجان تحتها . أحدهما يطلق عليه العلوم النفسية والثاني يطلق عليه العلوم التربوية . وحي يمكن أن نعطى دارس التربية فكرة سريعة موجزة عن هذه العلوم فإننا سنحاول عرض فكرة مختصرة عن أهم علوم التربية بشقيها النفسي والتربوي .
أولا -العلوم النفسية :
يندرج تحت هذا العنوان عدة علوم تهدف كلها إلى دراسة سلوك الإنسان وشخصيته بهدف توجيه تربيته على أساس سليم . ولهذه العلوم دور هام في إعداد المعلم بما تقدمه له من معلومات مفيدة وأساليب علمية تمكنه من القيام بوظيفته التربوية على أساس سليم . والواقع أن تطور علوم التربية مدين بالفضل لجهود علماء النفس وما قدموه من إسهامات عظيمة للمشتغلين بالتربية من منظرين وممارسين ، ولا يمكن لأي معلم ولا لأي دارس التربية أن يتكون تكوينا علميا ومهنيا جيدا ما لم يدرس هذا القطاع الهام من العلوم النفسية التربوية . ويجب هنا أن نشير إلى أن هذا الميدان يختلف عن مجال علم النفس العام في أنه موجه بصفة أساسية إلى التربية والتعليم وإن كان هناك عناصر مشتركة بينهما . ومن أهم علوم هذا الميدان العلوم الآتية :
1- علم النفس التربوي:
ويسمى أيضا بعلم النفس التعليمي أو سيكولوجية التعلم وهو يعني بصفة أساسية بكل ما يتعلق بعملية التعلم عند الإنسان من حيث طبيعتها وقوانينها ونظرياتها وشروط
الصفحة 43
التعلم الجيد . ولقد ولد البحث والدراسة عن التعلم عدة نماذج وأنماط من النظريات التي تفسر التعلم عند الإنسان . وهذه النظريات والنماذج معروفة ومألوفة في الكتب التي تناول نظريات التعلم . من هذه النماذج نموذج التعلم الشرطي لبافلوف الروسي والمحاولة والخطأ لثورندايك الأمريكي والتعلم بالاستبصار العلماء الجشتالت الألمان والتعلم بالتعزيز الأمريكي " هل " وغيره . والاجرائية الشرطية لعالم النفس الأمريكي المعروف "سکنر"
لقد أثارت أفكار سكنر في الخمسينات عن التعلم المشروط اهتماما تجاريا بالتعليم البرنامجي . وفي الستينات سادت نظريات " بياجيه " وأرائه . وكان الأرائه بالإضافة إلى أراء " برونر " تأثير كبير على المدرسة الابتدائية لاسيما من خلال مفهومي الاستعداد والنشاط . ويبدو تشابه آراء " بياجيه " مع كل من ديوى ومنتسورى . لقد بدأ بياجيه عمله بملاحظات فردية لمجموعة محدودة من الأطفال وجاءت أفكاره متأثرة بدراسته لعلم البيولوجيا وباهتمامه بالمنطق الشكلي . وكانت تجاريه موجهة بنظريته الخاصة وليس بنمط التفكير أو التعليم الذي يهم المعلمين . وفي السبعينات ظهر اتجاهان أحدهما يمثل اهتمام علماء النفس بالجوانب المعرفية للتعلم والاتجاه الثاني جاء من جانب علماء النفس الإنسانيين مثل روجرز وغيره الذين ركزوا اهتمامهم لا على الجانب المعرفي وإنما على قيمة الإنسان وتأكيد دور التربية في تحريره وفي تنمية شخصيته كاملا والتعبير عنها كاملا أيضا . لقد ركز روجرز أفكاره على خبرته في العلاج النفسي أو التعلم في الموقف المثالي : فرد لفرد - وفى الثمانينات برز اتجاه يقوم على دراسة نظريات التأثير والتأثر أو نظريات التفاعل . كل النظريات السابقة لها أهميتها بالطبع لكنها جميعا لم تقدم وصفا مناسبا للتعلم في الفصل . وبدأ علماء النفس يهتمون الآن بتفاعل العوامل المختلفة في عملية التعليم بين المعلم والمتعلم ومحتوى التعلم ومتطلبات واجبات التعلم . وهو ما يقدم مؤشرات موجهة للمعلمين في عملهم في الفصل.
وهناك نظريات أخرى وليست هناك نظرية واحدة تحظى بتقبل الجميع لها . لكن بصفة عامة تقسم نظريات التعلم المعاصرة إلى مجموعتين رئيسيتين :
الصفحة 44
أ- المجموعة الأولى التي تفسر عملية التعلم في ضوء العلاقة بين المثير والاستجابة . ويعرف أصحابها بمدرسة المثير والاستجابة أو المدرسة السلوكية . وأشهر علمائها بافلوف وواطسون وثورندايك و " هل " وسكنر وغيرهم .
ب- المجموعة الثانية التي تفسر عملية التعلم على أساس معرفي ، ومن روادها الأوائل كوفكا وكيلر وتولمان وكاتونا . ومن علمائها المعاصرين روبرنت جانبيه ويلوم وبرونر وغيرهم .
وتنظر المجموعة الأولى إلى عملية التعلم على أساس أن مثيرا معينا يستدعى استجابة معينة وتكرار نفس المثير يؤدى إلى إحداث نفس الاستجابة . ومن ثم تصبح الاستجابات مشروطة بالمثير . وهذه نظرة آلية للتعلم الإنساني . فالمثير يستدعى الاستجابة . أما المجموعة الثانية فتقوم على أساس تفسير الطريقة التي يعرف بها الإنسان نفسه وبيئته . وهذه المعرفة هي التي تحدد سلوك الإنسان في بيئته . وقد رفض علماء هذه المدرسة النظرة الآلية للسلوكية . وذهبوا إلى القول بأن الكائن الحي يختار معلومات معينة ويعالجها ثم يتصرف في ضوئها . وهذا التصرف يختلف في اسلوبه وتبعا للظروف المختلفة .
ووجه الاختلاف بين المجموعتين يكمن فيما يلي :
1- أن نظرية المثير والاستجابة ويرمز لها ( م – ص ) تقوم على الاستجابات النفسية التي يربطها أهداف متوقعة بينما النظرية المعرفية تقوم على عمليات مركزها المخ مثل التذكر . كعنصر في الوصول إلى الهدف .
2- أن نظرية المثير والاستجابة تتضمن اكتساب العادات عن طريق الممارسة . أما النظرية المعرفية فتتضمن اكتساب العمليات المعرفية عن طريق المعقل .
أهم مبادئ التعلم في ضوء نظرية المثير والاستجابة أو النظرية السلوكية :
1- الإيجابية والنشاط : يجب أن يكون التلميذ نشيطا وإيجابيا لا خاملا ولا سلبيا ومجرد مستمع ومتفرج . والتعلم بالممارسة أمر هام .
الصفحة 45
2- التكرار : تكرار المحاولات وترددها لازم لاكتساب المهارة وضروري لإحداث التعلم .
3- التعزيز : يحدث تعزيز الاستجابة عن طريق المكافأة للاستجابات المرغوبة وتفضل بصفة عامة التعزيزات الإيجابية على التعزيزات السلبية لاعتبارات علمية وإنسانية .
4- الإجادة : يقوم المتعلم بإجادة ما يتعلمه أولا ثم ينتقل إلى ما بعده . ولا ينتقل لتعلم شيء جديد إلا إذا أجاد ما قبله.
5- الدافعية : إن الدافعية ) أو الحافز ( ضرورية لإحداث التعلم . وبدونها يقل اهتمام المتعلم وإقباله على التعلم .
أهم عبادي التعلم في ضوء النظرية المعرفية :
من أهم مبادئ التعلم في ضوء النظرية المعرفية ما يأتي :
1- تحديد الهدف: فتحديد الهدف مهم كدافع للمتعلم . ويتحدد نجاح أو فشل المتعلم بالطريقة التي يحدد بها الأهداف المستقبلة
2- الإدراك : فالملامح الإدراكية للمشكلة مهمة . ويجب أن توضع المشكلة بحيث تكون ملامحها الرئيسية أمام المتعلم ويستطيع إدراكها .
3- الفهم : فالتعلم مع الفهم أبقى وأثبت من التعلم الأصم أو بدون فهم . والمتعلم يميل إلى تعلم الأشياء التي يفهمها بطريقة أفضل من تعلم الأشياء الغامضة أو التي لا يفهمها .
4- التنظيم : يميل المتعلم إلى تعلم المادة المنظمة أو المرتبة أكثر من المادة غير المنظمة أو المرتبة .
5- التغذية العكسية : إن التغذية العكسية المعرفية تؤكد المعرفة الصحيحة وتعمل على تصحيح التعلم الخاطئ .
الصفحة 46
علم نفس النمو :
ويعنى بدراسة مراحل النمو المختلفة للفرد كما يدرس مظاهر هذ النمو واتجاهاتها المختلفة في أبعادها الجسمية والعقلية والانفعالية . ويعنى أيضا بدراسة المطالب التربوية للنمو في مراحله ومظاهره المختلفة . ويهم علم نفس النمو المشتعلين بتعليم الصغار والكبار على السواء إلا أنه من الطبيعي أن يكون تركيز الدراسة على المرحلة العمرية التي تهم المعلم بصفة أساسية . فإذا كان المعلم يعد للتعليم العام فإن دراسته تتركز أساسا على مرحلتي الطفولة والمراهقة، أما إذا كان يعد لتعليم الكبار فإن دراسته تتركز عادة على الفئة العمرية للكبار الذين سيقوم بتعليمهم . وقد يقسم هذا العلم لأغراض الدراسة إلى فروع أصغر بكل مرحلة عمرية على حدة مثل : علم نفس الطفل ، علم نفس المراهق ، وعلم نفس الكبار .
علم النفس الشارة :
وهو يعنى بدراسة الفروق في السمات النفسية والعقلية بين الأفراد في ارتباطها بالعوامل المختلفة مثل عامل السن أو الجنس أو الوراثة أو البيئة أو الوضع الاقتصادي والاجتماعي. كما يعنى بالأساليب والوسائل والطرائق التي تقيس هذه السمات المختلفة من اختبارات ومقاييس عقلية ونفسية .
الصحة النفسية :
تتعلق الصحة النفسية بدراسة الأسس والأصول العلمية التي تساعد المشتغلين في هذا الميدان على تقديم الاستشارات والخدمات الضرورية لتوفير المناخ النفسي المناسب لنمو الفرد وتجنيبه الظروف التي قد تؤدى إلى اضطرابه العقلي أو النفسي·
علم النفس الاجتماعي :
يتعلق علم النفس الاجتماعي بدراسة سلوك الجماعة وديناميتاها ودراسة تأثير الجماعة على نمو الشخصية كما يتعلق أيضا بدراسة التفاعل الاجتماعي وما يتصل بذلك من المقاييس السوسيومترية التي تقيس هذا التفاعل في اتجاهاته المختلفة·
الصفحة 47
ثانيا - العلوم التربوية :
يندرج تحت هذا العنوان عدة علوم تتناول العملية التربوية من زوايا مختلفة تاريخية أو اجتماعية أو فلسفية أو مقارنة كما تناول هذه العلوم المناهج الدراسية وطرق التدريس وهو ما سنفصل الكلام عنه بعض الشيء في السطور التالية :
1- تاريخ التربية
يتعلق موضوع تاريخ التربية بمعالجة التربية من المنظور التاريخي وهذا يعني أن موضوع التاريخ يتعلق بالأحداث والأشخاص والعلاقات الزمانية والمكانية ومحاولة تفسير كل هذه الأمور تفسيرا ذا معنى يربط بينها وينظم علاقاتها . وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم أن موضوع تاريخ التربية يتعلق بالتاريخ لقطاع واحد من قطاع الثقافة الإنسانية العريضة هو قطاع التربية.
وإذا كان التاريخ يدرس الأحداث كما يدرس الشخصيات باعتبار هذه الشخصيات هي نفسها صانعة التاريخ فإن تاريخ التربية يعنى أساسا بالممارسات التربوية كيف كانت عبر العصور المختلفة ، وكيف تطورت الأهداف والأنماط التربوية عبر هذه العصور ؟ وكيف تختلف التربية باختلاف المجتمعات واختلاف العصور ، كيف نشأت المدرسة كمؤسسة تربوية ؟ وكيف تطورت ؟ ولماذا اختلفت أساليبها وأدوارها من مجتمع لآخر ؟ كيف كانت التربية انعكاسا لآمال الشعوب وأمانيها ؟ وكيف كنت التربية انعكاسا للأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمعات المختلفة ؟ ولماذا تختلف المنظم التعليمية باختلاف المجتمعات ؟ وكيف تأثرت هذه النظم بالبنية الفوقية والتحتية للمجتمعات على اختلاف أشكالها ؟ لماذا كانت هناك نظم تعليمية تقدمية تحررية تعمل على تحرير فكر الإنسان وانطلاقه وأخرى تسلطية استبدادية تحجر على الفكر وتقيده وتحد من انطلاقه وحريته ؟ وهنا ينبغي أن تميز بين تاريخ التربية وبين تطور الفكر التربوي ، فكما قلنا تاريخ التربية يعنى بصورة رئيسية بالممارسات التربوية عبر العصور المختلفة ، أما تطور الفكر التربوي فيتعلق بتطور النظرية التربوية كما يتصورها فلاسفة التربية على مر العصور المختلفة ، أو بعبارة أخرى هو دراسة الآراء فلاسفة التربية عبر العصور المختلفة باعتبار هؤلاء الفلاسفة انعكاسا لمجتمعاتهم
الصفحة 48
وباعتبار أن أراهم تمثل أهمية بالنسبة للمجتمعات التي ظهروا فيها . بل أن أراء بعضهم كانت أيضا أساسا للممارسات التربوية عبر العصور والمجتمعات المختلفة . ومن هنا كان من الضروري أيضا ألا يغفل تاريخ التربية في دراسته للممارسات التربوية معالجة أصحاب النظريات التربوية وفلاسفة التربية الذين ظهروا عبر العصور المختلفة . *
2- اجتماعيات التربية·
وهي تتعلق بدراسة الجوانب الاجتماعية للتربية وتعتمد على علم الاجتماع وتقنياته في تناولها للعملية التربية في مجال العلاقات الاجتماعية . ومن التحولات الهامة المعاصرة في علم الاجتماع اهتمامه بموضوع التربية ، ففي الماضي قلما نجد من بين علماء الاجتماع الكلاسيكيين من يولى اهتمامه بالتربية . ويمكن أن نشير إلى دوركايم . كواحد من أولئك الذين أولوا اهتماما كبيرا بالتربية . وربما يرجع ذلك إلى أنه شغل في فترة ما من حياته كرسي الأستاذية في علم التربية وعلم الاجتماع في السوربون ويتميز دوركايم من بين علماء الاجتماع الكلاسيكيين بتأثيره لا على تطور ميدان التربية فحسب ، وإنما بتأثيره على تطور علم الاجتماع بصفة عامة . ونجد كثيرا من الكتاب والمؤلفين في التربية يتوجهون إلى كتاباته يقتبسون منها ويشيرون إليها .
وقد أغرم المؤلفون والكتاب في الميدان بالتمييز بين الأعمال الأولى المبكرة التي يطلقون عليها علم الاجتماع التربوي وبين الأعمال المعاصرة والراهنة ويطلقون عليها اجتماعيات التربية. والواقع أن التمييز بين المصطلحين يشوبه الكثير من الخلط والغموض، كما أن استخدام المصطلحين يشير من الناحية الزمنية على الأقل إلى أن المصطلح الأخير قد حل مكان المصطلح الأول وتعنى اجتماعيات التربية بتطبيق علم الاجتماع على التربية . وبمعنى آخر تعنى اجتماعيات التربية بالدراسة الاجتماعية للتربية على غرار اجتماعيات الأسرة أو إجتماعيات الأديان .. وهكذا .
لتفصيل الكلام عن تاريخ التربية . انظر لنفس المؤلف كتابه بعنوان: تاريخ التربية في الشرق
والغرب ، عالم الكتب ، 1993
الصفحة 49
ويمثل هذا الميدان تحولا من جانب علماء الاجتماع واعترافهم بأن التربية هي أحد المجالات المفيدة والهامة بل والمشروعة لدراستهم . وتعنى اجتماعيات التربية بحل المشكلات التي تتعلق بفهم التربية باعتبارها مؤسسة اجتماعية . ويهمنا أن نعرف وظائفها وعلاقاتها بجوانب المجتمع الأخرى وهكذا يمكن القول بأن الاجتماعيات التربية عدة اتجاهات :
اولا: الاتجاه النظري ، أو اتجاه التنظير الذي يحاول أن يشرح الأحداث والظواهر في عبارات بسيطة ، والبحث عن تفسيرات للاختلافات بين الأطفال في أدائهم المدرسي في ميادين خارج المدرسة نفسها
ثانيا: الاتجاه الامبريقي الذي يحاول البحث عن التفسيرات والتحقق من صدقها من خلال الملاحظة
ثالثا: الاتجاه الموضوعي الذي يتعلق بموضوعية الملاحظة بصرف النظر عن اتجاه الملاحظ نفسه والتسليم بتأثير الشخص الملاحظ على ما يلاحظه والاعتراف بقيمة وأهمية الاتجاهات ووجهات النظر الأخرى .
وهذه الاتجاهات الثلاثة تمثل الركيزة التي تستند إليها اجتماعيات التربية في أسسها العملية وهو ما يميزها عن علم الاجتماع التربوي . ويشير " ريد" إلى أن على الرغم من هذا التمييز الذي يبدو جذابا بين علم الاجتماع التربوي واجتماعيات التربية فإن التقسيم بينهما قد يؤدى إلى البعد عن جادة الطريق .
3- التربية المقارنة
هو مجال من مجالات الدراسة التربوية يتعلق بدراسة النظم التعليمية في الدول المختلفة ومقارنة النظريات والممارسات التربوية في هذه الدول بهدف توسيع فهمنا وتعميق ادراكنا للمشكلات التربوية في أنظمتنا . كما أن التربية المقارنة تساعدنا في التعرف على بدائل الحلول التي استخدمتها النظم التعليمية المختلفة في مواجهة المشكلات التعليمية والتغلب عليها - وتساعد الدراسات المقارنة في تخطيط التعليم وتطويره واصلاحه في كل مجالاته المختلفة كما أنها ضرورية كأساس هام بينى عليه
الصفحة 50
اتخاذ القرارات التربوية .
وتعتبر دراسة التربية المقارنة ضرورية للمعلم ولكل المربين على اختلاف مستوياتهم سواء كانوا ممارسين أو منظرين . *
4 -فلسفة التربية
تمثل فلسفة التربية بعد العمق بالنسبة للعلوم التربوية من حيث أنها تمكننا من دراسة ونقد وتحليل العملية التربوية في أبعادها الشمولية والكلية . ذلك أن الفلسفة بحكم كونها أسلوبا للتفكير تعنى بتحديد المفاهيم وتوضيحها وتعميق فهمنا لها ولفلسفة التربية وظيفتان رئيسيتان :
الوظيفة الأولى: أنها تساعدنا على التفكير في المفاهيم والمشكلات التربوية بصورة واضحة ودقيقة وعميقة ومنتظمة. وهذه هي الوظيفة التوضيحية لها التي تساعدنا على أن تكون أكثر وعيا وإدراكا لأبعاد الموضوعات الهامة ، كما أنها تساعدنا في تقويم الحجج والأدلة وتعمل على تحرير عقولنا من طغيان التصلب في الرأي وسلطان الأفكار التقليدية القديمة. وهذه الوظيفة تتعلق بدور فلسفة التربية في تحسين السياسات والقرارات التربوية . وإذا لم تؤد فلسفة التربية إلى مثل هذا التحسين فإنها تكون مجرد
تمرین عقلي.
الوظيفة الثانية: لفلسفة التربية أنها تساعدنا على تصور التفاعل بين الأهداف والأغراض التربوية والمواقف التربوية المحددة والربط بينها لتوجيه قراراتنا وهي بهذا تساعدنا على رؤية أوضح للأهداف الجديدة ، كما أنها تدفعنا للتحرك من أجل تحقيق هذه الأهداف . وهكذا تكون فلسفة التربية همزة الوصل بين المستوى النظري للتحليل الفلسفي والمستوى العلمي للقرارات والاختبارات التربوية . وتعتمد
التفصيل الكلام عن التربية المقارنة أنظر لنفس المؤلف كتابه بعنوان : الاتجاهات المعاصرة في التربية
المقارنة ، عالم الكتب ، القاهرة ، 1993 .
الصفحة 51
فلسفة التربية على الفلسفة باعتبارها النظرية العامة للتربية على حد تعبير جون ديوي . ذلك لأن معظم المشكلات التربوية الرئيسية هي في جوهرها مشكلات فلسفية . فنحن على سبيل المثال لا نستطيع أن ننتقد المثل العليا والسياسات التربوية أو أن نقترح بديلا جديدا لها دون أن نأخذ في اعتبارنا المشكلات الفلسفية العامة كطبيعة الحياة الصالحة على الأرض التي ينبغي أن تؤدى إليها التربية ، وطبيعة الإنسان لأن الإنسان هو الذي تقوم بتربيته وطبيعة المجتمع لأن التربية هي عملية اجتماعية ، وطبيعة الحقيقة المطلقة التي تنشد المعرفة سبر أغوارها . وأن الفلسفة التربوية تتضمن تطبيق الفلسفة العامة على مجال التربية . وهذه الفلسفة شأنها شأن الفلسفة العامة تأملية وإرشادية ونقدية أو تحليلية.
والفلسفة التربوية تأملية عندما تنشد إقامة نظريات حول طبيعة الإنسان والمجتمع والعالم ، وقد تقوم الفلسفة التربوية بوضع مثل هذه النظريات باستنتاجها من الفلسفة العامة وتطبيقها على التربية ، أو بالبدء من مشكلات تربوية معينة إلى إطار فلسفي قادر على حلها . وبغض النظر عن المنهج الذي يتبع ، فإن الحقيقة التي تظل قائمة هي أن التربية تثير عدة مشكلات لا تستطيع هي أو العلم القيام بحلها كل على حدة ، وذلك لأنها مجرد أمثلة من المسائل الخاصة بالفلسفة التي تتكرر وتتواتر .
وفلسفة التربية تكون إرشادية عندما تحدد الغايات والأهداف التي يجب على التربية أن تستهدفها والوسائل العامة التي ينبغي أن نستخدمها لبلوغها وهي تقوم بتحديد وتفسير الأهداف والوسائل القائمة بنظامنا التعليمي وتقترح أهدافا ووسائل أخرى لكي تؤخذ في الاعتبار وعندما يتخير المربى أهدافه عليه الا يفعل ذلك كمرب بل كفيلسوف ·
وفلسفة التربية هي أيضا تحليلية ونقدية ، فهي بهذا المعنى تقوم بتحليل نظرياتها التأملية والإرشادية . كما تقوم بتحليل النظريات في فروع المعرفة الأخرى وتقوم بتمحيص مثلنا العليا التربوية واتساقها مع المثل العليا الأخرى وتمحيص الدور الذي يلعبه التفكير . وهي تقوم باختيار المنطق الذي تقوم عليه مفاهيمنا وكفاءته في مجابهة الحقائق التي تنشد تفسيرها. وهي تكشف عن التناقضات الموجودة بين
الصفحة 52
نظرياتنا وتوجها إلى النظريات التي تخلو من هذه التناقضات . وهي تدرس المفاهيم التربوية المتخصصة ، وتجتهد في توضيح المعاني المختلفة للمصطلحات التربوية التي نستخدمها مثل " الحرية " و " التوافق " و " النمو " و " الخبرة " و " الاهتمام " و " النضج " وغيرها.
الميتافيزيقيا والتربية والمنهج:
قد تبدو المسائل الميتافيزيقية بعيدة عن المهام المتعلقة بالمنهج والتدريس في حياتنا اليومية . ومع هذا فإنها تشيع في كثير من الأحيان في المناقشات في الفصل المدرسي . خذ على سبيل المثال الموضوع الميتافيزيقيا ما إذا كان للحياة الإنسانية أي هدف أم لا . وإذا كان لها هدف فما هو . إن هذا الموضوع وارد في أية مناقشة حول الخلق والتطور في أية حصة من حصص العلم الطبيعي بالمدرسة الثانوية . وإذا ما استنتج أحد التلاميذ في مناقشة حول التطور أن الكون ليس له هدف فإنه يترتب على ذلك أن حياته ذاتها ليس لها معنى . وفي ظل هذه الظروف يجب على المعلم لاسيما معلم الأحياء أن يتصدى لمناقشة بعض القضايا التي تساعد التلميذ على إدراك معنى الحياة والوجود .
خذ مشكلة أخرى ميتافيزيقية بدرجة أساسية . نحن نسمع مثلا عن قضية تعليم الطفل لا تدريس المادة . فما معنى هذه القضة بالنسبة للمدرس ؟ وحتى إذا أجاب المدرس بقوله " إني أفضل فقط أن أدرس مادتي فإن السؤال سيظل قائما " لماذا ؟ وما الهدف النهائي تدريس المادة .. وهناك مشكلة طبيعة العقل . ما هو ؟ وهل يختلف عن الجسم ؟ وكيف يرتبطان بعضهما ببعض ؟ هل العقل مصدر الأفكار ؟ هل العقل كيان مستقل بذاته أم أنه وظيفة للمخ ؟ - وهل التعلم وظيفة للعقل أو المخ ؟ . لقد قدمت الينا الدراسات الفسيولوجية والسيكولوجية عن المخ معلومات كثيرة ، ولكنها لم تجب عن الأسئلة الميتافيزيقية الأساسية حول العقل . ومن ثم فعلى المربى أن يتناول هذه الأسئلة بطريقة فلسفية .
الصفحة 53
إن أكبر قيمة للميتافيزيقيا تكمن في قدرتها على مناقشة المشكلات النظرية التي لا يمكن الإجابة عنها عن طريق الوقائع . فليس هناك ما يمكن أن يسهم بقدر أكبر من التأمل المتاني الدقيق كما يحدث في معالجة إحدى المشكلات في أبعادها الميتافيزيقية .
نظرية المعرفة :
من الاهتمامات الرئيسية للتربية اكتشاف المعرفة ونقلها . ولكن ليس كل ما يندرج تحت اسم التربية يمكن أن يطلق عليه اسم " معرفة " . ومن المهم إذن بالنسبة للمدرس أن يكون قادرا على تقدير الأسس التي تبنى عليها قضايا المعرفة . ويستطيع المدرس مساعدة الطلاب على الفهم والتمييز بين الرأي والحقيقة وبين الاعتقاد والمعرفة . ولا يترتب على الإقناع أن المعتقد في الحقيقة صادق ما لم يتفق مع أصول المعرفة المعول عليها . وفي حالات الميادين الغامضة من المعرفة أو التي فيها وجهات نظر متباينة يكون المخرج الوحيد أمام المدرس هو المفاضلة بين أنماط معينة من المعرفة أو أن يقول إن الحكم على ما هو معرفة أم لا إنما هي مسألة أخذ ورد . ويستطيع المعلم أن يناقش أنواع المعرفة وتشمل المعرفة اللدنية والوثقى والمنقولة عن السلف والتجريبية والعقلية والحسية . كما يستطيع أن يناقش الطرق التي تكتسب بها المعرفة وتشمل العقل والحواس والحدس والتجريب . واليوم نجد أن المعرفة المستمدة من خلال التجريب العلمي هي أكثر المعارف تقبلا . وهذا لا يعني أن الطرائق الأخرى خاطئة أو بلا فائدة . بل العكس فالمدرس يستطيع أن يبين أن الطرق المختلفة تكمل بعضا : فالإدراك الحسي يوفر وقائع ومعلومات مجزاة ونحن بحاجة إلى العقل لكي نربط بين المكتشفات التجريبية وأن نوحد فيما بينها في نظرية أو قانون . بيد أن التفكير المنطقي بدون إدراك حسي يكون خاويا من المضمون. ولقد لخص الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت " الاعتماد المتبادل بين التفكير المنطقي والإدراك الحسي في قانون المعرفة على النحو الآتي :
"المفاهيم بغير مدركات حسية تعد خاوية ، والمدركات الحسية بغير مفاهيم تعتبر عمياء" وقد تعمل كل من المعرفة الحدسية والمعرفة اللدنية أو الوثقى أحسن من غيرها في مواقف الحياة المختلفة . والواقع أن الحياة متباينة جدا وغير قابلة للتنبؤ في كثير
الصفحة 54
من جوانبها . والسؤال الهام بالنسبة للمدرس هو : " كم من الوقت والجهد ينبغي أن نكرس لكل من هذه الطرائق ؟ ولسوف تعتمد الإجابة إلى حد بعيد على المادة التي يقوم بتدريسها. والواجب أن يعتمد على فلسفته التربوية ، ذلك أن الفلسفات المتباينة تؤكد أنماطا متباينة من المعرفة ، ومن ثم مناهج متباينة في التدريس . وبغض النظر عن مدى أهمية المعرفة بالنسبة للتدريس الفعلي بالفصل ، فإن وجود نظرية اجتماعية وخلقية قوية يعتبر أساسا للممارسة التربوية . والواقع أن كثيرين ينظرون إلى تربية الشخصية على أنها أكثر أهمية للشباب من تعليم المسائل المعرفية . ويرون أن تهتم المدارس بنقل القيم الخلقية والروحية لجعل العالم مكانا أفضل للحياة أكثر من اهتمامها بالمسائل المتعلقة بمضمون المادة الدراسية .
إن من الأمور التي لا يمكن إنكارها أن مهمة تعليم الطالب كيف يفكر منطقيا هي مهمة صعبة . والواقع أن كثيرا من الناس لا يفكرون بالمنطق ويخضعون لا شعوريا لانفعالاتهم . ولا شك أن عوامل التكيف مع المجتمع المعاصر معقدة لدرجة أن المتعلم غالبا ما يجد صعوبة في تحقيق التوافق مع الفكر غير الانفعالي وغير المتحيز في المدرسة . وغالبا ما تغض المدرسة والأسرة نظرهما عن الموضوعية التي ترمي إليها المدرسة - ومن هنا ينبغي أن يحتل المنطق صميم العملية التعليمية . ويتوجب على المعلم أن يوضح لتلاميذه الخطوات المنطقية المؤدية إلى النتائج الصحيحة عند دراسة موضوع أو حل إحدى المشكلات .
والسؤال الذي يثار كثيرا في التربية هو : هل ينبغي أن نقدم المضمون على أساس منطقي أو تنظيم موضوعي المادة المقرر أو تبعا لمرحلة النمو التي وصل إليها المتعلم على سبيل المثال هل يجب أن تأتى دراسة الفيزياء بعد الجبر ( ترتيب منطقي ) أم يجب أن تدرس هذه المواد في أي وقت عندما يكون المتعلم مستعدا لها (ترتيب سيكولوجي) ؟ إن تقديم مادة المقرر بطريقة منطقية يقوم على النظرية القائلة بأن الترتيب المنطقي يوجد بالفعل فيه . فالموضوعات المختلفة للجبر مرتبة منطقيا ، ويجب أن تعرف أجزاء معينة من موضوعاته قبل أن نكون قادرين على فهم أجزاء أخرى . كما أننا لا نستطيع أن نفهم عمليات معينة في الفيزياء إلا بعد معرفة الجبر ويدافع أنصار هذه النظرية بأن الطالب إذا ما تمكن من التعلم بهذه الطريقة فإنه سوف يفكر
الصفحة 55
منطقيا بطريقة تلقائية جيدة . والمتطرفون منهم يرفضون أية عناصر سيكولوجية في المنطق الداخلي للمادة الدراسية - ويرون أن من الأهداف الرئيسية لتعلم المادة الدراسية ترتيب العقل الذي يكون في حالة من عدم التنظيم قبل أن يتلقاها ، وهم يتساقطون كيف نسمح لعقل غير مدرب بأن يفرض ما يجب أن يكون عليه تنظيم مادة الموضوع ؟ . ويؤكد التقليديون أهمية العرض المنطقي للمادة الدراسية . والبعض منهم يؤكدون أهمية المادة الدراسية بغض النظر عن خبرات التعلم . ومن المهم في نظرهم أن تؤدى إحدى النقط في إحدى المواد إلى نقطة أخرى بوضوح. ولا يمكن ترك الانسجام والوضوح للمادة الدراسية لمجرد الصدفة . وثمة آخرون أولوا اهتمامهم إلى الاتساق الداخلي للأفكار ، مؤكدين الوحدة الداخلية وكلية المادة الدراسية باعتبارهما الأساس في الترتيب المنطقي.
أما الترتيب السيكولوجي فيربط المادة الدراسية بأهداف الطالب واهتماماته وخبراته . فالتعلم لا يبدأ بتقديم المادة الدراسية المنظمة بل يبدأ بخبرة المتعلم ويتطلب ذلك مهارة من المعلم وأن تسهل عملية التعلم باشتراك المتعلم وأن تستثير اهتمامه ، وتجابه قوه التأملية بإحدى المشكلات وتشيع حبه للاستطلاع بتفاعل الطالب مع المادة الدراسية .
وفي نظر بعض الفلاسفة لا يتعارض الترتيب المنطقي والترتيب السلوقي بل يسيران جنبا لجنب . فجون ديوي مثلا يعتقد أنهما يتبططان بعلاقة وسيلة وغاية وأحدهما البداية والثاني النهاية ، وهما المرحلتان الأخيرتان لنفس عملية التعلم وهو يطابق بين " العملية والنتيجة " وبين " السيكولوجي والمنطقي " على التوالي . ويقول إن العملية السيكولوجية هي الوسيلة التي تصل بنا إلى فهم المادة الدراسية في شكلها المنطقي . والأخيرة هي المثل الأعلى أمام المتعلم لبلوغها ، وليست نقطة يستطيع أن يبدأ منها . وعلى ذلك تكون عملية التعلم " هي النمو لما سبق مرور الخبرة به في شكل أكثر ثراء وتنظيما . وكثيرا ما نسمع أن جون ديوي قد فضل الإيجابية والنشاط على السلبية في التعلم . لقد أسيء تفسير هذا ، وكان ديوي يتوقع من التلاميذ أن ينشغلوا
الصفحة 56
باستمرار في حركة جسمية وعمل دائب . إن مبدأ ديوي المتعلق بالنشاط إنما يصدر عن المفاهيم التي يجب على الطلاب بمقتضاها أن يتعلموا إيجابيا عندما تقدم إليهم الدروس ولا يكتفوا بالجلوس وكتابة المذكرات " .
المعلمون وفلسفة التربية:
ينظر كثير من المعلمين إلى فلسفة التربية على أنها شيء قليل النفع أو الفائدة وهذه النظرة تشترك مع قرينتها عن النظرية التربوية . فكلتاهما أي فلسفة التربية والنظرية التربوية . لا يرتبطان بواقع الحياة العملية اليومية للمدرسة . وهذه النظرة يجانيها الصواب . فلا شك في أن هناك ارتباط بين النظرية والتطبيق وإذا خلت النظرية من مؤشرات للتطبيق تصبح مجرد تدريب عقلي . وهذا يعنى أن لفلسفة التربية قيمة عملية وهو ما أكدناه في أكثر من مكان في هذا الكتاب . وتصبح دراسة فلسفة التربية ركيزة أساسية في برنامج إعداد المعلم . وقد تأكد ذلك في دراسات عالمية (*) . أشارت إليها مجلة كمبريدج التربوية (CIE) : :1990 ص 0115 ) .
ويناقش أحد الباحثين قضية إعداد المعلم بين النظرية والتطبيق فيقول : خلاصة رأيي هو أنه بينما تعتبر الممارسة والتطبيق جزءاً من إعداد المعلم فإنه من الخطأ الواضح أن نتصور وجود شيء يسمى التفكير العملي على أنه نوع متميز عن التفكير النظري ( 314.Pring : 1990 . P )
لتفصيل الكلام عن فلسفة التربية أنظر لنفس المؤلف كتابه بعنوان : فلسفة التربية اتجاهاتها
ومدارسها ، عالم الكتب . القاهرة . 1992·
الصفحة 57
5- المناهج الدراسية :
تستخدم المناهج الدراسية بعدة معان فهي في معناها العام تمثل كل نشاط تربوي موجه تقوم به المدرسة في داخلها وخارجها وهذا يشمل كل ما يقوم به التلاميذ من أنشطة تربوية وتعليمية موجهة سواء كانت في الفصول الدراسية أو خارجها ، في نطاق المدرسة أو خارج أسوار المدرسة ، في الزيارات والرحلات التي يقوم بها التلاميذ تحت إشراف وتوجيه المدرسة . وهي في معناها المحدد تشمل المقررات الدراسية في المجالات المختلفة اللغوية والتاريخية والرياضية والعلمية والأسس العلمية التي تبنى عليها هذه المقررات في مراحل التعليم المختلفة
إن المناهج في جوهرها تطبيق لأصول التربية بفروعها المختلفة من أصول نفسية وتربوية . وهذا يوضح الأهمية النسبية لكل منهما في النظرية والتطبيق التربوي . إن التعلم عملية نشطة تتطلب نشاط العقل والنشاط الذاتي من المتعلم حتى يتمكن من هضمها وتمثيلها وتصبح جزءا عضويا . وهذا يعني أشياء كثيرة بالنسبة للمنهج المدرسي الحديث . وقد نظر إلى المنهج أحيانا ببساطة على أنه يشمل ما نريد أن نعلمه للتلميذ في المدرسة كما يتضمن المنهج الخبرات المدرسية التي يحقق التلميذ من خلالها الأغراض التي ينشد المعلمون أن يحققوها .
وفى فهمنا للمنهج ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن التعلم يأتي نتيجة الخبرة وأن المدرسة تقدم خبرات ذان أغراض تعليمية وأن الخبرات داخل المدرسة تتأثر وتؤثر في الخبرات خارج المدرسة . ومن أجل تطوير وتنمية الخبرات التعليمية ينبغي تنظيم هذه الخبرات في داخل المدرسة وفي خارجها بما تؤدى إلى تعزيز كل منها للأخرى . ويمثل المنهج المدرسي محصلة جهود المدرسة في التوصل إلى النتائج المرغوبة سواء عن طريق المواقف التعليمية في داخل المدرسة أو خارجها . وبمعني آخر يمثل المنهج برنامج المدرسة للتلاميذ . ويشمل هذا البرنامج فيما يشمل المواد الدراسية كما يشمل أيضا الأنشطة المصاحبة للمنهج والانشطة خارج المنهج وهو بهذا يمثل مجموع الجهود التي تقوم بها المدرسة للتأثير على عملية التعليم سواء في داخل حجرة الدراسة أو في المعمل أو الملاعب أو الأنشطة المختلفة في داخلها أو
الصفحة 58
خارجها·
وهكذا يكون المنهج عبارة عن مجموعة الخبرات التعليمية المنظمة المقصودة التي تقدمها المدرسة أو توفرها للتلميذ تحت إشرافها في داخلها وخارجها . وبمعنى آخر المنهج هو خطة واضحة للعمل يتحدد فيها الأهداف والغايات التي تنشد تحقيقها والوسائل التي تصل بها إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات والمعايير التي تحكم بها على مدى تحقق هذه الأهداف .
المبادئ العامة التي يقوم عليها المنهج الحديث :
هناك عدة مبادئ عامة يستند إليها المنهج الحديث من أهمها
1 - أن يقوم المنهج على أساس فلسفة للتربية في إطار الفلسفة الاجتماعية والنظام الاجتماعي وأن يستمد أسسه من أصول العملية التربوية .
2 - أن يكون المنهج واسعا وشاملا وأن يحتوي على مناشط متعددة تتسع باتساع الحياة ذاتها
3 - أن يقوم بناء المنهج وتنظيمه على أساس ديمقراطي تعاوني يشترك فيه كل المعنيين - فالمنهج الحديث يقوم في بنائه وتنظيمه على أساس التفاعل البناء بين رجال التربية والمتخصصين والمعلمين والآباء والتلاميذ وممثلين عن قطاعات مختلفة من المجتمع حتى تحقق للمنهج الارتباط الوثيق بين المدرسة والمجتمع .
4 - يجب أن يكون التنظيم الإداري بسيطاً ومرناً ليتيح أي تعديلات في المنهج يتطلبها تغير الظروف .
5 - يجب أن يكون بناء المدرسة محققا لاحتياجات المنهج بمعنى أن يكون البناء المدرسي في خدمة المنهج لا أن يكون المنهج في خدمة البناء المدرسي . وهذا يتطلب أن تكون الأبنية المدرسية والأدوات والأجهزة تدار بطريقة تخدم الأغراض التربوية في المدرسة .
الصفحة 59
6 - يجب أن يتسع المنهج للفروق الفردية بين التلاميذ وأن يعني بتشجيع الموهوبين والعناية بالمتخلفين.
7 - يجب ان يهيء المنهج الفرصة للخبرات التعليمية لتعزز بعضها بعضاً بحيث يتحقق نمو الخبرة واستمرارها. وهذا يعنى بالنسبة للمواد الدراسية أن يتحقق التكامل في داخل كل مادة على حدة كما يجب أن يتحقق أيضا بين هذه المادة ودراسة المواد الأخرى .
8 - يجب أن يهيئ المنهج الفرصة لتعميق الخبرات التي سبق تعلمها حتى يتحقق للمتعلم فهماً أشمل وأغزر . وتتكون لديه القدرة على التصور والتعقل المعرفي .
9 - يجب أن يضع المنهج في اعتباره تركيب وبناء المواد الدراسية . ففي كل مادة أو میدان من ميادين المعرفة يوجد نظام منطقي أو إطار ينتظم في داخله مجموعة المعارف المكونة له . وعلى المنهج أن ينظم هذه المعارف في صورة خبرات مرتبة ومرتبطة .
10 - يجب أن يزود المنهج المعلمين بوسيلة تمكن كلا منهم من معرفة دوره بالنسبة للنظام الكلى . وهذا يقتضي على سبيل المثال أنه إذا كان على المعلم أن يبنى على خبرات سابقة أو يعهد الخبرات لاحقة أن يعرف مثل هذه الخبرات في الحالتين .
11 - يجب أن يضع المنهج في اعتباره كيف يتعلم الأطفال ؟ وما هي شروط التعلم ؟ وما أحسن الظروف التي تساعد على تحقيق التعلم الجيد ؟ وكيف تمنع المدرسة كل هذا في صورة خبرات تعليمية مربية .
12 - يجب أن يضع المنهج في اعتباره أنماط السلوك التي تهدف المدرسة إلى تنميتها وهذا يعنى تحليل أنواع السلوك المرغوبة بدقة ثم تترجم إلى خبرات وممارسات تربوية .
13 - يجب أن يكون المنهج وظيفيا ومتمركزا حول الحياة - والواقع أن هناك كثيرا من
الصفحة 60
الجدل حول ما إذا كان المنهج ينبغي أن يكون متمركزا حول المادة الدراسية أو حول الطفل أو حول المجتمع . بمعنى هل يكون تنظيم المنهج مستهدفا بصورة رئيسية تحقيق محتوى دراسي منظم من المادة الدراسية ؟ أم أن المدرسة ينبغي أن تهدف إلى التنمية الكاملة المتكاملة لشخصية الطفل أو هل يتجه بصورة رئيسية إلى تأكيد الحاجات الهامة للمجتمع ؟ وهذا لا يعنى أن هناك تعارضا بين هذه الآراء أو أن من الصعب التوفيق بينها فالاختلاف بينها هو في محور الاهتمام . ويمكن التوفيق بينها في مفهوم المنهج المتمركز حول الحياة الذي يتضمن الأبعاد الثلاثة الاجتماعية والفردية والأكاديمية . ففي الوقت الذي يركز فيه هذا المفهوم على المعرفة التراكمية للحضارة البشرية يركز أيضا على ارتباطها وتطبيقاتها للمشكلات الحاضرة والمستقبلة لكل من الفرد والمجتمع . وهو يتسع ليشمل مجال الحياة البشرية ذاتها فالتربية أكثر من أن تكون مادة دراسية أو فردا متعلما أو تطوير المجتمع . إن التربية هي الحياة بأوسع معانيها .
14 - ضرورة التقويم والمراجعة المستمر : فالتقويم ضروري لكل من التلميذ والمنهج لأنه يكشف عن خبرات تقدم التلميذ ويساعد في نفس الوقت على تطوير وتحسين المنهج . كما أنه لابد من مراجعة المنهج بصورة مستمرة ذلك أن الأشياء تتغير بحكم قانون النمو والحياة . ومن ثم فإن تعديل المنهج أو تغييره أمر تفرضه ظروف الحياة . فالمنهج في أحسن تصور له هو مجموعة من الخبرات النامية التي يتطلب الأمر مراجعتها من حين لآخر حتى يواجه تحديات الحياة الحاضرة. إن المنهج الذي لا يتغير يفترض أو يسلم بأن الحياة جامدة وثابتة والعكس هو الصحيح. ويقول برونر أن المنهج يجب أن يشترك في وضعه وإعداده وتطويره كل من خبير المادة التعليمية والمعلم وعالم النفس مع الاهتمام ببناء المادة وتتابعها . وبعد بناء المنهج ينبغي أن يوضع موضع الاختبار من خلال الملاحظة القريبة والوسائل التجريبية لا لمعرفة ما إذا كان الأطفال يتعلمون فحسب وإنما أيضا لمعرفة كيف يستفيدون من هذه المادة وكيف ينظمونها .
الصفحة 61
ثقافتنا المعاصرة والمنهج :
تطرح ثقافتنا المعاصرة بعض القضايا الهامة المتعلقة بالمنهج منها ما يتعلق بأنسب الموضوعات لإعداد الناس للحياة في عالم دائم التغير . ومنها ما يتعلق بالطريقة التي يمكن بها للمؤسسات التربوية المحافظة على استمرار التراث بينما تتزايد الثقافة تعقيدا . ومنها ما يتعلق بتربية أبنائنا للمساهمة كاملا في بناء الثقافة العريضة . الواقع أنه يتحتم على الإنسان العصري أن يتعلم باستمرار لأن المعرفة الجديدة تغير حياته دائما . وعندما يتوصل العلم والتكنولوجيا إلى معرفة جديدة يتحتم على المعلم أن يقدمها لتلاميذه . ومع مرور الزمن تتسع دورة الاختراع بنموها المتزايد السريع . وتتزايد صعوبة تكييف التربويين للمنهج لما يسمى باحتياجات المجتمع كلما تزايد معدل التغير الثقافي لأنهم لا يعرفون بالضبط ماهية تلك الاحتياجات أو مدى استمرارها. كما أنه لا يمكن تغيير المنهج بين عشية وضحاها لاسيما في المجتمع الديمقراطي . كما أنه لا يمكن تغيير المناهج تغييرا كبيرا قد يؤدى إلى خلخلة الارتباط بين أفواج التلاميذ التي درست منهجا مختلفا.
إن العلم والتكنولوجيا يعتبران من أهم القوى الدافعة للتغير في الثقافة وبالتالي في المناهج . كما أن العلم من خلال التكنولوجيا يؤثر في الاقتصاد ويعمل على خلق وظائف جديدة والغاء أخرى قديمة . لقد أدى العلم والتكنولوجيا إلى نشر التخصص المعرفي والوظيفي في الميادين المختلفة ومنها التربية . كما أدى إلى تغييرات أخرى كثيرة منها النمو السكاني وتزايد وقت الفراغ وزيادة الثروة ووجود أشكال جديدة من المتعة والتوسع في سلطة الحكومات وزيادة الاهتمام المتبادل لكل أمة على الأخرى . وأصبح لزاما على المدرسة اليوم أن تعد تلاميذها لعالم متغير باستمرار طول حياتهم . وقد قالت في ذلك عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة - مرجريت ميد : لن يعيش فرد طول حياته في ظروف العالم التي رأها عند مولده . ولن يموت في نفس العالم الذي رأه خلال فترة بلوغه .
ويرى التربويون التقدميون من أجل تكييف التربية للتغير السريع أن تركز المناهج العامة والخاصة على الثقافة المعاصرة . ويتحتم على الطالب أن يتلقى التعليم والمعرفة
الصفحة 62
الأساسية التي يحتاجها لفهم التغيرات الحالية والمستقلة - وفي ظل المنهج الخاص أو التخصصي يتعلم محاسب المستقبل على سبيل المثال كيفية حساب الشراء بالتقسيط أما في ظل المنهج العام فينبغي أن يدرس أخلاقيات الشراء بالتقسيط وأثارها على المستهلك والاقتصاد كله .
ويرى التربويون التقدميون ضرورة تركيز منهج المدرسة الثانوية على العلوم الاجتماعية التي تفسر العالم المعاصر والتي تتناول بعض الشئون المعاصرة مثل الإرهاب والجريمة والطلاق وانحراف الشباب وما إلى ذلك . وتمتاز الدراسات الاجتماعية في نظرهم بأنها أكثر الدارسات مرونة وأنها أفضلها في تمثيل التغير الدائم للمعرفة المعاصرة . ويتحتم أن تدرس العلوم الطبيعية بما يتمشى مع التفكير العلمي المعاصر
ومن الضروري تعريف الأطفال بالمفاهيم العلمية المعاصرة وطرق التفكير الموصلة إليها ويتحتم على التلميذ لكي يكتسب النظرة العالمية عن العلم المعاصر أن يهجر كثيرا مما تعلم من أفكار ومعلومات سابقة عن الكون والفضاء والمادة والزمن لتغيرها وتقادم الزمن عليها.
أما التربويون المحافظون فيرون أنه يتحتم على التربية في أوقات التغير السريع أن تكون بمثابة قوة مساعدة على الاستقرار والثبات . وإذا كانت بعض المعلومات والنظريات وبخاصة في العلوم قد عفا عليها الزمن فإن كثيرا من المعرفة يظل محتفظا بقيمته ويحتاج إلى التوضيح لا الهجر . وذلك بالجمع بين المعرفة الجديدة والقديمة بدلا من الأخذ بالجديد وترك القديم. ويجب الا نهجر مواداً مثل التاريخ من أجل دراسات أحدث كالدراسات الاجتماعية التي تتغير أساليبها على الدوام ومعلوماتها دائما محل جدال مستمر - ويرى التربويون المحافظون أيضا أن فوضى الثقافة لا تبرر إرباك الطفل . بل أنه كلما زاد معدل التغير احتاج التلميذ إلى مجموعة من المعارف والمبادئ لا يتطلب تغييرها من الأساس مهما كان ذلك بسبب الإضافة أو التنقيع . إن أهم ما يحتاج إليه هو اكتساب عادة التفكير المنهجي المنظم الذي يطبق على أية مشكلة مهما كانت جديدة . والفنون الحرة هي التي تنمي لديه وضوح الفكر واستقلال العقل والمعرفة اللازمة للتغير الثقافي . وقد نعوق تطوره الفكري إذا طلبنا منه قبل الأوان مسايرة المعلومات والآراء المتضاربة التي تحاول حل المشكلات المعاصرة ..
الصفحة 63
خلاصة :
وهكذا نجدن الأساس الثقافي والاجتماعي يمثل ركنا هاما بالنسبة للمنهج ومحددا رئيسيا لمحتواه. فهناك علاقة وثيقة بين المنهج وبين مفهوم الثقافة وخصائصها بالصورة التي عرضناها . ونظراً لاختلاف الثقافات والأجواء الاجتماعية فإن المنهج يتغير بالطبع من ثقافة لأخرى ومن مجتمع لآخر . بل أن المنهج قد يتنوع ويتعدد في داخل المجتمع الواحد تبعا للثقافات الفرعية والنوعية مثل ثقافة الريف والحضر وثقافة البدو وسكان السواحل . ومن هناك كان لابد أن يضع المنهج الحديث في اعتباره تمشيه مع هذه الثقافات النوعية في داخل المجتمع الواحد. ومع أنه من الضروري توفر قدر ضروري مشترك في المنهج بالنسبة لأبناء الشعب الواحد فإنه ينبغي أن يسمح بهذه الاختلافات النوعية وهذا بفرض على المنهج أن يكون مرنا يسمح بالاستجابة لمطالب البيئة لا أن يكون قوالب جامدة ثابتة لا تتغير . يضاف إلى ذلك أن تقسيم الثقافة إلى عموميات وخصوصيات وبدائل يفرض على المنهج الحديث أن يراعى في بنائه وتنظيمه هذا التقسيم فالعموميات الثقافية هي القدر المشترك الذي ينبغي على كل تلميذ أن يتعلمه وفى خصوصيات الثقافة مجال كبير للاجتهاد بين التلاميذ كما أن البدائل تمثل أيضا مجالا كبيرا للاختيار أو الرفض والميول والأذواق .
1 - طرق التدريس :
وهو مجال من مجالات الدراسة التربوية يعنى بتطبيق الأصول والمبادئ. العلمية في المواد التربوية المختلفة وتكييفها للموقف التعليمي والتربوي داخل الفصل من خلال الأنشطة التي يقوم بها المعلم .
وهكذا تكون طرق التدريس مجال تطبيقات العلوم التربوية المختلفة التي سبقت الإشارة إليها في الموقف التعليمي ومن جانب المدرس في مادة تخصصه . وليست هناك طريقة وحيدة التدريس يلتزم بها المعلم وإنما هناك مبادئ عامة يجب أن يراعيها في أثناء تدريسه من أهمها إثارة اهتمام التلاميذ وتشويقهم للتعلم واستثارة دافعيتهم وإشراكهم في الدرس والمناقشة وتطبيقه لأصول التربية ومبادئ علم النفس التعليمي.
الصفحة 64
كما أنه يجب أن يبنى قراحه المهنية التي يتخذها في الفصل على أساس علمي مستمد من الأصول العلمية التي تزوده بها العلوم التربوية وهكذا تكون طريقة التدريس التي يتبعها المعلم موجهة علميا وليست متروكة على أساس المحاولة والخطأ أو الاجتهاد الشخصي . ويجب أن تتكامل طرق التدريس مع المناهج الدراسية من ناحية وتكنولوجيا التعليم من ناحية أخرى . وهذا يعنى ألا يدرس أحدها بمعزل عن الآخر . ومن المعروف أنه في ظل التربية التقليدية شاعت أساليب تقليدية معروفة في طرق التدريس تركز على تعلم المادة الدراسية منها طريقة التدريب الشكلي ونظرية الملكات والتلقين والحفظ والاستظهار . ثم جاءت التربية الحديثة فنقلت الاهتمام من التركيز على المادة الدراسية إلى الاهتمام بالمتعلم وميوله ودوافعه ورغباته . وأدى ذلك إلى التخفف من القيود الشكلية السابقة في التدريس واعتمادها على النشاط الذاتي للتلميذ وتلقائيته . بل إن الأمر وصل حد التطرف بظهور مدارس تعرف بالمدارس الحرة تركت الحبل على الغارب للتلميذ وتعالت الصيحات والشكاوى من أن التربية الحديثة قد بالغت في الاهتمام بالمتعلم على حساب المادة الدراسية . وتعالت الصيحات بالاهتمام بتعليم المادة الدراسية وضرورة العودة إلى الأساسيات كما فصلنا في مكان آخر من الكتاب ، وظهرت طرق تعليمية وأساليب تدريس مختلفة . ووجدت طرق لتعليم المواد المختلفة، . مثل الطرق الكلية والتوليفية في تعليم القراءة والطرق الحديثة في تدريس الرياضيات والعلوم واللغات الأجنبية . وإلى جانب هذه الطرق وجدت أساليب وطرق أخرى مثل التعليم البرنامجي والتعلم بالإتقان والتعليم المهارى وطريقة التعلم القائم على المصادر والوحدة التدريسية أو الموديول وطريقة منتسورى وطريقة دالتون وطريقة كيلر في التعليم الجامعي وسوزوكي الياباني في تعليم الموسيقى وغيرها . وسنفصل الكلام عن كل طريقة من هذه الطرق في السطور التالية .
1- التعليم المبرمج:
إن فكرة التعليم البرنامجى ليست جديدة ، ففكرة البرمجة في التعليم تقوم في أساسها على ترتيب وتنظيم المادة التعليمية في سلسلة من الخطوات الصغيرة المتعاقبة عن طريقها يستطيع المتعلم أن يتعلم بنفسه منطلقا من المعلومات البسيطة التي يعرفها إلى تعلم الأشياء الأكثر تعقيدا والتي لا يعرفها . ويتم ذلك من خلال استجابة المتعلم في
الصفحة 65
كل خطوة ، فإذا كانت استجابته صحيحة استطاع أن ينتقل إلى الخطوة التالية . أما إذا كانت إجابته خاطئة فإنه يرجع مرة أخرى إلى الخطوة أو الخطوات السابقة ليصحح نفسه بنفسه ثم يعاود استمرار تعلم الخطوات التالية مرة أخرى . وهكذا ينتقل التلميذ خطوة خطوة في عملية التعلم الذاتي .
ومن الناحية التاريخية يرى بعض المربين أن بروز فكرة التعليم المبرمج ترجع في تسلسلها وتدرجها إلى سقراط في طريقة الحوار المعروفة عنه وفي العشرينات اخترع بریسی آلة للتعليم الذاتي وذلك قبل أربعين عاما من " سكتر " الذي يعتبر - أبا التعليم البرنامجي .. وهناك نواع بسيطة من المواد المبرمجة تقوم على أساس نظام يعرف باسم البرمجة الخطية أو المستقيمة التي بناها " سكتر " . وهي تقوم على تقديم المادة التعليمية في خطوات صغيرة متلاحقة ومسلسلة تسلسلا منطقيا يساعد المتعلم على السير في عملية التعلم بانتظام فهو ينتقل من خطوة الأخرى . وعادة ما تكون المادة التعليمية المقدمة ذات طبيعة محايدة تقوم على الحقائق العلمية مثل العلوم والرياضيات وليس على الجدل ووجهات النظر . وهناك نظام آخر للبرمجة أكثر صوبة يعرف باسم البرمجة المتشعبة أو المتفرعة هذه الطريقة من البرمجة أكثر تعقيدا من السابقة فهي تقوم على خطوات متتابعة ومتلاحقة لكن الخطوات في هذه الطريقة تكون أكبر وتشتمل على خطوات أخرى أصغر . ويستطيع المتعلم أن يصحح أي خطأ يقع فيه بالرجوع إلى الخطوات السابقة . ويعتبر لامزدين وكراودر وأتباعهما من أنصار أو رواد الطريقة المتفرعة . ومن المؤمنين بقيمتها وأهميتها . وهذه الطريقة تناسب الأذكياء ونوى السن الأكبر من المتعلمين لأنها تحملهم على التفكير . في حين أن الطريقة الخطية أشبه بالإطعام بالملعقة . كما أنها تستغرق وقتا طويلا . ولذلك تكون أفضل بالنسبة للأطفال الصغار أو المتخلفين كما أنها مفيدة في الفصول الكبيرة ومع المدرسين غير المؤهلين .
وهناك صور رياضية للبرمجة . وقد تكون البرمجة على صورة مواد تعليمية في كتاب أو للاستعمال بواسطة آلة تدريس في صورة التعليم
الصفحة 66
المصاحب للكمبيوتر ويرتبط التعليم المبرمج كما أشرنا باسم عالم النفس الأمريكي سكنر في الستينات . ومع أن المصطلح لم يعد يستخدم استخداما كثيرا في التربية الآن فإن كثيرا من خصائص التعليم البرنامجي قد ضمنت في الممارسات التربوية الحالية إلى حد ما مثل مواد التعليم الذاتي المستخدمة في التعليم عن بعد بما في ذلك الجامعة المفتوحة ويرتبط بذلك أيضا الاهتمام الحديث بالاختبارات والتقويم والمراجعة
ب- المتعلم بالإتقان.
يعتبر التعلم بالإتقان من التجديدات التربوية المعاصرة . وقد حظي باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة . وكان الفضل الأول لجون كارول (1971) وبنيامين بلوم (1971) في توضيح وتحديد فكرة التعلم بالإتقان رغم قدمها. فكلاهما يشير الى ممارسات تطورت على يد "كارلتون واشبورن" و "هنری موریسون" في العشرينات من هذا القرن.
إن الفكرة النظرية المحورية في التعلم بالإتقان تكمن في تصور كارول المعنى الاستعداد · فهذا المصطلح من الناحية التاريخية ينظر إليه على أنه خاصة أو سمة ترتبط بتحصيل التلميذ . فكلما زاد استعداد التلميذ زادت إمكانية تعلمه أما كارول فينظر إلى الاستعداد على أنه كم الزمن المستغرق في تعلم مادة ما وليس في إجادة تعلمها . فالطالب ذو الاستعداد المنخفض لنوع معين من التعلم يحتاج إلى وقت أطول لإجادة تعلمه أكثر من الطالب ذي الاستعداد العالي . وهذه وجهة نظر متفائلة ، لأنها تعنى أن كل الطلاب تقريبا يمكنهم إجادة تعلم أغراض أو أهداف معينة إذا أعملوا وقتا كافيا أي فرصة للتعلم مع توفر المواد التعليمية المناسبة والتعليم.
تمثل هذه الفكرة محورا جوهريا للسياسة التعليمية في الصين. ويمكن الرجوع لتفصيل الكلام إلى كتاب لنفس المؤلف بعنوان : الإصلاح والتجديد التربوي في العصر الحديث . عالم الكتب، القاهرة . 1993
الصفحة 67
المناسب . وهي فكرة ترددت عند " برونر " واشتهر بها . إن درجة التحصيل في تعلم
هدف ما في نظر كارول هي دالة على الوقت المتاح ونوعية التدريس ، ومثابرة التلميذ ومدى استعداده وقدرته على الفهم . ( 18-317 .Joyce : P )
السمات والخصائص:
حول بلوم آراء كارول إلى نظام يتميز بخصائص أو سمات محددة أهمها :
1- إجادة تعلم مادة ما يتحدد في ضوء مجموعة من الأهداف الرئيسية أو الكبرى تمثل أهداف المقرر الدراسي أو الوحدة الدراسية .
