التربية والمجتمع

المؤلف: إميل دوركهايم

التصنيف: علوم التربية

عرض PDF

الوصف:

التربية والمجتمع، إميل دوركهاييم، ترجمة علي أسعد وطفة، دار معد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة، سنة 1996، دمشق.

تمهيد :

      يعد اميل دورکهایم ( Imile Durkhiem )، بالاضافة إلى شهرت الواسعة في مجال علم الاجتماع، واحداً من كبار مفكري التربية الكلاسيكيين في فرنسا ، حيث استطاع أن يترك بصماته على تاريخ الفكر التربوي الفرنسي ، عبر سيرته المهنية في مجال التعليم ، ومن خلال اعماله التربوية المعروفة : ( التربية والمجتمع ) ( Education et Sociologie ) ، و) التربية الأخلاقية ) ، 

( Education Morale ) و) التطور التربوي في فرنسا ) ( L'Evolution pédagogique en France ) ، وهي الأعمال التي نشرت بعد وفاته بفضل عناية تلميذه بول فوكونيه ( Paul Faucounet).

      وهنا يجب علينا الاعتراف بفضل مبادرة دار النشر الفرنسية و المطابع الجامعية الفرنسية : ( ... ) ، التي أخذت على عاتقها مهمة اعادة طباعة كتاب دوركهايم التربية والمجتمع الذي نشر لأول مرة عام (1922) اي منذ اربعين عاما واستجابت بذلك لضرورة وضع ذلك العمل الهام بين أيدي المربين والدارسين .

      يشتمل هذا الكتاب الثمين التربية والمجتمع على أربع دراسات يؤرخ لها منذ السنوات الاولى لذلك القرن ، وهو اذ يتيح للقارئ المتعجل قراءة سريعة وتناولا سهلا ، فإنه يمتلك خصائص أخرى هامة

الصفحة 9

تتمثل باحتوائه على أفكار دوركهايم الأساسية ، وتضمنه المقدمة فوكونيه الرائعة .

     وإذا لم يكن لي شرف معرفة دوركهايم الشخصية ، الذي توفي عام 1917 ، فإنه يجب علي أن اعترف بفضل تلميذه فوكونيه ، الذي أخذ بيدي ، وهو سوسيولوجي معروف ، كان له أن يحتل كرسي استاذية التربية في جامعة السوربون بعد الحرب العالمية الثانية. لقد عرف فوكونيه بقدرته على معاجة المسائل التربوية بأسلوب رشيق متميز ، وهو الذي طالما اعجبت برقة اسلوبه ، واصالة فكره ، وخفة ظله ، اذ كان في عبقريته واحدا من أفضل هؤلاء الذين عرفتهم في حياتي ، والذي امتدت اليه يد الموت لتخطفه مبكرا . وله يدين جميع طلابه في معرفتهم لأفكار دوركهايم في مجال المجتمع والتربية وخاصة هذه التي يتضمنها عمل دوركهايم الرائد التربية والمجتمع» .

     كان دوركهايم كأي كلاسيكي مرآة شمولية لعصره وعقيدته، انعكاسا للمرحلة التاريخية التي عاشها ، وهي مرحلة الجمهورية الثالثة ، عصر التعليم العلماني ( Laique ) ، الذي ساد نظامنا التعليمي العام ، وعصر التطور الصناعي الكبير ، وهو العصر الذي شهدت فيها العلوم الانسانية عهد ازدهارها وتطورها.

     ونحن في رؤيتنا هذه إلى دوركهايم ننطلق من تصورات دوركهايم نفسه ، ومن خلال رؤيته المنهجية لأعمال المربين إذ يعلن بأنه ويجب أن لا نجعل من اعمالهم نماذج للمحاكاة ، بل أن ننظر اليها كوثائق تعبر عن روح العصر الذي وجدت فيه ، وهذا يعني أنه يجب علينا أن ننظر إلى أعماله التربوية كوثائق تعبر عن مرحلة هامة في تاريخ الفكر التربوي . ان

الصفحة 10

رؤيتنا الخاصة لنسبية آراء دوركهايم في المرحلة التي نعيشها تنسجم إلى حد كبير مع منظور دوركهايم إلى نسبية الأفكار وهو الذي لم ينقطع يوما عن التنويه إلى أهمية تطور المفاهيم والتصورات التربوية ، في مجرى العصور التاريخية ، تحت تاثير عوامل الحياة الاجتماعية بالدرجة الأولى . وإذا كانت النسبية المعرفية ، تشكل ، كما يبدو لي ، أحد مبدئين أساسيين لعقيدة دوركهايم التربوية، فإن المبدأ الآخر الذي تنطلق منه هذه العقيدة ، يتمثل في الأهمية التي يعطيها دوركهايم للضرورة الاجتماعية .

     لقد أبدى دوركهايم انتقادات أصيلة لمفهوم التربية التقليدي الذي يركز على الجانب الفردي في التربية ، وهو المفهوم الذي تبناه أسلافه ، والذي نجده عند كانت (Kant (وهيربارت (Herbart ) ، وستوارت ميل ( Stuart Mill ) وسبنسر ( Spencer ) .

    وعلى خلاف أسلافه جميعا ينظر دوركهايم إلى التربية بوصفها وشيئا اجتماعيا بالدرجة الأولى». وانطلاقا من ذلك، يعرفها بأنها تنشئة اجتماعية تمارسها الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة. أما بالنسبة إلى المدرسة، فإنها لا تعدو أن تكون، كما يراها، سوى عالما مصغرا عن المجتمع الذي توجد فيه . فالمجتمع كما يرى دوركهايم يكون في داخل الانسان كائنا آخر جديدا هو الكائن الاجتماعي». ولم ينقطع دوركهايم يوما عن تأكيد طروحاته هذه ومناقشتها وذلك كلما كانت تسنح له الفرصة. وهو في إطار مقولاته هذه يعلن الحرب على النظريات التربوية التقليدية التي كانت سائدة في عصره . وعلى الرغم من الانتقادات القوية التي وجهها اليه عدد كبير من معاصريه، فإنه استطاع ان يشق دروبا

الصفحة 11

جديدة في حقول التفكير التربوي .

     وغني عن البيان أنه لا يمكن لنا ، اليوم ، أن نجاري دوركهايم في ارائه كافة ، وبخاصة هذه التي يعلن فيها معارضته الشديدة لعلم النفس ، وفيما يخص بعض الأفكار التي تعود أصولها إلى أوغست كومت ( Comt ) ، والتي وجدت تطورها اللاحق على يد آلان ( Alain ) . كما أننا لا نشاطره الطريقة التي يعرف فيها البيداغوجيا ( Pedagogie ) بوصفها «نظرية تطبيقية أو صيغة غير محددة، على الرغم من التفسيرات التي يقدمها . ويضاف إلى ذلك كله أننا لا نوافقه النظرة الدونية التي يوجهها إلى الأدبيات التربوية التقليدية.

     ويجب علينا ، عندما نقرأ كتاب دوركهايم ، أن ندرك ان قمة تغيرات عميقة قد حدثت ، منذ اللحظات التي كتبت فيها هذه النصوص، وبخاصة السجل التاريخي المأساوي الذي يعكس آثار الحربين العالميتين الأولى والثانية ، هذا من جهة ؛ ومن جهة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار معطيات التطور المذهل الذي شهدته الانسانية وبخاصة في مجال الاقتصاد الصناعي الذي يتم دون توقف تحت تأثير الاختراعات التكنولوجية المتواترة من كل نوع ، والتي أدت إلى تحول عميق في شروط الحياة ومقوماتها .

     لقد حققت العلوم الانسانية ، التي أكد دوركهايم على أهميتها ، تقدما يفوق حدود التصور الانساني . وقد اتيح للصراع بين علم الاجتماع وعلم النفس، الذي كان دوركهايم أحد أبطاله ، أن يجد مخرجه اليوم . فعلم النفس، اليوم، ليس كما كان يعتقد دوركهايم بأنه «علم الفرد إذ يُعترف له ، اليوم ، يبعده الاجتماعي ؛ وعلم الاجتماع ،

الحلقة 12

بالمقابل ، ليس كما شاء دوركهايم ان يحدده بعلم الوعي الجمعي» او الوجود الجمعي» على سبيل المثال ، اذ يشهد عصرنا ، وعلى نحو مغاير لرأي دوركهايم ، نمواً كبيرا للعلاقة بين الطبيعة والثقافة بين الفردي والاجتماعي . لقد بدأ علم التربية) Pedagogie ) كأحد اتجاهات البحث العلمي ، يأخذ اتجاها يغاير ايضا رؤية دوركهايم : بدأت البيداغوجيا تتحول عن دراسة «الأوليات التاريخية وتتوجه لدراسة )ديناميكية) الجماعة ، وقياس المردود التربوي وذلك على أسس المناهج التجريبية المتقدمة .

      لقد تغيرت مفاهيم علم التربية Pédagogie في الوقت نفسه الذي تغيرت فيه رؤية الباحثين إليها. فالمناخ الفكري لم يعد هو نفسه أيضاً: فالقارئ، الذي اعتاد قراءة القديم، سيدهش عندما يقع على موازنات التفكير الحديث، وهي الموازنات التي حققت تطوراً متكاملاً، على المستوى المنهجي، والتي يمكن لها أن تبدو له شكلية بعض الشيء. وإذا كانت أخاديد الزمن تتناول الأعمال الكلاسيكية دون استثناء فإنه لا يسعنا وعلى الرغم من ذلك إلا أن نقول بأن عمل دوركهايم التاريخي يمثل في صيغته السوسيولوجية عطاء بالغ. الأهمية والخطورة في مجال الفكر التربوي، ولا تقل هذه الأهمية، ربما، عن هذه التي نجدها في مجال علم النفس الفرويدي. 

     ان عمل دوركهايم هذا يمثل ظاهرة هامة بدأ عصرنا الحالي يعيها على نحو متصاعد، وبخاصة أهمية ظواهر التنشئة الاجتماعية في مجالات الحياة كافة، والتي تتخلل الجوانب الفردية للحياة الانسانية. فالمكانة التي

الصفحة 13

يحتلها المفهوم المجمعي في الانظمة الماركسية يمثل دليلا قويا على اهمية ظاهرة التنشئة الاجتماعية. وبالتالي فإننا ندرك اليوم هذه الظاهرة بطريقة يجف بها الغموض وبخاصة فيما يتعلق بالتطور السريع الذي ينفذ في عمق حضارتنا الانسانية المعاصرة. وإذا كنا نخضع اليوم لتأثير التغير الدائم، فإن التربية التي نتبناها لاعداد الناشئة، يجب أن تأخد بعين الاعتبار أهمية مثل هذه الظاهرة. ويمكن لنا أن نقول هنا إن نظرة دوركهايم إلى حركة الزمن، تجسّد رؤية أصيلة فما كان بالأمس يعد تجديداً عقائدياً بدأ يتأصل فينا ويشكل منذ اللحظة جزءاً من إرثنا التربوي.

     إن السمة المميزة للمفكرين الكلاسيكيين هي انهم احتفظوا بأهمية الحضور الدائم، وذلك عبر معالجتهم لمسائل ما تزال تثير اهتمامنا وتشغلنا. وإذ يقول دروكهايم ان التحولات العميقة التي شهدتها المجتمعات الانسانية القديمة والتي تجتاح المجتمعات المعاصرة، تقتضي بالضرورة وجود تحولات عميقة مكافئة لها في اطار التربية القومية، ألا نجد في مقولته هذه مسألة تعنينا بشكل مباشر ؟ وعندما يضيف: «ولكننا عندما ندرك جيداً ضرورة احداث هذه التغيرات فإننا لا ندرك بشكل جيد ما يجب أن تكون عليه، فمن منا يستطيع أن يؤكد وجود حلول كافية لهذه المسألة حتى الوقت الحاضر ؟ والشيء نفسه ينسحب على معالجة دوركهايم للأزمة التربوية الخاصة بتعليمنا الثانوي، مشيراً إلى ضرورة التخصص ومخاطره في هذه المرحلة الدراسية، حيث يحاول أن يضع مسودة لمناهج تأهيل المعلمين. وهناك كثير من الموضوعات الأخرى الهامة التي عالجها في كتابه والتربية والمجتمع والتي تطرح نفسها علينا بإلحاح في العصر الذي

الصفحة 14

نعيش فيه.

    ان اعادة قراءة هذا الكتاب التربية والمجتمع، تكشف لنا اليوم بأن بعض أفكار دوركهايم التي تدهش إلى حد الصدمة في المرة الأولى - وهذا ما حدث لي في مرحلة الشباب - قد فقدت قدرتها على اثارة الدهشة والنفور، إذ أصبحت أفكاره مألوفة جداً بالنسبة لنا. لقد أصبحت طروحات دوركهايم، التي كانت غالباً مثيرة للجدل، وعلى الأخص الطروحات التي دافع عنها دوركهايم بقوة، طروحات مألوفة وواقعية بالنسبة لنا. وإذا كنا نعاود اليوم قراءة دوركهايم من أجل رؤية أفضل لتفكيره فإننا سنلمس نوعاً من الحكمة وقليلاً من الصعوبة التي تبقى تعبيراً عن عقلانية وتفاؤلية الكاتب. وإذا كنا نرغب في حوار مع أفكار دوركهايم التربوية، فإن دوركهايم، لن يكون، كمفكر كلاسيكي، معلماً طاغية تجب له الطاعة، بل صديقاً نستخلص منه النصيحة وذلك لأنه خير ناصح ومرشد.

