توافقات تربوية بين الأدلة الشرعية وعلوم التربية 


المؤلف: محمد ملحاوي

التصنيف: علوم التربية

عرض PDF

الوصف:

تأليف الدكتور محمد ملحاوي، الطبعة الأولى 1445ه/2024م، الناشر: مركز أثيل للدراسات العلمية والأبحاث الاجتماعية.

الإيداع القانوني: 2024MO 3617

ردمك:  978-9920-8852-5-6


مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

وبعد:

بما أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يُلجأ إليه لضبط الفهم عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ وذلك بوضع القواعد ورسم المناهج وطرق الاستدلال، فهو بهذا بمثابة الروح للعلوم الإسلامية”وأصل الأصول وقاعدة كل العلوم‟ [1].

ولم يتربع علم أصول الفقه على عرش العلوم الشرعية إلا لكونه...

الهوامش:

[1]منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى: 489هـ) قواطع الأدلة في الأصول، أبو المظفر، تحقيق محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 1418هـ/1999م، ج:1، ص17.

الصفحة 3

يسعى إلى منهجة الفكر وتسديد الذهن وتنشيط العقل، حتى لا يقع الزلل والشطط في كسب المعرفة واستنباط الأحكام؛ فهو علم يجمع بين العقل والنقل”وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم أصول الفقه من هذا القبيل؛ لأنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد‟[1].

ولبيان علاقة علم أصول الفقه وبالأخص مبحث الأدلة الشرعية بالمجال التربوي، لا بد من طرح بعض الأسئلة في أيسر صورة لها من قبيل: ما علاقة أصول الفقه بعلوم التربية؟ وماذا يمكن أن يقدم منهج علم أصول الفقه للمجال التربوي؟ وما هي أبرز المعالم البيداغوجية في علم أصول الفقه؟

الهوامش:

[1] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)، المستصفى، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ - 1993م ص 4.

الصفحة 4

لقد بدأ الاهتمام بهذا الموضوع منذ ولوجي مهنة التدريس، بل حتى قبل ذلك أيام كنت طالبا بالمدرسة العليا للأساتذة بفاس (المغرب) حيث بدأ الاهتمام بتعلم طرائق التدريس، والاطلاع على البيداغوجيات الحديثة، والنظريات التربوية، فكنت أسأل نفسي عن إمكانية توظيف منهج علم أصول الفقه في علوم التربية، ولما لا يتم الرجوع إلى التراث التربوي الإسلامي لتوظيف نظرياته في العملية التعليمية التعلمية؟ لاسيما ونحن نلاحظ التراجع الملحوظ على مستوى مخرجات المنظومة التربوية المغربية على الرغم من تبنيها لأحدث النظريات الغربية.

وقد وجدت بعد القراءة الأولية في الموضوع، أن قلة قليلة من الباحثين المعاصرين من تطرق لهذا الموضوع، ووجدت زخما من التوصيات التي تدعو إلى تجديد علم أصول الفقه، بل إن منها من ذهبت إلى أبعد من ذلك، وبالأخص حين دعت إلى أن يحل علم أصول الفقه بديلا للمناهج المعاصرة؛ لأنها في نظره مأزومة. وفي هذا يقول طه جابر العلواني في مقدمة كتابه "أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة":”وحين أُعدّ 

الصفحة 5

هذا البحث كان يمثل -في نظري- مقدمة لبحث موسع أو لعدة بحوث ودراسات تعالج أزمة أو إشكالية المنهج الراهنة، أو تقدم منهجا بديلا عن مناهج البحث المأزومة، توظف فيها الخبرة الفكرية الإسلامية، والتراث الإسلامي بشكل مناسب خاصة وأن أصول الفقه باعتباره منهج بحث ومعرفة مختص بالظاهرة الفقهية، وهي إنسانية أو اجتماعية على أية حال‟[1].

ويقول علي جمعة:” ويمكن -أيضا- تشغيل أصول الفقه كمنهج في استفادة العلوم الاجتماعية من ذلك المنهج‟[2] بل يذهب إلى أكثر من هذا فيشبّه المنهج الأصولي بالمنهج التجريبي في عالم الفيزياء، فيقول:”علم أصول الفقه هو المنهج الذي يوازي المنهج التجريبي في عالم الفيزياء، فأصول الفقه هو منهج المسلمين في الوصول إلى الحقيقة أو الحق في مجال

الهوامش:

[1]طه جابر العلواني، أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة، ط2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي هيرندن-فيرجينيا- الولايات المتحد الأمريكية، ص 7.

[2]محمد علي جمعة، علم أصول الفقه وعلاقته بالفلسفة الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ص 26.

الصفحة 6

الوحي‟[1].

وقد وجدت أن العلماء يؤكدون على الأثر الإيجابي لعلم أصول الفقه على العقل البشري، بل إن محمد عابد الجابري وصفه بأن قانون التفكير العربي الأول، واعتبر القواعد التي وضعها الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" بمثابة الأساس والهيكل العام لهذا العلم المنهجي كما جاء في قوله:” إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن قواعد المنهج التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة‟[2].

ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن علم أصول الفقه له إسهامات كثيرة في بناء العقل خصوصا من خلال وظيفته المنهجية[3]، فهو يسهم في تكوين...

الهوامش:

[1]علي جمعة محمد، الطريق إلى التراث الإسلامي مقدمات معرفية ومداخل منهجية، ط4، القاهرة 2009، ص83.

[2] تكوين العقل البشري، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، الصفحة (100).

[3]المصطفى خرشي، الوظائف العامة لعلم أصول الفقه، موقع شبكة الألوكة، قسم آفاق الشريعة. بتاريخ 2021-01-30، على الساعة 11:00، الرابط:               

     https://2u.pw/QlzAr5c6  

الصفحة 7

الفكر الاجتهادي، ويفتح مجال الفكر وحرية التأمل، ويعصم الذهن من الخطأ والزيغ، ويساهم في بناء الفكر الاستدلالي، ويُكسب ملكة الاستنباط. إنه يعلمنا في باب الأدلة كيف نستدل، وفي باب الأحكام كيف نستنبط الحكم من النصوص ونصنفه حسب نوعه، ويعلمنا في باب الألفاظ كيف نفهم ونحلل ونكتشف، وفي باب الاجتهاد كيف نقارن بين النصوص ونجمع بينها ونرجح أحدها على الآخر.

بالإضافة إلى أنه يعلمنا كيف ندرك طبيعة العلاقات التي تربط بين الأشياء، وكيف نجمع بين العقل والنقل، وبين الكل والجزء، وبين الأصل والفرع، وبين العام والخاص، والمطلق والمقيد(...) وبالجمع بين هذه المباحث تتحقق ملكة الاجتهاد.

ثم انتهى بي الأمر إلى استنتاجٍ، أعتقد أنه في غاية الأهمية؛ ألا وهو كون صناعة العقل البنّاء يُعدّ من أهم وظائف علم أصول الفقه، لأكتشف بعد ذلك أن هذا الأمر هو نفسه الجوهر الذي تسعى إلى تحقيقه علوم 

الصفحة 8

التربية بكل نظرياتها وبيداغوجياتها وطرائقها. هذا التوافق جعلني أفكر وأبحث وأنقب في بطون الكتب، لأرصد بعض معالم التكامل والتوافق بين هذين العلمين، ولست أزعم أنني سأتناول كل التقاطعات بين علم أصول الفقه وعلوم التربية؛ لأن ذلك محال، ولا يسع هذا الكتيب أن يشمل ذلك كله. لذا سأشير إلى بعض المعالم البيداغوجية في بعض مباحث أصول الفقه وبالأخص مبحث الأدلة الشرعية مبينا في بعض الأحيان الكيفية التي يُمكن من خلالها الاستفادة من أصول الفقه في عملية التعليم والتعلم، وقد قسمت هذا الكتاب إلى ثلاثة مباحث ضمنتها بعض المطالب حسب ما يقتضيه الكلام والسياق والسباق. كما تجدر الإشارة إلى أنني التزمت ببعض الخطوات، منها:

-     لم أتناول مباحث أصول الفقه بالتفصيل، وإنما اكتفيت بإيراد ما يخدمني في الكشف عن معالم التوافق والتكامل مع علوم التربية.

أدرجت تعريفات وأقساما خاصة بعلم أصول الفقه ليس من باب الحشو، وإنما بغرض تقريبها للقرّاء غير المتخصصين في العلوم  التربية بكل نظرياتها وبيداغوجياتها وطرائقها. هذا التوافق جعلني أفكر وأبحث وأنقب في بطون الكتب، لأرصد بعض معالم التكامل والتوافق بين هذين العلمين، ولست أزعم أنني سأتناول كل التقاطعات بين علم أصول الفقه وعلوم التربية؛ لأن ذلك محال، ولا يسع هذا الكتيب أن يشمل ذلك كله. لذا سأشير إلى بعض المعالم البيداغوجية في بعض مباحث أصول الفقه وبالأخص مبحث الأدلة الشرعية مبينا في بعض الأحيان الكيفية التي يُمكن من خلالها الاستفادة من أصول الفقه في عملية التعليم والتعلم، وقد قسمت هذا الكتاب إلى ثلاثة مباحث ضمنتها بعض المطالب حسب ما يقتضيه الكلام والسياق والسباق. كما تجدر الإشارة إلى أنني التزمت ببعض الخطوات، منها:

-     لم أتناول مباحث أصول الفقه بالتفصيل، وإنما اكتفيت بإيراد ما يخدمني في الكشف عن معالم التوافق والتكامل مع علوم التربية.

أدرجت تعريفات وأقساما خاصة بعلم أصول الفقه ليس من باب الحشو، وإنما بغرض تقريبها للقرّاء غير المتخصصين في العلوم 

الصفحة 9

-     الشرعية؛ ليسهل فهم واستيعاب التوافق الحاصل بين علم أصول الفقه وبين علوم التربية.

-     اقتصرت في جانب علم أصول الفقه على ذكر التعريفات الاصطلاحية الواردة في الكتب المعاصرة، نظرا لسهولتها ووضوح مصطلحاتها.

-      حاولت تعريف أغلب المصطلحات التربوية، حتى يتضح المقصود لغير المتخصص في علوم التربية.

-    لم أعرّف بالأعلام إلاّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وذلك لكثرة الأعلام المهتمين بعلوم التربية من جهة، والحرص على تجنب الإسهاب في الكلام من جهة أخرى.  

الصفحة 10









المبحث الأول: لمحة عن الأدلة الشرعية وأقسامها عند الأصوليين:



إن الحديث عن الأدلة الشرعية من حيث أقسامها يُعد حديثا طويل الذيول ومتشعب الأطراف، ويستحيل أن يجزم فيه المرء بالقول الفاصل والمتفق عليه، لذلك سأشير إلى بعض التقسيمات على سبيل 

الصفحة 10

الإيجاز والإيضاح على النحو الآتي:

المطلب الأول: مفهوم الأدلة الشرعية وأقسامها:

أولا: تعريف الأدلة الشرعية:

الأدلة الشرعية هي مصادر التشريع الإسلامي وأصول وقواعد الأحكام الشرعية والفقهية[1].وحجج الله تعالى التي يثبت بها أحكامه على المكلفين[2].

ثانيا: أقسام الأدلة من جهة الاتفاق والاختلاف:

تنقسم الأدلة باعتبار اتفاق العلماء على العمل بها من عدمه إلى ثلاثة أقسام[3]:

الهوامش:

[1] علم المقاصد الشرعية، نور الدين بن مختار الخادمي، ط1، مكتبة العبيكان 1421هـ- 2001م، ص 31.

[2] القطعية من الأدلة الأربعة، محمد دمبي دكوري، ط1، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، 1420هـ، ص260.

[3] أصُولُ الِفقهِ الذي لا يَسَعُ الفَقِيهِ جَهلَهُ، عياض بن نامي بن عوض السلمي، ط1، دار التدمرية، الرياض - المملكة العربية السعودية 1426 هـ - 2005 م، ص 94-95.

الصفحة 11

أ ـ أدلة متفق عليها، وهي الكتاب، والسنة، الإجماع، القياس.

ب ـ أدلة فيها خلاف ضعيف، ينسب هذا التقسيم إلى القائلين بأن الأدلة المتفق عليها هي القرآن والسنة فقط، وقد أدرجوا الإجماع والقياس في دائرة الأدلة المختلف فيها بين فئة قليلة من العلماء.

ج ـ أدلة فيها خلاف قوي، وهي قول الصحابي والاستحسان والمصلحة المرسلة وشرع من قبلنا والاستصحاب وسد الذرائع(...).