2- تقسم المادة إلى وحدات صغيرة نسبيا للتعلم لكل منها أهدافها الخاصة التي ترتبط بالأهداف الكبرى للمقرر أو لأهميتها في إجادة تعلمه.
3- تحدد المواد التعليمية وتختار الاستراتيجية التعليمية المناسبة .
4- يصاحب كل وحدة اختبارات تشخيصية مختصرة لقياس تقدم التلميذ ( أي تقويم بنائي أو تكويني ) وتحديد المشكلات التي يواجهها كل تلميذ .
5- تستخدم المعلومات المستمدة من نتائج تطبيق اختبارات التشخيص لإستكمال التعلم الضروري أو اللازم للتلميذ للتغلب على مشكلاته .
ويعتقد بلوم أن التعليم إذا تم بهذه الطريقة فإنه يمكن التحكم في الوقت المناسب للإستعداد . فالتلاميذ من نوى الاستعداد المنخفض يمكن اعطائهم مزيدا من الوقت ومزيدا من التغذية المرتدة أو العكسية في الوقت الذي يتم فيه رصد تقدم جميع التلاميذ باستخدام الاختبارات التشخيصية . ويعتقد بلوم وآخرون غيره أن التعلم بالإتقان يمكن استخدامه ببساطة بتعديل النظام التقليدي في طرق تعليم مجموعات التلاميذ لضمان إتاحة مزيد من الوقت لبعض التلاميذ وضمان حصولهم على التعليم الإضافي المناسب .
وهذا يعتمد على نتائج التقويم التكويني للتلاميذ . وهذا بدوره يحتاج إلى ترتيبات مختلفة عن تلك الموجودة في الصف الدراسي العادي . وقد سبق أن أشرنا إلى أن بعض الدول قد استطاعت أن تطبق نظام التعليم بالإتقان بنجاح في مدارسها .
الصفحة 68
ويضرب المثل في ذلك بكوريا الجنوبية التي تعتبر تجربتها مثلا طيبا يمكن الاستفادة منه .
التعليم القائم على الكفاءات أو التعليم المهاري :
يعرف التعليم القائم على الكفاءات أو التعليم المهاري تعريفات مختلفة . لكنه في أبسط تعاريفه يعنى التعليم الموجه لإتقان مهارات محددة في المجال المعرفي أو في المجال الوجداني أو العاطفي أو في المجال النفسي حركي أو المهارات العملية . ويمتد هذا النوع على كل مراحل التعليم من المرحلة الابتدائية حتى المرحلة الجامعية . واتبع أيضا في مجال إعداد المعلم وكان من أهم التجديدات في هذا المجال في السبعينيات وهي الفترة التي ازدهر فيها كطريقة جديدة في التعليم والتعلم . والفكرة الرئيسية التي يقوم عليها أن عملية التعلم ينبغي أن توجه لتنمية مجموعة من الكفاءات أو المهارات وأن على التلميذ في نهاية البرنامج أن يثبت قدرته على أداء كل كفاءة أو مهارة . ويمكن أن يتم ذلك باختباره في نهاية البرنامج في كل الكفاءات أو المهارات أو الاقتصار على اختباره في كل مهارة عقب تعلمه له . ويتطلب ذلك جدولة دقيقة لعمليات التعلم وعمليات الاختبار والتقويم للمهارات أو الكفاءات المتضمنة . وبمعنى آخر التعليم المهاري أو القائم على الكفاءات يتطلب تحديد الأهداف في إجراءات وعمليات تتضمن تحديد المهارات المطلوبة من المتعلم مع وضع مقاييس واختبارات جيدة لها ، وبهذا يكون المعلم والمتعلم على معرفة مسبقة بالأهداف والوسائل والنتائج المرجوة . كما أن المتعلم يتحمل مسئولية تعلمه للوصول إلى النتيجة وبإثبات كفاءته ومهارته على أساس اختبار أو وسيلة موضوعية للقياس . فالتعليم المهارى إذن تعليم فردى يتم حسب قدرة كل فرد على التعلم ومدى سرعته فيه . ويعتبر المربي الأمريكي بالاردى وزميله من أحسن من كتب بالتفصيل عن هذا النوع من التعليم والأسس التي يقوم عليها وهي :
اولا : يقوم التعليم المهارى على وصف مفصل للمهارات السلوكية المتوقع من المتعلم إجادتها . وعادة ما يشار إلى المهارات السلوكية بمسميات أخر متعددة مثل الأهداف السلوكية أو الأهداف الأدائية أو الأغراض الإجرائية أو الأغراض
الصفحة 69
التعليمية . وبصرف النظر عن تعدد هذه المسميات فإن السلوك المطلوب تعليمه أو إتقانه يجب أن يتوفر فيه :
_تحديد السلوك نفسه .
_ تحديد الشروط أو الظروف التي يظهر فيها السلوك ( سلوك لفظي أو عملي مثلا ) .
_ تحديد المعيار الذي يمكن على أساسه تحديد المستوى لإجادة السلوك المطلوب أو اكتساب المهارة . ويمكن توضيح كل هذه الشروط الثلاثة بالأمثلة التالية :
والفكرة الرئيسية هنا أن المتعلم يطالب بالوصول إلى مستوى من الدقم والإتقان المهارة سلوكية معينة . وهذه الفكرة في حد ذاتها تلقى تقبلا متزايدا من جانب المربين ، لاسيما في السنوات الأخيرة كما أنها تفيد المعلم في إحكام طريقة تدريسه وتوجيه استراتيجيات التدريس على أساس محدد واضح . ولا شك أن وضوح الهدف وتحديده يساعد على اختيار وسائل تحقيقه وأساليب تقويمه لكن مما يعاب على تحديد الأهداف هو أنها تنظر إلى التربية والتعليم كنظام مغلق لا كنظام مفتوح فضلا عن أن المعلم قلما يجد لديه الوقت أو الرغبة للقيام بتحديد الأهداف السلوكية لكل درس بصورة منتظمة
ثانيا : يجب أن يميز التعليم المهارى بين التلاميذ والمتعلمين من حيث خبراتهم السابقة ومستوى تحصيلهم ومعدل وطريقة تعلمهم . وهذا يعني أن التعليم المهاري يقوم على التعليم الفردي الذي يتيح للمتعلم فرصة
الصفحة 70
إجادة المهارات المطلوبة في حدود إمكانياته وقدراته وسرعته في التعلم في ضوء خطوات تعليمية محددة يمر بها الطالب ويقوم سلوكه من خلالها.
ثالثا : يجب على التعليم المهاري أن يهبئ للمتعلم فرصة البحث عن أهدافه الخاصة وهذا يعنى أن يتاح للمتعلم الاختيار من مجموعة من الأنشطة البديلة وهذا الاختبار يساعده في نفس الوقت على تحقيق أهدافه الخاصة.
تقويم أسلوب التعليم المهارى :
في تقويم أسلوب التعلم المهاري يقول ترايفرز (102 :p Travers ) إن هذا الأسلوب شبيه جدا بما نادى به رالف تایلر في الثلاثينيات في تطويره لأسلوب تحديد الأهداف التعليمية بطريقة إجرائية سلوكية . وهي الفكرة التي تطورت فيما بعد على يد - بلوم وزملائه - في - الأهداف السلوكية · والفرق بينهما في نظر " ترايفرز " هو أن بعض الألفاظ القديمة تغيرت ولبست ثوبا جديدا لتعطي إيحاء بالجدة والحداثة . وهكذا يصدق قول الشاعر العربي :
ما أرانا نقول إلا معادا * أو معاراً من لفظنا مكرورا
5- تكنولوجيا التعليم:
يتعلق هذا الميدان من ميادين التربية بالاستفادة من الانجازات التكنولوجية وتسخيرها لخدمة مجال التربية والتعليم ويشمل ذلك استخدام الأجهزة السمعية والبصرية في التعليم بما في ذلك التعليم المبرمج والتعليم الذاتي والتعليم بالآلات والعقل الالكتروني. وتتكامل تكنولوجيا التعليم مع المناهج الدراسية وطرق التدريس في وحدة عضوية متكاملة . ونحن عندما نتحدث عن تكنولوجيا التعليم الجيدة أو الوسائل التعليمية المستخدمة فإننا نشير عادة إلى التليفزيون التعليمي أو الراديو أو الأفلام أو الدوائر التليفزيونية المغلقة أو التعليم المبرمج أو معامل اللغات أو الحاسب الآلي أو أشرطة الفيديو أو الحقائب التعليمية أو ما شابه ذلك . والمغزى الرئيسي لهذه الوسائط التعليمية أنها تمكن المدارس والمعلمين من الاستفادة من التدريس الجيد على نطاق واسع فدرس جيد الإعداد يقوم بتقديمه مدرس عالي الكفاءة المهنية مسجل على شريط فيديو
الصفحة 71
أو مذاع في برنامج للتليفزيون التعليمي يمكن أن يستفيد منه ملايين المعلمين متوسطي الإعداد في مختلف بقاع العالم . ونفس المثال يمكن أن نورده فيما يتعلق بعرض تجربة في معمل أو إطلاق صاروخ في الفضاء وتفجير نواة أو حتى قنبلة نووية على الأرض وغير ذلك من الأمثلة التي يمكن أن يتضح منها قيمة وفائدة استخدام هذه التكنولوجيا التعليمية الجديدة . فهي إذن قنوات فعالة لتوصيل التدريس والتعليم الجيد . وقد أتاحت هذه القنوات الجديدة فرصا تعليمية هائلة لملايين البشر كان من الصعب جدا في بعض الأحيان توفيرها لهم . وامتد نطاق عملية التعليم والتعلم إلى أن شملت كل بيت وكل مكان في الريف والحضر والبيداء بل وتحت الخيام والأشجار .. كل هذا يوضح التطور الهائل في زيادة الفرص التعليمية التي ترتبت على هذه المستحدثات إلى جانب أهميتها التدريسية وفائدتها التعليمية للمنظمات التربوية والعاملين فيها .
ومن المعروف أن لكل وسيلة من هذه الوسائل أهميتها النسبية التي تميز استخدامها عن الوسائل الأخرى ، فاستخدام التليفزيون يتميز في التعليم باستخدام امكانيات الصوت والصورة وما يتصل بذلك من استخدام الأفلام والمسجلات المرئية والشرائح والجداول والعرائس والصور المتحركة وتقريب المسافات وتبسيط العروض وتيسير إجراء التجارب وغير ذلك من الأمور التي ينفرد بها التليفزيون . فإطلاق صاروخ أو تفجير قنبلة أو بيان النمو في النبات أو توالد الحيوانات والأجناس أو التفاعلات الكيميائية كل ذلك أصبح ممكنا عرضه على الشاشة الصغيرة ، وأصبحت عملية التعليم تعاونية بين مدرس الشاشة ومدرس الفصل ويعملان معا كفريق .
أما الراديو فهو يعتمد على الصوت أي أنه بيث صوت المعلم وما يقوم به من شروح لفظية . وهو مفيد في الشروح النظرية وتعليم اللغات والموسيقى ويحمل صوت المعلم إلى مسافات بعيدة نائية قد يعز الوصول إليها بطريقة أخرى . لكن الاتصال بين المعلم والمتعلم يقتصر على الصوت فقط دون الرؤية . والرؤية مهمة في التعلم لأنها تحمل مشاعر المعلم وحركات يده إلى المتعلم . أما معامل اللغات والتعليم البرنامجي والكومبيوتر فيكون استخدامها بطريقة فردية في داخل الفصل أو المجموعة ، والتعليم من خلالها أفضل وأجدى أثرا من الاعتماد على الكتب الدراسية وحدها. والأفلام
الصفحة 72
والشرائط لها كثير من ميزات التليفزيون إلا أنه يصعب استخدامها في الفصل ومن الأسهل استخدام التليفزيون. كما أن برامج التليفزيون التعليمية يمكن تجديدها وتحسينها بطريقة أسهل وأسرع من الأفلام والشرائط . ولذلك فإن البرامج التليفزيونية تتضمن عادة معلومات أحدث باستمرار .
إن اكتشاف التليفزيون قد أثر كثيرا على أهمية الراديو واستخداماته في التعليم. ولكن ما زال للراديو أهميته الفريدة في الوصول إلى الأماكن النائية بطريقة أسهل من التليفزيون كما أشرنا . كما أن بعض الدول ما زالت تستخدم الإذاعة لاسيما في تعليم دروس ومقررات تكميلية لما يدرسه الطالب في المدرسة كتعليم اللغات والموسيقى والدراما والمواد الاجتماعية. من هذه الدول على سبيل المثال أستراليا ونيوزيلندا وتايلاند وغيرها .
ويستخدم التليفزيون التعليمي على نطاق واسع في كثير من دول العالم المعاصر المتقدم منه والنامي على السواء . وهو يستخدم لتحقيق أغراض كثيرة منها زيادة الفرص التعليمية وتوسيع نطاقها، والتعويض عن النقص في المعلمين المؤهلين والنقص في أبنية المدارس. وتعليم التلاميذ خارج المدرسة ، وتقديم برامج تدريبية أثناء الخدمة للمعلمين وتعليم الأميين والكبار وربات البيوت وغيرها من الفئات التي يناسبها هذا اللون من التعليم . كما أن الأقمار الصناعية قد عززت من إمكانيات استخدام التليفزيون على نطاق واسع - وأصبح في إمكان الطلاب أن يشاهدوا ويتعلموا مما يحدث في أي مكان في العالم وكأنما يشاهدونه أمامهم رؤى العين . وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية واليابان رائدة دول العالم في التعليم عن طريق الأقمار الصناعية .
الصفحة 73
ميادين تعليمية
تعرض في السطور التالية لبعض ميادين التعليم وهي تعليم الصغار والتعليم الأساسي والتعليم الثانوي وتعليم الكبار وتعليم المرأة وإعداد المعلم :
1 - تعليم الصغار :
نعنى بتعليم الصغار هنا التعليم قبل المدرسي ويستخدم هذا المفهوم عادة ليشمل صورا من تعليم الأطفال في مرحلة ما قبل سن التعليم الإلزامي . ففي معظم دول العالم بما فيها الدول العربية والغربية وغيرها يبدأ سن التعليم الإلزامي عند السادة أو السابعة من عمر الطفل . وقد ينخفض السن إلى خمس سنوات في بعض الدول مثل بريطانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى. ويمكننا أن نميز بين ثلاثة أنماط من التعليم قبل المدرسي :
النمط الأول: تمثله مدرسة الكريش وهي مدرسة أو دار للحضانة تعنى بالطفال الأمهات العاملات. ويتراوح عمر الطفل الملتحق عادة بين ستة شهور وثلاث سنوات ( توجد في فرنسا وبلجيكا وغيرهما من الدول الأوربية ) .
النمط الثاني: تمثله رياض الأطفال وهي تعنى أساسا بتنمية القدرات الحسية والحركية والجسمية لدى الأطفال من خلال اللعب كما تساعدهم على التكيف الاجتماعي .
النمط الثالث: تمثله دار الحضانة وهي تمد الطفل عادة للالتحاق بالمرحلة الابتدائية وذلك من خلال تنمية مهارات الاتصال وقدراته اللغوية والرياضية .
إن معظم الدول ترى أنه ينبغي للطفل أن يقضى في المدرسة وقتا أكثر مما كان عليه الحال في السابق ليتمكن من تفهم تشابك الحياة المعاصرة ، كما تتفق جميع الدول
الصفحة 76
على أنه يتوجب العناية بالأطفال المعاقين منذ البداية حتى يسهل التعاون معهم في المراحل اللاحقة من حياتهم المدرسية . وعلى الآباء التعاون مع المدرسة في مختلف مراحل العملية التعليمية وإنشاء صلة وثيقة بين الآباء والمدرسين والتلاميذ لاتخاذ القرارات العامة المتعلقة بمستقبل التلميذ . وبالنسبة للإحصائيات الخاصة بالأطفال الذين يلتحقون بالمدارس قبل سن التعليم الإلزامي نجد أن بعض دول أوربا مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبرج تبلغ النسبة فيها 100٪ للأطفال ما بين الخامسة والسادسة وأكثر من 80٪ ما بين الثالثة والخامسة . وفى المانيا الغربية تبلغ نسبة الأطفال الذين يلتحقون في المدارس حوالي ثلث أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة والسادسة وكان من المتوقع في سن 1980 أن تنخفض سن التعليم الإلزامي إلى سن الخامسة مما يرفع نسبة الأطفال الذين يلتحقون بالمدارس من سن الثالثة إلى الرابعة إلى 75% . وفي العقد الأخير من هذا القرن يتوقع أن تبلغ النسبة في المانيا الغربية 100 % وفي إيطاليا تبلغ النسبة 50٪ للأطفال ما بين الثالثة السادسة، أما في الدول الاسكندنافية فالتقاليد تقضي بأن يقضى الطفل معظم سنواته الأولى مع أمه ولذلك نجد أن سن التحاق الطفل بالمدرسة يتأخر ومن ثم لا يبدأ سن التعليم الإلزامي إلا في سن السابعة وتبلغ نسبة الالتحاق بمرحلة ما قبل المدرسة 15٪ وتبلغ النسبة في انجلترا وويلز 12 / لسن الثالثة والخامسة . أما في جمهورية ايرلندا فتصل إلى 55٪ المرحلة ما قبل المدرسة . وهناك وجهة نظر تقول بأن الاتجاه إلى تشجيع الحاق الأطفال بمدارس قبل سن التعليم الإلزامي يضعف من الروابط العائلية في وقت نحن بحاجة إلى زيادة تعلق الطفل بأهله وهي وجهة نظر يجب أن تؤخذ بشكل جدي
رواد دور الحضانة ورياض الأطفال :
كان جان جاك روسو من دعاة الحاق الأطفال بالمدارس وأن يكون تعليمهم عن طريق الأشياء الملموسة والتجارب مع التركيز على الطبيعة باعتبارها خير معلم ، وعلى النمو الطبيعي للطفل . ولهذا المربى الفرنسي شهرة كبيرة في تاريخ التربية بكتاب "إميل" الذي ضمنه أراء التربوية . وكانت الأرائه تأثير كبير على المربين المعاصرين له ومن جاء بعدهم. وكان بستالوتزي المربى السويسري المعروف قد قرأ
الصفحة 77
هذا الكتاب بعد طباعته مباشرة وتأثر بما حواه من أفكار .
وقد قام بستالوزي بتأسيس عدة مدارس في بلده سويسرا ابتداء من عام 1774 ومع أنه لم يكن مهتما بشكل خاص بتعليم الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة إلا أن أفكاره أثرت على فروبل الذي فتح أول مدرسة حضانة في المانيا سنة 1837 . وقد طور أفكار بستالوزي ووضع الأسس الخاصة بتطوير الأنشطة الذاتية للأطفال وأهمية اللعب. واتفق مع بستالوزي على أن الأطفال يجب أن يتعلموا عن طريق التجارب والأشياء الملموسة قبل أن يبدأوا في تعلم المفردات والأفكار . وركز على التعليم عن طريق الفعل والحركة والنشاط الجسمي . وقد انتشر تأثير فروبل بسرعة . وفي عام 1851 افتتحت دار للحضانة في بريطانيا على غرار دار حضانة فروبل في المانيا . وأنشئت جمعية فروبل بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ . وعندما أغلقت مدارس فروبل في المانيا سنة 1851 بقرار من حكومة بروسيا لتخوفها من أخطار التربية الاشتراكية والتحررية ذهب كثير من المهاجرين إلى أمريكا وعملوا هناك. ولكن التركيز أصبح على الجانب النظري فقد قبل جون ديوى معظم أفكار فرويل وتجاربه حول التعليم العملي وتوسع بها وطورها بشكل يتلأم مع الوضع في أمريكا في بداية القرن العشرين .
وكان يعتقد أن التعليم يجب أن يبدأ من نشاط الأطفال مما يتوجب وضع حوافز لذلك وأكد أن التعليم عملية متصلة ومتغيرة دون أن يهتم جدا بالأهداف الثابتة . كما حث على الحاجة إلى مزيد من البحوث السيكولوجية أي النفسية عن الطريقة التي يتعلم وينمو بها الأطفال . وكانت ماريا منتسوري المعاصرة لفروبل طبيبة تخصصت في تربية الأطفال المتخلفين الذين يعيشون في ظروف صعبة أو سيئة . ثم توسعت في تفكيرها لتشمل الأطفال العاديين . وكانت تعتقد أن الحرية ضرورية للطفل من الناحية البيولوجية وأن الحاجة الرئيسية له خلال النمو هي عدم التدخل وأن التعلم الذي له قيمة في نظرها هو التعلم الذاتي - وقد ركزت بشكل خاص على تدريب العضلات والأحاسيس . وفي مدرسة منتسورى توضع وسائل تعليمية خاصة يختار من بينها كل طفل ما يناسبه ويعمل بها دون أي تدخل . ولكنها ترى أن هناك فترات محدودة لنمو كل طفل وأن وسائلها التعليمية مرتبة بشكل منتظم لتناسب هذه الفترات .
الصفحة 78
فإذا أخفق طفل في تحقيق النتيجة المرجوة فذلك دلالة أكيدة على أنه ليس على استعداد للانتقال إلى الخطوة التالية . والتدريب على الرياضة الجسمية يساعد على النمو المتوازن لمختلف أجزاء الجسم . وهناك طريقة يتدرب بها الأطفال وهي فترة صمت يتعلم خلالها الطفل السيطرة على حركاته بأن يظل هادنا صامتا . ومع أنه كان لأعمالها تأثير خلال حياتها إلا أن التأثير بدأ يقل خلال السنين التالية لأن طريقتها كانت موضع هجوم لتصلبها ولاصطناعها ولإعطائها أهمية للعب والنشاطات الخلاقة والنمو العاطفي بشكل عام. ومع هذا فإن دور الحضانة في فرنسا لا تزال متأثرة بأعمالها وطريقتها في تربية الأطفال الذين يعيشون في ظروف سيئة وكانت طريقتها ملائمة أيضا لدول أخرى مثل بريطانيا وأمريكا وخاصة للأطفال الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة . وقد بدأ الاهتمام من جديد بطريقة منتسوري في مختلف دول العالم في أوربا وأمريكا على السواء .
وكذلك نجد أن أوفيد تكرولي ( 1871 - 1932 ) الطبيب البلجيكي وهو معاصر لمدام منتسورى ينحو نحوها ، ويؤكد على الحاجة إلى مزيد من البحوث النفسية والتربوية حول الطريقة التي ينمو ويتعلم من خلالها الأطفال . وقد تخصص في تربية الأطفال المتخلفين والذين يعيشون في ظروف صعبة، لكنه طور أفكاره فيما بعد لتشمل الأطفال العاديين. وقد كان تأثيره أبعد من تأثير منتسورى نظرا لأنه خص بكلامه تربية الطفل حتى دخوله الجامعة ولأن مبادئه الأساسية ولاسيما ما يتعلق منها بتعليم القراءة والكتابة تبنتها إلى حد كبير جميع المدارس . وأثرت إلى درجة كبيرة على التعليم الأساسي في فرنسا خلال فترة ما بعد الحرب ونقل عنها المربون في دول أخرى . إن طريقة تكرولي ليست جامدة بل مرنة وتتكيف مع نفسية الطفل وبيئته المتغيرة باستمرار . لذلك فإن ملاحظة الطفل من الناحية النفسية ذات أهمية قصوى . وعلى أساس هذه الملاحظة السيكولوجية ثم وضع الأسس الخمسة التي تقوم عليها مدرسة مكرولي وهي :
1- أن الطفل كائن حي يجب أن يعد للحياة الاجتماعية لذلك فإن التربية يجب تكون للحياة عن طريق الحياة .
2- أن الطفل كائن حي ينمو باستمرار خلال مراحل عمره وعند كل سن أو مرحلة ان يكون مختلفا .
الصفحة 79
3- الأطفال من سن واحدة يختلفون اختلافا كبيرا فيما بينهم
4- لكل سن اهتماماتها الخاصة وهذه الاهتمامات هي التي تحكم الأنشطة العقلية للطفل.
5- أن أهم نشاط للطفل هو الحركية . وهذه الأنشطة الحركية محكومة بالعقل وترتبط بالأنشطة الأخرى .
وكذلك استنتج دكرولى أنه لابد في العملية التربوية من ربط الأنشطة التالية بعضها ببعض :
أ - الملاحظة : وهي التي تصل الطفل مع العالم المادي وعلى هذا ففي مدرسة يكرولي يوجد كثير من الطيور والحيوانات الأليفة ويعرف الطفل منذ الأيام الأولى المبكرة ببعض المعلومات البيولوجية البسيطة وملاحظة الطقس والفصول والنمو ومرور الوقت .
ب- الترابط في الزمان والمكان لربط المعرفة المكتسبة عن طريق الملاحظة بالأفكار المجردة المساعدة الطفل على فهم التاريخ والجغرافيا .
ج - العمل التعبيري للترجمة والأفكار إلى أفعال وأقوال وأشكال .
ویری دكرولي أيضا أن مركز الاهتمام يجب أن يدور حول حاجات الطفل كالحاجة للغذاء والحماية والدفاع واللعب والعمل والراحة . أما أسلوبه في القراءة والكتابة فيرتكز على النظرية القائلة " بأنه في حين يسعى الطفل بشكل عادى للإنتقال من البسيط إلى المعقد فإن العكس صحيح بالنسبة لهذه الفروع من التعليم . وهكذا نرى أن الطفل في مدرسة دكرولي يقدم له جمل بسيطة متصلة بعمل يقوم به أو ملاحظة يبديها . ويكرر هذه الجمل البسيطة ويراها مكتوبة على السبورة مع إيضاح بسيط وينسخها في دفتره . وهكذا يصبح لديه بالتدريج كتاب خاص للقراءة . ولا يلجأ المعلم إلى تجزأة الجملة إلا عندما يفهم الطفل الموضوع كليا ويشعر بالحاجة إلى تجزئة الجملة إلى كلمات منفصلة والكلمات المنفصلة إلى أحرف . ويجب أن يتعلق الأطفال أن يعيشوا مع بعضهم
الصفحة 80
بعضا وعليهم أن يحترموا الأمور الخاصة بالآخرين وأن يتعلموا المشاركة . ذلك أن الأطفال يتعلمون فرادی وجماعات .
وأخر المربين الذي كان له تأثير كبير على أنظمة التعليم لمرحلة ما قبل المدرسة في غربي أوروبا بشكل عام وإلى حد ما في أمريكا هو السويسري " بياجيه " فبحوثه عن الطريقة التي يتعلم بها الأطفال ومراحل التعلم التي يمرون خلالها حتى يصلوا إلى الفهم الكامل للمفاهيم معروفة للجميع . وقد حاول أن يظهر في بحوثه أن الطفل يشعر تلقائيا في البيئة الاجتماعية الصحيحة بالحاجة إلى الاتجاه نحو الانضباط الذاتي الصحيح الضروري للإنسان في الحياة الاجتماعية . وكلما زاد احترام ذاتية الطفل وزاد احترام العملية التربوية لهذه الذاتية زاد الإعداد الكامل للطفل ومساهمته الفعالة كعضو في المجتمع المعاصر . وأخيرا يجب علينا أن نشير إلى أن جميع هؤلاء المريين باستثناء مدام منتسورى وفرويل كانوا مهتمين بالنمو الكامل الشامل للطفل لما بعد مرحلة الطفولة المبكرة ولذلك فإن تأثيرهم كان ذا شقين :
أولهما: أنهم أظهروا أن السنوات الأولى للطفل أكثرها تشكيلا وبناء وتكوينا وأن التناقضات الداخلية في البيت أو المدرسة بسبب اتباع أساليب خاطئة أو عدم فهم الطفل من جانب الكبار كلها تؤثر على نمو الطفل فيما بعد تأثيرا خطيرا . وأن الدول التي فهمت ذلك جيدا تعتبر أن تعليم ما قبل المدرسة هو جزء رئيسي لا يتجزأ من التربية الكلية الشمولية التي يجب أن يعتنى بها لأطفالهم .
ثانيهما: أنهم برهنوا على صحة وجهة نظر "هوايتهد " فيما بعد بأن التربية يجب أن تكون بمثابة ثوب من قطعة واحدة بدون خيوط فاصلة . ويجب ألا يكون هناك إنقطاع مفاجئ بين مرحلة ما قبل المدرسة والمرحلة الابتدائية وبين هذه المرحلة والمرحلة الثانوية لأن التربية عملية متصلة وكل مرحلة تؤثر على الأخرى تأثيرا متبادلا .
الصفحة 81
2 - التعليم الأساسي :
على الرغم من أن مفهوم التعليم الأساسي أصبح شائعا في الكتابات التربوية والممارسات التعليمية في مختلف النظم التعليمية المعاصرة . فإنه يصعب وضع تعريف واحد له . وترجع صعوبة التعريف فيما ترجع إلى أنه لا يوجد اتفاق أو شبه اتفاق بين النظم التعليمية على وظيفة التعليم الأساسي ومدته وبرامجه بل ومدارسه.
ومما ساعد على غموض مفهوم التعليم الأساسي أن كثيرا من النظم التعليمية في مختلف بلاد العالم قد عملت على زيادة مدة التعليم الإلزامي ولكن هذه المدة تختلف من دولة لأخرى . ومن مجموعة من الدول المجموعة أخرى . ونجد أن المدة قد تكون ست سنوات في بعض النظم التعليمية وأحيانا تمتد إلى ثماني أو تسع أو عشر أو إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة في نظم أخرى . كما أن بعض النظم التعليمية ومنها نظم تعليمية عربية وخليجية قد تخلت عن الممارسة التقليدية القديمة التي تقوم على نظام للاختيار والقبول لتعليم ما بعد المرحلة الابتدائية . وأصبح انتقال التلميذ في هذه النظم من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية انتقالا تلقائيا بدون عائق . ولم يعد التعليم الثانوي تعليماً للصفوة كما كان في الماضي في كثير من النظم التعليمية الحديثة . كما أن امتداد الاهتمام بمرحلة ما قبل التعليم الابتدائي وما صاحب ذلك من ظهور كثير من دور الحضانة ورياض الأطفال بصورة متزايدة قد عمل على اتساع مجال التعليم المدرسي . يضاف إلى كل هذا التغيرات الهامة التي طرأت على تنظيم التعليم الثانوي نفسه والتي عملت على أن يتخلى عن تعدد أنماطه ومدارسه من أكاديمية وفنية وتجارية وصناعية وزراعية وغيرها ليتوحد في إطار نمط واحد هو ما يعرف الآن بالتعليم الشامل أو المدرسة الشاملة أو الموحدة .
وفي ظل كل هذه العوامل أصبح من الصعب الآن أن نحدد بدقة المقصود بالتعليم الابتدائي أو الثانوي في كثير من النظم المعاصرة - لأن المدرسة الشاملة أصبحت تضمهما معاً في بعض الأحيان أو تشتمل على صور مختلفة من المزج بين المرحلين أحيانا أخرى.
الصفحة 82
ولا يختلف الوضع بالنيسبة للتعليم الأساسي في الدول العربية والخليجية . فما زال المقصود بهذا التعليم يكتنفه الغموض . وما زالت بعض الدول العربية غير متحمسة له. وبعض الدول العربية تنص صراحة على التعليم الأساسي في نظامها والبعض الآخر لا ينص. ففي تونس مثلا لا ينص صراحة على التعليم الأساسي لأنه لا يوجد قانون للإلزام وإنما يتاح التعليم الابتدائي للأطفال الراغبين فيه وتيسر لهم سبل الالتحاق به على غرار ما هو موجود في بعض الدول الخليجية التي ليس لها قانون للإلزام . وتوجد في تونس منذ الثمانينات محاولة للأخذ بنظام التعليم الأساسي ذي التسع سنوات الذي يوحد كل أنواع التعليم في هذه المرحلة ويطعم مناهجها بالمواد العملية والتطبيقية . وفى سوريا يوجد تعليم الزامى على مستوى المرحلة الابتدائية وليس هناك نص على التعليم الأساسي وإن كانت كما تشير التقارير تسعى إلى الأخذ به . وفي العراق والسودان وجمهورية اليمن التعليم الأساسي مرادف للتعليم الابتدائي الإلزامي ومدته ست سنوات ولا يوجد نص على التعليم الأساسي . وقد يعتبر أيضا مرادفاً للمدرسة الموحدة ذات الثماني سنوات ذات الطابع البوليتكنيكي وهي مدرسة مشابهة المدرسة الثماني سنوات في الاتحاد السوفيتي . وهي موحدة لكل التلاميذ وترتبط بالعمل والتدريب وتعد التلميذ للحياة واختيار مهنة . وفى مصر والأردن والجزائر والمغرب يمثل التعليم الأساسي مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي أو المتوسط ومدته تسع سنوات وهي أطول مدة من التعليم الأساسي بين الدول العربية .
وفي الدول العربية الخليجية لا يختلف الوضع عن بقية الدول العربية فبعضها يأخذ بالتعليم الأساسي وينص صراحة عليه مثل البحرين حيث ينص مشروع قانون التربية والتعليم (1977) على أن مرحلة التعليم الأساسي مدتها تسع سنوات وتشمل المرحلة الابتدائية والإعدادية وهي إلزامية وعامة وموحدة للجميع . وبقية دول الخليج العربية لا يتضمن نظامها التعليمي صراحة مرحلة تسمى بالتعليم الأساسي وإنما يعتبر هذا النوع من التعليم مرادفا للمرحلة الابتدائية في دولة الإمارات العربية المتحدة ومردافاً للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة ) ثماني سنوات ( في دولة الكويت . أما في دولة قطر وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية وهي الدول العربية الخليجية التي لا يوجد بها قوانين للتعليم الإلزامي فلا توجد مرحلة معينة للتعليم الأساسي وإن كان التعليم العام
الصفحة 83
بجميع مراحله متاح بالمجان لكل راغب فيه في هذه الدول . ومن المنتظر أن يتزايد بينها الأخذ بفكرة التعليم الأساسي بصورة أو بأخرى ولاسيما من حيث مد فترة التعليم الإجباري أو الحد الأدنى من التعليم الأساسي إلى تسع سنوات وربما إلى اثنتي عشرة سنة لتشمل التعليم العام كله . ولابد عند الأخذ بهذا الاتجاه من تطوير محتوى التعليم الابتدائي والإعدادي ليتضمن مواد عملية وتطبيقية تجعله تعليما وظيفياً لا مهنيا . أي أنه يعلم التلميذ أشياء وظيفية تنفعه في حياته العامة والخاصة بحيث لا يأخذ هذا التعليم صورة التعليم المهني والحرفي الذي يعد التلميذ الحرفة ما بعد تخرجه من المدرسة . وفي ظل هذا الاتجاه نحو التعليم الأساسي في دول الخليج يصبح وجود امتحان عام للشهادة الابتدائية لا . مبرو له ويجب الغاؤه . وقد بدأت بعض دول الخليج العربية بذلك ومنها دولة قطر التي ألفت عام (1988/1987) امتحان الشهادة الابتدائية .
ومن الناحية التاريخية تعتبر الأردن من أسبق البلاد العربية إن لم تكن أسبقها
في مد سن الإلزام من سن 6 15 ليشمل المرحلتين الابتدائية والإعدادية معا. . فقد نص قانون التربية والتعليم رقم 16 لسنة 1964 في الفصل الرابع على أن المرحلة الإلزامية تشمل المرحلة الابتدائية والإعدادية . ونص على أن أهداف هذه المرحلة هي :
* النمو السليم للتلميذ من الناحية الجسمية والعاطفية والروحية والاجتماعية .
* النمو المعرفي للتلميذ في قدرته على استخدام اللغة بفنونها المختلفة والالمام بالعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية وتنمية تفوقه الفنون الجميلة احترام التلميذ للعمل اليدوي .
* کشف ميول التلميذ واستعداداته وقدراته ليمكن توجيهه إلى الدراسة المناسبة له
وواضح أن هذه الأهداف هي أهداف التعليم الأساسي مع أنه لم يرد صراحة کراسم التعليم الأساسي .
وتعتبر تجربة التعليم الأساسي في مصر من أوائل التجارب العربية أيضا أغناها خبرة وتنوعاً . فقد بدأت مصر في عام 1977 تجربة التعليم الأساسي ذي
الصفحة 84
التسع سنوات قبل أن تنتهي من استيعاب كل الأطفال في المرحلة الابتدائية . وقد بدأت التجربة في عدد محدود من المدارس الابتدائية والإعدادية يقدر بحوالي ١٥٠ مدرسة تزايد في السنوات التالية . وفى عام 1981 أي بعد ذلك بأربع سنوات تقرر تعميم التجربة تدريجيا. وكان الهدف من التعليم الأساسي مد مدة التعليم الإلزامي لتصبح تسع سنوات وتشمل المرحلة الابتدائية والإعدادية معا تمشياً مع الاتجاهات العالمية من جهة والتطور الاجتماعي التربوي في مصر من ناحية أخرى . كما كان الهدف منه أيضا تطوير محتوى التعليم بما يحقق مزيداً من أنشطة العمل المنتج وربط المدرسة بالبيئة والمجتمع. وقد كان هناك نواحي إيجابية وسلبية في التجربة . هذا شيء طبيعي . إلا أنه كان المفروض في ظل وجود مرحلة أساسية مدتها تسع سنوات أن يعني بتعليم اللغة الأجنبية ( عادة الإنجليزية ) من الصفوف الأخيرة للمرحلة الابتدائية . لكن للأسف ظل الوضع كما هو عليه من قبل وبقي تعليم اللغة الأجنبية في المرحلة الإعدادية فقط دون الابتدائية .
وكان مما يبرر عدم تدريس لغة أجنبية في المرحلة الابتدائية في الماضي إلى جانب اعتبارات أخرى أنها تعتبر مرحلة منتهية لآلاف من التلاميذ . فلماذا إذن نضيع الجهد والمال على تعليمهم لغة أجنبية لسنوات قليلة لا تسمن ولا تغني من جوع ولأطفال لن يستفيد كثير منهم من دراستهم لهذه اللغة فيما بعد. أما في ظل التعليم الأساسي ذي التسع سنوات لكل الأطفال فإن الوضع مختلف وهناك مبرر قوى لتدريس اللغة الأجنبية منذ السنوات الأخيرة من التعليم الابتدائي . طبعا سيترتب على اتخاذ مثل هذه الخطوة زيادة في أعباء السلطات التعليمية من حيث توفير المعلمين والكتب وغيرهما معا يلزم تدريس اللغة الأجنبية ، وهذه الأمور تمثل صعوبات حقيقية في التنفيذ .
3- التعليم الثانوي :
مقدمة :
خضع التعليم الثانوي في البلاد العربية على مدى ما يقرب من نصف قرن من الزمان لكثير من محاولات الاصلاح والتطوير . والمتأمل الحركات الإصلاح في الماضي
الصفحة 85
يجد أنها كانت تسير في اتجاهين لهدفين أو غرضين :
الاتجاه الأول : تحرير علاقة المدرسة الثانوية بالجامعة ومحاولة كسر حدة هذه العلاقة مع المحافظة بالطبع على وجود علاقة وظيفية بينها وبين الجامعة في نفس الوقت .
الاتجاه الثاني : تحريك التعليم الثانوي من حيث أهدافه ووظائفه ومحتواه من أجل إعداد الشباب للدخول في معترك الحياة المتغيرة من حولهم .
وفي الاتجاه الأول ظهرت محاولات للإصلاح من أشهرها محاولة سنة 1953 التي قام بها نجيب الهلالي وزير المعارف في مصر آنذاك وضمتها تقريره المشهور عن التعليم الثانوي : عيوبه ووسائل إصلاحه ، كما ظهرت قضية العمومية والتخصص في المدرسة الثانوية وهل هي مدرسة أكاديمية متخصصة أم أنها مدرسة للتربية والثقافة العامة .
ومن هنا نشأت مرحلة الثقافة العامة والسنة التوجيهية في المدرسة الثانوية في مرحلة تطورها . وقد استمر التطوير في هذا الاتجاه إلى أن ظهرت فكرة المدرسة الإعدادية أو المتوسطة سنة 1953 لتكون مرحلة للثقافة العامة . وأصبحت المدرسة الثانوية مرحلة متخصصة مدتها ثلاث سنوات في أغلب البلاد العربية . كل هذا ونحن إلى اليوم ما زلنا ندور في هذا الاتجاه بحثا عن العلاقة السليمة المنشودة بين المدرسة الثانوية وبين التعليم الجامعي والعالي .
وفي الاتجاه الثاني ظهرت محاولات وتجارب عديدة لخلع الصفة الأكاديمية البحتة عن التعليم الثانوي وتطويره بحيث يقبل فكرة العمل والدراسات العملية والتطبيقية وفكرة إعداد الشباب للحياة وليس الجامعة . وهنا ظهرت على سبيل المثال فكرة التعليم الثانوي الفني بأنواعه المختلفة والمدرسة الثانوية التجريبية كما ظهرت فكرة المدرسة الإعدادية أو المتوسطة الفنية والعملية التجريبية . وفي السنوات الأخيرة ظهرت فكرة التعليم الثانوي المتشعب ونظام التعليم الثانوي المطور ونظام المدرسة الثانوية الشاملة ونظام المقررات الدراسية .
الصفحة 86
ويمكننا أن نخرج من دراسة تطور التعليم الثانوي في البلاد العربية بنتيجتين أو ملاحظتين :
(1) أن الاتجاه الأكاديمي كان دائما هو المسيطر وأن سلطان الجامعة كان أقوى من أي سلطان وأن تطلعات الشباب ومعهم الآباء إلى جانب التركيب الاقتصادي والاجتماعي قد جعل لهذا التعليم الأكاديمي المركز الأول .
(2) أن التجارب التي بدأت في التعليم الثانوي قامت لتنتهي بسرعة ولم تتح لها الفرصة الكاملة من النمو والانطلاق والتقويم العلمي وذلك تأثرا بضغوط ونفوذ التعليم الأكاديمي إلى حد ظهور الدعوة إلى إلغاء التعليم الفني أو إلغاء النواحي العملية فيه وفى التعليم الثانوي تحت شعار إلغاء الازدواجية دون أن تفكر في تغيير المحتوى الأكاديمي للمدرسة الثانوية أو تطويره.
ومن هنا تضخمت المشكلة ، فعلى الرغم من شدة الحاجة إلى التوسع في التعليم الثانوي إلا أن الشكوى منه قد ارتفعت لهذه الصبغة الأكاديمية المحدودة ولارتباطه الوثيق بالجامعة . كما ظهرت شكوى الجامعة من الأعداد المتدفقة على الرغم من صغر حجم هذا التعليم بالنسبة لعدد السكان ممن هم في سن هذا التعليم .
إذن كيف يمكن تطوير هذا التعليم بحيث يحقق أكثر من غرض ؟ هذه هي القضية الأولى التي وقفت عندها محاولات الإصلاح السابقة .
ومن ناحية أخرى نجد في التعليم الفني الذي انحصر في تقسيمه إلى صناعي وزراعي وتجاري قد أصبح قليل الشأن بالقياس إلى التعليم الأكاديمي لانغلاقه وهزاله وقصور محتواه على الرغم من شدة حاجة المجتمع إليه . وبدت الحاجة واضحة إلى إصلاح التعليم الفني الثانوي بحيث يحقق الغرض المنشود منه. وهذه هي القضية الثانوية التي وقفت عندها محاولات الإصلاح السابقة .
الصفحة 87
الوضع الراهن :
يشيع في معظم البلاد العربية أنواع تقليدية من التعليم الثانوي هي التعليم الثانوي الأكاديمي بفرعيه العلمي والأدبي والتعليم الثانوي الفني والمهني بأنواعه التجاري والزراعي والصناعي . وقد برزت الحاجة على الصعيد العالمي نتيجة التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتطور النظرية التربوية وتطبيقاتها إلى إعادة النظر في بنية التعليم الثانوي وتقسيماته . واتجهت الدول إلى الأخذ ببنية واحدة للتعليم الثانوي تضم في داخلها مختلف المقررات والمواد الدراسية العلمية والأدبية والتقنية والمهنية والترويحية والعملية . وأكبر نمطين معاصرين للبنية التعليمية على الصعيد العالمي هما نمط البنية البوليتكنيكية الذي يسود دول الكتلة الشرقية الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي سابقا . ونمط البنية الشاملة الذي يسود الدول الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية .
إن من أهم الإصلاحات التعليمية في دول أوروبا الغربية في العقود الثلاثة الأخيرة كانت في إنشاء نظام للمدرسة الثانوية الشاملة . ففي هذه الدول كما هو الحال في بلادنا العربية يوجد تعليم ثانوي عام يؤهل للجامعة مثل المدرسة الأكاديمية في بريطانيا والجمنازيوم في المانيا والليسيه في فرنسا وتعليم فني يعد لسوق العمل . وكان نظام اختيار الطلاب وتوزيعهم على أنواع التعليم الثانوي المختلفة في صالح أبناء الأسر المتوسطة والغنية . ولذلك اتجهت هذه الدول إلى إعادة بناء نظمها التعليمية على أساس من المدرسة الشاملة التي توفر فرصا أشمل من التعليم الثانوي وتحقق مجالا أفضل لتكافؤ الفرص التعليمية .
والدول العربية في محاولاتها تطوير التعليم الثانوي بها تتطلع إلى واحد من هذين النمطين . بيد أن الاتجاه في دول الخليج العربية هو نحو نمط المدرسة الشاملة ولو في صورة معدلة . وتستمد المدرسة الشاملة فكرة الشمول من شمولها لكل التلاميذ بدون تمييز . وهي بذلك تقضى على طبقية التعليم التي تمارسها كثير من النظم التعليمية المعاصرة في تمييزها بين التعليم العام والتعليم الفني أو المهني فالمدرسة الشاملة
الصفحة 88
مبدأ الفصل بين التلاميذ في أنواع مختلفة من التعليم . وتستمد المدرسة الشاملة شمولها أيضا من شمول برامجها ومناهجها فهي تقدم للتلاميذ أنواعا متعددة من التعليم الأكاديمي العلمي والأدبي والتعليم التقني والمهني والدراسات العملية .
وقد بدأت بعض الدول العربية بالفعل في تطبيق المدرسة الشاملة رغبة منها في تنويع التعليم الثانوي وتطوير بنيته منها الكويت والمملكة العربية السعودية كما قامت دولة البحرين بتشعيب التعليم الثانوي بدرجة لا نجد لها مثيلا في الدول العربية . وفي دولة قطر هناك اتجاه إلى زيادة تشعيب التعليم الثانوي العام كما يوجد اهتمام بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى ولاسيما العربية منها في تطبيق نظام المدرسة الشاملة .
وعلى الدول العربية في محاولتها لتنويع التعليم الثانوي أو زيادة تشعيبه أن تستفيد مما كشفت عنه التجربة في الدول الأخرى ولاسيما المتقدمة . وقد اتجهت بعض هذه الدول ومنها الاتحاد السوفيتي سابقا إلى الأخذ بنظام التخصص الدقيق ثم عدلت عنه إلى التخصص الواسع لما يحققه ذلك من مرونة للمتعلم في شق طريقه في الحياة المهنية . وأخذت هذه الدول بنظام التخصص المبكر ثم عدلت عنه إلى تأخير سن التخصص لما يوفره ذلك من زيادة النضج العام للمتعلم من ناحية واتجاهه إلى التخصص بقدم أرسخ من ناحية أخرى . وهذان درسان يجب أن تعيهما الدول العربية لاسيما الخليجية في محاولتها لتطوير تشعيب التعليم الثانوي العام أو إعادة النظر في بنيته . فلا ينبغي لها أن تأخذ بنظام التخصص الدقيق الضيق الذي يفوت على التلميذ التكوين العام الجيد في مستهل حياته ويحصره في نطاق ضيق يجعل من الصعب عليه التحول عنه أو الاتجاه إلى مجال آخر إذا استدعت ظروفه الشخصية ذلك أو إذا تغيرت مطالب العمل الذي تخصص فيه . كما يجب على الدول العربية والخليجية ألا تبكر بتخصص التلميذ في التعليم الثانوي العام من الصف الثاني أي في سن السابعة عشرة وهو سن غير مناسبة . وربما كان من الأفضل أن تتجه الدول العربية ولو على نطاق تجریبی محدود إلى تطبيق نظام التخصص في السنة الأخيرة فقط من التعليم الثانوي او تطبيق نظام المقررات الدراسية الموجهة المفتوحة التي يوجه الطالب للتخصص فيها سواء كانت مقررات علمية أو أدبية أو تطبيقية وهذا بالطبع يقتضي إعادة النظر في
الصفحة 89
مناهج وخطة الدراسة بالمرحلة الثانوية . وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعليم الفني يبدأ التخصص فيه بعد المرحلة الإعدادية أي في سن الخامسة عشرة وهي تعتبر مبكرة ويصدق عليها الكلام السابق. ومن هنا كانت إعادة النظر في التعليم الفني بأنواعه المختلفة في ظل نظام موحد للمدرسة الثانوية أمراً ضروريا يجب الاهتمام به وإعطاؤه الأولوية التي يستحقها ·
توحيد بنية التعليم الثانوي :
اتجهت دول العالم المعاصر لاسيما المتقدمة منها نحو توحيد بنية التعليم الثانوي في مدرسة عامة مشتركة لكل التلاميذ من مختلف القدرات والخفيات الاجتماعية - وقد أخذ هذا التوحيد كما أشرنا صورة نمطين كبيرين أحدهما يعرف بنمط المدرسة الشاملة وهو الذي ساد في الدول الغربية والدول غير الاشتراكية بصفة عامة وسنحاول بإيجاز إعطاء فكرة عن المدرسة الشاملة في السطور التالية
المدرسة الشاملة :
تستمد المدرسة الشاملة فكرتها الرئيسية كما أشرنا من شمولها لكل الأطفال من مختلف الأعمار والقدرات والخلفيات الاجتماعية . ولشمولها لكل المناهج الدراسية المعروفة في التعليم الثانوي بأنواعه المختلفة . وهذا يعني أن مناهج الدراسة الشاملة هي مناهج تتضمن مقررات أكاديمية علمية وأدبية وتقنية ، وأنشطة تعليمية فنية ومهنية وترويحية وثقافية وعملية . والمدرسة الشاملة هي مدرسة غير انتقائية تتسع للتلاميذ من مختلف القدرات العقلية والتحصيلية بما في ذلك الموهوبين والمعاقين . وهذا يتوقف على مقدار ما يمكن أن نتيجة الدولة من خدمات تعليمية بها لأن مزيدا من الخدمات والأنشطة التعليمية يعني ببساطة مزيدا من المال والجهد . كما أن صور المدرسة الشاملة تختلف باختلاف الدول بل وفي داخل الدولة الواحدة من حيث نوعية البرامج والمناهج
لتفضيل الكلام عن هذا الموضوع ارجع إلى كتاب لنفس المؤلف بعنوان : المرجع في التربية المقارنة . عالم الكتب . 1992 .
الصفحة 90
التي تقدمها ومن حيث عدد سنوات الدراسة التي تشتمل عليها . ومع هذا يمكن القول بصفة عامة بأن هناك عناصر مشتركة في تنظيم المدرسة الشاملة في الدول الغربية من أهمها :
1- وجود منهج موحد بتضمن موادا اختيارية للتلاميذ حتى سن 16 سنة على الأقل لاسيما في الدول الفنية مثل أمريكا وفرنسا وانجلترا والدانمرك وقد يقل السن إلى 14 سنة في بعض النظم .
-2يبدأ من سن 14 إلى 15 تشعيب التلاميذ على أساس اختياراتهم للعمل في المستقبل واهتماماتهم الشخصية ومستويات تحصيلهم المدرسي .
-3 تقسيم التلاميذ داخليا إلى مجموعات حسب استعداداتهم وقدراتهم مع وجود بعض المجموعات مختلفة القدرات.
-4وجود ترتيبات داخل المدرسة لتعليم التلاميذ المعوقين والموهوبين . وهذا يتمشى مع الاتجاه العام في الدول الغربية نحو تعليم التلاميذ الذين يعانون من مختلف نواع الإعاقة الجسمية أو العقلية في المدرسة العادية بترتيبات خاصة وذلك بدلا من تعليم في مدارس خاصة .
- 4 تعليم الكبار :
ينظر إلى تعليم الكبار بصفة عامة على أنه التعليم الهادف المنظم الذي يقدم للبالغين أو الكبار من أجل تنمية معارفهم ومهاراتهم أو تغيير اتجاهاتهم وبناء شخصياتهم. وبعبارة أخرى نقول إن تعليم الكبار هو تعليم موجه للكبار غير المتفرغين للدراسة أو غير المنتظمين في فصول دراسية بصرف النظر عن محتوى هذا التعليم أو مستواه أو أساليبه أو طرائقه . وهذا يعني أن تعليم الكبار قد يرتبط بمرحلة معينة من مراحل العمر يختلف تحديدها باختلاف الدول . كما أن تعليم الكبار قد يكون نشاطا خارج المؤسسات التعليمية أو داخلها . وقد يكون في صورة تعليم نظامي أو غير . ويقصد بالصورة النظامية الدراسة المنتظمة التي تؤدى في النهاية إلى منح الشهادات الدراسية كما هو الحال في بعض الدول ومنها الدول العربية . وهكذا نجد أن
الصفحة 91
مفهوم تعليم الكبار واسع عريض يضم كثيرا من الأنشطة التربوية المتنوعة التي يطلق عليها أحيانا مسميات ومفاهيم أخرى كالتعليم الممتد أو التربية الأساسية أو تنمية المجتمع أو التربية العمالية أو التعليم الوظيفي أو التثقيف الصحي والصناعي والزراعي أو الأمن الصناعي أو محو الأمية أو التربية الأسرية أو العائلية أو برامج التدريب المختلفة أو غيرها.
خصائص تعليم الكبار :
هناك عدة خصائص رئيسية يتميز بها تعليم الكبار من أهمها :
1 -أنه يرمي إلى تحقيق أغراض شتى متنوعة .
2- أنه مكمل لنظم التعليم القومية وليس بديلا عنها
3- تنوع الهيئات التي تقوم ببرامج تعليم الكبار فمنها الهيئات الحكومية والأهلية والعالمية والتطوعية والخيرية والمشتركة . ويرتبط بهذا أيضا تنوع الأجهزة الإدارية لتعليم الكبار وتنوع مصادر التمويل التي يعتمد عليها .
4- تنوع برامج التعليم وطرائقه وأساليبه . فمنها البرامج الطويلة ومنها البرامج القصيرة ومنها ما هو عن طريق المراسلة أو الإذاعة أو التليفزيون أو الوسائل التعليمية أو التعليم المبرمج أو حلقات المناقشة أو الدراسات الصيفية أو المسائية وغيرها .
5-أن برامج تعليم الكبار إلى جانب تنوعها تتسم بالمرونة في التنظيم وفي خطة العمل حتى تفي بالاحتياجات التربوية والظرف المهنية والاجتماعية والشخصية للكبار الذين تقدم إليهم. كما أنها تركز على الأهداف المباشرة التي ينشدها الكبير سواء بالنسبة لتنمية مهاراته أو رفع مستوى أدائه أو تعميق خبرته أو تجديدها أو حل مشكلاته المهنية التي يواجهها .
6-أن برامج تعليم الكبار تقوم عادة على أساس اختياري وبرغبة حقيقية من جانب الدارس الكبير دون إلزام أو إجبار .
الصفحة 92
7- أن برامج تعليم الكبار قد تكون في مراكز خاصة بها أو في المدارس النظامية مستفيدة بذلك من تسهيلات المباني والأجهزة المتوفرة في هذه المدارس كما هو الحال في برامج محو الأمية مثلا .
-8أن المعلمين الذين يقومون بالعمل في تعليم الكبار قد يكونون مؤهلين ويحملون درجات أو مؤهلات علمية وقد يكونون مدربين تدريبا خاصا للقيام بهذا العمل .
اهمية تعليم الكبار :
هناك عدة مبررات رئيسية توضح أهمية تعليم الكبار وتبرز ضرورة العناية به وفي مقدمتها باختصار شديد :
1 - قصور التعليم العام من الناحية الكمية والكيفية على السواء .
2- انتشار الأمية بين الكبار .
3- تزايد الأخذ بالاعتبارات الديمقراطية في التعليم وتحقيق تكافؤ الفرص التعليمية.
4- احتياجات التنمية بصورة مستمرة إلى قطاعات مدربة من القوى العاملة
5- تنشيط البنى الاجتماعية التحتية لتحقيق الديمقراطية والتقدم الاجتماعي .
6- تزايد مطالب واحتياجات التدريب المستمر للقوى العاملة .
7- التغير المعرفي والتكنولوجي السريع الذي يفرض بدوره مطالب هامة ملحة على تعليم الكبار تقوم على ضرورة التربية العالم سريع التغير .
8- النظرة إلى التربية على أنها عملية مستمرة من المهد إلى اللحد وهو ما تؤكده فكرة التربية المستمرة في إطار تعليم الكبار .
5- تعليم المرأة :
إن الأدلة التاريخية على مر العصور تشير إلى أن المرأة ظلت لآلاف السنين تتصد لنشطتها في نطاق محدود . وكان دورها محكوما بالحاجة الضرورية
الصفحة 93
الأولى وهي - البقاء " والعيش . وكانت أنشطتها تتمثل في الواجبات المنزلية من إعداد الطعام ورعاية الأطفال وتربيتهم والقيام ببعض الأعمال الزراعية وحلب الماشية وجمع الحطب وحمل العشب والماء وغزل الصوف وصناعة الملابس وغسيلها وغيرها من الأنشطة المجهدة ، التي لم تكن تحتاج إلا لمهارات بسيطة متوارثة من جيل لجيل .
ونظرا لارتباط المرأة بالمنزل فقد كانت تحت سلطان الرجل وهي التي تقدم له من جسمها وعاطفتها ما يمتعه ويسعده . وفي كثير من الحضارات نجد أنها أولت اهتمامها إلى شيء واحد تقريبا وهي شرفها وعفتها زوجة وبنتا . ومن هنا أعملت هذه الحضارات للزوج حقوقا على زوجته وللوالد على ابنته. وهو ما زال معمولا به في كثير من المجتمعات المعاصرة . وحتى في كثير من المجتمعات التي تساوي قوانينها بين الزوج والزوجة نجد أن الزوجة لا تشعر حقيقة بأنها حرة .
إن تدنى مكانة المرأة بالنسبة للرجل يرتبط بدورها التقليدي ارتباطا مباشرا وهو الذي يتحدد عادة في الإطار الداخلي للمنزل . ولقد أشار زينوفون الإغريقي منذ 24 قرنا من الزمان إلى أن الآلهة خلقت المرأة لتقوم بالواجبات المنزلية وخلقت الرجال للقيام بالأعمال الأخرى خارج المنزل . وهذا يعنى أن تبقى المرأة داخل المنزل. إن هذه العلاقة الداخلية الخارجية التي تحدد وضع المرأة والرجل تعكس في الواقع المكانة الاجتماعية للمرأة أو علاقة المسود بالسيد
في دراسة سنة 1956 قام بها أحد علماء الاجتماع اليابانيين على رجال ونساء إحدى المناطق اليابانية أجاب ستة من كل عشرة رجال بأنهم سعداء لكونهم رجالا لان الرجال يتمتعون بالحرية في حين لم يرد ذكر هذا السبب على لسان أية امرأة . على العكس شكت امرأة من كل ثلاث أنها لا تتمتع بالحرية . وقد يقال إن الرجل من صنع المرأة لكنه في واقع الأمر سيدها
إن عقلية المرأة قد شكلت على مر العصور في ظل تلك الظروف التي فرضت عليها التبعية . وقد قبلت المرأة هذا الوضع وتكيفت معه وأصبح جزءا لا ينفصل من شخصيتها وارتسم في أعماق شعورها ووجدانها ، فظلت هكذا تعيش به على مر
الصفحة 94
الأجيال والعصور . ونجد حتى الآن أن القلة القليلة فقط من النساء هي التي تطالب بالتغيير وتسعى له في حين أن الغالبية العظمى لا تهتم بمثل هذا التغيير ولا تتحمس له. وهذا يمثل بدوره قصورا ذاتيا في حركة تحرير المرأة كما يمثل عنصر مقاومة ضد تقدمها .
وهنا يبرز دور التربية والتعليم في التغلب على القصور الذاتي والعناصر المقاومة ضد تقدم المرأة - فمن خلال تربية المرأة يمكن تكوين رأى عام مستنير بين النساء ومن خلال تربية الرجل يمكن أن يتقبل فكرة المساواة . بيد أن تعليم المرأة وإن كان أحد العوامل الهامة في تحريرها لن يتحقق بصورة كافية ما لم يصاحبه تغييرات تشريعية واجتماعية واقتصادية تعمل على زيادة فرص تعليم المرأة .
من الأمور المعتادة في كثير من المجتمعات أن يرفض الرجل أن يقترن أو يتزوج بامرأة جاهلة غير متعلمة . وهذا بدوره قد ساعد على دفع حركة التعليم العام للمرأة . ومن ناحية أخرى نجد أن الرجل قد يتخوف أحيانا من الزواج بامرأة متعلمة تعليما جيدا عاليا . وهذا من ناحية أخرى يعمل في اتجاه عكسي مضاد كعائق ضد فرص تعليم المرأة تعليما عاليا . يقال عادة أن المرأة بعد تعليمها تعليما عاليا قد تعود إلى العمل في المنزل كام وربة منزل حتى في الدول المتقدمة . وهذا يعني في نظر البعض أنها تنقلب إلى فرد مستهلك بدلا من كونها منتجة . وفى هذا مغالطة لأنها بالمعني الاقتصادي الواسع وبحكم الانشطة التي تقوم بها في المنزل تعتبر منتجة .