                                                                                                                                               موريس دوبیس

Mourice Debesse                                        



مقدمة



عمل دوركهايم التربوي

 بقلم بول فركونيه  

Paul,Fauconne                                                                                                                                          

    على مدى حياته العملية كان دوركهايم يقوم بتدريس التربية وعلم الاجتماع في وقت واحد، إذ ترتب عليه أن يلقي محاضرة أسبوعية في التربية، في كلية الآداب في جامعة بوردو (Bordeaux)، منذ 1887حتى عام1902. وكانت غالبية طلابه من معلمي المرحلة الابتدائية على وجه الخصوص. ثم أتيح له الحصول على كرسي أستاذية التربية في الجامعة السوربون خلفاً للسيد فرديناند بويسون (Ferdinand Buisson) في عام1902. وحتى حين وفاته كان يخصص للتربية ما يقارب من ثلث وقته تقريباً، بينما كان يكرس الثلثين الآخرين لتدريس هذه المادة: محاضرات عامة، ومحاضرات خاصة بأعضاء التعليم الابتدائي، ومحاضراته لطلاب دار المعلمين.

     لقد قدر لعمل دوركهايم التربية والمجتمع أن يبقى تقريباً مجهولاً، حيث لم يستطع أي من طلابه أن يحيط كلياً بأبعاد هذا العمل. وانطلاقاً

الصفحة 17

من ذلك نسعى في محاولتنا هذه إلى تقديم صورة سريعة وموجزة حول عمله التربية والمجتمع». 

     لم يكن لدوركهايم أن يوزع وقته أو تفكيره بين نشاطين علميين متمايزين، والتوافق بين أعماله في مجال التربية وفي مجال المجتمع لا يعدو أن يكون سوى توافقاً اقتضاه منطق المصادفة العملية الخالصة. وذلك لأن دورکهایم عندما يعالج المسألة التربوية فإنه يتناولها بوصفها ظاهرة اجتماعية: لقد شكلت عقيدته التربوية عنصراً أساسياً في بنية تفكيره السوسيولوجي. وفي هذا الصدد يقول: «بوصفي عالم اجتماع ومن خلال علم الاجتماع أحدثكم عن التربية، وبعيداً عن التحيز والمواربة انني مقتنع بأنه لا يوجد منهج آخر أكثر كفاءة من منهج علم الاجتماع، في استجلاء حقيقة الأشياء وتحديد طبيعتها، فالتربية شيء اجتماعي بالدرجة الأولى». إذ توجد في كل مجتمع نماذج تربوية مختلفة تتعدد بتعدد الأوساط الاجتماعية المختلفة. وحتى في المجتمعات الديمقراطية، كمجتمعاتنا، والتي تسعى إلى اقصاء مختلف أشكال اللامساواة، فإن التربية تتباين، ويجب أن تتباين بالضرورة وفقاً لتباين السلم المهني والاجتماعي السائد، ومن غير أدنى شك، فإن تعدد النماذج التربوية في المجتمع ينطلق من مبدأ اجتماعي مشترك. وهو مبدأ يتباين أيضاً. من مجتمع لآخر. إذ يشتمل كل مجتمع على نموذج مثالي للانسان يمثل قطب المسألة التربوية ومحورها. حيث تمثل التربية في كل مجتمع «الوسيلة التي يعتمدها في اعداد الأطفال وفقاً للشروط الأساسية الخاصة بوجوده. وبالتالي فإن لكل شعب نظامه التربوي الخاص الذي يمكن له ان يحدد في الوقت نفسه ملامح بنيته الأخلاقية والسياسية والدينية ).

الصفحة 18

     وانطلاقاً من ملاحظة الوقائع يمكن تعريف التربية بأنها «الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد وذلك من أجل الحياة الاجتماعية». ويكمن هدف التربية في تنمية الجوانب الفيزيائية، والعقلية، والأخلاقية . عند الأطفال وتطويرها، وذلك على النحو الذي يحدده المجتمع السياسي بوصفه كلاً متكاملاً، ووفقاً للصورة التي يعلنها الوسط الاجتماعي الخاص الذي ينتمي إليه الأطفال. وباختصار شديد والتربية عملية تنشئة اجتماعية منهجية للجيل الجديد». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لماذا تكون التربية عملية ضرورية بحد ذاتها ؟ انها كذلك لأنه يمكن القول بوجود كائنين في داخل كل فرد منا، حيثتعمل التربية على ايجاد نوع من التوافق بينهما. إذ يشكل الجانب الفردي الخاص بذواتنا أحد هذين الكائنين، والذي يمثل حياتنا الشخصية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي. أما الآخر فهو نظام من ! و الأفكار المشاعر والعادات التي لا تعبر عن حياتنا الشخصية وانما عن حياة الجماعة أو الجماعات المختلفة التي ننتمي إليها، مثل العقائد الدينية والأخلاقية، والتقاليد القومية أو المهنية، والآراء الجمعية المشتركة من أي نوع كانت، والتي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي (Letre Social). وهنا يكمن هدف التربية وغايتها : أي في العمل على اعداد هذا الجانب الاجتماعي وتشكيله في نهاية الأمر.

فقدر الانسان ألا يكون إلا حيواناً من غير الحضارة والثقافة، وبالتالي فإن التعاون الاجتماعي والتقاليد الاجتماعية هي التي تتيح للإنسان انساناً. فالأخلاق واللغات والأديان والعلوم هي أ أعمال جمعية أن يصبح وأشياء اجتماعية. فالأخلاق هي التي تشكل في الانسان ارادته الداخلية،

الصفحة 19

التي تتجاوز به حدود الرغبة؛ واللغة هي التي تعطيه امكانية تجاوز النزعة الحسية الخالصة وتنتقل به إلى مستوى التفكير. وفي أحضان الأديان بادئ بدء ثم في أحضان العلوم، تكونت المفاهيم الأساسية التي أدت إلى خلق التفكير الخاص بالانسان والارتقاء به. وبالتالي فإن الكائن الاجتماعي لا يوجد كمعطى أولي في بنية الانسان الفطرية، بل يعود وجود ذلك الكائن إلى المجتمع الذي كوّنه وصقله وأودع فيه القوى الأخلاقية. فالطفل، عندما يدخل إلى الحياة، لا يحمل سوى طبيعته الفردية، والمجتمع يجد نفسه بالنسبة لكل جيل جديد، أمام صفحة بيضاء، ينبغي له أن يسجل عليها خطوطه من جديد. وهنا يتوجب على التربية أن توجد في كل كائن، يولد من جديد، كائناً آخر قادراً على المشاركة في الحياة الأخلاقية والاجتماعية. فالوراثة تمنح الخصائص الوراثية للكائن، والتي تضمن للحيوانات الدنيا حياتها العفوية الطبيعية، وهي تضمن، بالإضافة إلى ذلك للحيوانات التي تعيش في جماعات، نوعاً من الحياة الجماعية البسيطة، ولكن معطيات هذه الوراثة تصبح قاصرة عن تلبية مقتضيات الحياة الاجتماعية في اطار الجماعات الانسانية؛ وذلك لأن اكتساب السمات الاجتماعية الخاصة بالإنسان، والتي تميزه عن الكائنات الحية الأخرى، تتم بالطريقة الاجتماعية، وعلى التربية أن تقوم بتأدية هذه المهمة.

    ان هذا التصور السوسيولوجي حول الطبيعة ودور التربية يفرض نفسه بقوة حتى على هؤلاء الذين اعتادوا النظر إلى الأشياء وفقاً لمنطق لا يتوافق مع منطق الرؤية الموضوعية. ودوركهايم لا يتردد في النظر إلى هذا التصور بوصفه بديهية رئيسة. ولنقل نحن بدقة أكبر: انها حقيقة

الصفحة 20

معاشة. ونحن ندرك بوضوح عندما ننظر في التاريخ، ان التربية كانت في اسبارطا (Sparte) صورة من صور الحضارة اليونانية، وهي تهدف إلى اعداد الرجال الاسبارطيين. أما في عصر اثينا، وفي عهد بركلس، كانت التربية الأثينية تعبر عن الحضارة الأثينية، التي تهدف إلى اعداد الرجال وفقاً للصورة المثالية التي حددت اللانسان في : أثينا. ألا يمكن لنا هنا أن نتصور بأن مؤرخي المستقبل سينظرون إلى التربية الفرنسية في القرن العشرين كنتاج للحضارة الفرنسية، وانها كانت تسعى إلى خلق جيل من الناس على منوال الصورة المثالية للإنسان الذي حددته هذه الحضارة، وانها كانت تسعى أيضاً إلى ايجاد أناس من أجل فرنسا، ومن أجل الانسانية وفقاً للصورة التي حددتها فرنسا في اطار علاقتها مع الانسانية.

     لقد سجلت مثل هذه الرؤية الموضوعية الواضحة غياباً كاملاً خلال القرون الأخيرة من الزمن على وجه العموم. حيث كان يجمع الفلاسفة والمربون على النظر إلى أهمية الجانب الغردي في العملية التربوية. وفي هذا السياق يقول دوركهايم: إن هدف التربية، عند كانت (Kant)، وميل (Mill) وهيربارت Hebart)، كما عند سبنسر (Spencer)، هو قبل كل شيء تحقيق النمو الأمثل للملكات الفردية الخاصة بالنوع الإنساني، والعمل على ايصال هذه الملكات إلى أعلى درجة من الكمال الممكن». ولكن هذا التصور لا يتفق مع الحقيقة الواقعية، فالفلسفة الكلاسيكية كانت تتجاهل، دائماً، النظر إلى الانسان الواقعي في زمان ومكان محددين. ويمكن الملاحظة بأن هذه الرؤية تنطلق من مبدأ . التأمل الخالص في تحديدها لطبيعة الإنسان وأنها لا تعدو أن تكون سوى

الصفحة 21

نتاجا اعتباطيا لتامل يفتقر إلى المنهجية.

    فالتفكير السياسي في القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، الذي تميز بالنزعة الفردانية المنفصلة عن التاريخ، يبرر وجود الانسان بشكل مستقل عن ظروف حياته المحددة. وانطلاقاً من ذلك يتوجب اليوم على فلسفة التربية أن تحقق ذلك التقدم الذي حققته العلوم السياسية، في القرن التاسع عشر، تحت تأثير المرحلة التاريخية وتأثير الفلسفات التي استوحت وجودها من التاريخ، وهو تقدم يساير اتجاه مختلف العلوم الأخلاقية في نهاية ذلك العصر. فالتربية شيء اجتماعي: وهذا يعني أنها تضع الطفل في حالة اتصال مع مجتمع محدد. وإذا كانت هذه الفكرة صحيحة فإنها لا تقتضي نوعاً من التفكير التأملي حول التربية فحسب، وانما يجب أن تؤثر في النشاط التربوي نفسه. وفي الواقع كان تأثير هذه الفكرة، التي تعرضت للنقد والهجوم بشكل مباشر، كبيراً جداً. لتتفحص معاً هنا بعض أشكال النقد التي ظهرت عندما أعلن دوركهايم أطروحته هذه.

    في البداية يمكن الاشارة إلى الاحتجاج ذي النزعة الشمولية أو الانسانية، والذي يتهم علم الاجتماع بأنه يشجع النزعة القومية الضيقة ويضحي بالمصلحة الانسانية لصالح الدولة أو لصالح النظام السياسي. لقد جرت العادة، أبان الحرب على المقابلة بين التربية الجرمانية والتربية اللاتينية، والنظر إلى الأولى بوصفها نوعاً من التربية القومية الخالصة التي تكرس نفسها لخدمة الدولة، وإلى الثانية بوصفها تربية حرّة انسانية. لقد قيل إن التربية تعدّ الطفل من أجل الوطن ولكنها من غير شك تعدّه من أجل الانسانية. وباختصار كان هناك تعارض بين هذه المفاهيم :بين

الصفحة 22

التربية الاجتماعية والتربية الانسانية، وبين المجتمع والانسانية.

      لقد استطاع منطق دوركهايم أن يتعالى على كل التعارضات من هذا النوع. إذ لم تكن لديه أبداً، بوصفه مربياً، أية نزعة لاعطاء الغايات القومية أهمية على حساب الغايات الانسانية للتربية. وهو عندما يقول أن التربية : «شيء اجتماعي، لا يسعى من وراء ذلك إلى اعداد برنامج تربوي: بل يعاين واقعاً اجتماعياً. وبالتالي فإن دوركهايم يأخذ مقولته هذه على أنه حقيقة، في كل مكان مهما تكن النزعة التي تهيمن هنا أو هناك. فالسمة الاجتماعية للنزعة الانسانية لا تقل أهمية عن هذه التي تتأصل في التكوين القومي. . فهناك حضارات تدفع مربيها إلى وضع مصالح الوطن فوق كل شيء، وحضارات أخرى إلى اخضاع الغايات القومية للغايات الانسانية أو إلى تحقيق التوازن بينهما. فالمثال التربوي العام غالباً ما يرتبط بحضارة تركيبية تسعى إلى تحقيق التوازن بين مختلف الجوانب. ولكل أمة في العصر الراهن نزعتها الشمولية واتجاهها الانساني الخاص الذي تجد فيه أصالتها. وفي هذا الخصوص يمكن لنا أن نتساءل، نحن فرنسي القرن العشرين، عن القيمة النسبية لواجباتنا الانسانية من جهة ولواجباتنا القومية من جهة أخرى؟ وكيف يمكن لهذه الواجبات أن تتعارض؟ وكيف يمكن لنا تحقيق المصالحة بينهما ؟ انها أسئلة نبيلة وصعبة في آن واحد. ولا يمكن لعالم الاجتماع أن يجيب عنها من وجهة نظر المصلحة القومية وبالتحديد كما يحدث في مجال التربية. وعندما يترتب على عالم الاجتماع أن يواجه هذه المسألة فإنه يخرج بأيدي فارغة. فالاعتراف بالخاصة الاجتماعية المميزة للتربية لا يعني على الاطلاق وجود حكم مسبق، كما هو الحال، عندما يتم تحليل القوى الأخلاقية التي تدفع المربي في اتجاهات مختلفة أو متعارضة.

الصفحة 23

     وهذه الاجابة تعارض أيضا انتقادات الفردانيين فدوركهايم يحدد التربية بوصفها تنشئة اجتماعية للطفل، وهذا بدوره يدفع بعضهم إلى التساؤل عن قيمة الشخص والمبادرة الفردية والمسؤولية، والكمال الخاص بالفرد. حيث توجد عادة المعارضة بين المجتمع والفرد، وبالتالي فإن أية عقيدة تتناول مفهوم المجتمع بشكل متواتر وكأنها قد أهملت قيمة الفرد وضحت به، وفي ذلك تقدير خاطئ.