وتجذر الإشارة إلى أن حصر الأدلة المتفق عليها في الأربعة المعروفة: (الكتاب- السنة-الإجماع-القياس) هو مذهب الجمهور من الأصوليين والفقهاء وإن كان بعضهم زاد عليها " الاستدلال" كالآمدي في الإحكام وغيره وقد سلك منهجا غريباً قسم فيه الأدلة المتفق عليها إلى خمسة فأدخل فيها الاستدلال.

وقد سلك الغزالي في المستصفى منهجاً آخرا فجعلها أربعة وصير دليل العقل المقرب على النفي الأصلي بدل القياس وجعل القياس من ...

الصفحة 12

... الوسائل التي تستثمر بها الأحكام من الألفاظ واتفق معه في ذلك ابن قدامة في كتاب الروضة.

المطلب الثاني: تقسيم الأدلة من حيث رجوعها إلى النقل أو الرأي (العقل):

الأدلة من حيث رجوعها إلى النقل أو الرأي، تنقسم إلى قسمين، نقلية وعقلية[1]:

النوع الأول: الأدلة النقلية: وهي الكتاب والسنة: ويلحق بهذا النوع: الإجماع، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا على رأي من يأخذ بهذه الأدلة ويعتبرها مصادرا للتشريع. وأُدرج هذا النوع تحت الأدلة النقلية؛ لأنه راجع إلى التعبد بأمر منقول عن الشارع، لا نظر ولا رأي لأحد فيه؛ ويكون طريقها النقل، ولا دخل للمجتهد في تكوينها وصياغتها وإيجادها، وإنما عمله مقتصر على فهم الأحكام منها بعد التأكد من ثبوتها.

الهوامش:

[1] معجم أصول الفقه، خالد رمضان حسن، دار الروضة، 1418ه/ 1998 مصر، ص 134.

الصفحة 13

النوع الثاني: الأدلة العقلية: وهي التي ترجع إلى النظر والرأي، ويتدخل العقل في تكوينها أو صياغتها بواسطة نظر المجتهد، وهذا يشمل القياس ويلحق به الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب. وتم إدراج هذا التنوع تحت الأدلة العقلية؛ أن مرده إلى النظر والرأي، لا إلى أمر منقول عن الشارع. وهذه القسمة التي ذكرناها إنما هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، أما بالنسبة إلى الاستدلال بها على الحكم الشرعي، فكل نوع من النوعين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقول عن الشارع لا بد فيه من النظر واستعمال العقل الذي هو أداة الفهم، كما أن الرأي لا يكون صحيحا معتبرا إلا إذا استند إلى النقل، لأن العقل المجرد لا دخل له في تشريع الأحكام.

المطلب الثالث: تقسيم الأدلة من حيث الأصالة والتبعية:

 تنقسم الأدلة الشرعية باعتبار الأصالة والتبعية إلى قسمين:

القسم الأول: الأدلة الأصلية: هي التي لا تتوقف في دلالتها على الأحكام على دليل آخر، وهي الكتاب والسنة؛ لأنهما اللذان أنزلا للبيان أولاً، وبعضهم يضيف إليها الإجماع والقياس. وبعضهم يرى أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن 

الصفحة 14

الكريم أو فرع منه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه على أساس أنه مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة، إذ إن اتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة؛ لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه. وإلى هذا المعنى أشار الإمام الغزالي حيث قال:” واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده. والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى. وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه. إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول - عليه السلام -؛ لأنا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله. وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى، لكن إذا 

الصفحة 15

لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق‟[1].

وأما القياس فهو أصل من وجه وفرع من وجه آخر، فهو أصل بالنسبة إلى الحكم الأصلي وفرع بالنسبة للأدلة الثلاثة لابتنائه على علة منصوص عليها أو مستنبطة من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فالحكم بالتحقيق مستند إلى إحدى هذه الثلاثة، وبعضهم قصر الدليل الأصلي على القرآن، وأما الثلاثة فمضافة إلى بيان القرآن لقوله: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾[2]. وقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[3].

القسم الثاني: الأدلة التبعية: وهي التي تتوقف في دلالتها واعتبارها على غيرها، أو هي التي لا تستقل بإفادة الحكم، بل تعتمد على غيرها بوجه ...

الهوامش:

[1] المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ) تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، ط1، دار الكتب العلمية 1413هـ - 1993م، ص 80.

[2] سورة النحل، الآية 89.

[3] سورة الأنعام، الآية 38.

الصفحة 16

من الوجوه، وتكون تابعة لدليل النقل الصحيح[1]. من ذلك القياس عند من يراه من الأدلة التبعية، وسائر الأدلة المختلف في الاحتجاج بها كالاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة وقول الصحابي وشرع من قبلنا، إذ هي ترجع إلى أحد الأدلة الثلاثة وتتبعها.

الهوامش:

[1] أصول بلا أصول، محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، ط1، دار ابن الجوزي، القاهرة - جمهورية مصر العربية 1429 هـ - 2008، ص 178.

الصفحة 17


 

 





 



 



المبحث الثاني: معالم تربوية مستفادة من الأدلة الشرعية المتفق عليها:


المطلب الأول: المعالم التربوية في القرآن الكريم:

أولا: مفهوم القرآن الكريم وخصائصه:

معلوم بالضرورة أن القرآن الكريم يعد أصل أصول الشريعة الإسلامية، وينبوع رسالتها وهديها، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنا لكُلِّ شيء وَهُدى وَرَحْمَة وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِين﴾[1].

الهوامش:

[1] سورة النحل، الآية 89.

الصفحة 17

ولقد ذكر له العلماء تعريفات متعددة ومتنوعة تصب كلها في معنى واحد؛ ألا وهو كلام الله المجموع بين دفتي المصحف الشريف. ومن بين أهم التعاريف الجامعة له التعريف الآتي[1]:

هو كلام الله المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ﷺ المعجز بلفظه ومعناه، المكتوب في المصاحف المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس.

وقد تضمن القرآن الكريم جوانب رئيسة متعددة من قبيل العقيدة والعبادة وجانب المعاملات والأخلاق، كما اشتمل على خصائص ميزته عن باقي الكتب السماوية، فهو كتاب عالمي متكامل وشامل لكل جوانب الحياة، نزل منجما متنوع الأساليب، فنجده تارة يتخذ أسلوب الحوار سبيلا لمخاطبة العباد، وتارة يستعمل أسلوب الترغيب والترهيب، وأحيانا يوظف أسلوب القصة أو المثال.

الهوامش:

[1] منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، حمود بن أحمد بن فرج الرحيلي، ط1، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، 1424هـ/2004م.ج1، ص 35.

الصفحة 18

... وعلى قدر تنوع أساليبه، تنوعت مناهجه في إثبات الحقائق بين المنهج الاستدلالي والاستقرائي والاستنباطي. وتنوع أيضا من حيث النوع؛ ففيه المكي والمدني، ومخاطبته لأهل مكة ليس كمخاطبته لأهل المدينة، ومخاطبته لأهل المدينة ليست كمخاطبته لأهل مكة، يتغير خطابه بتغير حال مخاطبه، يراعي التدرج في التشريع بالمنهج المنصوص في قوله تعالى:﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[1].

فالقرآن الكريم هو المصدر الذي يتعين على الباحثين اللجوء إليه لاستخلاص كل القواعد والمبادئ المعتمدة في التفكير الإسلامي، ولا سيما ما يتعلق بالجانب التربوي؛ لأنه يتوافق في كثير من المعالم التربوية مع آخر ما توصل إليه علماء التربية، بل فيه من الكنوز التربوية ما لم يُتوصل إليه بعد في علوم التربية.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من القرآن الكريم:

- العقل في القرآن الكريم وعلوم التربية:

الهوامش:

[1] سورة البقرة. الآية 285.

الصفحة 19

إن الناظر في التعريف السابق وخصائص القرآن الكريم – التي ذُكر منها قليل من كثير- ينكشف له جليا أوجه التوافق بين ما تم ذكره في القرآن الكريم -باعتباره أول أدلة التشريع في علم أصول الفقه- وبين علوم التربية ويتجلى ذلك في الآتي:

- إن الباحث في علوم التربية في أي مجتمع من المجتمعات، لا بد وأن يجد بأن الغاية الأسمى من هذه العلوم هي بناء العقل البشري القادر على فهم ذاته ومحيطه، وتوظيفه بما يعود على البشرية بالخير والصلاح، لذلك نجد أن معظم النظريات التربوية -باستثناء النظرية السلوكية- اهتمت بالجانب العقلي من شخصية المتعلم اهتماما لا يقل أهمية عن باقي جوانب الأخرى – الجانب الوجداني والجانب السلوكي- ، بحيث تهدف إلى تكوين العقل المفكر القادر على تجاوز التحديات وحل المشكلات، وتمقت المناهج التي تجعل من العقل لا يتعدى كونه وعاء لجمع المعارف، هذا الأمر الذي سبق وأن أقرّه القرآن الكريم أصالة، ومنهج أصول الفقه تبعا، فما أكثر ما نجد في القرآن الكريم ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[1] ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾[2]،﴿إِنْ ...

الهوامش:

[1] سورة البقرة. الآية 42.

[2] سورة يس. الآية 61.

الصفحة 20

كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[1]،﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[2] ،﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾[3] ، ونحو ذلك من الآيات التي تتحدث عن العقل من حيث أهميتُه ومكانته ووظيفته، وتدعو إلى إطلاق العقول من أسرها ودفعها للتأمل والتفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض، واستعماله في مختلف شؤون الحياة، قال تعالى:﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[4] . هذه الآيات إن دلت على شيء فإنما تدل على مكانة العقل وضرورة الاهتمام به، لاسيما في المجال التربوي وذلك من خلال صياغة منهاج تربوية تنهل من نظريات التعلم الغربية دونما إهمال للنظريات التربوية الإسلامية القابعة في التراث داخل بطون الكتب.

- القرآن الكريم والبيداغوجية الفارقية:

أكدت الدراسات التربوية والنفسية أن الفروقات الفردية بين المتعلمين حقيقة قائمة لا مجال للنقاش فيها، وأن ما نعنيه بالفروق الفردية هو أن...

الهوامش:

[1] سورة آل عمران. الآية 117.

[2] سورة البقرة. الآية 72.

[3] سورة العنكبوت. الآية 42.

[4] سورة يونس. الآية 100.

الصفحة 21

كل فرد واحد في ذاته، وهو في استعداداته وميولاته وحاجاته وقدراته واتجاهاته يختلف عن غيره،”فليس كل التلاميذ متساوين في ذكائهم وقدراتهم وميولاتهم وحاجاتهم ودوافعهم. وإن المنهج الذي يوضع على أساس أن التلاميذ جميعهم يتعلمون بطريقة واحدة، وهم في الذكاء والفهم على درجة متساوية، إنما هو منهج يسير في الاتجاه التقليدي الخاطئ الذي لا يحترم ولا يقدر ما بين التلاميذ من فروق فردية‟[1].

إن المناهج التربوية المعاصرة جعلت من البيداغوجية الفارقية وسيلة مهمة للتعلم، وهو أمر تفرضه الطبيعة الإنسانية المتسمة بالتنوع والاختلاف، وليس في الوجود من هو أعلم بهذه الطبيعة الإنسانية المعقدة من الله عز وجل، لذلك ينبغي الوقوف عند هذه الفروقات في القرآن الكريم والإفادة وخاصة أن القرآن الكريم عُني بذكر مجملها منها ما قد أشير إليه في علوم التربية ودُعي إلى استحضارها في العملية التعليمية التعلمية، ومنها ما لا يزال غائبا أو قيد الدراسة، لاسيما على مستوى التطبيقي، فعلى سبيل المثال: الفروقات الفردية على مستوى الجانب ...

الهوامش:

[1] مفاهيم ومبادئ تربوية، علي راشد، ط1، دار الفكر العربي 30-12-1998، ص 155 بتصرف.

الصفحة 22

الانفعالي والقيمي للمتعلمين غالبا لا تُعطى له الأهمية التي يستحقها داخل الفصل رغم ما له من دور وأهمية في عملية التعلم. إن القرآن الكريم حينما تحدث عن الفروق الفردية فإنه لم يستثني أي جانب من جوانبها، فقد ذكر الفروق الاجتماعية في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[1]، والفروق الأخلاقية في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ اَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِ مَنِ اِن تَامَنْهُ بِقِنطار يُوَ۬دِّهِۦ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنِ اِن تَامَنْهُ بِدِينار لَّا يُوَ۬دِّهِۦ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِما


[2]، والفروق على مستوى الأهداف والغايات في قوله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾[3] والفروق على صعيد العمل في قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾[4] وكذلك ...

الهوامش:

[1] سورة الزخرف، الآية 31.