إن التغير واضح في مختلف بقاع العالم وأصبح للمرأة حق التعليم في معظم الدول إن لم يكن في كل الدول . لكننا نتساءل هنا : أي أنواع التعلم متاحة للمرأة ؟ لقد كان التعليم النظامي لعصور طويلة مقصورا على الرجل . والآن نجد أن أنواعا معينة من التعليم مثل التعليم التكنولوجي والعلمي ما زالت في الأغلب والأعم مقصورة على الرجل .
إن الحياة السياسية مفتوحة أمام المرأة على الأقل من الناحية النظرية في غالبية الدول المعاصرة وكل النساء في هذه الدول لها حق التصويت والترشيح للمنظمات النيابية
الصفحة 95
والبرلمانية . لكن كم من النساء تحتل في الواقع أماكنها في هذه المنظمات ؟ . لقد تبنت الأمم المتحدة في السابع من نوفمبر 1967 اعلان الغاء التمييز ضد المرأة . وتنص المادة الثالثة من هذا الإعلان على اتخاذ كل الإجراءات المناسبة التي من شأنها تنوير الرأي العام وتوجيه التطلعات القومية نحو القضاء على التمييز ضد المرأة والقضاء على العادات والممارسات التي تقوم على فكرة نقصان المرأة . ومع هذا فما زالت مكانة المرأة دون الرجل بدرجات متفاوتة في المجتمعات المعاصرة . وفي كل مكان في العالم تقريبا يتخلف تعليم المرأة عن الرجل .. كما أننا نجد أن غالبية الأميين في العالم هم من النساء . وهذا الوضع يعزز الاتجاه القديم بعدم الاهتمام بتعليم المرأة وبالتالي يعمل على تخليد تخلفها
بنت القرية وبنت المدنية :
هناك فجوة بين تعليم بنت القرية وبنت المدينة .. وسبب هذه الفجوة واضح . ففي المدينة تكون فرص التعليم متاحة أكثر مما هو عليه الحال في القرية . وتزداد هذه الفجوة بازدياد مستوى التعليم ، فإذا كان حظ القرية سعيدا ووجد بها مدرسة ابتدائية فقد لا يواتيها هذا الحظ بالنسبة للمدرسة الثانوية . ويصبح على فتاة القرية التي تريد أن تواصل تعليمها في المرحلة الثانوية أن تنتقل إلى المدينة ودون ذلك صعاب أو تكتفي بالتعليم الابتدائي وهو ما يحدث غالبا
وقد أتبعت الدول أساليب مختلفة لمواجهة هذه المشكلة .. ففي بعض البلاد العربية تفتح فصول ثانوية للبنين ملحقة بالمدارس الابتدائية عندما لا يكون عدد البنات كبيرا يتحتم معه إنشاء مدرسة مستقلة . وفى الولايات المتحدة الأمريكية تتاح فرصة تعليم البنت في المناطق الريفية من خلال الوسائل السمعية والبصرية التي لا يتوفر مثلها في دول أخرى . وأحيانا أخرى يكون تعليم البنت بالمعلم المنتقل وهو نظام يمكن أن تأخذ به دول كثيرة لاسيما في تدريس مواد معينة يمكن تركيزها في فترة معينة .
الصفحة 96
ومن الوسائل الأخرى التي تتبعها الدول لتوفير فرص التعليم للبنت توفير المساكن الداخلية في المدينة وتقديم العون المالي لمساعدة البنت على مواجهة تكاليف الإقامة .
لحظة ضياع فرصة العمر :
عندما تبلغ الفتاة سن الحادية عشرة أو الثانية عشرة تكون قد وصلت إلى درجة من النمو تتخطى فيها مرحلة الطفولة . وعندها تفرض عليها بعض المجمعات قيودا على حركتها وعلى تعليمها . يضاف إلى ذلك أن عند هذه السن تكون مرحلة الانتقال من مرحلة التعليم الابتدائي إلى مرحلة التعليم المتوسط أو الثانوي . وأحيانا يكون هذا الانتقال على اساس امتحان خاص للقبول أو مجموع الدرجات التي حصلت عليها البنت في نهاية المرحلة الابتدائية . وهذا بالطبع يمثل قيودا على التحاقها بالتعليم الثانوي إلى جانب القيد الاجتماعي الآخر الذي يفرض عليها أن تكتفى بالتعليم عند المرحلة الابتدائية لأنها بلغت درجة النضج التي يجب معها أن تعزل في المنزل لحمايتها وهكذا تضيع فرصة العمر في تعليمها ويتحدد وضعها الثقافي والاجتماعي بصورة كبيرة وسرعان ما تتزوج وتنخرط في الحياة الأسرة الجديدة وهي شبه متعلمة .
الام الجاهلة :
لا شك أن الوسط أو البيئة المنزلية عامل هام مؤثر في نوع وكيف التربية التي يشب عليها الصفار . وقد ورد عن النبي له قوله : " إياكم وخضراء اليمن . قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله قال : المرأة الجميلة في المنبت السوء " . وهذا يؤكد أهمية توفير المناخ المناسب لتربية النساء. ومستوى تعليم الوالدين له دور هام في تربية أطفالهم . فمما لا شك فيه أن الوالدين المتعلمين سيكونان أكثر طموحا وتقديرا لعليم أبنائهما وأكثر حرصا أيضا على حصول أبنائهما على هذا التعليم . وربما أن درجة تأثير الأم على البنت تكون أشد في هذه الناحية .
وقد أكد ذلك نتائج الدراسات التي عملت في منتصف الستينات على ست وثلاثين دولة تصل نسبة التعليم فيها بين النساء إلى 50 ٪ على الأقل ووجد أن 37٪ من
الصفحة 97
البنات ملتحقات بالمدارس الابتدائية . ومن بين خمسين دولة أخرى معظم نسائها أميات وجد أن 38 دولة يتخلف فيها تعليم البنت بصورة مزرية . وهذه الأمثلة تشير إلى أهمية تعليم الوالدين بالنسبة لتعليم أولادهما
منهجان مختلفان :
على الرغم من تساوى الجنسين في القدرة العقلية والتحصيلية نجد أن كثيرا من دول العالم تتبع منهجين دراسيين مختلفين لتعليم كل من الأولاد والبنات لاسيما على مستوى التعليم الثانوي والعالي . فقد دلت الدراسات التي عملت على الصعيد العالمي أن سبعا وخمسين دولة تستخدم منهجين دراسيين مختلفين لكل من البنين والبنات على مستوى ما بعد المرحلة الابتدائية في حين أن ستا وخمسين دولة تستخدم منهجا دراسيا موحدا للجنسين .
وفي بلجيكا وفنلندا أو المانيا الغربية توجد مدارس أو أقسام ملحقة بالمدارس الثانوية تقدم دروسا متخصصة للبنات . وفى سويسرا يتعلم البنات أعمال الإبرة بدلا من موضوعات أخرى كالرياضيات أو الرسم وفى بعض الدول منها المانيا والنمسا وسويسرا والهند يدرس الأولاد عددا أكبر من الساعات في مقررات الرياضيات أكثر من البنات . وفي كثير من الدول تكون أعمال الإبرة مقصورة على البنات وأعمال الخشب والمعادن مقصورة على الأولاد . وبالمثل نجد أن البنات يدرسن مقررات أدبية وفنية في حين أن الأولاد يدرسن مقررات تقنية وعلمية ويدرين على الأعمال الرياضية التي يكون بعضها مقصورا على الأولاد تماما مثل لعبة كرة القدم أو المصارعة أو الملاكمة وهي الألعاب الى تحتاج إلى قوة جسمية ولياقة بدنية كبيرة .
ويمكن القول على وجه العموم أن الاخلاف بين منهج البنين ومنهج البنات في كثير من الدول يتعلق بموضوعات معينة مثل الأشغال اليدوية والفنون والرياضة البدنية وهناك اتجاه متزايد في كثير من الدول نحو توحيد المنهج الذي يدرسه البنون والبنات على السواء .
الصفحة 98
التعليم المختلط :
يقصد بالتعليم المخلط التعليم الذي يسمح في ظله بأن يدرس الأولاد والبنات معا في مدرسة واحدة وفصل واحد وح سقف واحد ويتلقون العلم من معلم واحد وكتاب واحد ومنهج واحد . ويخضعون لنظام واحد في الدراسة والانشطة والامتحانات - وتأخذ بهذا النظام كثير من دول العالم المعاصر لاسيما في الدول الغربية في كل مراحل التعليم المختلفة من المرحلة الأولى حتى العالية . بيد أن دول العالم المعاصر على اختلاف شاكلتها تتفاوت في الأخذ بهذا النظام أو أتباعه . ولكن يمكن القول بصفة عامة أن عدد الدول التي تأخذ بهذا النظام في المرحلة الابتدائية والعالية أكثر من عدد الدول التي تأخذ به على مستوى المرحلة الثانوية . ولهذا الوضع ما يبرره . فالمرحلة الثانوية هي مرحلة البلوغ والنضج لكلا الجنسين وهي تمثل فترة حرجة وحساسة في حياة كل من الذكر والأنثى . ومن هنا كان الفصل في المدارس والتعلم بين الجنسين بهدف حماية كل جنس مما قد يتعرض له في هذه المرحلة من التجارب أو الخبرات غير الناضجة والتي قد تؤدى في النهاية إلى الانحراف أو إلى وجود مشكلات يمكن تلافيها بسهولة بالفصل بين الجنسين .
هناك رأى يقول إن التعليم المختلط يزيد من فرص تعليم البنات كما وكيفا . أما كما فمعروفة نظرا لوجود فرص أكثر من الالتحاق بالمدارس . وأما كيفا فيشار عادة إلى المسح العالمي الذي أجرى على 5400 مدرسة في إحدى عشرة دولة هي : فرنسا والمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والسويد والنمسا وبلجيكا وفنلندة وهولندا واليابان واسرائيل . وقد شمل هذا المسح 133 ألف تلميذ من الجنسين مقسمين على فئتين عمريتين في سن الثالثة عشرة وسن الثامنة عشرة . وطلب من هؤلاء التلاميذ أن يجيبوا على 100 سؤالا يستهدف تحديد سبب نجاح أو فشل التلاميذ في الرياضيات وقد حللت النتائج الكترونيا وتبين منها ما يأتي :
اولا : بالنسبة لترتيب الدول احتلت اليابان المرتبة الأولى في النجاح في تعليم الرياضيات بالنسبة لفئة العمر 13 وأيضا بالنسبة لفئة العمر 18 لكن يشاركها في هذه الفئة كل من بريطانيا وبلجيكا .
الصفحة 99
ثانيا : بالنسبة للفروق بين الجنسين وجد أن النتائج التي حصل عليها الأولاد أحسن من البنات في المدارس المنفصلة . أما في المدارس المختلطة فكانت النتيجة عكسية إذ وجد أن البنات أحسن من الأولاد في الرياضيات . وفي تفسير السبب في ذلك أشير إلى المنافسة الصحية بين الجنسين بالإضافة إلى أسباب نفسية تتعلق بأسلوب المعلمين واتجاهاتهم في التدريس نحو الجنسين . ففي المدارس المختلطة يتوقع المعلمون من البنات أن يكون تحصيلهن وانجازهن مماثلا للبنين . في حين أن في مدارس البنات المنفصلة لا يبدى المعلمون اهتماما للرياضيات وتمشيا مع التقاليد لا يشجعون تلميذاتهم على دراسة هذه المادة .
ولكن هذه النتائج في حد ذاتها ليست مبررا كافيا لتوضيح ميزات التعليم المختلط لأنها تقتصر على مادة دراسية واحدة هي مادة الرياضيات فضلا عن أنها لا تقدم لنا تقييما كاملا للنظام المختلط بكل جوانبه وحساب المكاسب والخسائر أو السلبيات والايجابيات حتى يمكن في النهاية أن نصل إلى رأي واضح . فهل مجرد التقدم النسبي في تحصيل الرياضيات يعتبر مبررا كافيا للأخذ بالنظام ؟ وماذا عن المواد الدراسية الأخرى ؟ ثم ماذا عن الآثار السلبية النفسية والاجتماعية والعاطفية والمشكلات الشخصية والعائلية بل والمدرسية التي قد تأتى نتيجة هذا الاختلاط ؟...
إن هناك أدلة مغايرة تشير إلى أن التعليم المختلط لا يؤدي بالضرورة إلى إقبال البنات على تعلم الرياضيات أو العلوم . ففي الاتحاد السوفييتي سابقا على سبيل المثال يسود نظام التعليم المختلط لقرون عدة ومع ذلك يقول " لافرنتيف " نائب رئيس أكاديمية العلوم السوفيتية أن خبرته على مدى ما يقرب من نصف قرن من الزمان قد أظهرت له أنه من بين كل مائة تلميذ يدرس في مدرسة العلوم والرياضيات عشر فقط يصبحون رياضيين جيدين أما بالنسبة للبنات فإن النسبة لا تتعدى واحدا أو إثنين في المائة ..
إن تجربة اليابان في التعليم المختلط تعتبر درسا لشعوب أخرى فالفلسفة الكونفوشيوسية التي تكون تقاليد اليابان تمنع جلوس الأولاد والبنات معا متى وصلوا سن العقل أو الرشد . والتقاليد اليابانية تؤكد سيادة الرجل على المرأة . وهم ينظرون
الصفحة 100
التعليم المختلط على أنه يسئ إلى الجنسين معا لأنه يؤدى إلى أن يأخذ كل . ، صفات الجنس الآخر . وقد فرض التعليم المختلط على اليابان سنة 1947 م من مقاومة التقاليد له تحت نفوذ الحكم الأمريكي لليابان بعد هزيمتها في ا ليه الثانية .
وفي البلاد العربية يتزايد الأخذ بنظام التعليم المختلط في المرحلة الابت جة أقل في التعليم الجامعي لكن الاتجاه الغالب في التعليم الثانوي هو الفصل سين في مدارس خاصة بكل منهما
ومهنة التدريس :
تشير البيانات الاحصائية إلى أن المرأة تحتل نسبة أكبر من الرجل في يس في معظم أجزاء العالم المعاصر وأن هذه النسبة تزداد بصفة خاص يم الابتدائي فتصل إلى حوالي ٧٥ وفى الثانوي تصل إلى حوالي 50٪ ٠ وير الجدول نسبة النساء في مهنة التدريس في الدول المختفة .
)انظر الجدول الصفحة 101 في البي دي اف اعلاه(
الصفحة 101
ومع أن هذه النسب قد حدث فيها تغيير منذ نشرها إلا أن الاتجاه العام ظل ثابتا وربما كانت التطورات الحديثة تشير إلى تزايد نسبة المرأة عن الرجل في مهنة التعليم . وبالنسبة للبلاد العربية فإن الاتجاه نحو رجحان كفة المرأة في مجال التدريس ، وفي الدول الخليجية بالذات نجد أن التدريس يعتبر ميدان عمل المرأة لعزوف الرجال الوطنيين عنه من ناحية وتزايد خريجات كليات التربية من ناحية أو أخرى
7- اعداد المعلم
مقدمة :
قام علماء التربية خلال العقدين الماضيين بتطوير أنماط وأساليب متعددة من طرائق التدريب على الأداء للمعلمين منها طريقة التعليم المصغر " Micro Teaching "
ولعب الدور " Rôle Playing " وطريقة تحليل التفاعل " Interaction Analysis " وطريقة الكفاءات التدريسية وغيرها من الطرق التي بدأت كليات التربية ومعاهد إعداد المعلمين في استخدامها بنجاح في مختلف بلاد العالم . وقد بهرت هذه الطرق المربين وسحرت عقولهم عند بدء ظهورها لكن حماسهم لها سرعان ما أخذ في الهبوط عندما بدأ يساورهم الشك في كفاءة هذه الطرق وفاعليتها كأساليب أفضل لتدريب المعلمين وإعدادهم . ومع . ومع ذلك فإن هذه الأساليب لم تفقد قيمتها وأهميتها وما زالت تشكل أساسا معرفيا هاما لكل المشتغلين بالتربية .
وسنحاول أن نفصل الكلام عن كل طريقة أو أسلوب من هه الأساليب في السطور التالية :
أ- التعليم المصفر " Micro Teaching "
التعليم المصفر كما يعرفه " جود " في " معجمه التربوي . هو أسلوب من أساليب التدريس التي طورتها جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية من أجل الاستفادة به في المجالات الآتية
الصفحة 102
ويرجع الفضل في تقديم فكرة التعليم المصغر إلى دوايت ألين Dwighi Allen من جامعة ستانفورد سنة 1966م. ويكون التعليم المصغر عادة لفترة مدتها خمس دقائق المجموعة من الطلاب لا تزيد عن ثمانية يتم تدريبهم خلالها على مهارة معينة يسهل اكتسابها .. وهكذا يعنى أن التعليم المصغر مصغر من حيث عدد المتعلمين ومدة الدرس والمهارة المراد تعليمها - وفى مجال إعداد المعلم يطلب من المعلم أن يقوم بتدريس درس ما أو إعادة تدريسه في ضوء توجيهات المشرف وملاحظات زملائه من الطلبة . ومن الممكن تسجيل الدرس على شريط فيديو حتى يمكن للمعلم أو المتدرب مشاهدته فيما بعد والوقوف على طريقة أدائه للدرس . والتعليم المصغر إلى جانب كونه أسلوبا من أساليب إعداد المعلمين قبل الخدمة هو أيضا أسلوب لتدريبهم أثناء الخدمة . وفي كل هذه الأحوال يكون المعلم أو المتدرب في موقف أشبه ما يكون بالموقف في المعمل حيث يقوم بالتدريب على أداء الدور أو تمثيله أو محاكاته .
ب- التمثيل أو المحاكاة " Simulation " .
وهو أسلوب من أساليب التعليم والتدريب يتم من خلاله توفير المواد التعليمية والمناخ والظروف التي تشبه ظروف الموقف الفعلي أو الأصلي المطلوب من الفرد أداء العمل فيه . ويطلب من المتعلم في هذا الموقف تقليد الدور الذي يمكن أن يؤديه في هذا الموقف . وهذا يعنى أن يقوم المتعلم بلعب الدور المطلوب منه في المستقبل في موقف تعلیمی صناعي يقترب في عناصره من الموقف الأصلي وهو ما يسمى بطريقة تمثيل الدور . هناك أسلوب آخر يقوم على اختيار مشكلات معينة يستعان على عرضها أو شرحها بفيلم قصير ثم يطلب من المتدرب أن يتصرف لحل هذه المشكلات أو مواجهتها بصورة طبيعية تماما كما لو كانت في الموقف الحقيقي
الصفحة 103
ج -لعب الدور Role Playing " :
هو موقف تعليمي يقوم فيه المتعلم عن قصد بلعب دور معين منفردا أو في مجموعة من خلال جلسة تعليمية أو علاجية بهدف تفهم الدور أو الموقف الذي ينبغي على القائم به أن يتعامل معه . وهو يتطلب إعدادا جيدا للدور في علاقته بالموقف وما يرتبط به من انواع السلوك المتوقع من القائم بلعب الدور .
د-تحليل التفاعل " Interaction Analysis "
يعتبر تحليل التفاعل من أساليب تدريب المعلمين على الأداء ، وهو يقوم كما يبدو من تسميته على ملاحظة ورصد شتى التفاعلات التي تحدث في الفصل أثناء الدرس . ويقوم برصد التفاعل داخل الفصل أحد المتدربين من المعلمين أو شخص آخر مدرب . ويقوم هذا المتدرب بملاحظة سلوك المعلم والتلاميذ في تفاعل كل منهم من الآخر ورصد هذا السلوك في استمارة خاصة أعدت لهذا الغرض ويجب أن يدرب الفرد على استخدامها قبل القيام بالمهمة. وقد يستخدم أيضا التسجيل السمعي البصري . وهناك عدة طرق لتحليل التفاعل من أشهرها طريقة فلاندرز " Handers " .ووفقا لهذا النظام يقوم المتدرب بملاحظة ما يحدث داخل الفصل كل ثلاثة ثوان . والسلوك المطلوب ملاحظته داخل الفصل إما كلاماً من جانب المعلم أو من جانب التلاميذ ، وإما سؤالا من جانب المعلم أو التلاميذ، وإما فترات صمت . والهدف النهائي هو تحديد نمط وطبيعة التفاعلات التي تحدث داخل الفصل ونمط طريقة التدريس وتأثيرها على العلاقات التي تسود الفصل .
هـ - إعداد المعلم القائم على الكفاءة : ( الكفاءة التدريسية )
من الاصلاحات التي حدثت في مجال إعداد المعلم تبنى أسلوب برنامج الكفاءات التدريسية . وبموجب هذا الأسلوب يتعلم كل طالب وفق برنامج خاص به على أساس مهاراته واحتياجاته الراهنة . وهذا الأسلوب يعتبر أهم تجديد في مجال إعداد المعلم في السبعينات . وقد سبق أن أشرنا إلى تفصيل الكلام عن هذه الطريقة في مكان آخر.
الصفحة 104
و- إعداد المعلم على غرار إسعاد الطبيب .
من أحدث التطورات الراهنة في مجال إعداد المعلم أن يكون هذا الإعداد على غرار إعداد الطبيب . لأن مهنة الطب تعتبر مثالا جيدا للإعداد المهني الناجح ويتضمن هذا الإعداد جوانب أكاديمية وعملية وإكلينيكية . كما يتطلب تحويل كليات التربية الحالية إلى كليات للدراسات المهنية العليا للمعلمين يلتحق بها معلمو المستقبل بعد أن يكونوا قد حصلوا على الدرجة الجامعية الأولى في مجال التخصص ، وتكون دراساتهم المهنية في كليات التربية مؤدية إلى الحصول على درجة الماجستير في التربية كحد أدنى للدخول في مهنة التدريس . كما تلحق بكليات التربية مدارس نموذجية تكون حقلا للتجريب والتدريب على غرار التدريب الاكلينيكي للطبيب .
إن الأساس الفلسفي الذي تستند إليه هذه الدعوة هو أن تمهين التدريس يتطلب قاعدة معرفية تخصصية رهينة لعلوم التدريس يكتسبها المعلم من خلال إعداده في كليات التربية وتوجه أسلوب ممارساته التدريسية في الفصل المدرسي . هذا يعنى تحويل مهنة التدريس من مفهوم العمل الخيري الذي يقوم على رعاية التلاميذ والعناية بهم إلى المفهوم المهني الذي يقوم على المقدرة الفنية في ممارسة أصول المهنة ويتطلب ذلك أيضا تقنين عملية التدريس وتحديد أبعادها ووضع المعايير العلمية الموضوعية لها التي ينبغي على المعلم مراعاتها واتباعها .
إن من النتائج الهامة التي تمخضت عنها حركة تمهين التدريس في مختلف دول العالم المعاصر تتمثل في رفع مستوى أساتذة التربية في كليات التربية بصورة مستمرة بحيث يزداد تأثيرهم على طلابهم معلمي المستقبل . لقد أثبتت التجربة في بعض الدول المعاصرة أن ضعف تأثير كليات التربية على إعداد المعلم وتكوينه كان سببا في عدم نجاح كثير من محاولات التطوير في إعداد المعلم
ونخلص مما سبق إلى أن النظام الجديد لإعداد المعلم على غرار إعداد الطبيب يستند إلى أسس رئيسية ثلاثة :
الصفحة 105
1- دراسة أكاديمية جامعية تؤدى إلى الدرجة الجامعية الأولى في مادة التخصص .
2 - دراسة مهنية متخصصة في علوم التدريس تؤدى إلى الحصول على درجة الماجستير باعتبارها الشرط الأساسي للعمل بالمهنة
3- تلقى تدريب اكلينيكي في مدرسة خاصة بالتطوير المهني للمعلم تكون ملحقة بكلية التربية .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عميد الأدب العربي الراحل طه حسين كان قد دعا في كتابه القيم " مستقبل الثقافة في مصر - عام 1938 إلى اقتراح مشابه هو اشتراط حصول معلم الثانوي على درجة الماجستير كحد أدنى كما أن مدرس الجامعة يشترط حصوله على الدكتوراه كحد أدنى. لكنه عدل عن هذا الاقتراح إلى اقتراح أخر يرتفع فيه مستوى إعداد المعلم إلى مستوى عال على غرار نظام امتحان المسابقة الشهادة الاجر جاسيون " في فرنسا .
والواقع أن نظام إعداد المعلم على غرار إعداد الطبيب له بريقه وجاذبيته إلا أنه مكلف في الجهد والمال وفوق ما تستطيع أن تتحمله الدولة لاسيما النامية منها . ومع أننا نسلم بذلك إلا أن هذا النظام له ما يبرره . فإذا كان المجتمع يولي اهتماما بإعداد الطبيب فإن اعداد المعلم لا ينبغي أن يقل عن هذا الاهتمام إن لم يزد عليه . وقد يقال إن المجتمع يستخدم عدداً قليلا نسبيا من الأطباء لكنه يحتاج إلى أعداد كبيرة من المعلمين . وقد يقال أيضا أن الأطباء يتعاملون مع المرضى أما المعلمون فيتعاملون مع الأصحاء والمريض أولى من الصحيح . وقد تقال أشياء أخرى كثيرة . إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية هذا النظام. أليس من المضحكات المبكيات أن الدول المختلفة بما فيها الدول النامية تخصص أموالا هائلة للدفاع وشراء أسلحة الحرب والدمار . وإذا كانت هذه الدول في ظل أوضاعها الاقتصادية الراهنة تعمل على توفير المال اللازم لذلك فمن باب أولى توفير المال اللازم للارتقاء بمستوى اعداد المعلم وتحسين مكانته المهنية والمادية . لقد أثبتت نتائج البحوث العلمية أن مستوى إعداد المعلم دالة للتنبؤ بمستوى نوعية التعليم وتحصيل التلاميذ . وهذا في حد ذاته يبرر أي مال وأي جهد ينفق في
الصفحة 106
سبيل تحسين مستوى إعداد المعلم .
وقد يؤخذ بهذا النظام على نطاق ضيق في بعض كليات التربية على أن يعين خريجو هذا النظام في مناصب قيادية تدريسية في المدارس مع تساوى مرتباتهم مع باقي المهن الأخرى في الطب والهندسة وغيرها . وفى نفس الوقت يوضع برنامج للمعلمين الآخرين لتحسين مستوى أدائهم عن طريق ما يسمى بالتدريس الرسمي أو الترسيمي الذي يعتمد على برامج للتدريس أثناء الخدمة على مستوى المدارس التعليمية أو المستوى المركزي - ويراعى في هذا التدريب أن يقوم على الأساليب الفنية الحديثة في إعداد المعلم لاسيما ما يتعلق منها بمهارات التدريس والمدة الزمنية لاكتسابها وطريقة التدريب عليها
إن الآراء حول إعداد المعلم على غرار إعداد الطبيب قد تختلف وتتباين . وقد يرى البعض أنها دعوة في غير أوانها وقد يرى آخرون غير ذلك . وهذا كله لا يقلل من أهمية هذا الأسلوب الجديد ولا ينبغي أن يصرف أنظارنا عن رؤية جوانبه المشرقة .
دراسة فن الالقاء على غرار الممثلين :
يعتبر فن الإلقاء من الأمور الهامة التي ينبغي أن يجيدها المعلم لاعتماد أدواره في التعليم والتعلم عليه . وعلى الرغم من هذه الأهمية فإن المعلم للأسف الشديد لا يتلقى أي تدريب على ذلك أثناء إعداده المهني . ويترك الأمر عادة إلى الفرد نفسه . ولما كانت دراسة الممثلين لفن الإلقاء تعتبر مثالا ناجحا فإن على برامج إعداد المعلمين أن تتضمن دراسة مماثلة . وهذا يعنى أن يتضمن برنامج إعداد المعلم دراسة منهجية عملية على فن الإلقاء على غرار الممثلين . كما يجب أن تتضمن برامج تدريب المعلمين أثناء الخدمة على تدريب من هذا النوع . وإني اعتقد أن ذلك سيؤدى إلى رفع مستوى أداء المعلم وتحسين طريقته في التدريس وزيادة تأثيره على التلاميذ .
الصفحة 107
مفاهيم تربوية
تعرض في السطور التالية بعض المفاهيم التربوية الهامة التي يرتكز عليها النظرية والتطبيق التربوي أو التي تتصل بالتربية .
1- الحرية الأكاديمية
هي مظهر هام من مظاهر ديمقراطية النظم التعليمية . ويقصد بالحرية الأكاديمية حرية التعليم والتدريس . ويختلف مفهوم الحرية بالطبع تبعا لاختلاف الأيديولوجية السياسية والاجتماعية وكذلك تبعا لاختلاف الأغراض التربوية .
وتعتبر الحرية الاجتماعية مثلا أعلى لكل المربين تقوم على أساس الاعتقاد بأن البحث عن الحقيقة هو شيء هام لدرجة لا يجوز معها فرض قيود عليه مهما كانت النتائج التي يتوصل إليها وما تثيره هذه النتائج من جدل ونقاش . انها تتعلق بحق الإنسان في أن يفكر بحرية وأن يبحث بحرية وأن يتعلم أيضا بحرية ..
إن الجذور التاريخية للحرية الأكاديمية يمكن أن نرجعها للإغريق . وقد ضرب سقراط أروع الأمثلة على الحرية الأكاديمية عندما تجرع السم راضيا دون أن يغير رأيه أو يتحول عما كان يعتقد أنه حق وصواب ولو أدى به الأمر إلى الموت .
وفي العصر الوسيط في أوروبا في ظل نظام الإقطاع استطاعت الجامعات أن تحافظ لنفسها على درجة كبيرة من الحرية الأكاديمية لكن هذه الدرجة انخفضت في فترة الاصلاح الديني . فقد كان للاختلافات الدينية وتعدد المذاهب أثر في تقييد الحرية الأكاديمية لضمان الولاء لجماعة معينة . وقد ظلت هذه القيود حتى القرن الثامن عشر تقريبا عندما بدأت المدارس العلمانية المدنية غير الدينية في الظهور نتيجة لحركة انفصال الدولة عن الكنيسة في أوروبا . وبالنسبة لأوروبا فإن تقلص السلطان الديني والسياسي للدولة ساعد على نمو حرية الفكر .
الصفحة 110
وقد ظلت الجامعات طيلة القرون الماضية تنعم بالحرية الأكاديمية باعتبارها معلما رئيسيا من معالمها . لكن بالنسبة لغيرها من معاهد التعليم والمدارس فإن الأمر كان بين مد وجذب تبعا للظروف السياسية والاجتماعية .
وفى ظل الاسلام للحرية الأكاديمية مكفولة فلا إكراه في الدين ولا إكراه في العلم. بل إن الاجتهاد وهو تحكيم العقل سمة مميزة ليقظة التفكير الإسلامي وتقدمه . ولم يقفل باب الاجتهاد إلا في العصور المظلمة التي تجمد فيها الفكر وأنت بأسوأ النتائج بالنسبة للعقلية الإسلامية .
2 - الحرية والنظام :
الحرية بمعناها المطلق لا وجود لها على أرض الواقع . وقد توجد في خيال الفلاسفة ذلك أن الحرية لا تعمل في فراغ وإنما تستمد مضمونها من النظام . وهما معا يمثلا وجهي عملة واحدة . خذ مثالا لرجل ترك وحده في الصحراء - هل يعتبر هذا الرجل حرا يتصرف كما شاء ؟ إن حريته محدودة بظروف المكان فهو إن أراد أن يأكل أو يشرب لا يجد ما يأكله أو يشربه فلين حريته إذن ؟ . فالحرية إذن تعنى النظام ولتوضيح ذلك نتساءل: هل سير القطار على القضبان تقييد لحريته أم أن هذه القضبان في الواقع شرط لحريته في الحركة وإلا لما سار على الإطلاق ؟ . خذ مثالا آخر لسائق السيارة الذي يسير في الشارع وعليه أن يتوقف عندما . الضوء الأحمر یری ولا يسير إلا إذا رأى الضوء الأخضر . هل يعتبر هذا قيدا على حريته ؟ وهل يمكن له أن يدعى بأنه حر في قيادة السيارة دون مراعاة القواعد والأصول " إن حريته هنا مرتبطة بالنظام. وبالمثل يمكن التمثيل بلاعب الكرة في الملعب . هل هو حر في أن يضرب الكرة في أي اتجاه ؟ أم أن حريته مقيدة بأصول اللعبة وقوانينها.
وهكذا يجب أن نفهم الحرية بمعناها الإيجابي . إنها الحرية القادرة على تحقيق الهدف في ظل النظام. وهذا النظام بدوره يؤكد الحاجة إلى الاعتماد المتبادل للأفراد في المجال الاجتماعي . والواقع أن هناك عدة عوامل تحدد الحرية منها عوامل داخلية
الصفحة 111
وأخرى خارجية . أما العوامل الداخلية فهي تتعلق بالإنسان نفسه ، ذلك أن التركيب الجسمي والعقلي والنفسي للفرد يحدد مدى حريته . فالإنسان ذو الجسم الضعيف الهزيل أو الذي يعاني من مرض أو نقص جسمي لا يعتبر حرا في نطاق القيود التي تفرضها عليه هذه الأبعاد الجسمية . فهو ليس حرا أن يأكل ما يشاء أو يحيا كما يشاء وليس حرا في أن يتخلص من الألم الذي يعانيه . وبالعكس يمكن القول عن الجسم الصحيح . فصحة البدن إذن شرط للحرية . ولذلك يعتبر كل تقدم في الميدان الصحي في البلاد عاملا هاما لتحقيق حرية الأفراد كما أن التربية الحديثة لابد أن تتضمن العناية بالجسم وتقويته .
والناحية العقلية للفرد شرط آخر لحريته . ذلك أن الذكاء الانساني ضروري للحرية . فنجاح الإنسان في حياته يتوقف على تصرفه الذكي - وأمور الحياة لا تستقيم لإنسان غبي .. بل أن الحياة نفسها تلفظه وتحاربه باستمرار وحيثما كان والإنسان الذكي هو الإنسان القادر على الفهم السليم والتصرف الصحيح وإدراك بين الأشياء في أهدافها القريبة والبعيدة . هو الإنسان المبدع المفكر القادر على التخيل الذي يساعده على تشكيل امكانيات المستقبل واحتمالاته
والحرية لا يستقيم عودها مع الجهل . فكيف يكون الإنسان حرا لفهم ما حوله من ظواهر الكون والحياة والتعامل الاجتماعي الرشيد وهو جاهل - إن الجهالة قيد على عقله وفكره وبالتالي لا يمكن أن يكون حرا . وهناك مثل معروف يقول : كلما تعلم الإنسان زادت حريته - ولهذا فإن ذكاء الإنسان وتقيف عقله وفكره ضرورة تفرضها حريته . وعلى أي برنامج تربوي أن يولى هذه الجوانب عناية كبرى . وكذلك الناحية النفسية للفرد بأبعادها المختلفة من حب وكره وتعصب وتحيز وتقبل ورفض كلها تحدد سلوك الإنسان . فكيف يستطيع الإنسان ادعاء حريته وهو في الواقع عبد النزعات النفس وخلجاتها وعبد للعادات التي كونها . خذ مثلا الشخص الذي أصبح التدخين عادة متمسكة لديه ومستحكمة فيه لا يستطيع أن يمتنع عنها ؟ إنه قد يدخن رغم أنفه بحكم قوة العادة وسيطرتها عليه حتى مع أنه من الناحية العقلانية يعرف مضار التدخين على ماله وصحته . فهل نعتبر هذا الإنسان حرا ؟ إن حرية الإرادة شرط ضروري لحرية
الصفحة 112
الإنسان ولا يمكن لإنسان أن يكون حر الإرادة وهو غير قادر على التحكم فيها . إذ أنه يستسلم لرغباته ونزواته أو دوافعه الجامعة . ولذلك يجب على التربية أن تهدف إلى غرس العادات السليمة عند الإنسان منذ بواكير الطفولة وأن تهتم بالقدوة الصالحة والبعد عن قرناء السود وأن تربى الفرد على التحكم في نفسه ليستطيع أن يكبح زمامها وأن يسيطر عليها كما ينبغي أن تربى ضمير الفرد لأنه خير عاصم له وعندها يمكن أن يكون الإنسان حرا ذلك أن الحرية الحقيقية لا تتوفر إلا في ظل الشخصية الكاملة المتكاملة . أما كيف يكتسب الإنسان هذا الكمال والاكتمال فهو موضوع التربية برمته
أما العوامل الخارجية التي تحد من حرية الإنسان فتتمثل في البيئة المادية والاجتماعية التي تحيط بالإنسان ، هذه العوامل الخارجية الهامة هي التي تحدد حريته. فالفقر والغنى مثلا صورتان لمدى ما يتيحه أي مجتمع من ثروة لأفراده . وكلتاهما تحدد مدى الاختيارات والامكانيات المتاحة للإنسان وبالتالي تحدد حريته . ولذلك يعتبر تحسين مستوى معيشة الأفراد عاملا هاما نحو الحرية . ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان الحديث قد استطاع السيطرة على ثرواته المادية والطبيعية بمقدار ما أتيح له من تقدم تكنولوجي هائل . وهو شرط ضروري لحرية المجتمعات المدنية . إلا أن التقدم في هذا الجانب كان بمعدل أسرع من معدلات النمو في الجوانب الأخرى الداخلية والخارجية المحددة للحرية .
ويجب على التربية أن تزود الأفراد بالمهارات المعرفية والسلوكية التي تنفعهم وتمكنهم من زيادة دخلهم وتحسين مستوى معيشتهم وتنمى تطلعاتهم وأموالهم في الحياة . كما يجب على التربية أن تزود الإنسان أيضا بالمهارات المعرفية والعملية التي تمكنه من فهم عالمه الذي يعيش فيه وتمكنه من السيطرة على بيئته المادية واستغلال ثرواتها الطبيعية .
ومن ناحية أخرى نجد أن الإنسان نفسه يعتمد على غيره منذ أن كان نطفة أو علقة في بطن أمه . وهو محتاج إلى العناية والرعاية . وهذا الاحتياج يعني عدم حريته . فالإنسان المحتاج ليس إنسانا حرا . وهو بعد ولادته يظل محتاجا لهذه
الصفحة 113
العناية . وفي تعامله وهو كبير راشد مع الآخرين محتاج إلى تعاونهم ومساعدتهم أيضا . ولا يمكن له أن يحقق شيئا بمفرده إلا بتعاون الآخرين . ويزداد اعتماد الناس بعضهم على بعض بصورة متزايدة في المجتمعات الحديثة . وبدون مساعدة الآخرين لن يجد رغيف الخبز الذي يأكله أو الملبس الذي يلبسه أو المواصلة التي يركبها . وغيرها من الأمثلة التي لا تحصى . وهذا يعنى تزايد اعتماد الناس بعضهم على بعض . كما يعني ارتباط حرية الفرد بحرية الآخرين .
وكذلك نجد أن المعايير والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع وقوانينه وتشريعاته كلها تمثل حدودا لمدى حرية الفرد . وهذا يعنى لأي برنامج تربوي ضرورة العناية بتكوين الاتجاهات الصحيحة للفرد نحو نفسه ونحو مجتمعه ، وتنمية حساسيته الاجتماعية نحو النظام الاجتماعي وقيمه السائدة ، وتعريفه بها وتعويده على احترامها وكذلك احترام القوانين والتشريعات وحماية الملكية العامة .
إن أعلى مراتب الحرية هي الحرية الكاملة التي ترتبط بالله عز وجل . فهو الذي خلق الكون وأحسن صنعه وخلق الإنسان فأحسن تقويمه - ورتب للناس أمور حياتهم بما يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة . ولذلك يجب ألا تستمد الحرية التي تنشدها للفرد والمجتمع إلا منه وأصولها من المبادئ السامية التي رسمها لنا .
ويصبح الفرد مقيدا في حريته بتأثير البيئة الاجتماعية والطبيعة وما نسميه بحرية الاختيار أو الإرادة هي حرية ظاهرية مقيدة بالنظام . فالله سبحانه وتعالى بين لعباده الحلال والحرام وطريق الخير وطريق الشر وهداه النجدين وعلى الإنسان أن يختار بينهما إما شاكرا وإما كفورا •
الحرية والسلطة والتربية :
يجب ألا ينظر إلى الحرية والسلطة على أنهما متضادان ، بل ينظر إليهما كوحدة متكاملة تكون فيها الحرية نتيجة طبيعية ومنطقية وشرعية للسلطة . إننا إذا تركنا الفرد
الصفحة 114
يفعل ما يريد بدون أية قيود أو نظام أو قواعد فإن هذا سيؤدي بالضرورة إلى الفوضى . وبهذا ينعدم معنى الحرية الحقيقي وينعدم معه احترام الآخرين أو القدرة على انجاز أي شيء . ولكي تنظم الحرية الأخلاقية يجب أن تكون هناك قواعد قانونية تحمل الأطفال والراشدين على احترامها وتعديل سلوكهم في ضوئها . إن الحرية الحقيقية تعنى ما يجب علينا أن نفعله من خلال متطلبات السلطة . أو بمعنى آخر أن نفعل ما يسمح به القانون أو النظام . فالطفل يتعلم الحرية تحت نظام القانون أو السلطة . والمعلم بالطبع ممثل لهذه السلطة . ولكي نتجنب اسامة استخدام السلطة يجب أن نتأكد من أن هذا الاستخدام يحقق الحرية لا الظلم والاستبداد . والمعلم يحسن صنعا إذا لم يمارس السلطة بطريقة جائرة بل يستخدمها بطريقة تحفظ كرامة الآخرين وانسانيتهم . وبعض المربين ينظرون إلى الحرية الاخلاقية على أنها تعنى التحرر من أية قواعد أخلاقية . وهذا مفهوم خطأ لمعنى الحرية الأخلاقية . إن الطفل الذي يتعلم حرية الأخلاق يستطيع أن يرى أكثر من حل واحد للمشكلة التي تواجهه . وبعد أن يقارن بين هذه الحلول بعقله وذكائه يستطيع أن ينتقى أفضلها ويتفاعل معه .
وهذه الفكرة تعبر عن الحرية التعليمية المقبولة عقلا . لأن بعض المربين قد ينظرون إلى الحرية كما لو كانت طبيعية للطفل . وهذا المفهوم ضيق المعنى . فالحرية الطبيعية التي لا ترتبط بالقوة العقلية أو لا توجه بها تكون حرية غير مسئولة قد تؤدى إلى تدمير التعاون المثمر البناء الذي يعتبر الأساس الطبيعي للنظام . وهذا يقتضي ألا نعزل بين الحرية الطبيعية وبين الحرية الداخلية للفرد ، لأن حرية الفكر ينبغي أن يتاح لها الفرصة لتختبر نتائجها من خلال سلوكها العلني . والنظرة المناسبة للحرية هي أن تكون وسيلة لا غاية
إن العلاقة الأساسية بين الحرية والسلطة قد تساعدنا في شرح نوع الحرية المعروفة بالتدريب على ضبط النفس - وبعض أنواع الضبط أو التنظيم شرط أساسي للحرية الحقة . وخلال السنوات الأولى من الطفولة يكون عادة مصدر الضبط متمثلا في بعض القوى الخارجية للطفل مثل الوالدين أو المدرس . وأن الهدف من معظم الأنظمة الأخلاقية في الفلسفة التربوية هو أن يتحول التحكم الخارجي إلى تحكم داخلي . وهذا
الصفحة 115
التحول التدريجي يمكن الطفل من أن يتعلم ويتدرب على الاستقلال الأخلاقي في ضبط الذات .
إن المناقشة السابقة كانت متركزة على حرية التلميذ فماذا عن الحرية التي يتمتع بها المدرس ؟ وماذا عن شخصيته ؟ إن البعض سيجعل منه شيئا ضخما . بينما يقلل منها البعض الآخر لدرجة التلاشي وأن النظرة الأولى ستجعل من المدرس صاحب السلطة النهائية يحتاج إلى طاعة شخصية مباشرة من التلاميذ . أما النظرة الثانية فتؤدى إلى أن التلميذ يجد وضعا اجتماعيا في المدرسة أقرب إلى الفوضى . والواقع أنه ليست هناك حرية حقيقية للتلاميذ إلا إذا كان المدرس حرا بالقدر الذي يجعل قدراته متاحة أو متوفرة للتلاميذ . وبما أن التربية عملية اجتماعية تعتمد على المشاركة فلا ينبغي أن نقلل من أهمية الشخص الذي له أكبر المشاركة في المجموعة ألا وهو المدرس . وعلى النقيض من ذلك يستطيع الأطفال أن ينموا حريتهم الأخلاقية إذا كان المدرس حرا لينصح ويوجه التلاميذ كيف يستطيعون أن ينموا قدراتهم الفردية . ولكن من ناحية أخرى يجب ألا نفترض أن المدرس فقط هو الذي لديه الجانب الإيجابي للمشاركة أو المساهمة فالأطفال أيضا لديهم خبرات مهمة . والمدرس سوف يدرب حريته تدريجيا في ضوء ذلك ولن يكون ذلك الديكتاتوري المستبد بل الناصح الودود
3 - التربية الحرة:
هي التربية التي تهدف إلى تحرير العقل والروح وتتفادى التخصص الضيق ولا يقصد بها الإعداد المهني وإنما الإعداد للحياة وليس لكسب العيش . ويرجع مفهوم التربية الحرة إلى التربية الإغريقية القديمة ويمتد أثره إلى الآن في الممارسات المعاصرة . وقد لعبت الفنون السبعة الحرة دورا رئيسيا في تشكيل المنهج المدرسي في الدول الأوروبية لأكثر من ألف عام تلت . وما زالت بعض عناصرها قائمة حتى الآن في مختلف النظم التعليمية الغربية . بل إن في أمريكا كليات تحمل عنوان كليات الفنون أو الآداب الحرة . وقد سبق أن عرضنا في كلامنا عن المنهج
المزيد من تفصيل الكلام عن هذا الموضوع أنظر لنفس المؤلف كتاب . تاريخ التربية في الشرق والغرب
- عالم الكتب 1992.
الصفحة 116
المدرسي تفصيل الكلام عن الفنون السبعة الحرة .
4- المنطق والتربية :
يتعلق المنطق بدراسة أساليب التفكير ومن الأمور التي لا يمكن إنكارها أن تعليم الطالب كيف يفكر ويستنبط منطقيا هي مهمة صعبة رغم أنها مطلب تربوي هام . والواقع أن كثيرا من الناس الذين لا يفكرون بالمنطق - يخضعون لا شعوريا لانفعالاتهم . ولا شك في أن العوامل الضاغطة بالمجتمع المعاصر قوية لدرجة أن المتعلم غالبا ما يجد صعوبة في تحقيق التوافق مع الفكر غير الانفعالي وغير المتحيز والتبادل الحر للأفكار في المدرسة . وغالبا ما تغض المدرسة والأسرة نظرهما عن الموضوعية ذاتها التي ترمي إليها المدرسة .
والواقع أن المنطق هام للمدرسين لأسباب كثيرة . مثلا لا يمكن تعليم شيء أو تعلمه بغير لغة ، واللغة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمنطق . ولكن اللغة قد تعوق التفكير المنطقي عند استخدامها انفعاليا . ونحن في كثير من الأحيان نستجيب لإحدى الأفكار إما سلبيا وإما إيجابيا تبعا للغة التي تعرض من خلالها . فمن المعروف أن للغة وظائف مختلفة منها الوظيفة الانفعالية والوظيفة الوجدانية والوظيفة الرمزية . وتتناول الوظيفتان الأوليان مشاعر الشخص وتفاعلاته الذاتية الشخصية ، بينما تشير الثالثة
إلى التبادل الفعلي للأفكار . والوظائف الثلاث استخداماتها المناسبة في حياتنا والشيء المهم هو أن نعرف نوع المهمة التي نطالب اللغة بأن تضطلع بها كلما استخدمناها . والمعلم يستطيع أن ينمي لدى التلميذ الجوانب الوظيفية المختلفة للغة . ففي دروس الدين والأدب والفنون تبرز الجوانب الانفعالية والوجدانية للغة . وفي دروس الرياضيات والعلوم الطبيعية تبرز الجوانب الرمزية الموضوعية المنطقية للغة .
ويجب على المتعلم أن يميز بين موضوع الدرس الذي يقوم بتفهمه ، وبين مشاعره الوجدانية الذاتية تجاهه. ويجب أن يبنى أحكامه التي يتوصل إليها على أساس من الموضوعية وعدم التحيز . إن الاستجابات الانفعالية حقيقة واقعة لكن يجب أن تكون في حدود الإطار الخاص باستخدامها وهي تكون أكثر مصداقية إذا ما قامت على أساس.
الصفحة 117
من التفكير المنطقي .
ويحتل المنطق صميم العملية التعليمية ، فتدريس موضوع أو حل إحدى المشكلات يتطلب خطوات معينة. ولكي تكون هذه الخطوات صحيحة على المعلم أن يعرف الخطوات المنطقية التي يجب اتخاذها وعليه أن يرسم خطة لعمله بطريقة منظمة بقدر الإمكان بحيث تصدر كل نقطة عن نقطة أخرى وتؤدى إلى غيرها . ويجب أن يوضح لتلاميذه سلسلة الأسباب والأفكار الكامنة وراء الخطوات المختلفة التي تصل إلى النتائج بواسطتها . فحفظ جدول الضرب مثلا لا يؤدى إلى تعلم ذي بال ما لم يفهم التلميذ البناء المنطقي لذلك الجدول·
وفي عملية التدريس يقوم المدرس بالتعريف والتفسير والشرح والبرهنة والتقويم . وهذه عمليات منطقية يجب أن يكون المدرس ملما بها إذا ما أراد أن يقوم بتدريس طلبته بأكبر قدر من الفهم . والواقع أن النظرية التربوية وممارستها تحتاج إلى وضوح التصور وإلى الدقة العقلية البالغة وإلى الدقة في استخدام الألفاظ وهو ما تستطيع المعرفة بالفلسفة التحليلية تقديمه . ويمكن الرجوع إلى كتاب فلسفة التربية لنفس المؤلف للوقوف على تفصيلات هذه المدرسة وغيرها من مدارس الفلسفة أن السؤال الذي يثار كثيرا في التربية هو : أيهما أكثر منطقية : ترتيب المواد الدراسية على أساس منطقي أم على أساس سيكولوجي . أي هل نقدم المضمون على أساس تنظم موضوع لمادة المقرر تبعا لمرحلة النمو التي وصل إليها المتعلم ( مثلا هل يجب أن تأتي دراسة الفيزياء بعد الجبر ) ترتيب منطقي ( أم هل يجب أن تدرس هذه المواد في أي وقت عندما يكون المتعلم مستعدا لها ( ترتيب سيكولوجي ) .
وبالنسبة لاستخدام المنطق استخداما سليما في الممارسة التربوية يشير فلاسفة التربية إلى أهميته في الجوانب التالية :
1- وضوح التفكير.
2 - اتساق التفكير والقدرة على الإقناع . الكفاية الفعلية والوثوق في المطالب المعرفية .
3- الكفاية الفعلية والوثوق في المطالب المعرفية
الصفحة 118
4- موضوعية مطالب المعرفة .
5- عقلانية الأخلاق والسلوك الهادف
5- الالتزام العلمي والمهني في التربية
شاع استخدام كلمة الالتزام في الأدب في السنوات الماضية . ويقصد بها أساسا التزام الاديب بالتعبير عن قضايا بلده وتكريس نفسه لخدمة هذه القضايا من وجهة النظر القومية والمصلحة الكبرى للبلاد. وبصرف النظر عما تثيره قضية الالتزام في الأدب من جدل فإن ما يهمنا هنا أن نشير إلى وجود اشتراك كبير في معنى الالتزام في كل من الأدب والتربية ، وإن كانت درجة الحساسية في استخدام المفهوم تزداد بصورة أكبر بالنسبة للتربية نظرا لطبيعتها الخاصة وطبيعة العلاقة التي تربط بين المربي وأبنائه وبين المعلم والمتعلم . ويمكننا أن نميز جانبين رئيسيين لمعنى الالتزام في التربية :
أولهما: الالتزام بالأصول المهنية للتربية .. فالتربية مهنة شأنها شأن أي مهنة أخرى من المهن الأساسية الرفيعة كالطب والقانون وغيرها . وهي لهذا لها أصولها المهنية التي ترتكز عليها . وهذا يعني بالنسبة للمعلم أن يصدر في عمله مع تلاميذه عن هذه الأصول العلمية . فلا يكون في عمله مرتجلا وإنما يكون ممارسا لما تعلمه من حقائق تربوية خلال إعداده المهني سواء كانت هذه الحقائق متعلقة بالمادة الدراسية أو طرائق تدريسها أو متعلقة بالتلميذ ونموه العقلي والنفسي والجسمي ومطالب هذا النمو من الناحية التربوية ، أو من حيث أصول التربية وركائز العملية التربوية وفلسفتها وأبعادها ، أو من حيث ارتباط العملية التربوية بالأهداف الاجتماعية وارتباط ما يحدث في المدرسة بما يحدث خارجها في المجتمع الكبير . كل هذا يكون الأصول التي يستند إليها المعلم في ممارسته لعمله التربوي . فهو مطبق الأصول العلوم التي درسها باعتبار أن التربية ميدان تطبيقي وهو ممارس للأصول المهنية للتربية باعتبارها مهنة من أشرف المهن وأجلها على الاطلاق . إن ما يميز المعلم المحترف أو المهني عن غيره هو أن ممارسته للتربية واتخاذه للقرارات التربوية يعتمد على هذه الأصول العلمية التي درسها
الصفحة 119
وتعلمها من خلال إعداده المهني الطويل - في حين أن المعلم غير المهني يعتمد في ممارسته للتربية وفى القرارات التي يتخذها في الفصل على المحاولة والخطأ والاجتهاد الشخصي . وشتان ما بين الإثنين وما أبعد البون بينهما
ثانيا : الالتزام بدستور مهنة التعليم وأخلاقياتها . ودستور مهنة التعليم شأنه شأن دساتير المهن الإنسانية يؤكد أن خدمة المجتمع تأتى أولا . بمعنى أن المعلم ينبغي أن يضع في اعتباره أن خدمة المجتمع لها الأولوية على الكسب المادي وأن مهنة التعليم ليست وسيلة للكسب المادي بقدر ما هي لخدمة المجتمع . وهذا يعني أن يتوخى كل معلم خدمة المجتمع كهدف أسمى له . أما العائد المادي من وراء المهنة فهو مطلب ضروري لا يمكن إنكاره بل ويجب أن يتكافا مع شرف المهنة ومطالبها العالية . ولكن هذا العائد يأتي كنتيجة طبيعية لعمل المعلم في استهدافه خدمة المجتمع . وهذا يتطلب من المعلم أن يكون لديه الاتجاه الصحيح نحو مهنة التعليم وأن يخلص في تعليم طلابه وتوجيههم ، ولا يدخر وسعاً في توجيههم وإرشادهم وتبصيرهم بالحق والخير والجمال ، ولا يضللهم أو يزيف لهم الحقائق أو يجعل منهم ميدانا لترويج أفكار دعائية ينحاز لها . إذ ينبغي على المعلم أن يفرق بين دوره المهني كعرب ودوره الاجتماعي كمواطن . فهو من حيث كونه مواطنا يمكنه أن يعتنق الأفكار التي يرى أنها صحيحة أما في عمله المهني كمعلم فعليه ألا يخلط بينه وبين غيره من الأعمال . فهو في هذا العمل يلتزم باتجاهات المنهج المدرسي واتجاهات مجتمعة . وعلى المعلم أن يكون بناءا لا هداما وإيجابيا لا سلبيا . وألا يستخدم سلطانه لحمل التلاميذ على اعتناق أفكار غير مرغوبة من مجتمعه ، كما أنه ينبغي عليه ألا يحجر على عقول التلاميذ وإنما يناقش معهم الأمور بعقل مفتوح في إطار من الاحترام المتبادل . وعلى المعلم أيضا ألا يستخدم علاقته مع تلاميذه في سبيل الحصول على امتيازات خاصة كأن يكلفهم مثلا بتأدية خدمات شخصية له كما سبق أن أشرنا .
إن المعلم ناقل للثقافة ومفسر للمعرفة والوسيط بين الأجيال وهو باني الحضارات والأمم . وليس المعلم داعية ثوريا أو مهددا للنظم الاجتماعية التي انتمنته على أغلى ما تملكه وهو أبناؤها . وفي ضوء هذا الفهم الواضح لدور المعلم يجب أن يكون التزامه
الصفحة 120
بأصول المهنة ودستورها وأخلاقها
6 - ديمقراطية التربية والتعليم :
برز في السنوات الماضية الاهتمام بديمقراطية التربية والتعليم وجعل النظم التعليمية أكثر انفتاحا على شعوبها ومجتمعاتها . وقد سبق أن أشرنا إلى أن من التحولات الهامة في ميدان التربية التحول الذي طرأ على الفرص التعليمية من كونها ميزة للقلة والصفوة إلى جعلها حقا متاحا للكثرة . وقد جاء الاهتمام بديمقراطية التربية والتعليم بصورة مباشرة في السنوات الأخيرة نتيجة لانتصار الديمقراطية في الحرب العالمية الثانية . وما تلا ذلك من تطورات هامة على المستوى العالمي بظهور المنظمات الدولية ومن بينها المنظمات المتخصصة للتربية والثقافة والعلوم وعلى رأسها منظمة اليونسكو التي بذلت منذ إنشائها جهودا عظيمة في تطوير حركة التعليم والتربية بصفة عامة ودفع حركتها إلى الأمام. وعلى المستوى القومي نجد أن كثيرا من الدول بدأت في إعادة بناء مجتمعاتها وحاولت العمل على الإصلاح الاجتماعي . وكان من الطبيعي أن يصاحب ذلك اهتمام بالإصلاح التعليمي وجعله تعليما أكثر ديمقراطية وأكثر عدالة من الناحية الاجتماعية . ومهما كان الإطار الفلسفي فإن للمربين والمعلمين حيزا من الاتفاق فيما بينهم على أن الديمقراطية هي الأسلوب التربوي المناسب . وهناك عدة مبادئ، رئيسية للديمقراطية في التربية يمكن أن نعرضها في السطور التالية :
أ- التفكير النقدي : إن الأسلوب الديمقراطي في الحياة يستبعد نمط الولاء والانسياق الأعمى ويؤكد على التفكير النقدي وعلى تنمية مواطنين أحرار في التفكير والتعبير والقدرة على النقد البناء .
ب- البعد عن التلقين : إن التلقين أسلوب مرفوض في ظل التربية الديمقراطية لأن التلقين يعلم الأفراد ماذا ينبغي عليهم أن يفكروا . لا ماذا يفكرون هم بأنفسهم ويجب على التربية الديمقراطية أن تخلق مناخا يتيح للتلميذ أن يكون حرا من سيطرة المعلم على تفكيره وألا يرغم المعلم تلاميذه على تقبل أفكاره بدون اقتناع أو تفكير ويجب أن يبتعد المعلم عن الشعارات الجوفاء والتعصب الأعمى .
الصفحة 121
ج- الحرية والمسئولية : ينبغي على المدرسة أن تنمى مواطنين قادرين على الاستمتاع بنعم الحرية ويعرفون المسئوليات المصاحبة لهذه النعم . وهكذا يجب أن تستهدف التربية تنشئة أفراد أحرار قادرين على استخدام حريتهم بكفاءة وقادرين على تحمل المسئولية الفردية والاجتماعية . ومن العبارات المشهورة كلما تعلم الإنسان زادت حريته .
د- الرفاهية المادية ينبغي على التعليم في ظل الديمقراطية أن يعزز تنمية المهارات العملية والمهنية ليؤمن لكل مواطن فرصة عيش وحياة منتجة حرا من عبودية الفقر ومرارته . فمن المعروف أن الجهل والفقر والمرض كلها قيود على حرية الإنسان .
هـ - تكامل الشخصية : ينبغي ألا يكون تعليم الفرد مقصورا على المهارات المهنية فقط، وإنما يجب أن يهتم التعليم أيضا بتنمية القيم الجمالية والأخلاقية للتأكد من أن كل شخص سوف يصبح قادرا على تنمية طاقاته الكاملة كشخصية فردية متميزة عن غيرها
و- المواطن المهتم : ينبغي أن تشجع المدرسة تنمية اتجاهات المسئولية الاجتماعية والعناية بالمشكلات الاجتماعية للمجتمع الإنساني . وينبغي أن يهدف التعليم إلى تنمية مواطنين فاعلين يعملون بشكل نشط على إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية على اختلاف مستوياتها من خلال المؤسسات الشرعية والديمقراطية .
معايير ديمقراطية التعليم :
يهمنا كدارسين للتربية ن نعرف أهم المعايير الرئيسية التي يمكن أن نحكم بها على أي نظام تعليمي ، وأن نتبين إلى أي مدى يعمل على تحقيق ديمقراطية التعليم. كما أن هذه المعايير تساعدنا في أي محاولة نستهدف بها العمل على تحقيق نظام ديمقراطي للتعليم . من أهم هذه المعايير أو المبادئ :
1- أن يتاح لكل فرد فرصة التعليم على أساس متكافئ دون قيد أو تمييز بسبب
الصفحة 122
الوضع الاجتماعي أو الغنى أو الفقر أو الدين أو العرق والسلالة . وهذا يعني أن يكون التعليم متاحا للجميع على قدم المساواة وبمقدار ما يستفيد منه الفرد وفقا لقدراته واستعداداته .