    يتضمن كتاب دوركهايم الأول «التقسيم الاجتماعي للعمل» فلسفة للتاريخ. فوحدة الشخصية وتنوعها يتجلى كسمة للتقدم الحضاري وكسمة للإعلاء من شأنه الشخصية الانسانية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. لقد استطاعت هذه الفلسفة التاريخية أن تصل إلى المبدأ الأخلاقي التالي: تميّز وكن شخصاً. ولكن كيف ينظر إلى هذه المسألة في مجال التربية ؟ إذا كان بناء الشخصية يمثل هدف التربية، وإذا كان التعليم يسعى إلى تحقيق التنشئة الاجتماعية، فإنه يمكن لنا أن نستنتج مع دوركهايم بأنه يمكن تفريد الشخصية في اطار التنشئة الاجتماعية. تلك عقيدة هي دوركهايم. ويمكن لنا أن نناقش الطريقة التي ينظر من خلالها إلى التربية التي تنمي النزعة الفردية. ففي تعريفه للتربية يبدو مفكراً لا يتجاهل في أية لحظة أو يقلل من شأن الفرد أو قيمته. ويجب أن نلفت انتباه السوسيولوجيين أنهم يستطيعون أن يجدوا في تحليل دوركهايم للتربية أصالة تفكيره الذي يتناول فيه العلاقة القائمة بين المجتمع والفرد، ودور الأفراد والنخبة في تحقيق التقدم الاجتماعي.

     لقد واجهت واقعية دوركهايم، في نهاية الأمر، مقاومة تحت اسم المثالية. ويمكن أن يوجه اللوم إلى دوركهايم لأنه أهمل العقل وقلل من شأن

الصفحة 24

الجهود الانسانية الفردية، حيث يبدو وكأنه يدافع عما هو قائم، إذ كان لا مبالياً بما يجب أن يكون.

II                                                                                    

      تستجيب تعاليم دوركهايم في جملتها، لنزعة علمية عميقة في نفسه، وهي مطلب حيوي للروح العلمية ذاتها. حيث يبدي دوركهايم نفوراً حقيقياً إزاء التكوينات التي تتشكل اعتباطياً، وإزاء البرامج العملية التي تعبر عن اتجاهات ونزعات الذين يقومون باعدادها. وهو هنا يؤكد أهمية الحاجة إلى التفكير في المعطى الواقعي، وفي الحقيقة القابلة للملاحظة، في ما يطلق عليه شيئاً». فهو يعد الظواهر الاجتماعية بمنزلة الأشياء وتلك هي القاعدة الأولى في منهجه. وعندما يتحدث عن الموضوعات الأخلاقية فإنه يتحدث عنها كأشياء؛ وهو لا يتوقف في فنه هذا عند ذلك الحد، بل ينظر إلى الأشياء الروحية، غير المادية، بوصفها أشياء، هو لا يقتصر في تحليله على تناول المفاهيم بل يعالج الحقائق. فالتربية شيء، وبعبارة أخرى ظاهرة اجتماعية، وهي ظاهرة توجد في كل مجتمع، وتتوافق مع تقاليده وعاداته ومع أنظمته الصريحة أو الضمنية، وذلك في اطار محدد من المؤسسات التي تخضع لتأثير نظام من الأفكار والمشاعر الجمعية. ففي فرنسا في القرن العشرين، يوجد مربون يقومون يخضع بالعمل التربوي، وأطفال يتلقون التربية، ويمكن لذلك كله أن للدراسة والتحليل. 

     فعلم التربية (Science de L’éducation) يسعى إلى معرفة التربية (Education)، وهو لا يتداخل مع النشاط الانفعالي للمربي أو مع نظرية التربية (Pedagogie) التي تقوم بتوجيه النشاط التربوي. وتشكل التربية

الصفحة 25

موضوعاً لعلم التربية: ونعني بذلك بأنه لا يسعى إلى تحقيق الغايات نفسها التي تسعى إليها التربية، بل وعلى خلاف ذلك، انه يقترح هذه الغايات، وذلك لأنه يلاحظها. 

     ولا يعترض دوركهايم أبداً أن يشكل علم النفس ركيزة لعلم التربية بالمعنى الواسع للكلمة. إذ يمكن لعلم النفس، وحده، باستناده إلى البيولوجيا والطب أن يدرك لماذا يحتاج الطفل إلى التربية، وما الذي يميزه عن الراشد، كيف يتشكل وكيف تنمو أحاسيسه، وذاكرته، وانتباهه، وتصوراته، وتفكيره وسماته وشخصيته وارادته. وعلم نفس الطفل الذي يرتبط بعلم النفس العام، يتكامل مع علم النفس التربوي، ويمثل أحد الاتجاهات التي يمكن من خلالها للعلم أن يباشر التربية بالدراسة.

ومثل هذه الفكرة أصبحت معروفة على وجه العموم.

     ولكن علم النفس لا يمثل سوى أحد طريقين ممكنين للوصول إلى ذلك. ومن ينطلق من علم النفس وحده يجازف بأنه يتناول التربية من جانب واحد. لأن علم النفس لا يمتلك بمفرده الكفاءة الضرورية، ليس فيما يتعلق بماهية الطفل الذي يتلقى التربية وطريقته الخاصة في تمثل المعرفة، ولكن عندما يتعلق الأمر بطبيعة الثقافة التي تعمل التربية على تحويلها، والأداة التي توظفها من أجل هذه الغاية. حيث يلاحظ على سبيل المثال، ان هناك أربع أنواع من التعليم في فرنسا في القرن العشرين هي: التعليم بين الابتدائي، والثانوي، والجامعي، والتقني. وبالتالي فإن العلاقات القائمة، يـ هذه المستويات، تختلف في فرنسا، عنها في ألمانيا أو في بريطانيا أو في الولايات المتحدة الأمريكية. فاللغة الفرنسية الكلاسيكية هي اللغة السائدة في مجال التاريخ وفي مجال العلوم، ولكن لغة التعليم التي كانت

الصفحة 26

سائدة في القرن السادس عشر كانت اللغة اللاتينية بخاصة، والاغريقية على وجه العموم. ويجري التعليم في فرنسا، اليوم، وفق الطريقة الحدسية التجريبية، كما هو الحال في الولايات المتحدة الامركيبة، ولكن التربية في العصور الوسطى كانت ترتكز على مبدأ الكتاتيب المدرسية. فالمؤسسات المدرسية والمناهج والأنظمة المدرسية هي ظواهر اجتماعية بالدرجة الأولى. ويضاف إلى ذلك أن الكتاب بحد ذاته يمثل ظاهرة اجتماعية وبالتالي فإن التعلق بالكتاب أو انعدام ذلك مسألة تتعلق بأسباب اجتماعية. وهنا بالذات لا يمكن لعلم النفس أن يساعد على ادراك ماهية الظواهر التربوية. ولذلك فإن التربية البدنية والأخلاقية والعقلية، لمجتمع ما، في لحظة ما، من تاريخه تشكل مسألة سوسيولوجية بالدرجة الأولى.

     ومن أجل دراسة العملية التربوية كمعطى للملاحظة، يجب على علم الاجتماع أن يتعاضد مع علم النفس. وفي هذا السياق فإن علم التربية يشكل علماً اجتماعياً. ومن هذا المنطلق يسعى دوركهايم إلى تشكيله. 

    ومن الجدير الاشارة إلى أن دوركهايم كان يشق طريقاً جديداً، تحت تأثير المنطلق الداخلي لتفكيره، حيث استطاع أن يكون رائداً لنظرية جديدة، وكان في ذلك مبدعاً ولم يكن مقلداً. إذ استطاعت نظريته أن تلقى انتشاراً واسعاً ، اليوم، لما تتميز به من غنى وخصوبة.

     وإذا كان مفهوم اجتماعيات التربية قد تجلى في ألمانيا باللفظة الألمانية (Sodapadagogik) فإن ذلك المفهوم يأخذ في امريكا اللفظة (Educationnal Sociology) وهو مفهوم يشير إلى الاتجاه السابق نفسه. ولكن تحت تأثير هذه الكلمات تداخلت أشياء متمايزة، فعلى سبيل المثال،

الصفحة 27

هناك توجه نحو الدراسة السوسيولوجية للتربية كما نجده بشكل واضح عند دوركهايم، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى هناك مفهوم النظام التربوي الذي يتجه نحو بناء الانسان واعداده للحياة الاجتماعية أو اعداد الانسان المواطن، كما يراه كيرشنستاینر (Kercschensteiner). ويلاحظ في هذا السياق أن هناك تداخلاً كبيراً بين المفهوم الامريكي علم الاجتماع التربوي (Educational Sociology (مع مفهوم الدراسة الاجتماعية للتربية (Laude sociologique de L’éducation)، وفي الوقت نفسه يبرز ذلك التداخل مع مفهوم ادخال علم الاجتماع كمادة تعليمية للتدريس في الصفوف التعليمية. لقد حدد دوركهايم علم التربية (Science de L’éducation على نحو بالغ الوضوح، بانه علم اجتماعي. إن ما يعنيه دوكهايم بالبيداغوجيا (Pedagogie) ليس نشاطاً تربوياً أو علماً تأملياً بل ما يعنيه بالبيداغوجيا، هو تأثير الجانب الثاني (التأمل) في الجانب الأول النشاط، وهذا يعني أن المهمة الأساسية للتأمل الفكري تكون في عملية البحث التي تجري في اطار معطيات علم النفس وعلم الاجتماع، عن المبادئ الأساسية للسلوك الانساني، من أجل الاصلاح التربوي. والبيداغوجيا، وفقاً لذلك التصور، يمكن أن تكون مثالية من غير أن تنتهي إلى مصائد الايتوبيا. 

     لقد تخلى عدد كبير من المربين الكبار ، عن الروح العملية، وذلك عندما أعطوا للتربية هدفاً لا يمكن تحقيقه، وعندما تم اختياره بشكل اعتباطي، وعندما طرحوا اجراءات اعتباطية أيضاً لتحقيقه. ولا يقف دوركهايم عند حدود رفض هذا الاتجاه فحسب، بل كان متحفظاً في كل ما يتعلق بنموذجهم المطروح. فعلم الاجتماع يناضل هنا ضد خصومه

الصفحة 28

التقليديين الذين اعتاد أن يجدهم في مواجهته، وذلك على مستويات مختلفة أخلاقية وسياسية واقتصادية. لقد انطلقت الدراسة العلمية للمؤسسات من أسس فلسفة شكلية، والتي تزعم أنها تعد وصفات جاهزة تضمن للأفراد والشعوب من خلالها، الحد الأقصى من السعادة، وذلك من غير معرفة كافية للشروط الأساسية لوجودهم. وليس هناك أشد عداء للعادات الفكرية لعالم الاجتماع أكثر من القول دفعة واحدة مثل: انظر هكذا يجب أن تتم تربية الطفل، وهم بذلك يضربون صفحاً عن التربية التي يتلقاها فعلياً. فالظواهر المدرسية مثل الأطر المدرسية، والمناهج المدرسية، والتقاليد المدرسية، والعادات، والاتجاهات، والأفكار، وأفكار المعلمين، هي ظواهر يجب أن تخضع للدراسة السوسيولوجية، حيث يجب أن نكتشف لماذا تكون كما هي، دون أن تفكر أولاً في اجراءات تغييرها.

     وإذا كانت التربية في فرنسا تقليدية على نحو واسع، وغير مهيأة للتكيف مع الأشكال التقنية للمناهج المعنية، وإذا كانت هذه التربية تولي أهمية للقدرات الحدسية والفطنة ومبادرة المعلمين، وإذا كانت تكرّس مبدأ التطور الحر عند الأطفال، فإن ذلك كله يشكل ظاهرة اجتماعية، لها أسبابها. وهي في النهاية تستجيب بدرجة كبيرة لشروط وجود المجتمع الفرنسي. ان نظرية التربية (Pedagogie)، التي تستلهم علم الاجتماع، لن تجعل من نفسها منافحاً عن نظام ،مغامر، أو تتبنى اجراءات تربوية للطفولة تتعارض مع قانونية نموها العفوي. وانطلاقاً من ذلك يمكن أن تسقط اعتراضات المفكرين الكبار الذين يرفضون مبدأ المعارضة بين البيداغوجيا (Pedagogie) والتربية (Education).

الصفحة 29

    ولكن ذلك لا يعني بأن التأمل العلمي يتصف بالعقم، أو أن الواقعية نتاج للنزعة المحافظة، التي تنزع إلى قبول كل ما هو قائم. وذلك لأن المعرفة تمكن من التنبؤ وتعطي امكانية الفعل كما يقول اوغست كومت في مجال العلم الوضعي. فعندما تكون لدينا، في واقع الأمر، معرفة جيدة بطبيعة الأشياء فإن فرص استخدامها بشكل فعّال تكون أكبر على المستوى العلمي. وعندما يقوم المربي بمعالجة الأطفال فإنه سيكون أكثر قدرة على التحكم، إذا كان يعرف بدقة طبيعة الطفل. وهذا يعني أيضاً أن علم النفس يشتمل على اجراءات تطبيقية وان علم التربية يقوم بتشكيل القواعد والمبادئ الأساسية للعمل التربوي وتهيئتها.