[2] سورة آل عمران، الآية 74.

[3] سورة الليل، الآية 4.

[4] سورة الإسراء، الآية 83.

الصفحة 23

الفروق العقلية في قوله تعالى: ﴿ يُوتي اِ۬لْحِكْمَةَ مَنْ يَّشَآءُ وَمَنْ يُّوتَ اَ۬لْحِكْمَةَ فَقَدُ اوتِيَ خَيْرا كَثِيرا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ اُ۬لَالْبَٰبِ ﴾

[1]

 .      

- التدرج في القرآن الكريم وعلوم التربية:

إن التدرج سنة ربانية؛ فالله-عز وجل- أنزل القرآن الكريم منجما ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا[2] وخلَق الإنسان على مراحل متدرجة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[3] ولم يخلقه بطريقة مفاجئة، ولا بأسلوب الطفرة ولا المصادفة، ولكن بعلم وحكمة وقدرة، وإحكام وتمهل، وتلك من معاني التدرج كما بينت الآيات.

الهوامش:

[1] سورة البقرة، الآية 268.

[2] سورة الإسراء، الآية 105.

[3] سورة المومنون، من الآية 12 إلى 14.

الصفحة 24

والتربية والتعليم دائمًا يحتاجان إلى وقت، وخلال هذا الوقت يمران بمراحل متصاعدة، كل مرحلة تؤدِّي وتؤهِّل وتمهد لما بعدها، وكل مرحلة تُبنَى على ما قبلها، وهكذا يستمر التصاعد والتدرج حتى الوصول إلى التمام والكمال، قال الماوردي:” واعلم أن للعلوم، أوائلَ تؤدِّي إلى أواخرها، ومداخلَ تفضي إلى حقائقها، فليبتدئْ طالبُ العلم بأوائلها؛ لينتهي إلى أواخرِها، وبمداخلها؛ ليفضيَ إلى حقائقها، ولا يطلبِ الآخِرَ قبل الأول، ولا الحقيقةَ قبل المدخل. فلا يدرك الآخِرَ، ولا يعرف الحقيقةَ؛ لأنَّ البناءَ على غير أسٍّ لا يُبنَى، والثمر من غير غرسٍ لا يُجنَى‟[1].

وإن العملية التربوية تمر بمراحل [2]:

 - المرحلة الأولى: مرحلة التحريك، وهي إيجاد حالة من الشك وعدم الثبات في هُوِيَّة الشخص ومعتقداته؛ وتُعرف هذه المرحلة بمرحلة زحزحة...

الهوامش:

[1] أدب الدين والدنيا، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، ط1، دار المنهاج 1434ه-2013، ص 90.

[2] سيكولوجية الذاكرة قضايا وتعريفات حديثة، محمد قاسم عبد الله، مطابع السياسة -الكويت- ذو القعدة 1423-فبراير 2003، ص 203.

الصفحة 25

التمثلات من خلال التدريس باستراتيجية الوضعية المشكلة، أو التدريس بالاكتشاف[1].

- المرحلة الثانية: مرحلة التغيير، وفيها يجري تبنِّي الأفكار الجديدة؛ وذلك لإنهاء مرحلة الشك السابقة، تُعرف هذه المرحلة بمرحلة البناء التي تتم وفق مبادئ مختلف نظريات التعلم كالبنائية والسوسيوبنائية ...إلخ.

الهوامش:

[1] التعلم بالاكتشاف: تُتيح طريقة التعلم بالاكتشاف للمتعلمين الاشتراك الفعال في عملية التعلم، وينظر إليها عـلى أنـها العملية التي يصل بها المتعلم إلى الحل، أو الناتج أو الوصول لمعلومة بعينهـا، وقـد يحـصل الاكتشاف عند مواجهة الطالب للمشكلة، فيبحث عـن طـرق الحـل أو إعـادة الحـل، مـما يزيد قدرته على التفكير، والاكتشاف، وتساعد المتعلمين على تخزين المعلومات بطريقة تجعلهم يستطيعون استرجاعها بسهولة وقتما شاءوا. وليد أحمد جابر، طرق التدريس العامة تخطيطها وتطبيقاتها التربوية، (م.س)، ص 124. أما الوضعية المشكلة فهي العملية التي تضع المتعلم أمام تحديات معرفية حياتية، يتطلب حلها إدماج مجموعة من المعارف والمهارات والقدرات ليصل إلى مرحلة التكيف مع محيطه، بعد تجاوز مختلف العوائق التي كانت وراء خلخلة بنيته المعرفية.

الصفحة 26

- المرحلة الثالثة: مرحلة التثبيت، وفيها يتم تعزيز الأفكار والمعتقدات التي شُكلت وغالبا ما تتوافق هذه المرحلة مع مرحلة التقويم[1].

إن هذا التدرج عبر هذه المراحل المختلفة يتوافق مع المنهج الذي سلكه القرآن الكريم في تغييره للمعتقدات الخاطئة، حيث يتم استدراج الآخر من خلال موافقته مبدئيا لمعتقداته، ثم تشكيكه في معتقداته وخلخلتها حتى يتم رفضها وتصحيحها من طرفه كما فعل سيدنا ابراهيم عليه السلام مع قومه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ[2] وقوله تعالى: ﴿قَالُوا ءآنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ...

الهوامش:

[1] العملية التي يتم بواسطتها اصدار حكم على مدى وصول العملية التربوية إلى أهدافها، ومدى تحقيق أغراضها، وكذلك يتم بواسطتها الكشف عن مواطن الضعف في العملية التربوية أثناء سيرها واقتراح الوسائل لتلافي هذا الضعف. أساسيات طرق التدريس، علم الدين عبد الرحمن الخطيب، ط2، ص182.

[2] سورة الأنعام، من الآية 74 إلى 77.

الصفحة 27

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾[1] .

المطلب الثاني: المعالم التربوية في السنة النبوية:

أولا: مفهوم السنة النبوية ومكانتها:

يختلف العلماء في تعريف السنة بحسب بحثهم فيها، فالمتحدثون يعرفونها بقولهم: هي كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوال أو أفعال أو صفات خلقية، بضم المعجمة واللام، أو خلقية، بفتح المعجمة وسكون اللام، أو غير ذلك. والأصوليون يعنون بها: كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير يتعلق به حكم شرعي سوى القرآن. والفقهاء يعنون بها: أحد الأحكام الخمسة وهو المندوب. وقد تطلق في مقابل البدعة. وقد تطلق على ما استقر عليه...

الهوامش:

[1] سورة الأنبياء، من الآية 61 إلى 64.

الصفحة 28

عمل الصحابة من الآيات والأحاديث، وهو معناها في القرون الأولى[1]. وعليه فالسنة إما أن تكون قولية أو فعلية أو تقريرية.

-    السنة القولية:

هي ما ثبت عن الرسول ﷺ أو بيّنه بالقول مثل قوله: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، وكونوا إخوانا»[2] .

-    السنة الفعلية:

قد يكون البيان النبوي بالعمل كما هو الحال في الوضوء والصلاة والحج، فقد توضَّأ الصحابة مثل وضوئه، وصلُّوا مثل صلاته وفعلوا مثله في مناسك الحج وسائر الأمور العظيمة.

-    السنة التقريرية:

الهوامش:

[1] رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ، أبو عبد الله الحسين بن علي بن طلحة الرجراجي ثم الشوشاوي السِّمْلالي (المتوفى: 899هـ)، تحقيق أَحْمَد بن محمَّد السراح وعبد الرحمن بن عبد الله الجبرين، ط1، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة العربية السعودية 1425 هـ - 2004 م، ج: 5، ص188.

[2] أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، رقم:5143 ج:7، ص19. وورد في صحيح مسلم بلفظ: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا». كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس ونحوها، رقم 2563، ج:8، ص10.

الصفحة 29

وتكون السُنَّة النبوية بتقرير حال، أو السكوت عن أمر بما يدل على إقراره، ومثال ذلك أنَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر صحابته بالتوجه إلى بني قريظة لقتالهم بسبب خيانتهم في غزوة الأحزاب، وكان أمره هذا بقوله الوارد في صحيح البخاري ومسلم: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»[1]، ففهم البعض بأن النبي ﷺ يريد الإسراع وليس إرجاء الصلاة عن ميقاتها، وفهم آخرون الأمر على ظاهره فالتزموا به؛ أي لا صلاة إلاَّ في بني قريظة ولو فات وقت العصر، ولما بلغ النبي – صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتهاد الطائفتين، لم ينكر على أي منهما فدلَّ سكوته على إقرار الاجتهاد في تنفيذ الأمر.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من السنة النبوية:

-    السنة النبوية وبيداغوجية العصف الذهني.

العصف الذهني: ”هو أسلوب يُتَّبع لتنشيط الأذهان وتوليد الأفكار الجديدة وتسهيل مهمة التعبير عنها، وهو نمط لجمع المعلومات في اجتماع ...

الهوامش:

[1] أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، رقم: 4119 ج:5، ص112. صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو، رقم 1770، ج: 5، ص 162.

الصفحة 30

محدد، ويطبق هذا الأسلوب في حال غياب المعلومات أو نضوبها وبروز حاجة ملحَّة لإيجادها، وهي عملية تفكير بصوتٍ عالٍ وبغير قيود، وذلك بخلاف النقاش المنظَّم المحدد‟[1]، فالعصف الذهني عملية يتوصل من خلالها إلى أفكار تعود بالنفع على المتعلمين، كما يزيد من فعالية وتنشيط التفكير والتخيل، بالإضافة إلى أنه يُنمي العلاقات الاجتماعية ويجعل من التعلم متعة. لذلك عُدّ العصف الذهني من أساليب التعليم النشط التي ينبغي على المدرسين توظيفه في العملية التربوية، وباعتبار أن محمدا ﷺ هو معلم المعلمين وناصح البشرية جمعاء فإن السبق قد كان له في توظيف هذا النهج في التعليم والتعلم، حيث حرص ﷺ على إثارة التفكير عند الصحابة بطرح أسئلة على شكل لغز، أو مشكلة ثم يتيح لهم المجال ليفكروا ويبحثوا عن الحل، ثم يجمع أجوبتهم فيعدلها، ثم يمدهم بالجواب الصحيح، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله ﷺ:«عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ...

الهوامش:

[1] التدريب وأهميته في العمل الإسلامي، محمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف، ط 4، دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع، جدة - المملكة العربية السعودية 1424 هـ - 2003 م، ص 147.

الصفحة 31

حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ. ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَأَفَاضَ القَوْمُ، وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ، أَوْ أَوْلاَدُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ، فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»[1]. وكذلك في حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ. قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي قَالَ...

الهوامش:

[1] أخرجه محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي في الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط1، دار طوق النجاة 1422هـ، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، رقم 5705، ج: 7، ص126.

الصفحة 32

...عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ»[1].

-    السنة النبوية والنظرية الاجتماعية.

النظرية الاجتماعية هي نظرية تبناها عالم النفس الكندي "ألبرت باندورا وولتر" لفهم السلوك البشري، وتقوم على مبدأ التعلم من خلال الملاحظة والمحاكاة، ويُطلَق عليها أحيانا "نظرية التعلم بالنمذجة أو التقليد"، وتعني استخدام مثال أو نموذج اجتماعي كأداة فعالة للتعلم.

 ” تنطلق هذه النظرية من افتراض رئيسي مفاده أن الإنسان كائن اجتماعي يعيش ضمن مجموعات من الأفراد يتفاعل معها ويؤثر فيها ويتأثر بها، وبذلك فهو يلاحظ سلوكيات وعادات واتجاهات الأفراد الآخرين ويعمل على تعلمها من خلال الملاحظة والتقليد‟[2].

الهوامش:

[1] أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، ج:1، ص 22. وأخرجه مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري في المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن مثل النخلة، ج:4 ص 2164.

[2] نظريات التعلم، عماد عبد الرحيم الزغلول، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع 2010، ص، 140.

الصفحة 33

وعليه، فإن التعلم في النظرية الاجتماعية يعتمد على التعليم بالقدوة، وهو من الأساليب التي اعتمدها الرسول في تعليم أصحابه، فنجده ﷺ صلى بهم وقال: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ َوصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي...»[1] وحجّ بهم وأتى بالشعائر والمناسك، ثم قال: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»[2].

الهوامش:

[1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر، رقم 631، ج: 1، ص 128. وجاء في مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي (المتوفى: 255هـ)، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، ط1، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية 1412 هـ - 2000 م، كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، رقم 1288، ج:2، ص 796، بلفظ «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَكُونُوا فِيهِمْ، فَمُرُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي...».