2- إزالة جميع الحواجز الصناعية بين مختلف التعليم بما يؤدى إلى عدم وجود أنماط تقليدية من التعليم ذات مكانة اجتماعية خاصة ومتميزة على غيرها من أنواع التعليم الأخرى في نفس المستوى لاسيما في التعليم الثانوي . وهذا يعنى وجود القنوات المفتوحة بين جميع أنواع التعليم بحيث يمكن أن يؤدى كل نوع من أنواع التعليم إلى مواصلة الدراسة بالمراحل الأعلى أو التحويل من نوع إلى آخر . ويتطلب ذلك النص في قوانين التعليم وتشريعاته على تساوى جميع أنواع التعليم في المستوى الواحد في المكانة .
3- أن تهتم الدول والحكومات المختلفة بالتربية قبل المدرسية وذلك بأنشاء نظام حكومي لدور الحضانة ورياض الأطفال، وذلك لأهمية هذه المرحلة في تكوين شخصية الطفل
4- أن ينظر إلى التعليم العام نظرة شمولية أوسع بحيث يتخلص من النظرة الضيقة التي تقصره على عدد معين من المواد الدراسية التقليدية . وإنما يشمل مواداً متنوعة اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وفنية وموادا إجبارية وأخرى اختيارية .
5- أن يكون التعليم عملية مستمرة مدى الحياة لا ينتهي عند مرحلة زمنية معينة أو يقف عند دراسة محددة وإنما يمتد على طول عمر الإنسان . ويجب أن تمشى هذا التعليم مع حاجات كل مرحلة عمرية وأن يعمل على تحقيق مطالبها
6- أن تتنوع أساليب التربية والتعليم ونظمها وأشكالها سواء منها المدرسية واللا مدرسية، والتعليم المفتوح ، والمراسلة .. وغيرها
7- الاهتمام بالتعليم المعاود أو المتناوب الذي يتناوب فيه التعليم مع العمل . والواقع أن مفهوم التعليم المتناوب مفهوم حديث سنفصل الكلام عنه فيما بعد
الصفحة 123
7- جودة التعليم :
تثير جودة التعليم اهتمام جميع المربين، وإذا وضعنا هذه المشكلة على شكل سؤال . ما أنواع الخبرات التعليمية التي تشكل تعليما جيدا ؟ فإن الجواب يكون صعبا نظرا لاختلاف المنطلقات الفلسفية للمعلمين والقوى المختلفة التي تؤثر على المجتمع مثل : التحضر والتكنولوجيا والقيم الإنسانية المتغيرة والازدهار الاقتصادي والمشاكل الدولية . ويمكن أن ينظر إلى الجودة بطريقة أو أكثر في ظل المعايير الآتية :
1- التعليم عقلاني وينبغي أن ينتج مواطنين مثقفين نوى اطلاع واسع قادرين على الابداع والتفكير الخلاق في مجال أو أكثر
2- ينبغي أن ينتج التعليم أفرادا منتجين وفنيين مهرة .
3- ينبغي أن ينتج التعليم مواطنين منضبطين ذاتيا ويتصفون بالمسئولية الاجتماعية والمواطنة الصالحة .
4- ينبغي أن ينتج التعليم أشخاصا قادرين على الاستمتاع بحياة ناجحة موفقة في ظل نظام اجتماع دمقراطي.
5- ينبغي أن ينتج التعليم أشخاصا قادرين على فهم وتقدير الانجازات البشرية في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات والفنون ما استطاع إلى ذلك سبيلا
6- ينبغي أن يعد التعليم الأفراد العالم سريع التغير ومطالب غير منظورة ، وهو ما يجعل التربية المستمرة خلال حياة الفرد في عالم الكبار أمرا عاديا متوقعا
الاتفاق المشترك
هناك اتفاق كبير بين المربين حول المسائل الرئيسية المتعلقة بالتعليم وبالجودة ويتفق المربون على أن التعليم الذي يخفق في تطوير القيم الديمقراطية الأساسية للحياة إنما هو تعليم أخفق في مهمته الأساسية .. وبطبيعة الحال فإن المدرسة هي المؤسسة
الصفحة 124
الوحيدة بين جميع المؤسسات الموجودة في المجتمع التي تعتبر العامل المهم في استمرار القيم الاجتماعية الأساسية . وعلى هذا فإن أي نظام تعليمي يخفق في الاسهام في تنمية القيم الديمقراطية يمكن اعتباره نظاما فاشلا بالرغم من تفوق خريجيه في المعرفة والثقافة، وتشمل هذه القيم الجوانب الرئيسية التالية :
1- قيمة الإنسان وكرامته .
2- حقوقه في الحياة والحرية والسعادة وهي حقوق لا يمكن التفريط فيها
3- تساوى الجميع أمام القانون، دون وجود امتيازات خاصة لفرد على آخر
4- الإيمان بكمال الإنسان في سعيه الدائب لتطوير طاقاته الكاملة .
5- الحكم بالشعب وللشعب ومن أجل الشعب . ويجب أن تكون لكل فرد الثقة في قدرة الآخرين على اختيار وإصدار الأحكام .
6- الحماية المتساوية للجميع . وواجب الحكومة أن تحمى الأقلية من استبداد الأغلبية وأن تحمى الأغلبية من تسلط وقيود الأقلية .
7- الحرية الفردية وحرية الفرد ليست مقصورة على التصويت السياسي . فالشخص حر في أن يفكر ويتكلم ويعتقد طبقا لما يمليه عليه ضميره ، ويجب ألا يوجد أي تمييز ضد أي شخص يشذ عن رأى الأغلبية .
مبادي تربوية
من أهم المبادئ التي يجب أن يضعها في اعتباره كل مرب ديمقراطي مسئول عن تربية الأطفال ما يلي:
1 ينمو الأطفال بمعدلات فردية متفاوتة لا ترتبط غالبا بأعمارهم الزمنية ولذلك ينبغي توفير أنشطة تعليمية مختلفة تتفاوت في درجة تحديها لذكاء الطفل حتى تتناسب مع المستويات العقلية المختلفة للأطفال
الصفحة 125
2- لدى الأطفال حب استطلاع طبيعي وشغف بالتعلم . ويكون تعلمهم أفضل إذا تركت لهم الحرية لإشباع اهتماماتهم الطبيعية . والطفل يتعلم على نحو أفضل من خلال حواسه وملاحظاته للأشياء واختباره لها والتعامل معها.
3- يتعلم الطفل مما يفعله هو لا مما نفعله نحن له . ولذلك ينبغي أن يقوم الطفل نفسه بصورة مباشرة بأداء وعمل ما ينبغي أن يتعلمه حتى نتجنب التعلم اللفظي الذي درجنا عليه في تربيتنا القديمة للأطفال .
4- يستطيع الأطفال أن يكتسبوا كثيرا من المهارات من خلال اللعب . فعن طريق اللعب يجرب الأطفال أدوارا جديدة ويحلون مشكلات مختلفة ويحسنون التعامل مع البيئة ويمارسون مهارات اجتماعية . ومن خلال اللعب يعملون ويتعلمون .
5- يتعلم الأطفال من بعضهم بعضا كثيرا من الأشياء منها احترامهم لأنفسهم واحترامهم للآخرين والشعور بالمسئولية والإنجاز وأشياء أخرى كثيرة كما يتعلمون كيف يتعلمون .
6- من الضروري توفير بيئة مواتية للتعلم ترتب عن قصد وتكون معلومة بمواد التعلم الحسية والمجسمة باعتبارها الأدوات الضرورية للتعلم . فالبيئة هي طريق التعلم ويجب أن تساعد الطفل على الاكتشاف والتعلم .
7- تنمية المهارات المعرفية الأساسية عملية ضرورية في تعليم الطفل يجب أن توفرها له الأساليب المبتكرة في التعليم والتعلم.
8- يساعد جو الثقة والحرية الموجهة الذي نوفره للطفل تنمية روح المبادأة والاعتماد على النفس . فالأطفال يحتاجون إلى الأمن وبث الثقة في النفس
9- كل طفل شخصية فريدة في ذاتها ويجب احترام هذه الشخصية وتقديرها في كل جوانبها .
الصفحة 126
طرق الحكم على نوعية التعليم
هناك عدة طرق يمكن استخدامها لتقييم نوعية التعليم وتحديد مستوى جودته، من أهمها:
تقارير وآراء الموجهين التربويين في زياراتهم للمدارس.
استخدام مختلف أشكال الاختبارات والامتحانات.
استخدام البحث التربوي.
آراء وتعليقات الآباء.
8 - التعليم المعاد والمتناوب
يُعتبر مفهوم التعليم المعاد أو المتناوب من المفاهيم التربوية الحديثة. فقد ظهر هذا المفهوم في نهاية الستينيات من هذا القرن. ولقي اهتمامًا خاصًا من جانب منظمة الدول الأوروبية للتنمية الاقتصادية والثقافية "OECD". ومن بعدها بدأ الاهتمام يزداد بهذا المفهوم في الدول الصناعية والنامية على السواء. بل إن التعليم المعاد كان موضوع مؤتمر وزراء التربية في الدول الأوربية سنة 1975. وقد أبرز هذا المؤتمر أهمية التعليم المعاد واعتبره جزءًا لا يتجزأ من أي سياسات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية لوضع مفهوم التربية المستمرة أو الدائمة موضع التنفيذ.
إن مفهوم التعليم المعاد يتعلق بالكبار ويرتبط بمفهوم التربية مدى الحياة ويتناوب فيه التعليم مع العمل. ومن أهم مميزات هذا النوع من التعليم أنه:
أ - يساعد على تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية بما يقدمه من فرص تعليمية لمن فاتهم التعليم أو انخرطوا مبكرًا إلى ميدان العمل.
ب - يساعد على تحقيق الملاءمة بين التعليم وميدان العمل.
ج - يساعد الشباب على الدخول بسرعة إلى الحياة المهنية وميدان العمل وممارسة مسؤوليات الكبار.
الصفحة 127
د- يساعد على زيادة فعالية التعليم لخدمة متطلبات سوق العمل .
هـ - يخفف الضغط على التعليم العالي الناتج عن التوسع في التعليم الثانوي .
بيد أن الأخذ بنظام التعليم المعاود يتطلب اتخاذ خطوات أولية معينة مثل السماح للفرد بترك العمل من أجل الدراسة . كما يتطلب وضع نماذج لبرامج الدراسة ونظم القبول والتقديم . وليس هناك دولة في العالم يمكن أن تدعى لنفسها أنها وضعت نظاما كاملا للتعليم المعاود . لكن هناك بعض الدول التي اتخذت خطوات تشريعية تعتبر تحقيقاً جزئيا لفكرة التعليم المعاود . ففي الدول الأوروبية الشرقية تعتبر الدراسات بعض الوقت جزءا رئيسيا هاما من نظام التعليم العالي . وفى فرنسا وضع قانون سنة ۱۹۷۱ عن التربية مدى الحياة الأساس للتعليم المعاود فقد تضمن القانون الاجازات الدراسية بمرتب . وتقديم الدولة المساعدة المالية للأشخاص الذين يلتحقون بمقررات لإعادة تدريبهم أو لتحسين معلوماتهم ومهاراتهم المهنية . وفى بلجيكا صدرت تشريعات مماثلة سنة ۱۹٧٣ . فبموجب القانون المعروف بقانون - اليوم السماح " Day Release Law يستطيع أي عامل يقل سنه عن أربعين عاما أن يلتحق بالدراسة في المقررات التي تنظمها الدولة أو تمولها . وذلك دون أن يخصم منه الساعات التي يترك فيها عمله من أجل الدراسة . وفى الصين ينبغي على كل التلاميذ الذين أنهوا دراستهم الثانوية أن ينزلوا إلى معترك الحياة . وعليهم أن يقضوا على الأقل سنتين في ميدان العمل قبل يسمح لهم بمواصلة تعليمهم العالي . وهي ممارسة معروفة في دول الكومنولث المستقلة ودول أوروبا الشرقية .
9- التعليم عن بعد :
هو نوع من التعليم لا يعتمد على المواجهة الشخصية وجها لوجه بين المعلم والمتعلم . وإنما يعتمد على أساليب تعليمية أخرى مثل المراسلة والراديو والتليفزيون وأشرطة الفيديو - ومن أمثلة هذا التعليم معاهد التعليم بالمراسلة في مختلف بلاد العالم، والجامعة المفتوحة في بريطانيا ، وبرامج الإذاعة في دول العالم الموجهة للجهات النائية أو المعزولة أو الفئات ذات الأوضاع الاجتماعية الخاصة في بعض البلاد مثل تعليم
الصفحة 128
النساء وربات البيوت في المنازل . وتوجد في بلادنا العربية مثل هذا النوع من التعليم
إلا أنه على نطاق محدود ..
1-التعليم العلاجي
هو نوع من التعليم موجه للأطفال الذين يعتقد بأن تقدمهم التعليمي أقل مما هو متوقع وأنهم يمكن أن يستفيدوا من تعليم مركز يقوم به معلمون مدربون وذوو خبرة في مساعدة الأطفال على التغلب على صعوبات عامة أو خاصة . مثل هذا التدريس يتطلب استخدام الاختبارات التشخيصية كما يتطلب جهدا كبيرا من العمل والتدريس في مجموعات صغيرة .
وفي بريطانيا يوجد بكثير من المدارس معلم للتعليم العلاجي ضمن هيئة التدريس لاسيما في المدارس الكبيرة . وهو يقوم بتنظيم الفصول والمجموعات العلاجية التي يتولى أمرها . وكثير من التعليم العلاجي يتم في عيادات توجيه الأطفال أو مراكز أخرى خاصة . وفى حالة الأطفال الذين يعانون من مشكلات
أو صعوبات خاصة يتم تعليمهم في مدارس للتربية الخاصة .
١١ - التربية الخاصة.
هي نوع من التربية لمواجهة احتياجات الأطفال الذين لا يمكن تعليمهم في الفصول الدراسية العادية . ويكونون عادة معاقين عقليا أو جسميا أو يواجهون صعوبات في التعلم أو مشكلات سلوكية وانفعالية . ومن الأساليب التي تتبع في تعليمهم تنظيم دروس خاصة لهم داخل المدارس العادية لبعض الوقت أو كله أو إرسالهم إلى مدارس خاصة بهم وهي مدارس قد تكون بها إقامة داخلية أو يومية فقط ، أو بترتيب تعليمهم مع المستشفيات ذات التسهيلات والخدمات الخاصة . ويشير تقرير وارنوك 1978 عن التربية الخاصة في بريطانيا إلى أنه لا ينبغي الحاق أو وضع الأطفال في مدارس خاصة إلا إذا استحال توفير احتياجاتهم في المدارس العادية وهذا يعني أن من الأفضل دائما تعليم المعاقين في المدارس العادية ما دام ذلك ممكنا .
المزيد من التفصيل عن هذا الموضوع أنظر لنفس المؤلف كتاب الاتجاهات الحديثة في التعليم الجامعي المعاصر وأساليب تدريسه . دار النهضة العربية . القاهرة ، ١٩٩٢.
الصفحة 129
الفصل الخامس: التربية الإسلامية أهدافها وأسسها وأساليبها
مقدمة
تعتبر كلمة التربية بمفهومها الاصطلاحي من الكلمات الحديثة التي ظهرت في السنوات الأخيرة مرتبطة بحركة التجديد التربوي في البلاد العربية في الربع الثاني من القرن العشرين . ولذلك لا نجد لها استخداما في المصادر العربية القديمة . وما كانت تستخدمه هذه المصادر هي كلمات مثل " التعليم : . و " التأديب " ، و " التهذيب " وهي كلها مرتبطة بالتربية كما نفهمها اليوم أوثق الارتباط . وقد وردت كلمة " التربية " عند الماوردي المتوفى 450 هـ في كتابه أدب الدنيا والدين، وعند ابن خلدون بمعنى التنشئة في كلامه في المقدمة عن مراتب الملك والسلطان والألقاب ) ابن خلدون : ص 235 ) ووردت في القرآن الكريم في صورة الفعل ومن أمثلتها قوله عز وجل " وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا - . وقد سبق أن أشرنا إلى معنى كلمة التربية في أصلها اللغوي العربي وعند الفلاسفة والمربين
اهداف التربية الإسلامية :
كتب الذين ألفوا عن التعليم في الإسلام من المتقدمين عن أغراض التعليم ونقل عنهم المحدثون وتناولوه في كتاباتهم عن أغراض أو أهداف التربية الإسلامية وبعضهم يجمل الكلام عن هذه الأهداف فيركزها في الهدف الديني الذي يقوم على تعلم القرآن ومعرفة العبادات المفروضة أو بعبارة أخرى معرفة الدين علما وتطبيقا . وهو هدف كبير يمكن أن يشمل التربية الإسلامية كلها باعتبار الدين الاسلامي دينا ودولة وبعضهم لاسيما المحدثون يفصلون هذه الأهداف إلى أهداف دينية وعقلية وثقافية ونفسية ( أسماء فهمي). وبعضهم يقسمها إلى أهداف دينية وعقلية واجتماعية ومادية ( خليل طوطح : ص 152 )
الصفحة 132
وواضح أن هناك اشتراكا كبيرا وشبه اتفاق على هذه الأهداف مع المعالجة في التركيز أو التفصيل . ويصبح من الصعب إذن أن نتقبل ما يذهب إليه أحد المؤلفين في التربية الاسلامية من المحدثين عندما يقول : ( والرأي عندنا أنه لا يوجد أغراض للتربية عند العرب تعمهم على الاطلاق وإنما الصواب أن نذكر صاحب المذهب ثم نذكر الغرض من التعليم الذي يلائم هذا المذهب ( أحمد فؤاد الأهواني : ص 92 ) .
إن أي تصور لأهداف التربية الاسلامية لابد وأن يضع في اعتباره أن مجيء الاسلام يمثل بداية تربية جديدة للمجتمع العربي وأنه كان من الطبيعي إذن أن يرسم الاسلام مثلا أعلى للحياة مغايرا لما كان عليه حال العرب في الجاهلية أو قبل الإسلام . وعلى هذا يمكن القول بأن أهم أهداف التربية الاسلامية هو بلوغ الكمال الإنساني لأن الإسلام نفسه يمثل بلوغ الكمال الديني فهو خاتم الأديان وأكملها وأنضجها ، يقول الله تبالك وتعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " . ويقول عز وجل : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر " .
ومن تمام الكمال الإنساني مكارم الأخلاق ، وقد جاء الإسلام ليصل بهذا الكمال الإنساني إلى قمته . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . وهكذا يعتبر بلوغ الكمال الإنساني هدفا رئيسيا للتربية الإسلامية . ومع أن الكمال لله وحده فإن الإنسان لابد وأن يتصف بالكمال باعتباره خليفة الله على الأرض ، قال سبحانه وتعالى : إني جاعل في الأرض خليفة .. وعلى الإنسان أن يسعى إلى هذا الكمال وله في هذا السعي لذة تحفزه دائما إلى مزيد من الكمال . يقول الغزالي : " إن أشرف مخلوق على الأرض هو الإنسان، وقد كرمه الله على كثير من خلقه، وهذا التشريف والتكريم يدفع الإنسان دائما إلى بلوغ مزيد من الكمال
إن موضوع التربية الاسلامية شأنها شأن غيرها من أنواع التربية هو الإنسان بكل مقوماته الجسمية والعقلية والنفسية والوجدانية . ذلك أن طبيعة الإنسان من المنظور الاسلامي تتضمن كل هذه المقومات لتحقيق حياة خلق من أجلها ورسالة كلف بأدائها
الصفحة 133
ومن ثم فإن التربية الإسلامية تقوم على أساس أن الكمال موجود بالقوة في طبيعة الإنسان بمعنى أن الإنسان قادر على بلوغ هذا الكمال إذا ما وجد من الرعاية والعناية والتربية ما يساعده على ذلك . وتصبح الوظيفة الرئيسية للتربية في الإسلام هو الانتقال بهذا الكمال الموجود بالقوة إلى كمال موجود بالفعل يكتسبه الإنسان من خلال أساليب التربية والتنشئة التي يتعرض لها في مراحل حياته المختلفة . ومع أن الكمال لله وحده فإن الإنسان خليفته في الأرض وهو يسعى لبلوغ مراتب الكمال والمثل العليا التي رسمها له خالقه بصورة نسبية .
ومن أهداف التربية الإسلامية أيضا تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة وهو هدف تتزن فيه أسس التربية الإسلامية كما سيتضح من كلامنا عن هذه الأسس فيما بعد . وتقوم التربية الإسلامية على أساس الواقع المادي والروحي للإنسان دون اقتصار على جانب واحد فقط . فهي لا تريد أن يعيش الإنسان في السماء وهو في الأرض ولا أن يعيش منغمسا في الحياة الأرضية المادية وحدها . لأن في كيانه وجودا روحيا ، فعالمه أوسع من عالم الحياة المادية الأرضية وحدها وأوسع من الحياة السماوية الروحية وحدها كذلك . إن التربية الإسلامية في اهتمامها بالواقع المادي والدنيوي للإنسان تسعى إلى الاهتمام بالجانب الروحي على قدم المساواة . وتهدف من وراء ذلك إلى أن تمتد بحياة الإنسان إلى ما هو أبعد من حياة الأرض قصيرة الأجل وتعده لحياة سعيدة أبدية في الدار الآخرة .
وتهدف التربية الإسلامية إلى تنشئة الإنسان الذي يعبد الله ويخشاه ، فالله سبحانه وتعالى يقول : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون والعبادة هنا كما يفسرها علماء المسلمين لا تقتصر على العبادات من صوم وصلاة وحج وإنما تشمل كل حياة الإنسان وسلوكه وتعامله مع الآخرين . وطريقة عبادة الله وخشيته إنما تكون بالعلم فإنما يخشى الله من عباده العلماء والعلم هو سبيل التقوى الصحيحة إلى معرفة الله عز وجل . ولذلك حث الإسلام على العلم والسعي في طلبه وفضل أهله على غيرهم ورفعهم درجات . ومن ثم يرى المربون المسلمون أن من المعايير الهامة التي تقوم عليها أهداف التربية الإسلامية والتي تحدد بالتالي المضمون التربوي التعليمي في الإسلام قيمة هذا
الصفحة 134
المضمون الآخر في تربية الإنسان لبلوغ الفضيلة وكمال النفس عن طريق العلم بالله عز وجل وحسن التخلق إلى الحياة الخيرة الفاضلة بنتيجة تنمية العقل وكسب الرزق وتكافل قيمة. هذا المضمون في دفع الإنسان في بناء وأخرى على السواء. فالعلم فضيلة وتعريف فضيلة العلم بشريه وهي التقرب إلى الله تعالى. أما في الدنيا فثمرته العز والوقار والاحترام وبلوغ المكانة والبعد عن السؤال.
إن الإنسان متعين بالبلوغ والفطرة. قال تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله". ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون". ومهمة التربية الإسلامية تربية فطرة المسلم على الإيمان الصحيح وحقيقة الإيمان، والتعليم والتقوى أساس الفضيلة والأخلاق، ولذلك كانت سيرة الرسول لها قيمة تربوية خلقية. وقد أمرنا الله بأن نتبع الرسول بأن نأخذ ما أتانا به وننتهي عما نهانا عنه، قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر". كما أن الدين ضرورة اجتماعية، لأنه ينظم حياة الناس والعلاقات بينهم، ويربط بينهم برباط محبة، والدين أيضا ضرورة نفسية للفرد يعينه إلى بلوغ
الكمال في الحياة، والسعي والحركة والنشاط. كما يساعد على التغلب على كثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يواجهها الفرد في حياته. خذ مثلا بسيطا عندما تضيق الدنيا في وجه إنسان وتنسد أمامه السبل والمسال، عندها يجد في التوجه إلى الله والدين تفريجا عن كربه وتهدئة لنفسه.
ويتحصل بالعبادة أيضا دور الإنسان في تعمير الأرض وتسخير ما أودعه الله فيها من ثروات لخدمة حياة الإنسان وتحقيق الخير للناس، وما يتطلبه ذلك من استخدام العلم المختلفة. وبكذا يصبح العلم المغتلى من طبيعة رياضية وإنسانية، بنظرة كانت أو تجريبية أو تطبيقية كلها علما إسلاميا طالما أنها منفتحة ومتشبعة مع الإطار الإسلامي الصحيح وملاما أنها لا تستخدم استخداما سيئا يخرج بها عن غرضها فتتعرّض إلى الفساد والشر والعدوان.
الصفحة 135
ومن أهداف التربية الإسلامية أيضًا تقويم الروابط بين المسلمين بدعم تضامنهم وخدمة تفاهمهم. ويتم ذلك عن طريق ما تقوم به التربية الإسلامية من توحيد للأفكار والمشارب والاتجاهات والقيم بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وبهذا تكون التربية الإسلامية عاملًا فعالًا في تماسكهم ووحدتهم، يجمع مسلمًا وتكليل جهدهم، يجعلهم جميعًا على قلب رجل واحد.
والتربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان باعتبار الضمير رقيبًا على كل تصرفاته، خير عاصم له. فصلاح الإنسان مرهون بصلاح ضميره. قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير. وهو يعلم السر والجهر. وهذا يعني أن الله رقيب على الضمير من نفس الإنسان، ولا خير في الضمير إذا لم يكن حيًّا. فإذا تبلد أصبح الإنسان كالميكان وتبلد معه الشعور بذات الفضيلة والخشية لله. فالشخص بلا ضمير هو إنسان ميت الحس. وتربية الضمير تكون بالإيمان الصحيح بالله الذي يعلم السر والجهر، وتكون أيضًا بعبادة أن يعبد الله كأنك تراه.
أسس التربية الإسلامية:
تستند التربية الإسلامية إلى مجموعة من الأسس والركائز الرئيسية تشكل في مجملها المفهوم الشامل للتربية الإسلامية. ويمكننا أن نعرض هذه الأسس فيما يلي:
1- التربية الإسلامية تربية تكاملية شاملة:
ويُقصد بالتكامل أو الشمول هنا أنها لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية الإنسان. فالنظرة الإسلامية ترفض النظرة الأحادية أو الثنائية إلى الطبيعة الإنسانية التي تقوم على التمييز بين العقل والجسم، وسعى العقل على الجسم، وإنما تنظر إلى الإنسان نظرة متكاملة تشمل كل جوانب الشخصية، في تربية الجسم وتربية النفس والعقل معًا. ولأن كل جانب من هذه الجوانب يؤثر في الآخر ويتأثر به، فغالبًا ما يُقال: العقل السليم في الجسم السليم، كما أن في الجسم ضعفًا إذا صحت صحة الجسم، وإذا ضعف الجسم لا يكون الرقيب. والجسم موصلية التربية.
الصفحة 136
في أداء الواجبات وتنفيذ ما أمرنا به الله. ولأهمية الجسم في التربية الإسلامية فإننا مطالبين بالعناية بصحتنا وأجسامنا: "إن لجسدك عليك حقا". فهناك حق البطن على صاحبه يعتبر طهارة الجسم شرطا للعبادة. ونحن مطالبون بأن نجعل مظهرنا يتشرف الشاب بأن يأخذ زينته عند كل مسجد. وتخاطب
التربية الإسلامية حواس الإنسان وعقله، وتتحكم بها: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"، والإنسان مسؤول عن الحفاظ على حياته وجسمه ومحايثتها من الخطر.
وقد ورد عن النبي (ص): أنه قال: "كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة". وورد عن النبي (ص) أيضا قوله: "من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسي سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".
والتربية الإسلامية تربية للعقل. ويحتل العقل في الإسلام مكانا هاما، قل إن نجد له نظيرا في غيره من الشرائع. فهو أساس التكليف والاختيار والحساب، واعتبرت المعرفة والعلم بمثابة غذاء. العقل أساس التفاعل بين الناس. والتفكير، ومنطقيه العقل فرضية إسلامية. وهو ما حدا بخلاف العقليات الإسلامية بعباس العقاد أن يجعله عنوانا لكتاب من كتبه الخالدة. والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على إعمال النظر والتأمل والتفكر، وبينت الأمور بموازين العقل والمنطق، نبذاً لما يتنافى معها من خرافات وأباطيل وأوهام.
والتربية الإسلامية تربية نفسية، لأنها تخاطب عاطفة الإنسان ووجدانه وقلبه وضميره، وتتحكم بها. فمارنا ديننا بأن نربي أنفسنا على الفضيلة والخير، وحب الناس والتجرد من الأنانية، وحب الذات. وجعل الدين أساس الحساب على الأعمال ما استقر في النفس لا بما ظهر من السلوك. فمارنا ديننا بالتقشف، عزّة للنفس ورياضتها وتدريبها والتحكم فيها. بل لقد اعتبر ديننا جهاد النفس جهادا أكبر من جهاد الحرب والقتال. فقد ورد عن النبي (ص): "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
الصفحة 137
الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله ؟ .. قال جهاد النفس .
وهكذا تكون التربية الإسلامية تحريرا للعقل من الوهم والخرافات لأنها تخاطب العقل وتحتكم إليه والإسلام دين العقل والنظر والتفكير والتأمل كما ذكرنا . كما أنها تحرير للنفس من الخوف والعبودية . وتحرير للجسم من الخضوع للذات والشهوات
2- التربية الاسلامية تربية متوازنة
تحرص التربية الإسلامية على تحقيق التوازن بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة قال تعالى : " وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " ومن الأقوال المأثورة - اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . وهذا التوازن يميز التربية الإسلامية عن غيرها فهي ليست تربية صوفية أو رهبانية كما هي في المسيحية مثلا . فالتاريخ يحدثنا عن الرهبنة المسيحية ويشير إلى أهم قانون لها وهو قانون بنجديتك الذي حدد ثلاث التزامات لها هي : العفة والفقر والطاعة . ويتضمن التزام العفة نبذ العلاقة الزوجية والأسرية واستبدالها بروابط دينية روحية ويتضمن التزام الفقر التخلي عن الاهتمامات المادية والدنيوية . وعلى الفرد قبل دحولة الدير أن يتخلى عن كل ثروته وأملاكه للدير . ويتضمن التزام الطاعة التخلي عن كل قوة أو جاه أو سلطان والخضوع التام لنظام الدير . ومثل هذا النظام لا يقره الإسلام لأنه لا رهبنة في الإسلام. إن الإسلام يتطلب المحافظة على خمسة أمور هي : الدين والنفس والمال والعقل والنسل . وذلك لأن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تقوم على هذه الأمور الخمسة ولا تتوافر الحياة الإنسانية الكريمة إلا بها وتكريم الإنسان هو في المحافظة عليها . ( محمد أبو زهرة : ص ٨٦ ) .
إن الإنسان مطالب بأن يعمر الأرض - قال تعالى : " هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها - وهذا يعنى أن الأرض مجال نشاط الإنسان وحياته يسكنها ويعمرها ويسخر قواها ويستخرج ثرواتها ويستمتع بخيراتها وطيباتها . وما كان الله ليخلق الطيبات ثم يحرمها على الإنسان . قال تعالى : " قل من حرم زينة الله التي أخرج
الصفحة 138
لعباده، والطيبات من الرزق " . إن الدنيا في نظر الإسلام ليست للتكفير عن الخطيئة كما تذهب المسيحية وإنما هي لتعمير الأرض وتحقيق رسالة الإنسان وهي استخلاف فيها . قال تعالى : " وإلكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " . وقال تعالى : " وقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون " . وقد ورد عن النبي ﷺ : " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون " . إن حق النفس على الإنسان أن يروح عنها وأن يعطيها من الراحة والأمن والطمأنينة والغذاء والملبس والهدوء، في حدود ما أباحه الله .
لقد قال النبي ﷺ : " إن فهم الدين ليس إلا تعبدا وتهجدا وصياما وابتغادا عن النساء " . إني أخشاكم الله ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأتزوج النساء " . إن إرهاق النفس ولو في طلب العبادة لا يطلبه الإسلام ولا يرضاه لأن ما فيه مشقة فوق المعتاد لا يمكن المداومة عليه وقد ينقطع به الجهد عنه ( محمد أبو زهرة : ص 99 ) . وقد ورد عن النبي ﷺ قوله : " إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " . كما ورد عنه أيضا قوله : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .
بيد أن استمتاع الإنسان بالدنيا مرتبط باستثماره في الدار الآخرة لأن صلاح الدنيا من صلاح الآخرة . وقد ورد في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص 262 وص 21 . ذكر الدنيا والآخرة في القرآن الكريم بعدد متساو هو 115 مرة . مما يؤكد التوازن بين الدنيا والآخرة في الإسلام . والله في خلقه شئون . قال تعالى : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " . وقد ورد عن النبي ﷺ قوله : " اللهم أصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي " . إن التربية الإسلامية ليست مادية فحسب أو روحية فحسب وليست دنيوية فحسب أو أخروية فحسب وإنما هي وسط بين كل ذلك . وهذا الموقف الوسط أو المتوازن للتربية الإسلامية يجعلها أقرب ما تكون إلى طبيعة الأشياء فخير الأمور
الصفحة 139
الوسط .. وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما يجعلها أيضا مراعية لطبيعة الإنسان وفطرته التي فطر الله الناس عليها .. وهو ما سنفصل الكلام عنه فيما بعد
3- التربية الاسلامية تربية سلوكية عملية
فهي لا تكتفى بالقول وإنما تتعداه إلى العمل والممارسة ونحن إذا نظرنا إلى المبادئ الرئيسية الخمسة التي بني عليها الإسلام نجد أنها تتطلب سلوكا عمليا فالشهادة بوحدانية الله ونبوة محمد - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان كلها تتطلب سلوكا عمليا . ومن تمام كمال الإنسان المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله . كما اهتمت التربية الإسلامية بتكوين العادات السلوكية الحسنة عند الفرد منذ لطفولته الأولى لما في العادات من أثر طيب في اكتساب الفضائل والبعد عن الشرور والرذائل . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . كما أن الأعمال بالنيات ولكل المرء ما نوى .
4 - التربية الإسلامية تربية فردية واجتماعية معا
تقوم التربية الإسلامية على تربية الإنسان تربية فردية ذاتية فهي تربية على الفضيلة ليكون مصدر خير لجماعته وتحمله مسئولية أعماله وتصرفاته. فكل امرى، بما كسب رهين . وكل مسلم راع وهو مسئول عن رعيته . وفى نفس الوقت يربي الإسلام الفرد تربية اجتماعية . فالمسلم أخو المسلم . والمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . ومثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسم إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى . وهي تربية تجرد الفرد من روح الأنانية البغيضة .. لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه . .. " ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " .
وتؤكد التربية الإسلامية على أهمية القدوة والوسط الاجتماعي في تنشئة الفرد . واهتمت بتكوين العادات الحسنة منذ النشأة الأولى للطفل لمخالطته للنماذج الطيبة وإبعاده عن قرناء السوء ، فمثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسلك ونافخ . كما اهتمت أيض بالوسط الأسرى الاجتماعي كعامل هام في تربية الفرد
الصفحة 140
فالإنسان يولد على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .
وقد اتجه الإسلام إلى إقامة مجتمع قوي بأفراده ويقوم على أساس العدل والمصلحة العامة . ولتحقيق هذه الغاية السامية اتجه الإسلام إلى تربية الفرد وتهذيبه ليكون مصدر خير لأمته . كما اهتم بإقامة العدل في الجماعة الإسلامية . والمسلمون يتساوون في أخوة الإسلام في رفع الظلم بينهم . فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه . وأمرنا الإسلام بالعدل في المعاملة وأن نعامل الناس بما نحب أن يعاملونا به . كما أمرنا بالعدل في الأحكام والقضاء والشهادة وغيرها . ويرى بعض علماء المسلمين أن أجمع آية لمعاني القرآن قوله عز وجل " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " . وهكذا تهتم التربية الإسلامية بتربية الفرد ليكون مصدر قوة وسعادة لنفسه ولأمته على السواء .
5 - التربية الإسلامية تربية لضمير الإنسان
ضمير الإنسان هو الموجه لسلوكه والرقيب على أعماله . وقد حرصت التربية الإسلامية على تربية هذا الضمير ليكون حيا يقظا في السر والعلانية كما أشرنا . قاله رقيب على تصرفات الإنسان حيثما كان . وطي الإنسان أن يعبد الله كأنه يراه " . والله يعلم السر والجهر ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " . قال تعالى : " ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم " . والضمير الحي خير عاصم للإنسان من الزلل وقوة كبيرة لحفزه على العمل . وعندما يعرف الإنسان أن هناك ربا يحاسبه على أعماله وأنه رقيب عليه حيث كان فإنه يفكر في كل عمل قبل أن يقدم عليه . وتربية الضمير تربية لإرادة الإنسان بحيث يصبح متحكما في تصرفاته ولا يكون رهين نزواته وشهواته . وفي تكوين الضمير لجأ الإسلام إلى أسلوب الثواب والعقاب وهو أسلوب يتمشى مع طبيعة النفس الإنسانية .
6- التربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان وإعلاء لخصائصه
تقوم التربية الإسلامية على التسليم بفطرة الطبيعة الإنسانية وأن الإنسان يولد بطبيعة إنسانية فطرية محايدة . وقد ورد عن النبي ﷺ : " ما من مولود إلا
الصفحة 141
ويولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . ويقول الله عز وجل : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " .
والتربية الإسلامية هي تربية لهذه الفطرة الإنسانية وهي تعمل على تنمية الميل الفطري لدى الإنسان في معرفة ما يجهل وتستثمر حب المعرفة والبحث عن المجهول لديه . وقد استخدم الإسلام كل وسيلة ممكنة للوصول بهذا الميل الفطري إلى مرتبة الشغف بالعلم والتلهف الشديد المستمر لمعرفة ما في الوجود من معارف وأسرار .
والتربية الإسلامية تربية لفطرة الإنسان لأن الإسلام دين الفطرة وكل أوامره ونواهيه وتعاليمه تعترف بهذه الفطرة وتتمشى معها ولا تخالفها . واعترفت التربية الإسلامية من ناحية أخرى بجوانب الضعف في الطبيعة الإنسانية ولم تحملها فوق طاقتها وقد ورد عن النبي ﷺ - قوله : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . وأساس التكليف في الإسلام الاستطاعة فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
والتربية الإسلامية في تربيتها لفطرة الإنسان تتمشى مع روح الإسلام التي تقوم في أساسها على التوسط والاعتدال . فخير الأمور الوسط . وقد أمرنا ديننا بالابتعاد عن الإسراف فالله لا يحب المسرفين ، قال تعالى : " كلوا واشربوا ولا تسرفوا . " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " . " ولا تمش في الأرض مرحا . " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " . " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " . وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين روح التوسط في الإسلام . وتسمو التربية الإسلامية بالإنسان وتحلق من شأنه باعتباره خليفة الله في الأرض . ولهذا كرم الله بني آدم وفضله على كثير من خلقه " ولقد كرمنا بني آدم " . إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " . ويقتضي هذا السمو إعلاء لغرائز الإنسان حتى لا يكون عبدا لهذه الغرائز وينحط إلى مستوى الحيوان . ونحن نستخدم كلمة الغرائز هنا لنعني الدوافع الفطرية في الإنسان . وقد عنيت التربية في الإسلام بلين تنشئ الفرد على التحكم في رغباته وعجم الانسياق وراء
الصفحة 142
شهواته ونزواته . فموقف الإسلام الاعتدال والتوسط كما أشرنا . ويمكننا أن ننظر إلى الصوم على أنه إعلاء لشهوة الطعام عند الإنسان . كما أن الصوم أيضا إعلاء لشهوة الجنس لديه . وقد ورد في الحديث " من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " . أي حماية وعصمة من الخطأ والانسياق وراء النزوات .
وطريقة الإسلام في الإعلاء لغرائز الإنسان ودوافعه تقوم على أساس وضع معايير وأهداف عليا للحياة الإنسانية وتكوين الإرادة القوية . وهي عملية تدريب على الضبط الإرادي للإنسان وتحكمه في شهواته وبواعث الهوى لديه والتحكم في عواطفه ومشاعره بقوة الإرادة . فلا يسلم نفسه للغضب فيسير بسيطرة عليه ولا يلتذ بمتعة فيه ولا الرغبة في الانتقام تتسلط عليه . كما تعود الإنسان على القيام بالأعمال الصالحة ويشغل وقت فراغه بطريقة مفيدة بناءة فيما يفيده ويعود عليه بالنفع إما بالعمل أو العبادة أو التسلية التي لا ضرر فيها وبالأمور المباحة مثل الرياضة الجسمية والعقلية .
ويفكر الإنسان بتسليم أن يغلب العقل على الهوى . فإذا استخدم الإنسان عقله تغلب به على الهوى والعكس صحيح . وفي ذلك يقول الإمام الغزالي : " الفكرة مترددة بين الشهوة والعقل . العقل فوقها والشهوة تحتها . فمتى مالت الفكرة نحو العقل ارتفعت وشرفت وذاقت الحلاسن ، وإذا مالت إلى الشهوة تسفلت إلى أسفل السافلين وذاقت القبائح " . ( الغزالي : 1963 ، ص 56 ) . قال تعالى وهو أصدق القائلين : " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " .
7 - التربية الإسلامية تربية موجهة نحو الغير
ذلك أن مجيء الإسلام كرسالة كان من أجل الرحمة بالبشر ، وقد خاطب سبحانه وتعالى نبيه بقوله : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " . إن التربية الإسلامية موجهة لما فيه خير الفرد والمجتمع فهي توجه الإنسان إلى الفضيلة بالالتزام بالخلق الكريم والتحلي بجميل الصفات ومعاملة الناس بالحسنى " فالدين المعاملة " . وحث الإسلام المسلمين على الخير وكل ما فيه سعادة الناس جميعا وجعل حب الخير للآخرين من تمام
الصفحة 143
الإيمان " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . كما اهتم بتنمية نزعات الخير في الإنسان من تعاطف وتراحم وتواد وتآخ وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر . ومثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " . ويقول الغزالي : ( المستصفى جـ ١ ص 287 ) . أن جلب المنفعة ودفعه المضرة مقاصد الحق ومصالح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكننا نعني بالمصلحة ما هو مقصود الشرع من الخلق الخمسة . وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة . وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة " . وجعل الإسلام مصالح العباد من أفضل العبادات . يقول عليه الصلاة والسلام : " الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله " . وقال الشاعر في نفس المعنى :
الخلق كلهم عيال الله تحت سمائه
وأحبهم طرا إليه أبرهم بعياله
والتربية الإسلامية تقوم على إقامة العدل في المجتمع الإسلامي . ولإقامة العدل جوانب متعددة منها العدل في المعاملة " عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به " . ومنها العدل في القضاء فالمسلمون سواء أمام أحكام الشرع . لا فضل لغني على الفقير ولا قوي على ضعيف ولا لعربي على عجمي . ومنها العدل الاجتماعي فالقوي يساعد الضعيف ، والغني يساعد الفقير بل وفي أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم .
ومن العدل أيضا التساوي بين الناس في الحقوق والواجبات ، ومن هذه الحقوق حق العمل وحق التعليم . وفي تفسير ما يتعلق بالتعليم قال بعض فقهاء المسلمين إنه يجب أن يكون التعليم على ثلاث مراحل . المرحلة الأولى : فرض عين فيها يتعلم كل شباب الأمة الإسلامية . فمن كان يستطيع بكفالة فكرية كشفتها تلك المرحلة أن يدخل الثانية دخلها . ومن وقت كفالة الفعلية عن الدخول فيها وقف عند فرض كفاية تحتاج إليه الجماعة . إن الأمة في حاجة إلى عمال يبدعون ونزاع يفلحون ويقومون على الثغرات وإلى مهروبين في الصناعات المختلفة التي لا تحتاج إلى تفكير كثير وإنما إلى
الصفحة 144
أيد ماهرة كسبت مهارتها بالتمرين والعمل. والذين اجتازوا المرحلة الثانية ينبوغ يخلدون المرحلة العليا وهي الثالثة. ومن وقف دون الدخول في هذه الأخيرة وقف عن فرض كفاية فإن الجماعة المحتاجة إلى ذوي ثقافات متوسطة ليشرفوا على الأعمال ويديروا نظامها. ومن اجتازوا المرحلة العليا كان منهم قادة الفكر والمخترعون وبمقدار قواهم الفكرية وبمقدار عددهم تكون قوة الأمة الإسلامية وعظمتها المادية والروحية. فالاستيعاب في هؤلاء بقواهم لا بالإعداد الكثيرة (محمد أبو زهرة : ص ٨٤). إن إحدى الغايات الرئيسية المنشودة في التربية الإسلامية غاية أخلاقية تقوم على تربية الإنسان الخير الذي يحيا حياة خير بعيدة عن الشر والأذى على المستوى الفردي والاجتماعي.
8 - التربية الإسلامية تربية مستمرة
فهي تربية لا تنتهي بفترة زمنية معينة ولا بمرحلة دراسية محددة وإنما تمتد على طول حياة الإنسان كلها. فهي تربية من المهد إلى اللحد. وهي تربية متجددة باستمرار تنمي شخصية الفرد وتثرى إنسانيته. كما أنها تأخذ به إلى الأمام في طريق النمو والتقدم المستمرين.
إن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة. فهي تتغير وتتطور ولابد للإنسان أن يساير هذا التطور وإلا تخلف عن ركب الحياة. والإسلام يساير التطور باستمرار لأنه صالح لكل زمان ومكان ولأنه يستند إلى كتاب أحكمت آياته وفصلت. والشريعة الإسلامية مطاوعة لكل زمان ومكان ومتماشية مع كل عصر وذلك لتطور الأحوال ونزولها على مصالح الناس واحتياجاتهم المتجددة. والتربية الإسلامية هي انعكاس صادق لهذا التطور المستمر. وقد ورد عن علي بن أبي طالب قوله : " علموا أولادكم غير ما علمتم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم ".
وفي الإسلام ليس هنالك نهاية أو سن محدودة لطلب العلم. ويقول الزرنوجي في " تعليم المتعلم طريق التعلم " إنه لا عذر لصحيح الجسم والعقل في ترك طلب العلم مهما كان عمره . وسئل أبو عمرو ابن العلاء حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم ؟ أجاب : ما حيي.
الصفحة 145
دامت الحياة . وسئل حكيم : ما حد التعلم ؟ فأجاب : حد الحياة . ويرى ابن قتيبة أنه " لا يزال المرء عالما ما طلب العلم . فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل ". والحكمة ضالة المؤمن ينشدها حيثما كانت وما دامت فيه الحياة . وقد أشرنا إلى الرحلة في طلب العلم في الإسلام في مكان آخر من مؤلفاتنا المفصلة عن التربية الإسلامية .
9 - التربية الإسلامية تربية متدرجة
قلنا إن هدف التربية في الإسلام بلوغ الكمال الإنساني بالتدريج . وهذا التدرج صفة مميزة للتربية الإسلامية . ذلك أن التربية الأخلاقية تقتضي الفرد بالتدرج . وقد كان الإسلام نفسه في أول أمره تربية متدرجة للعرب . فقد نزلت آياته وأحكامه بالتدريج لفترة تزيد قليلا عن ثلاث وعشرين سنة . ويعتبر التدرج في التربية الأخلاقية أساسا من الأسس المعروفة في التربية الإسلامية . فالتربية نفسها عملية أخلاقية واكتساب الأخلاق بما فيها التحلي بالفضائل والترفع عن الرذائل عملية تحتاج إلى وقت حتى يكتسب الإنسان السلوك المطلوب والعادة المرغوبة . إن الإسلام في تربيته للمسلمين الأوائل لم ينتقل بهم طفرة من أخلاقهم القديمة إلى الأخلاق الإسلامية الجديدة . إنما تدرج معهم في الأمور حتى تغلبت نتائجها وثمارها .
وهكذا لم يكلف المسلمون في أول عهدهم بما يشق عليهم فعله أو تركه . وسلك الإسلام بهم سبيل التدرج والرفق حتى يتهيؤوا للتكليف فالصلاة مثلا في أول الأمر لم تفرض عليهم خمس مرات في اليوم بل طلبت منهم صلاة بالغداة والعشي . ولم تفرض عليهم الزكاة والصيام إلا بعد الهجرة بسنة . وكان التكليف قبل ذلك بما استطاعوا من صدقة أو صوم . ومن المعروف أيضا أن تحريم الخمر على المسلمين تم على مراحل وبعد أن تدرج القرآن معهم حتى انتهى بهم إلى تحريمه بطريقة طبيعية . ولم يحرم عليهم الميسر وكثيرا من عقود الزواج والربا والمعاملات التي كانوا يتعاملون بها في جاهليتهم إلا بالمدينة . (عبد الوهاب خلاف : ص 289 ) .
وقد اهتم الإسلام بتوفير المناسبات المناسبة لتنشئة الخلف الصالح فما كان يتغير منذ البداية انطفأ فلن يرع دسائس . كما طالبنا باختيار الزوجة الصالحة
الصفحة 146
المتدينة لأنها أساس تربية الأبناء . وقال رسول الله . - ( ما ورث والد ولدا خيرا من أدب وحسن ) وقد اهتم الإسلام بتنشئة الطفل منذ ولادته . ويشير الغزالي إلى أهمية المرضعة وأثر لبنها على أخلاق الطفل الرضيع ، فيقول : " فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه فإذا وقع عليه نشوء الصبي تعجنت طينته من الخبث فيميل طبعه إلى ما يماثل الخبائث : ( الغزالي ، إحياء علوم الدين حـ ۳، ص ۷۲ ) . وقد ورد عن - قوله : - لا تسترضعوا الورقاء أي الحمقاء. ويقول ابن سيناء - فإذا فطم الصبي عن الإرضاع بدى بتأديبه وریاضته قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة . وتفاجئه الشيم النميمة .. فإن الصبي تبادر إليه مساوى. وتنال عليه الضرائب الغبينة فما تمكن منه من ذلك غلب عليه فلم يستطع له مفارقة ولا عنه نزوعا .. فينبغي لمعلم الصبي أن يجنبه مقابح الأخلاق وينكب عنه معايب العادات بالترغيب والترهيب بالإيناس والإيحاش وبالإعراض والإقبال وبالحمد مرة وبالتوبيخ أخرى ما كان كافيا " ( ابن سينا : السياسة : ص 12 ) .
ويميز علماء المسلمين بين مرحلتين رئيسيتين في التربية الأخلاقية للطفل المرحلة الأولى ويسمونها بمرحلة " التخلية " أي تظلية طبع الطفل من كل رذيلة وإبعاده عن كل مؤثرات الشر والسوء وعدم مخالطته القرناء السوء . فقد نهانا الرسول عن قرناء السوء فقال : إياك وقرين السوء - وقال لا تصاحب الفاجر فتتعلم منه فجوره " . وقال : " والرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخال . . أما المرحلة الثانية فهي مرحلة · التحلية " والتزكية ويقصد بها تحلية الطفل بالفضائل الكريمة والأخلاق المحمودة عن طريق تشريه لهذه الأخلاق واكتسابه العادات الحسنة من مخالطته القدوات الصالحة . والمسلم الكامل هو الذي اكتملت أخلاقه بإكمال دينه وإيمانه . يقول الرسول - ( خيركم إسلاما احسانكم أخلاقا إذا فقهوا ) . وقد اهتم المربون المسلمون بضرورة مراعاة التدرج في التعليم ويقول الغزالي في ذلك إن أول واجبات المربى أن يعلم الطفل ما يسهل عليه فهمه لأن الموضوعات الصعبة تؤدى إلى ارتباكه المقلى وتنفره من العلم . ويطالب الغزالي المعلم الا يخوض في العلم دفعة واحدة بل يتدرج فيه مع مراعاة الترتيب ويبتدئ بالأهم وكذألك ينبغي عليه ألا يخوض في علم
الصفحة 147
إلا بعد أن يستوفي ما قبله فالعلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طريق بعض .
ونادي ابن خلدون بما نادی به سابقوه من مراعاة التدرج في تعليم الصبيان ومراعاة قدراتهم . إلا أنه يتميز عن سابقيه فيما ذهب إليه القول بمبدأ التكرارات الثلاثة في عمليات التعليم . وتشير هذه التكرارات إلى ثلاث مراحل متدرجة في التعليم . يكون التعليم في المرحلة الأولى إجمالا وفى الثانية تفصيلا وفي الثالثة تعميقا بدراسة ما استشكل في العلوم ووسائل الخلاف فيه . ويقول ابن خلدون في ذلك : إن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا . يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن . وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة . وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها . ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفلة . فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته . هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات . وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك حسب ما يخلق لي ويتيسر له
ويعيب ابن خلدون على المعلمين الذين يجهلون الطريقة الصحيحة للتعليم وأنهم يقدمون للمتعلم في أول عهده بالتعليم المسائل الصعبة أو المشكلة مما يعوق تعليمه يقول ابن خلدون في المقدمة :
وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طريق التعليم وإفادته . ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصوابا فيه فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا . ويكون المتعلم في أول الأمر عاجزا عن الفهم
الصفحة 148
بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثلة الحسية " .
10 - التربية الاسلامية تربية محافظة مجددة :
التربية الإسلامية تربية محافظة مجددة . فهي محافظة بما تقوم عليه من مبادئ سماوية خالدة راسخة ثابتة . وقيم أصيلة عريقة تمتد بجذورها في التاريخ إلى ما يقرب من أربعة عشر قرنا من الزمان . وتعمل التربية الإسلامية على استمرار هذه المبادئ والتقاليد والقيم ونقلها إلى الأجيال الاسلامية المتعاقبة .. وهي بهذا تقوم بالدور الأصيل للتربية في التنشئة الاجتماعية للأفراد وتشكيل شخصياتهم الإنسانية الإسلامية ليشبوا مسلمين . ولكن التربية الإسلامية ليست تربية محافظة فحسب وإنما هي تربية أيضا مجددة .. فالإسلام صالح لكل زمان ومكان والمسلمون تتجدد أحوالهم بتجدد ظروف هذا الزمان والمكان . ولذلك كان على التربية الإسلامية أن تكون متجددة لتواجه متطلبات العصر ولتقى بالمطالب المتجددة لحاجات المسلمين ومصالحهم على مر العصور والأزمان .
11 - التربية الإسلامية تربية إنسانية عالمية
فهي تربية بعيدة عن التعصب أو التمييز العرقي أو الاجتماعي . فلا شعوبية في الإسلام ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وصالح العمل . قال تعالى : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . وورد عن النبي - - : ( كلكم لأدم وآدم من تراب ) . وهي تربية لا تختص بها فئة من الناس ولا تقتصر على طبقة مميزة دون طبقة وإنما هي تربية يتساوى فيها الجميع ويكون التفاضل بينهم على أساس التقوى والإيمان وصالح العمل لا الحسب والنسب والجاه .
والمسلمون متساوون في العبودية المطلقة الله عز وجل . وقد الزم الإسلام نبيه بالعدل " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . . كما أمره بالمساواة في المعاملة بين الناس دون أي تمييز فالمسلمون سواء في الحقوق أو التكاليف والمسئوليات . ويقول
الصفحة 149
عليه الصلاة والسلام : المسلمون تتكافا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم حرب على من سواهم . والتربية الإسلامية تربية إنسانية لأنها تقوم على أخوة الإيمان . إنما المؤمنون أخوة " . " والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره " ، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ومن كل عرق ولون ولغة أعضاء في الأسرة الإسلامية الواحدة يؤلف الإسلام بين قلوبهم ويجمعهم على قلب رجل واحد في جسد واحد . وهي تربية عالمية لأن الإسلام رسالة عالمية جاءت للناس كافة وعالمية الرسالة الإسلامية تعنى أيضا عالمية التربية الإسلامية .
اساليب التربية الإسلامية
يقوم منهج التربية الإسلامية على أساليب متنوعة بحسب مناسبتها لتحقيق الفرض المطلوب منها . على أن هذه الأساليب تتكامل فيما بينها لتناسب كل المواقف وتتكيف حسب الأغراض . ومن أهم هذه الأساليب :
ا - أسلوب القدوة الصالحة
للقدوة الصالحة أهمية كبرى في تربية الفرد وتنشئته على أساس سليم لاسيما في الفترة الأولى من حياة الإنسان حتى مرحلة النضج والبلغ فالطفل منذ ولادته يكتسب ألوان السلوك من خلال تقليده ومحاكاته للآخرين . ويتوقف ما يكتسب الطفل من عادات مرغوب فيها أو غير مرغوب فيها على نوع القدوة التي نعرض لها في تربيته وهذا يؤكد أهمية القدوة في تحديد سلوك الإنسان والعادات التي يكتسبها . وتؤكد التربية الإسلامية أهمية أسلوب القدوة الصالحة في تنشئة الاجيال الإسلامية تنشئة سليمة يتحقق معها الخير لأنفسهم والمسلمين جميعا . وقديما قال الشاعر العربي : وكل قرين بالمقارن يقتدى . وقال آخر :
وينشأ ناشيء الفتيان منا
على ما كان عوده أبــــــــــــو
الصفحة 150
وقد دعانا الإسلام إلى الاقتداء بالرسول نبينا الكريم . لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا . . وضرب الرسول عليه السلام مثل الجليس الصالح والجليس السوء وشبههما ببائع المسك ونافخ الكير وهذا يعني أن نتغير لأبنائنا ولأنفسنا القدوة الصالحة التي يكون في تقليدها الخير والمنفعة والابتعاد عن مخالطة قرناء السوء تجنبا للشر ودفعا للمضرة . كما يجب أن يكون الأبوان في المنزل والمعلمون في المدرسة نماذج طيبة في السلوك حتى يساعدوا الناشئة على تشرب العادات الإسلامية الطيبة منذ نعومة أظفارهم. وينبغي أن يدرك المعلمون ذلك تماما وأن يتعدوا حدود النظرة الضيقة التي تحدد ميدان تأثيرهم على تلاميذهم في مادة تخصصهم التي يدرسونها لهم .
2 - اسلوب الترغيب والترهيب
يعتبر أسلوب الثواب والعقاب من الأساليب الطبيعية التي تستند اليها التربية في كل زمان ومكان . فهذا الأسلوب يتمشى مع طبيعة الإنسان حيثما كان وأيا كان جنسه أو لونه أو عقيدته . فالإنسان يتحكم في سلوكه ويعدل فيه بمقدار معرفته بالنتائج الضارة أو النافعة والسارة أو المؤلمة التي تترتب على عمله وسلوكه . والتربية الإسلامية تستخدم أسلوب الترغيب والترهيب لما له من أهمية بالغة في التنشئة الصالحة لأبنائنا . فأسلوب القرآن الكريم في تصوير الجنة ونعيمها والنار بأهوالها وعذابها إنما هو أسلوب مناسب لطبيعة الإنسان التي تسعى دائما وراء المنفعة وتبتعد ما أمكن عن المضرة . وهكذا يصبح الجزاء من جنس العمل . وهو مبدأ منطقي لا يستطيع أحد أن يجادل فيه يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " .
والأباء في تعاملهم مع أبنائهم والمعلمون مع تلاميذهم بل والمجتمع الإسلامي الكبير يستخدم هذا الأسلوب التربوي على أوسع نطاق . بيد أنه ينبغي أن نشير إلى أن الأسلوبين وإن كانا لازمين في الاستخدام لتفاوت طبائع الناس واختلافهم في الامتثال للأصول والقواعد الإسلامية لا يتساويان في قيمة الأثر الذي يحدثه كل منهما . فأسلوب
الصفحة 151
الترغيب أفضل من أسلوب الوعيد والترهيب لأن الأسلوب الأول إيجابي ويأثر بالله لأنه يعتمد على استثارة الرغبة الداخلية للإنسان في حسن أن الأسلوب الثاني سلبي وتأثيره مؤقت لأنه يعتمد على الخوف. وقد ضرب الله لنا مثلاً بينه وإن كان يحاسب الناس على ذنوبهم يترك الباب مفتوحاً أمامهم للتوبة والعودة إلى الله " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ". " إن الله يحب التوابين ". وفي حين أن الله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنات لأصحابها فإنه يتجاوز عن السيئات في الحدود التي أوضحها لنا ويكون استخدام العذاب أو العقاب بعد أن تكون الأساليب الأخرى من نصح وهداية وإرشاد قد عجزت عن أن تحقق المطلوب منها. وهذا يعني أن الأصل في التربية الإسلامية هو أسلوب الترغيب بصورة أكثر " قل ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ". إن الإنسان معرض للخطأ والوقوع فيه. فجل من لا يخطئ، ومن منا كملت صفاته؟ ولذلك نجد أن الأسلوب الإصلاحي للتربية الإسلامية يفتح الباب أمام العودة إلى الطريق السليم. وفي هذا صلاح للمذنب أو المخطئ، ولا تمادي في خطئه. قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ". وفي الحديث الشريف " كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ".