    وذلك ينسحب على علم اجتماع التربية الذي ينطوي على مجالات عملية وتطبيقية متعددة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا . ما المبدأ هو الذي تقوم عليه العلمنة في مجال التعليم (Laicisme)؟ وعلى ماذا تقوم الاخلاق؟ وما أسبابها؟ وما مصادر المقاومة التي تعترض ذلك؟ وما الصعوبات التي تواجه التربية عندما تحاول أن تنفصل عن التربية الدينية؟

    ان هذه الأسئلة تطرح اشكالية سوسيولوجية خالصة، وهي اشكالية تواجهها المجتمعات المعاصرة. إذ كيف يمكن للدراسة غير الموضوعية ان تحدد الأسس التربوية التي يتوجب على المعلم الفرنسي، في القرن العشرين ان ينطلق منها في اطار عمله التربوي ؟ ألا يمكن الملاحظة بأن الأزمات الاجتماعية والصراعات الاجتماعية تقف خلف هذه الظاهرة، وهذا لا يعني أنه يجب التوقف عن ايجاد المخارج والحلول المناسبة، أو الاعتقاد بأن المؤسسات التربوية مؤسسات لا حياة فيها اطلاقاً، أو أنها

الصفحة 30

الثقافة القائمة غير قابلة للتغير الموجه أو العفوي. ان العمل على تكييف هذه المؤسسات مع أدوارها المحددة، وتحقيق التكيف والانسجام فيما بينها من جهة، ومع من جهة أخرى، يمثل مجالاً واسعاً لعمل سياسي عقلاني. وإذا كان الأمر يتعلق ، بالمؤسسات التربوية، لا بد من ايجاد تربية عقلانية، غير محافظة أو ثورية فعالة في اطار حدود يكون فيها الانسان فاعلاً.

      وفي هذا الاطار يمكن استلهام الاتجاهات المثالية والواقعية. حيث يسجل المثاليون وجوداً فعلياً. ففي فرنسا المعاصرة، على سبيل المثال، يوجد نموذج مثالي للذكاء، وهناك نموذج آخر للذكاء يطرح من أجل الأطفال. ولكن هذا النموذج المثالي يتصف بالتعقيـد والـتـداخـل. والاعلانات، التي تسعى للتعبير عن النموذج، لا تعبر عن وجه واحد في كل منها، أو عنصر من عناصر هذه الصورة المثالية، وهي عناصر تتعلق بالانتماء والعمر، والتوجهات المختلفة المتكاملة، التي يتمثل بعضها في النزعات الاجتماعية، وبعضها الآخر في نزعات مختلفة أو متعارضة. 

    وليس من الصعب اخضاع هذا النموذج المثالي المعقد للذكاء للتحليل كشيء اجتماعي. وهذا يعني تحليل العناصر المكونة له، وتحديد طبيعة كل منها وأسبابها، والحاجات التي تتوافق معها. ولكن الدراسة الموضوعية لهذه المسألة يمكن أن تقدم خيارات أفضل، إذ يمكن للإرادة العقلانية هنا أن تسجل حضورها، لتوجيه مختلف مناهج التعليم القابلة للملاحظة، وارشاد القوانين الناظمة لعملية تطبيق هذه المناهج المختارة. ويمكن لنا أن نكرر الشيء نفسه فيما يتعلق بالتربية الأخلاقية وبالمسائل والاشكاليات الأكثر عمومية.

الصفحة 31

وباختصار، يوجد أمام الرأي العام والمشرعين والاداريين والآباء، والمعلمين في كل لحظة خيارات للعمل، تتعلق بالإصلاحات الشاملة للمؤسسات، أو خيار للعمل على دفع مسيرتها يوماً بعد يوم. وفي اطار معالجة اعتباطية كالوسط الاجتماعي، والعادات والتقاليد والنزعات الاجتماعي السائدة. وهذا يعني أن التربية (Pedogogie) والمرهونة إلى حد كبير بعلم الاجتماع معنية بالتحضير العقلاني لتحديد هذه الخيارات.

    وفي هذا الصدد يعطي دوركهايم، ليس بوصفه عالماً وانما بوصفه مواطناً، أهمية كبرى للتصورات العقلانية الخاصة بالفعل، وهو بذلك كان معادياً للنزعات الاصلاحية المضطربة التي تشوش دون أن تؤدي إلى التطوير، وخاصة هذه الإصلاحات السلبية التي تدمر دون أن تطرح البديل. وهو إذ ذاك فإنه يولى الفعل أهمية خاصة. ومن أجل أن يكون الفعل خصباً، كان يريد له أن ينطلق من دائرة الممكن، والمحدد، في اطار الظروف الاجتماعية، التي يباشرها. كانت تعاليم دوركهايم الموجهة إلى المربين مشحونة بالنزعة التطبيقية الفورية. ولأنه كان منهمكا في اجراء أبحاث ميدانية متعددة، لم يكن لديه متسع من الوقت لاجراء ابحاث تأملية حول التربية. ولقد كانت دروسه ومحاضراته مضمخة بالروح العلمية المنهجية، وخاصة في معالجته لمختلف المسائل والصعوبات التي كانت تواجه المربين في اطار ممارساتهم التربوية في المجتمع الفرنسي المعاصر.

III                                                                                    

    لقد ترك دوركهايم مخطوطاً كاملاً يتضمن ثماني عشرة محاضرة حول التربية الأخلاقية في المدرسة الابتدائية. وسنقدم فيما يلي صورة عامة

الصفحة 32

لهذه المحاضرات. تتضمن المحاضرة الأولى مقدمة حول الأخلاق العلمانية وتعريفاً بالمهمة الأخلاقية، التي يقوم بها المعلمون الفرنسيون المعاصرون. وهي بالنسبة لدوركهايم تربية أخلاقية علمانية عقلانية. ومثل هذه النزعا العلمانية أمر يقتضيه منطق التطور التاريخي في فرنسا، ومع ذلك فإنه مهمة صعبة ومعقدة جداً. وذلك لأن الدين والأخلاق كانا، عبر المتاريخ الحضارة، يشكلان وحدة عميقة ومتكاملة. ويترتب على ذلك صعوبة كبيرة في الفصل الضروري بينهما. وعندما نسعى إلى افراغ الأخلاق من مضمونها الديني، فإننا نعمل على تشويهها. وذلك لأن الدين يعير بطريقته الخاصة، وفي اطار لغة رمزية عن أشياء حقيقية. ولا يجب أن نهدر هذه الحقائق في أطرها الرمزية. بل يتوجب علينا المحافظة عليها في سياق علماني. فالأنظمة العقلانية، وخاصة الأنظمة غير الميتافيزيقية، تقدم صورة مبسطة عن الأخلاق وعندما ندرس هذه الأخلاق على المستوى ران السوسيوليوجي يمكن لنا استجلاء العمق العقلاني للأخلاق، الذي ينفصل عن الدين والميتافيزياء. وهي أخلاق علمانية في غاية التعقيد، تتصف بالغنى، وذلك في اطار علاقتها مع الأخلاق الدينية التقليدية، وخاصة عندما يتم التوجه نحو المصادر الأساسية التي تضفي على هذه الأخلاق سماتها الحيوية.  

     ويمكن تصنيف المحاضرات اللاحقة لدوركهايم في مجموعتين متمايزتين. وهي تجسد، إلى حد ما ، الاسهام الذي يقدمه علم الاجتماع لعلم التربية من جهة والمعطيات التي يقدمها علم الاجتماع إلى علم النفس من جهة أخرى. ويركز المحور الأول لهذه المحاضرات على دراسة الأخلاق بحد ذاتها وخاصة الثقافة الأخلاقية التي تنقلها التربية إلى

الصفحة 33

الأطفال وفق اتجاهات التحليل السوسيولوجي. أما الجانب الثاني فإنه يتمحور حول دراسة طبيعة الطفل الذي يستبطن النظام الأخلاقي القائم، وهنا يلعب علم النفس دوراً أكثر أهمية.

      وتعد المقاله الثانية التي كرسها دوركهايم لدراسة الأخلاق من أكثر أعماله نضجاً وتكاملاً في هذا المجال. وقد استطاعت يد الموت أن تختطف دوركهايم في الوقت الذي كان يحرر فيه مقدماته المعدة للنشر حول حول الأخلاق، وهي تتجانس مع أفكاره التي ظهرت في أعماله حول مذكراته في فلسفة المجتمع الفرنسي، وذلك في الفصل الخاص الذي كرسه لتحديد الظاهرة الأخلاقية. وهنا لم يتح له أن يعالج مختلف الاتجاهات الأخلاقية، حيث اقتصرت دراسته على تحديد السمات العامة للأخلاق، وذلك يكافئ ما يطلق عليه الفلاسفة والأخلاق النظرية». ولكن المنهج الذي يوظفه يطرح أشياء جديدة، كل الجدة، على الموضوع المطروح. 

     ويمكن الملاحظة في هذا الخصوص كيف يمكن لعلم الاجتماع يدرس الماهية الواقعية للعائلة والدولة والملكية الخاصة والعقد الاجتماعي. ولكن عندما يتعلق الأمر بدراسة مسألة الخير والواجب فإن ذلك يتعلق بتصورات نظرية خالصة حيث يظهر المنهج المستخدم كمنهج مجرد في هذا المجال. فدور التربية الأخلاقية، عند دوركهايم، يتمثل في اعداد الطفل لممارسة واجباته وتطوير بعض سماته الخاصة واحدة تلو الأخرى. ولكن هذه التربية تسعى أيضاً إلى تنمية الاستعدادات العامة للبنية الأخلاقية، والوضعيات الأساسية الكامنة في أصل الحياة الأخلاقية، ثم إلى اعداد النظام الداخلي الأخلاقي، الذي يهيئ الطفل للمبادرات الأخلاقية، والتي تشكل الشرط الأساسي للتطور. والسؤال المطروح هنا،

الصفحة 34

هو ما عناصر البنية الأخلاقية في فرنسا المعاصرة، والتي يشكل تحقيقها هدف التربية الأخلاقية على وجه العموم ؟ وهل يمكن وصف هذه العناصر وفهم طبيعتها وتحديد دورها وبالتالي فإن هذا الوصف يشكل نوى الأخلاق التي توصف بأنها نظرية . وفي هذا الصدد فإن كل فلسفة تسعى إلى تحديد هذه العناصر الأساسية بطريقتها الخاصة . ولكنها وفي اطار ذلك تعمل على بناء هذه العناصر أكثر من وصفها . ويمكن لنا أن نفعل الشيء نفسه ، ليس فيما يتعلق بنموذجنا الشخصي ، وإنما فيما يتعلق بالنموذج الأخلاقي المثالي لثقافتنا.

     إن دراسة التربية الأخلاقية تسمح لنا، في واقع الأمر، ادراك الحقائق التي تتوافق مع المفاهيم المجردة التي يعالجها الفلاسفة . ومثل هذه الدراسة الخاصة بالتربية الأخلاقية تتيح لعلم الأخلاق أن يصل إلى مستوى القدرة على ملاحظة ماهية الظواهر الأخلاقية ، في اطار سماتها الأكثر عمومية ، لأنه يمكن لنا ، في اطار التربية ، أن نلاحظ الجانب الأخلاقي ، في اللحظة التي يتم فيها تحويله ونقله ، وفي اللحظة الذي يتمايز فيه بوضوح عن الوعي الفردي ، وذلك في اطار التعقيد الذي يغلفه . ويصنف دوركهايم هذه العناصر الأساسية للظاهرة الأخلاقية في ثلاثة مستويات أساسية هي: روح النظام ، وروح التضحية ، وروح الاستقلال . ولا بد لنا في هذا السياق من تحديد المخطط الأساسي الذي يرسمه دوركهايم في تصنيفه لهذه المستويات الثلاثة الخاصة بالأخلاق. 

     تتمثل روح النظام، على نحو كامل ، في تذوق النظام والاحساس به ثم بوجود الرغبة والميل إلى احترام القانون، الذي يفرض نفسه على الأفراد ويسعى إلى كبت نوازعهم ودوافعهم. ولكن لماذا تقتضي الحياة

الصفحة 35

الاجتماعية تنظيم الجهود الانسانيه وتحديدها ؟ وكيف يتم قبول ذلك النظام ومتطلباته القسرية التي تتعارض مع ميل الأفراد إلى تحقيق السعادة ؟ إن الاجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن تبين حدود النظام الأخلاقي ووظيفته. ولا بد هنا من التساؤل حول قدرة المجتمع على فرض النظام وتحديده، ثم قدرته على تكوين نزعة احترام ذلك النظام في داخل الأفراد وهي نزعة تعزى إلى سلطة كلية سامية ؟ وفي الاجابة عن هذا السؤال يمكن تحديد طبيعة النظام وادراك أساسه العقلاني. والسؤال الأخير هو كيف يمكن للنظام أن يكون ولماذا يجب عليه أن يكون مستقلاً . عن الرمزية الدينية والميتافيزيائية ؟ وبالتالي كيف يمكن للنظام أن يؤدي إلى إجراء تغيرات في محتوى فكرة النظام نفسه، وذلك في سياق ما يتطلبه وما يسمح به ؟ وهنا يمكن لنا أن نحقق الربط بين وظيفة النظام وطبيعته، وبين الشروط العامة للثقافة السائدة والشروط الخاصة لوجودها حيث نعيش نحن. وفي هذا المجال يمكن لنا أن نبحث عن مدى احتواء الروح الفرنسية للنظام الأخلاقي، وما يجب أن تشتمل عليه، أو عن جوانب الضعف في روح النظام الأخلاقي. كما يمكن لنا أن نتساءل عن قدرة النظام التربوي القائم على تطوير الجانب العقلاني في النظام الأخلاقي السائد، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار السمات الأساسية الخاصة بالنظام التربوي القائم.

     ويمكن للتحليل القياسي (Symetrique) الذي يجري حول روح التضحية أن يقدم اجابات عن أسئلة عديدة: نذكر منها ما روح التضحية ؟ ما وظيفتها ؟ وذلك من وجهة نظر المجتمع أو وجهة نظر الفرد ؟ ما الغايات التي يجب علينا نحن الفرنسيين أن نضحي من أجلها في القرن العشرين ؟ وما نسق التسلسل الهرمي لهذه الغايات وطبيعته ؟

الصفحة 36

وما مصادرها الأساسية وكيف يمكن أن تتجاوز تناقضاتها الداخلية ؟ ومثل هذه الأسئلة يمكن أن تنسحب على مسألة روح الاستقلال، حيث يلاحظ أن الدراسات الجارية حول روح الاستقلال تتسم بالغنى والخصوبة، ويعود ذلك إلى أن هذا الجانب يمثل احدى السمات الحديثة في مجال المسألة الأخلاقية، أو السمة المميزة للأخلاق العلمانية والعقلانية في مجتمعاتنا الديمقراطية. 