[2] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا. رقم 310، ج:2، ص 943. وجاء بنفس اللفظ في سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، رقم 1970، ج:2 ص 201. وكذلك في مسند الإمام أحمد بن حنبل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط1، 1421 هـ - 2001 م، مؤسسة الرسالة، مسند جابر بن الله رضي الله عنه، رقم 14419، ج:22، ص 312. أما في سنن النسائي لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ)، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط2، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب 1406– 1986، كتاب مناسك الحج، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم، رقم 3062، ج:5، ص 270، فقد ورد بهذا اللفظ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا».

الصفحة 34

هذا وقد قال ربنا عز وجل: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اِللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اُللَّهَ وَالْيَوْمَ اَلَاخِرَ وَذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيرا﴾[1]، ومن تم فإن التعليم بالقدوة يجعل المتعلم أوعى لما يلقى إليه، وأقدر وأسرع لتوظيف ما وجه له. ونعتبر تبني المغرب التعليم الصريح[2] جاء في إطار التعلم بالنمذجة والقدوة.

الهوامش:

[1] سورة الأحزاب، الآية 21.

[2] التعليم الصريح أو البيداغوجية الصريحة من أحدث البيداغوجيات، أسسها الباحث والبيداغوجي سيفريد انجلمان سنة 1960. وطورها بأبحاثه باراك روزنشاين انطلاقا من ملاحظة أداء المدرسين ومستوى المتعلمين الذين يحصلون على نتائج جيدة. دامت الدراسة عشر سنوات حيث تمت فيها مقارنة تسع مقاربات بيداغوجية، وكانت الدراسة الأكبر والأطول من نوعها، وكان التعليم المباشر أفضل مقاربة من حيث النتائج، سواء من حيث اكتساب الكفايات، أو من حيث تحقيق الأهداف. واستنادا إلى نتائجها وضع روز نشاين الخطوط الكبرى للبيداغوجية الصريحة سنة 1983. والبيداغوجية الصريحة هي أحد طرق التعليم والتعلم النشط أو الفعال بحيث يكون التعليم فيها صريح ومباشر ومنظم يقوده ويوجهه المدرس، ظهرت وانتشرت في أمريكا الشمالية. تقوم على عدة مبادئ منها: هيكلة الدروس: تنتظم المقاطع التعليمية وفق التدريس الفعال حول خمس مقاطع رئيسية: 1-افتتاح الدرس؛2- النمذجة؛ 3-الممارسة الموجهة؛4-الممارسة المستقلة؛ 5 اختتام الدرس. البيداغوجية الصريحة أو التعليم الصريح، سميرة بونكة، ص 2 وما بعدها. التدريس الفعال، ورشة تكوينية لفائدة المفتشين المواكبين لمشروع مدارس الريادة بتاريخ 27 و28 أكتوبر 2023. بتصرف.

الصفحة 35

-    توافق السنة النبوية مع بيداغوجية الخطأ:

بيداغوجيا الخطأ هي:” تصور ومنهج لعملية التعليم والتعلم، يقوم على اعتبار الخطأ استراتيجية للتعليم والتعلم، فهو استراتيجية للتعليم؛ لأن الوضعيات الديداكتيكية تعدّ وتنظّم في ضوء المسار الذي يقطعه المتعلم لاكتساب المعرفة أو بنائها من خلال بحثه وما يمكن أن يتخلل هذا البحث من أخطاء. واستراتيجية للتعلم، لأنه يعتبر الخطأ أمرا طبيعيا وإيجابيا يترجم سعي المتعلم للوصول إلى المعرفة. فأساس هذه البيداغوجيا هو أن الخطأ لا يقصى وإنما يعتبر فعلا يترجم نقطة انطلاق المعرفة ‟.[1]

 ولقد دلت بعض أحاديث النبي ﷺ على أن الإنسان جُبل على الخطأ واعتبره عليه الصلاة والسلام من طبيعة بني آدم حيث قال:« كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ »[2] ، وإذا كان علماء التربية يرون بأن الخطأ إنما هو مرحلة طبيعية ضمن سيرورة البناء المعرفي، و ذلك...

الهوامش:

[1] المنهل التربوي، عبد الكريم غريب، ط1، مطبعة النجاح الجديدة -الدار البيضاء- 2006، ج:2 ص 723 بتصرف قليل.

[2] سنن ابن ماجه، ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273هـ)، محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم 4251، ج:5، ص 640. سنن الدارمي، كتاب الرقاق، باب في التوبة، رقم 2769، ج:3، ص1793.

الصفحة 36

باعتباره حالة ذهنية أو فعلا ذهنيا يعتبر صائبا ما هو خاطئ أو العكس، فإن من المؤشرات الدالة على نجاح المعلم(ة) /المربي(ة) هو حسن الاستثمار الإيجابي للأخطاء الصادرة عن المتعلم(ة)؛ لأن المتعلم ما أخطأ- غالبا- إلا لأنه تكلم وتفاعل، وما تفاعل إلا لأنه مهتم ومتابع للدرس، إن الخطأ بهذا المعنى وفي هذا السياق يُعد حلقة ضرورية ضمن سلسلة التعلم.

ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا الشأن؛ وما ذلك إلا انطلاقا من حرصه الشديد على تعليم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومن خلالهم الأمة جمعاء كلَّ ما ينفعهم في العاجلة والآخرة، ولا أدل على ذلك من حديث معاوية بن الحكم السلمي وحديث أنس رضي الله عنهما، فعن الأول قال: بَيْنَما أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ. فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّياهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا قهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي. قَالَ: «إِنَّ ....

الصفحة 37

هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»[1].

وعن الثاني قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ ". فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ»[2].

الهوامش:

[1] أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، رقم 537، ج:2، ص70. مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل، مسند الأنصار، حديث معاوية بن الحكم السلمي، رقم 23762، ج: 39، ص175.

[2] أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول إذا حصلت في المسجد، رقم 285، ج:1، ص 163. مسند أحمد، أحمد بن حنبل، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، رقم 12984، ج:20، ص297. وأخرجه البخاري بلفظ «لا تزرموه» كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم 6025، ج:8، ص12. وبنفس اللفظ أخرجه النسائي في سننه، كتاب المياه، باب التوقيت في الماء، رقم 329، ج:1، ص 175. وابن ماجه في سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الأرض يصيبها البول، كيف تغسل؟، رقم 528، ج:1، ص425.

الصفحة 38

فمن أمعن النظر في هذين الحديثين- وغيرهما كثير جدا- يتبين له بجلاء كيف كان منهج الرسول عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الخطأ، وكيف كان يستثمره في تعليم الناس الصوابَ من دينهم؛ ففي حديث أنس رضي الله عنه أن الأعرابي جاء لينجس أطهر الأماكن في الأرض، ألا وهي بيوت الله، وفي حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنه تكلم في الصلاة وهي الركن العملي الأول بعد الشهادتين، ومع ذلك كله قوَّم النبي عليه الصلاة والسلام الخطأ وعلم الصحابيين الصواب بكل رحمة وإنسانية.

المطلب الثالث: المعالم التربوية في مبحث الإجماع:

أولا: مفهوم الإجماع وشروطه:

الإجماع” هو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة[1] ولا يجوز مخالفته بعد انعقاده. وفي هذا يقول السرخسي:” إن مخالفة الإجماع بعد انعقاده كمخالفة النص[2] . ووقوع الاجماع يقتضي توفر عدة شروط أهمها[3]:

الهوامش:

[1]قواطع الأدلة في الأصول، منصور بن محمد السمعاني، ج: 1، اص461.

[2] أصول السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ)، أصول السرخسي، دار المعرفة – بيروت، ج:2، ص 108.

[3]كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، عبد العزيز بن أحمد بن محمد، علاء الدين البخاري الحنفي (المتوفى: 730هـ)، دار الكتاب الإسلام، ج:2، ص 963.

الصفحة 39

-لابد أن يكون الإجماع مبنياً على مستند صحيح من كتاب أو سنة.

- أن يتفق جميع المجتهدين على الحكم في زمن معين صراحة أو وجود إمارة على الرضا.

- أن يقع الاتفاق من أهل الاجتهاد الموصوفين بالعدالة ومجانبة البدع.

-ثبوت صفة الاجتهاد في المجتهدين.

- عدم مخالفته بعد انعقاده.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث الإجماع:

يتحقق الإجماع بعد اجتماع علماء العصر واتفاقهم على حكم شرعي ما، هذا الحكم يتمخض بعد نقاش مستفيض وتواصل بين كافة العلماء، وليس لأحد مخالفتهم إذا تم الاتفاق بينهم. فالإجماع منهج من المناهج الرصينة التي تروم البحث عن الجديد دائما، وتسعى إلى مواكبة المتغيرات، وتغرس في الأمة مجموعة من القيم على رأسها العزم والجزم في الأمور، والتواصل والانصات واحترام الآراء المختلفة. ومما لا شك فيه أن المنظرين التربويين وإن شرقت وغربت آراءهم وأفكارهم، فهي لا تخرج عما يمكن أن يستفاد من مبحث الإجماع، فهي لا تخرج عن رغبتهم الشديدة في ...

الصفحة 40

اجتثاث جذور التردد والحيرة في الأمور من نفوس المتعلمين بالحجة والدليل والإقناع، وتربية الناشئة على التثبت في اكتساب المعرفة، وعدم أخذها إلا عمن بلغ من العلم والفهم المبلغ الذي يجعله موضع ثقة، وهذا من أعظم المعالم التربوية التي تُستفاد من مبحث الإجماع خاصة من شرط تحريم مخالفته بعد انعقاده، وكذلك من كونه لا يتحقق بإجماع عامة الناس وإنما تحققه مشروط بإجماع العلماء الذين يُشهد لهم بالعلم وأهلية الاجتهاد.

بالإضافة إلى أن المشتغلين في حقل التربية دائما ما يحرصون على تنويع طرائق واستراتيجيات التدريس، ولعل أهم طريقة نستفيد بها من دليل الإجماع، طريقة المناقشة -المناقشات الجماعية- حيث يتحاور المتعلمون ويتناقشون وجها لوجه، يتحدث أحدهم فيستجيب له الآخر، ويكون المدرس معلقا على أجواء عملية التفاعل، وموجها لمختلف التدخلات، هذه الطريقة من شأنها تقوية ملكة النقد، فمن خلالها يتعلم المتعلم كيف يساند رأيا من الآراء مبررا مساندته بالحجج والأدلة والبراهين، كما أنها طريقة تعزز مشاركة المتعلمين في النقاش وتنمية القدرة على الاستماع للآخرين وتقييم حججهم، إضافة إلى تنمية القدرة على اتخاذ القرار وعدم 

الصفحة 41

الرجوع عنه، والقدرة على التركيز على المشكلة قيد البحث، ناهيك عن تعلم مبادئ عدة مثل الاحترام والتواصل والانصات ...إلخ.

المطلب الرابع: المعالم التربوية في مبحث القياس:

أولا: مفهوم القياس وأركانه:

-    مفهوم القياس:

القياس هو: هو اشتباه الفرع والأصل في علة حكم الأصل في نظر المجتهد على وجه يستلزم تحصيل الحكم في الفرع[1] ومثاله قوله تعالى: ﴿ياأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِنْ يَّوْمِ اِ۬لْجُمُعَةِ فَاسْعَوِاْ اِلَيٰ ذِكْرِ اِ۬للَّهِ وَذَرُواْ اُ۬لْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْر لَّكُمُۥ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[2].فقد أمر الله بتحريم البيع عندما يؤذن لصلاة ظهر يوم الجمعة، حتى يسعى المكلفون إلى المساجد لحضور الصلاة، والعلة من التحريم هي الانشغال عن الصلاة. لكنّ البيع عقد من بين أنواع كثيرة من العقود، كعقد الزواج وعقد الكراء وغيرها كثير، فهل يشملها هذا التحريم؟

الهوامش

[1] أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ)، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان، ج:3، ص 186.

[2] الجمعة، الآية 9

الصفحة 42

الجواب نعم؛ لأن القياس هو إلحاق المسكوت للمذكور لاشتراكهما في العلة، وعلة تحريم البيع وقت صلاة الظهر من يوم الجمعة هو الانشغال عن الصلاة، فأينما وجدت هذه العلة وجد الحكم، وإبرام كل أنواع العقود وقت الأذان (ظهر يوم الجمعة) فيه انشغال عن الصلاة وبالتالي تأخذ حكم التحريم؛ لأن” الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما‟[1].