3- أسلوب الموعظة والنصح
وهو من الأساليب المعروفة في التربية الإسلامية وله تأثيره الحسن في النفوس. لأنه يتطرق إلى النفس الإنسانية من مداخلها الحقيقية. ويجعل الناصح في نظر المنصوح شخصاً طيباً النوايا حريصاً على المصلحة. ومن هنا يكون لكلامه قبول حسن. ويكون هذا الأسلوب فعالاً ويؤتي ثماره عندما يكون النصح صادراً من القلب. لأن ما يصدر عن القلب يصل إلى القلب. وفي القرآن الكريم عظات كثيرة " إن الله نعما يعظكم به ". بل إن القرآن كله موعظة وهدى ورحمة للمؤمنين. وفي أسلوب العظة والنصح مجال كبير للمعلّمين في توجيه طلابهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم وإلى ما فيه رقي مجتمعهم وأمتهم. إلا أنه ينبغي على المعلم أن يكون لبقاً في نصحه وأن يبتعد عن أسلوب الأوامر والنواهي على طريقة افعل كذا ولا تعمل كذا. فإن هذه
الصفحة 152
الطريقة إلى جانب أنها قد تكون منفرة للمتعلم لا تحقق الهدف المنشود منها . وأولى للمعلم أن يستخدم الأسلوب غير المباشر في النصح والتوجيه كأن يستعين بالقصص . والقصص كما هو معروف أثر في النفوس . ويمكن أن تتضمن القصة المغزى الاخلاقي أو التربوي المرغوب . وقد جاء القرآن الكريم بالقصص المعلمة ذات المغزى " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " و " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " .
ويمكن للمعلم أيضا أن يستعين بدروس من التاريخ وما فيه من عظات وعبر . فكم من لمم هوت لفساد أخلاق أبنائها وكم من حضارات انهارت لتفكك مجتمعاتها وانحلالها . وكم من أناس هلكوا لطغيانهم وكفرهم وغير ذلك من الدروس التاريخية التي يمتلئ بها القرآن الكريم وكتب التاريخ.
4- اسلوب المحاورة والمناقشة
من الأساليب التي تقوم عليها التربية الإسلامية في توجيه الإنسان نحو الحق والخير أسلوب المحاورة والمناقشة والإقناع والاقتناع عن طريق العقل والمنطق ، والقرآن الكريم مليء بالأمثلة التي تؤكد أهمية الصفة العقلية للإنسان . وعلينا كمسلمين أن نستخدم عقولنا في التمييز بين الصواب والخطأ وبين الصالح والطالح من الأمور . وقد ضرب الله مثلا لرسوله الكريم بأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة " لا إكراه في الدين " .
ويتضمن أسلوب المحاورة والمناقشة في التربية الإسلامية ضرورة تعريف الناشئة بالأساس العقلاني والمنطقي لأي قضية مطروحة أمامهم وألا يرددوا المعلومات ترديدا اعمى دون فهم لمضمونها الحقيقي أو دون إدراك لارتباطها بواقعهم الفردي والاجتماعي . كما يجب أن تتاح لهم الفرصة للمناقشة الجادة البناءة التي تحلل أبعاد الموضوع المطروح للمناقشة وتلقى الضوء على جوانبه المختلفة . ومن الطرق التي يمكن أن يلجأ إليها المعلم لإقناع التلاميذ في الأمور الدينية لاسيما في الغيبيات أن يوضح لطلابه أن هناك أنواعا مختلفة من المعرفة من بينها المعرفة الدنية الغيبية والنقل عن
الصفحة 153
السلف الصالح ، وأن هذا اللون من المعرفة قد يقصر عقل الإنسان عن فهمه وتصوره وما أكثر الأمور التي تبين ذلك حتى في ميدان العلم الطبيعي أو التجريبي . والكون من حولنا مليء بالظواهر التي لا نراها ولا نحسها ولا نسمعها . ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها ومن أمثلتها الموجات الصوتية والضوئية . وهناك كائنات متناهية في الصغر لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة . وهناك أصوات متناهية في الدقة مثل دبيب النمل لا يمكن سماعه بالأذن العادية . وهذه أمور موجودة لم يكن يعلم الإنسان من قبل عنها شيئا . وقد يصعب على العقل مثلا تصور اختراق الأشعة السينية للأجسام الصلبة . وليس من الضروري أن تستدل على الشيء بوجوده المباشر وإنما عن طريق آثاره فقديما قالوا البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير
ومظاهر إبداع الكون تدل بالتالي على عظمة خالقه . والعلم الحديث يأخذ بهذا الأسلوب من التفكير . فالطاقة مثلا هي موضوع علم الطبيعة برمته ومن الصعب تعريفها تعريفا مباشرا إلا من خلال آثارها التي تحدثها أو من خلال ما يعرف بالتعريف الإجرائي الذي يعرف الظاهرة بإجراءاتها وعملياتها التي تتضمنها . ونحن في التربية لا نعرف على وجه التحديد ماذا يحدث في عقل الإنسان نتيجة لعملية التعلم . نحن نسلم بأن الإنسان يتعلم الوانا من المعارف والسلوك والمهارات أما كيف يحدث هذا التعلم في الإنسان وما الأثر الذي يحدثه في عقله ؟ فهذا اجتهاد للنظريات التي تحاول تفسير التعلم عند الإنسان
.
والحياة نفسها فيها المعقول واللامعقول . ونحن نرفض قبول الجانب اللامعقول فيها عندما نفكر بطريقة عقلية منطقية . ومع ذلك نحن نعيش هذا الواقع ونتأثر به كم منا مثلا من يسلم علميا أو منطقيا بما يقال أحيانا " من عاش بالصحة مات بالمرض " أي أن من يعيش ملتزما تماما بالأصول الصحية لابد وأن يموت مريضا . ومع ذلك فإن الحياة قد تظهر لنا في بعض الأحيان أنه أحد قوانينها . والنظرية العلمية نفسها ليس خالدة وكم من نظريات العلم التي سادت التفكير في فترة ما ثبت خطوها أو عدم صحتها فيما بعد. وأرجو الا يفهم من ذلك أننى أشكك في العلم أو أقلل من أهمية منجزاته فإنني أردت من كلامي السابق أن أبين اختلاف أساليب الإقناع وأن
الصفحة 154
العقل الإنساني نفسه محدود والإنسان قد يصل إلى الإقناع العقلي ذلك يكون أسيرا لعادة تحكمت فيه . فكثير منا مثلا مقتنع بمضار التدخين ومع ذلك لا يستطيع أن يمتنع عنه . وقد يكون الإنسان مقتنعا بشيء من الناحية العقلية المنطقية لكنه غير مقتنع من الناحية العاطفية أو الوجدانية مما يحول بينه وبين السير في الطريق الذي يمليه التفكير العقلي أو المنطقي . ويبدو هذا الأمر بوضوح في المسائل التي تتصل بعواطف الإنسان . ولذلك تهتم التربية الإسلامية بتربية الإنسان المسلم تربية سليمة تمكنه من التحكم في عواطفه والسيطرة عليها والبعد به عن التعصب الأعمى - ويجب أن يهتم المعلم في اقناعه لتلاميذه بالأساس العقلي الذي يساعد تزكية العواطف النبيلة لدى الإنسان ومثله العليا في الحق والخير والجمال .
والواقع أن المربين المسلمين قد اهتموا بأسلوب المناظرة والحوار في التدريس واعتبروه أسلوبا مفضلا مجديا في التعليم . يقول الزرنوجي إن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بأكمله في الحفظ والتكرار . ويؤكد ابن خلدون أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب ويشير إلى أن " ملكة العلم " إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم . وهو يعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسئولة عن تكوين أفراد ضيق الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئا ذي بال في العلم .
وقد احتاط المربون المسلمون من سوء استخدام أسلوب المناظرة والحوار بأن وضعوا له بعض الشروط التي تجعل منه أسلوبا فعالا للتعلم والبحث العلمي من أهمها أن يكون هدف المناظرة الوصول إلى الحقيقة لا التضليل وحب الانتصار بالباطل . كما يشترط في المتناظرين الإلمام بموضوع المناظرة والتحلي بالهدوء وسعة الصدر وعدم التكلف وغيرة الصدر . ومع أن أسلوب المناظرة هو أقرب إلى الدراسات العالية فإننا نجد صورة مبسطة منه في أسلوب الحوار والنقاش الذي يديره المعلم مع تلاميذه ليحفزهم على التفكير .
الصفحة 155
5 - اسلوب المعرفة النظرية
يعتبر أسلوب المعرفة النظرية من أقدم وأشيع الأساليب المستخدمة في التربية . وهو يعتبر من الأساليب التي تقوم عليها التربية الإسلامية . والمعرفة والعلم قيمة حقيقية في الإسلام فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون بصرف النظر عن ماذا يعلمون . وقد أشرنا في مكان آخر إلى أن الإسلام اعتبر العلم طريقا لطاعة الله وخشيته . كما ا سبق لنا أن بينا بالتفصيل مكانة العلم في الإسلام .
والمعرفة النظرية مهمة في حد ذاتها لأنها تنمى عقل الإنسان وفكره وتساعده على تكوين خلفية ثقافية تمكنه من التعامل مع مجتمعه وتساعده على القيام بدور المواطنة الصالحة فيه . ولقد تعالت الصيحات من جانب المربين يتساطون حول جدوى المعرفة النظرية وانتقدوا التعليم المعاصر لأنه تعليم لفظي نظري يفتقر إلى مغزاه الوظيفي والتطبيقي ، وقد ترتب على ذلك عزلة التعليم عن مجتمعه ونفور الطلاب في بعض الأحيان منه وعزوفهم عنه . وقد حدا هذا الوضع ببعض المربين إلى وصف المعلمين بأنهم أناس يحاولون أن يعلموا أناسا آخرين أشياء لا يرغبون في تعلمها . وقد يكون في هذا الأمر بعض المبالغة التي تغلف ما في هذه الدعوى من صحة . ولكن ذلك لا يقلل بلى حال من الأحوال من المعرفة النظرية . ولن يكف التعليم المدرسي في يوم. تقديم هذا اللون من المعرفة لضرورته وأهميته. إن أية فكرة عملية لابد أن تبدأ بفكرة في عقل الإنسان والإنسان يفكر بالرموز في ضوء معرفته
والإسلام كما أشرنا يحترم العلم وأهله ويقدرهم . كما أنه يعتبر المعرفة أساس المساطة " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " . ولكن التربية الإسلامية في اهتمامها بأسلوب المعرفة النظرية كأحد الأساليب التي تستخدمها فإنها أيضا تؤكد أهمية الأساليب الأخرى التي تتكامل فيما بينها لتكون المنهج الشامل للتربية في الإسلام .
6 - اسلوب الممارسة العملية
من الأساليب التي تهتم بها التربية الإسلامية أسلوب الممارسة العملية . وقد سبق
الصفحة 156
أن أشرنا إلى أن التكاليف الإسلامية كلها والمبادىء الرئيسية للإسلام من شهادة بوحدانية الله ونبوة محمد - - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان إنما تتطلب ممارسة وأسلوبا عمليا من جانب الإنسان . ويجب أن يتطابق سلوك المسلم الحق مع ما في ضميره وقلبه : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريد ما نوى " . وأن الله سبحانه وتعالى يحاسبنا على أعمالنا بمقدار ما ترتبط هذه الأعمال بنوايا الإنسان فالله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل وينبغى على المربى المسلم أن يهتم بتنمية السلوك العملي الرشيد وأن يدرك أن تلاميذه إنما يحسن تعليمهم إذا هم مارسوا ما تعلموه من خلال خبرتهم وتجربتهم المباشرة كما يجب أن يهتم المعلم باظهار الجوانب الوظيفية والتطبيقية لما يتعلمه التلميذ فى واقع حياته كفرد وفي واقع المجتمع الإسلامي الكبير . وأن الناشئة الصفار لا يمكن أن يتعلموا ألوان السلوك الديني والاجتماعي إلا إذا مارسوها وأصبحت عادة لديهم . وهذا يعنى ألا يقتصر المعلم على المعرفة اللفظية وإنما يجب أن يتعدى ذلك ليربط بين الفكر والعمل والنظرية ، والتطبيق .
7- اسلوب التلقين والحفظ .
ساد أسلوب التلقين والحفظ فى الممارسات التعليمية القديمة وما زال يمارس حتى الآن . ويرجع ذلك بالطبع إلى التصور الذي كان يؤمن به المعلمون بالنسبة لعملية التعلم فقد كان الهدف من التعليم في نظرهم حشو عقل التلميذ بالمعلومات عن طريق الحفظ والتلقين . وكان التحصيل الدراسي غاية في ذاته . وقيمة التلميذ تقاس بمقدار ما حفظه من معلومات وتحصل في عقله من معارف . وليست التربية الإسلامية وحيدة زمانها في ذلك وإنما هي ممارسة شاعت فى التعليم فى مختلف المجتمعات وعلي مر العصور والأزمان .
وتركز الطريقة التلقينية على تعليم المواد الدراسية وحفظها وترديدها بدون فهم وتعطيها كل عنايتها دون اهتمام خاص أو عناية بالمتعلم نفسه . وقد انتقد المربون ومنهم المربون المسلمون الطريقة التلقينية وطريقة الحفظ بدون فهم وفضلوا عليها طريقة المناقشة والحوار .
الصفحة 157
التعليم ووظائفه في المجتمع
مقدمة
يشير رالف لينتون (Linton, 1945, p. 15) إلى أنه هناك بعض الخصائص المشتركة بين المجتمعات بصرف النظر عن أصول تلك المجتمعات أو تطورها. من أولى هذه الخصائص وأهمها أن المجتمعات وليست الأفراد هي الوحدة الرئيسية في صراعنا من أجل البقاء. وكل أبناء البشر يعيشون كأعضاء في جماعات منظمة ويرتبط مصيرهم بمصير وقدرات الجماعة التي ينتمون إليها. والوليد البشري يولد ضعيفا ولا يستطيع أن يحيا بمفرده دون مساعدة الآخرين. بل إن حياته كراشد أو كبير تعتمد في إشباع احتياجاتها والبقاء بمطالبها على مساعدة الآخرين وتعاونهم. خذ مثلا بسيطا لقيمة الخبز التي نأكلها وتصور تضافر جهود الأفراد وراءها حتى وصلت إلينا. وقس على ذلك كثيرا من أمور حياتنا. وهذا يؤكد أهمية تعاون الأفراد وتضافرهم مما يجعل حياتهم ممكنة وييسر عليهم سبل العيش في أمن ورخاء.
والخاصية الثانية للمجتمعات أنها تتميز عادة بأكثر مما يميز الأفراد. فعلى الرغم من ظهور مجتمعات جديدة فإن الأفراد غالبا ما يولدون ويعيشون ويموتون كأفراد ينتمون إلى المجتمعات القديمة. وتبدو مشكلة الأفراد لا في مساهمتهم في تنظيم مجتمعات جديدة وإنما في تكيفهم كأفراد مع نمط الحياة الذي بلورته الجماعة التي ينتمون إليها.
والخاصية الثالثة أن المجتمعات وحدات وظيفية فاعلة. فعلى الرغم من أن المجتمعات تتكون من أفراد فإنها تعمل ككل. وتكون مصالح الأفراد خاضعة للمصلحة العامة للمجتمع. بل إن المجتمع لا يتردد في التخلص أو القضاء على بعض الأفراد إذا كان ذلك في صالحه. ويستطيع المجتمع بما يملكه من قوى معنوية ومادية آمرة أن يحمل الأفراد على تحقيق مصالحه والحفاظ عليها وصيانتها. فالأفراد يخضعون
الصفحة 160
للحروب ويقتلون دفاعا عن مجتمعاتهم وصونا لها. والمجرمون يقضى عليهم المجتمع أو يتخلص منهم لأنهم عناصر مزعجة له. وهناك أمثلة أخرى كثيرة على التضحيات التي يقوم بها الأفراد في سبيل المجتمع على اختلاف المستويات حتى مستوى الحياة اليومية العادية. وهذه التضحيات يقوم بها الفرد عن طواعية لأنه يحصل في مقابلها على المزايا وأقله رضا الآخرين عنه واستحسانهم له. إذ الانتماء إلى مجتمع لابد وأن يتضمن بالضرورة التضحية ببعض الحرية الفردية مهما كان المجتمع متسامحا. ذلك أن ما يسمى بالمجتمعات الحرة ليست حرة على إطلاقها. وإنما هي حرة بمقدار ما تشجع أفرادها على حرية التعبير في نطاق إطار معقول ومقبول. والمجتمع ينظم سلوك أفراده بكثير من القواعد والمعايير التي يسلك الفرد وفقا لها دون أن يحس أو يشعر بوجودها وإنما هي تعمل بطريقة تلقائية لا شعورية على تشكيل سلوك الأفراد وتوجيهه.
الخاصية الرابعة المشتركة للمجتمعات هي تقسيم العمل بين الأفراد. ففي كل مجتمع يكون من الضروري توزيع الأنشطة الضرورية لحياة المجتمع ككل على مختلف الأفراد. ولا يوجد مجتمع مهما كان بسيطا لا يميز بين أفراده في تقسيم العمل. فهناك أعمال خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء. وهناك أدوار اجتماعية مختلفة يقوم بها الأفراد. بعضهم يكون في مراكز القيادة وآخرون في مراكز التبعية. وأولئك يتميزون على مختلف الأنشطة والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والفكرية في المجتمع. وفي كل الأنشطة والقطاعات يكون اعتماد الأفراد كل منهم على الآخر. فالنجار بدون زبائن ولا إنتاج بدون مستهلكين. وقد سبق أن أشرنا إلى قيمة الخبز التي نأكلها كمثال على تضافر الجهود وراءها حتى صارت خبزا يؤكل. إلا أننا ننسى أن نضيف هنا أن هذا الخبز ما كان ليصنع لولا أن هناك مستهلكين يكونون ويقتاتون عليه.
تلك هي الخصائص الرئيسية للمجتمعات على اختلاف أشكالها ونظمها السياسية والاجتماعية. وفي ظل هذه الخصائص تكون التربية بكل مهماتها وسيلة المجتمع في الحفاظ على هذه الخصائص واستمرارها. ولمختلف المؤسسات الاجتماعية بداخل
الصفحة 161
المجتمع، بما في ذلك النظام التعليمي ووظائفها فيما يتعلق بالنظام الاجتماعي ككل . ومن ثم فإن كثيرا من القرارات التي تتخذها الدولة يكون لها نتائج هامة ، بالنسبة للمجتمع، ومنظماته المختلفة بما فيها التربية .
ومفهوم المجتمع كنظام للعلاقات المتبادلة ليس بالأمر الجديد أو المبتكر على وجه التحديد . ومع ذلك فكثيرا ما تهمله الجهود التي تبذل لفهم تشكيلات هذا النظام . فمثلا إذا أراد شخص القيام بيلة عملية جادة لتحليل عملية التعليم بالمدارس فإن العلامة الفاصلة بين المدرس والتلميذ يجب أن توضع في نطاق الاعتبارات المتعلقة بمختلف الوظائف التي تؤديها التربية . وكذلك الطرق التي تؤثر بها الجوانب الأخرى من النظام الاجتماعي على المدرسة . ولننتقل نتيجة واحدة من النتائج الكثيرة المحتملة لهذا الاعتماد المتبادل وذلك عندما تنظر مجموعات معينة في المجتمع إلى المدرسة منذ البداية على أنها مجرد مكان يرسل إليه الأطفال لإبعادهم عن البيت . عندئذ يغلب أن يكون لهذه النظرة إلى وظيفة المدرسة تأثير على ما يجرى بالدرسة . وبالمثل يمكن أن يختلف التأثير إذا نظرنا إلى المدرسة على أنها مجرد مكان لتلقي الدروس أو أنها مكان التنشئة الشاملة .. وهكذا .
إن المدارس جزء هام من حياة الناس وهي من أهم المؤسسات الاجتماعية إن لم تكن أهمها . وهي هامة في حياة الفرد لأنه يقضي جزءا هاما من وقته فيها . إن أهم سمة تميز المدرسة عن غيرها أن كل فرد لابد أن يلتحق بها بل إن القانون في معظم الأحيان يلزمه بالالتحاق بها .
وأهمية المدرسة لا تقتصر على الجانب التعليمي أو المعرفي فقط وإنما تمتد إلى الجوانب الاجتماعية والشخصية الأخرى للفرد . والآباء يتوقعون من المدرسة أكثر من كونها مجرد مكان للتعليم بل ويزداد احترامهم لها لدورها في تنمية القيم الخلقية والأنماط السلوكية الرشيدة في أبنائهم والتزامهم بمواصفات معينة من حيث المظهر والسلوك والتصرف . فالمدرسة تأثير على الطريقة التي يرتدون بها ملابسهم والطريقة التي يتصرفون بها لا في داخل المدرسة فحسب بل وخارجها أيضا . ويجب أن نشير هنا إلى الوقت والجهد الذي تبذله المدرسة في تحقيق الأهداف التعليمية في محاولتها
الصفحة 162
لتنمية الالتزام بقواعد عامة للسلوك لدى التلاميذ ومحاسبتهم على ما يصدر منهم من إساءة أدب باللفظ أو السلوك غير المرغوب ، ومطالبتهم في نفس الوقت بالتحلي بالأدب والخلق والاحترام لأنفسهم ولغيرهم .
لقد ظهر للمدرسة تحديا خطيرا للدور التقليدي للأسرة في التربية . وقد بلغ التحدي ذروته من جانب المدرسة أنها أصبحت تقوم بدور الحاضنة للأطفال وهو من أخص خصائص الأمومة . ولا يمكن بالطبع أن ندعي أن المدرسة تعتبر بديلا متكافئا للأم في هذا الدور . بل ولا يمكن أن تعوض المدرسة الطفل عن حنان الأم وما تقدمه له من الإشباع النفسي والعاطفي الذي يحتاجه في هذه المرحلة . ومع هذا فإن هذا الدور الذي تقوم به المدرسة يبرره التغير الذي حدث في تركيب الأسرة المصرية وظروفها سواء من حيث تزايد فترة بقاء الأم خارج المنزل أو تزايد دخول المرأة إلى ميدان العمل .
وهكذا تضافرت العوامل على استلاب الوظائف التربوية التقليدية التي كانت تقوم بها الأسرة واحدة تلو الأخرى . فاستلبت منها الوظيفة الدينية بظهور المنظمات الدينية . والوظيفة الدفاعية بظهور الجيش . كما استلبت منها الوظيفة الاقتصادية بظهور المنظمات الصناعية والتجارية .. فبعد أن كان الوالد يعلم ابنه صنعته أصبح الابن في حل من اقتفاء أثر أبيه وحتى إذا قدر أن يسير في نفس الطريق فإن أمر تدريبه وتعليمه سيتولاه أناس آخرون غير أبيه . كما استلبت من الأسرة وظيفتها التثقيفية بظهور القوى المنظمة المتخصصة في المجتمع .
وقد صاحب هذا التغير في الدور التربوي التقليدي للأسرة ضعف سلطاتها وتأثيرها على أبنائها . فلم يعد الأب والأم المصدر الوحيد للمعرفة واكتساب القيم الاجتماعية ومعرفة قواعد الحق والخير والجمال والصالح والطالح .. وإنما أصبح هناك أكثر من مصدر يستمع إليه النشء سواء من خلال الإذاعة أو التليفزيون أو الصحف أو المجلات وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيرية . ومما يزيد من خطورة تأثير هذه الوسائل الجماهيرية تشبعها لأفكار معينة ومذاهب واتجاهات فكرية متباينة أو متضاربة مما قد يوقع النشء في حيرة يصعب معها التوجيه المدرسي والأسري ضرورة ملحة .
الصفحة 163
ويجب أن يكون لكل مجتمع حق الرقابة على الأجهزة الإعلامية المختلفة وتوجيهها الوجهة القيمية التي تتمشى مع الأهداف الاجتماعية والقيم والمثل التي يقوم عليها المجتمع . كما يجب أن يكون هناك اتفاق عام بين كل القوى العاملة في المجتمع على الأهداف الكبرى المنشودة بحيث يصبح دور كل منها معززا لدور الآخر لا هادما ومدمرا له . وبهذا التفاهم المتبادل تصبح للقوى المربية للمجتمع دورها الهام في تقدمه ونهضته .
المدرسة كنظام اجتماعي :
إن المدرسة نظام اجتماعي . وهي كأي نظام اجتماعي آخر تقوم على أسس ومبادئ معينة . ومن أهم هذه الأسس بالنسبة للمدرسة السلطة المشروعة . فالتلاميذ تابعون لمعلميهم بحكم أن هؤلاء لديهم المعرفة والمهارة التي يحتاج إليها التلاميذ . وينسحب مبدأ السلطة على العلاقات الداخلية التي تشكل المدرسة سواء بين التلاميذ وأقرانهم أو بين المعلمين ببعضهم بعضا .
والمدرسة نظام اجتماعي بحكم كونها منظمة تقوم في بنائها على الأفراد ولها أيضا طرقاتها وتقاليدها الخاصة التي تشكل ثقافتها وبالتالي تحدد سلوك المعلمين والتلاميذ وغيرهم من المتصلين بالمدرسة . ومع أن ثقافة المدرسة هي التي تحدد معايير السلوك الجيد والرديء ، والنجاح والفشل وما يتصل بذلك من أهداف ووسائل فإن هذه الثقافة تحتوى على عناصر غير متجانسة بل متضاربة أحيانا . فالتلاميذ على سبيل المثال قد تكون نظرتهم إلى أنفسهم ألا يجهدوا أنفسهم إلا بمقدار ما يكفل لهم الحد الأدنى للنجاح في حين أن معلميهم يتوقعون منهم أن يبذلوا قصارى جهدهم في تحصيل العلم .
والمدرسة نظام اجتماعي بحكم كونها جزءا من النظام الاجتماعي الأكبر وهو المجتمع . والمدرسة علاقة معتمدة متداخلة مع هذا المجتمع وتعكس جوانب هامة منه . كما أن المدرسة بدورها تؤثر في المجتمع من خلال دورها في تشكيل التلاميذ . وهذا يعني أن التغيرات الاجتماعية ذات المجال الواسع مثل الطرق الجديدة للتكسب أو العيش
الصفحة 164
أو المعتقدات السياسية والاقتصادية الجديدة تؤثر في النهاية على أهداف المدرسة وطرق التدريس ومحتوى المناهج . والمدرسة لا يمكن أن تنعزل عن مجريات الأمور في المجتمع وهي تتأثر بالتحديات التي يشهدها .
ومن ناحية أخرى نجد أن النظام الأكبر الذي تعتبر المدرسة جزءا منه له دور أيضا في تعليم الأفراد . فمن خلال قيام الفرد بأدواره المختلفة في المجتمع يكتسب ألوان السلوك السائدة في ثقافته وطبقته الاجتماعية .. وهذا بدوره يؤثر سلبيا أو إيجابيا على ما يتعلمه الفرد في المجتمع .
وظائف المدرسة :
تناول كثير من المربين تفصيل الحديث عن وظائف المدرسة . ومن المعروف أن للمدرسة وظائف متعددة منها وظائف محافظة تهدف إلى الحفاظ على المجتمع واستمرار تقاليده . ومنها وظائف تجديدية تهدف إلى تطوير المجتمع وترقيته . ويورد تالكوت بارسونز أربع وظائف متأنية للمدارس العامة هي :
1 - تحرير الأطفال من الأسرة أو العائلة .
2 - تعليم المعايير والقيم الاجتماعية على مستوى أعلى مما هو متاح لدى الأسرة .
3- تمييز التلاميذ على أساس تحصيلهم الفعلي وتقويم هذا التحصيل .
4- اختيار وتوزيع العناصر البشرية المختلفة في المجتمع .
ويرى بارسونز أن الوظيفة الثالثة هي أهم الوظائف لما يترتب عليها من إضفاء ميزة المجموعة من الأفراد على مجموعة أخرى في نفس النظام مما يؤدي إلى توتر في النظام . ولكن هذا التوتر يتوازن بما يقوم به النظام من ناحية أخرى بالتكامل بين الأفراد من خلال تقريرهم لقيم مشتركة بينهم . ويمكننا من ناحية أخرى أن نعرض لتفصيل الكلام عن وظائف المدرسة في السطور التالية :
الصفحة 165
1 - نقل الثقافة :
إن وظيفة التربية من وجهة نظر المجتمع ككل ، بل كثيرا ما تكون من وجهة نظر المجموعات داخل المجتمع هي المحافظة على الثقافة . وتشمل الثقافة بطبيعة الحال أكثر من مجرد المعرفة المتراكمة في كل ميدان من ميادين المعرفة . فهي تتضمن القيم والمعتقدات والمعايير المتوارثة جيلا بعد جيل وإن كان يحدث فيها تعديلات متكررة على مدى تاريخ المجتمع . إن التربية تنقل ثقافة الجيل الماضي إلى الجيل التالي ، وهي بهذا تعمل على مساعدة الصغار على الأخذ بوسائل الكبار .
وانتقال الثقافة وتراكمها من جيل إلى جيل له دلالته المميزة للإنسان منذ الأصول الأولى للمجتمع البشري . وأصبح دور التربية النظامية واضحا بتطور تاريخ الإنسان . على نحو ما يشير إليه "بورش كلارك":
" إن أقدم نظم التعليم لم تكن تزيد على تثقيف امرأة لابنة أو رجل لصبي، وهما يسيران معا يحتطبان ويعملان . ويمكن أن نقول بأنه لم تكن هناك دروس أولية في العصر الحجري لتعليم تطويع الحجر . وإنما كان الصبي يتعلم ذلك بمراقبته الكبار . ومع تزايد مخزون الإنسان من المعرفة وزيادة تعقد المجتمعات التي يعيش بينها أصبح من الضروري تطوير الوسائل المتخصصة في عملية نقل الثقافة لتقوم بما تخلت عنه الأسرة . وإبان معظم التاريخ الحديث وعلى امتداده في الماضي كانت التربية الرسمية أو المدرسية مقصورة على أقلية ضئيلة من أعضاء المجتمع هم عادة النخبة الممتازة الحاكمة أو أعضاء الجماعات الدينية . ومع ذلك فإن الانقلاب الصناعي أنتج فتحا أنتج قيما من المعرفة الجديدة التي أدت بالمعرفة البشرية والمهارات الفنية إلى أن تدفع بقوة خارج حدودها الضيقة نسبيا وترتب على ذلك أيضا تغير البناء الاجتماعي للمجتمع تغيرا جذريا . فلم تعد الأسرة هي الوحدة الأولية للإنتاج كما كان الحال وقت سيادة الاقتصاد الزراعي . وأصبح عدد كبير من الرجال أنفسهم يتركون بيوتهم كل يوم للعمل بالشركات الصناعية أو المكاتب وقضاء ساعات طويلة من وقتهم خارج المنزل ".
فهذا التحول الذي طرأ على البناء الأساسي للمجتمع عمل على تفكيك وحدة
الصفحة 166
الأسرة . وأدى تزايد الوظائف المتاحة التي يحتاج كل منها إلى مهارات ومعلومات مختلفة إلى أن أصبح من المتعذر على الأعضاء الجدد في المجتمع التعلم بواسطة الملاحظة والتقليد فحسب . واتسع مجال الاختيار أمام الصغار للمهارات التي يمكنهم الحصول عليها بصورة أكبر مما كان عليه الحال بالنسبة لآبائهم . ولم يعد عائل الأسرة هو الذي يقوم بتعليم أبنائه صنعته أو حرفته ليكتسبوا منها .
ويرى القول أن التعليم المدرسي أصبح ضرورة حين أصبح البيت والمجتمع غير مؤهلين أو غير كافيين لتعليم الأطفال وإعدادهم لمرحلة الرشد . وقد أدى تغير طبيعة المعرفة بطرق العمل إلى دخول الأطفال عالمين إلى المدرسة ، وأصبح للمدارس دور في انتقال الثقافة واستمرارها أكثر اتساعاً وعمقاً إلى حد بعيد . وهذا لا يعني أن الأسرة لم تعد بذات أهمية كعامل للتكيف الاجتماعي . أو أن المدرسة أخذت على عاتقها كل ما كانت تقوم به الأسرة من وظائف فيما يتصل بتهيئة الصغار تهيئة اجتماعية . وبالرغم مما يبدو من اتجاه نحو إلحاق الأطفال بالمدارس في سن أصغر ، فإن الأسرة لا تزال هي العامل الوحيد في تهيئة الطفل اجتماعياً خلال السنوات الأربع أو الخمس الحرجة الأولى من حياته . فهذه الفترة هي التي يتعلم الطفل فيها الكلام . ويكون العلاقات الاجتماعية الأولى الهامة التي تؤثر كثيراً في توافقه مع البيئة وتشبع حاجاته من العلاقات المتبادلة مع غيره من الأشخاص في المواقف المختلفة . ويبدأ الطفل أيضاً في تشرب القيم الثقافية واكتساب العادات الاجتماعية مما يمكنه من القيام بدوره كعضو في المجتمع طوال بقية عمره .
إن الأسرة لا تفقد اهتمامها بالطفل حين يبلغ سن الدراسة . . ففي معظم الأحوال يستمر تأثير الوالدين والإخوة والأخوات وأعضاء الأسرة الواسعة في التطبيع الاجتماعي للطفل أثناء تربيته مدرسية . ويستمر هذا التأثير فيما بعد ذلك بصورة أقل . ويبدو أن كثيراً من المشكلات التي تواجهها المدرسة تنجم عن تقييم مسئولة تربية الصغار بينها وبين الأسرة . وقد تتعامل المدرسة مع الطفل اكتسبوا بالفعل بعض القيم التي قد تتعارض مع القيم التي تأخذ المدرسة على عاتقها غرسها وتعليمها . كما تتعامل في نفس الوقت مع المؤثرات المنافسة التي قد تلقى من الأسرة أثناء تعلم الطفل .
الصفحة 167
بالمدرسة . وهذا يجعل واجب المدرسة أكثر صعوبة إذ يتوجب على المدرسة أن تنقل إلى الطفل ثقافة معقدة تنطوي على قدر كبير من المعارف المتراكمة والمهارات المتنوعة ومجموعة من القيم والمعايير النظرية المتشابكة التي تشتمل على الأسس الأيديولوجية للتراث . إن الاستقرار والاستمرار في المجتمع يتوقف على إجادة مواطنيه مهارات الاتصال والمبادئ السياسية والدينية والاجتماعية التي يقوم على أساسها نظام المجتمع . كما ينتظر من المدرسة أن تعلم الطفل المثل العليا التي ينشدها في الحياة . وتتضمن التهيئة الاجتماعية تعلم المهارات واكتساب المعلومات المتعلقة بالطريقة التي يعمل بها المجتمع أو التي ينبغي أن يعمل بها . وهو ما يشكل جزءاً من إعداد الطفل للتصرف وفقاً للأدوار التي يقوم بها العضو الراشد في المجتمع . وربما يتضمن ذلك أهم جزء من عملية التهيئة الاجتماعية وهو التمثل اللاواعي وتشرب المعتقدات والقيم ونماذج السلوك . وسرعان ما يبدأ الطفل قبل سن المدرسة بمحاكاة ضروب من سلوك والديه وأخوته وبعض أقرانه . وعندما تضاف شخصيات جديدة إلى دائرة الطفل من ذوي الشأن الآخرين المحيطين به مثل معلمه وزملائه في الفصل وغيرهم فإن تأثير هؤلاء جميعاً على سلوكه يزداد تنوعاً . كما يزداد أيضاً احتمال نشوء صراع في تصرفاته القائمة على المحاكاة . ولابد أن يواجه الطفل مهمة تصنيف الناس الذين يتعاملهم عن وعي أو غير وعي . على أساس ما يسمح به من تغيير لهم على سلوكه .
ولما كان الأطفال يقضون شطراً كبيراً من ساعات يومهم بالمدرسة . أو في أنشطة ذات صلة بالمدرسة . فليس مما يبعث على الدهشة أن يكون لأولئك الذين يقابلهم الطفل بالمدرسة تأثير عام على سلوكه بما في ذلك تكوين طريقته في تقييم الأشياء ، ومواقفه إزاء مختلف المعايير الاجتماعية وسلوكه بوجه عام . فعن طريق توسيع دائرته مع الآخرين . يستطيع الفرد أن يجد فرصة لإعداد نفسه إعداداً ملائماً لمختلف الأدوار التي يجب أن يضطلع بها البالغ في المجتمع . . ولكي يقوم الطفل بدور البلوغ على وجه مناسب يجب أن يتعلم دور الأب أو الأم ودور التلميذ والمعلم ومرشد المجموعة ودور الزوجة أو الزوج . . ويجب أن يتعلم الأطفال شيئاً عن دور عامل الأسرة مهنياً والوظائف المتاحة في المجتمع . . وتستطيع الفتاة القيام بدور موظفة أو عاملة بالإضافة إلى دورها الطبيعي كزوجة وأم . وبالرغم من أن الأطفال لا يتعلمون قدراً كبيراً من بعض هذه
الصفحة 168
الأدوار قبل أن يبلغوا مرتبة الكبار . فإن كثيراً من القرارات التي يجب أن يتخذها الطفل وإن كان قد يتلقى فيها معاونة من أسرته أو معلمه أو مشرفه أو غيرهم من الكبار . تتطلب منه أن يعرف شيئاً عن الوظائف المتاحة في مجتمع الكبار . يضاف إلى هذا أن الطفل يبدأ في تحصيل قدر أوفر من القدرات اللازمة للقيام بأدوار الكبار في سن مبكرة . وتلعب المدرسة دوراً أكبر في مساعدة الأطفال على تعلم ضبط انفعالاتهم والتعامل مع مراكز السلطة ، وكذلك تولي القيام بها وإدراك وجود هيئات ذات سلطة في المجموعات . ولا يمكن أن نغفل دور وسائل الإعلام الجماهيري في التأثير على عقول أطفالنا واتجاهاتهم . فهذا التأثير هو إحدى حقائق الحياة العصرية التي يجب أن يقام لها وزن في أي بحث يدور حول عمليات التكيف الاجتماعي ونقل ثقافة المجتمع .
وهناك سمة لعملية التطبيع أو التهيئة الاجتماعية كثيراً ما يغفل أمرها ، وهي ذات صلة وثيقة بأية مناقشة لوظائف المدرسة في المجتمع تتعلق بطبيعة العملية العقلية نفسها . وتتضمن التهيئة الاجتماعية معرفة الطريقة التي تحل بها المشكلات كجزء من العملية التربوية وطريقة فهمنا للعمليات العقلية . وليس من الواضح مثلاً أى الطرق المختلفة لحل المشكلات أكثرها نفعاً بوجه عام . ويؤيد كثير من العلماء أساساً للطريقة الاستقرائية بالنسبة لأنواع معينة من المشكلات . في حين أن آخرين يؤكدون أن الطريقة الاستدلالية أنفعها جميعاً . ولم يستكشف أصحاب النظرية التعليمية بصورة كاملة الأدوار النسبية للثواب والعقاب في عملية التعلم . . وبالرغم من أن معظم التربويين أبان السنوات الأخيرة يتشبثون بافتراض أن التعلم الأمثل يحدث تحت ظروف المكافأة . فإنه لم يتضح كلية أن هذا هو الحال في كل مواقف التعلم . وحتى لو افترضنا أن نوعاً من التعزيز الإيجابي أكثر ملاءمة للتعلم . فربما ثبت في النهاية أن المكافآت الناشئة عن مواقف التعليم نفسه هي كل ما يحتاج إليه في أنواع معينة من التعلم . ذلك أن إقحام المكافآت الخارجية في المواقف عندئذ قد لا يفيد إلا في تعويق العملية التربوية .
2 - تبسيط الثقافة وتمثيلها
كان تراكم الثقافة ونموها أحد الأسباب الهامة التي ساعدت على ظهور
الصفحة 169
المدرسة . ولذلك كان نقل الثقافة إحدى الوظائف التقليدية للمدرسة وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك . ولكن مع تزايد حجم الثقافة والمعرفة البشرية بدرجة هائلة في جوانبها الكمية والنوعية كان على المدرسة أن تقوم بدور الوسيط في تبسيط الثقافة . . وأصبح على المدرسة أن تختار من بين هذا الخضم الثقافي الهائل العناصر البسيطة التي يمكن أن تقدمها للتلاميذ . كما أن من العناصر الثقافية ما أصابها البلى أو عفا عليها الزمن أو تقادم عهدها ولم تعد صالحة وترى المدرسة أنه يجب عليها تنقيتها وغربلتها لتقديمها للناشئة . وتعتبر عملية الاختيار من بين هذه العناصر من أهم المشكلات التي تواجهها المدرسة وتزداد حدتها على مر الأيام . بيد أن نجاح المدرسة في القيام بهذا الدور يتوقف على مساندة القوى الاجتماعية لها . وللمدرسة بقيامها بتبسيط الثقافة وغربلتها توفر وقتاً وجهداً كبيراً على الأفراد وبدون المدرسة يصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل على الأفراد تحصيل هذا القدر الثقافي . ذلك أن المدرسة بحكم ما يتاح لها من خبراء في إعداد المناهج الدراسية وتنظيم المادة الدراسية والخبرات التعليمية يمكنها أن تقوم بدور لا ينافس في هذا المجال .
3 - إحداث التماسك الاجتماعي
تقوم المدرسة من خلال دورها في نقل التراث الثقافي بتوحيد مشارب الأفراد الثقافية واتجاهاتهم الفكرية وانتمائهم إلى قيم اجتماعية واحدة . وبمعنى آخر تقوم المدرسة بصهر الأفراد في بوتقة ثقافية واحدة تؤدي إلى تماسكهم الاجتماعي تماسكاً عضوياً حياً . ويصبح مثلهم في توحدهم وتراحمهم كمثل البدن إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى . وهكذا تصبح التربية عاملاً فعالاً في إقامة نظام قومي متماسك يقوم على التضامن والتعاون والتكافل . وقد سبق أن أشرنا إلى أن التربية سلاح ذو حدين فكما تكون وسيلة للتقارب والتفاهم تكون وسيلة للتفتيت والتناحر عندما تخرج عن هدفها الأسمى لتستخدم في أغراض أخرى لا يؤيدها المربون .
وينبغي أن تهدف المدرسة إلى إحداث التماسك الاجتماعي الذي يضمن وحدة المجتمع في زمن الحرب والسلم على السواء . وذلك من خلال تكوين رأي عام مستنير تتوحد اتجاهات الفكرة العامة وتتوحد جهوده نحو البناء والتجديد والتطوير . ويصعب
الصفحة 170
التأثير عليه بالإشاعة وبالدعاية المغرضة الضالة لاسيما في زمن الحرب حيث يكون الناس أكثر حساسية وميلاً لتصديق الإشاعات الكاذبة .
وينبغي أن تحصن التربية النشء ضد الانسياق الأعمى وراء الأفكار الكاذبة وذلك من خلال تنمية تفكيرهم الناقد القادر على تفحص الآراء ووزنها . كما ينبغي أن تنمي فيهم الحساسية الاجتماعية نحو مجتمعهم وأمتهم وأن تنمي فيهم الانتماءات الصحيحة للإنسان وهي بالنسبة لبلادنا العربية انتماءات عربية إسلامية إنسانية كما سبق أن أشرنا .
4 - نشر التوجيهات والمعرفة الجديدة
مع أن الوظيفة الأولى للمدرسة قد تكون نقل المعرفة والعادات والتقاليد الموجودة بالفعل فمن المتناقض أن ينتظر من المؤسسات التربوية أن تقوم بدور في تشجيع التغيير وتوجيهه . وقد كانت المؤسسات التعليمية لاسيما الجامعة بؤرة البحث عن المعرفة الجديدة . وقد نشأ قدر كبير من فيض الأفكار الجديدة التي نجم عنها مثل هذا التغيير السريع بل أصبح التأكيد على البحث بوصفه الوظيفة الكبرى للجامعات أعظم إبان نصف القرن الماضي حين ازدادت سرعة الكشف العلمي . ولم تبخل المجتمعات على أولئك الأفراد الذين قدموا أكبر قسط للمعرفة ، وكشف طرق جديدة للتعامل مع العالم المادي والنفسي والاجتماعي ومنحتهم أرفع مكانة ومنزلة .
وتعد المؤسسات التربوية في تبني التغيرات والتجديدات بارز على مستوى الجامعة بنوع خاص . ولكنه متوقع من المدارس الابتدائية والثانوية أيضاً وعليها أن تقوم بدورها في هذه العملية . وهي تقوم بدور أكبر بتأثيرها في سرعة التغير في المجتمع عن طريق الأنشطة الخلاقة من جانب التلاميذ ، وعن طريق غرس القيم الاجتماعية التي يجب أن تتمشى مع الرغبة في التقدم ، والقائمة على الانجازات في العلوم وفي مجالات المعرفة الأخرى .
ولا تقتصر مسئولية المدرسة على إعداد الأطفال للتعامل مع المجتمع سريع
الصفحة 171
التغير الذي سيواجهونه عندما يكبرون . وإذا كان لابد للمجتمع أن يتقدم بخطاه المعتادة فإن النظام التعليمي يجب أن يعمل على إمداده بأشخاص يستطيعون تطوير المعارف والأساليب الجديدة . وكان للتطور التكنولوجي في المجتمع أثر عميق في التعليم الابتدائي والثانوي . وتبذل جهود لتطوير محتويات المناهج التقليدية ، وبخاصة في الرياضيات والعلوم ، لمواجهة مطالب المجتمع التي يفرضها التغيير كهدف يستحق النضال من أجله ، وبكل ما يتاح من موارد .
5 - توزيع الأفراد على الوظائف في المجتمع
يجب على كل مجتمع أن يضع أساساً يحدد بناء عليه الأعضاء الذين يتولون الوظائف المختلفة فيه ويبينون الأدوار الضرورية لاستمراره وتقدمه . وتختلف الوظائف المتاحة وتتنوع من مجتمع إلى آخر . كما أنها تتضمن مستويات ومطالب غير متساوية من شاغليها . فبعض الوظائف أصعب من الأخرى ، وبعضها أكثر خطراً ، ومنها البغيض إلى النفس ، ومنها ما يحتاج إلى تدريب خاص أو مهارات ، وتمثل المهارات المطلوبة لبعض الوظائف ندرة أكثر من المطلوبة للوظائف الأخرى . ولهذا لا يمكن التسوية بين جميع شاغلي الوظائف في المكافآت أو المنزلة . ولهذا يحدث التنافس بين أعضاء المجتمع حول تلك الوظائف التي تحتظى بأكبر قدر من المكافآت ، والتي تحمل أضخم مسئولية ومكانة اجتماعية . . ويقترح سكينز عالم النفس المعروف - بأن يعمل شاغلو أبغض الوظائف أو أكثرها مدعاة للضجر ، ساعات أقل مع تقاضيهم مكافآت مساوية لما يتقاضاه غيرهم ، ومن ثم تصبح الأعمال الوضيعة عملاً جذاباً بنوع خاص . ومع ذلك ظلت هذه الفكرة موضع جدل .
إن معظم المجتمعات تتبع عادة التقاليد السائدة أو المتوارثة فيها في تعيين الأشخاص في الوظائف أو في تحديد الأفراد الذين تتاح لهم فرصة التنافس على وظائف معينة . فالأساس العائلي ، والعنصر والدين ونيل الميلاد والجنس ، كلها أمثلة للمميزات التي كانت ولا تزال تستخدم بكثرة لتحديد الوظائف التي يمكن للفرد أن يتقلدها في المجتمع . ومع ذلك فإن انتشار التكنولوجيا في المجتمع خلق موقفاً تزايدت فيه أهمية تعيين الأشخاص في الوظائف الملائمة لهم . وكلما زادت ملاءمة الأعضاء في
الصفحة 172
مجتمع لأوضاعهم والأدوار التي يقومون بها . أدى المجتمع وظيفته في يسر وهو ما أشار إليه "رالف لينتون" في تحليله للوظيفة والدور في المجتمعات البشرية . وتصبح المتطلبات الضرورية للقيام بمختلف الوظائف أكثر تعقيداً . وتحتاج إلى تدريب أطول وقدر أوفر . وبالتالي فإن المميزات الموروثة تقل فائدتها كمعيار فعال للتعيين في الوظائف في حين تزداد أهمية المعايير الموضوعية مثل تحصيل الأفراد وقدرتهم وكفاءتهم .
لقد أخذت المدرسة من الأسرة قسطاً أكبر من المسئولية لتهيئة الصغار تهيئة اجتماعية . وأصبحت بذلك مركزاً لعدد كبير من أنشطة الطفل . وأصبح ما يقوم به الطفل في المدرسة مقياساً من أهم المقاييس لقدراته وكفاءاته . ومع انتشار التعليم الجماهيري أصبحت المدرسة جزءاً لا يتجزأ من عملية تحديد مكانة الفرد بعدة طرق من أهمها :
1 - توفير البيئة التي يستطيع فيها الطفل إظهار قدراته وإمكانياته .
2 - توجيه الأفراد إلى المهن المختلفة .
3 - إكساب الفرد المهارات الضرورية لأداء مختلف الوظائف .
إن نمو التعليم العام جعل من المقدور أي طفل الحصول على المهارات الضرورية لأداء أعمال أية وظيفة في المجتمع في حدود قدراته الخاصة . وإذا كانت النظرية لا تنجح دائماً عند التطبيق فالواقع أن المدرسة تمنح معظم الأطفال فرصة فريدة لإظهار ما يستطيعون عمله . والدليل واضح على أن التحصيل التربوي يحدد الفرص المتاحة للفرد بصرف النظر عن حسبه ونسبه . وتقوم المدرسة بدور الحكم على منجزات الفرد منذ البداية . ذلك أن النجاح الذي يحققه الطفل في ظل النظام التربوي والقرارات الخاصة بأنواع التدريب المناسبة ، وفرص النمو المتاحة أمامه . كلها أمور تترك المدرسة . وقد يؤثر الطفل ووالده في هذه القرارات . ولكن تظل المدرسة صاحبة اليد الطولى في تحديد مكانة الفرد في المجتمع . ومن نقاط الاختيار الحرجة في تحديد مكانة الفرد تقرير ما إذا كان يسمح للتلميذ بدراسة المقررات التي تخوله حق دخول
الصفحة 173
الجامعة وهي الطريق المعبد للوظائف العليا . وحتى عندما يدرس هذه المقررات يكون مستوى تحصيله محدداً لاتجاهه بالكليات والتخصصات المختلفة لأن المهارات والمعرفة التي يكتسبها الفرد خلال تعليمه عوامل هامة بطبيعة الحال في تحديد وظيفته . ولكن المدارس ليست جميعاً في مستوى واحد من حيث نوع التربية التي تقدمها أو حتى من حيث أنواع التدريب النوعي التي تتيحها .
ولما كانت بعض المدارس تفوق الأخرى ، فإن شهرة المدرسة ومنزلتها تصبح في أغلب الظن عاملاً هاماً في تقييم الفرد فيما بعد ، بصرف النظر عن تدريبه المتبقي وقدراته . ومن ثم فإن خريج مدرسة أرقى قد يجد فرصاً أكثر في الوظائف من خريج مدرسة أدنى منزلة . حتى لو كان الأخير مساوياً له في المؤهل . ويشبه هذا خريج المدرسة الثانوية العامة . فهو لا يلقى عناء في الالتحاق بالكليات على عكس نظيره خريج المدرسة الثانوية الفنية .
6 - إحداث الحراك الاجتماعي
يقصد بالحراك الاجتماعي بمفهومه الإيجابي الترقي في السلم الاجتماعي . وقد أشرنا لدور التربية في هذا الصدد . والمدرسة إحدى منظمات التربية . ومن ثم يرتبط دور المدرسة في توزيع الأفراد على الوظائف في المجتمع بدورها في الحراك الاجتماعي . ذلك أن التربية بما تكسبه للفرد من مهارات معرفية وعملية إلى جانب تزويدها له بالخلفية الثقافية تزيد من قيمة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية على السواء . فزيادة المهارة المعرفية والسلوكية تعني فرصاً أحسن للعمل وزيادة في الدخل ، ويترتب على زيادة دخل الفرد تحسن في وضعه الاقتصادي والاجتماعي . كما يترتب على ذلك بالتالي ترقية أذواقه وميوله واهتماماته وزيادة طموحه في الحياة وآماله فيها وتوقعاته منها . وكل هذه جوانب تؤدي به في النهاية إلى الترقي في السلم الاجتماعي . وهكذا تصبح المدرسة عاملاً هاماً في رقي الأفراد وتقدمهم وعاملاً هاماً أيضاً في التقريب بين الطبقات الاجتماعية وإزالة الفروق بينها .
الصفحة 174
7 - حضانة الأطفال
وهي من الوظائف المستحدثة للمدرسة . والواقع أن الالتحاق الإجباري بالمدرسة يسد الثغرة بين الوقت الذي يعتمد فيه الطفل في حياته اعتماداً كاملاً على والديه والوقت الذي يصبح فيه الفرد قادراً على القيام بمسئوليات الكبار . ففي هذا الوقت يحدث النضج الجسمي والتوافق الاجتماعي والنضج العقلي . وتقوم المدرسة بتدبير برنامج تعليمي يهدف إلى ملء هذه الفترة القصيرة بطريقة مفيدة للمجتمع على المدى الطويل . وإلى جانب ذلك تستخدم المدرسة أيضاً كمكان ترسل إليه الأطفال بعيداً عن البيت فضلاً عن أنها تكفل للأم الراحة المؤقتة من واجب العناية بالأطفال . وأصبح تأثيراً لهذا الجانب من عملية التربية هو زيادة عدد الأدوار المتاحة للنساء فلم يعد لزاماً على المرأة الشابة أن تفكر في قضاء الجزء الأكبر من حياتها في العناية بأطفالها . بل تستطيع بدلاً من ذلك التطلع إلى القيام بخدمة المجتمع وخيمة أسرّتها بمختلف الطرق . في الوقت الذي تستطيع فيه أن تخلق لنفسها أدواراً جديدة ذات مغزى تثبت شخصيتها ، إلى جانب دورها كأم . وكان لذلك تأثير على تركيب القوة العاملة وزيادة عدد الإناث اللاتي يعملن في الوظائف وأتيحت لهن وظائف كانت مغلقة في وجوههن من قبل . إن المدى الذي بلغته النساء من الاندماج المتزايد في شئون المجتمع ، يمكن أن يعزى جزئياً إلى الوظيفة التي تؤديها المدرسة .
أما من وجهة نظر القوة العاملة والمجتمع . فإن زيادة استخدام مواهب المرأة ينتج عنه دليل النفع . ويمكن أن يؤدي دور المدرسة كمنظمة لحضانة الطفل إلى تفاقم الصعوبات التي تواجهها المدرسة في القيام بمسئولياتها الكبرى في تهيئة أعضاء المجتمع الجدد تهيئة اجتماعية . ولما كانت مسئولية التهيئة الاجتماعية مقسمة بين المدرسة والأسرة ، فإن ذلك يتطلب التعاون والمؤازرة المتبادلة بينهما . وعندما ينظر إلى المدرسة على أنها مخزن للأطفال للتخلص من طاقتهم لراحة الكبار من أعضاء الأسرة ، فحينئذ تتعرض علاقة المؤازرة المتبادلة بين المدرسة والأسرة لخطر التفكك . إن إيجاد التوازن الملائم في العلاقة بين المدرسة والأسرة مسألة صعبة لكنها ذات أهمية خطيرة بالنسبة لنجاح المشروع التربوي
الصفحة 175
ويشير الإشارة إلى أن د. ن. المدرسة في الأدوار الجديدة للمرأة يزيد أيضاً من احتمال تعارض أدوار أفراد الأسرة . وهذا قد يؤدي بدوره من بعض الوجوه إلى إضعاف بناء الوحدة العائلية . فالأم التي يجب عليها أن تختار بين إعداد طعام الغذاء لزوجها والقيام بعملها خارج المنزل ، تواجه تعارضاً بين دورين . وهذا يعني أن أي جزء من أجزاء النظام التربوي المختلة يؤثر في الأجزاء الأخرى . وأنه لا يمكن فهم أحدها دون الرجوع إلى بقية النظام ككل .
8 - معرفة الصور الاجتماعية لكل من الذكر والأنثى
تلعب المدرسة دوراً هاماً في تعريف الأفراد بدورهم الاجتماعي وهي بهذا تساعد الفرد على تأهيله للقيام بدوره كأكبر أو أنثى . وبما يتصل بذلك القيام بدور الزوج أو الزوجة والأم والأب وهذا الدور الهام للمدرسة يعتبر جزءاً من عملية التهيئة الاجتماعية الفرد التي سبق أن أشرنا إليها .
9 - الإصلاح الاجتماعي
إن آخر وظيفة للمدرسة يجب أن تبحث تتعلق بدور التربية في التأثير على مجرى الإصلاح الاجتماعي وهي وظيفة جدلية . فالمجموعات والأفراد تحاول دائماً الإفادة من المدرسة بوصفها عاملاً فعالاً في إحداث التغيرات المرغوبة في البناء الاجتماعي أو فعالية المجتمع . وتصبح المدرسة بسبب نصيبها في عملية التهيئة الاجتماعية وأهميتها بوصفها نشاطاً بارزاً في حياة كل عضو من أعضاء المجتمع تقريباً البؤرة الأولى في نظر المصلح الاجتماعي ، سواء كان اهتمامه متجهاً إلى تخفيض عدد الجرائم أو تحسين المركز الاجتماعي للمجموعات المختلفة . وبالإضافة إلى وظيفة المدرسة في تيسير الكشف عن المعرفة الجديدة . كثيراً ما ينتظر منها أن تقوم بنصيب في تشجيع أنواع أخرى من التغيرات المرغوبة في المجتمع . والضغوط الواقعة على المدرسة نتيجة لهذا الجانب من علاقتها بالمجتمع قد تتراوح بين المطالبة بأن توفر المدرسة خدمات خاصة لمجموعات معينة من الأطفال ، وبين مطالبة الأنظمة المدرسية بالتخلص كلية من المدارس المنفصلة المخصصة للإناث أو لذوي الامتيازات .
الصفحة 176
ولقد استجابت المؤسسات التربوية إلى هذه التوقعات والضغوط بطرق شتى وكثيرة للغاية . وأصبحت المدارس في معظمها تتجه إلى التسليم بأن جزءاً من المسئولية على الأقل يتمثل في الإصلاح الاجتماعي الذي ألقي على عاتقها . وهناك عدد من العوامل التي تحدد دور المدرسة في حركان الإصلاح الاجتماعي من بينها الاعتبارات السياسية والضغوط الخاصة بالميزانية ، وربما أهمها جميعاً مواقف المواطنين قاطبة . ولقد لعبت المجموعات المنظمة للإصلاح ، دوراً متزايد التأثير في حث المدارس على القيام بدور أكثر فعالية في الحركات التي يقصد بها تعديل البناء الاجتماعي في المجتمع .
وليس من اليسير دائماً رسم خط يميز بين المطالبة بسياسة جديدة تهدف إلى تنفيذ إصلاح اجتماعي وبين المطالبة بإصلاح تربوي لذاته . وعلى الرغم من ذلك فللمدرسة دور هام في التغير الاجتماعي يبرز من خلال وظائفها الأخرى ، فمن خلال دورها في غربلة الثقافة والتجديد الثقافي والحراك الاجتماعي وتنمية المعرفة الجديدة وغيرها تحدث المدرسة تغيرات حقيقية في المجتمع وفي تطوره الاجتماعي .
المهارات في مقابل النمو :
تختلف آراء المربين حول الوظيفة الرئيسة للمدرسة . فبعضهم يرى أن وظيفتها هي تزويد المتعلم بالمهارات المعرفية ، وآخرون يرون أن وظيفتها هي مساعدة المتعلم على النمو الكامل لشخصيته . ويترتب على اختلاف وجهات النظر اختلاف في المثل الأعلى والأهداف والأغراض المنشودة . ويمكن أن نعرض لهذا الاختلاف في الجدول التالي :
الصفحة 177
)انظر الجدول الصفحة 178 في البي دي اف اعلاه(
ويقول برتراند راسل في مقالته " عن التربية لاسيما في الطفولة المبكرة " (Connel P. 67) : إن القضية الرئيسة في التربية تتعلق بما إذا كان ينبغي علينا أن نستهدف حشو العقل بالمعرفة التي لها استخدام علمي مباشر أم نحاول أن نربي في تلاميذنا الملكات العقلية الجيدة في جوهرها أو حد ذاتها ؟ . ويقدم لنا "راسل" مثالاً فيقول : من المفيد أن نعرف أن العدد يساوي ۱۲ بوصة والباردة تساوى ثلاثة أقدام لكن هذه المعرفة ليست لها قيمة ذاتية أو جوهرية . ذلك أنها تعتبر عديمة القيمة أو النفع بالنسبة لأولئك الذين يستخدمون النظام العشري ( المتر والسنتيمتر) . وتفوق رواية أدبية أو عمل فني قد لا يكون له نفع كثير في الحياة العملية . إلا أن هذا التذوق يحقق للإنسان استمتاعاً عقلياً لا يقدر بثمن ويجعله فرصة يشعر خلالها بقيمته الحقيقية كإنسان . ومن هنا ينبغي ألا تقتصر النظرة إلى التربية على القيمة النفعية للمعرفة واستخداماتها المختلفة . والواقع أن هناك خلافاً في وجهات النظر بين الأرستقراطيين والديمقراطيين فيما يتعلق بقضية التربية من أجل النفع أو الاستخدام . فالأرستقراطيون يرون أن الطبقة المتميزة أو الرفيعة يجب أن تتعلم من أجل شغل وقت فراغها بطريقة مناسبة وأن الطبقة الأخرى أو التابعة يجب أن تتعلم من أجل العمل فيما يعود بالنفع على الآخرين . أما وجهة نظر الديمقراطيين فهي تعارض النظرة السابقة . فهم يكرهون تعليم الأرستقراطية ما هو عديم الجدوى أو الفائدة . وفي نفس
الصفحة 178
الوقت ينادون بأن التربية من أجل كسب العيش يجب ألا تقتصر على ما هو مفيد ونافع . وهكذا نجد أن هذه الدعوى الديمقراطية تعارض نمط التربية الكلاسيكية القديمة وفي نفس الوقت تطالب بأن يتعلم العمال الدراسات الإنسانية الكلاسيكية . وربما أن الفكرة الرئيسة وراء هذه الدعوى هو عدم تقسيم المجتمع إلى طبقتين : إحداهما مرهفة ناعمة والأخرى عاملة كادحة لا حظ لها من المتعة أو الرفاهية .