    تبدو لنا هذه التلميحات المختصرة كافية للاشارة إلى إحدى مبادىء التفوق الخاص بالتفكير المنهجي عند دوركهايم. الذي استطاع أن يحقق نجاحاً كبيراً في الاشارة إلى درجة تعقد الحياة الأخلاقية، ومدى غناها. وهو الغنى الذي ينطلق من التعارضات والتي لا يمكن لها أن تنتظم إلا جزئياً في سياق متكامل، وهو غنى لا يمكن لأي فرد مهما بلغت عظمته يطمح في احتوائه، وخاصة في درجة خصوبته العالية. كان دوركهايم، مثل كانت (Kant)، رجل ارادة ونظام قبل كل شيء. إذ ينظر إلى الجانب الأخلاقي نظرة احترام كانتية بدرجة عالية من الوضوح. لقد أراد أن يجعل من القسر الاجتماعي Contraint Social)) أحياناً الفعل الوحيد الذي يمارسه المجتمع على الفرد وكانت عقيدته الحقيقية شمولية لا حدود لها، ولا تضاهيها في هذا المستوى أية فلسفة أخرى. لقد بين دوركهايم على سبيل المثال، ان القوى الأخلاقية التي تمارس القسر على الفرد، وتغتصب طبيتعه الانسانية، تجعله في الوقت نفسه عاشقاً لها ومتيماً بها، وذلك من شأنه أن يحدد لنا طبيعة مفهومي الواجب والخير. وهنا يوضح دوركهايم ان النشاط الأخلاقي يوجه نحو تحقيق هذين المبدأين الأخلاقيين اللذين يشكلان الانسان ذا الحس الأخلاقي الذي يتميز بالحماسة


الصفحة 37

والاندفاع، والذي يميل إلى تطبيق صارم للقانون الأخلاقي. ويضاف إلى ذلك أن فلسفة السعادة والمتعة تحتل مكانهما في اطار الحياة الأخلاقية: إذ يقول دوركهايم في هذا الصدد يجب أن يكون هناك محبون للحياة والمتعة). ومما لا شك فيه أن التناقضات المتداخلة تذوب في اطار الغنى الذي تتميز به الثقافة الأخلاقية. هذا ويؤدي التحليل الفلسفي المجرد، إلى افقار النظام الأخلاقي، وذلك لأن الاتجاهات الفلسفية تحاول أن تستنتج فكرة الخير والواجب، وأن تحقق المصالحة بين مفاهيم الواجب والاستقلال. وهي في ذلك تحاول أن تستنتج على نحو منطقي بعض الأفكار البسيطة حول حقيقة بالغة التعقيد.

      ويعالج دوركهايم في الجانب الثاني من دروسه المسألة الخاصة بالتربية. وهو في اطار ذلك يقوم بتحديد العناصر الأخلاقية التي نسعى إلى غرسها عند الأطفال والأسئلة التي يطرحها في هذا السياق تدور حول طبيعة الطفل وامكانية تعلمه ثم حول مصادر التعلم والصعوبات التي تواجه المربين في عملهم التربوي؟ ويكفي لعنوان محاضراته أن يحدد لنا طبيعة ما يسعى إليه دوركهايم وخاصة في محاضرته النظام وعلم نفس الطفل وتحت هذا العنوان نجد عناوين فرعية مثل: النظام المدرسي: الثواب والعقاب»، ثم الايثار عند الطفل، وتأثير الوسط المدرسي على تكوين الحس الاجتماعي. وأخيراً التأثير العام للعلوم والآداب والتاريخ والأخلاق نفسها والثقافة الجمالية على بناء روح الاستقلال عند الأطفال. 

    ولا تعدو النزعة الاستقلالية أن تكون سوى موقف ارادي، يميل إلى قبول القانون بوصفه أمراً يقوم على أسس عقلانية. وهي تنزع إلى الاختيار الحرّ والمنهجي للقوانين والأنظمة الجاهزة، التي يتعلمها الطفل في

الصفحة 38

اطار المجتمع الذي يعيش فيه؛ والتي يجب عليه أن يرفض قبولها على نحو سلبي أو عفوي. إذ يجب عليه أن يتدرب على اختبارها واصطفائها واعادة تشكيلها من أجل التكيف مع شروط الحياة المتغيرة للمجتمع ! الذي يسعى إلى اكتساب عضويته. ويطلق على ذلك تسمية العلم الذي يعد الروح الاستقلالية. وهو العلم الوحيد الذي يجعلنا ندرك ما هو كامن في طبيعة الأشياء الفيزيائية والأخلاقية، وأن ندرك الثابت والمتحول والطبيعي وحدود الأنشطة الفاعلة القادرة على تطوير الطبيعة الفيزيائية والأخلاقية. وفي هذا السياق فإن أي تعليم ينطوي على بعد أخلاقي، حتى العلوم التي تبحث في الفلك، والعلوم التي تبحث في الانسانيات خاصة مثل التاريخ وعلم الاجتماع. 

    إذ تؤكد التربية الأخلاقية، اليوم على أهمية التعاليم الأخلاقية، فإن دوركهايم يميز بوضوح بين أمرين متكاملين: إذ يتوجب على المعلم، في المرحلة الابتدائية، ان يضع الطفل في صورة المجتمع الذي يعيش فيه، كالأسرة، والتعاون والانتماء القومي والانتماء الثقافي الذي يجسد الوجود الانساني برمته؛ ويترتب على ذلك أن يعلم الطفل كيف تشكلت هذه الظواهر ؟ وكيف تحولت؟ وما الآثار التي تمارسها على الأفراد؟ وما الدور الذي يقوم به الفرد في اطارها؟

     ومن الجدير بالذكر في هذا الخصوص انه لا يوجد لدينا سوى مسودة أو مخطط لدروس دوركهايم في التعليم الأخلاقي في المرحلة الابتدائية . ومع ذلك فإن دوركهايم يبين للمعلمين الامكانات المتاحة هذه لوضع المعلومات في متناول الأطفال وخاصة هذه التعليمات التي أطلق عليها فيزيولوجيا الحق والأخلاق». هذا وقد خصص دوركهايم

الصفحة 39

الجزء الاكبر من أعماله ومحاضراته لدراسة عموميات علم الأخلاق.

IV                                                                                     

      تشكل التربية العقلية في المدرسة الابتدائية، موضوعاً لاحدى محاضراته، وهي محاضرة حررت كاملة وهي مكافئة لمحاضرته الخاصة بالتربية الأخلاقية. ويلاحظ أن دوركهايم كان أقل احساساً بالرضا: يبدو أنه قد وجد صعوبة في اعطاء هذه المحاضرة السوية المناسبة في اطار عمله. وذلك لأن النموذج العقلي لمجتمعنا الديمقراطي أقل تحديداً من النموذج الأخلاق. ويضاف إلى ذلك أن التحضير العلمي لدراسة المسألة كان أقل كفاءة، وأن المسألة المطروحة أكثر جدة.

     ويلاحظ هنا أيضاً وجود اتجاهين مختلفين: يتناول أولاهما الهدف المنشود بينما يباشر الآخر الأدوات الموظفة. وبينما يتطلب الاتجاه الأول تحديداً سوسيولوجيا للنموذج العقلي الذي يسعى مجتمعنا إلى تحقيقه؛ فإن الاتجاه الثاني يناشد معطيات علم النفس والمنطق، لتحديد المصادر، والمنطلقات، ونزعات المقاومة، التي توجد عند الطفل والتي تعترض المربي الذي يسعى لتحقيق هذا النموذج.

     ومن بين الدروس النفسية سنعالج هذه التي تتناول مسألة الانتباه إذ يمكن لذلك أن يقدم لنا تصوراً حول ما يمكن لدوركهايم أن يقوم به عندما يبحث في مجال علم النفس.

     يسعى دوركهايم، من أجل تحديد الهدف العقلي للتعليم الابتدائي، إلى دراسة أصول ذلك التعليم، وإلى تحليل طبيعته ودوره الخاصين. فالتعليم الابتدائي يجد مداً له في اطار التعليم الثانوي، ويتحدد، في بعض المعايير

الصفحة 40

بالمقابلة معه. وهنا يلجأ دوركهايم إلى تعاليم اثنين من كبار المربين وهما كومينيوس (Comenius) وبستالوتزي (Pestalotzzi) من أجل تحديد نموذجه الخاص بالتعليم. وكلاهما كانا يبحثان عن امكانية أن يكون التعليم موسوعياً وأساسيا دفعة واحدة وفي آن واحد. إذ يجب على التعليم الابتدائي أن يعطي فكرة عن كل شيء وأن يسعى إلى تشكيل الروح المتوازنة المتكاملة. وهذا يعني تشكيل العقل القادر على فهم الحقيقة في صورتها الشمولية، دون تجاهل أي عنصر أساسي من عناصرها. ويجب على ذلك التعليم أن يشمل الاطفال كافة دون استثناء، وأن يتيح لهم الوصول إلى مفاهيم مختصرة يقدر الاطفال على تعلمها بيسر وسرعة. وانطلاقاً من الانتقادات التي يوجهها دوركهايم إلى كومينيوس وبستالوتزي، يحاول تحديد نموذجه القابل للتحقيق. 

     وكما هو الحال في الجانب الاخلاقي، فإن المعرفة العقلية، عند الفرنسي المعاصر، تقتضي بناء جملة من الاستعدادات الاساسية داخل النفس الانسانية. ويطلق دوركهايم على هذه الاستعدادات مصطلح الفئات (Categories)، أو المفاهيم الأم (Notions Meres)، وهي المفاهيم التي تشكل ركيزة الادراك، كما تشكل أدوات التفكير المنطقي. ولا ذلك أن الفئات يعني الاشكال المجردة للتفكير، كمفهوم الجوهر والسبب فحسب، بل تشتمل على الافكار الغنية بمضامينها، والتي تسعى إلى تفسير الواقع القائم والحقيقة الراهنة مثل فكرتنا عن العالم الفيزيائي، وفكرتنا عن الحياة وفكرتنا عن الانسان وذلك على سبيل المثال. هذه الفئات ليست فطرية في النفس الانسانية بل فئات تكونت في سياق تاريخي، وعلى نحو متدرج في اطار تطور الحضارة والثقافة، وفي مجرى

الصفحة 41

التطور الذي شهدته علوم الفيزياء والاخلاق فالعقل الجيد هو العقل الذي ينطوي على افكار رائدة توجه الممارسات الفكرية، وتكون في حالة توافق مع العلوم الاساسية، كما هو حالها اليوم، فالعقل الذي يستطيع أن، يتغلغل في عمق الحقيقة كما نعرفها اليوم. ومن أجل بناء ذلك العقل علينا أن نعلم الطفل معطيات العلوم الاساسية، أو بالاحرى الأنظمة الأساسية، التي يمكن لها أن تبين أن هناك امكانية للتعاون بين الأدب والتاريخ، على سبيل المثال، من أجل تنمية الادراك.

     ويتفق دوركهايم مع كبار المربين في تساؤلاته حول ما يسمى اعتباطاً الثقافة الشكلية والتي تعني:  تشكيل العقل من غير حشو. وهذا يعني أن ما تفضي إليه المعلومات ليس على درجة كبرى من الأهمية. وإذا كانت عملية البناء والتكوين على هذه الدرجة من الأهمية، فإن نظرة دوركهايم إلى اعداد العقل تتميز بالاصالة والخصوصية، وهي تتعارض بوضوح مع وجهة نظر مونتين (Montaigne) كما تتعارض مع رؤية الإنسانويين (Humanistes). وذلك لأن عملية التحويل الثقافي التي يؤديها المعلم للطفل، الخاصة بالمعرفة الايجابية، ومدى تمثل الطفل للمادة التعليمية، يشكل عند دوركهايم الشرط الاساسي لاعداد عقلي حقيقي. ويمكن أن نعثر على مبررات ذلك في التحليل السوسيولوجي لادراك الطفل والذي يقدم نتائج تربوية هامة. فالذاكرة والانتباه والميل إلى حياة الجماعة عوامل فطرية عند الطفل، وهي عوامل تتطور بالتجربة، وعلى الخصوص في اطار الممارسة الفردية مهما يكن الموضوع الذي تباشره هذه الملكات الفطرية إن الافكار التي توجد في اطار الثقافة هي افكار جمعية، تحول إلى الطفل، والفرد لا يستطيع بمفرده أن يبدع هذه الأفكار،

الصفحة 42

وذلك يعني أنه لا يمكن للعلم أن يبدأ من نقطة البداية عبر التجربة الخاصة للفرد. والسبب في ذلك هو أن العلم شيء اجتماعي يتعلمه الفرد. إذ لا يمكن، أيضاً، لعملية التعلم هذه، أن تكون عملية نقل من فرد إلى آخر، بل إنها ترتبط بالفعاليات الذهنية القائمة حول العلم ومن خلاله. وفي كل الاحوال ومهما تكن الافكار الموجهة من حيث الشكل، فإنه لا يمكن أن تحول وهي فارغة من المعنى. يقول أوغست كومت، في هذا الخصوص، أنه لا يمكن لنا أن ندرس المنطق من غير المعرفة، أو مناهج العلم دون ادراك لاتجاهاتها، ولا يمكن التكيف مع روح العلم دون معرفة بعض نتائجه). وذلك هو حال دوركهايم الذي يعتقد بضرورة تعلم الاشياء واكتساب المعرفة؛ وذلك يمثل عملية تجريد تنبع من القيمة الخاصة للمعارف، لأن المعارف موجودة بالضرورة في الاشكال الخاصة بعملية الادراك.       