وللقياس عدة أنواع وتقسيمات أقتصر في هذا المقام على ذكر نوع واحد، وهو القياس الجلي والقياس الخفي:

فالقياس الجلي هو:” القياس الذي تظهر علته للسامع بأول وهلة، أي؛ تكون بديهة بالنسبة للعقل، كقوله ﷺ: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان»[2]؛ لأن هذا المنصوص يفهم منه السامع أول سماعه: أن علة منع القضاء هو التشويش على الفكر، فيقاس على ذلك كل ما يشوش الفكر: كالجوع، والعطش، والهم، وغير ذلك مما يدخل في هذا الباب. أما القياس الخفي فهو: ما لا تفهم علته إِلاّ بعد تدبر وتفكر. ومثاله: قياس ...

الهوامش:

[1] محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخس، أصول السرخسي، ج:5، ص 180.

[2] أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ) مسند أحمد، أول مسند البصريين، حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة، ج: 34 رقم الحديث 20389، ص 30.

الصفحة 43

الأرز على البر بجامع الاقتيات والادخار، وكذلك قياس النبيذ على الخمر بجامع السكر؛ لأن العلة لا تفهم فيهما بأول وهلة، ولا تفهم إِلا بعد بحث ونظر[1].

-    أركان القياس:

أركان القياس أربعة وهي[2]: الأصل والفرع وحكم الأصل وعلة الحكم، ولتوضيحها ننطلق من نفس الآية المذكورة سابقا، وهي قوله تعالى: ﴿يا أيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِنْ يَّوْمِ اِ۬لْجُمُعَةِ فَاسْعَوِاْ اِلَيٰ ذِكْرِ اِ۬للَّهِ وَذَرُواْ اُ۬لْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْر لَّكُمُۥ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[3].

- فعقد البيع المنصوص على تحريمه في الآية هو الأصل.

- وعقد الزواج أو الكراء وغيرهما من العقود غير المنصوص على تحريمها في وقت آذان ظهر يوم الجمعة هي الفروع أو الفرع.

الهوامش

[1] أبو عبد الله الحسين بن علي بن طلحة الرجراجي ثم الشوشاوي السِّمْلالي، رَفْعُ النِّقَابِ عَن تنقِيح الشّهابِ، ج:3، ص 246-248.

[2]عبد الكريم بن علي بن محمد النمل، الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقاتها على المذهب الراجح، ط1، مكتبة الرشد - الرياض - المملكة العربية السعودية 1420 هـ - 2000 م، ج:1، ص331. بتصرف قليل.

[3] الجمعة، الآية 9.

الصفحة 44

- والحكم بتحريم هذه العقود في وقت آذان ظهر يوم الجمعة، هو نفس الحكم الذي ثبت للبيع بالنص. ويسمى الحكم الثابت بالنص: حكم الأصل.

- والمعنى المشترك بين البيع في وقت النداء وغيره من العقود، هو الانشغال عن الصلاة، وهو السبب في تحريم هذه العقود، ويسمى علة الحكم.

- وإثبات حكم التحريم في عقد الزواج والكراء وغيرهما هو: ثمرة القياس ونتيجته.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث القياس:

-القياس وبيداغوجية حل المشكلات :

بيداغوجيا حل المشكلات” هي مجموع الطرائق والتقنيات والاجراءات التي تعد بواسطتها الوضعيات الديداكتيكية، وتنظم وتنشط بكيفية تجعل التلاميذ يواجهون مشكلا ويقومون بعمليات ممنهجة لحله‟[1]. وتمر بيداغوجيا حل المشكلات عبر خطوات عامة هي[2]:

الهوامش:

[1] عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، ص 724.

[2]  عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، ص 832 بتصرف.

الصفحة 45

-      يواجه المتعلم وضعية تدفعه إلى الاحساس بالحاجة إلى البحث عن حلول، فيبدأ المتعلم بتقديم أجوبة مؤقتة لحل المشكل التي تكون غالبا عبارة عن فرضيات بسيطة أو مقترحات أو قرارات أولية. (هذه المرحلة في علم أصول الفقه شبيهة بالمرحلة التي تعرض فيها النازلة على المجتهد ليبحث لها عن حكم شرعي).

-     يقوم المتعلم بفحص الأجوبة المؤقتة ويمحص الفرضيات من خلال أنشطة (استطلاعات، تجارب، الاتصال بالوثائق). تقابل هذه المرحلة مرحلة تنقيح المناط[1] في علم أصول الفقه.

-     يقيم المتعلم النتائج ويحدد الحلول أو القرارات المتفق عليها. وتقابل هذه المرحلة آخر مرحلة من مراحل الاجتهاد تعرف في علم أصول الفقه بمرحلة تحقيق المناط[2].

الهوامش:

[1] تنقيح المناط هو تعيين علة من أوصاف مذكورة، وتخريج المناط هو استخراجها من أوصاف غير مذكورة. أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)، شرح تنقيح الفصول، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، ط1، شركة الطباعة الفنية المتحدة 1393 هـ - 1973 م، ص 389.

[2] تحقيق المناط هو إثبات علة حكم الأصل في الفرع، أو إثبات معنى معلوم في محل خفي فيه ثبوت ذلك المعنى. سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: 716هـ)، شرح مختصر الروضة، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، مؤسسة الرسالة، 1407 هـ / 1987 م، ج:3، ص236.

الصفحة 46

إن غاية القياس هي إيجاد حكم للنازلة التي لم يُنص على حكمها تصريحا في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، أو الإجماع، وذلك من خلال قياس الفرع على الأصل وإلحاقه به ليحمل حكمه. فالقياس منهج لحل المشكلات التي يتطلب حلها استدعاء منهجية دقيقة في التفكير والتأمل في هذه المشكلة ومقارنتها مع المتوفر من الموارد والمعارف السابقة، إضافة إلى جمع ما يتعلق بها من معلومات لتحديد طبيعتها وفرضياتها، والقدرة على تنظيم هذه المعلومات ومناقشتها وتحليلها تمهيدا لاستخراج النتائج القابلة للتعميم كصيغة نهائية لحل المشكل؛ ومنه يتضح جليا توافق هذا المنهج القويم مع مباحث علوم التربية (بيداغوجيا حل المشكلات، النظرية الجشطلتية، النظرية البنائية، السوسيو بنائية ...).

القياس والطريقة القياسية في التدريس:

الطريقة القياسية” هي أحد طرق التدريس التي تنطلق من توضيح القاعدة العامة بغية تطبيقها على الأمثلة التي تندرج تحتها. وينتقل التفكير في عملية القياس بشكل عام من الحقيقة العامة إلى الحقيقة الجزئية، ومن القانون 

الصفحة 47

العام إلى الحالات الخاصة، ومن المبادئ إلى النتائج، وهي بذلك إحدى طرق التفكير التي يسلكها العقل في الوصول إلى المجهول انطلاقا من المعلوم‟[1].

فالطريقة القياسية هي إحدى الطرق الكثيرة والمتنوعة في عملية التدريس التي من شأنها أن تعزز عملية التعلم وتسهم في نجاحها؛ لأن المدرس الناجح هو الذي يحسن تنويع طرائق التدريس بما يناسب الموقف التعليمي والمتعلم، والذي يُمعن النظر في هذه الطريقة يجدها تعتمد على مبدأ القياس الأصولي القائم على وجود أصل وفرع وعلة، فالأصل هنا هو القاعدة العامة، والفرع هو المثال أو الجزئية المنبثقة عن القاعدة، والعلة هي الرابط والعلاقة بين المثال وقاعدته.

-    القياس ودافعية التعلم (الرغبة في التعلم).

تعد الرغبة في التعلم من أهم شروط تحصيله ومن أهم الأبحاث التي انكب عليها العلماء قديما وحديثا، بحثا وحثا على بثها في صدور المتعلمين، قال الإمام الماوردي:” أما الشروط التي يتوفر بها علم الطالب وينتهي معها ...

الهوامش:

[1]مثنى علوان الجشمعي وزينب فالح مهد، دراسة مقارنة بين الطريقة القياسية وطريقة المحاضرة في تحصيل طلبة المرحلة الأولى قسم اللغة العربية، مجلة الفتح، العدد 51، ص 88 بتصرف قليل.  

الصفحة 48

كمال الراغب مع ما يلاحظ به من التوفيق ويمد به من المعونة فتسعة شروط: أحدها: العقل الذي يدرك به حقائق الأمور. والثاني: الفطنة التي يتصور بها غوامض العلوم. والثالث: الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه. والرابع: الشهوة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليه الملل...[1] . ومبحث القياس الأصولي من المباحث التي تنمي القدرة على التفكير والنظر والاستدلال، وهو أسلوب من أساليب التربية العقلية الإسلامية التي تبعث الرغبة في التعلم لدى النفوس. فهذه قضية -إثارة التفكير ودافعية التعلم -يجب عل كل مدرس أن ينتبه إليها، وأن يحرص على تحضير الدروس التي تؤدي إلى إعمال العقل والنظر فيها بعمق. ويتجنب المسائل التي يعلم كنهها بمجرد النظرة السطحية فيها. هذا المنهج التربوي من الممكن أن يُستفاد من كون القياس منه ما هو جلي ومنه ما هو خفي يتطلب استحضار العقل، وتركيز الفهم لإدراكه ومعرفته.

الهوامش:

[1] الماوردي، أدب الدنيا والدين، ج:1، ص 66-67.

الصفحة 49
















 




 



 






 










المبحث الثالث: معالم تربوية من خلال الأدلة الشرعية المختلف فيها.


المطلب الأول: المعالم التربوية في مبحث الاستحسان:

أولا: مفهوم الاستحسان وأنواعه:

الاستحسان من أهم مباحث أصول الفقه التي تدل على أن الفقه الإسلامي فقه واقعي، سيما عندما يترتب عن تطبيق الأحكام الشرعية حرج ومشقة. فيعمل الاستحسان على رفع هذه المشقة من خلال العدول عن الحكم المسبب لها إلى آخر يتوافق مع روح مقاصد الشريعة الإسلامية، والعمل بمقتضى هذا النهج المقاصدي صعب، إلاّ على من تملك النظرة الشاملة والمتكاملة لكليات وفروع الشريعة الإسلامية، ومن تم فإن العمل بالاستحسان دليل على اكتساب هذه النظرة وتملك ملكة الاجتهاد. فما مفهوم الاستحسان؟ وما أنواعه ومعالمه التربوية؟

الصفحة 50

الاستحسان هو”أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول‟[1] . وقيل:” هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقل المجتهد. فإذا عُرضت واقعة ولم يرد نصا بحكمها، وللنظر فيها وجهتان مختلفتان إحداهما ظاهرة تقتضي حكما والأخرى خفية تقتضي حكما آخر، وقام في ذهن المجتهد دليل رجّح وجهة النظر الخفية، فعدل عن وجهة النظر الظاهرة فهذا يسمى شرعا: الاستحسان. وكذلك إذا كان الحكم كليا، وقام في ذهن المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم آخر فهذا أيضا يسمى شرعا الاستحسان‟[2].

ويتنوع الاستحسان تبعا للدليل الذي يُثبت به إلى عدة أنواع[3]:

الهوامش:

[1]أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)، المحصول، تحقيق طه جابر فياض العلواني، ط3، مؤسسة الرسالة 1418 هـ - 1997 م، ج:6، ص 125.

[2]عبد الوهاب خلاف (المتوفى: 1375هـ)، علم أصول الفقه، مكتبة الدعوة - شباب الأزهر، ط8، دار القلم، ص 79- 80.

[3]عبد الكريم بن علي بن محمد النملة، الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقاتها على المذهب الراجح، ص 384 - 385.

الصفحة 51

النوع الأول: الاستحسان بالنص، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالكتاب أو السنة.

مثاله: أن القياس لا يجوِّز العرايا[1]، لأنه بيع تمر برطب وهو داخل تحت النهي عن بيع المزابنة[2]، ولكن تم العدول عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو الجواز لدليل ثبت بالسنة وهو قول الراوي: "ورخص بالعرايا"، فترك القياس لهذا الخبر استحساناً.

النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع.

مثاله: أن القياس لا يجوِّز عقد الإستصناع، وهو: أن يتعاقد شخص مع صانع على أن يصنع له كرسياً -مثلا- بمبلغ قدره مائة درهم بشروط

الهوامش:

[1]بيع العرايا في الشرع: هو بيع رطب في رؤوس نخلة بتمر كيلا. سعدي أبو حبيب، القاموس الفقهي، ط2، دار الفكر. دمشق – سورية، 1408هـ-1988م، ص 250.

[2]بيع التمر بالرطب، وقد نهي عنه نهيا عاما، ثم خصت منه العرايا في خمسة أوسق فما دونهما للحاج. سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: 716هـ)، شرح مختصر الروضة، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، مؤسسة الرسالة، 1407 هـ / 1987 م، ج:1، ص 468.