وهناك نقطة أخرى تتعلق بالمفاضلة بين القيمة المادية والقيمة العقلية للمعرفة . فبعض الناس يرى أن الهدف الرئيس للتربية يجب أن ينصب على زيادة إنتاج السلع كماً وكيفاً . . ومثل هؤلاء الناس لا يتحمسون مطلقاً لتعليم مواد مثل الأدب أو الفن أو الفلسفة وغيرها من الدراسات الإنسانية أو الكلاسيكية . وهم يؤكدون على تعليم العلوم الطبيعية لقيمتها النفعية وأهميتها في حياة الإنسان المعاصر . وفي تأكيد ذلك يقولون إن دراسة المتنبي مثلاً أو شكسبير لن تساعدنا كثيراً في بناء عالمنا الجديد لكننا لا نستطيع بناء هذا العالم الجديد بدون العلوم الطبيعية . وهذه الدعوى وإن بدت جذابة إلا أنه يمكن الرد عليها ومعارضتها . فنحن وإن اتفقنا على تأكيد أهمية دراسة العلوم الطبيعية فلا يمكن أن نذهب معها في التقليل من أهمية دراسة ما عداها من العلوم فالمعرفة والعلم لهما قيمة جوهرية في ذاتهما بصرف النظر عن القيمة العملية أو النفعية . وانتماء الإنسان إلى عالم الإنسانية الكبير يحتم عليه معرفة أشياء كثيرة عن الآخرين الذين يشاركونه الحياة على هذه الأرض . قال تعالى " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " . وهذا التعارف لا يتم إلا من خلال دراسة آداب ومعارف وثقافات الشعوب الأخرى . وحياة الإنسان على مستواه الفردي أشمل وأوسع من أن تكون قاصرة على العمل والإنتاج فقط وإنما هناك جوانب أخرى يجب أن يشبعها الإنسان في حياته منها عبادته لخالقه ومشاركته الاجتماعية لإخوانه في جده ولهوهم ومرحهم . وهناك أيضاً استمتاعه الشخصي بوقت فراغه فيما يجد نشاطه ويروح على نفسه . ذلك أن النفوس لتصدأ كما يصدأ الحديد . ومن هنا فإن استمتاع الإنسان بالأدب والفن وتذوقه للجمال هي مقومات رئيسة في بناء شخصيته ولا يمكن التقليل منها .
الصفحة 179
وهكذا فإن التربية التي يجب أن تستهدفها لتربية الإنسان المعاصر إنما تقوم على المزج بين الثقافتين العلمية والأدبية والإنسانية ويجب أن تتضمن هذه التربية الدراسات الإنسانية التي تجعل من الإنسان إلى جانب كونه منتجاً ومفيداً مشتقاً ممتعاً واعياً منفتحاً على العالم يحيا حياة نابضة بالخير والجمال ويستطيع بما يستطيع أن يشغل وقت فراغه فيما يفيد . إن حياة الإنسان تصبح تافهة وآلية وضيقة جداً إذا هي اقتصرت على الجوانب المادية النفعية للأشياء . ومن ثم فإن دراسة بعضاً من التاريخ العالمي والآداب العالمية والفنون الجميلة المختلفة ضرورية لحياة الإنسان فإن العلوم الإنسانية لا تقل عنها في هذا الجانب إن لم تتفوق عليها في بعض الأحيان .
الإدارة المدرسية والمناخ المدرسي :
المدرسة الحقة هي التي يسيطر عليها مناخ إيجابي سليم . ويشعر التلاميذ بارتياح لحضورهم إليها كما يشعر المعلمون بارتياح لتدريسهم بها . وفيها يعمل الجميع على تنشيط الاتجاه إلى الرعاية والاهتمام . ويتطلب ذلك بالضرورة وجود إدارة مدرسية فعالة تستند في إدارتها على العلاقات الإنسانية والمشاركة في اتخاذ القرار من جانب المعلمين والآباء وممثلي المجتمع . ويجب أن تستهدف الإدارة المدرسية تكتيل قوى العاملين والتلاميذ والآباء من أجل العمل على تحقيق أهداف المدرسة . وأن تكون هناك متابعة مستمرة لأنشطة المدرسة وتغذية مستمرة لتصحيح المسار وضمان أداء الكل فرد لوأجب الصحيح . إن مدير المدرسة هو الممثل الأول للإدارة المدرسية وهو المسئول الأول عنها ولهذا يجب أن يتمتع بصفات شخصية ومهنية تؤهله لتحمل مسئوليات هذا العمل الضخم . وتعتمد قوة مدير المدرسة على عدة عناصر رئيسة في مقدمتها مدى قدرته على تجنيد طاقات العاملين ومدى تواجدة وحضوره في مختلف أنحاء المدرسة ومدى اشتراكه الفعال في البرنامج التعليمي للمدرسة ومدى قدرته في تحقيق الاتصال والتواصل فيما يتعلق بأهداف المدرسة . إن مديرى المدارس في ممارستهم لدورهم في الإدارة المدرسية لا يؤثرون تأثيراً مباشراً على التحصيل الأكاديمي للتلاميذ بنفس الدرجة التي يؤثر بها معلموهم من خلال التعليم المباشر . لكن مديرى المدارس يمكن أن يؤثروا على التدريس والممارسات التعليمية في الفصول الدراسية من خلال القرارات
الصفحة 180
التي يتخذونها والتي تتعلق بصياغة أهداف المدرسة ووضع مستويات عالية للتحصيل وتنظيم الفصول الدراسية من أجل الدرس والتعليم وتقديم المصادر الضرورية اللازمة للتعليم والإشراف على أداء المعلمين ومتابعة تقدم التلاميذ والعمل على توفير مناخ إيجابي منظم للتعلم .
وهكذا نجد أن على مدير المدرسة مسئولية كبرى . وقد تبلغ هذه المسئولية درجة كبيرة في النظم التعليمية المعاصرة منها اليابان حيث يكون مدير المدرسة مسئولا عن المدرسة بل وعن سلوك الطلاب داخل المدرسة وخارجها . بل إن مديري المدارس اليابانية يشعرون بأن عليهم تحمل مسئولية ما يحدث من المعلمين والتلاميذ . وتشير مجلة التربية المقارنة (1991) إلى أن الصحف اليابانية تنشر أحيانا انتحار مدير مدرسة لأن أحد التلاميذ أو المعلمين قد قام بعمل مشين للمدرسة ويجلب لها العار (P. 119 : CE) . إن ما يمثله مدير المدرسة اليابانية هي شخصية الرجل الخلوق شديد الحساسية . وقد تبدو مثل هذه الصورة متطرفة لكن هكذا يوصف مدير المدرسة في اليابان باعتباره قيادة تربوية .
أما من حيث العلاقة المهنية بين القيادة التربوية والمعلمين فقد أثبتت بعض الدراسات (P. 313 : ORE : 1990) أن المعلمين يفضلون نمط القيادة المهنية لا الإدارية حيث يقوم القادة التربويون من نظرهم بتوجيههم ومدرسين أوائل بالتخطيط والمناقشة ونقد أعمال المعلمين إيجابيا وسلباً . بل إن المعلمين حسب هذه الدراسات يفضلون أيضا نوعاً من الأوتوقراطية من جانب القيادة التربوية بدلا من الدور السلبي .
ولكن بدون فهم قيام القيادات التربوية بهذه الأدوار المهنية نحو المعلمين فإنهم لن يكون لديهم الوقت الكافي لأداء الأدوار - فقط وهم يقضون وقتهم ضائعا في الأعمال الإدارية والبيروقراطية اليومية التي يكلفون بها من جانب الإدارة العليا والسلطات الرئاسية . ويصدق ذلك على كثير من أنظمة التعليم المعاصرة بما فيها الدول العربية ومنها مصر . وقد أشارت إلى ذلك دراسة حديثة عن الإصلاح الإداري بوزارة التربية والتعليم في مصر (Hanson : P. 59) تقول هذه الدراسة إن من المفروض في أي نظام أن يتبقى أحسن العناصر لتولي مهام القيادة . لكن مثل هذا النظام في مصر موجود على الورق .
الصفحة 181
فقط . أما واقع الأمر فإن اختيار العناصر القيادية يتم بطريقة روتينية . وتستطرد هذه الدراسة فتقول إن رجال الإدارة التعليمية يوليون اهتمامًا كبيرًا للاحتفاظ بدورهم في نظام الخدمة لأنهم يدركون أن ترقيتهم تعتمد بالدرجة الأولى على مدة خدمتهم أكثر من اعتمادها على نوعية أدائهم . وتقول الدراسة أيضًا إن رجال الإدارة التعليمية في مصر على اختلاف مستوياتهم يخضعون لنظام واحد من التدريب والخبرة العملية . فهم يبدأون حياتهم كمعلمين ثم يترقون السلم التعليمي للوظائف الأعلى . مثل هذا النظام أدى إلى وجود نمطية مشتركة في كل نظام الإدارة التعليمية . وتصف الدراسة رجال الإدارة التربوية في مصر بأنهم قادرون على الحفاظ على النظام القائم والقيام بإدارته بدرجة معقولة من الكفاءة . لكن هناك نزعة عامة بين القادة التربويين للنظر إلى الماضي لا للمستقبل للتوسل إلى الحلول . وتمضي الدراسة فتقول إن الإصلاح الإداري التعليمي يركز على المشكلات القائمة والوضع الراهن بدلا من النظر إلى المستقبل .
الصفحة 182
الثقافة : مفهومها وتصنيفاتها ونظرياتها
أهمية دراسة الثقافة :
عرف الإنسان منذ القدم أن الناشئة الصغار لا ينضجون اجتماعيا وثقافيا ما لم يوفقهم السبيل إلى ذلك . والأطفال بدورهم يدركون أن أساليب الرشد تكتسب عن طريق الكبار . واكتشف كل مجتمع أن نقل ثقافته لا يمكن أن يترك للمصادفة . وعليه يوجه عملية نقلها لأفراده ليضمن نقل العناصر الثقافية التي يعتقد أنها ضرورية ولازمة لهم للمحافظة على استمراره وتجديد حيويته . وإذا فإن كل مجتمع يشرف على تربية أفراده . وكل واحد منا في مرحلة معينة من طفولته يربى بطريقة مقصودة وقد لا يتم ذلك بالضرورة في المدارس مع أنها إحدى الوسائل الهامة في التربية .
فالتربية إذن تنتمي إلى العملية العامة المعروفة باسم التثقيف وبواسطتها ينخرط الشخص في طريقة الحياة بمجتمعه . ولفهم ديناميات التثقيف في تأثيرها في التربية ينبغي علينا أن نتجه إلى علم الإنسان . ولعلنا نكتفي بتمثل واحد : هو أن الثقافات كما نعلم تختلف في درجة الانفتاح التي تفرضها بين الطفولة والنضج . ففي بعض الثقافات يكون التقدم إلى المراهقة ممهدا وغير مقطوع . ولكن في بعضها الآخر كما هو الحال في ثقافتنا العصرية يتطلب الأمر من المراهق أن يستكشف بنفسه فجأة طريقة الحياة وما يترتب على ذلك من توتر وصراع نفسي . وتثير هذه المسألة أسئلة على جانب كبير من الأهمية أمام التربية . إلى أي حد يكون الانقطاع أو عدم الاستمرار محتوما بالنسبة لكل شخص ينشأ في مجتمع عصري أو صناعي حديث ؟ وإلى أي حد يمكن التخفيف من ذلك ؟ وكيف يؤثر الانقطاع في دور المدرسة وطرائق التعليم بها ؟
إن التربية كتعليم بالمدارس ليست إلا إحدى وسائط التثقيف ونخص بالذكر منها الأسرة والمؤسسات الدينية ، ومجموعة الأتراب ، ووسائل الاتصال الجماهيرية كما أشرنا . ولكل منها قيمها وأهدافها الخاصة . ولهذا فعلى الرغم من أن المربى قد يريد
الصفحة 186
صفات معينة عند الطفل مثل التفكير الواضح والحكم المستقل . فإنه يجد نفسه قاصرًا عن عمل ذلك . لأن هناك وسائل أخرى تؤثر على تشكيل الطفل بطريقة مختلفة . فالتلفزيون يقدم المعلومات من لآخر وله منهجه الخاص . وهو أيضًا يقدم التسلية والإعلان والدعاية فيثير المشاعر أحيانا . ويعمل على ترويج البضائع من خلال التلميح والتأكيد والإغراء . فهل نستطيع بمثل تلك الوسائل أن ننتج عقولا صافية التفكير ومستقلة ؟ وإلى أي حد تستطيع المدرسة أن تتعاون مع وسائط التثقيف الأخرى ؟ وإلى أي حد يجب عليها أن تعارضها ؟ وإلى أي حد تتنازل هذه الوسائط الواحدة منها مع الأخرى ؟ وإلى أي حد تحدد طبيعة المدرسة ومزودة لدورها . إن رسم السياسات المناسبة للمدرسة يحتم على المربى أن يعرف طبيعة ومدى الوسائط التثقيفية . ولهذا ينبغي عليه أن يولي وجهه شطر علم الإنسان والثقافة .
والتربية كقطاع في الشبكة العظيمة للثقافة تستجيب للأحداث الواقعة في أجزاء أخرى منها . وقد تؤثر في بعض الأحيان في هذه الأحداث ذاتها . وفي الثقافة العصرية الصناعية يمثل العلم وتطبيقاته في التكنولوجيا أداة كبيرة للتغيير . والعالم الغربي يعيش فيما أطلق عليه اسم الثورة الصناعية الثانية . فالثورة الصناعية الأولى تدور حول محور الآلة البخارية والآلة الغزل ويهما حلت الآلة محل العضلة . أما الثورة الصناعية الثانية فقد جمعت قوتها الدافعة منذ عام 1845 على الرغم من أنها بدأت قبل ذلك خلال هذا القرن . فهذه الثورة التي تدور حول الذرة والكيمياويات والآلات الحاسبة . والآلات ذاتية الحركة قد زادت إلى حد بعيد من الطاقة التي نستطيع إنتاجها . وقد بدأت في إحلال الآلات محل الفكر البشري وتحكمه .
وهذه الثورة أكبر بكثير من الثورة الأولى في اعتمادها على الخبير الفني والمهني أكثر من اعتمادها على الهارفي المثقف . لقد أثرت هذه الثورة في مستوى التعليم بالمدارس والمعاهد واهتمت بعمق التخصص الفني والمهني . يضاف إلى ذلك أن المجتمع المعاصر مطرد الزيادة في التخصص مما يؤثر أيضا في مهنة التعليم . وهو يحتاج إلى أعداد متزايدة من الفنيين المهنيين والإداريين والمرشدين النفسانيين والباحثين والمختبرين وغير ذلك من الخبراء . والتربية بدورها ترفع مستوى التقدم في العلم
الصفحة 187
والتكنولوجيا بإنتاج علماء وتكنولوجيين مدربين على درجات أعلى باستمرار .
وفي مجتمع متطور يعتمد على التخصص ويتسارع فيه وقع التغير تكون مهمة المدرسة في نقل الثقافة صعبة ومحفوفة بالكثير من المشكلات . فحجم المعرفة متزايد الأطراف دائم النمو . وليس هناك اتفاق عام على ما ينبغي أن يتعلمه التلميذ . والمعرفة في نفس الوقت تزداد باستمرار في مجال التخصص . وعلى التلميذ أن يتعلم أكثر فأكثر لامتلاك ناصية تخصصه من ناحية ولاستيعاب الثقافة ككل من ناحية أخرى . وأكثر من هذا فإن التغير السريع المستمر يجعل من الصعب التنبؤ بما يجب على الجيل القادم أن يعرف . ولهذا كلما زاد عدد الأشياء التي يجب تعلمها ، فإن الزمن المخصص في تعلمها يجب أن ينقص أو أن تستحدث طرائق أفضل من التعليم والتدريس أو أن يأخذ التدريس المرونة بالفعل لإيصال مختلف المواد . ذلك أن قدرة الإنسان الحديث في تجميع المعرفة تفوق قدرته على اختراع الطريقة المناسبة لإيصالها . ويتطلب وجود مثل هذه الطريقة لإيصال المعرفة الجديدة استحداث أساليب متطورة كما هو الحال في التعليم بالآلات أو التعليم المبرمج على سبيل المثال .
إذن لكي نفهم ما يستطيع نظامنا المدرسي إنجازه ينبغي على المربين أن يتضافروا مع غيرهم من علماء الإنسان للتوصل إلى تصور واضح لعملية التربية في إطار الثقافة ككل . وتستطيع التربية أن تفيد فائدة كبرى من دراستها للمناهج التربوية للثقافات الأخرى سواء كانت بدائية أم حديثة . ويستطيع المربى الذي يدرس التربية في الثقافات الأخرى أن يتعلم من خبرات هذه الثقافات وأن يدرس نظام مدارسه بطريقة أكثر موضوعية . وعلى الرغم من أن المسألة قد تستدعي الانتظار حتى يوضع نظام عام يصلح للتطبيق على النظم التربوية بجميع الثقافات فلابد من القيام بالمحاولة . وعلى المربى أن يتقدم بحرص . ذلك أن الثقافة فريدة ويصعب مقارنتها .
معنى الثقافة :
تشير المعاجم العربية في كلامها عن مادة " ثقف " إلى المعاني العربية لها فتقول : " ثقف الشيء - بكسر القاف - أي ظفر به . وفي التنزيل الحكيم : " واقتلوهم
الصفحة 188
حيث ثقفتموهم " أي حيث ظفرتم بهم . وثقف الرجل صار حاذقًا فطنًا . وثقف الشيء - بتشديد القاف - أقام المعوج منه وسواه . وثقف الرجل ولده - أدبه وهذبه وعلمه . والثقافة هي العلوم والمعارف والفنون التي يطلب المثقف فيها . وهي كلها معان تقترب من المعنى الذي يشيع استخدامه على ألسنتنا في كتاباتنا .
بيد أن مفهوم الثقافة في اللغات الغربية يرجع إلى كلمة (culture) التي تستخدم في الزراعة ويقصد بها تنمية الأرض وزراعتها ، وأصبحت الكلمة تستخدم لتعبر عن زراعة الأفكار والقيم الاجتماعية وتنميتها في الشخصية الإنسانية .
في سنة 1871 نشر السير إدوارد تايلور (1832 - 1917) أول تعريف له عن الثقافة بأنها مركب كلي يتضمن الوان المعرفة والمعتقدات والأخلاق والعادات والقوانين والفنون وغيرها من الأمور التي يكتسبها الفرد أو يتشربها كعضو في المجتمع . وقد خضع هذا التعريف فيما بعد لمزيد من التدقيق والتفسير . ومن أوائل التعريفات الحديثة للثقافة ما يقدمه لنا روبرت ريد فيلد (1897 - 1957) أن الثقافة شكل منظم للتفاهم الجمعي المتعارف عليه يأخذه الخلف عن السلف .
والثقافة كما تستخدم في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا يقصد بها الكل المركب الذي يميز حياة الجماعة بمعنى أن الثقافة تمثل جميع طرائق الحياة التي طورها الناس في المجتمع . وتعنى بذلك طريقة الحياة المشتركة برمتها لدى شعب معين بما فيها طرقهم في التفكير والتصرف ومثلهم العليا كما يعبر عنها في الدين والقانون واللغة والفن والعرف والتقاليد وتشمل كذلك المنتجات المادية مثل المنازل والملابس والأدوات . ونحن قد نتناول الثقافة كسلوك متعلم مشترك من أفكار وتصرفات ومشاعر لدى شعب معين مضاعا إلى ذلك منتجاتهم المصنوعة والمادية . ونعني بكلمة " متعلم " أن هذا السلوك ينتقل بطريقة اجتماعية وليس بطريقة وراثية ، ونعني بأنه مشترك أنه يمارس بواسطة كل الشعب .
وثقافتنا تعني طريقتنا في الأكل والشرب واللعب والملبس . إنها اللغة التي نتكلم بها والقيم والمعتقدات التي نتمسك بها . إنها المظاهر المادية التي تحيط بنا والسلع
الصفحة 189
الخدمات والمنتجات التي نشتريها - إنها الأسلوب الذي نتعامل به أصديقاءنا والغرباء عنا - إنها الطريقة التي نربي بها أطفالنا والطريقة التي نستجيب بها - إنها وسائل الانتقال التي نستخدمها وألوان الترفيه الذي نستمتع بها.
إذن كيف نميز بين الثقافة والمجتمع؟ إن المجتمع هو شعب متمركز في مكان معين يتعاون بعضهم مع بعض عبر حقبة من الزمن من أجل أهداف معينة. والثقافة هي طريقة هذا المجتمع في الحياة، أو هي تلك الأشياء التي يفكر فيها أعضائه ويحسون بها ويضطلعون بها. وكما يقول "فيليكس كيسنج": "يمكن أن نحدد الأمر ببداية البساطة بالقول بأن (الثقافة) تركز على عادات الشعب، بينما يركز (المجتمع) على الشعب نفسه الذي يمارس هذه العادات". نعم إن الحيوانات والحشرات تعيش هي أيضاً في مجتمعات، بل إن بعض الحيوانات مثل قطعان الإبل لها "أسر" و "قادة". ولكن سلوكاً اجتماعياً كهذا هو سلوك غريزي وليس سلوكاً مكتسباً، ومن ثم فإنه لم يُفرض على قيام "ثقافة". إن أهم خصائص الثقافة أنها مكتسبة وتراكمية. ولهذا فهي خاصة بالإنسان دون غيره من مخلوقات الكون.
الثقافة العالمية:
على الرغم من انقسام سكان العالم إلى مجموعات ثقافية فرعية أو تحتية، فإن هناك عناصر ثقافية تربط بينهم جميعاً. ويمكن أن نطلق على هذه العناصر في مجموعها الثقافة العالمية. وفي مقدمة هذه العناصر الثقافة المشتركة للانتماء المكاني إلى كوكب الأرض والانتماء السلالي إلى جنس البشر فكلنا لآدم. كما أن كل سكان العالم ينتظمون في أسر وعائلات. وكلهم يتنمون إلى دين أو عقيدة بصرف النظر عن اختلاف هذه الأديان والعقائد. وكل سكان العالم يمارسون نوعاً من التربية المدرسية كانت أو غير مدرسية وللأقلة أو للأكثرة. وبالطبع فإن الممارسات الخاصة بهذه العناصر الثقافية تختلف من مجتمع لآخر. وليست هناك معايير أو مسائل موضوعية يمكن بها الحكم أو المفاضلة بين هذه الممارسات.
الصفحة 190
بيد أنه يمكن التمييز على مستوى الثقافة العالمية بين مجموعتين كبيرتين متميزتين إحداهما تعرف بالثقافة الشرقية والأخرى تعرف بالثقافة الغربية . وقد كتب الكثير عن الفرق بين هاتين المجموعتين الفرعيتين من الثقافة العالمية . وتوصف الثقافة الشرقية بأنها روحانية في طابعها العام في حين توصف الثقافة الغربية بالمادية المفرطة . أو ما يعبر عنه أحيانا بروحانية الشرق ومادية الغرب .
ويشار إلى الثقافة الغربية عادة على أنها الثقافة التي ترجع في أصولها التاريخية إلى ما يقرب من 25 قرنا من الزمان وتنتسب بصفة خاصة إلى حضارة الإغريق والرومان . كما ساعدت كل من الديانتين اليهودية والمسيحية على إضفاء مسحة مشتركة على الثقافة الغربية . أما الثقافة الشرقية فهي أقدم بكثير من الثقافة الغربية . وترجع في أصولها إلى عناصر هندية وصينية وفارسية وآشورية وبابلية وفرعونية وفينيقية . وقد عمل الإسلام على إيجاد عناصر ثقافية مشتركة لهذه الثقافة الشرقية . وكان تأثير اللغة العربية بالنسبة للغات الشرق كتأثير اللاتينية بالنسبة للغات دول الغرب .
ومن المفهوم بالطبع أن كلا من الثقافة الشرقية والغربية تنقسم بدورها إلى عدة ثقافات فرعية . فالثقافة الأمريكية مع انتمائها إلى الثقافة الغربية تختلف عنها في كثير من الجوانب . وبالمثل يمكن أن يقال عن الثقافة الشرقية فثقافة الصين رغم إنتمائها إلى الثقافة تختلف عن ثقافة الهند . وكذلك الثقافة العربية تختلف عن غيرها من الثقافات وهكذا . ومع أن هناك عبارة مشهورة لأحد المفكرين الغربيين المعاصرين تقول بأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا فإن العالم الحديث كلما تقدم يضيق بمن فيه . ويزداد التقارب بين شعوبه . وتتوحد جهودهم في مواجهة الأخطار التي تتهدده وفي مقدمتها الحرب والجوع والفقر والمرض والجهل والتلوث البيئي والإرهاب والمخدرات والبطالة .
ويقدم لنا رالف لينتون مثالا طريفا على الاعتماد المتبادل للثقافات في مختلف المجتمعات . ويضرب مثلا من واقع الثقافة الأمريكية وإن كان يصدق بالطبع على ثقافات أخرى فيقول (لينتون ص ص 429 - 431)
الصفحة 191
يستيقظ المواطن الأمريكي الميسور الحال من النوم ليجد نفسه في سرير صنع على نول نسيج نشأ في الأصل في الشرق الأدنى ثم أدخلت عليه تعديلات في أوربا الشمالية قبل نقله إلى أمريكا ثم يرد على جسمه ما تشذر به من غطاء مصنوع من القطن الذي نشأت زراعته في الأصل في الهند أو من الكتان الذي نشأ في الشرق الأدنى أو من صوف الأغنام التي ربيت في الأصل أيضاً في الشرق الأدنى أو من الحرير الذي اكتشف استعماله في الصين . أما طرق غزل هذه المواد وحياكتها فقد اخترعت كلها في الشرق الأدنى . ثم يضع صاحبنا قدمه في شبشب اخترعه الهنود في مناطق الغابات الشرقية ويتوجه إلى الحمام الذي تمده تجهيزاته الثابتة مزيجاً من مخترعات أمريكية وأوروبية تعود كلها إلى عهد متأخر .
وفي طريقه إلى الفطور يقتني صحيفة ويدفع ثمنها على شكل عملة اخترعها في الأصل الليديون في آسيا الصغرى . وفي المطعم يصادف مجموعة جديدة كاملة من عناصر اقتبست كلها من ثقافات المجتمعات الأخرى . فالصحن الذي يأكل منه مصنوع من الخزف الذي اخترعه الصينيون والسكين والسكين مصنوع من الصلب اخترع في الأصل في جنوب الهند والشوكة اختراع إيطالي ظهر في القرن الوسطى والملعقة مقتبسة من أحد الأشكال الرومانية القديمة . ويبدأ فطوره ببرتقالة من شرق البحر الأبيض أو قطعة من الشمام من إيران أو ربما قطعة من البطيخ الإفريقي . وأثناء الفطور يشرب القهوة وهي من نبات ظهر في الأصل في أثيوبيا . ويتناول بعض الكعك أو الفطير الذي تطورت أساليب صناعته في اسكندنافيا من القمح الذي طورته زراعته في الأصل آسيا الصغرى . وبعد الفطور .. يطالع صحيفة على شكل حروف اخترعها قدماء الساميين أما الورق الذي طبعت عليه فقد اخترع في الصين بينما اخترعت عملية الطباعة في ألمانيا .. وهكذا .
مضمون الثقافة:
من الممكن ترتيب مظاهر الثقافة بطرق متعددة . فهي مثلا يمكن أن تصنف كنشاط مكتسب مثل ارتياد دور العبادة والتزاوج والتعامل الاجتماعي . كما يمكن أن
الصفحة 192
تصنف كأفكار مكتسبة كالاعتقاد في الله وكراهية العنصرية والحرب، وكتأثيرات مادية كالسيارات والأثاث والأبنية وغيرها. ولقد تصنف هذه الظواهر أيضاً إلى تكنولوجيا (الوسائل التي بواسطتها يعالج العالم المادي) وإلى تنظيم اجتماعي (المناشط والمؤسسات المتضمنة في سلوك أفرادها بعضهم مع بعض) وإلى أيديولوجية (المعرفة والقيم والمعتقدات التي تتضمنها الثقافة) .
وهكذا يمكن أن نميز بين ما يسمى بالجانب المادي للثقافة وهو يشمل كل المظاهر المادية في المجتمع من مبان وطرق ومواصلات وغيرها . وبين الجانب المعنوي للثقافة ويشمل اللغة والدين والعادات والتقاليد والقيم .
تصنيف الثقافة :
من أحسن التصنيفات المعروفة للثقافة التصنيف الثلاثي "لرالف لينتون" إلى عموميات وخصوصيات وبديلات (لينتون : ص 26) .
1 - العموميات : هي العناصر الثقافية العامة المشتركة بين جميع الأعضاء البالغين العاقلين في المجتمع وتشمل اللغة والدين والمعتقدات والقيم الاجتماعية والأفكار والعادات والاستجابات العاطفية وعلاقات القرابة والنماذج المثالية للعلاقات الاجتماعية والأزياء والسكن والمظاهر المادية الأخرى .
2 - الخصوصيات : تشمل العناصر الثقافية التي يشترك فيها أعضاء جماعات معينة تحظى باعتراف المجتمع ولا يشترك فيها كل السكان . وتدخل في هذه الفئة جميع النشاطات المتنوعة التي تعتمد بعضها على بعض اعتماداً متبادلاً والتي أسندت إلى قطاعات مختلفة من المجتمع على أساس توزيع العمل . فهناك في جميع المجتمعات أشياء لا يصنعها أو لا يعرفها إلا جزء معين من السكان وإن كان هذا الجزء يؤدي خدمات لصالح الكل ورفاهيته . فمثلا نجد أن لدى جميع النساء في مجتمع ما إلمام بمهن وطرق فنية معينة بينما يلم الرجال بمجموعة أخرى مختلفة من المهن والطرق . والشائع هو أن الرجال والنساء لا يعرفون عن الجوانب التقنية الخاصة بالجنس الآخر إلا معرفة عامة غامضة نسبيا . ويمكننا أن نصنف في هذه الفئة من
الصفحة 193
العناصر الثقافية تلك النشاطات التي يقوم بها أصحاب الحرف والمهن والوظائف كرجال الدين والأطباء والمهندسين والمعلمين والمحامين والحدادين والنجارين .
وفي معظم الحالات تكون العناصر الثقافية الداخلة في هذه الفئة مهارات يدوية ومعارف فنية . ويعني القسم الأكبر منها بلمور يتعلق باستغلال البيئة الطبيعية والسيطرة عليها . ومع أن أفراد المجتمع لا يشتركون كلهم في هذه العناصر فإنهم يستفيدون من خدماتها والفوائد الناتجة عنها . كما أن لديهم جميعاً فكرة واضحة إجمالاً عن النتاج الذي يجب أن ينتهي إليه كل نشاط تخصصي . فمثلاً قد لا يكون لدى الفرد إلا فكرة عامة عن العمليات التي ينطوي عليها صنع الخبز ولكنه يتمتع بوعي كبير يمكنه من الحكم على مدى جودة الخبز الذي تم إعداده . ويصدق هذا القول على نشاطات الطبيب أو رجل الدين أو المعلم .
3 - البديلات : تشمل العناصر الثقافية التي لا تدرج تحت العموميات أو الخصوصيات . وهي توجد في كل مجتمع ويشترك فيها أفراد معينون ولكنها ليست شائعة عند جميع أعضاء المجتمع أو حتى عند جميع أعضاء أي فئة من الفئات المعترف بها اجتماعياً . والعناصر الثقافية التي يمكن تصنيفها تحت هذه الفئة متنوعة وواسعة جداً في مجالها إذ تضم الأفكار والعادات الخاصة التي كثيراً ما تنفرد بها عائلة معينة دون غيرها . كما تضم أشياء أخرى كاتجاهات المدارس المختلفة في النحت والرسم وغيرها من الفنون . وتلتقي هذه العناصر البديلة في نقطة واحدة هي أنها تمثل ردود فعل مختلفة للأوضاع ذاتها أو وسائل فنية مختلفة لتحقيق الغايات نفسها . وهذه العناصر تكون عادة قليلة نسبياً في ثقافات المجتمعات الصغيرة التي تعيش في ظروف بدائية ولكنها تكثر جداً في ثقافة المجتمعات المعاصرة التي نعيش فيها . ومن أمثلتها استعمال الخيول والدراجات والقطط الحديدية والسيارات والطائرات لتحقيق غاية واحدة هي النقل والانتقال . وتشمل بديلات الثقافة أيضاً الاهتمامات والأذواق التي تظهر مثل الموضات والتقاليع على سبيل المثال . وتعتبر بديلات الثقافة أكثر الجوانب عرضة للتغيير . فهي تتغير بسرعة ويحل محلها مظاهر أخرى سرعان ما تتعرض لنفس ما تعرضت له سابقتها من التغيير . أما الخصوصيات فإنها أقل مقاومة للتغيير وهي
الصفحة 194
بهذا أكثر من البديلات في هذا الجانب إلا أنها أقل درجة من العموميات التي تعتبر أكثر جوانب الثقافة مقاومة للتغيير .
وقد اهتم التربويون بتقسيم "رالف لينتون" ووجدوا فيه نموذجاً يمكن مطابقته على التعليم بمراحله المختلفة . فذهبوا إلى القول بأن عموميات الثقافة هي وظيفة التعليم العام باعتباره التعليم الذي يعنى بإكساب الناشئة العناصر الثقافية الأساسية التي توجد بينهم وتحقق تماسكهم الاجتماعي . وأصبح الهدف الرئيسي للتعليم العام العناية بتعليم مهارات الاتصال والقيم الدينية وألوان السلوك الاجتماعي والحد الأدنى الضروري من الثقافة القومية التي يمكن للناشئة من التفاعل مع مجتمعهم والاشتراك فيه اشتراكاً فعالاً . وليس من الضروري بالطبع أن يتضمن المنهج المدرسي كل عموميات الثقافة فهناك أشياء مثل الطريقة التي نحيي بها الأصدقاء أو الطريقة التي نرتدي بها ملابسنا يمكن أن تترك للفرد ذاته لتعلمها بطريقة ذاتية أو بتشربها من خلال سلوكه في الحياة الاجتماعية العامة .
وينبغي على المنهج المدرسي إذن أن يؤكد على العناصر الأساسية في العموميات الثقافية كاللغة والدين والقيم والمعارف والمهارات والأحاسيس التي تكفل للمجتمع الثبات والاتزان والاستقرار والحيوية وتحقق للفرد إمكانية الحياة والنمو في مجتمعه والسيطرة والضبط على سلوكه .
أما خصوصيات الثقافة فتمثل طرائق التفكير والعمل المرتبطة بمجموعة مهنية كالعلماء والمهندسين والمحامين والمعلمين أو بطبقة اجتماعية معينة كما أشرنا . وفي المجتمع الطبقي الذي يعترف بالتمايز الطبقي بين أفراده تستهدف التربية إعداد طبقة الصفوة إعداداً يخدم مصالحهم واهتماماتهم ويقوم على أساس قيمهم وعاداتهم وسلوكهم . وقد ترتب على وجود هذا النوع من التربية في كثير من المجتمعات إلى حدوث ازدواجية تعليمية تمثلت في وجود نمط راق من التربية لأبناء الصفوة أو الفئة المختارة ونمط آخر متواضع للسوقة من الناس أو عوامهم . وهذا يفسر من الناحية التاريخية لماذا كانت الأنماط التربوية الأعلى كالتعليم الثانوي والعالي مقصورة على القلة أو الصفوة . بل إنه في المجتمعات الأكثر ديمقراطية والتي وجد بها نظام تعليمي واحد
الصفحة 195
نجد أن المنهج المدرسي في مستوياته العليا قد يعكس تمايزاً طبقياً ذلك أن التربية الموجهة إلى إغراض مهنية ترتبط دائماً باحتياجات أفراد من مستويات اجتماعية واقتصادية معينة .
وينظر إلى خصوصيات الثقافة على أنها من اختصاص التعليم العالي والفني والمهني باعتبار أن هذه الألوان من التعليم تهدف إلى إعداد المهن والحرف المختلفة . وهي لهذا تقوم على نوع خاص من الثقافة تستهدف به إعداد مجموعة من الأفراد لعمل معين أو لمهنة معينة وإكسابهم المهارات المعرفية والعملية الضرورية لهذا الإعداد .
أما بديلات الثقافة فليست مقصورة على نوع معين من التعليم . وإنما تتصل بأذواق الفرد وما يحب وما يكره . ومن الطبيعي أن يكون للتنشئة الاجتماعية والتربية دور في تنمية هذا الذوق وترقيته . ولهذا تعتبر بديلات الثقافة محصلة لعوامل متشابكة من المؤثرات التربوية .
انتقال الثقافة :
لا يمكن نقل الثقافة من فرد إلى فرد آخر أو من مجتمع لآخر إلا عن طريق تعبيراتها الظاهرة الخارجية . فكل ثقافة تكتسب بالتعليم ، ولا تورث بطريقة بيولوجية ولا يمكن تعميمها للخارج وإتاحة فرصة تعلمها لأفراد جدد إلا عن طريق السلوك .
ويتم نقل الثقافة من خلال المنظمات الرسمية وغير الرسمية في المجتمع كالأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام وغيرها من القوى المعلمة في المجتمع . وتقوم المجموعات العمرية المختلفة بدورها في عملية نقل الثقافة . ففي الوقت الذي يتعلم فيه الفرد أشياء كثيرة من أولئك الذين يكبرونه سناً نجد أنه يتعلم أشياء كثيرة أيضاً من أترابه وأصحابه ورفقائه . بل إن صلاته بهؤلاء تكون عادة أوثق وأكثر ألفة وصلة رسمية من صلاته بمن يكبرونه سناً . وقد يفسر ذلك في ضوء الاهتمامات والميول المشتركة التي تجمع بينهم وبطبيعة المرحلة العمرية التي يمرون بها واشتراكهم في صفات واحدة تجمع بينهم . فمن النادر أن يقوم البالغون الكبار بتعليم الصغار "لعب اللي" مثلاً وإنما يتعلمها الطفل من طفل آخر . ويمكن أن نضرب مثلاً آخر بالطرق التي يستخدمها المراهقون للتودد
الصفحة 196
بعضهم إلى بعض . فهذه أيضاً تنتقل من خلال المجموعة العمرية الواحدة .
وتنتقل الثقافة من خلال وسائل الاتصال بالرموز . فالإنسان كما يقول "إرنست كاسيرر" "ليس مجرد حيوان عاقل إنه انفعالي كما أنه عاقل أيضاً" . بل إنه على الأصح حيوان رمزي أي مستخدم للرموز . والرموز لا تحل مباشرة محل الأشياء بل بالحرى محل مفاهيم الأشياء . وهي خلافاً للإشارات تستخدم القدرة على التفكير المجرد . فالمفاهيم بعد أن يعبر عنها في لغة تصبح كلمات والإنسان وحده يستخدم الرموز لأن الإنسان وحده يفكر بطريقة مجردة . أما الحيوان فإنه لا يستطيع أن يميز بين الإشارة إلى شيء وبين الشيء نفسه . وهكذا يكون عالم الإنسان برمته مفعماً بالرموز التي خلقتها الثقافة عن طريق اللغة ويقول كاسيرر في عبارة مشهورة : "إن الإنسان لم يعد يعيش في مجر عالم فيزيائي بل يعيش في عالم رمزي . واللغة والدين والفن والأسطورة هي أجزاء من هذا الكون . ولا يستطيع الإنسان أن يواجه الواقع مباشرة ولا يستطيع أن يراه كما هو وجهاً لوجه . إن عليه أن يغلف نفسه في صميم لغوية وصور ذهنية فنية ورموز أسطورية . وطقوس دينية بحيث أنه لا يستطيع أن يرى أو يعرف شيئاً إلا بتدخل هذه الوسيلة الرمزية المصطنعة".
وهناك من يعتقد أن هذه النظرة مبالغ فيها ذلك أن قدرًا كبيرًا من خبرتنا تتكيف في ضوء الثقافة . والكلمة تأخذ ترتيبها في اللغة . التي ربما تكون أقوى العوامل التكيفية بالثقافة برغم أنها تبدو أقلها فعالية . ففي اللغة نغذى عددًا من الوظائف فنحن من خلالها نوصل الأفكار والمعلومات . ومن خلالها أيضًا نعبر عن أنفسنا ونفهم عن انفعالاتنا ونحمل الآخرين على التفكير والإحساس بالطرق التي نفكر ونحس بها . وأكثر من هذا فإن اللغة هي وسيلة لتفسير الخبرة . وتقودنا إلى النظر إلى الواقع بطرق معينة - أعني بالتأكيد على بعض ملامحه .
إن الثقافة البشرية مدينة للغة في غنى محتواها الذي يميزها عن أي أنشطة لدى الحيوان . فاللغة نفسها جزء من الثقافة . وهي شكل من أشكال السلوك المتعلم المنقول . وعلى الفرد أن يكتسبها ويتعلمها بنفس الطريقة التي يكتسب بها أية مادة
الصفحة 197
أخرى من مواد الثقافة . بل إن اللغة هي أول ما يتعلمه الإنسان . وعندما يتعلمها تصبح مفتاحًا يفتح له شتى مجالات الثقافة وتصبح وسيلته في اكتساب المعرفة .
وبواسطة اللغة يمكن للفرد أن ينتقل كل خبرته تقريبًا إلى الآخرين . بيد أن الغنى في التراث الثقافي البشري يفوق الوصف ويتعاظم بدرجة كبيرة تجعله من المستحيل على أي فرد أن يحتكره أو أن يكون مقصورًا عليه . فهناك حدود لقدرة تعلم أي شخص . والثقافات تستطيع بلوغ ما تصل إليه من خصب وغنى لأن الذين يحملونها هم مجموعات من الأفراد . وهي في مجموعها الكلي أكبر بكثير مما يحصله منها فرد بمفرده . وهكذا يمكن أن نفرض ببساطة ما يقال بأنه لم يأت بعد أرسطو رجل ألم بالمجموع الكلي للمعرفة في زمانه ( لنتون : ص ١١٧ ) . ذلك لأن الثقافة بما تتضمنه من المعارف أضخم بكثير من أن يحيط بها رجل واحد .
ويعتمد انتقال الثقافة على قدرة الإنسان النامية إلى حد بعيد على استخدام الرموز . بل وعلى مرونته ومن ثم على قدرته على التعلم . والإنسان خلافًا للحيوان الذي يستجيب إلى أكبر حد لبيئته بطريقة غريزية عليه أن يتعلم كيف يستخدم بيئته ويتكيف لها . ولقد أجبرته غرائزه خلال المحاولة والخطأ على تطوير حلول لمشكلات الحياة نقلها إلى ذريته الذين يجدون بسبب افتقادهم إلى حلول غريزية من نواتج أنفسهم إلى تعلم هذا التراث بحكم الضرورة . ويقول الفيلسوف الفرنسي "دوركايم" إن المسافة بين الإمكانات الفجّة التي يتكون عليها الإنسان في لحظة ميلاده وبين الشخصية الناضجة التي ينبغي أن يصير عليها ليلعب دورًا مفيدًا بالمجتمع ، إنما هي مسافة لا يستهان بها . وعلى التربية أن تتحمل الطفل على قطعها . وهكذا نرى أن ثمة مجالًا واسعًا مفتوحًا أمام تأثير التربية على الإنسان ليتعلم كيف يعيش على نحو أفضل .
الصفحة 198
نظريات الثقافة:
هناك ثلاث وجهات نظر للثقافة أولاها وجهة النظر فوق العضوية Super Organic التي تعتبر الثقافة حقيقة علوية توجد بعيدًا عن نطاق حامليها من الأفراد، وتعمل وفق قوانينها الخاصة بها. وثانيتها وجهة النظر التصورية Conceptional التي ترى أن الثقافة ليست كينونة على الإطلاق بل هي مفهوم يستخدمه علماء الإنسان للدلالة على مجموعة من الوقائع المختلفة المتفرقة. وثالثتها وجهة النظر الواقعية Realistic التي تنظر إلى الثقافة على أنها مفهوم وكينونة معًا. فهي مفهوم لأنها مركب عقلي من العلم الطبيعي وعلم الإنسان. وهي كينونة واقعية لأن هذا المفهوم يدل على الطريق الذي ينتظم وفقه ظواهر معينة بالفعل - وسنفصل الكلام عن وجهات النظر الثلاث من حيث علاقتها بمسألتين كبيرتين في التربية هما :
1 - هل يجب أن تنشد المدرسة بالدرجة الأولى التأثير في تطور الثقافة أي أنها تعمل على تشرب الناشئة الثقافة ؟
2 - هل يجب على الطفل أن يتعلم هذا التراث كما يقدمه له مدرسوه ؟ أم أن من الواجب عليه أن يكون بنفسه فكرته الخاصة وصورته الشخصية عن الثقافة ؟ .
وجهة النظر العلوية أو فوق العضوية للثقافة:
إن جوهر النظرة العلوية أو فوق العضوية هو أن الثقافة حقيقة فريدة . وأن لها قوانينها الخاصة بها . وعلى الرغم من وجود عوامل معينة - تكنولوجية واقتصادية مثلًا - قد تشكل المصدر الرئيس لنمو الثقافة ، فلا يعني ذلك رد الثقافة إلى هذه العوامل . فالثقافة لا تفسر في ضوء مصادرها كما لا يفسر الجزء في ضوء ذراته . والمصادر تشرح كيف انتهت الثقافة إلى ما انتهت إليه لا لأن الثقافة باختصار هي أكثر من نتيجة القوى الاجتماعية أو الاقتصادية . إنها الحقيقة التي تجعل تلك القوى ممكنة .
الصفحة 199
ولم يقدم أحد وجهة النظر فوق العضوية بشكل أروع مما قدمها مبدعها إميل دوركايم المفكر الفرنسي المعروف . لقد قال إن الثقافة تتشكل من "عوامل اجتماعية" ومن "تمثيلات جمعية" هي طرق للتفكير والإحساس والاستجابة مستقلة عن الفرد وخارجة عن نطاقه . وتفرض هذه الأنماط من السلوك قوة إجبار أو قهر على الفرد تتمثل في معاقبته سواء بطريقة قانونية أم بطريقة خلقية عند مخالفتها أو الإخلال بها .
والثقافة لدى "دوركايم" تفهم كمجموعة من العوامل الاجتماعية فهي جوهرية وواقعة وراء الخبرة وتعمل عملها في شكل الأفراد ، مؤدية بهم إلى السلوك وفق طرق معينة . وهي من وجهة أخرى توجد خارج نطاقهم في الصور الجمعية التي ينبغي عليهم التطابق معها . ولقد أعلن دوركايم أن الثقافة "شعور جمعي" . "أنها كائن نفسي له طريقته الخاصة من التفكير والإحساس والتصرف المختلف عن تلك الطريقة الخاصة بالأفراد الذين يكونونه" . واعتقد مثل "هيجل" أن أفضل ما لدى الإنسان إنما يتلقى له عن ثقافته عندما تعمل عملها بداخله . وهكذا فإن الشخص يحقق ذاته إلى الحد الذي يصبح عنده مندرجًا تحت لواء ثقافته وتصبح مطامحه مطامحه . وعلى العكس من هذا كلما كان الإنسان أكثر تمركزًا حول ذاته ، صارت شخصيته أكثر قصورًا وكان أكثر ميلًا إلى التقوقع والانحصار .
ولقد دافع بين علماء الإنسان الناطقين بالإنجليزية وجهة النظر العلوية أو فوق العضوية بواسطة "مالينوفسكي" و "كرويبر" الذي نحت لفظ "فوق عضوي" . ولكنه بعد ذلك اقترب من الموقف التصوري واليوم يعتبر "ليزلي هوايت" زعيم المشايعين لها .
والسلوك الإنساني من وجهة النظر فوق العضوية قد يتحدد ثقافيًا . وهو الذي يجعل الثقافة ممكنة لأنه لا توجد ثقافة بدون أن يكون لها "ناقلون" من البشر . والثقافة تتحكم في حياة الناس تمامًا كما تتحكم الرواية في كلمات وتصرفات الممثلين . يقول هوايت : "إن الفرد تنظيم من قوى وعناصر ثقافية تجد تعبيرًا خارجيًا لها من خلاله . والفرد منظورًا إليه على هذا النحو ليس سوى تعبير عن التراث فوق العضوي في صيغة جسمية . والإنسان يستطيع أن يتحكم في جوانب معينة من العالم الطبيعي
الصفحة 200
بيد أنه لا يستطيع التحكم في الثقافة لأنه هو نفسه جزء منها.
المضامين التربوية
للنظرة فوق العضوية ثلاثة مضامين رئيسية للتربية: المضمون الأول هو أن التربية عملية تحكم الثقافة بواسطتها في الناس وتشكيلهم في ضوء أهدافها. إنها الوسيلة التي تستخدمها المجتمع لتحقيق أهدافه الخاصة. ففي وقت السلم يربي المجتمع المسلم وفي حالة الحرب يربي للحرب. وليس الشعب هو الذي يتحكم في ثقافته من خلال التربية بل الأحرى هو أن التربية مدرسية وغير مدرسية تعد مختلف الأجيال في نظام ثقافي معين. إن السياسات التربوية تحدد بواسطة الأفراد ومن خلالهم تحقق قوى الثقافة وأهدافها. وعندما يختار المربون فهذا يعني أن الثقافة تختار من خلالهم.
المضمون الثاني هو أنه إذا كانت الثقافة تحدد سلوك أفرادها. فإن المنهج ينبغي أن يوضع في ضوء دراسة صريحة للثقافة الدولة من حين لآخر. وينبغي أن يتضمن جميع تلك الأفكار والاتجاهات والمهارات التي تزيد من فعالية الفرد في نقل ثقافته. فالمواد الدراسية يجب أن تكون مغرية بعناية حتى تضمن ارتباطها ارتباطا مباشرا بالمنهج الأساسي. ولن تكون تربية الطفل مناسبة إذا اقتصر على دراسة ما يثير اهتمامه من ثقافته. بل الأحرى أن يركز اهتمامه على العناصر التي ترى السلطات التربوية بعد دراسة دقيقة للاحتياجات الثقافية أن معرفتها ضرورية له.
المضمون الثالث هو أن النظرة فوق العضوية تقتضي إشرافا حكوميا مباشرا على التربية لضمان قيام المدرسين بتعليم الناشئة الأفكار والاتجاهات والمهارات الضرورية للاستمرار الثقافي. وهي تقتضي أيضا تركيزا أكثر لأن الثقافة المعاصرة تميل إلى محو الفريق الإقليمي. وثم ثم التركيز على تربية أساسية واحدة للجميع. هذا التركيز إلى جانب إشراف الدولة يؤديان بدورهما إلى الحد من إنشاء المدارس الخاصة ولكن لا يعني ذلك إلغاءها.
الصفحة201
نقد وجهة النظر العلوية أو فوق العضوية
يمكن توجيه النقد إلى وجهة النظر العلوية أو فوق العضوية بأنها تعزل الثقافة وقواها عن العوامل الإنسانية التي تجعلها ممكنة. ويرى أصحاب النظرة فوق العضوية أن ضغط الثقافة على السلوك الإنساني حادث على نطاق واسع واستخلصوا من ذلك أن الثقافة لابد أن تكون كينونة مستقلة. ومع هذا فالواقع أن الضغوط الثقافية جميعها تمارس بواسطة الأفراد. فالتضخم يمثل ظاهرة ثقافية. وهو نتيجة زيادة حجم المال على إنتاج البضائع والخدمات. ولكن الناس هم الذين يصنعون المال والبضائع والخدمات. فالتضخم إذن ليس عملية مستقلة عن الناس بل نتيجة أنواع معينة من السلوك الإنساني الجمعي. والتربية النظامية بالمثل ليس قوة ثقافية مستقلة بل هي بالأحرى وسيلة توصل إليها الناس لتحقيق أهداف معينة. وينبغي أن نشير إلى أن الثقافة تضع قيودا على تصرفاتنا لكننا في حدود تلك القيود نكون أحرارا نسبيا من حتميتها أي أنها حرية في إطار القواعد والنظام شأن كثير من الأمور. فلعبة الكرة لها قواعد وإشارات المرور لها قواعدها وسير القطار على القضبان له قواعده. وهذه القواعد لا تعني تقييد الحرية. وإنما هي جزء من النظام الذي يجعل لهذه الحرية معنى.
والثقافة فوق عضوية بمعنى أنها علوية لها قوانينها الخاصة وتنمو أكثر مما ينمو الأفراد وهي مسئولة إلى حد بعيد عن صياغة السلوك الإنساني. لكنها ليست كينونة مستقلة وتحدث ذاتها وتوجه ذاتها. فالفرد بعد أن يتعلم أشكال السلوك المقبولة لمجتمعه يمارسها بطريقة لا شعورية عادة. وقد يواجه صراعات مع الأفراد الآخرين. وهكذا يبدو أنه خاضع لأنماط سلوكية توجد مستقلة عن ذاته. بيد أنه في الواقع يكون متوافقا مع العادات التي سبق أن تشربها. فالعادات قد تعدل سلوك الناس لكنها ليست مستقلة عنهم.
وجهة النظر التصورية للثقافة
يعتقد معظم علماء الإنسان الأمريكيين فيما أطلق عليه اسم وجهة النظر التصورية للثقافة. فهم يقولون إن الثقافة مفهوم أو مركب عقلي. وبما يلاحظه الناس ليس
الصفحة202
الثقافة في حد ذاتها، بل هي أشكال من السلوك المتعلم الذي يمتزج بإنتاجاتهم المادية. ومن هنا جردت فكرة الثقافة - يقول رالف لينتون - "أن الثقافة تصقل عقول الأفراد الذين يشكلون مجتمعا ما. وهي تستمد جميع صفاتها من شخصياتهم وتفاعلهم سويا. والناس أنفسهم يتأثرون بما سبق أن فعله الآخرون في الماضي. فالممارسة الثقافية كالمصافحة باليدين أو شرب القهوة أو إحدى النتاجات الصناعية كالطائرة، وغيرها لا تتأتى عن قوى فوق إنسانية. بل إنها تستمد نتيجة حاجة الناس للعيش سويا".
المضامين التربوية
إن النظرة التصورية تعالج الثقافة كخاصية للسلوك الإنساني لا ككينونة في حد ذاتها. وهي لهذا تتفق مع وجهة النظر القائلة بأن الطفل ينبغي أن يتعلم التراث الثقافي وأن يكون صورته عن الثقافة بخبرته الخاصة في ضوء خبرة الآخرين، وبشرط أن يصل في النهاية إلى صورة موضوعية للثقافة. ومع هذا فالنزعة التصورية لا تؤيد القول بأن على الطفل أن يتعلم ما يقبله زمنه. فالثقافة في حد ذاتها قد لا تكون حقيقة مطلقة. ولكنها تتضمن عددا كبيرا من أنماط السلوك التي ينبغي أن يتوافق معها الفرد بنفس الطريقة التي ينهج الآخرون وفقها. ولذا فإن عليه أن يتعلم هذه الأنماط جميعا بقيمها وبغضها لا ما يحبه منها فقط. والنزعة التصورية تنسجم مع المبدأ القائل بأن التربية يمكن أن تكون أداة للإصلاح الاجتماعي. ولكنها لا تؤدي بالضرورة إلى هذه النتيجة. ومما لا شك فيه أن أصحاب النظرة التصورية لا يعلقون أملا كبيرا على المدرسة بقدر ما يعلق أصحاب النزعة الإصلاحية الاجتماعية. ومع هذا فإن أصحاب النظرة التصورية يؤمنون على أن المدرسة قد لا تكون قادرة على التغيير الثقافي لكنها تستطيع أن تفعل الكثير لخلق جو يساعد على التغيير وهو أمر ضروري يوفر للمجددين أن يجيئوا أفرادا معدين لهم. وهكذا تظهر أنماط ثقافية جديدة ورائدة.
وجهة النظر الواقعية للثقافة
هناك نفر قليل من أصحاب النظريات يؤكدون أن الثقافة مفهوم وحقيقة في نفس الوقت. فالثقافة تجريد بمعنى أنها لا يمكن ملاحظة مقوماتها أو الأنماط المكونة لها.
الصفحة203
إن الثقافة في حد ذاتها مركب عقلي بمعنى أنها ليست كينونة قابلة للملاحظة. ولكن الثقافة بمعنى آخر حقيقة واقعة. لأننا إذا كنا لا نستطيع ملاحظتها بمرمى من وقت واحد، فإنها لا تختلف في هذا الاعتبار عن الكينونات الأخرى. شأنها شأن النظام الشمسي الذي لا نناقش حقيقته.
ويتفق الواقعيون والتصوريون على نبذ الحتمية الثقافية الكاملة. وعلى الرغم من أن الأحداث الماضية والحاضرة تحدد ما يستطيع الأعضاء في ثقافة ما عمله في لحظة معينة فإن الثقافات لا تتبع منطقا متصلا متصلبا من أنفسها.
إن السبب المباشر للتغيير الاجتماعي هو سوء التكيف الفردي. ففي أوقات الاستياء المنتشر على نطاق واسع يكون لغة من الأفراد المبتكرين أن يستحدثوا أنماطا ثقافية جديدة سرعان ما يتقبلها الآخرون. وبذا فإن التغير الاجتماعي يرتد في أصله إلى التوترات والاستياءات التي يحس بها أفراد معينون. وعندما يكون عدم الاستقرار شديدا بدرجة كافية فإن أنماطا جديدة تنشأ لدى أفراد قليلين مبتكرين يقرها المجتمع بأسره تدريجيا.
النظرة الواقعية والتربية
تقترب النظرة الواقعية للثقافة من مدارس الفكر التربوي التي ترى تكييف الطفل لواقع موضوعي سواء أكان واقعا طبيعيا أم ثقافيا. وذلك بأن تغرس في عقله معرفة وقيمًا ومهارات معينة تكون الثقافة قد اختارتها بالفعل. والواقعية تؤكد أكثر مما تؤكد التصورية على المثالية بنظام تربوي يعمل على تدريب الناس على الحكم وعلى تغيير ثقافتهم تبعا لقيمها الأساسية.
ويريد كثير من التقليديين التربويين التوصل إلى هذه الغاية بأن ينشئوا الصغار على حقائق وقيم يفترض أنها دائمة. ويدعو مربون تقليديون آخرون إلى التدريب العملي الذي يعتبر ضروريا للناشئة إذا ما أريد لهم أن يختاروا تلك الأهداف التي تسمح بها حالة الثقافة. وإذا ما أريد لهم أن يستخدموا قوانين الثقافة بقدر معرفتهم حتى يحققوا مثل تلك الأهداف. ويجب أن يكون التغيير بتعبير آخر تطوريا وليس ثوريا أي أنه
الصفحة204
ينبغي أن يستهدي بالفروق الأساسية للثقافة.
خصائص الثقافة: تتميز الثقافة بعدة خصائص من أهمها:
1- إنها عضوية وفوق عضوية في وقت واحد. فهي عضوية في أنها متصلة بصفة جوهرية في الكائن الحي الإنساني. وبدون أن يعمل الناس ويفكروا ويحسوا ويقوموا بصنع المنتجات الصناعية لا يمكن تصور قيام ثقافة على الإطلاق. والثقافة فوق عضوية بمعنى أنها تعمر بعد الأجيال المتعاقبة، وبمعنى أن مضمونها هو نتاج المجتمع الإنساني أكثر من أن يكون نتاجا لبيولوجية الإنسان.
2- أنها علنية ومستخفية في نفس الوقت. فهي علنية في تلك الأعمال والنتاجات الصناعية كالمنازل والملابس وأشكال الحديث التي يمكن مشاهدتها بطريق مباشر. وهي مستخفية في تلك الجوانب كرموزها المتضمنة تجاه الطبيعة وعالم الروح وهو ما يجب استنتاجه مما يقوله أفراد المجتمع ويفعلونه.
3- أنها واضحة ومضمرة. فالثقافة الواضحة أو الصريحة تتكون من جميع الأساليب السلوكية كقيادة السيارة وتكوين علاقة اجتماعية والمشاركة في لعبة رياضية تلك التي يمكن أن يصفها بسهولة أولئك الذين يمارسونها. أما الثقافة المضمرة فإنها تتضمن تلك الأشياء التي يأخذها الناس على علاتها تقريبا والتي لا يستطيعون تفسيرها بسهولة. فمثلا جميع الراشدين العقلاء يستطيعون التحدث بلغة ثقافتهم. ولكن قليلا منهم يستطيعون تفسير قواعدها ونحوها وصرفها وبناء جملها بأي تفصيل.
4- أنها مثالية وواقعية. فالثقافة المثالية تشتمل الطرق التي يعتقد الناس أن الواجب عليهم السلوك وفقها، أو التي قد يرغبون في إنتاجها أو التي يعتقدون أن من الواجب عليهم السلوك بمقتضاها. أما الثقافة الواقعية فإنها تتشكل من سلوكهم الفعلي. وفي الثقافات التي تجتاز تغيرا سريعا فإن الفاصل بين الثقافة المثالية والثقافة الواقعية آخذ في الاتساع. ذلك أنه كقاعدة عامة نجد أن
الصفحة205
الظروف المتبدلة وبخاصة التكنولوجيا المتغيرة سرعان ما تفوق في سرعتها المثل العليا. قارن بين المثل الأعلى المتعلق " بالحرية وبين السيطرة الفعلية للاقتصاد بواسطة عدد قليل نسبيا من الشركات الكبيرة في المجتمعات الرأسمالية".