      ومن أجل ادراك الغاية التي يستمدها دوركهايم من هذه المبادئ، يجب الدخول في تفاصيل الجزء الثاني من محاضراته. إذ يقوم بدراسة العلاقة الجدلية لبعض المواد الاساسية مثل: الرياضيات، وفئات العدد، والشكل، والفيزياء ومفهوم الحقيقة ومفهوم الوسط الكوني، ثم التاريخ، والمفاهيم الخاصة بالتطور التاريخي. وفي مكان آخر يعالج دوركهايم مسألة التربية المنطقية عبر اللغة. وهو يعطي هنا نماذج فقط. وذلك لأن الأمر . هنا يقتضي تعاوناً وثيقاً بين المتخصصين من أجل متابعة المسألة في تفاصيلها الدقيقة الخاصة بالنتائج التعليمية للمبادئ المطروحة. 

     ومن الأمثلة التي يطرحها، دوركهايم في هذا السياق مفهوم الاستمرارية التاريخية. فالتاريخ هو تطور المجتمعات الانسانية عبر الزمن.

الصفحة 43

ولكن الزمن يتجاوز بلا حدود امکانات تصور الفرد الذي يعيشه. وبالتالي فإن التاريخ لا معنى له بالنسبة للفرد الذي لا يملك تصورات عن الاستمرارية الزمنية والتاريخية والعقل الجيد هو الذي يجب أن يدرك ذلك. والطفل لا يستطيع بمفرده أن يكون تصوره عن التاريخ والزمن، وذلك لأن احدى عناصر هذا التصور لا توجد في فطرته أو في ذاكرته الفردية. وهنا يتوجب عليه أن يحظى بمساعدة الآخرين. وتلك هي المهمات التي تقع على عاتق التعليم التاريخي. ولكن التعليم نفسه يقوم بهذه المهمة دون ارادة صريحة أو واضحة فالمعلم قلما يشعر بضرورة تحديد المراحل الزمنية أو بضرورة العمل المنظم أو بأهمية اعطاء هذه المسائل أهمية خاصة. يعطي الطفل، على سبيل المثال، معلومات عن معركة توليباك (Tolibiac). ولكن كيف يمكن للطفل أن يعطي لذلك التاريخ معنى محددا دون أن يملك تصوراً ما عن الماضي، حتى ذلك الماضي القريب الذي يبدو له صعباً على الادراك؟ فكل عمل ضروري لا بد له أن يجري وفق المراحل التالية: اعطاء فكرة عن عصر ما، والربط بين كل عصر وآخر، أو اعطاء فكرة عن المدة الزمنية لثلاثة أو أربعة أجيال؛ فعندما نتحدث عن العصر المسيحي يجب أن نشرح للطفل لماذا كان ميلاد السيد المسيح نقطة انطلاق التاريخ الذي يتحدد وفق نقاط محددة توصف بشخصيات تاريخية أو أحداث رمزية. إذ يجب أن نعد مخططاً أوليا ثم نعمل على تطويره تدريجياً، من أجل الوصول إلى عقدة المسألة. وبعد ذلك يجب أن نبين أن كل مرحلة تاريخية تأخذ منحى اصطلاحياً، وهذا يعني وجود مراحل تاريخية أخرى غير هذه المراحل تخص مجتمعنا. وإن بعض هذه المراحل التاريخية ما تزال في حكم المجهول بالنسبة للمؤرخين، وخاصة الملامح

الصفحة 44

الأولى لصيرورة بعض المراحل التاريخية. وكم هو قليل بيننا، هؤلاء الذين تعلموا من اساتذتهم دروساً في التاريخ، وفقاً للمبادئ التي نحن بصددها. إذ لا يمكن لنا إلا في حالات استثنائية، أن نقول إننا تعلمنا التاريخ بصور منهجية. إن احدى النتائج الاساسية التي يمكن استخلاصها من تعليم التاريخ، انه يحصل دون أن يدرك بشكل جيد ودون أن يكون مرغوباً. وبالتالي فإن التعليم الموجز للتاريخ في المرحلة الابتدائية، يجب عليه أن يسعى لتحقيق أهدافه المحددة بطريقة مباشرة، إذا كان يريد لنفسه أن يكون فاعلاً وايجابيا.

      وفي هذا السياق، يمكن القول إن تعليم القواعد والادب، هو التعليم الوحيد، حتى أيامنا هذه، الذي استطاع أن يدرك جيداً دوره المنطقي. فالمعارف التي يحولها تسعى إلى تكوين الادراك وذلك هو الدور الذي يقوم به إلى حد ما تعليم الرياضيات. وحتى في مجال الرياضيات كان الأمر يتعلق بتحويل المعلومات دون الاهتمام بالدور التربوي الخلاق الذي يمكن أن يلعبه في اعداد الاطفال. ويلاحظ هنا أن تعاليم دوركهايم التربوية تتقارب إلى حد ما مع تعاليم هيربارت) Herbart) وتجددها في الوقت نفسه. ويظهر ذلك في المكانة التي تحتلها نظرية دوركهايم بين الاتجاهات التربوية، التي استطاعت أن تلعب دوراً هاماً في تجاوز الصراع القائم بين التربية الشكلية والواقعية، وأن تتجاوز التعارض القائم بين المعرفة والثقافة. 

     وقد قدر أيضاً لهذه النظرية أن تقدم امكانية ايجاد الحلول للصعوبات التي يواجهها التعليم الابتدائي والثانوي، الذي يعاني من مسألة الطموحات الموسوعية والاحساس بالمخاطر والمجازفات التي يمكن أن تترتب على ذلك. حيث يلاحظ أن كل نظام أساسي ينطوي على فلسفة تربوية

الصفحة 45

مضمرة، وذلك يعني نظام من المفاهيم الاساسية والتي تلخص السمات الأكثر عمومية للاشياء كما نتصورها نحن، والتي تشتمل على معطيات تفسيرها. حيث تشكل الفلسفة حقاً، نتاجاً لعمل تراكمي عبر الاجيال، والتي يجب أن تحول للاطفال، لأنها تشكل منطلق الذكاء. وهنا يجب أن لا يتم الفصل بين مفهوم و الفلسفي ، ومفهوم «الأساسي» (Elementaire)، وذلك ، لأنه يجب على التعليم الأساسي أن يكون فلسفياً بالدرجة الأولى. ومن الطبيعي جداً، هنا، أن لا يكون ذلك التعليم الفلسفي تعليماً مجرداً. إذ يجب أن يتميز عن التعليم العائلي، ومن أجل أن يتميز عنه يجب عليه أن يستوحيه في الوقت نفسه.

     تتجلى التربية العقلية الأساسية في اطار نموذجين ، حيث يكون التعليم الابتدائي من أجل عامة الناس ، بينما يكون التعليم الثانوي من أجل النخبة أو الخاصة . فالتعليم الخاص بالنخبة هو التعليم الذي يطرح اشكاليات متداخلة في فرنسا المعاصرة . حيث ما زال التعليم الثانوي يعاني أزمته منذ قرن من الزمن ، والخروج من هذه الأزمة غير مضمون . إذ يمكن لنا أن نتحدث بدون مبالغة عن الاشكالية الاجتماعية للتعليم الثانوي . وتتمثل هذه الاشكالية في سياق من الأسئلة التي تطرح نفسها وهي : ما طبيعة ذلك التعليم وما دوره ؟ وما أسباب أزمته ؟ وعلى ماذا هذه تقوم الأزمة بالضبط ؟ وكيف يمكن لنا أن نتنبأ بحلولها ؟ ومن أجل الاجابة عن هذه الأسئلة يكرس دوركهايم احدى أفضل محاضراته في ه تطور التعليم الثانوي ودوره في فرنسا ) : وهي محاضرة قدمها مرارا عديدة، وترك لها مسودتين مكتوبتين . وقد قام باعداد هذه المحاضره

الصفحة 46

استجابة لطلب رئيس الجامعة ليارد Liard ، الذي قام للمرة الأولى بتنظيم دورة تعليمية خاصة بمدرسي التعليم الثانوي . وهو التعليم الخاص بالمرشحين لنيل أهلية التعليم في مجال العلوم والآداب .

    وكان هدف دوركهايم، في اطار هذه المحاضرة ، يتمثل في ايقاظ الحس المشترك ، عند الجميع بالمهمة المشتركة : وهو احساس ضروري من أجل تعليم يتميز بالهوية الواحدة. وبالتالي فإن المدرسين في التعليم الثانوي سيشعرون ، يوماً ما، بحاجتهم إلى التفكير المنهجي في طبيعة المؤسسة التي يعملون من أجل احيائها وفي طبيعة دورها . وعندما تظهر هذه الحاجة فإن دروس دوركهايم ستكون بمثابة الموجه الأساسي والأفضل من أجل ذلك التفكير. ويقدر دوركهايم في هذا الصدد أن الأبحاث الجارية ، في هذا المجال غير كافية ، في محاور متعددة ، وخاصة فيما يتعلق بالوثائق التي تعتمد عليها . ويجب أن لا ننسى بأن دوركهايم لم يخصص لذلك العمل سوى عام أو عامين من العمل . وأن هذه الدروس التي عرضها تشكل نموذجاً فريداً ، يتميز بقدرته على التطبيق في مجال الظواهر التربوية وفي مجال المنهج السوسيولوجي . وهو النموذج الوحيد الكامل ، الذي تركه لنا دوركهايم، في مجال التحليل التاريخي لنظام المؤسسات المدرسية . 

    ومن أجل معرفة ماهية التعليم الثانوي الحالي في فرنسا ، يبين دوركهايم كيفية تشكله . . وهو التعليم الذي يبدأ ، في أطره العامة ، منذ مرحلة العصور الوسطى، التي شهدت ولادة الجامعات . حيث نشأ التعليم الثانوي في أحضان الجامعات ، ومن خلال التعليم الذي بدأ ينتشر في كليات الفنون الجميلة ومعاهدها . وبدأ يتمايز تدريجياً عن التعليم

الصفحة 47

الجامعي. ويوضح دوركهايم على أثر العلاقة التي تقوم بين التعليم الجامعي والتعليم الثانوي . إذ أن أحدهما يشكل بعداً للآخر ، فالتعليم الديالكتيكي ، كان في العصر الوسيط ، نوعاً من التعليم التحضيري العام ، وكان يمثل المنهج الشمولي الذي يشتمل على التعليم الشكلي والثقافة العامة التي تمنح في اطار نظام له طابع الخصوصية . وهو التعليم الذي كان يحتفظ ، في مجرى تاريخه، بالسمات العامة للتعليم الثانوي . وإذا كانت الأطر العامة للتعليم الثانوي قد تحددت في العصر الوسيط ، فإن النظام التربوي قد تغير في القرن السادس عشر ، وذلك وفق المنطق الذي حددته النزعة الانسانية الاغريقية اللاتينية . فالنزعة الانسانية ، التي يعود وجودها إلى عصر النهضة في فرنسا ، بدأت بالتحقق بفعل الجهود التي بذلها اليسوعيون في هذه المرحلة ، والذين تركوا عليها بصماتهم الأساسية . وذلك يعني أن النزعة الانسانية ، كما فهمها اليسوعيون ، ا كانت المعلم الأصيل للروح الكلاسيكية الفرنسية . ولم يكن لهذه النزعة أن تأخذ دوراً حاسماً ، في أي من البلدان الأوروبية ، كما كان هو الحال في فرنسا . ويلاحظ في سياق ذلك أن روحنا القومية تعبر ، في بعض جوانبها الأساسية، عن النزعة الانسانية. وينتج عن ذلك أيضاً أن اتجاهات أخرى بدأت تعلن عن نفسها منذ بداية القرن الثامن عشر ، وخاصة ، التربية التي يطلق عليها التربية الواقعية ( Pedagogic realiste ) . وهي التربية التي أدت إلى ظهور عقائد تربوية ، لم يكن لها تأثير مباشر في المؤسسات المدرسية . وقد ظهرت هذه العقائد مع ظهور المدارس المركزية، والتي شكلت نظاماً تربوياً جديداً كل الجدة ولكنه لم يستمر طويلاً .

الصفحة 48

    وفي القرن التاسع عشر بدأ الصراع بين النظامين حيث لم يستطع أحدهما أن يتغلب على الآخر ، ولم تتحقق المصالحة بينهما : بين النظام القديم والنظام الجديد. ونحن اليوم نبحث عنن مخرج نتجاوز فيه الصراع الدائر : وإذا كنا نحاول فهم تاريخ النظام التربوي وادراكه ، فإن ذلك من أجل ايجاد الحل الأمثل لهذه الاشكالية . وإذا كان التعليم التربوي يمثل ، على وجه العموم ، جانباً هاماً من التاريخ النقدي للعقائد التربوية ، فإن دوركهايم يعترف بأهمية دراسة هذه الظاهرة وضرورتها. وهي الدارسة التي طالما قام باجرائها . إذ يعطي دوركهايم مكاناً هاماً لدراسة العقائد التربوية في محاضرتين له حول التربية العقلية في مجال التعليم الابتدائي والثانوي : حيث يقوم بدراسة عقيدة كومنيوس ( Comenius ) وهي من بين العقائد التي حازت اهتمامه . لقد ترك دوركهايم مخططات وملاحظات شكلت تاريخ المبادىء الأساسية للعقائد التربوية في فرنسا ، وذلك منذ عصر النهضة . وقد قامت مجلة 

( الميتافيزيا والأخلاق » بنشر مقالاته حول (جان جاك روسو). وقام أخيراً بكتابة بحث كامل، على مدى عام كامل حول بستالونزي Pestalotzzi) وهير بارت (Herbart). وسنكتفي هنا بإبراز المنهج الذي استخدمه في دراساته هذه. 

    يميز دوركهايم في منهجه هنا بين تاريخ النظريات التربوية وتاريخ التربية نفسها . حيث يوجد خلط دائم بين الجانبين . ويميز في هذا السياق أيضاً بين تاريخ الفلسفة السياسية وتاريخ المؤسسات السياسية : وهو في هذا الصدد يطالب المربين بادراك جيد لتاريخ المؤسسات التربوية ، وعدم الوقوع في مصائد التداخل والخلط ، كما حدث لكل من روسو ( Rousseau ) ومونتين 

( Montaigne) .