الصفحة 52

معينة، فهذا لا يجوز؛ لأنه بيع معدوم، لكن تم العدول عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: جواز هذا العقد؛ نظراً لتعامل الأمة به من غير نكير، فصار بذلك إجماعاً.

النوع الثالث: الاستحسان بالعرف والعادة، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر يخالفه؛ نظرا لجريان العرف بذلك، وعملا بما اعتاده الناس.

النوع الرابع: الاستحسان بالضرورة، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر مخالف له ضرورة.

مثاله: جواز الشهادة في النكاح والدخول، فالقياس يقتضي عدم جواز الشهادة في النكاح والدخول؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وهذا لم يحصل في هذه الأمور، لكن عُدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: جواز الشهادة في النكاح والدخول ضرورة؛ لأنه لو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامح لأدى ذلك إلى الحرج وتعطيل الأحكام.

النوع الخامس: الاستحسان بالقياس الخفي، وهو: العدول عن حكم القياس الظاهر إلى حكم آخر بقياس آخر، وهو: أدق وأخفى من الأول، لكنه أقوى حجة، وأسدّ نظراً، وأصح استنتاجاً منه.

الصفحة 53

مثاله: لو حلف شخص وقال: " والله لا أدخل بيتا "، فالقياس يقتضي: أنه يحنث إذا دخل المسجد؛ لأنه يسمى بيتا لغة، ولكن عُدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: عدم حنثه إذا دخل المسجد؛ لتعارف الناس على عدم إطلاق هذا اللفظ على المسجد.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث الاستحسان:

-    الاستحسان ونظرية الجشطلت.

قد تبين من خلال ما سبق أن” تملك النظرة الشاملة والمتكاملة عند العلماء والفقهاء من أهم ما يمكن أن يستفاد من مبحث الاستحسان، فالعلماء عندما عرّفوا الاستحسان، عرفوه بتعريف جامع لكل أنواعه، ثم فُرعت عن ذلك التعريف تلك الأنواع. وهنا إشارة قوية إلى ضرورة الإحاطة الكلية بأي موضوع نريد الخوض فيه؛ لأن الفهم العميق لأي موضوع كان، يُمكّن من تحقق الاستبصار[1]. ويزيد صاحبه بذلك تمكنا واقتناعا به، فتحصل الفائدة المرجوة التي نخرج منها بتصور شامل عن الموضوع. ويمكن...

الهوامش:

[1] الاستبصار تغير ذهني مفاجئ يحدث للمتعلم بهد وصوله إلى حالة الانتظام الادراكي. يوسف محمد قطامي، نظريات التعلم والتعليم، دار الفكر ناشرون وموزعون، ط1، 1426ه/2005م، ص 82 بتصرف.

الصفحة 54

للمدرس أن يستفيد من هذا عند تدريسه المتعلمين في جميع المراحل الدراسية، سواء من حيث صياغة الوضعيات ذات الطابع الكلي، أو من حيث تنمية كفاءته المهنية حتى يحيط إحاطة شاملة للموضوع الذي يريد شرحه أمام تلاميذه كإحاطة المجتهد الأصولي بكليات الشريعة وأصولها التي تمكنه من الانتقال من أصل إلى آخر أو العدول عنه لمصلحة تقتضي ذلك حسب ما تتطلبه النازلة المدروسة‟[1].

فالإحاطة بالشيء من كل جوانبه أمر يترتب عنه عدة فوائد منها[2]:

-  زيادة ثقة المدرس بنفسه نظرا لإحاطته بمدخلات ومخرجات مادته التي يدرسها.

- ثقة طلابه به، وبالتالي الرغبة الجادة منهم بتلقي العلم عنه.

-تحقيق الأهداف المرجوة من هذه الحصص العلمية عند الطلاب، فيخرجون بفوائد وحصيلة علمية قوية.

الهوامش:

[1]مصطفى ديب البغا، الجوانب التربوية في أصول الفقه الإسلامي، ص 165-166بتصرف قليل.                                        

[2]مصطفى ديب البغا، الجوانب التربوية في أصول الفقه الإسلامي، ص 165-166بتصرف قليل.                     

الصفحة 55

- حصول تمثل إيجابي عند المتعلم حول أستاذه فيرغب بأن يكون مثله، فيكون قدوة له، وهذا دافع قوي لطلب العلم والاستزادة منه".

إن حصول النظرة الشاملة والمتكاملة حول موضوع ما بات أمرا ضروريا في عملية التعليم والتعلم، وهو غاية ما سعى إلى تحقيقه المشتغلون في حقل التربية، بل إن منهم من أسس له نظرية وجعل حصول التعلم متوقف عليه، كماكس فرتيمر (1880-1943) صاحب نظرية الجشطلت[1] الذي أقام نظريته على عدة أسس منها[2]:

الهوامش:

[1] نظرية الجشطلت: الجلشطلت مصطلح باللغة الألمانية يراد به البنية أو الشكل او الصيغة، أو المجال الذي يقع عليه الإدراك الأولي للشخص. إن الجشطلت حسب فيرتمر: «كل مترابط الأجزاء باتساق وانتظام؛ بحيث تكون الأجزاء المكونة له في ترابط دينامي فيما بينها من جهة، ومع الكل ذاته من جهة أخرى. فكل عنصر أو جزء من الجلشطلت له مكانته ودوره ووظيفته التي تتطلبهها طبيعة االكل». ولدت النظرية الجلشطلتية في ألمانيا في الوقت الذي ظهرت فيه المدرسة السلوكية في أمريكا، ثم انتقلت هذه النظرية من ألمانيا إلى أمريكا على يد كوهلر (1886-1941) وكيرت كو فكا (1886-1941) وقد أسس هذا الأخير كتابا " نمو العقل" انتقد فيه نظرية التعلم بالمحاولة والخطأ لثورندايك، كما أصدر كوهلر كتاب" عقلية القردة" الذي أظهر فيه دور الاستبصار (هو الفهم الكامل لبنية الجلشطلت من خلال إدراك العلاقات القائمة بين أجزائه) في التعلم، واعتبره بديلا للتعلم ب: (المحاولة والخطأ). سعيد حليم، المرجع في كيفية التدريس، سلسة المنظومة التربوية في المغرب، ص 152-153. محمد حرب اللصاصمة، علم النفس المدرسي الحديث، ط2، دار الحامد للنشر والتوزيع 2007، ص 153.

[2]سعيد حليم، المرجع في كيفية التدريس، ص 157.

الصفحة 56

- التعلم قائم على الفهم الدقيق لبنية الشيء. (في المقابل نجد أن المجتهد في علم أصول الفقه حينما يلجأ إلى الاستحسان فيرجح القاعدة الجزئية على القاعدة العامة لدليل اقتضى ذلك، فهذا إن دل عن شيء فإنما يدل على فهمه العميق والدقيق لأصول الشريعة الإسلامية، وتملكه النظرة المتكاملة لمقاصدها).

-لا يقع التعلم إلا إذا تحقق الاستبصار.

- الاستبصار قائم على إعادة بناء الشيء الذي نود فهمه.

-  التعلم مرتبط بالنتائج وبقدرة المتعلم على نقل تعلماته إلى الوضعيات والسياقات المشابهة.

- الاستحسان ومقاربة التدريس بالأهداف والكفايات[1]

الهوامش:

[1] شكل التدريس بواسطة الأهداف التربوية -في مرحلة سابقة- منعطفا جديدا لعقلنة الفعل التعليمي ومحاولة إخراجه من الضبابية والارتجالية. وقد كان لمشاكل القياس التربوي ونظام الامتحانات دور هام في الدفع إلى محاولة إيجاد أرضية مشتركة للتعاون بين الفاعلين التربويين في هذا المجال. ومن ثم جاءت الأهداف التربوية (بيداغوجيا الأهداف) كمحاولة أولى للحد من هذه المشاكل. لأنها تمثل مرجعا أساسيا للتأكد من مدى صحة الطرق والأساليب التعليمية المناسبة، أي ضبط العملية التعليمية التعلمية بضوابط، وتحدد أهدافا مسبقة سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ أو التقويم، وتقاس نسبة نجاح العملية التربوية بمدى تحقق الأهداف المسطرة. والحاصل أن بيداغوجيا الأهداف قد ساهمت في تنظيم الفعل التعليمي وعقلنته، إلا أنها ظلت تفتقر إلى بنية نسقية لإعطاء معنى للتعلمات وهو ما ستعمل بيداغوجيا الكفايات والادماج على تداركه. لذلك وظفت بيداغوجيا الكفايات في المجال التربوي، باعتبارها بناء مركبا يهتم بشخصية المتعلم بكل مكوناتها سواء على المستوى العقلي أو الحركي أو الوجداني (فالكفاية تيسر عملية تكيف الفرد مع مختلف الصعوبات والمشاكل التي يفرضها محيطه، والتي لا يمكنه مواجهتها من خلال جزء واحد من شخصيته. بل على العكس من ذلك، إن تظافر مكونات الشخصية أي المعرفة والعمل والخبر والقدرات العقلية والاهتمامات... هي التي تمكن الفرد من مواجهة التحديات. محمد الدريج، الكفايات في التعليم من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج، منشورات سلسلة المعرفة للجميع، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء ص16-17. كريمة حليم، المدخل لعلوم التربية، ط1، مطبعة آنفو برانت – فاس، ص 171 وما بعدها، بتصرف.

الصفحة 57

يمكن أن نتعلم من علم أصول الفقه (الاستحسان) كيفية توظيف مختلف المقاربات البيداغوجية في المجال التربوي توظيفا عمليا مفيدا، بغض النظر عمن يعتقد بأن المقاربة بالأهداف قد تم تجاوزها. وجذير بالذكر أن المغرب يعتمد في التدريس على المقاربة بالكفايات، إلا أن هذا لا يعني بتاتا أنه يجب ممارسة القطيعة مع المقاربات الأخرى، إذ لا بأس من اعتماد بيداغوجيا الأهداف استحسانا في بعض المواقف التعليمية؛” لأننا أمام ثروة عارمة في أساليب التدريس الحديثة النافعة، ورغم ذلك يجوز التدريس بالأساليب التقليدية لفترة مؤقتة -استحسانا- خصوصا في المؤسسات التعليمية التربوية ذات الإمكانات المتواضعة غير المؤهلة لاستخدام الوسائل الحديثة [1].

الهوامش:

[1]مصطفى ديب البغا، الجوانب التربوية في أصول الفقه الإسلامي، ص 168.

الصفحة 58

المطلب الثاني: المعالم التربوية في مبحث الاستصلاح:

أولا: مفهوم الاستصلاح وأنواعه:

عرف الإمام الغزالي المصلحة ب:” المحافظة على مقصود، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم‟[1] وتنقسم المصالح إلى مصالح معتبرة ومصالح ملغاة ومصالح مرسلة.

المصالح المعتبرة:

 ” هي المصالح التي جاءت الأحكام الشرعية لتحقيقها ومراعاتها من أجل المحافظة على مقصود الشرع في جلب المصالح أو دفع المفاسد والمضار‟[2]. ومثالها جواز القراض[3] والبيع وكل ما يتعلق بالمعاملات المالية التي نصت الشواهد الشرعية على اعتبارها.

المصلحة الملغاة:

الهوامش:

[1]الإمام الغزالي، المستصفى، ص174.

[2] الإمام الغزالي، المستصفى، ص 286.

[3] القراض هو تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ إجارة. شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى: 954هـ)، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، ط3، دار الفكر1412هـ - 1992م، ج:5، ص356.

الصفحة 59

” هي كل منفعة دلّ الشرع على عدم الاعتداد بها وعدم مراعاتها في الأحكام الشرعية، وذلك لانطوائها على مفسدة أعظم منها، أو لأنها تفوّت مصلحة أكبر‟[1].

وهذا النَّوع من المصالح قد يكون موجودا، لكن الشَّرع ألغى اعتباره لغلبة المفسدة، إذ القاعدة الشرعية العامة فيه هي: رجحان جانب المفسدة على جانب المصلحة، كما في منفعة الخمر والميسر، فقد قال تعالى: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اِ۬لْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْم كَبِير وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ اِ۬لْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُ اُ۬لَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

 [2].

المصلحة المرسلة:

الهوامش:

[1] عياض بن نامي بن عوض السلم، أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله، ط1، دار التدمرية، الرياض - المملكة العربية السعودية 1426 هـ - 2005 م، ص 205.

[2] سورة البقرة، الآية 217.