5- أنها ثابتة ومتغيرة. والواقع أن كل صفة من هاتين الصفتين تستلزم منطقا للصفة الأخرى. ذلك أن التغير لا يمكن أن يقاس إلا في مقابل العناصر التي تعد ثابتة نسبيا. ولا يمكن قياس الثبات إلا في مقابل تلك العناصر التي تتغير بسرعة أكبر. وبعض الثقافات أكثر مرونة من غيرها ويمكن أن تتوافق مع درجة سريعة من التغير دون أن تصاب بالتحلل. وبالإضافة إلى هذا فإن إحدى الثقافات قد تكون أكثر تقبلا للتغير في بعض الاعتبارات عنها في اعتبارات أخرى. ففي الثقافات الغربية نجد أن التكنولوجيا مثلا تتغير بشكل أسرع من تغير القيم. ومع هذا فلا القيم ولا الأيديولوجيا تظل ثابتة وإنما تكون نسبية وشاملة. فهي نسبية لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان وتختلف من مجتمع لآخر ومن عصر لعصر وهي شاملة لأنها تنظم المجتمع الإنساني برمته.
وسنفصل الكلام عن نسبية الثقافة وشمولها وتغيرها في السطور التالية :
(1) النسبية الثقافية
من مضمون النسبية الثقافية هي أن كل ثقافة فريدة في بابها، ويجب لذلك أن تحلل في حد ذاتها والمقارنة المستعرضة قد تكشف عن أوجه شبه بين ثقافات معينة ولكن ليست هناك صفات مشتركة فيما بينها جميعا بالضرورة. وبذا يكون التصنيف الشامل صعبا إلى حد بعيد وربما يكون مستحيلا. وتتطلب النسبية الثقافية أيضا أن تكون الطبيعة الإنسانية مرنة في ضوء الزمان والمكان.
وقد تشكلت النسبية الثقافية بشكل واضح على يد " فرانز بواس " وعلى يد المدرسة الواقعية لدحض الاعتقاد السائد في القرن التاسع عشر القائل بطريق عام بوجود للتطور الثقافي. وتبعا " لبواس " كل ثقافة فريدة في بابها لأنها جزئيا نتاج الظروف التاريخية غير المتواترة. ولقد برهنت " روث بينيديكت " فيما بعد على أن كل
الصفحة206
ثقافة فريدة في بابها وأنها التعبير الوحيد والصحيح عن الإمكانات الإنسانية. ومن ثم فليس ثمة معيار شامل للممارسة الثقافية. وأصحاب النزعة الوظيفية كانوا أيضا نصيبيين في مناقشتهم بأن العناصر الثقافية ينبغي ألا يحكم عليها إلا بما يسهم في رفع مكانة ثقافتها الخاصة وليس في ضوء معايير مستمدة من ثقافات أخرى.
والنسبية الثقافية هي أحد أشكال النسبية الخلقية. ذلك أنها تتطلب أن تكون القيم الخلقية غير صحيحة إلا بالنسبة للثقافة التي تؤمن بها. فهي تعني مثلا أنه ليس لنا الحق في نقد عادات الشعوب الأخرى. لأننا بذلك نكون قد امتدنا بقيمنا الخاصة خارج السياق الوحيد الذي تختص به. والميزة الكبرى في هذا النوع من النسبية الخلقية هي أنها تجعلنا متسامحين تجاه الثقافات الأخرى ولا نصر على البت في أمورها باسم قيمنا الخاصة. أي ينبغي أن نراعي الشريعة الخلقية لثقافتنا بينما نحترم حق الشعب الآخر في مراعاة شرائعه الخاصة.
ومع هذا فإن النسبية الثقافية تخلق أيضا مشكلة خلقية خاصة بها. فهل لنا أن نتقبل أي عرف باعتبار أن له ما يبرره بغض النظر عن مدى رفضنا أو مقتنا له طالما أنه يشكل جزءا متكاملا في ثقافة أخرى ؟ أليس لنا الحق في أن نعترض أو أن ننهي على الظلم والتمييز العنصري والإبادة الجماعية وأكل لحوم البشر والرقيق والتعذيب لمجرد أنها تمارس بواسطة شعوب أخرى ؟ لقد عرف عن النسبيين المتطرفين نقدهم لممارسات كان عليهم من الناحية النظرية التسامح نحوها.
إن النسبية تجعل من أي ثقافة الإطار النهائي للمرجع الخلقي. فالنسبي يرى أن الأفراد وحدهم هم الذين يحكم عليهم بسوء التكيف وليس الثقافات. وقد أشار " فروم " Fromm إلى أن النسبي لا يعترف منطقيا بأن إحدى الثقافات قد تنحرف بتطور أفرادها لأنه ينكر وجود أية معايير للحكم على الثقافات. إن النسبية تجعل من المستحيل علينا أن ننظر لثقافتنا الخاصة على أساس ثقافات أخرى نعتقد بأنها أعلى من ثقافتنا. لأن النسبية تجعل من العبث اعتبار مثل هذه القيم أعلى على الإطلاق.
الصفحة207
النسبية الثقافية والتربية
إذا كانت كل ثقافة - كما يعتقد النسبي - فريدة في بابها، إذن لكل ثقافة حاجاتها الخاصة التي ينبغي أن تشبعها التربية. وليس هناك شكل واحد من أشكال التربية مناسب بشكل شامل وعام. وإذا كان الإنسان الناضج هو نتاج ثقافته أكثر مما هو نتاج ما يسمى بالطبيعة الإنسانية نتج عن هذا أنه لا توجد تربية وحيدة مناسبة للإنسان في ذاته. بل هناك مدى من النظم التربوية المتنوعة المناسبة للناس بثقافاتهم المختلفة. ذلك أن الطبيعة الإنسانية هي نتاج زمانها ومكانها.
ويوجه النسبيون الثقافيون الانتباه إلى قدرة الثقافات على التغير وذلك بإنكارهم أن هناك طبيعة إنسانية عامة أو مثلا أعلى شاملا للثقافة. فالتربية تختلف من ثقافة لأخرى. بل إنها قد تقبل التغيير في نطاق ثقافة واحدة. إن المزايا الأصلية لأي نظام تربوي وبخاصة تلك النظم التي عليها أن تجابه التغير تتمثل في المرونة والمطاوعة والرغبة في التجريب.
وقد يؤدي التأكيد على خاصية التغير الثقافي إلى الاعتقاد بأن التربية ذاتها يمكن أن تدخل تغييرات في الثقافة. أو ربما توجه طريقها. وإذا كانت الثقافة مرنة فإن التربية لا تكون مقيدة كلية بالتراث. بل تكون حرة بشكل معقول في تشكيل الجيل التالي من جديد. وهكذا ينبغي على المدرسة أن تمهد الطريق لتغيير فكري يرى بنفسه في تلاميذه نظرة عقلية متطورة. وتعني النسبية الثقافية بالنسبة للمعلم عدم التعصب لآرائه وعدم فرض آراء معينة على التلاميذ بدون مناقشة أو تفكير. كما تعني عدم تعصبه لثقافته القومية وتحقير الثقافات الأخرى. وينبغي أن ينمي لدى تلاميذه النظرة الموضوعية نحو تلك الثقافات الأخرى وأن ينشئهم على تقبل التطور والتغير كسنة الحياة وأن ينمي لديهم شعور الولاء والانتماء لثقافتهم القومية واحترامها. وفي نفس الوقت يوسع نظرتهم إلى هذا الانتماء ليشمل الانتماء الإنساني للبشرية جمعاء فكلنا لأدم وآدم من تراب.
الصفحة208
(ب) شمول الثقافة
إن الشمول يسلم بواقع التنوع الثقافي ويؤكد أنه طالما أن الطبيعة الإنسانية في صيغتها الأساسية شاملة فإن الثقافة يجب أيضا أن تكون شاملة. وقد تفسر هذه الطبيعة الإنسانية الشاملة تنوع الثقافات والملائم المشتركة فيما بينها. والنوع الإنساني يتسم بالشمول - فثمة حقائق معينة بيولوجية وسيكولوجية بالإضافة إلى ظروف خاصة بالحياة الاجتماعية مشتركة بين جميع الناس في كل مكان. وبالتالي فإنها تتطلب أشكالا معينة من التعبير الثقافي. فجميع الثقافات يجب أن تلتقي مع الضرورات الشاملة للحياة الإنسانية. ويلخص "كلوكهوهن" هذه الضرورات بقوله :
"إن جميع الثقافات تشكل بصورة أساسية كثيرا من الإجابات المتمايزة عن نفس الأسئلة التي تفرضها البيولوجية الإنسانية وتعميمات الموقف الإنساني، ويجب أن يوفر كل مجتمع طرقا للحياة متفقا عليها ومشروعة لمعالجة بعض الظروف الشاملة مثل عجز الأطفال الصغار والحاجة إلى إشباع المتطلبات البيولوجية الأولية كالغذاء والدفء، ووجود أفراد من أعمار مختلفة ومن طاقات مختلفة جسمية وغير جسمية. أما أوجه الشبه الأساسية للبيولوجيا الإنسانية بالعالم كله فهي ذات مدى بعيد من التباينات. وينفس القدر هناك ضرورات معينة في الحياة الاجتماعية بغض النظر عن المكان الذي توجد فيه تلك الحياة أو الثقافة. ويتطلب التعاون من أجل البقاء حدا أدنى معينا من السلوك المشترك ومن نظام مقنن للاتصال. كما يتطلب في الواقع قيما مقبولة لدى الأطراف المعنية".
ولكن ما هي بعض الخصائص الشاملة للثقافة ؟ إن جميع الثقافات تضع قيودا أخلاقية على العنف. وجميعها تربي إحساسا بالولاء ولجميعها طرق معينة في كسب العيش أو التجارة أو الصناعة. ولجميعها نظم تشريعية تتعلق بالأسرة. ولدى جميعها تصور معين عن الكون ومكانة الإنسان فيه. ولجميعها شريعة خلقية. ومن الصعوبات الأخرى التي تذكر كثيرا : اللغة ومجموعة من الاتجاهات نحو المشكلات الأساسية كالموت والتنظيم الاجتماعي والقانون. وبناء على أسس مشابهة كهذه يقيم كل مجتمع البنيان الفوقي المتميز للثقافة. وهكذا فإن حاجة إنسانية أو اهتماما إنسانيا ما قد ينتج
الصفحة209
مجموعة كبيرة من التعبيرات الثقافية. وتتطلب الشمولية الثقافية شمولية خلقية. فجميع الثقافات من هذه الزاوية تعترف بقيم معينة مشتركة تتناسب وحاجات الطبيعة الإنسانية. يقول دافيد بيدني :
"يحتل بقاء المجتمع بالنسبة لجميع الثقافات الأولوية على حياة الفرد. وليس هناك مجتمع يتغاضى عن الخيانة أو القتل أو الاغتصاب أو غشيان المحارم. وتعترف جميع المجتمعات بحقوق وواجبات متبادلة في الزواج وتدين التصرفات التي تهدد تماسك الأسرة. وجميع المجتمعات تعترف بالملكية الشخصية وتوفر أساليب معينة لتوزيع الفائض الاقتصادي على المحتاجين".
شمول الثقافة والتربية :
الطبيعة الإنسانية تبعا للنظرية التربوية التواترية طبيعة شاملة. فجوهر الإنسان يتمثل في الغاية التي يحيا من أجلها. والتي يجب أن تكون غاية دينية وعقلية وفكرية. قد يبدو كثير من الناس مختلفين من ثقافة إلى أخرى. ولكن هذه الغاية تظل على حالها. وإذا نجد أن جميع أشكال التربية في ظل جميع الظروف لها مثل أعلى ثابت سواء كان موافقا عليه أم لا - لتنمية الموهبة العقلية. وبالتالي لتحسين الإنسان كإنسان. ونظرا لأن القوى التي تحتك بالطبيعة الإنسانية متغيرة باستمرار. فإن الوسائل المستخدمة لإحراز هذا المثل الأعلى سوف تختلف من ثقافة إلى أخرى. وكلما زادت معرفتنا عن الطبيعة وكلما زدنا من دراستنا لها زاد علمنا وتفهمنا لها.
ويجب على التربية أن تركز على الصفات العقلية والفكرية التي يشارك فيها جميع الناس وليس على الحاجات والاهتمامات التي يشعر بها الطفل الفرد. يقول هنتشنز إني لا أنكر حقيقة الفروق الفردية، ولكني أنكر أنها حقيقة تتعلق بالناس أو أنها الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن يقوم على أساسها النظام التعليمي. إننا اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى تربية مرسومة لتنشئة إنسانية مشتركة بدلا من التفريع في فرديتنا. وهذا لا يعني تجاهل هذه الفروق الفردية بين الناس.
وثمة اعتراضان موجهان إلى شمول الثقافة. الاعتراض الأول أن الشمول قد
الصفحة210
يحرف الوقائع الخاصة بالثقافات المختلف لتكييفها وفق ثقافة ما شاملة. أما الاعتراض الثاني فهو أن الشمول يستلزم المعيار الخاص بثقافة ما على الجنس البشري ككل باعتبارها نموذجا شاملا لنظام تربوي لا يناسب إلا مرحلة معينة في تطور ثقافة معينة. فحسب الشمول الثقافي يجب أن تعلم قيم خلقية وروحية معينة تعتبر مطلقة وشاملة.
الإنسان يصنع الثقافة وهي تصنعه :
تعد الثقافة من صنع يدي الإنسان وشرطا للحياة الإنسانية. فالإنسان يوّلد الثقافة، ولكن الثقافة بدورها هي التي تصنع الإنسان. وإذا كنت تشك في هذا فانظر إلى طفلك. ففي بداية الميلاد يعتمد كلية على الآخرين. بيد أنه يصير فيما بعد راشدا وقادرا على القيام بدوره في الحياة الاجتماعية بكل نشاطها. والذي أحدث ذلك هو التكييف أو تشرب الثقافة. وهي عملية يتشرب الشخص بواسطتها أنماط الفكر والتصرف والإحساس التي تشكل ثقافته. ومن المعروف أن الأطفال الذين نشئوا بين الحيوانات يسلكون بطريقة مماثلة لها لكنهم إذا ما أخذوا صغارا بدرجة كافية فإن قدراتهم الإنسانية قد يتسمى نموها. فالتثقيف وحده هو الذي يحيل الإنسان بوصفه كائنا بيولوجيا إلى إنسان معترف بإنسانيته.
إن تثقيف الفرد خلال سنوات عمره المبكرة هي الوسيلة الأساسية المؤدية إلى الاستقرار الثقافي. بينما تكون العملية مع الراشدين الكبار أكثر أهمية في إحداث التغيير وإن كثيرا من تثقيف الكبار هو أيضا نتيجة للحركة في قطاعات أخرى من الثقافة القائمة وهي ترجع إلى التغير في المكانة الاجتماعية أو الطبقة أو المهنة. يواضع أنه كلما كان الطفل أكثر تثقيفا وأعمق تشربا بعادات الثقافة كان أكثر ميلا إلى أن يكون راشدا ملتزما.
والثقافة تشكلنا عقليا وانفعاليا بل إنها تكيف سماتنا الجسمية كالإيماءات وتعبيرات الوجه وطرق المشي والجلوس والأكل والنوم. ففي الهند تضلع نساء القرية بأعمالهن المنزلية وهن جالسات على جانبات على الأرض. وحتى وقت قريب باليابان
الصفحة211
كانت النساء يعملن ويتزاورن وهن راكمات أو جالسات.
وهكذا تحدد الثقافة كيف نفكر وكيف ندرك وكيف نسلك ونتصرف في المواقف المختلفة. وكل ثقافة هي نظام رمزي وتفرض شبكة رموزها على الواقع بحيث أن كل واحد منا يفهم هذه الحقيقة من خلال الرموز التي توفرها له ثقافته. والواقع أن الحقيقة لا توجد بالنسبة لنا إلا إلى الحد الذي تتيحه لنا ثقافتنا.
الثقافة من أجل الإنسان وضده
إن الثقافة تعمل على تحرير الإنسان وعلى تقييده في نفس الوقت. فهي تقيد حريته في التصرف سواء من الخارج من خلال القانون والتشريعات، أم من الداخل من خلال الإرادة والضمير. وهي بهذا تخلق النظام الاجتماعي الضروري للحياة الاجتماعية. وهي تحد الإنسان أيضا لأنها لا تسمح له إلا بتنمية شريحة واحدة من طاقته الكلية. إن كرويبر وهو أحد العلماء المعروفين ينتهي إلى النتيجة القائلة بأنه ما من ثقافة ترعى أكثر من ٪2 أو ٪3 من القدرة الإبداعية لدى الإنسان وبعض الثقافات تنمي النزعة الفطرية عند الإنسان المتدين، وبعضها تنمي ميله إلى الفن. وما تزال ثقافات أخرى تنمي قدرته على الحرب.
وتحرر الثقافة الإنسان بأن توفر له حلولا جاهزة لكثير من مشكلاته وبهذا تحرر طاقاته لأهداف أكثر إبداعية. وبفضل الثقافة نعرف ما نتوقعه من الآخرين وما يتوقعونه منا. ومن الثقافة نرث طرقا متباينة للتعامل مع الحياة كاللغة والدين والعلم والطب والأخلاق. وهي الأشياء التي لم يكن بمقدورنا خلقها من خبرتنا الشخصية. وباختصار فإن الثقافة تعلمنا ما أسماه "بورت" "بالتخطيط المرتب سلفا للحياة".
الصفحة212
التربية و التغير الثقافي و الاجتماعي
سنعرض في هذا الفصل إلى الكلام عن التغير الثقافي والاجتماعي وعلاقته بالتربية.
التغير الثقافي :
أشرنا إلى أن الثقافة ثابتة ودائمة التغير في نفس الوقت. فهي ثابتة بالنسبة لبعض عناصرها مثل اللغة والقانون. إذ تستمر دون تعديل كبير لمدة طويلة من الزمن. ومتغيرة بمعنى أن جميع عناصرها تخضع لتحول مستمر تدريجي غير واضح. ويشمل التغير الثقافي ثلاث عمليات أساسية يعرفها علماء الإنسان بأنها : عملية التضمين، وعملية الانتشار، وعملية إعادة التفسير. فعملية التضمين تعني اكتشاف أو اختراع عناصر أصيلة في الثقافة. ويعني الانتشار استعارة عناصر جديدة من ثقافات أخرى مثل تبني التربويين للطرق الجديدة في البلاد الأخرى. أما إعادة التفسير فتعني تحوير عنصر قائم لمواجهة الظروف الجديدة مثل تكييف المناهج الدراسية للتطورات العلمية الجديدة.
ولا تستجيب ثقافة ما بشكل كامل لأي تغيير مهما كانت أهميته إن لم تكن ثقافة متماسكة إلى حد بعيد. إذ تؤثر بعض النواحي الثقافية الأساسية إن عاجلا أو آجلا في العناصر الأخرى. وإن كان ذلك لا يعني التأثير المتساوي والمباشر.
أما مفهوم التخلف الثقافي فيعني الاتجاه في بعض النواحي الثقافية للتغير ببطء أكثر من النواحي الأخرى - بأثرى أوضح مثال للتخلف الثقافي في العالم الغربي وهو عدم مسايرة التقدم التكنولوجي للقيم بمعنى أن التقدم في الجوانب المادية أسبق منه في الجوانب المعنوية للثقافة وهو ما يسميه "أوجبورن" Ogburn بالتخلف الثقافي.
الصفحة216
وبالرغم من الافتراض التقليدي لبعض علماء الإنسان في وجود فاصل واضح بين تكنولوجيا المجتمع وبين قيمه إلا أن التكنولوجيا في الحقيقة تحتويها القيم إذ ترتبط الأساليب والعمليات التكنولوجية الجديدة من خلال وظائفها بأنماط السلوك التي يرتضيها المجتمع. والسيارة مثال على قيم الحراك الاجتماعي والملكية الخاصة وحب السرعة. ومقياس الحرارة والساعة تدلان على الاعتقاد بضرورة إمكانية قياس الطبيعة وأن الحياة تحكمها قوانين ثابتة ويمكن معرفتها وأن ما يمكن ملاحظته وتكراره يعتبر من الأشياء الهامة.
وهكذا يتراءى لنا نظامان من القيم الثقافية التي قد تتفق معا أو لا تتفق أحدهما تغذيه المبتكرات التكنولوجية والآخر تغذيه محصلة القيم المستقرة. ولا يعتبر الثاني دائما هادئا من المبتكرات التكنولوجية. وإن كان صادرا عن تلك المبتكرات في الماضي. وإذا كانت القيم التي يعبر عنها التغير التكنولوجي تتمشى مع القيم المستقرة فإن الثقافة ستتكيف مع التغيرات بسهولة تامة مهما كانت سرعة هذا التغير. وإذا فإن التغيرات التكنولوجية ليست هي المتسببة في الخلل الثقافي وإنما السبب هو ما يشمله هذا التغير من قيم جديدة متصارعة.
وكلما زاد تماسك الثقافة إزداد تداخل وتماسك تكنولوجيتها مع قيمها. وتظهر لنا في الأزمنة الأولى في المجتمعات قيما ثقافية متمثلة في التكنولوجيا التي يطبقها المجتمع. ومن أمثلة ذلك أن الزراعة عند هنود مايا Maya ليست فقط وسيلة لتوفير الغذاء ولكنها طريقة لعبادة الآلهة. ويبني الهندى قبل بذر الحبوب مذبحا في الحقل حيث يؤدي فيه الصلاة. ويصبح العقل ثوما من أنواع المعابد يحظر تدنيسه بلهو الحديث. وتصبح الزراعة نوعا من العقد الدائم بين الآلهة والناس تهب بمقتضاه الآلهة الناس ثمار الأرض مقابل الصلاة والقرابين. ولا ينطبق ذلك على خط التجميع في الإنتاج الحديث إذ يتم في ظله رفض واضح لكثير من القيم الثقافية وأهمها الإيمان بأن الفرد هو هدف في ذاته. ففي المصنع الحديث نجد أن العامل قطعة يمكن استبدالها ، ووسيلة لغاية هي الإنتاج.
وقد سبق أن ذكرنا أن التربية حالة ضرورية للاستمرار الثقافي. وهي أيضا
الصفحة217
وسيلة هامة للتعاون الواعي مع التغير الثقافي. وهكذا فإن إحدى الوسائل التي يتبعها المجتمع لمواجهة التغيرات هي أن يقوم بتعليم أجياله المتعاقبة التراث الثقافي من خلال مناهج المدرسة. والوصول لهذه الغاية يعيد المعلمون تفسير المعرفة القديمة والقيم لمواجهة المواقف الجديدة. ومن أمثلة ذلك أننا منذ تحطيم الذرة لم نعد ندرس الطبيعة النيوتينية في صورة مجردة. وبالإضافة إلى ذلك أدخلت معرفة ومهارات جديدة إلى المنهج كما هجرت مهارات أخرى قديمة. فمثال ذلك التخلف في المدارس الغربية من دراسة اللاتينية واليونانية والاهتمام بالتدريب المهني لمواجهة طلب الصناعة المتزايد على العمال المهرة. واتجهت المدارس من خلال تركيزها على العلم الطبيعي إلى تشجيع الاتجاه الفكري والتجريبي.
وقد تهيئ الثقافة للتلميذ المستقبل باكتساب الشباب الاتجاهات والمهارات لمواجهة المواقف المتوقعة. ولكن لو افترضنا أن بإمكاننا استخدام التربية للمساهمة في التغير الثقافي فهل نستطيع استخدام التربية للتأثير والتحكم في هذا التغير ؟ لقد أجاب النظريون التربويون المعاصرون على هذا السؤال بطرق ثلاث. ولنلخص كل إجابة على حدة لنرى إلى أي حد تعتمد كل منها على علم الإنسان.
وجهة النظر التقدمية :
تقدم التربية التقدمية رأيا وسطا بين الرأيين القائلين بأن التغير الثقافي يعتمد كلية على التغير الاجتماعي وأن التربية يمكن أن تصلح من شأنها وشأن المجتمع. وذلك بتربية الأطفال على الاستجابة للتغير بوعي وذكاء. ويجب أن يدرس الأطفال ويدمجوا المواقف النابعة من الحياة الراهنة ويكتشفوا بأنفسهم مشكلات حقيقية.
وهكذا يكتسبون الاتجاهات الفكرية والأساليب الفنية العملية المفتوحة التي تمكنهم من التعامل مع التغيرات. ونجد مثل هذه المواقف عند دراسة المشاكل المعاصرة بوجه عام من خلال العلوم الاجتماعية. ولا يقدم التربوي التقدمي مقترحات شخصية لحل مشاكل الأطفال حتى يناقشوها ولكن يسمح لهم باستنتاج تلك الحلول وفقا لما لديهم من قيم.
الصفحة218
ويرفض التربوي التقدمي أية مشروعات لاستخدام المدرسة لخدمة برنامج الإصلاح الاجتماعي معتقدا أن مثل هذه الوظيفة المضافة للمدرسة تنتهك الحرية الفكرية للطفل. وبهذا تحد من نموه. كما أنه يعارض أي محاولة لتحديد ما يجب أن يكون عليه المجتمع الصالح على أساس من المستقبل غير مضمون. كما يدعي أن فلسفته في التربية أكثر الفلسفات ديموقراطية. ولهذا يؤيد المجتمع الذي يخطط ذاتيا وفقا لما نشأ عليه بدلا من المجتمع الذي يخطط له مسبقا.
وأغلب الظن أنه لم يساند حتى الآن أحد علماء الإنسان النظرة التقدمية حول مسئولية المدرسة فيما يتعلق بالتغير الاجتماعي. وقد تبدو الفكرة القائلة بواجب المدرسة في تكوين العقلية التي تتمشى مع التغير منسجمة مع آراء بعض علماء الإنسان مثل أنتونى ف . س. والاس الذي يعتقد أن التغير السريع قد لا يكون ضارا نفسيا وأن نشأت عنه أنماط متنوعة من الشخصية. وهذه النظرة غريبة بالضرورة عما ينادي به علماء الإنسان من أن التغير السريع يميل إلى زعزعة الشخصية.
وجهة نظر المحافظين أو التقليديين :
إن المدرسة عند المربين المحافظين أو التقليديين لا تستطيع فرض سرعة معينة للتغير الاجتماعي دونما إفساد لوظيفتها الحقيقية وهي ممارسة الفكر. إن المدرسة ليست مجرد هيئة إصلاحية ولكن منظمة تعليمية. ولما كان التحول الاجتماعي يتم على أيدي الأفراد وليس العكس فإن الطريق الحقيقي لإصلاح المجتمع هو تطوير أفراده.
ومن هذه النظرة نرى أن المدرسة تعنى بكل ما يستحق اهتمام الطالب في التراث الثقافي حتى يتكيف مع المجتمع. فإذا ما تحولت المدرسة لمشروع إصلاحي ثقافي فإنها تعد الطلاب للحياة في وسط لن يتحقق أبدا بدلا من تكييفه للظروف التي سيكتشف عيشه في ظلها. زد على ذلك أن طالب المدرسة الثانوية يفتقر للتجربة أو الجدية التي تمكنه من تقدير مشاكل الإصلاح الاجتماعي والثقافي. كما أننا لا نتوقع منه رأيا في المشاكل الثقافية المعاصرة طبقا لما لديه من قيم. كما أن جعل المدرسة هيئة إصلاحية قد يدفعها بين أيدي الجماعات المتنافسة ذات المصالح. وقد تنحدر المدرسة إلى ما
الصفحة219
يشبه الثقافة السياسية تحت الضغط المستمر لتقديم جميع الاتجاهات والبرامج السياسية التي يفسدها التعصب.
وجهة نظر التجديدية :
تؤمن المدرسة التجديدية بأن المعلمين أنفسهم يجب أن يعيدوا بناء المجتمع من خلال تعليم الشباب برنامجا للإصلاح الاجتماعي الفوري الشامل والمفصل. ويدعى هذا المذهب أنه يعالج ثلاثة مطالب لدى المذهب التقدمي هي الافتقار إلى الأهداف، وعدم تأكيد الفردية، والتقليل من ضرر العقبات الثقافية على طريق التغير الثقافي.
يقول ثيودور براملد وهو زعيم المدرسة التجديدية إن التقدمية فشلت في تقديم اتجاهات محددة للحركة الاجتماعية. ويرجع ذلك إلى أنها تؤمن بأن عمومية التغيير تبرر أي شكل من الالتزام بأهداف نوعية طويلة الأجل. إن التقدمية ترى أن على المدرسة تحسين الذكاء الفردي. وتؤكد على ضرورة استخدام هذا الذكاء استخداما تعاونيا وأن لم تحدد الأهداف التي تكون محل هذا التعاون بين الناس. إن التقدمية تسمي فهم المجتمع كما لو كان مجرد تجميع للأفراد ويهمل الطبيعة العليا للفرد في كثير من المواقف المتصلة بالطبقات الاجتماعية الاقتصادية والجماعات الضاغطة وبقية مراكز القوى الأخرى في المجتمع. كما تقلل من أثر ما يحدث من نماذج ثقافية. وبهذا تبالغ في تأكيد دورة التاريخ وتفرض التغير دون تخطيط وحتمية التقدم.
وفي ظل المدرسة التجديدية يتحتم على المدرسة إنتاج تلاميذها بأن برنامج التجديد هو برنامج صحيح وعاجل. على أن يتم ذلك بطريقة ديموقراطية وإلا تنكرت لمبدئها الذي تنادي به وهو الديموقراطية. كما يجب أن يشجع المدرس تلاميذه لبحث ما يؤيد أو يعارض مذهب التجديد وأن يقدموا المقترحات البديلة. كما يسمح للأطفال بمناقشة أفكارهم على الملأ. وأن يترك القرار الأخير بقبول أو رفض هذا المذهب إلى التلاميذ أنفسهم. أو كما يقول براملد رائد المدرسة التجديدية.
".. إننا كمدرسين أو مواطنين لنا معتقدات والتزامات وانحيازات نعتقد أنها راسخة ويمكن الدفاع عنها. ونؤمل أن نعرضها في مؤتمر عام أو ندعو لمناقشتها .."
الصفحة220
تفصيلا بحرية تامة. وأن نعمل على قبولها بأكبر أغلبية ممكنة . . . وهو يؤمن بأن برنامج التجديد سينال قبول التلميذ بسبب محاسنه".
لقد نالت التجديدية مزيدا من الاهتمام وقليلا من التأييد. وانتقدت على أساس طموحها البالغ، وأنها تخطط للمستقبل بالتفصيل، ويرى علماء الإنسان أنه من المتعذر على التربية أن تواجه القوى الاجتماعية والثقافية. وتعلن روث بينيديكت مثلا أن التربية لا تحفز التغير السريع لأن التغير ينتج عن عوامل ثقافية أعمق وأوسع انتشارا من التربية ذاتها.
الثقافة والتغير الاجتماعي :
تنبع مشاكلنا في نشر الثقافة من سرعة التغيرات الاجتماعية ولا يمكن لأي أسلوب في التربية أن يحول دون ذلك. أما النقاد الذين يلومون التربية على التغيرات الواسعة في بناء المجتمع المصري وهو ما لا يأخذونه في الحسبان - ويعبر أحد المربين عن ذلك بقوله : إن على التربية أن تعكس بالضرورة الظروف الاجتماعية السائدة وإلا فشلت في واجبها في تكييف جيل المستقبل للوسط الاجتماعي والثقافي الذي يتحتم عليه العيش في ظله. ومهما كان نبيل المثاليات التي تفرضها المدرسة فإنها قد تضر بالطفل إذا كانت غريبة عن هذا الوسط. وهذا يعني ضرورة مناسبة التربية للتغير الاجتماعي.
والواقع أن التغير الثقافي يحدث نتيجة عوامل كثيرة في مقدمتها سرعة الانتشار الثقافي نظرا للتقدم الهائل في وسائل اتصال بين العالم. يضاف إلى ذلك تزايد انفتاح المجتمعات بعضها على بعض وتزايد الاعتماد المتبادل للشعوب في سعيها الحثيث نحو النمو والتقدم. وتساعد وسائل التكنولوجيا المادية الحديثة على إحداث تغييرات اجتماعية بعيدة المدى. كما أن المخترعات المدمرة أيضا لا تقل أهمية في ذلك - ويرتبط الكلام عن المخترعات بالكلام عن المخترعين باعتبارهم صناع التقدم.
الصفحة221
إن الاكتشاف والاختراع هما المنطلقان الواضحان لأية دراسة للنمو والتغير الثقافي. إذ إنه لا يمكن إضافة عناصر جديدة للمحتوى الكلي للثقافة الإنسانية إلا عن طريق هاتين العمليتين. ويميز رالف لينتون بين مفهوم كل من الاكتشاف والاختراع فيقول إن الاكتشاف إضافة للمعرفة في حين أن الاختراع هو تطبيق جديد للمعرفة. ويضرب مثلا على ذلك بالطفل يشذ لأول مرة ذيل قطة فتنشئه فيتعلم الطفل من ذلك أن القطة تخدش إذا شد ذيلها. هذه المعرفة الجديدة تمثل اكتشافا بالنسبة للطفل. أما إذا حدث بعد ذلك أن الطفل رأى شخصا آخر يحمل قطة وأراد أن تخدش القطة هذا الشخص فيقوم بشد ذيلها فتخيش القطة حاملا عندئذ يكون ذلك اختراعا بالنسبة للطفل لأنه طبق المعرفة التي سبق له أن تعلمها في تحقيق هدف معين (لينتون : ص404).
ويمثل المخترعون طلائع التقدم الثقافي الذين استطاعوا أن يدركوا قبل غيرهم الاحتياجات الثقافية لمجتمعهم، وحاولوا إيجاد حلول لها. بيد أن محتوى الثقافة التي يعمل فيها المخترع تفرض من جانبها دائما حدودا على ممارسة المخترع لقدراته الإبداعية. وهذا لا ينطبق على المخترعات الآلية فحسب بل على الاختراعات في جميع الميادين الأخرى أيضا. فعباقرة الرياضيات على سبيل المثال لا يستطيعون مواصلة السير إلا من النقطة التي بلغتها المعرفة الرياضية في ثقافاتهم. ولو ولد اينشتاين في قبيلة بدائية انحصرت معرفتها الرياضية في العد من واحد إلى ثلاثة لما كان باستطاعته كما يبدو أن يتوصل إلى حقائق رياضية أكثر من نظام عشري مبني على العد على أصابع اليد والقدم حي لو كرس حياته كلها للبحوث الرياضية. وكذلك الحال بالنسبة للمصلحين الذين يحاولون إيجاد أنظمة جديدة لمجتمعهم فلا يسعهم إلا أن يبنوا أنظمتهم الجديدة وسط العناصر التي تعرفوا عليها ضمن ثقافتهم (لينتون : ص421). وهكذا فإن الثقافة التي يعمل في ظلها أي مخترع أو مبتكر توجه جهوده وتحدد إمكانياته وتقرر ما إذا كانت مخترعاته ستحظى بقبول المجتمع أم لا ؟.
وهناك نقطة أخرى تتعلق بالتغير الثقافي هي ما يسمى بالامتصاص الثقافي أو التشرب الثقافي أو الاستعارة الثقافية. ويقصد بذلك قدرة أي ثقافة على امتصاص
الصفحة 222
عناصر ثقافية مناسبة لها من ثقافة أخرى. ذلك أن النمو النسبي السريع للثقافة البشرية ككل والثقافات الإقليمية أيضا بدرجات متفاوتة يؤدي إلى قدرة المجتمعات المختلفة على اقتباس العناصر المناسبة من الثقافات الأخرى ودمجها في ثقافتها الخاصة. ومع أن عملية الامتصاص الثقافي من ثقافة لأخرى تخضع لشروط تنظم من أهمها مناسبة العناصر المستعارة فإنها تعتبر عملية هامة في نمو وتقدم أي ثقافة. ولو أن كل جماعة بشرية تركت وحدها لتسير قدما في تطورها بجهودها الخاصة دون مساعدة غيرها لكان تقدمها بطيئا جدا. وهكذا يصبح الاعتماد المتبادل للثقافات المختلفة عاملا هاما في تقدمها. ومن خلاله استطاعت البشرية أن تجمع قدراتها الإبداعية وأن تنهل من معينها المشترك. فمن طريق الامتصاص الثقافي أو الاستعارة الثقافية يمكن لاختراع ظهر في مجتمع ما وحظي بقبوله في مجتمع ما أن ينتقل إلى حلقة من الثقافات تطل تتبع وتنتشر وتنشر حتى تعم البشرية في غضون بضعة قرون (لينتون ص427).
وفي المجتمعات المنعزلة أو المنغلقة على نفسها تكون قدرتها على النمو الثقافي محدودة جدا بل وقلما تهب عليها رياح التغيير. ويصبح مثل هذه المجتمعات أشبه ما يكون بأهل الكهف في سباتهم الخارجي والعالم يتقدم ويتغير من حولهم. وهناك أمثلة لكثير من المجتمعات ثقافتها لاتزال انعزالها على ركب الحضارة العالمية. ويمكن أن نضرب مثلا من تاريخ حضارتنا العربية. فقد بلغت هذه الحضارة قمة مجدها بانفتاحها على الحضارات والثقافات الأخرى وكانت في حينها حضارة عالمية تشع بنورها في كل مكان في الشرق والغرب على السواء. ولكن عندما انغلقت الآية وانتهت الأمور بالعالم العربي إلى الانزلال والانغلاق في ظل الحكم التركي تجمد الفكر العربي وشحب معين الثقافة العربية ووصل العالم العربي إلى حالة من الركود الثقافي لا يحس عليها حي يرزق بمعنى منها حتى الآن.
ومع نشاط الحركات الإصلاحية من داخل العالم العربي الذي تمثل أولا في الحركة السلفية التي قادها محمد بن عبد الوهاب في السعودية وتبعه آخرون مثل جمال الدين الأفغاني والشيخ الإمام محمد عبده والشيخ رفاعة الطهطاوي بدأ تجديد الفكر
الصفحة 223
العربي الإسلامي ونفض غبار الماضي عن الثقافة الإسلامية.
وكانت الحملة الفرنسية على مصر بمثابة ناقوس الخطر الذي لفت الأنظار إلى الفجوة الحضارية الكبيرة التي تفصل بين العالم العربي الإسلامي وبين الحضارة الغربية. ويقدم لنا الجبرتي في تاريخه المشهور أمثلة حية على ذلك. يصف الجبرتي حال المصريين عندما ضربهم الفرنسيون بالقنابل وكأننا لا يعرفون عنها شيئا آنذاك فيقول : " وما نزل عليهم القليل قالوا يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف ". ويصف الجبرتي أيضا دهشة علماء الأزهر عندما عرض عليهم علماء الحملة الفرنسية بعض التجارب العلمية البسيطة منها توصيل الذرة كهربيا. لقد قدرت الفجوة الثقافية بين العالم العربي والإسلامي وبين أوربا في ذلك الحين بما يقرب من ستة قرون من الزمان استطاعت الثقافة الأوروبية خلالها أن تحقق إنجازات كبيرة اتسمت بها عصور بأكملها مثل عصر الاكتشاف وعصر البخار وعصر الذرة . . وهكذا.
وعندما بدأت مصر ومعها العالم العربي تخرج من عزلتها الثقافية وتقيم جسورا ثقافية مع العالم المتقدم من حولها بدأت الحياة تتجدد في أوصالها وبدأت معها حركة التجديد الثقافي في العالم العربي الإسلامي. ومن العرض السابق نرى بوضوح أن أي انغلاق ثقافي أو عزلة ثقافية يعتبر بمثابة الحكم بالموت على أي ثقافة كما أنه يتجاهل الدور الحضاري الذي لعبته الثقافة الإسلامية في عصورها الذهبية.
ويعمل الاعتماد المتبادل للثقافات المختلفة من خلال عملية الامتصاص والانتشار الثقافي على تضافر الجهود في دفع حركة الثقافة العالمية إلى الأمام. فمما لاشك فيه أن زيادة عدد العقول المشتركة في معالجة إحدى المشكلات يسرع بعملية التقدم الثقافي. ولا يمكننا أن نتجاهل الدور الهام الذي لعبته وسائل الاتصال السريعة في زيادة معدل الانتشار الثقافي بين مختلف دول العالم. وظهرت الأنظمة التي تحفظ المخترعات سريتها مع نشرها على الملأ في نفس الوقت. وذلك من خلال نظام براءة الاختراع الذي يحفظ لصاحب الاختراع فضل السبق وكل حقوقه الأدبية والمالية. وهكذا نجد تزايد معدل الانتشار الثقافي بدرجة ملحوظة في كل الميادين الثقافية في كل المجتمعات المعاصرة. ويتابع كل فرد تقريبا على المستويات المهنية والفكرية والعلمية
الصفحة 224
ما يحدث في مختلف دول العالم في ميدانه بصورة مستمرة كجزء لا ينفصل من نموه المهني والثقافي.
ويستند الانتشار الثقافي على عدة أسس ومبادىء من أهمها عنصر الاحتكاك والوقت. فانتشار أي عنصر ثقافي من ثقافة لأخرى يتطلب احتكاك الثقافتين ببعضهما البعض يتطلب الوقت الذي يسمح بانتقال العنصر الثقافي من ثقافة لأخرى. ولكن ليس من الضروري أن ينتقل العنصر الثقافي من ثقافة لأخرى كما هو وإنما قد يطرأ عليه التعديل أو التحوير بما يتناسب مع متطلبات واحتياجات الثقافة الناقلة. وقد يتم الانتشار الثقافي من خلال الاحتكاك والوقت بطريقة طبيعية تلقائية دون فرض بالقوة من جانب سلطة خارجية أو داخلية كما حدث في اليابان مثلا في استعارتها لكثير من ثقافة الصين حتى الأبجدية استعارتها اليابان من الصين رغم اختلاف اللغتين. فكانت اليابان في يوم ما تعتبر امتدادا ثقافيا للصين.
وقد يحدث الانتشار الثقافي بالاحتكاك والوقت بفعل قوة خارجية مستوطنة. وفي هذه الحالة إذا تميزت هذه القوة الخارجية بالغلبة العددية والتفوق الثقافي فإنها تفرض ثقافتها على الثقافة المحلية. وهذا ما حدث في الدنيا الجديدة أعني الأمريكتين. إذ أن المهاجرين من البيض قد استطاعوا أن يفرضوا ثقافتهم تحت عنصر الاحتكاك والوقت وتوفر الغلبة العددية والتفوق الثقافي. وهذا ما حدث أيضا في أستراليا ونيوزيلندا وغيرها من بقاع العالم حيث ذابت الثقافة المحلية في غمار وضخم الثقافة الوافدة. أما إذا كانت القوة الخارجية غير متوطنة أي أنها تقيم بصفة مؤقتة فإنها تستطيع أن تفرض بعض العناصر الثقافية على المجتمع. وقد يتشرب المجتمع بعضها بصفة دائمة إذا دخلت في نسيجه الثقافي. أما إذا اخترتها فقط في حوصلة فإنها تظل مرهونة بوجود هذه القوة فإذا اختفت أو انتهى وجودها استطاع المجتمع أن يطرد ما في حوصلته من عناصر ثقافية مفروضة لم يهضمها. وهذا ما حدث في البلاد المستعمرة التي يتوفر لها قاعدة ثقافية عريقة كما هو الحال في البلاد العربية مثلا.
قد يحدث التغير الثقافي نتيجة لإضافة عناصر ثقافية جديدة أو مستحدثة سواء بالاختراع أو النقل من ثقافة أخرى. كما أن التغير قد يحدث أيضا نتيجة ضهور أو
الصفحة 225
اختفاء بعض العناصر الثقافية السائدة في يوم ما. فليس الطربوش مثلا كان سائدا في بلادنا العربية في فترة من الزمن وارتبط به صناعة كبيرة لعمل الطرابيش وصناعة أخرى لتنظيفه وكيه. وكانت المصانع والمحلات التي تهتم بهذه الصناعة منتشرة في كثير من الأمكنة حتى فترة قريبة. لكنها الآن تكاد تكون قد اختفت وقلما يعرف الجيل الجديد أو يتصور شيئا عن الجانب من الثقافة الذي كان سائدا في يوم ما في مجتمعه. ويمكن أن نضرب أمثلة أخرى لعناصر ثقافية اختفت أو تكاد تختفي منها صناعة تبييض النحاس " فقد اختفت نتيجة شيوع استخدام الأواني المصنوعة من الألومنيوم الذي لا يحتاج إلى تبييض ". وبالنسبة للدول العربية الخليجية نجد مثلا واضحا يتمثل في " صيد اللؤلؤ ". فقد اختفت هذه الصناعة تقريبا الآن. وكانت في يوم ما جزءا هاما من ثقافة المجتمع العربي في الخليج. وقد ساعد على ضمور هذا العنصر الثقافي في دول الخليج ظهور الثروة الصناعية الذي طورت اليابان تربيته واتخذته تجارة رابحة منافسة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كان لظهور البترول أثر هام في اجتذاب كثير من الناس لتعيش حياة مستقرة بعيدة عن حياة البحر وما فيها من مخاطر واغتراب ومعاناة.
ويقول رالف لينتون إن التساؤل عن السبب الذي عمد الإنسان من أجله إلى توسيع محتوى ثقافته جيلا بعد جيل هو تساؤل لا يزال بحاجة إلى إجابة شافية. وكل ما نستطيع قوله هو أن ذلك نتيجة لما يمكن أن يطلق عليه بعبارة غامضة " طاقة العقل البشري " التي لا تعرف الكلل أو الملل. ففي كل المجتمعات وعلى مر العصور المختلفة وجد أفراد لم يقنعوا بالأمر الواقع ورفضوا التسليم بأنه " ليس في الإمكان أبدع مما كان ". وسعوا إلى إيجاد حلول جديدة لمشكلات سبق أن وجد الناس لها حلولا مقبولة. وهذا أمر يختلف كثيرا جدا عن البحث عن حلول للمشكلات الجديدة الملحة حيث يكون الحافز للعمل هو الحاجة. أما في الحالة السابقة فمشتعر عملية الاختراع حتى عندما يكون دافع الحاجة غير موجود (لينتون : ص131).
ومهما اختلفت الأسباب المسئولة عن التغير الثقافي فإن التربية لها مسئولية كبيرة في إحداث هذا التغير. فعليها أن تقود هذا التغير وتوجهه. ويصرف النظر عما يقال
الصفحة 226
من التقليل من أهمية الدور الذي تلعبه في هذا المجال فإن للتربية دورا لا ينكر سواء من خلال غربلتها للثقافة أو تنميتها للاتجاهات الجديدة أو إحداث الحراك الاجتماعي أو دفع حركة التنمية الاجتماعية والاقتصادية. إن المجتمع المتعلم مرغوب فيه من جميع وجهات النظر. ويمكن للتربية من بين أدوارها الأخرى أن تقوم بتدريب القيادات في جميع ميادين الحياة حتى يصبحوا على وعي أفضل بالقوى المؤثرة التي تشكل تقدم ورفاهية المجتمع والثقافة هما وهناك وفي كل مكان.
التغيير الاجتماعي
خضعت العلاقة بين التربية والتغير الاجتماعي لكثير من النقاش والجدل يحتدم حينا ويخف حينا. وقد اختلفت الآراء حول الدور الذي يمكن أن تسهم به التربية في التغير الاجتماعي. إحدى وجهات النظر تقول بأن التربية هي إحدى مؤسسات المجتمع التي تعكس قوته أو ضعفه وتقدمه أو تخلفه. فهي مرآة صادقة لأوضاع المجتمع. وإذا كان المثل يقول إن السائل من لون الإناء. فإن التربية في أي مجتمع لابد وأن تتلون أو تتشكل حسب أوضاع هذا المجتمع ودرجة تقدمه. ومن ثم فإن المدرسة تدور في فلك المجتمع ولا تستطيع أن تغيره. بل إن التربية ذاتها قد تقاوم التغيير وتصبح هي نفسها حربا عليه. ذلك أن المؤسسات على اختلاف تشكيلاتها بما فيها التربية قد تكون شديدة المقاومة للتغير. والنظم التربوي كغيره من المؤسسات الهامة يتغير بتغير استراتيجيات ثقافية كبرى. ذلك أن التغيرات المادية المقترنة بتقدم التكنولوجيا تقدر تقديرا عاليا من جانب المجتمع. ولكن الحيلولة دون استمرار النماذج القديمة أمر صعب. وهكذا يصبح استخدام الأفكار القديمة بطرق جديدة هو النتيجة المنطقية للتزاوج بين وجهات النظر المختلفة فيما يتعلق بالتجديد. وبهذا تكون عملية التجديد محافظة مجددة معا.
إن التغيرات التي تحدث في بناء النظم التربوية تكون عادة نتيجة لسلسلة من المؤثرات التي تعكس إجماع المجتمع على ما يجب أن تفعله المدارس. ويدخل التجديد في الصورة كأداة منطقية لإحداث التغييرات التي تساعد المدارس على تهيئة المعرفة الجديدة التي تجدد الحياة فيها وفي أنشطتها وبرامجها.
الصفحة 227
إن المدارس بل والتربويين أنفسهم قد يجدون مبررات يقتنعون بها أنفسهم ويحاولون أن يبرروها عدم تغيير أساليبهم التربوية حتى ولو كان التطور الاجتماعي يتطلب هذا التغير. ذلك أن الميل إلى التمسك بالأهداف والممارسات القديمة دون تطوير يجعل المربي يواجه مشكلات خطيرة. وقد عرض هذه المسألة بصورة أشد المربين هو Benjaminc II. في كتابه Sabre Curriculum tooth (1939). ويعالج هذا الكتاب الساخر التاريخ التربوي لقبيلة أسطورية من سكان الكهوف أغرتها التربوية عندما كانت الأمور الضارية تشكل خطرا حقيقيا لها. ومن أجل هذا كانت المدارس القبلية تعلم الوسائل الفنية لتخويف النمور وإبعادها وذلك بواسطة إشعال النار. وحدث فيما بعد أن تغيرت الأحوال الجوية المحلية ومالت إلى البرودة، مما أدى إلى اختفاء الوحوش اختفاء تاما. إلا أن القبيلة لم تستطع طويلا بالمئة التي حصلت عليه حديثا. ذلك أن البنية الكاسرة سرعان ما أزعجت الإقليم بكثرة ترددها. وسرعان ما تعلم الصيادون عمل الحفر التي يمكن أن تقع في شراكها البنية الماردة. ولكن منهج مدارس القبيلة ظل دون تغيير يركز على تعليم صيد النمور. وقد أوضح الصيادون المربون أنه على الرغم من أن اصطياد البنية وقتلها أصبح الآن من الأهمية بمكان لبقاء القبيلة فإن المدارس تجاهلت كل التجاهل المهارات الوثيقة الصلة بهذه الحاجة. ودافع المربون بأن الطرق الفنية لمعالجة موضوع البنية لا تنتمي إلى الميدان المدرسي. لأن تعليم هذه المهارات العملية لا يحظى بشرف الانتساب إلى التربية لأنه ليس إلا مجرد تدريب ". وعندما اشتد الإلحاح في التساؤل عن سبب اهتمام الشخص بتعلم طريقة إفراغ النمور في الوقت الذي اختفت فيه جميع هذه الحيوانات منذ أمد بعيد أجاب أحد الرجال المسنين ممن كان لهم دور في إدارة النظام التعليمي قائلا :
" إننا لا نعلم التلاميذ إفراغ النمور كهف في ذاته بل نعلمه بقصد إكساب هذا النوع من الشجاعة الرفيعة التي تنسحب على جميع شئون الحياة، والتي لا يمكن أن تتحقق من القيام بنشاط حقير مثل صيد البنية ".
هنا نجد تبريرا زائفا لعجز التربية عن مجاراة التقدم ومواجهة الاحتياجات الاجتماعية المتجددة باستمرار. وبما زالت مثل هذه التبريرات تتردد على ألسنة بعض المربين المعاصرين للبقاء على ممارسات درجوا عليها. وعليهم أن يجابهوها إلى ما
الصفحة 228
هو أكثر مناسبة للمجتمع وتطوره. ومن الصعب إذن أن نتصور قدرة التربية على إحداث أي تغيير اجتماعي طالما أنها غير قادرة حتى على تطوير نفسها ناهيك عن تطوير المجتمع.
ووجهة النظر الثانية ترى أن التربية بحكم موقعها في المجتمع لها دور قيادي. ومن ثم فإن عليها أن تقود التغير الاجتماعي وتوجهه. إن المدرسة من وجهة نظر الفلسفة التقدمية جزء لا يتجزأ من المجتمع فهي تعكس كل مشكلاته الاجتماعية. ويجب على المدرسة أن تقوم بدور فعال سواء في داخل الفصل أو خارجه من أجل تحسين المجتمع وتطويره. وعليها أيضا أن تواجه نفس المشكلات التي يواجهها المجتمع. وبعبارة أخرى فإن المدرسة ليست برجا عاجيا، وإنما يجب أن تضطلع بدور نشيط في أمور المجتمع. إن كثيرا من المربين الذين يؤمنون بهذه النظرة يتفقون مع جورج كاونتش في تساؤله الذي جعله عنوانا لكتابه : هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد ؟ وكانت إجابته بالإيجاب. ذلك أن المربين التقدميين يرون أن المدرسة ينبغي أن تجرؤ ولو على نطاق محدود بالقيام بدور في بناء نظام اجتماعي جديد.
والواقع أن مدارس فلسفة التربية تختلف في نظرتها إلى هذا الدور الذي يمكن أن تقوم به المدرسة. وإذا كان التقدميون يرون أن المدرسة دورا في التغيير الاجتماعي فلأنهم يؤمنون بأن التغير دائم ومستمر. فالحياة كلها حركة وتغير ولا تثبت على وتيرة واحدة ومن ثم فإن التربية ينبغي أن تساير هذا التغير. وهذا يعني في معنى من المعاني أن تقيم المدرسة بالمراجعة الدائمة المستمرة لمناهجها وبرامجها وخبراتها وأساليبها. وهي بهذا التجديد الداخلي لها تستطيع أن تسهم في ركب الحياة وتتمشى معها أو على الأقل لا تتخلف عنها.
وعلى النقيض من هذه النظرة نجد مدرسة فلسفة تقليدية محافظة مثل التواترية ترى أن وظيفة المدرسة هي في جوهرها وظيفة محافظة تقوم على الحفاظ على أهم ما في التراث القومي ونقله. وهي بهذا تقف موقفا مخالفا للتقدمية من قضية التغير فهي تؤمن بأن الحياة تتواتر ولا تتغير. كما أنها تؤمن أيضا بأن طبيعة الإنسان واحدة في كل زمان ومكان. وإذا كان الأمر كذلك فإن التربية أيضا تتواتر ولا تتغير بل إنها واحدة لكل البشر على اختلاف العصور والمجتمعات. وهكذا تصبح هذه النظرة التقليدية محددة لدور المدرسة وهو دور يتصف بالثبوت وعدم التغير. بيد أن النظرة التواترية
الصفحة 229
المحافظة والنظرة التقدمية المجددة يمكن أن تثيرعدة نقاط تسهم في مناقشة دور المدرسة في التغير من أهمها :
أولا : أن المدرسة وإن كانت إحدى وظائفها الرئيسية المحافظة على التراث ونقله فإنها لا تنقل هذا التراث بطريقة تلقائية أو غير واعية. فالمدرسة لها دور في تنقية هذا التراث وغربلته. ومن خلال هذه العملية تستطيع المدرسة أن تسهم في التطور الثقافي للمجتمع.
ثانيا : أن المدرسة لا تكتفي بنقل التراث نقيا أو مغربلا وإنما تأخذ في اعتبارها التطورات الثقافية والفكرية والتعليمية والحضارية الهامة التي يشهدها العصر. ولا يمكن للمدرسة أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه التطورات. وإنما ينبغي أن تدخلها في حسابها وتأخذها في اعتبارها. إننا نعيش الآن عصرا يوصف بأنه عصر التفجر المعرفي وعصر علوم الحاسب الآلي وعلوم الفضاء وعلوم الأحياء وهندسة الجينات والوراثة. وهذه العلوم تفرض نفسها بإلحاح ودرجات متفاوتة على المجتمعات المعاصرة صغيرها وكبيرها وغنيها وفقيرها على السواء. وكل النظم التعليمية في هذه البلاد لا يمكن أن تتجاهل أهمية هذه العلوم وعليها أن تفسح لها مجالا في مناهجها وبرامجها التعليمية وإلا أصبح مثلها مثل النعامة التي تتوهم بأنها تدفع الخطر عن نفسها عندما تدفن رأسها في الرمال.
ثالثا: أن المدرسة بحكم ما لها من دور في تنمية المهارات العقلية والعلمية والعملية لدى الناشئة فإنها تهيء هؤلاء الناشئة وتعدهم للقيام بأدوار ووظائف في الحياة ما كان يتسنى لهم أن يقوموا بها بدون تعليمهم. وهذا يعني أن المدرسة من خلال هذه الوظيفة أو العملية تسهم في تحديد الأوضاع الاجتماعية للفرد أو ما يسمى بالحراك الاجتماعي. ويقصد بالحراك الاجتماعي كما سبق أن أشرنا تحرك الأفراد صعودا وهبوطا على السلم الاجتماعي. ذلك أن التربية والتعليم يزيدان من قيمة الفرد الاجتماعية والاقتصادية. والعكس صحيح. والحراك الاجتماعي أشبه ما يكون بتيارات " الحمل " في الماء التي تكون في حركة صعود وهبوط. وفي حركة الصعود يرتفع معها أناس وفي حركة الهبوط ينخفض معها آخرون. وهكذا تصبح التربية عاملا هاما في التقدم الاجتماعي للفرد. وهي وظيفة تجديدية تستطيع التربية أو المدرسة من خلالها أن تسهم بصورة مباشرة في التغير الاجتماعي في شكل المجتمع وتركيبه.
الصفحة 230
الثقافة و المعلم
مقدمة:
هناك عدة اعتبارات هامة تبرر أهمية دراسة الثقافة بالنسبة للمشتغلين بالتربية. أولها أن التربية عملية ثقافية في حد ذاتها. ومن ثم فإن دراسة الثقافة تمكن المربين من تخطيط العملية التربوية وتوجيهها على أساس سليم من الفهم الواضح للأبعاد الثقافية.
ثاني هذه الاعتبارات أن المعلم نفسه ناقل هذه الثقافة ومفسرها وشارحها لتلاميذه. وكيف يتسنى للمعلم أن يقوم بهذه الأدوار إذا لم يكن على علم بالأبعاد الثقافية التي تجعل من هذه الأدوار معنى ومغزى؟ إن دراسة الثقافة تساعد المعلم على تعميق فهمه لثقافة بلده، كما تمكنه من القيام بدوره الثقافي بصورة علمية موضوعية في ضوء من الفهم لخصائصها ونظرياتها.
وثالث هذه الاعتبارات أن دراسة الثقافة تساعد المعلم على أن يكون معبرا عن الثقافة كلة بدلا من أن يكون معبرا عن جانب واحد من الثقافة بحكم انتمائه إلى أصول اجتماعية معينة. فالمعلم وهو عادة من الطبقة الوسطى يستفيد من دراسته للثقافة ألا يكون معبرا فقط عن قيم هذه الطبقة ومثلها العليا وإنما يجب أن يكون معبرا عن ثقافة المجتمع ككل.
رابع هذه الاعتبارات أن دراسة الثقافة للمعلم تجعله يؤمن بحقيقة التغير وأن الأشياء لا تثبت على حال، ومن ثم يعمل على تأكيد هذا الاتجاه في عقول تلاميذه. يضاف إلى ذلك أن الثقافة تساعد المعلم على فهم وتفسير ألوان السلوك التي تصدر عن التلميذ ومؤثراتها الثقافية المختلفة. كما تساعده على فهم النظام الثقافي ككل في ارتباطه بدور المدرسة بل ودوره الذي يقوم به داخل الفصل. وأخيرا فإن دراسة
الصفحة 234
الثقافة تساعد المعلم على التخلص من تعصبه ضد الثقافات الأخرى و تمجيد ثقافته القومية ورفعها فوق كل الثقافات. كما تفرض على المعلم ألا يحمل تلاميذه على تقبل الأفكار تقبلا أعمى دون مناقشة. وإنما يجب عليه أن يناقش معهم الأمور بموضوعية. ويجب ألا يلزمهم برأي معين. كما يجب أن ينمي فيهم الولاء للثقافة القومية في غير تعصب للثقافات الأخرى. كما ينمي فيهم الانتماءات الصحيحة للإنسان العربي المسلم. وأول هذه الانتماءات هي الانتماء إلى الإسلام والعروبة معا وثانيها الانتماء إلى الإنسانية جميعا. فنحن جميعا نشترك في الإنسانية وهي تراث مشترك لنا جميعا. فكلنا لأدم وأدم من تراب كما أشرنا أكثر من مرة.
ويهمنا أن نبحث في السطور التالية ثلاث قضايا تتعلق بعلاقة المعلم بالثقافة والتربية في المجتمع :
أولا - إعداد المعلم
يعتبر إعداد معلمي المستقبل عملية بالغة الأهمية. فنجاح المعلم في عمله يتوقف بالدرجة الأولى على نوع الإعداد المهني الذي تلقاه. ومهما تحدثنا عن تطوير العملية التربوية فلن المعلم الجيد يمثل دائما شرطا رئيسيا فيها. إن أحسن المناهج الدراسية قد تموت في يد معلم لا يقدر على تدريسها. والمنهج الميت قد تعود إليه الحياة إذا ما وجد معلما قديرا متفتحا. ومن هنا يمكن أن نتصور ببساطة أهمية إعداد المعلم إعدادا جيدا. ويمثل اختيار الشخص المناسب منذ البداية حجر أساس في إعداد المعلم الناجح. ويقوم هذا الاختيار على أسس متعددة منها ما تستخدمه بعض الدول من عقد اختبارات شخصية لاختيار أصلح العناصر من بين المتقدمين لمعاهد وكليات إعداد المعلمين.