الصفحة 49

وهو في كل مراحل عمله هذا يتناول العقائد التربوية بوصفها أشياء وظواهر اجتماعية . ويتناول أيضاً تربية الروح التاريخية ويخضعها للدراسة . وهو يتناول هذه المسألة بطريقة مختلفة عن عادته . وفي هذا السياق يعالج دوركهايم، على سبيل المثال، كتب (كابرييل كومبيري) Compayre-Gabriel) ) وهي كتب كلاسيكية في تاريخ التربية ، ومعروفة جيداً بالنسبة للمعلمين. وعلى الرغم من العناوين التي تأخذها هذه الكتب ، فإنها ليست كتباً في التاريخ . ولكنها تتضمن ، من غير شك ، بعض الفائدة . وهي تذكرنا ببعض التصورات التاريخية الخاصة بالفلسفة المسيحية ويبدو أن كبار المربين كرابليه ومونتين ورولان وروسو) يظهرون هنا كمساعدين لمنظر يريد أن يبني عقيدة تربوية. وينطلق ذلك الكاتب من المبدأ الذي يقول بوجود حقيقة تربوية خالدة ، ذات طابع شمولي كلي، وهو إذ ذاك يحاول أن يقارب بين جوانب هذه الحقيقة . وهو في هذا الخصوص يحاول أن يميز في أعمال المربين بين السيء والحسن ، من أجل الحصول على وصفات تربوية صالحة تساعد المعلمين على التخلص من أخطائهم وعلى تجاوز تناقضاتهم. ويكون ذلك عبر النقد الدوغماتي للتاريخ ، أو من خلال التمجيد أو التقريط الذي يوجه إلى شروحات الأفكار . وعلى خلاف ذلك فإن الحصيلة الباقية من العمل تخلو من القيمة والفائدة . وحصاد ذلك كله أنه لا يمكن لنا من خلال المواجهة بين نظريات الماضي الغنية بحدوسها المتداخلة ، والتي تفتقر إلى أسها العلمية أن نبني عقيدة تربوية تتميز بالخصوبة والتماسك. ومن هنا يصل دوركهايم إلى نتيجة أساسية هي : أن المربين من النسق الثاني يتميزون بسمة الانتقائية والبساطة وانحدار المستوى العقلاني ،

الصفحة 50

وبالتالي فإنهم لا يستطيعون مواجهة النزعات النقدية كما هو حال منظري النسق الأول . إن حكمة رولانRollin) ) تتعارض إلى حد كبير مع شطحات روسو ( Rousseau ) . وهذا من شأنه أن يدعو إلى الافتراض بأنه لو كانت التربية علماً فإن تاريخها سيكون على درجة من الغرابة ، لأن العبقرية كانت ستقودها إلى المغالطات والبساطة التي تظهر في دروب الحقيقة.

     كان دوركهايم يعتقد بأنه يمكن استقصاء الحقيقة عبر حوار نقدي، كما يمكن عبر ذلك استجلاء عناصر الحقيقة التي تكمن في عقيدة ما . هذا وفي مقدمته لكتاب هاملين (Hamelen) حول ( نظام دیکارت Descarte)، يعد دوركهايم نموذجاً منهجياً للتفسير، يتميز بأنه تاريخي ونقدي في ان واحد . وقد قام بتطبيق ذلك المنهج في دراسته لكل منا بستالونزي (Pestalotzzi) و هيربارت (Herbart). وهما المربيان اللذان حازا على اعجاب ،دورکهایم لما تمیز به تفكيرهما من غنى وأصالة. وعلى الرغم من ذلك فإن دوركهايم كان يتساءل إذا كان أحدهما قد اقتبس أفكاراً يعتقد بأنها تعود للمفكرين الأوائل. ولكن مهما تكن قيمة أفكارهم العقائدية، فإن دوركهايم يحاول أن يكتشف في عقائدهم دلالة القوى الاجتماعية التي تحرك النظام التربوي، أو التي تعمل على تغييره. ان تاريخ علم التربية لا يتطابق مع تاريخ التربية وذلك لأن المنظرين لا يعبرون بدقة عما يجري في واقع الأمر. ولكن الأفكار نفسها تشكل ظواهر حقيقية، حتى اللحظة التي تكون فيها صدى للوقائع الاجتماعية. ان النجاح المعجزة الذي حققه جان جاك روسو في اميل (Emile) يعود إلى أسباب أخرى غير عبقرية روسو: لقد استطاع الكتاب أن. يعبر عن

الصفحة 51

اتجاهات متداخلة في فعالية المجتمع الأوروبي في القرن الثامن عشر. لقد كان هناك مربون محافظون كرولان(Rollin) الذي استطاع أن يعكس في أفكاره التربية المسيحية أو التربية الجامعية للقرن السابع عشر. وعندما تتعرض العقائد التربوية الكبرى للذوبان في مراحل الأزمات، فإن مربين ثوريين يقومون بترجمة الواقع الاجتماعي، وذلك أمر جوهري بالنسبة للملاحظ الذي يحاول أن يدرك ذلك جيداً. ومثل ذلك الواقع لا يدرك بشكل مباشر : طموحات نماذج مثالية في طور التشكل، وثورات تندلع ضد المؤسسات التي أصبحت فاسدة ومن هذا المنطلق قام دوركهايم بدراسة الأفكار التربوية لعصر النهضة وميز بينها بدرجة أفضل، من الأعمال السابقة له، وذلك في اطار الاتجاهين الكبيرين الذين تجاوزها، هذا الذي يتمثل في عمل را بليه (rabelais) والثاني الذي يتجسد في عمل ایراسم (Erasme) وذلك على الرغم مما يوجد بين الاتجاهين من تداخلات جزئية. هذا ويلاحظ أن عمل دوركهايم التربوي استطاع أن يحافظ في خطوطه الكبرى على تواصله وتكامله مع أعماله السوسيولوجية الأخرى. وهو العمل الذي يحمل في طياته عقيدة تربوية أصيلة متكاملة تغطي المسائل الأساسية لعمل المربين. أما بالنسبة للسوسيولوجيين فإن دوركهايم يستعرض في كتابه هذا، جملة من المفاهيم التي يبرزها في أعمال أخرى: كالعلاقة بين الأفراد والمجتمع، العلاقة بين النظرية والتطبيق، طبيعة الأخلاق وطبيعة التطور. ولذلك فإن المربين وعلماء الاجتماع نادوا بنشر ذلك العمل وجاهدوا من أجل طباعة دروسه الأساسية.

    ان الكتيب، الذي نستعرضه اليوم يؤدي لهم خدمات تمهيدية. ونحن هنا نقوم باعادة طباعة الدراسات التربوية التي قام دوركهايم شخصياً

الصفحة 52

بنشرها. ولذلك فإن الدراستين الأولى والثانية تمثلان اعادة طباعة مقالات دوركهايم حول التربية وعلم الاجتماع واللتان نشرتا في (القاموس التربوي الابتدائي( حيث قام ( Buisson) بنشرها عام 1911 . أما الدراسة الثالثة (الفصل الثالث) فتمثل المحاضرة الأولى الافتتاحية التي أ ألقاها دوركهايم عندما تسلم كرسيه في السوربون عام 1902 والتي ظهرت في مجلة الميتافيزياء والأخلاق ، في كانون الثاني عام 1903 ؛ وفي الدراسة الأخيرة يعرض لنا المحاضرة الافتتاحية من أجل المرشحين لنيل شهادة الأهلية (Agregation (في التعليم الثانوي والتي ألقاها في تشرين أول عام 1905 والتي نشرت في مجلة السياسة والآداب في العدد 20 كانون الثاني 1908 .

   ويلاحظ أن بعض الصفحات تحمل طابع الازدواجية حيث توجد في الجزئين الأولين للعمل استعارات نصية ثبتت في الجزء الثالث منه. ولقد وجدنا أن تنقيح هذه الصفحات يتطلب من المشقة أكثر من الصعوبات التي يقتضيها التكرار.

                           بول فوكونيه

PauL.Fauconnet                                                                                                                                                   

الصفحة 53



   الفصل الأول: التربية - طبيعتها ودورها<

1- تعريفات التربية :

رؤية نقدية :

     وظفت كلمة التربية Eduction قديماً، لتغطي دلالة تتصف بطابع الشمولية. وتشير إلى جملة التأثيرات التي تمارسها الطبيعة أو الناس في عقولنا وفي ارادتنا. وهي تشتمل على حد تعبير ميل (Stuart Mille) على كل ما نفعله نحن بأنفسنا، وكل ما يفعله الآخرون من أجلنا وذلك بهدف الاقتراب من تحقيق كمالنا الخاص بطبيعتنا. ويتضمن ذلك التصور على العموم جملة التأثيرات غير المباشرة، التي تؤثر في ملكات الانسان، وذلك بتوسط اشياء متنوعة من مثل القوانين، وأشكال الحكم، والصناعة، والظواهر الفيزيائية التي توجد بشكل مستقل عن ارادة الانسان مثل: المناخ، والتربة والوضعية الاجتماعية ومن البين أن ذلك التعريف يجمع بين أمور متناقضة إلى حدّ كبير، ولا يمكن لنا بسهولة أن نجمع بين هذه العناصر في اطار واحد دون أن نقع في مصائد التداخل. إن تأثير الأشياء في الناس يختلف لدرجة كبيرة عن التأثير الذي يباشره الناس في

الصفحة 55

الناس، وذلك في مستوى الوسائل كما في مستوى النتائج. وعلى المنوال ذاته، فإن تأثير المعاصرين في المعاصرين يختلف كثيراً عن تأثير الراشدين في الصغار. ويتوجب علينا في هذا المقام، أن نركز على أهمية الجانب الأخير من المسألة، أي على التأثير الذي يمارسه الكبار في الصغار حيث يمثل ذلك قطب اهتمامنا ومحوره. وذلك لأن كلمة تربية هي الكلمة الوحيدة المناسبة للدلالة على العلاقة بين الراشدين والصغار.

    ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما قوام ذلك الفعل التربوي الذي يمارسه الراشدون على الصغار ؟ الاجابات عن هذه المسألة عديدة ومختلفة جداً ويمكن تصنيفها في اتجاهين أساسيين.

     يكمن هدف التربية بالنسبة لكانت (Kant) في تحقيق صورة الكمال الممكن عند الفرد الانساني. ولكن ما الذي تعنيه كلمة الكمال (Perfection)؟ أنها كما تؤخذ في الغالب تعني عملية نمو متكاملة للملكات الانسانية وتنمية هذه الملكات والقوى التي توجد في داخلنا بشكل متوازن إلى خدودها القصوى، وذلك قدر الإمكان من غير أن يؤدي ذلك إلى الحاق الضرر ببعض منها. ولكن ألا يمكن أن يعد ذلك سعياً لتحقيق انموذج مثالي يصعب تحقيقه؟

    إذا كان تحقيق ذلك النمو المتكامل، ضرورياً ومرغوباً بصورة ما، فإن ذلك أمر غير ممكن على المستوى الواقعي، إذ يتناقض ذلك مع ناموس آخر للسلوك الانساني لا يقل أهمية عن غيره من القوانين: كهذا الذي يدفعنا للتضحية بأنفسنا من أجل غايات خاصة ومحددة. حيث لا نستطيع ولا يجب علينا أن نكرس أنفسنا لنمط واحد محدد أنماط من الحياة. فنحن نقوم، وفقاً لكفاءاتنا، بوظائف مختلفة، ويجب علينا أن نحقق

الصفحة 56

نوعاً من التوازن الضروري بينها وبين الوسط الذي يحيط بنا. فنحن لا نعيش من أجل التفكير فحسب، بل يجب أن يكون هناك أناس للفعل والعاطفة أيضاً وعلى خلاف ذلك، يجب أن يضطلع بعضنا الآخر بمهمة ا التفكير. وفي هذا السياق لا يمكن للتفكير أن ينمو ما لم يحقق انفصاله عن حركة الواقع، وما لم يحقق تواصله مع نفسه، وأن يبتعد الفرد الذي يهب نفسه للتفكير عن الانغماس في حركة الفعل الخارجي. وتلك هي حالة أولى من التمايز التي لا يمكن أن تتم دون الاخلال بالتوازن. وفي المقابل فإن الفعل كالتفكير يأخذ اتجاهات متعددة وتجليات مختلفة. من غير شك فإن التخصص لا يستبعد وجود أساس مشترك أو بعض التوازن العضوي والنفسي والذي من غيره لا يمكن الحياة الفرد أن تستقيم وذلك ينسحب على مسألة التكامل الاجتماعي. إذ لا بد من وجود توازن وظيفي نفسي-فيزيائي، والذي من غيره يمكن لصحة الفرد أن تعاني من الخلل، ومثل ذلك ينسحب على مسألة التوافق الاجتماعي. وهذا يعني فيما يعنيه أن التكامل المطلق لا يمكن له أن يكون الغاية الأخيرة للسلوك أو للتربية.

    وفي هذا السياق، فإن التعريف الهام الذي يحدد التربية بوصفها العمل الذي يهدف إلى تحقيق سعادة الانسان وسعادة الآخرين» يبدو لنا تعريفاً يفتقر إلى الكفاية الموضوعية. وذلك لأن السعادة شيء ذاتي في جوهره ولكل منا أن يقدر ذلك بطريقته الخاصة. ومثل ذلك التعريف لا يحدد لنا هدف التربية، وغايتها، أو التربية بحد ذاتها، وذلك حين يتركها لقدر المبادرة الفردية.

    لقد حاول سبنسر (Spencer) حقاً أن يعرف السعادة موضوعياً.