الصفحة 60

يقصد بها:” كل مصلحة لم يرد من الشارع دليل معين يدل على اعتبارها ولا على إلغائها، وكانت ملائمة لمقاصد الشارع[1] ومن أمثلتها ما نص عليه الأصوليون في كتبهم كجمع القرآن في مصحف واحد، والقول بقتل الجماعة بالواحد، وتضمين الصانع واتخاذ السجون، وغيرها من المسائل التي لا يوجد فيها نص ولا اجماع.

وللمصلحة المرسلة عدة مراتب وهي: المصالح الضرورية والمصالح الحاجية والمصالح التحسينية.

أما الضروريات؛ فمعناها:” هي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج، وهي خمس: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. وأما الحاجيات؛ فمعناها: أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع التضيق؛ كالرخص، وإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هو حلال. وأما التحسينيات؛ فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب

الهوامش:

[1] تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي (المتوفى: 794هـ)، تحقيق سيد عبد العزيز وعبد الله ربيع، الطبعة الأولى، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث - توزيع المكتبة المكية 1418 هـ - 1998 م الجزء التاسع (56).

الصفحة 61

الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات؛ كإزالة النجاسة، وستر العورة، وأخذ الزينة ‟[1].

وتعتبر المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية؛ لأن مصالح الدين والدنيا متوقفة على وجودها، فلو انعدم الدين لانعدم الجزاء المرتجى، ولو انعدمت النفس لما وجد من يتدين، ولو انعدم العقل لرفع التكليف، ولو انعدم النسل لم يبق في الحياة حياة، ولو انعدم المال لم يبق عيش.

أما الحاجيات فهي مكملة للضروريات، بحيث ترتفع بها المشقات ولا يلزم من اختلالها اختلال الضروريات، كذلك التحسينيات فهي مكملة للحاجيات والضروريات؛ لأن مكمل المكمل مكمل.

لكن تبقى ضرورة ترتيبها والموازنة بينها في حالة التعارض غاية كل مجتهد يحرص على جلب المصالح ودفع المفاسد، ومثاله ما اتفق عليه الفقهاء من جواز نظر الطبيب إلى العورة ولمسها للتداوي، وسند ذلك: الموازنة بين المفسدة الناتجة عن كشف العورة والمتعلقة بمرتبة التحسينيات، وبين المفسدة الناشئة عن عدم التداوي والمتعلقة بالضروريات إن كان يترتب عليها حفظ ...

الهوامش:

[1]إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)، الموافقات، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط1، دار ابن عفان1417هـ/ 1997م الجزء:1، ص 20.

الصفحة 62

النفس أو الحاجيات إن ترتب على عدم التداوي الضرر والوقوع في المشقة، وكلا المرتبتين مقدمة على المرتبة التحسينية.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث المصلحة المرسلة:

تنص الأبحاث التربوية على أن شخصية الإنسان” تشكل كلا متكاملا غير قابل للتجزئة، وإن كنا نحن نرى فيها من الخارج جوانب أو أبعاد متعددة (البعد الروحي، البعد الجسدي، البعد العقلي) تتنوع نسب الاهتمام بها بتنوع فلسفة التربية المعتمدة. فالتربية العسكرية القديمة تعطي أهمية للبعد الجسدي أكثر من البعد العقلي والروحي-النفسي، والتربية المادية تهتم بالجانب العقلي والجسدي بنسبة أكثر من الجانب الروحي؛ وهذا غالبا ما يترتب عليه خلل على مستوى شخصية الإنسان ‟[1].

أما لو تم اعتماد المنهج الأصولي في التعامل مع المصالح، وتحديدا في باب تحقيق الموازنة بينها، كأن تُقدم الضروريات على الحاجيات والحاجيات على التحسينيات، مع الحرص قبل ذلك على الجمع بينها عملا بقاعدة” الجمع ...

الهوامش:

[1]هشام عواد، الجديد في تقويم التعلم من التقويم التقليدي إلى التعلم بالتقويم، ط1، منشورات دار مركز التأليف والنشر2018، ص 62 بتصرف.

الصفحة 63

مقدم على الترجيح‟ [1] لكان الاهتمام بالجوانب الثلاثة حاضرا بقوة في عملية التعليم والتعلم.

كما أن هذا الاهتمام المتعلق بتغطية جوانب شخصية المتعلم بشكل متوازن ينبغي أن يلازمه اهتمام من طرف واضعي المناهج والبرامج الدراسية بالتمييز الدقيق بين ما هو ضروري، وما هو حاجي، وما هو تحسيني، حتى لا ينصب اهتمام المدرس بما هو حاجي على حساب الضروري، أو التحسيني على حساب الحاجي،” وفي هذا تعويد للمتعلم على ترتيب الأولويات وتقديم الأهم على الأقل أهمية وتنمية قدرة الموازنة عنده‟ [2]. فالتمييز بين الأهداف بدقة وترتيبها حسب الأولوية من أهم ما يستفاد منه من أنواع المصالح السابقة الذكر.

ويمكن رصد بعض المعالم التربوية بين علوم التربية والمصلحة المرسلة في تعامل المجتهد الأصولي مع المصالح بعقليته الممحصة التي لا تقف عند حدود النص الظاهر، بل تمتد إلى فهم ما وراء النص، وهذا ما يسمى بالعقل ...

الهوامش:

[1]محمد بن حسين بن حسن الجيزاني، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، ط5، دار ابن الجوزي 1427 هـ، ص 274.

[2]أحلام محمود علي مطالقة، الجوانب التربوية المستمدة من المصالح المرسلة، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، العدد الثاني 1430ه/2009، ص 214.

الصفحة 64

المقاصدي الذي ينبغي أن تبنى الوضعيات التعليمية على وفقه؛ لأن من وظائفه ”أنه يكتشف الطاقات ويؤصل المنطلقات، ويحدد الأهداف المرحلية والاستراتيجية، ويضع البرامج ويبتكر الوسائل، ويحدد المسؤوليات ويبصّر بمواطن القصور والخلل، ويكتشف أسباب التقصير ويدفع للمراجعة والتقويم، والإفادة من التجربة ويكسب العقل القدرة على التحليل والتعليل والاستنتاج والقياس، واستشراف المستقبل في ضوء رؤية الماضي، وبمعنى آخر إن بناء العقل المقاصدي الغائي سينعكس عطاؤه على جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، وتحقيق الانسجام بين قوانين الكون ونواميس الطبيعة وسنن الله في الأنفس، وامتلاك القدرة للتعرف على الأسباب الموصلة إلى النتائج‟[1].

كذلك يمكن أن نستفيد من مبحث المصلحة المرسلة في تكوين ملكة الإبداع والإنجاز؛ لأن المصالح في التشريع مطلقة عامة، لا تختص بباب دون باب ولا بمحل دون محل، بل تنطلق مراعاتها من” الفهم الدقيق لواقع الناس الذين يمثلون أرضية المنهج التربوي الإسلامي بكل شموله وكماله،

الهوامش:

[1]عمر عبيد حسن، مقالات في التفكير المقصدي رؤية في إطار معرفة الوحي، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر-بيروت 1999م، ص 20-21.

الصفحة 65

وذلك لإيجاد أكبر قدر من التفاعل بين مقتضيات المنهج الرباني وفاعلية المكلفين برسم معالمه في واقع حياتهم‟[1] . ومن هنا فعلى الفاعلين التربويين صياغة المناهج التي تراعي حاجات المتعلمين وتجعلهم محور العملية التعليمية التعلمية.

المطلب الثالث: المعالم التربوية في مبحث العرف:

أولا: مفهوم العرف وأنواعه:

العرف هو:” ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول، أو فعل، أو ترك، ويسمى العادة[2]. وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة، وينقسم باعتبار النوع إلى قسمين[3]:

العرف العملي: مثل تعارف الناس البيع بالتعاطي من غير صيغة لفظية.

 العرف القولي: مثل تعارفهم إطلاق الولد على الذكر دون الأنثى، وتعارفهم على أن لفظ اللحم لا يطلق على السمك. والعرف يتكون من ...

الهوامش:

[1]سامرائي فاروق، تعزيز فقه الواقع في ضوء الفكر التربوي الإسلامي، سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد الأول1997، ص 172.

[2] عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، ص89.

[3] عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، ص89.

الصفحة 66

تعارف الناس على اختلاف طبقاتهم عامتهم وخاصتهم بخلاف الإجماع فإنه يتكون من اتفاق المجتهدين خاصة، ولا دخل للعامة في تكوينه. كما ينقسم العرف باعتبار من يصدر عنه إلى قسمين[1]:

عُرْفٌ عام: وهو ما تعارفه الناس جميعا، كدخول الحمَّام دون تحديد كمية المياه المستهلكة، ودون تقدير مدة المكث فيه.

عُرْفٌ خاص: سواء كانت الخصوصية من جهة أهل بلد معين أم من طائفة وفرقة أم من أهل حرفة وصناعة، وعلى كل حال فالعرف إما صحيح وهو ما لا يتصادم مع الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية، وإما فاسد وهو ما يتعارض مع تلك الأصول.

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث العرف:

-    العرف والبراديجم الثقاقي-الإيكولوجي ومبدأ التربية التكاملية.

إن معنى براديجم ثقافي-إيكولوجي هو:” ذلك التوجه التربوي الذي ينظر للمدرسة على أنها نسق ثقافي إيكولوجي. ومعنى كون المدرسة نسقا، أي ...

الهوامش:

[1]حمد بن حمدي الصاعدي، المطلق والمقيد، ط1، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، 1423هـ/2003م، ص500 بتصرف.

الصفحة 67

أنها منظومة معقدة تتعدد مكوناتها وتختلف وظائفها وتتباين العوامل المتدخلة فيها، ولكنها مع ذلك قابلة للفهم والتحليل والتعديل والتطوير. ومعنى أن المدرسة نسق ثقافي هو: أنها تمثل ثقافة خاصة بها، وأنها مجموعة من البشر يملكون معتقدات وقيما ومثلا واتجاهات واهتمامات ومعارف ووجهات وعادات في التفكير والعمل؛ ثم إن المدرسة نظام ثقافي؛ ولهذا فإن تطويرها لا يتم إلا إذا فهمت ثقافتها فهما حقيقيا، مما يدل على أن تغيير التعليم يبدأ بتغيير ثقافة المدرسة. وأما وصف "إيكولوجي" فيدل على أن المدرسة تحل في بيئة طبيعية وتكتنفها بيئة اجتماعية، وأن مكونات هذه البيئة بنسقيها تؤثر سلبا وإيجابا على أداء العاملين في المدرسة وتشمل البيئة الطبيعية الاجتماعية العديد من المتغيرات، منها: الموقع الجغرافي للمدرسة ومبانيها وإمكاناتها وتجهيزاتها، والمستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للأسر التي ينتمي إليها التلاميذ‟[1].

 يتبين من خلال عرض هذه المفاهيم أن عملية التعلم تتداخل فيها عدة عوامل على رأسها المحيط الذي يعيش فيه المتعلم، لذلك صنف علماء التربية الوضعيات التي تجعل المتعلم يتفاعل ويشارك وينتج ويبدع ضمن ...

الهوامش:

[1]عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، الجزء الثاني، ص 704-705.

الصفحة 68

وضعيات التعلم النشط، ولا يمكن للوضعيات التعليمية أن تكون كذلك إلا إذا انطلقت من واقع المتعلم. ونأسف كل الأسف عندما تُغيب الجسور، وتهدم الروابط بين المدرسة والواقع (حياة المتعلم). لهذا فإن أعظم ما يستفاد من مبحث العرف وخصوصا في انقسامه إلى عرف عام وعرف خاص هو:” أنه لكل مجتمع شخصية متميزة عن غيره من المجتمعات، وخصوصيات تختلف عن غيره، وأن ما يصلح لمتعلمي القرى في بعض العمليات التعليمية والتربوية قد يختلف عما يصلح لمتعلمي المدن، وما يصلح للمتعلمين في إقليم معين قد لا يصلح لمتعلمي إقليم آخر. وفي نفس الوقت هنالك بعض الأمور التي تكون مشتركة بين جميع المجتمعات البشرية يتفق عليها العقلاء في كل مجتمع خاص مع غيره في اعتبارها؛ لأنها تتلاءم مع الفطرة الإنسانية والسلوك البشري العام. ومن هنا كان على المدرس والمربي أن يجعل من أهدافه غرس الاستقلالية في نفوس الناشئة، حتى يجعل منهم أفرادا مستقلين يعتزون بأصولهم وقادرين على التفكير والابداع الذي يرفض جعل المرء إمعة تذروه الرياح، وفي نفس الوقت يجب أن ينتزع من نفوسهم بواعث التقوقع والانغلاق، ومعاني الأنانية البغيضة والعصبية 

الصفحة 69

المقيتة، ليكون بينهم وبين المجتمع العام ترابط وانسجام، وإحساس بضرورة التعامل السليم مع البشر عامة. ‟[1]

 أما فيما يتعلق بالتربية التكاملية (الشاملة) فقد أثبت الدراسات الحديثة أهميتها ونصت على ضرورة التكامل بين البيت والمدرسة والمجتمع وأقرت أنه لا يمكن الفصل بين هذه الأدوار الثلاثة وهو ما يعرف” بحركة مدرسة المجتمع. ‟[2]

المطلب الرابع: المعالم التربوية في مبحث عمل الصحابي:

أولا: مفهوم الصحابي وحجية اتباعه:

الصحابي هو:” من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام[3]، أما قول الصحابي فيقصد به:” ما نقل وثبت عن أحد أصحاب رسول الله ﷺ من فتوى أو قضاء في حادثة شرعية لم يرد فيها

الهوامش:

[1]مصطفى ديب البغا، الجوانب التربوية في علم أصول الفقه، ص186-187 بتصرف.