الصفحة 235
الصفات الشخصية : من الضروري توافر عناصر رئيسية في معلم المستقبل مثل سلامة السمع والنطق والبصر إلى جانب عناصر شخصية أخرى هامة كالثبات الانفعالي والاتزان النفسي والميل الصادق نحو مهنة التدريس. ومن ثم فإن السمات الشخصية يمكن أن تميز بين المعلمين ذوي القدرة العالية وغيرهم ذوي القدرة الضعيفة. فالمدرس الضعيف يتميز بقلة المثابرة وشدة الحساسية والشعور بالخوف والتوتر والقلق الشخصي. ويغلب عليه اليأس والحزن بسرعة ويميل إلى تثبيط النشاط الجماعي وإضعاف معنويات المجموعة.
ولما كانت طبيعة عمل المعلم تحتم عليه التعامل مع أنماط مختلفة من التلاميذ فإن ذلك يقتضي أن يكون ذا شخصية متكاملة متعددة الجوانب. وهناك بعض الباحثين يقول بأن سمات شخصية المدرسين متنوعة ومتباينة وأنه من الخطأ الزعم بأنها متميزة لديهم عادة أكثر مما لدى غيرهم من أرباب المهن الأخرى. وهناك من يؤمن بأن هناك سمات شخصية يتميز بها المدرس الجيد عن غيره. وهناك مقاييس مستخدمة لقياس كفاءة المعلمين وإن كان لا يوجد اتفاق بينها. منها اختبار العوامل الشخصية الستة عشر Personality Factors 16 لعالم النفس الأمريكي المعروف كاتتل Cattel . وهناك أيضا مقياس أعده مميد كمبريدج لقياس القدرة على التدريس مكون من خمس فئات أو مستويات للأداء تتراوح بين الممتاز والرديء. وقد أكدت بعض الأبحاث أن الاختبار الأول وهو اختبار كاتتل يعد مقياسا جيدا للتنبؤ بالنجاح في مهنة التدريس من حيث أن بعض السمات كيقظة الضمير ورجاحة العقل وضبط النفس ترتبط بالقدرة على التدريس.
بيد أن نظم إعداد المعلمين في مصر والبلاد العربية ما زالت تقتصر في اختيارها لمعلمي المستقبل على الشهادات الدراسية والمقابلات الشخصية ويتحكم في عملية الاختيار بالدرجة الأولى أعداد ونوعية المتقدمين والفرص المتاحة لهم في المعاهد الأخرى.
وهناك جدال نظري حول الأهمية النسبية للجانب النظري والتطبيقي في برنامج إعداد المعلم. ويناقش أحد الباحثين هذه القضية فيقول : " خلاصة رأيي هو أننا بينما
الصفحة 236
نعتبر الممارسة والتطبيق جزءا رئيسيا من إعداد المعلم فإنه من الخطأ الواضح أن نتصور وجود شيء يسمى التفكير العملي على أنه نوع متميز عن التفكير النظري (316 P : BJES).
أهمية إعداد المعلم :
مهما اختلفت نظم إعداد المعلم فإن عملية الإعداد نفسها يجب أن تشمل ثلاثة جوانب رئيسية هي الإعداد الثقافي العام والإعداد الأكاديمي الخاص والإعداد المهني وهو ما سنفصله في السطور التالية :
(ا) الإعداد الثقافي العام: وهو شرط أساسي لمهنة التدريس على خلاف مهنة الطب أو الهندسة مثلا. فالققافة العامة ضرورية لكل معلم بحكم كونه مربيا. وكلما زادت المعلومات العامة للمعلم كان أقدر على نيل ثقة تلاميذه والتأثير فيهم. ومن ناحية أخرى تساعد الثقافة العامة المعلم على نضوج شخصيته واتساع أفقه وسعة إدراكه مما يخلصه من روح التعصب لتخصصه الدقيق أو ميدان عمله الضيق. والثقافة العامة ضرورية أيضا لنجاح المعلم في قيامه بالدور الاجتماعي المطلوب منه. فالمعلم قائد وموجه في منطقته وتحتم عليه طبيعة العلاقات الاجتماعية المستمدة من دوره المهني أن يكون على صلة بقطاع كبير من الناس سواء أكانوا آباء تلاميذة أو أهالي منطقته. وتفرض عليه هذه العلاقات مواقف يتحتم عليه فيها أن يكون له أساس عريض من الثقافة العامة إذا أراد أن يواجه هذه المواقف بنجاح.
لكن ما هي مقومات الثقافة العامة اللازمة للمعلم ؟ الواقع أن إجابة هذا السؤال محل اجتهاد كبير. والأساس فيها بالطبع أن يلم المعلم بقدر واسع من ميادين المعارف والمعلومات العامة. فلجادة اللغة القومية ضرورية بالطبع لأنها أداة المعلم ووسيلته ولجادته للغة أجنبية على الأقل شرط أساسي لانفتاح عقله على العالم الخارجي واتصاله بصورة مباشرة ومستمرة بالجديد في ميدان تخصصه. ويلزم المعلم أيضا قدر من العلوم الإنسانية كالتاريخ والاجتماع
الصفحة 237
والاقتصاد والسياسة والأدب وقد عام من العلوم الطبيعية والتكنولوجية وقدر من الفنون الجميلة على اختلاف أشكالها . وقد يبدو ذلك كثيرا أو مبالغا فيه ولكن الواقع أن مطالب المهنة تزداد وتتسع باستمرار ومعلم اليوم ينبغي أن يكون دائرة معارف صغيرة متنقلة .
(ب) الأسس الأكاديمي للتخصص:
ويقصد به مادة تخصصه أو المادة التي يدرسها. فإلى جانب الثقافة العامة يلزم المعلم أن يكون على معرفة متخصصة بأحد فروع المعرفة وأن يكون متمكناً منها. إن تعمق المعلم في مادة تخصصه شرط ضروري لنجاحه كمعلم. ويجب أن يؤمن المعلم بقيمة مادته وأهميتها حتى يستطيع أن يؤثر في تلاميذه ويحملهم على احترامه. إن الصغار يكرهون من الكبار شيئين: جمود عقولهم وعدم إخلاصهم. ويكون المعلم غير مخلص إذا كان يدرس مادة لا يجيدها . إن فاقد الشيء لا يعطيه. ولن يستطيع المعلم أن يفهم التلميذ مادة هو نفسه لا يجيد فهمها ولا يقتنع بأهميتها أو يعتبرها أنها لا تستحق أن يتعب في تدريسها . إنما يخرج من القلب يصل إلى القلب ولكن شرح المعلم صادراً عن القلب إذا لم يكن مؤمناً بما يقول متحمساً له . وهذا يقتضي من المعلم أن يكون متجدداً في معلوماته باستمرار غير رغبته في جزر اليوم ما قاله بالأمس وإلا فقد الإحساس بقيمته كإنسان وبأهميته كمعلم.
ولكن إذا كانت الثقافة العامة ضرورية لكل المعلمين سواء كانوا للمرحلة الابتدائية أو الثانوية وكذلك بالنسبة للثقافة المهنية كما سيرد . فهل التخصص ضروري بالنسبة لمعلمي المرحلة الابتدائية ؟ الواقع أن الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة أو مباشرة لاختلاف وجهات النظر حولها . فمن قائل بأن الأساس في إعداد معلمي المرحلة الابتدائية أن يكون عاماً غير متخصص. والأساس فيه جرت عليه سياسة إعداد هذا النوع من المعلمين في كثير من الدول . والأساس الذي يستند إليه هذا الرأي هو أن تلميذ المرحلة الابتدائية لا يتطلب معلومات متخصصة . وهناك وجهة نظر أخرى تقول بأن معلم المرحلة الابتدائية يلزمه أيضاً قدر من التخصص في ميدان من الميادين إلى جانب الأساس الثقافي العريض .
الصفحة 238
فتدريس بعض المواد في السنوات النهائية من المرحلة الابتدائية يتطلب قدراً من التخصص . وقد أخذت نظم تعليمية بهذا الاتجاه ووحدت نمط إعداد معلم المرحلة الابتدائية والثانوية . وهذا الاتجاه بدأ يأخذ به نظام المعلمين للمرحلة الأولى في مصر من حيث قيام الدراسة بدور المعلمين على أساس تقسيمها إلى شعب خاصة كما سنرى .
(جـ) الأساس المهني :
وهو الذي يتعلق بالجانب المهني وما يميز المعلم كرجل له أصوله المهنية التي تتطلب التدريب والمران . وتشمل الثقافة المهنية للمعلم ناحيتين أساسيتين :
1- إكساب معلم المستقبل أسرار مهنة التدريس وأصولها . فلكل مهنة أسرارها التي لا يعرفها سوى أصحابها . ولمهنة التدريس أيضاً أسرارها . صحيح أن لكل مهنة مشاكلها المهنية الخاصة بها وفي مقدمتها مشكلة أولئك الذين يدخلون إلى المهنة من الباب الخلفي دون سابق إعداد مهني . ولكن ذلك يصدق على المهن الأخرى . وقد تزداد حدته بالنسبة لمهنة التعليم . وعلى كل حال فإن الجانب المهني في إعداد المعلم يشتمل على الحقائق والمعلومات المتعلقة بالمتعلم وشخصيته ونموه وما يفرضه هذا النمو من واجبات تربوية على المعلم ويشتمل أيضاً على طرائق التدريس وأهداف العملية التربوية وطبيعتها ومميزاتها بالنسبة للفرد والمجتمع وشروط التعليم الجيد وغيرها من الأمور التي تساعد المعلم على إجادته لمهنته . ولذلك فدراسة علم النفس التعليمي والاجتماعي وسيكولوجية النمو وأصول التربية وفلسفتها وطرائق التدريس والتربية المقارنة كلها ضرورية ولازمة للإعداد الفني والمهني للمعلم .
نظم إعداد المعلمين :
ما زالت الدول العربية بما فيها مصر تفرق بين إعداد معلم المرحلة الابتدائية ومعلم المرحلة الثانوية وهو ما يناقض الاتجاهات العالمية المعاصرة في النظم التعليمية المعاصرة . ففي كل من انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول المتقدمة
الصفحة 239
يتقارب نظام إعداد معلمي المرحلة الابتدائية ومعلمي المرحلة الثانوية بدرجة كبيرة . فالمعهد الواحد يضم النوعين من المعلمين . وتتساوى مدة الدراسة وشروط الالتحاق والمواد الدراسية بل وتتوحد بعض هذه المواد ولا يكون الاختلاف إلا في بعض المواد المرتبطة بطبيعة كل مرحلة من حيث مميزات النمو الخاصة بها وطرق التدريس .
وفي روسيا نجد اتجاهاً مماثلاً . إذ يمكن لمعلم المرحلة الابتدائية مواصلة الدراسة في معاهد إعداد معلمي المرحلة الثانوية وبذلك تختفي تدريجياً الفروق القائمة في إعدادهما وبالتالي تختفي معاهد إعداد معلمي المرحلة الابتدائية . ومع أن فرنسا تعد معلمي المرحلتين في معاهد مختلفة وفق نظام خاص فإنه يتاح لمعلمي التعليم الابتدائي الالتحاق بمعاهد إعداد معلمي التعليم الثانوي بشروط معينة وهو نظام معمول به في مصر وبعض الدول العربية إلا أنه ما زال على نطاق ضيق ولا يحقق الغرض منه. ذلك أن معلم المرحلة الابتدائية الذي يواصل الدراسة في معاهد إعداد معلمي التعليم الثانوي ينقل إلى المرحلة الثانوية بعد انتهائه من الدراسة وبذلك يحرم التعليم الابتدائي من أحسن عناصره باستمرار . ومع أننا ندرك تماماً مبررات هذا الإجراء فإنه ينبغي على السلطات التعليمية أن تبقى على هذه العناصر الصالحة في التعليم الابتدائي وأن تعمل على تطعيمه بها باستمرار .
أما بالنسبة لإعداد معلمي المرحلة المتوسطة والثانوية فقد أصبح مسؤولية الجامعات وهو يشمل نظامين هما النظام التتابعي والنظام التكاملي .
النظام التتابعي :
يقوم على أساس انتظام الطالب أكاديمياً في كليات الآداب والعلوم لمدة أربع سنوات تنتهي بحصول الطالب على الدرجة الجامعية الأولى وهي الليسانس أو البكالوريوس ثم يتابع بعدها الإعداد المهني في كليات التربية لمدة عام دراسي يدرس فيه الطالب دراسة نظرية تربوية وعلمية ويحصل في النهاية على الدبلوم العام في التربية . وهذا الدبلوم هو الذي يؤهله تربوياً للعمل بمهنة التدريس بالمرحلة الإعدادية والثانوية . وأهم ما يتميز به هذا النظام مساعدة المعلم على التعمق في دراسة مادة تخصصه وتأهيله على مستوى عال . لكن يلاحظ عليه من ناحية أخرى طول مدة
الصفحة 240
وبالتالي زيادة نفقاته وتكاليفه إلى جانب ابتعاد المعلم مدة سنة كاملة عن مادة تخصصه .
النظام التكاملي :
وهو النظام الذي يقوم على أساس تكامل الإعداد الأكاديمي والمهني في كليات التربية المعدة للدراسة بها أربع سنوات بعد إتمام الدراسة الثانوية العامة . وهو النظام الذي تطور في مصر في مدرسة المعلمين العليا التي ظل نظامها باقياً حتى سنة 1955/45. ثم حلت محلها كليات المعلمين والمعلمات التي بدأ إنشاؤها سنة 1952خارج الجامعة ثم ضمت إليها عام 1966/65. وتمثل كلية البنات التي أنشئت سنة 1954والتابعة حالياً لجامعة عين شمس هذا النظام أيضاً بالنسبة لأقسامها التربوية . كما كانت كلية دار العلوم بجامعة القاهرة تمثله أيضاً في عامي 1958و 1959عندما كانت تدرس بها العلوم التربوية والنفسية والتمرين العملي على التدريس في المدارس .
وأهم ما يتميز به هذا النظام تزا من الإعداد المهني والأكاديمي وعدم ابتعاد الطالب عن المادة العلمية ومن ناحية أخرى يساعد هذا النظام الطالب على الإعداد النفسي لتقبله مهنة التدريس والاستعداد لها . وأخيراً فإن هذا النظام يعتبر أقل اقتصاداً في الجهد والتكاليف إذا ما قورن بالنظام التتابعي .
وفي الفترة الأخيرة اتخذت خطوات كبيرة نحو توحيد النظامين مع بقائهما منفصلين في نوع واحد من الكليات تعرف حالياً باسم كليات التربية . هذا بالنسبة لمدرسي المواد الأكاديمية . أما بالنسبة لمدرسي التربية الرياضية والفنية فإن إعدادهم يتم في معاهد نوعية تخضع لوزارة التعليم العالي ومدة الدراسة بها أربع سنوات .
أما إعداد معلمي التعليم الفني الصناعي فما زال في حاجة شديدة إلى وضعه على أسس سليمة رشيدة تضمن جودة المعلم الذي يصلح لهذا النوع الحيوي من التعليم . ويصرف النظر عن المحاولات السابقة غير الموفقة فإن إعداد معلمي التعليم الثانوي الصناعي يتم حالياً في كلية المعلمين الصناعية وهي مناظرة لشروط القبول بها ومدة الدراسة لكليات المعلمين سابقاً . وهناك اتجاه لفتح كليات مماثلة لكل من التعليم الثانوي
الصفحة 241
والتجاري والزراعي . وقد بدأ الأخذ بهذا الاتجاه والعمل به بالفعل .
ثانياً : منزلة المعلم ومكانته :
يتحتم على المجتمع الحديث كلما زاد التخصص فيه أن يستمر في تحسين تربية الغالبية من أعضائه حتى يضمن مقدرتهم على أداء الأدوار التي ينتظرها منهم .
ويحتاج الجمهور الذي يعمل على تربية أفضل إلى معلمين مدربين أفضل تدريب إلى أنهم أكثر تخصصا . وكلما زاد نمو التدريس تخصصاً وأهمية بالنسبة للمجتمع صار أقرب لاعتباره مهنة . إذ يتمتع على المدرسين حالياً أن يكون أكثر معرفة وأكثر وعياً بمسؤولياتهم تجاه المجتمع . إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على أن المعلم عندنا في القرن العشرين لم يعترف به كاملاً كصاحب مهنة . فما هو السبب ؟
إن الإجابة الأولية على هذا السؤال تحتم علينا القول بأنه من الضروري أن تسيطر المهنة في المكان الأول على تدريب أعضائها فحسب ولكن على سلوكهم أيضاً . إذ أن المدرسين لا يشترط تأهيلهم هناك من المعلمين غير المؤهلين تربوياً من يدخل إلى مهنة التعليم من الباب الخلفي دون أن يعد سلفاً لها . وهناك نقطة أخرى هي أنه يتحتم على الفرد المهني أن يكون قادراً على اتخاذ قرارات هامة . إلا أن المدرس لا يزيد كثيراً عن كونه " مرساً " في عجلة التربية الجماهيرية . ولا تسمح التربية الجماهيرية بما تسمح به المشروعات التجارية الكبرى التي تتطلب من المديرين ممارسة المبادأة بينما لا يسمح للمدرس إلا بمجال ضيق لإبداء رأيه الخاص ، هذا على الرغم من أن المعلم له رأيه الخاص مع تلاميذه في داخل الفصل .
ويحد من استقلال المدرس الزيادة الكبيرة في عدد المتخصصين التربويين والمستشارين والمشرفين والاختصاصيين . وإن كان هؤلاء الاختصاصيون ضروريين إلا أنهم يقللون من عدد الأمور التي يمكن أن يقررها المدرس . ومن ناحية أخرى لا مجال لكثير من الشك في أن عمل المدرسين معاً كفريق يمكنهم من أن يتابعوا واجباتهم المهنية دون تدخل مما يتسبب في إضعاف عمل كل منهم كما هو الحال غالباً حالياً .
الصفحة 242
وأخيراً بينما يتمتع صاحب المهنة بتقدير اجتماعي كبير فإن هذا لا ينطبق على المدرس باستثناء أستاذ الجامعة . ويشعر رجل الشارع الذي قد لا يعلم بمناقشة الأطباء في مسائل مهنية تتعلق بالمعرفة المهنية والكفاءة ، بحرية تامة في انتقاد قرارات المدرسين .
ومن الطبيعي أن يطمح التربويون في الارتفاع بمركزهم المهني ، ومن بين الطرق التي تساعد على ذلك أن يكون للمدرسين رأي في تقرير اختيار زملائهم . ومنها أيضاً تحسين نوعية المدرسين . ولكن زاد التردد على ذلك بأنه سيؤدي إلى تقليل عدد المؤهلين الصرح لهم بالعمل في الوقت الذي يزداد فيه الطلب على المعلمين نظراً لتزايد عدد التلاميذ وطول فترة التعليم . والواقع أن هناك عوامل تسهم في تحديد مكانة المعلم المهنية من أهمها :
الجنس أيضاً له دور في تحديد المكانة المهنية للمعلم . فنظراً لما جرت عليه التقاليد في المجتمعات المختلفة من عدم تساوي مكانة المرأة مع الرجل ووضعها في مكانة أقل نجد أن الوضع المهني للمعلم يتحدد بمدى غلبة الجنس . وقد يفسر هذا إلى جانب العوامل الأخرى انخفاض المكانة المهنية لمعلم المرحلة الأولى حيث نجد نسبة كبيرة من الإناث . ولنأخذ مثلاً آخر على سبيل المناظرة من التعليم في اليابان حيث نجد أن "الذكورة" عامل هام للاشتغال بمهنة التدريس . وللمعلم هناك مكانة محترمة مرموقة تضفيها عليه التقاليد . ومع أن هذا الوضع
الصفحة 243
قد بدأ يتغير بالنسبة للتعليم الابتدائي إذ يزيد فيه عدد المعلمات على النصف إلا أن معظم المعلمين ما زالوا من الذكور .
ويحصل المدرس على بعض المكانة من جانب التلاميذ بسبب الاتجاهات التي يحضرون بها إلى المدرسة . فالأطفال الصغار في روضة الأطفال وفي الصفوف الأولى ينظرون إلى معلمهم على أنه بديل للوالدين وله كل القوة والسلطة التي يتمتعان بها . وهذه القوة التي يستخدمها المدرس من الدور البديل للوالد تأخذ في التناقص بسرعة بوصول الطفل إلى السنوات الابتدائية مما قد يعكس تناقص هيبة الوالد عند الطفل وذلك بسبب استمراره في النمو والتفتح . والمدرس في بعض الثقافات ، يكتسب مكانة من مصادر أخرى . ففي فرنسا مثلاً ينظر إلى المدرس على أنه من أكثر المواطنين هيبة في أي مجتمع صغير . فالأطفال يحضرون إلى المدرسة وهم موقنون بأن المدرس شخص ذو نفوذ كبير . وهو وضع يشابه وضع المعلم في الريف المصري في الماضي . والواقع أن الحاجة ماسة لإجراء مزيد من الدراسات الخاصة بمكانة المعلم وكيف تتنوع من مجتمع لآخر .
فالمدرس في بعض البلدان يكون مبجلاً تماماً وهو في قليل من البلدان ينال قسطاً أقل من الاحترام . لقد قامت مؤسسة " جالوب " وهي مؤسسة لاستطلاع الرأي العام في أمريكا بعمل استثناء عما يعتقده الشعب عن التعليم . وأظهرت نتائج هذا الاستفتاء أن المدارس لها مكانتها العالية وأن جمهور الناس يعتقدون أن المدرسين يذلّون عملاً عظيماً . ولكن عندما سئل جمهور الناس أن يذكروا مهناً أخرى لأصحابها نفس المكانة التي لدى المدرسين لم يذكروا مهناً مثل المحامين والأطباء . وإنما ذكروا حرفاً مثل الكهربائي والسباك وأعمال الخدمات الأخرى مثل الشرطي ورجل الإطفاء . وهذا يعني أن العامة يعتقدون أن المدرسين يقومون بعمل طيب ولكن مستوى عملهم من ناحية المكانة ليس عالياً جداً . وهذا الموقف يتعارض مع الموقف في بعض الدول الأخرى التي يكون فيها للمدرس مكانة عالية .
ثالثاً : سلطة المعلم وحدوده :
لقد انقسمت أدوار المدرس انقساماً حاداً في نهاية القرن . فقد كان من المنتظر
الصفحة 244
من المدرس أن يدرب الفكر ويعلم أصول اللياقة . لقد كان له امتياز تطوير اهتمام شخصي في تلاميذه ولكن بطريق غير رسمي ، وتوسعت وظيفة المدرس تدريجياً حتى أنه اليوم يغلب على الأغلب خبرات تلاميذه العاطفية والفكرية كذلك . ويهتم على سبيل المثال باختيارهم للأصدقاء وأنشطتهم بعد خروجهم من المدرسة وتكيفهم الاجتماعي والنفسي ، وفي نفس الوقت تلت المنافسة الاجتماعية بين المدرس والتلاميذ . ولم يعد المدرس الحديث يوحي بالرهبة والاحترام مثلما كان الحال مع سابقيه ، ولكنه أصبح أكثر مرونة وأكثر تفهماً وأكثر اهتماماً رسمياً بطلبته الذين يتمتعون بدورهم بمزيد من حرية الحديث وممارسة مزيد من المبادأة . ولقد سلم كثيراً من نفوذه إلى مجموعة الرفاق والكثير من مسؤولياته إلى مختلف الأخصائيين التربويين .
وقد اعتبر المدرس تقليدياً كمحافظ على التراث الثقافي . وكان واجبه هو توصيل أية عناصر في الخبرة الثقافية مما يجب الحفاظ عليه . إلا أن التربية التقدمية تتحدى هذا الرأي . فبالنسبة للمذهب التقدمي واجب المدرس جزئياً محافظ وجزئياً محرك ومجدد للتقاليد الثقافية بمعاونة الشباب على التفكير البناء حول مشاكل العالم المعاصر .
ويؤمن المدرس التقدمي بأن التلميذ لو كان لديه مشكلة يريد حلها وذات اهتمام أصيل لديه فإنه يميل إلى مزيد من التعاون مع مدرسه وزملاء الفصل . ويتحتم على المدرس حينئذ أن يكون مرشداً يساعد التلميذ على حل المشكلات التي يواجهها وإرشاده إلى كيفية اكتساب المعرفة والمهارات كي يقوم بذلك . ومن الناحية المثالية نجده يضع كل معرفته وخبرته تحت تصرف التلميذ حتى يستطيع الأخير أن يجد ما يحتاجه من عناصر لم يكن ليدركها أو يكتسبها إلا بعمل شاق .
ويخطط المدرس مع تلميذه ما يدرسون بدلاً من أن يقول لهم ما يجب أن يدرسوه . ولكي يقوم بذلك فإنه يخلق فصلاً دراسياً غير رسمي يسير فيه التلاميذ عن نواتهم بحرية وفي ظروف ملائمة . وقد ينتقدونه في الواقع . ويعتبر هذا التدريس من وجهة النظر التقدمية أكثر طلباً وأكثر فائدة من ذلك النمط من التدريس الذي يعد مسبقاً ما يدرسه
الصفحة 245
التلميذ دون معرفة رأيه في ذلك .
يقول كاونتس Counts وهو من المربين الأمريكيين المعروفين في كتابه الذي يحمل عنواناً تساؤلياً مثيراً : " هل تجرؤ المدرسة على بناء نظام اجتماعي جديد ؟ " :
" .. إن يقيني الذي لا يتزعزع هو أن المعلمين يجب أن يصلوا إلى مركز القوة التي تمكنهم من تحقيق انتصاراتهم . وبمقدار ما يتاح لهم من صياغة المناهج وطرائق التدريس في المدرسة يستطيعون أن يؤثروا تأثيراً إيجابياً على تشكيل الاتجاهات الاجتماعية والمثل العليا وأنماط السلوك لدى الجيل القادم . فعلى المعلمين مسؤولية اجتماعية كبرى في كل هذه الجوانب دون تحيز لطبقة معينة أو إهتمام وقتي طارىء . ولهذا يحتلون مكاناً فريداً في المجتمع .. وكذا تحقق مهنة التعليم قوتها وفعاليتها في خدمة مصالح الجموع الكبيرة من الناس .
ونحن إذا ما نظرنا إلى السلطة على أنها القوة أو النفوذ الذي يخول بحكم القانون أو يمارس بصفة فعلية فلربما نجد أن سلطة المعلم هي واقع حقيقي . فمما لا جدال فيه أن المعلمين كأفراد أو كأعضاء في مهنة التدريس يمارسون تأثيراً معيناً على التعليم في معاملاتهم اليومية مع التلاميذ والآباء . صحيح أن وزارة التربية تضع الكثير الناهية وتكتب الدراسة لكل مدارسها وأن على كل مدرس أن يتبع وينفذ تعليمات الوزارة وإرشاداتها . وصحيح أيضاً أن الوزارة بجهاز تفتيشها أو توجيهها الفني تستطيع أن تتأكد من اتباع المدرسين لهذه التعليمات والإرشادات . ولكن المدرس على الرغم من ذلك له تصرفاته وقراراته الخاصة به . فهو وحده في الفصل مع ثلاثين أو أربعين تلميذاً لم يكتمل نضجهم بعد . وكل ما يحدث داخل الفصل يتوقف عليه ، أعنى المعلم . فهو الذي ينجح التلميذ أو يرسبه . وهو الذي يكافئه أو يعاقبه . وهو الذي يشجعه أو يتجاهله . وهو الذي يستطيع أن يكون واضحاً مفهوماً أو ملغزاً محيراً . ويعنى آخر هو صاحب سلطة فعلية . بل إن الجو العام داخل الفصل يتوقف عليه وهو الذي يحدده . فإذا استطاع أن يحافظ على النظام بسهولة وبمزاج طيب وتفاهم متبادل سارت عملية التعليم في طريقها الصحيح وأدت نتائجها المرغوبة . والعكس إذا كان
الصفحة 246
لاذع اللسان حاد المزاج . وليس في إمكان التلاميذ أن يعملوا شيئاً بهذا الخصوص فالمعلم هو الذي يلون الجو العام داخل الفصل .
وتأتي سلطة المعلم أيضاً من المعرفة والمعلومات التي يجيدها . فهو بالطبع يعرف الكثير عن تلاميذه وعن مادته الدراسية التي يعلمها وعن طرق التعليم وعن المجتمع . بل ويعرف عن حياة تلاميذه معلومات أكثر مما يعرفون عنه . وتقوم المعلم لتلاميذه قد يكون متحيزاً غير عادل أو متأثراً بعوامل أخرى غير دراسية أو تحصيلية . وقد يختلف التلاميذ والآباء مع تقويمه . وقد يرفضون مفاهيمه عن السلوك الجيد والسلوك السيء وقد يختلفون في أمور أخرى كثيرة . ولكن المعلم هو الذي يضع درجة التلميذ وهو الذي يكتبها ويسجلها وهو الذي يحكم على نجاحه وفشله . إن المدرس أحياناً متعددة يلعبها في الفصل ، وفي كل واحد من هذه الأدوار تجل المعلم هالة القوة والسلطة . لقد ذكر ماكيلاند McLelland (1975) أن التدريس مهنة موجهة للقوة وأن وظيفة المعلم في الفصل ربما تفي ببعض احتياجات القوة ، وخاصة بالنسبة للمعلمين الذكور . والمدرس بالتأكيد هو الذي يستخدم القوة بمهارة ويمكنه ممارسة هذه القوة بأساليب مستبدة أو لطيفة . والاستبداد الزائد نادراً ما يكون بالفصل . فالمعلمون عادة يطالبون التلاميذ بما يجب عليهم أن يفعلوه . ثم يحاول التلاميذ من ناحيتهم عمل ذلك وينفذون الأوامر بالضبط بقدر إمكانهم . وهذا لا يعني أن المعلمين في فصل بدون قيود لا يمارسون القوة لأن الأمر بالنسبة لهم أنهم يمارسون القوة ولكن بطريقة أكثر ذكاء ولطفاً . وقد يكون معلم الفصل الذي لا يفرض قيوداً ذا تأثير هائل على ما يفعله التلاميذ وعلى الكيفية التي يتفاعل بها معهم أو التي يتفاعلون بها مع بعضهم البعض .
ولقد كشفت دراسات ماكيلاند أيضاً عن اختلافات هامة في الطريقة التي يمارس بها كل من المدرسين والمدرسات القوة . فالمدرسون يمارسون القوة من خلال تأكيد ذاتهم عقلياً . أما بالنسبة للمدرسات فإنهن يمارسن القوة بطريقة تتسم بأساليب أكثر رقة . ويؤثرن على الآخرين بالحيل التي يمارسنها حسبما يتطلبهن كل موقف من المواقف . وبناء على ذلك قد يتأتى للمعلمة ممارسة القوة بكونها جذابة أو مؤثرة أو بطريقة تتسم بالفراسة . أما المعلم فيكون أكثر ميلاً لمحاولة الإمساك بزمام الموقف
الصفحة 247
والتحكم فيها . إن مثل هذه الاختلافات بين الذكور والإناث من المعلمين في حاجة إلى دراستها في إطار العمل داخل الفصل ومن خلال الهيكل الإداري للمدارس أيضاً .
بيد أن الاختلافات بين المدرسين والمدرسات في استخدام السلطة ربما تكون نتيجة لتاريخ طويل للجنس البشري يرجع إلى العصور البدائية . وهناك ما يشير إلى أن الطريقة التي يمارس بها المدرسون والمدرسات السلطة على التلاميذ في سبيلها إلى التغيير . ذلك أن المناهج والبرامج الدراسية الراهنة الخاصة بإعداد المعلمات وتأهيلهن تجعلهن أكثر حزماً وصرامة . ويجب دراسة مثل هذه الاحتياجات التدريبية للمعلمين في ضوء ما تكشف عنه دراسة كيفية تأثير مثل هذه البرامج في سلوك المدرسين في الفصل . ويبدو أن حزم المعلم وصرامته في الفصل ليست بالأمر المستحب . كما يبدو أن الدور التقليدي للمرأة في ممارستها للقوة بوصفها الخاصة هو الأسلوب الأمثل في التطبيق في الأنواع المختلفة من الفصول وخاصة تلك الفصول التي لا تتسم بالرسميات . والواقع أن النموذج الأمثل لاستخدام المعلم للسلطة يجب أن يكون ملائماً للعمل داخل الفصل التقليدي حيث يكون قائداً حازماً . وبمعنى آخر :
ولعل من أهم التساؤلات الرئيسية حول الدور الذي يلعبه المعلم بطبيعة هذا الدور . هل هو دور المحافظ على تقاليد المجتمع ؟ أو الوسيط بين جيل وآخر ؟ أو هو العنصر الفعال في إحداث التغيير الاجتماعي ؟ وعلى كل حال يمكن القول بأن التقاليد المتبعة في معظم المجتمعات تضفي عليه أول هذه الأدوار وهو المحافظة على تقاليد
الصفحة 248
المجتمع .
وإذا كان هدف التربية والتعليم كما تحدده المادة الأولى من ميثاق الوحدة الثقافية العربية هو " تنشئة جيل عربي واع مستنير مؤمن بالله مخلص للوطن العربي ، يثق بنفسه ويؤمن بدوره ورسالته القومية الإنسانية ويتمسك بمبادىء الحق والخير والجمال ويستهدف المثل العليا الإنسانية في السلوك الفردي والجماعي " فإن دور المعلم يتمثل في الالتزام الخلقي والمهني بالعمل على تحقيق هذا الهدف .
متناقضات دور المعلم :
إن وضع المعلم في نطاق النظام التعليمي وكذلك في نطاق التركيب الاجتماعي يتحدد بالضغوط الحضارية للطالب التي يتطلبها غيره منه ويتطلبها هو من نفسه . ومن هنا يمكننا أن نتوقع أن ما يعرف بالصورة المهنية التي يرى المعلم نفسه عليها هي أبعد ما تكون عن التوحد . فحقيقي أن التناقض بين النشاط المهني وبين البيئة الخارجية ووقت الفراغ يمكن أن يحدث في أي مهنة ولكن بالنسبة للمعلم بصفة خاصة يكون هذا التناقض حاداً ومشهوداً بالتواتر لأنه يعكس تعارض عالمين : عالم الناشئة من التلاميذ الذي ينتمي إليه المعلم وعالم الكبار الضارجي بهويته الاجتماعية الذي يحياه المعلم . ولا توجد بحوث ميدانية على المجتمع العربي بصفة عامة لإلقاء الضوء على متناقضات دور المعلم بين المهنة وحياته الاجتماعية .
وربما يكون من المفيد أن نهتدي هنا ببعض الدراسات التي عملت في الخارج ونعني بها الدراسات التي قام بها " جيتزلز " Getzels و " جوبا " Guba (P. 164) عن متناقضات دور المعلم . وعلى الرغم من أن هذه الدراسات عملت على المجتمع الأمريكي ومن ثم يصعب تعميمها إلا أنها مفيدة في استخدامها أسساً للمقارنة . وعلى كل حال فقد كشفت هذه الدراسة عن ثلاثة ميادين رئيسية يتناقض فيها دور المعلم . أول هذه الميادين يتعلق بالدور الاجتماعي الاقتصادي للمعلم حيث يتوقع منه مستوى من الحياة والمعيشة لا توفره له إمكانياته المادية . وثانيها يتعلق بدور المعلم كمواطن . وفيه يواجه المعلم قيوداً مفروضة على سلوكه العام والخاص . وقد تمتد هذه القيود فتشمل
الصفحة 249
التدخين وشرب الخمور والرقص والملبس والانتظام في حضور الصلوات والنشاط الديني . وثالثها يتعلق بالدور المهني وإجادته لفنه وميدان تخصصه . وفيه قد يواجه المعلم قيوداً على حريته الأكاديمية أو معارضة لمحاكمه المهنية من جانب الفئات الاجتماعية .
وإذا جاز لنا أن نتخذ هذه الميادين الثلاثة أساساً للمقارنة نجد أن وضع المدرس في بلدنا بصفة عامة لا يختلف عن نظيره من حيث توقع المجتمع مستوى معيشة للمعلم لا يتناسب له بحسب إمكانياته المادية . أما من حيث دور المواطنة فالمدرسون كمواطنين يتمتعون بحرياتهم العامة والخاصة بنفس الدرجة التي تتمتع بها أي فئة أخرى في المجتمع . وليست هناك قيود خاصة على المدرسين في سلوكهم العام أو الخاص إلا ما يتعلق بقواعد وأصول الآداب العامة التي يجب على كل فرد في المجتمع أن يراعيها . وبالنسبة لدورهم المهني نجد على ما يبدو أن المدرسين لا يلقون معارضة خاصة لحريتهم الأكاديمية من فئة اجتماعية معينة . وربما يحدث ذلك من جانب بعض النظار أو المفتشين عندما يحاولون أن يفرضوا على المعلم رأياً معيناً فقد لا يوافق عليه أو يرفضون له رأياً يكون مقتنعاً بجدارته الفنية .
المعلم والنظام :
إذا نظرنا إلى مشكلة النظام المدرسي نجد أن المدرس الآن قد أصبح له مزيد من السيطرة على التلاميذ لأن التربية والتعليم أصبحتا بشكل متزايد مفتاحاً لحسن الوظائف والنفوذ الاجتماعي . إلا أن هذه السيطرة لا تعوض السلطة التي فقدها . إن من ينسبون إليه السيطرة هم التلاميذ الذين يرون فيه مصدراً للمعرفة والمهارات التي يرغبون في اكتسابها . وعلى المدرس في محافظته على النظام أن يتعامل مع تلاميذه إلى حد يمكن أن يبعده عن الموقف التسلطي والاستبدادي . ويشجع المدرسون المحدثون عادة تلاميذهم على إطلاق دوافعهم بدلاً من كبتها لأنهم يتعاملون معهم على أساس من الحرية والتسامح . إلا أن ذلك قد يوقع المدرس في حيرة إذ كيف يساعد الطفل على إطلاق دوافعه . وفي نفس الوقت يفرض عليه شيئاً ما . وكيف ينقل
الصفحة 250
التراث إذ لم يهتم به تلاميذه بحيث يتقبلونه .
وتسمح وجهة النظر المحافظة أن يكون الأطفال تحت سيطرة مدرسيهم الذين يحترمونهم فإذا ترفق المدرس عن القيادة اضطرب الفصل واختل النظام . وإذا أصبح من ناحية أخرى أوتوقراطياً فإن التلاميذ يتضايقون ويشعرون بالإحباط . ويجب أن يتخذ المدرس من أن الضوابط المطبقة على تلاميذه عادلة وإلا فلن يقبلوها ولن يتحقق النظام الذاتي . وبإيجاز نقول لو استطاع الأطفال أن يضبطوا أنفسهم فإنهم في حاجة إلى قيود تمكنهم من احترامها كما أنهم في حاجة إلى مدرسين يترسمون خطاهم .
إن إحدى طرق تحقيق نفوذ وسلطة المدرس هي العمل على جذب مزيد من الناس للعمل في المهنة وتقليل ساعات العمل حتى يمكن أن يقضي أولياء الأمور ساعات أطول في منازلهم . وسيؤدي ذلك حتماً إلى بعث سلطة الرجال لا في المدرسة فحسب وإنما في الأسرة أيضاً .
لقد كان العقاب معروفاً في الممارسات التربوية منذ العصور القديمة كوسيلة لحفظ النظام وحمل التلميذ على التعلم . إلا أن الثواب كان ينظر إليه أيضاً على أنه وسيلة أفضل . ودعا كثير من المربين على مختلف العصور إلى تفضيل استخدامه . وقد أكدت التجارب التي أجراها علماء النفس على أثر الثواب والعقاب هذه النتيجة . إذ وجدوا أن كلا النوعين يؤدي إلى التعلم إلا أن الثواب أبقى أثراً في حين أن أثر العقاب مرهون بوجود العقاب . وهذا يعني أن الطفل إذا أمن العقاب . فإنه يعود إلى سلوكه القديم . أي أن العقاب لا يحل المشكلة وإنما يمنع من ظهورها بطريقة مؤقتة .
والواقع أن العقاب كوسيلة للتأديب والتهذيب شرعته الأديان والقوانين المدنية . والإسلام شرع العقاب لما فيه من صلاح حياة الناس واستقرار أمورهم . قال تعالى " ولكم في القصاص حياة " . وبالنسبة للتربية الإسلامية للصبيان والناشئة فإنه يجوز استخدام العقاب لكن بالشروط التي وضعت لها . وبناء على ما يذهب إليه المربون المسلمون أن التأديب يجوز إذا كان بهدف منفعة الصبيان وليس بسبب غضب المؤدب .
الصفحة 251
ولا يجوز أن يزيد المؤدب في ضربه على ثلاث درر تشبها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أدب الصبي ثلاث درر فما زاد عليها فهو قصاص يوم القيامة " . ومع أن هذا الحديث واضح بالنسبة لعدد الضربات التي يوقعها المؤدب على تلميذه إلا أن بعض علماء المسلمين يزيدونها إلى عشر تبراً لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يضرب أحدكم أكثر من عشر أسواط إلا في حد " . ويبدو أن الحديث الأول أقرب إلى مقصدنا لأنه يتعلق بتأنيب الصبيان صراحة .
واشترط المربون المسلمون أن يكون العقاب على قدر الذنب دون إسراف . وقد طالبوا المعلم بأن يكون رفيقاً بتلاميذه عادلاً معهم لأنه ينزل منهم منزلة الوالد . ويجب ألا يبادر المعلم إلى العقاب عندما يخطىء الطفل وإنما يجب أن ينبهه مرة أخرى بعد أخرى . ويكون العقاب هو الأسلوب الذي يلجأ إليه المعلم في نهاية المطاف . وقد نهى المربون المسلمون المعلم عن استخدام العقاب وهو في حالة الغضب حتى لا يكون ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه . وعندما يلجأ المعلم إلى الضرب يجب أن يكون الضرب من أولاده إلى ثلاث كما أشرنا ويستثنى من الأمر فيما زاد عن ذلك . وأن يقوم المعلم بالضرب بنفسه ولا يتركه لأحد التلاميذ . وأن يكون الضرب في أماكن غير حساسة من الجسم كالرجلين أو اليدين مثلاً ويتجنب الضرب على الوجه والرأس والأماكن الحساسة من الجسم . وأن يكون آلة الضرب هينة لينة كالدرة أو الخلقة أو عصا رفيعة رطبة . ويشدد علماء التربية الإسلامية في جزاء المعلم إذا خالف أصول عقاب تلاميذه . فذهب ابن سحنون إلى أن المعلم إذا عاقب تلميذاً لا يجوز له تأديبه فاضحاً ويفتاً عينه أو أصابه فقله ، فإن على المعلم الكفارة في القتل ودفع الدية للتعويض إذا جاوز حد التأديب إلى القسوة . وإذا لم يجاوز المعلم الحد فلا دية عليه . وإذا ضرب المعلم الصبي بشيء غير مسموح به فقتله فعلى المعلم القصاص . وهكذا نجد أن التربية الإسلامية تضع شروطاً مقيدة ومنظمة لاستخدام العقاب . وأولى المعلم أن يستخدم أسلوب الترغيب بدلاً من الترهيب . ويجب أن ينظر المعلم إلى مشكلات النظام في الفصل على أنها قد تعنى أن درسه بطريقته وأسلوبه لا يبعث على إثارة اهتمام التلاميذ بالتعليم . وقد دعا كثير من المفكرين التربويين المعلمين إلى أن يجتهدوا دائماً في أن يكون درسهم مشوقاً ومثيراً للرغبة والفضول إلى التعلم عند التلاميذ . وعندها ستختفي كثير من مشكلات النظام
الصفحة 252
في الفصل . كما يجب على المعلم أن يدرس دائماً الأسباب التي تؤدي إلى ظهور أي مشكلة من مشكلات النظام كعدم الانتباه مثلاً في أثناء الدرس أو الغش في الامتحانات أو الشغب أو الكذب أو السرقة وغيرها .
حفظ النظام :
عندما يلتقي المعلم مع التلاميذ جدد في الفصل لأول مرة تكون مسألة حفظ النظام أهم ما يشغل باله . هل سيقبلون سلطته وقيادته ؟ هل سيستطيع أن يحملهم على العمل بنشاط ؟ إن كثيراً من المعلمين يقلقهم ذلك في البداية وإن كثيراً من المعلمين ذوي الخبرة يعتبرون أن الدرس الأولي للمعلم مع التلاميذ الجدد تكون حاسمة في تحديد علاقته بهم .
إن تحقيق النظام في أي مجموعة يتضمن تقبل الأعضاء لأهداف معينة مشتركة يتعاونون على تحقيقها من خلال حفظ النظام . وهذا ينطبق على التدريس بالطبع . ولكن يحتاج المعلم بالإضافة إلى ذلك أن يعمل على إرساء قواعد السلوك والتي يتحدد بمقتضاها ما هو مقبول وما يريده وما يتوقعه المعلم من التلامذة من ناحية النظام أو الانضباط أو العمل في الفصل . إن لدى التلاميذ معايير خاصة بهم اكتسبوها من مصادر مختلفة كالمنزل أو الأصدقاء أو المعلمين أو من المدرسة بصفة عامة . وإذا كانت مجموعة التلاميذ في الفصل الدراسي قد تعايشت معاً فترة من الزمن فإن بعض هذه المعايير قد استقرت بينهم بالفعل . كما تكون معايير السلوك قد استقرت بينهم أيضاً . ففي أحد الفصول على سبيل المثال قد يكون من النمط السلوكي السائد بينهم الرغبة والحرص على توجيه الأسئلة . وفي فصل آخر قد يكون العكس تماماً وتكون السلبية وعدم الاستجابة هي النمط السائد بينهم . ويمثل هذه الأنماط السلوكية للتلاميذ في الفصل إذا ما تكونت تميل إلى الاستمرار ما يترتب عليها من تحقيق الثبات والاتزان بين المجموعة . فكل تلميذ لديه توقع عن سلوك الآخرين وتوقع الآخرين لسلوكه . ومن ثم فعليه أن يكيف سلوكه تبعاً لذلك . وقد تعمل المجموعة على فرض معاييرها بالقوة إذا خالفها أحد أعضائها . ومن مصلحة المعلم أن يعرف هذه المعايير حتى يعمل على
الصفحة 253
الاستفادة منها . فإذا علم المعلم مثلاً أن التلاميذ يجلسون في الفصل كيفما أرادوا يكون من العبث إذن أن يصر على أن يجلس كل تلميذ في المكان الذي يحدده هو له . وإذا استطاع المعلم أن يوازن بين ما يجب أن يفعله وبين ما يتوقعه فإنه سيتفادى خلق المشكلات أو تعقيد الأمر في حين يكون الأمر نفسه تافهاً أو لا يستحق الوقوف عنده . وفي نفس الوقت ينبغي على المعلم أن يعرف أين ومتى يقف بثبات ويصر على رأيه .
وعندما يتولى المعلم أمر فصل جديد فإن التلاميذ يعرفون عن يقين أن له سلطة عليهم بحكم دوره بأنه بدون شك سيستخدم هذه السلطة بفهم . لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد حدود هذه السلطة ولا كيف أو متى سيستخدمها . ومن ثم يبادر التلاميذ إلى اكتشاف الموقف بالتحرك بحرص لاختبار هذه الحدود واستيضاح الأمور التي يتقبلها المعلم واكتشاف الأمور الأخرى التي تساعدهم على التنبؤ بسلوكه . وهكذا يستطيع التلاميذ بالتدريج أن يتوسعوا في فهمهم وتوقعهم لسلوك المعلم وأن يصلوا من خلال ذلك إلى معرفة الفجوات التي قد ينفذون منها لتحقيق مآربهم . يقول أرجيل Argyle : وهو أحد المربين . لم يعد السلوك الاجتماعي في الفصل وفي غيره كما كان الحال منذ عشر سنوات مضت . إننا نعرف أن العلاقات الشخصية المتبادلة تتكون من خلال الإشارات غير اللفظية كحركات العين وتعبيرات الوجه وحركة الجسم والإشارات والمجاورة والتهيؤ ونغمات الصوت . ويستخدم المعلمون عادة حركات العين والإشارات ونغمات الصوت لضبط الفصل وحفظ النظام فيه . ويمكن أن نمثل ذلك بنظرة المعلم قصد إلى تلميذ معين أو مجموعة من التلاميذ ، أو رفع الحاجبين كدليل على الدهشة أو ابتسامة الرضا عندما يبذل تلميذ ما جهداً في الإجابة أو الصمت المفاجئ في وسط الجملة أو الصمت من أجل الهدوء أو التحول المفاجئ لنغمة صوتية أيضا و هكذا .
إن من الصعب أن يقوم الإنسان بحوارين في وقت واحد . لكن ذلك هو ما يفعله المعلم عادة أثناء تدريسه . فالحوار بالكلام الذي يقوم به المعلم في شرحه للدرس يكون مصحوباً بحوار آخر بدون كلام لفظي للانضباط في الفصل . وهذا النوع الأخير من الحوار يتضمن علاقة متبادلة بين المعلم والتلميذ كل نوع آخر من الحوار . فالتلميذ
الصفحة 254
يصدر إشارات يستقبلها المعلم ويفسرها ويقوم بدوره بالرد عليها أو الاستجابة لها بالإشارات أيضاً .
وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن هذا النوع من الحوار إذا ما أحسن استخدامه يساعد على فعالية الانضباط . فلقد البحث التي أجريت على دراسة الطفل المشكل يؤكد الفكرة العامة أن من المهم بالنسبة للمعلمين أن يعطوا انطباعاً لتلاميذهم أنهم على وعي بما يدور حولهم وأن لهم عيوناً في ظهورهم يرون بها .
ومن المهم للمعلم إذن أن يتعرف على الإشارات غير اللفظية التي تصدر عن التلاميذ حتى يستطيع أن يبدأ في مثل هذا الحوار . ويمكن أن نضرب أمثلة لمثل هذه الإشارات بعدم استقرار التلميذ في الجلوس كالميل على الجنب أو الرفض بوجه الوجه الذي يدل على عدم الفهم والنظرات الجانبية الخفيفة التي تحاول أن تختبر ما إذا كان المعلم يرى التلميذ أم لا وهكذا .
ويحتاج المعلم إلى تفسير مثل هذه الإشارات وهذا يتطلب ألفة وحساسية بلغة الاتصال غير اللفظي . وفي ضوء هذا التفسير يستجيب المعلم بإشارات تحمل رده . ومن أمثلة هذه الإشارات أن ينظر المعلم إلى أصحاب النظرات الجانبية حتى يشعرهم بأنه يراهم لو أن يقطب جبينه كدليل على الرفض أو بالنظرة غير العادية إلى التلميذ الأشعر بالملل وهز الرأس كدليل على الموافقة . وكل هذه الإشارات يمكن أن تتم بينما يقوم المعلم بالشرح أو مناقشة التلاميذ .
أسئلة المعلم :
تلعب الأسئلة التي يثيرها المعلم أمام تلاميذه دوراً هاماً في مساعدتهم على التعلم . ولذلك يعتبر توجيه الأسئلة من جانب المعلم إلى التلاميذ جزءاً لا ينفصل عن عملية التدريس . وقد يشار إلى هذه الطريقة أحياناً بطريقة الحوار أو الطريقة "السقراطية" نسبة إلى سقراط الفيلسوف الإغريقي الشهير الذي تنسب إليه هذه .
الهوامش :
للمزيد من التفصيل ارجع لكتاب نفس المؤلف بعنوان : المعلم وميادين التربية . الأنجلو المصرية .1993.
الصفحة 255
الطريقة . وإثارة مثل هذه الأسئلة تحمل التلاميذ على التفكير وتستثير دوافعهم للتعلم وحب استطلاعهم لمعرفة ما يجهلون . كما أنها تحقق تفاعلاً مرغوباً في عملية التعلم بين المعلم والمتعلم . وتجعل من طريقة التدريس أسلوباً للأخذ والعطاء . وينبغي على المعلم أن يعد أسئلته بعناية ودقة . وأن يحسن توجيهها للمتعلم . وهناك عدة اعتبارات ينبغي على المعلم أن يراعيها في هذا الصدد من أهمها :
أنواع الأسئلة :
هناك عدة أنواع من الأسئلة من المفيد للمعلم أن يلم بها . لأن هناك أسئلة أفضل من غيرها . وتصنف أنواع الأسئلة إلى أربعة أنواع رئيسية هي :
الصفحة 256
أ - أسئلة مباشرة مغلقة : وهي الأسئلة التي يوجهها المعلم إلى تلميذ معين وتكون لها إجابة واحدة فقط مثل : ما هي عاصمة سويسرا يا وائل ؟ ب - أسئلة مباشرة مفتوحة : وهي الأسئلة التي توجه إلى تلميذ معين وتكون لها أكثر من إجابة مثل : ماذا تفضلين من الهوايات يا سهام ؟ جـ - أسئلة غير مباشرة مغلقة : وهي الأسئلة التي توجه لكل التلاميذ وتكون لها إجابة واحدة مثل : ما هي الدول المكونة لمجلس التعاون الخليجي ؟ د - أسئلة غير مباشرة مفتوحة : وهي الأسئلة التي توجه لكل التلاميذ وتكون لها أكثر من إجابة مثل : كيف يحافظ الإنسان على صحته ؟
والجدول التالي يلخص التصنيفات الأربعة لأنواع الأسئلة :
أنظر الجدول في بدف أعلاه
وينبغي أن نشير إلى أن الأسئلة المغلقة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة لا تثير كثيراً من النقاش حولها عادة . أما الأسئلة المفتوحة فهي على خلاف ذلك لتعيد إجاباتها وإمكانيات إثارة الحوار والنقاش حولها .
أسئلة التلاميذ :
يخشى كثير من المعلمين أية أسئلة يوجهها التلاميذ لهم توجساً منهم بأنهم قد لا
الصفحة 257
يعرفون إجاباتها أو الرد عليها . ومن ثم يكونون في موقف محرج أمام تلاميذهم مما يؤثر على مكانتهم ونفوذهم وتأثيرهم . وقد تكون الأسئلة عامة لا تتصل بمادة تخصص المعلم أو قد تكون الأسئلة متعلقة بهذه المادة . ولاشك في أن سعة أفق المعلم وخبرته وإجادة معرفته بالمادة الدراسية ضرورية لكي يستطيع التعامل مع مثل هذه الأسئلة . وقد يشرك التلاميذ في المناقشة ويطالبهم بالتفكير في الإجابة لاسيما إذا كان السؤال مفاجأة له أو أنه لا يعرف الإجابة عليه . ويجب أن يبدو المعلم في مظهر الواثق من نفسه أمام تلاميذه . وليتذكر دائماً أنه في موقف المربي مثله مثل الآباء قد يتعرضون لأسئلة محرجة من أطفالهم وقد لا يعرف الآباء الإجابة عليها . ومع ذلك فإنهم يحسنون التصرف مع أبنائهم في مثل هذه المواقف، وربما يطلب المعلم من تلاميذه الرجوع إلى المكتبة للبحث عن الإجابة ومناقشتها في الدرس القادم . ويجب أن يعد المعلم نفسه جيداً بالنسبة لموضوع درسه قبل أن يقوم بتدريسه حتى يكون متمكناً من المادة التي يقوم بتدريسها . ويستطيع المعلم أن يتوقع كثيراً من الأسئلة التي يمكن أن يثيرها التلاميذ وأن يكون مستعداً للإجابة عليها . وقد يكون السؤال متعلقاً بموضوع سبق شرحه فيما بعد فيجب أن يوضح ذلك . إن أسئلة التلاميذ تتيح فرصة طيبة للمعلم للتفاعل مع تلاميذه وعليه أن يمتدح إثارة مثل هذه الأسئلة وأن يعبر لهم عن سعادته وسروره وترحيبه بها .
مواجهة المواقف المحرجة :
يواجه المعلم أحياناً بعض المواقف الحرجة . ومن السهل على المعلم المتمرس ذي الخبرة أن يتوقعها وأن يتعامل معها . أما بالنسبة للمعلم المبتدئ فقد تضعه في موقف لا يحسد عليه إذا لم يحسن التصرف إزاءها . وسنحاول في السطور التالية أن نشير إلى بعض هذه المواقف وكيف يتصرف المعلم إزاءها :
س1: ماذا يفعل المعلم إذا وجه إليه أحد التلاميذ سؤالاً لا يعرف إجابته ؟
جـ1: في هذه الحالة وجب أن يكون المعلم هادئ الأعصاب وألا يظهر أي انفعال يدل على الضعف أو التخاذل . وينبغي ألا يتفادى المعلم السؤال أو يتجاهله إلا إذا
الصفحة 258
كان لديه سبب قوي لذلك . ويجب ألا يستخدم المعلم أسلوب الهجوم أو التحقير أو التأنيب لتلميذ لم يعلم روحه المعنوية كرد فعل للموقف بل يجب أن يشكر التلميذ على السؤال ويبين أهميته . ويجب أن يعطي نفسه فرصة للتفكير والتريث بأن يوجه السؤال إلى الفصل برمته مطالباً التلاميذ بأن يحاولوا الإجابة على السؤال . وما إذا كان هناك أحد يعرف الإجابة . وهذه الطريقة تثير اهتمام التلاميذ لاسيما بالنسبة لأولئك الذين يعرفون الإجابة الصحيحة وقد يطالب المعلم التلاميذ بأن يبحثوا عن الإجابة الصحيحة لمناقشتها في الحصة القادمة . وعلى المعلم أيضاً في هذه الحالة أن يبحث عن الإجابة الصحيحة وأن يستعد لها في الحصة التالية . ومن الأفضل ألا يأخذ المعلم كل المسؤولية على عاتقه وإنما يجب أن يشرك معه التلاميذ وأن يتيح الفرصة ليجعلوا موقفاً تعليمياً حقيقياً بعيداً عن التكلف أو السيطرة .
س2: ماذا يفعل المعلم إذا لاحظ تزايد الملل وفقد الاهتمام عند بعض تلاميذه ؟
جـ2: هنا ينبغي على المعلم أن يتصرف على الفور بذكاء حسب تقديره للموقف . فقد يكون ذلك راجعاً إلى أن جو حجرة الدراسة خانق غير متجدد الهواء نتيجة لانغلاق الشبابيك . وفي هذه الحالة قد يطالب المعلم التلاميذ بجوار الشبابيك وأن يقوم بفتحها لتجديد الهواء . وقد يكون في هذا الإجراء تنشيطاً للفصل برمته وتجديداً للحيوية فيه . وقد يكون الموقف راجعاً إلى أن أسلوب المعلم في تدريسه غير مشوق بدرجة كافية . وهنا ينبغي أن يراجع المعلم أسلوب تدريسه وأن يقطع رتابة الدرس بإثارة سؤال متعلق بموضوع الدرس . أو أن ينتقل المعلم من موقف الإلقاء إلى موقف المناقشة . ويمكن أن يغير المعلم في مواقف التعلم حسب تقديره . وقد يكون الملل راجعاً إلى التعب والإجهاد لأن وقت الدرس في آخر اليوم ومن هنا قد يفضل المعلم استخدام الأسلوب العملي في التدريس لتجديد النشاط أي يطالب التلاميذ بعمل شيء تحريري أو ممارسة نشاط عملي . ويجب أن يستفيد المعلم من هذه المواقف لتحسين أساليب تدريسه واكتشاف طرق أخرى أفضل وأكثر استثارة لنشاط التلاميذ واهتماماتهم .
الصفحة 259
س3: ماذا يفعل المعلم إذا وجه إليه أحد التلاميذ خطأ في كلامه أو عدم دقة في عبارة ؟
جـ3: يجب أن يكون المعلم في هذه الحالة واسع الصدر وأن يتقبل الموقف بروح رياضية وأن يناقش التلميذ فيما يوجهه من نقد مع إشراك التلاميذ في المناقشة ومعرفة رأيهم فيها . وقد يمتدح المعلم وجهة نظر التلميذ وقد يبين له الخطأ فيها أو نقط الضعف . وفي حالة تصحيح الخطأ فعلى المعلم في هذه الحالة أن يشكر التلميذ صراحة على ذلك وعلى إهتمامه ومتابعته وأنه يود أن يرى غيره في الفصل على هذه الدرجة من الاهتمام ويجب ألا يلتمس المعلم أي أعذار أو أن يتبع أسلوباً معوجاً أو ملتوياً لتصحيح الموقف كأن يقول للتلميذ مثلاً إنني كنت أختبركم ووقعت في الخطأ عمداً لأعرف مدى انتباهكم . فهذا أسلوب مكشوف يفقد التلاميذ الثقة في المعلم . وخير له أن يكون واضحاً صريحاً في تقبل تصحيح الخطأ وليعلم أن كل إنسان معرض للخطأ وجل من لا يسهو . ويجب أن يعمل المعلم كل ما في وسعه لكسب ثقة تلاميذه في علمه ومعرفته وثقافته بسمة إطلاعه وتجدد معلوماته .
الصفحة 260
الصفحة 261
مراجع الكتاب
من الصفحة 262 الى الصفحة 268
كتب أخرى للمؤلف
من الصفحة 269 الى الصفحة 272