[2] عبد العزيز بن عبد الله السنبل، التربية في الوطن العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين، المكتب الجامعي الحديث-الإسكندرية 2002م، ص 252.

 [3] أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ)، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض، ط1، دار الكتب العلمية – بيروت 1415 هـ، ج:1، ص 130.

الصفحة 70

نص من كتاب أو سنة ولم يحصل عليها إجماع[1]،  وقول الصحابي حجة في المذهب المالكي[2] ، لذا يجب على الأمة الاقتداء بهؤلاء الأخيار؛” لأَنهم هم الَّذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله لصحبة النبي ﷺ ونصرته، وإقامة دينه وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة. وجعلهم لنا أعلاما وقدوة. فحفظوا عنه ما بلغهم عن الله عز وجل، وما سنّ وما شرع وحكم وقضى، وندب وأمر ونهى وحظر‟[3].

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث عمل الصحابي (التعلم الوظيفي)

من الضروري أن لا تخلو ”المناهج التعليمية والعملية التربوية من ذكر الصحابة رضي الله عنهم، والتنويه بحياتهم وسلوكهم، فهم النموذج البشري الفريد الذي يمكن للأجيال أن تلحق بهم وتقترب من منزلتهم، فهم الذين ...

الهوامش:

[1] جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي (المتوفى: 864هـ)، شرح الورقات في أصول الفقه، تحقيق حسام الدين بن موسى عفانة، ط1، جامعة القدس، فلسطين1420 هـ - 1999 م، ص 188.

[2]محمد بن أحمد بن محمد عليش، أبو عبد الله المالكي (المتوفى: 1299هـ، منح الجليل شرح مختصر خليل، دار الفكر - بيروت1409هـ/1989م، ج:2، ص 366.

[3] عبد المنعم السيد نجم، علم الجرح والتعديل، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- محرم صفر ربيع أول 1400هـ، ص 61.

الصفحة 71

حظوا بصحبة خير البشر، والمبلغ عن الله عز وجل حقبة من الزمن؛ لذلك فمن الأولى للمدرس والمربي حين يستدعي المقام ذكر نموذج تربوي يقتدي به المتعلمون، أن يضرب المثل بالصحابي، مع ضرورة الإشارة إلى أن الصحابة قد عاشوا وقائع ورود الأحكام، فكانوا بذلك أقدر على فهمها وتطبيقها في الواقع، لتكون أكثر سراية إلى ذهن المتعلم، وأكثر تأثيرا على نفسه وانعكاسا على سلوكه (تحقيق التربية العملية) وخصوصا حينما يبيّن المدرس للمتعلم أن حرص الصحابة على العمل كان كحرصهم على التعلم، إذ لم يكن تعلمهم وتعليمهم للعلم فحسب، إنما كان للسلوك والعمل‟[1]. فقد ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له بإسناده عن عثمان وابن مسعود:” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء ابن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها. وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن عبد الله ابن ...

الهوامش:

[1]مصطفى ديب البغ، الجوانب التربوية في علم أصول الفقه، ص 177 بتصرف.

الصفحة 72

عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها‟[1].وهذا يدل على أن الاكتفاء بالعلم النظري وحده لا يجدي نفعا ما لم يرتبط بالتطبيق على أرض الواقع، وأن الصحابة كانوا أحرص الناس على تطبيق ما تعلموه، وهذا ما يصطلح عليه ”بالتعلم الوظيفي الذي يؤكد عليه علماء التربية ويحرصون أشد الحرص على أن تكون المادة التعليمية مؤدية إلى الفهم الوظيفي المرتبط بالحياة‟[2] ويمكن تنزيل هذا النمط من التعليم من خلال أسلوب”التربية العملية التي ينبغي أن يتدرب عيها المدرس في مرحلة التكوين حتى يتزود بالقدر الكافي من الخبرات والمهارات ليسمو بمهمته على أن يكون مجرد مدرس لمادة إلى أن يصبح مربيا جديرا بتحقيق أهداف التربية الكاملة في تلاميذه‟[3].

الهوامش:

[1] أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، ط2، دار الكتب المصرية - القاهرة1384هـ - 1964 م، ج:1، ص 39-40.

[2]أحمد أوزي، المعجم الموسوعي الجديد لعلوم التربية، منشورات مجلة علوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، العدد، 42 ص 142 بتصرف.

[3]توفيق مرعي وشريف مصطفى، التربية العملية، ط1، جامعة القدس المفتوحة – عمان- الأردن 1996، ص8 بتصرف.

الصفحة 73

المطلب الخامس: المعالم التربوية في مبحث سد الذرائع:

أولا: مفهوم سد الذرائع وحجيتها:

سد الذرائع:” هو منع الجائز لئلاّ يتوسل به إلى الممنوع‟ [1] وسد الذرائع من أهم مصادر التشريع التي اعتمدها الإمام مالك -رحمه الله- تعالى في اجتهاده الفقهي، قال الإمام الشاطبي:” قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه‟[2]، ومما يستدل به على حجيتها من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّواْ اُ۬لذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ فَيَسُبُّواْ اُ۬للَّهَ عَدْواَۢ بِغَيْرِ عِلْم[3]. فقد حرم الله تعالى سب الأصنام التي يعبدها المشركون مع أن سبها من حيث هو فيه مصلحة، وهي إغاظة الكفار وإهانة أصنامهم، وفي نفس الوقت حمية لعبادة الله وحده؛ إلا أنه قد يكون سببا في سب الله عز وجل، فكانت مصلحة ترك مسبة الله سبحانه أرجح من مصلحة مسبة آلهة المشركين وهو معنى منع الجائز لئلا يتوسل به إلى الممنوع.

الهوامش:

[1] الإمام الشاطبي، الموافقات، ج:3، ص 509.

[2]الإمام الشاطبي، الموافقات، ج:2، ص 182.

[3] سورة الأنعام، الآية 109.

الصفحة 74

وفي السنة أمثلة كثيرة على الأخذ بقاعدة سد الذرائع وفتحها منها: نهيه عن إعطاء الهدايا للأمراء والقضاة كي لا يكون ذلك محاباة في الحكم. أما فتح الذرائع فمثاله:”التوسل لفداء الأسرى بدفع المال إلى العدو والذي هو محرم عليهم الانتفاع به؛ لأن وسيلة المحرم قد تكون غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة ‟[1].

ثانيا: معالم تربوية مستفادة من مبحث سد الذرائع:

إن هندسة البرامج والمناهج الدراسية من أهم عوامل نجاح العملية التربوية برمتها، لذلك ينبغي العناية بها وصرف الجهود لتجديدها حتى تتحقق الغايات الكبرى التي تحددها الدولة في مجال التعليم. ولسد الذرائع فوائد عديدة تفيد في صياغة المناهج صياغة كفيلة بتحقيق أهدافها أذكر منها[2]:

-     تربية المتعلم على أن يكون ثاقب النظر، فينظر إلى مآل الأمور ومنقلب الأحوال، فلا يلبس عليه ولا يخدع بما هو مصلحة آنية قد تؤول إلى شر مستطير.

الهوامش:

[1]القرافي، شرح تنقيح الفصول، ص 449.

[2]مصطفى ديب البغ، الجوانب التربوية في علم أصول الفقه، ص 194 بتصرف.

الصفحة 75

-     تحذير كل المتدخلين في العملية التربوية من مباشرة الأسباب التي يغلب على الظن أنها تؤدي إلى ضرر متحقق. وفي نفس الوقت ينبغي ألا يكون التحذير من كل شيء؛ لأن منع كل ما يُحتمل أن يترتب عليه ولو ضرر يسير من شأنه أن يوقع الخاضع للعملية التربوية في ضيق وحرج.

-     على المدرس والمربي والقائم على المؤسسة التعليمية والتربوية أن يغض النظر عن بعض الأمور غير السليمة، التي تصدر من متعلم أو ناشئ في المؤسسة التربية، دون أن يؤاخذ عليها أو يحاسب بها، إذا كانت مؤاخذته ومحاسبته ستؤدي إلى شر أكبر وضرر أشد، مما قد ينتج عن سلوكه المشين وتصرفه المنحرف.

العمل بمبدأ الملاءمة بين مراعاة الميول وتوجيه الميول: حيث يؤكد الكثير من التربويين المعاصرين في المدارس الغربية على ضرورة تصنيف المتعلمين حسب قدراته الدراسية، فلا يستقيم على سبيل المثال أن يلج شعبة العلوم الرياضية من له ضعف كبير على مستوى هذه المادة لمجرد أن لها أفاقا كثيرة، ظنا منه أن مصلحته حاصلة في ولوجها. فهذه مصلحة متوهمة تؤدي إلى مفسدة محققة ...

الصفحة 76

-     ينبغي دفعها بمنهج سد الذرائع. كذلك الشأن لمن له ضعف يسير يمكن تداركه، فلا يستقيم أن يُمنع من ولوج شعبة العلوم الرياضية بسبب مفسدة محتملة ينبغي دفعها وذلك بمنهج فتح الذرائع.

لذا ينبغي على القائمين على عملية التدريس أن يساهموا في توجيه المتعلمين؛ لأنهم أقرب الناس لمعرفة قدرات متعلميهم، وأعرف الناس بما يصلح لهم وما لا يصلح. وفي هذا يقول الإمام الغزالي:”ويجب على المتعلم ألا يختار نوع العلم بنفسه؛ بل يفوض أمره إلى أستاذه، فإن الأستاذ قد حصل له التجارب في ذلك، فكان أعرف ما ينبغي لكل واحد وما يليق بطبيعته‟[1].

الهوامش:

[1]منهاج المتعلم، أبو حامد الغزالي، تحقيق أحمد عناية، الطبعة الأولى، دار التقوى لطباعة والنشر والتوزيع1431ه/2010م، الصفحة (83).

الصفحة 77



































































 

 





خاتمة

إن علم أصول الفقه من العلوم المعرفية ذات الصبغة المنهجية؛ ولا أبالغ إن قلت بأن علم أصول الفقه يمكن اعتباره منهجا قبل أن يكون علمًا؛ ذلك لأن وظيفته هي ضبط حركة الاجتهاد والاستنباط عند تجدُّد الحوادث ووقوع النوازل، ولا تنتهي الحاجة إلى علم أصول الفقه عند حد معين، بل ...

الصفحة 76

لأن وظيفته هي ضبط حركة الاجتهاد والاستنباط عند تجدُّد الحوادث ووقوع النوازل، ولا تنتهي الحاجة إلى علم أصول الفقه عند حد معين، بل

يمكن أن يمثِّل للمسلمين وغيرهم المنهجية المثلى التي يصلح أن تسير عليها الأمة في كل شؤونها بما فيها الشأن التربوي، فالدرس الأصولي غني جدًّا بالتنوع المنهجي، وبالتعدد الإمكاني لمسالك البحث والاستنباط بما يكفل تغطية أغلب الحاجات التعليمية التعلمية للأمة في العصر الحديث. لذلك كانت دعوة العلماء إلى تجديد علم أصول الفقه في محلها، وينبغي أن يُصرف مزيد من الجهد صوبها من أجل الاستفادة بكنوز هذا العلم الدفينة.

 لذلك فقد رجوت من هذا الكتاب أن يكون محاولة من بين المحاولات الكثيرة الداعية إلى صرف الانتباه نحو علم أصول الفقه، والسعي نحو تأسيس نظريات تربوية إسلامية تأخذ من النظريات الغربية ما يمكن أن ينصهر فيها، وتنبذ كل ما يتعارض مع أسسها ومبادئها.

 هذا فما كان فيه من التوفيق فمن الله عز وجل، وما كان فيه من الخطأ والزيغ فمني أنا وحدي والحمد لله حين تصبحون وحين تمسون .

الصفحة 77



..