الصفحة 57

وهو يعتقد أن شروط السعادة هي شروط الحياة نفسها، فالسعادة الكاملة، بالنسبة له، هي الحياة الكاملة. ولكن ما الذي يحمله معنى الحياة نفسه؟ إذا كان ذلك يشير إلى شروط الحياة الفيزيائية فقط، فإن ذلك غير واف لأن الحياة السعيدة تتطلب وجود علاقة متوازنة بين العضوية والوسط الذي توجد فيه، ولأن المفهومين يوجدان في علاقة فإنهما معطيان قابلان للتحديد، وكذلك هو الحال فيما يتصل بدلالتهما. إذ لا يمكن لنا أيضاً في هذا الخصوص أن نعلن عن أولوية الضرورات الحيوية الأكثر فورية. فالحياة بالنسبة للانسان، وبخاصة لانسان اليوم، ليست هي الحياة المطلوبة التي يرغبها. فنحن نطلب من الحياة شيئاً آخر أكثر من تلبية احتياجاتنا العضوية. فالانسان المثقف يجد سعادته في اطار الحياة العقلية. ولكن من وجهة نظر مادية فإن كل ما يتجاوز حدود الضرورة يتجاوز حدود التعريف. إن أصالة الحياة أو معيارها كما يقول الانكليز هو الحد الأدنى الذي لا يمكن القبول بأقل منه ، ومثل هذا الحد يتغاير، بلا حدود، بتغاير الظروف والأوساط والزمن. فما كنا نراه بالأمس كافياً، يبدو لنا اليوم دون الحد الأدنى لانسانية الانسان، كما نشعر به حالياً، وكل ما يجري ينبيء بأ ء بأن حاجاتنا ومتطلباتنا تميل باتجاه النمو المستمر.

    وهنا يمكن لنا أن نلامس الانتقادات التي توجه عموماً إلى النتائج التي تقود إليها هذه التعريفات للتربية. فهي تنطلق من مسلمة أساسية تؤكد وجود تربية مثالية كاملة تناسب جميع الناس بلا تمييز. وهي بالتالي تربية شمولية وحيدة، يسعى المنظرون إلى تعريفها. ولكننا في البداية عندما نستلهم التاريخ لا نجد في صفحاته ما يعزز مقومات وجود هذه الفرضية. فالتربية تتغاير بلا حدود مع تغاير الزمن والبلدان. فالتربية

الصفحة 58

اليونانية واللاتينية كانت تسعى إلى اعداد الفرد الذي يخضع اعتباطاً لارادة الجماعة، والذي لا يعدو أن يكون إلا شيئاً اجتماعياً. ولكنها تسعى اليوم إلى اعداد شخصية مستقلة. ففي أثينا كانت التربية تسعى إلى اعداد عقول نيرة فطنة متوازنة قادرة على تذوق الجمال والظرافة وقادرة على التأمل الخالص.

    وعلى خلاف ذلك هدفت التربية في روما القديمة إلى تحويل الاطفال إلى رجال فعل وعمل وإلى تنمية الحماسة في نفوسهم، وتعزيز حب الانتصارات العسكرية، وذلك دون اعطاء أية أهمية للآداب والفنون. وفي العصر الوسيط كانت التربية تربية مسيحية قبل كل شيء. وبدأت في عهد النهضة تميل إلى أن تكون علمية وأدبية بدرجة أكبر. وبدأت السمة العلمية اليوم تأخذ مكاناً أكثر أهمية من السمة الفنية التي أن التربية كانت تهيمن عليها في المراحل التاريخية السابقة وهذا كله يعني ليست شيئاً مثالياً؛ وإذا كانت التربية قد تغيرت حقاً، ألا : ذلك أن يعني الناس كانوا مخطئين في تقدير ما يمكن أن تكونه؟ ولكن إذا كانت التربية الرومانية قد أكدت على النزعة الفردية كما هو الحال في التربية المعاصرة، فإنها لم تستطع أن تحافظ عليها. ولا بد لنا أن نأخذ بعين الاعتبار بأنه كان من الصعب على المجتمعات المسيحية في العصر الوسيط، أن تستمر في الوجود، لو أنها منحت التربية المكانة الحرة التي نوليها إياها في العصر الحديث. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الغاية من وجود تربية لا حياة فيها بالنسبة المجتمع يتبناها؟

    إن هذه المسلمة التي تنطاف منها هذه التعريفات مسلمة خادعة تنطوي في ذاتها على خطأ آخر أكثر عمومية. فعندما نتساءل عما يجب أن

الصفحة 59

تكون عليه التربية المثالية، وهو تجريد يرتفع فوق شرطي الزمان والمكان فإن ذلك يعني القبول الغامض بوجود نظام تربوي لا ينطوي على أية حقيقة بذاته. إذ يفتقر ذلك النظام إلى وجود جملة من الممارسات والمؤسسات المنظمة في اطار الزمن التي تتكامل مع المؤسسات الاجتماعية الأخرى، وتعبر عنها، والتي لا يمكن لها، بالنتيجة، أن تتغير ارادياً بدرجة مختلفة عن التغير الذي يحدث في بنية المجتمع. ويبدو لنا هنا أن مثل هذا النظام التربوي المفترض لا يعدو أن يكون سوى نظام خالص من التصورات التي تستلهم وجودها من ينبوع المحاكمات المنطقية فحسب. إذ يوجد هناك تصور يقضي بأن الناس، في كل زمن، يقومون باعداد ذلك النظام ارادياً، من أجل تحقيق غاية محددة؛ وأن ذلك التنظيم ليس واحداً في كل مكان وبالتالي فإن ذلك الاختلاف هو نوع من الغلط الذي يحدث في تصور طبيعة التربية والهدف الذي تسعى إلى تحقيقه أو في الوسائل الموظفة من أجل ذلك. ومن هذا المنطلق فإن التربية التي وجدت في الماضي تبدو نتاجاً لأخطاء ارتكبت على نحو كلي جزلي. وبالتالي فإنه لا يوجد في اطار هذا الماضي ما هو جدير بالدراسة والتحليل؛ وليس علينا إذن أن نرتكب الأخطاء التي ارتكبها أسلافنا أو أن تعانق المنطق الذي استلهموه. ولكن نستطيع ويجب علينا أن : نطرح المسألة دون الاهتمام بالحلول المعطاة، أي أن نترك جانباً كل ما كان سابقاً، وأن نتساءل عما يجب أن يكون عليه واقع الحال. هذا ويمكن لدروس التاريخ أن تساعدنا في تجاوز الاخطاء التي ارتكبت في أحضانه.

     لكل مجتمع، في الواقع، وفي لحظة ما من مستويات تطوره، نظام تربوي، يفرض نفسه على الأفراد عبر قوة لا تقاوم. ومن الخطاً أن نعتقد

الصفحة 60

بأننا نستطيع تربية أطفالنا بالطريقة التي نرغب فيها أو تريدها. فهناك عادات وأعراف يجب علينا أن نخضع لحكمها، وعندما نحاول أن تخرج عنها بقوة. فإن ذلك ينعكس سلباً على حياة أطفالنا. وتظهر نتائج ذلك يصبح اطفالنا راشدين حيث لن يستطيعوا التكيف مع أقرانهم، وذلك لأنهم ليسوا في وضعية تسمح لهم بتحقيق ذلك التكيف. وذلك أنه عندما نربي اطفالنا وفقاً لأفكار قديمة جداً، أو سابقة للعصر، يعني فإنهم في الحالتين لا ينتمون إلى زمنهم وبالنتيجة فإنهم لا يوجدون في اطار شروط حياة طبيعية. ففي كل لحظة من الزمن يوجد نموذج منظم للتربية لا يمكن لنا أن نستبعده دون مجابهات قوية تترتب عليها نتائج قاسية. 

     فالأفكار والعادات هي التي تحدد النموذج التربوي السائد، ولسنا نحن الذين نقوم باعداده على المستوى الفردي. إذ أنه في نهاية الأمر، نتاج للحياة المشتركة، وتعبير عن الضرورات الاساسية للحياة الاجتماعية. وهو في المحصلة نتاج لنشاط الاجيال السابقة بالدرجة الأولى. لقد أسهم تاريخ الانسانية برمته في ايجاد هذه التراكمات التي توجه التربية المعاصرة، وإذا كان تاريخنا قد ترك لمساته فإننا لا نستبعد بالاضافة لذلك الأثر الذي تركه تاريخ المجتمعات التي سبقتنا في الوجود. وذلك هو حال الكائنات العليا التي جاءت نتاجاً لتطور الحياة البيولوجية الدنيا برمتها. وعندما نريد أن ندرس تاريخياً، الطريقة التي تشكلت وتطورت من خلالها الانظمة التربوية، سنلاحظ أن ذلك كان مرهوناً بتطور الدين، وتطور الأنظمة السياسية، وبدرجة تطور العلوم وتطور الصناعة الخ. وعندما نحاول أن نفصل بين هذه المتغيرات التاريخية فإن ذلك يصبح . صعباً على الادراك والفهم. إذ كيف يمكن للفرد أن يزعم بأنه استطاع أن . بأنه استطاع أن يبني قدرته على

الصفحة 61

التفكير وفقا لمعيار قواه الخاصة، والتي لا يمكن أن تكون في أي حال من الاحوال نتاجاً للتفكير الفردي؟ أنه ليس أمام صفحة بيضاء يرسم عليها ما يشاء، انه ازاء حقائق وجود لا يمكن له أن يبدعها أو أن يهدمها أو أن يغيرها بمحض ارادته. وهو في كل الاحوال لا يستطيع أن يؤثر فيها، ما لم يستطيع أن يدرك ،قانونيتها، وأن يعرف طبيعتها وشروط وجودها. وهو لن يتمكن من هذه المعرفة ما لم ينصرف إلى التعلم وإلى الملاحظة، وشأنه في ذلك شأن الفيزيائي الذي يخضع مواده للملاحظة، أو البيولوجي عندما يلاحظ الأجسام الحية ويتفحصها.

    ولكن كيف يمكن لنا، من جانب آخر، أن نحدد التربية من خلال الحوار بمفرده؟ يجب علينا، في البدء، أن نطرح أسئلة تدور حول الغايات التي تسعى التربية إلى تحقيقها. فما الذي يجيز لنا أن نقول إن للتربية هذه الغايات أو تلك؟ ونحن لا نعرف بعد ما وظيفة التنفس والدورة الدموية عند الكائن الحي. وما الخصوصية التي تجعلنا ندرك بشكل أفضل ما يتعلق بوظيفة التربية؟ وهنا يمكن لنا أن نقول بكل وضوح، أن وظيفة التربية هي تربية الاطفال. 

    ولكن هذا يطرح المسألة بطريقة أخرى، دون اجابة عن تساؤلاتنا. إذ يجب علينا، وعلى التوالي، أن نتساءل عن ماهية هذه التربية وما اتجاهها وما الضرورة الانسانية التي تستجيب لها.

    وفي اطار ذلك لا يمكن الاجابة عن هذه الاسئلة إلا عندما تبدأ بملاحظة ماهية التربية والضرورات التي تستجيب لها في اطار المراحل التاريخية. ومثل ذلك يشكل العناصر الأولية لبناء تعريف أساسي للتربية. ومن أجل تحديد الشيء»، يبدو لنا أن الملاحظة التاريخية، أمر لا بد منه.

الصفحة 62

2ـ تعريف التربية :

    من أجل أن نعرف التربية، يجب علينا أن ننطلق من دراسة الانظمة التربوية القائمة والتي كانت قائمة أيضاً، وأن نقارب بين هذه الأنظمة، لتحديد السمات الأساسية التي تشكل القاسم المشترك بينها. وذلك لأن تحديد هذه السمات المشتركة والجمع بين أطرافها يمكن له أن يشكل التعريف الذي ننشده ونسعى إليه. لقد سبق لنا، منذ قليل، إن قمنا بتحديد المجرى الأساسي للعملية التربوية والذي يتكون من شعبتين: فمن أجل أن تكون هناك تربية، يجب أن يكون هناك جيل من الصغار، وجيل من الراشدين، وأن يكون هناك تأثير يمارسه جيل الراشدين في جيل الصغار. وعلينا هنا أن نحدد طبيعة ذلك التأثير.

   وفي هذا السياق يمكن القول إنه لا يوجد مجتمع لا يكون فيه لنظامه التربوي القائم :جانبان فهو واحد ومتعدد في وقت واحد هو متعدد لأنه يمكن لنا، في الواقع، أن نقول بمعنى ما، إن هناك أنواعاً مختلفة من التربية بقدر ما يوجد هناك من أوساط اجتماعية مختلفة في اطار المجتمع الواحد. فهل يعني ذلك أنها تتشكل وفقاً لتنوع الفئات الاجتماعية؟ فالتربية تتباين بين فئة اجتماعية وأخرى والتربية عند التبلاء لم تكن كالتربية التي كانت سائدة عند العامة؛ وتربية رجال الدين ليست كتربية النبلاء. والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على العصر الوسيط إذ يوجد تباين كبير بين الثقافة التي يتلقاها الفرسان والثقافة التي كان يتلقاها الفلاحون الذين كانوا يذهبون إلى المدرسة لتعلم مبادىء الحساب والغناء والقواعد ليس غير ألا نرى اليوم أيضاً أن التربية تتغاير بتغاير الطبقات

الصفحة 63

الاجتماعية وبتغاير العادات؟ فهذه التي تسود في المدينة ليست تلك التي توجد في الريف، والتي تقود في أوساط الطبقة البرجوازية ليست كالتي توجد في أوساط العمال. ولكن يمكن أن يقال أن هذه الوضعية ليس لها أخلاقي، وأنها وضعية سيقدر لها أن تزول؟ ومن السهل هنا الدفاع مبرر عن هذه الاطروحة. إنه لمن الواضح أ أنه لا يمكن أن نترك تربية اطفالنا للصدفة نفسها، التي أدت إلى وجودهم هنا أو هناك، عند هذا الأب أو ذاك. فالوعي الاخلاقي لعصرنا يمارس الدور الذي ينتظر منه حول هذه النقطة بدرجة كافية. ولذلك فإن التربية لن تغدو بسبب ذلك أكثر وحدة وتجانساً. وإن سيرة كل طفل لن تكون بعد الآن، مرهونة، بدرجة كبيرة،

بالسجل الوراثي الغامض. فالتنوع الاخلاقي المهني، لن يترك الحبل على الغارب، لتنوع تربوي كبير مواز له. إذ تشكل كل مهنة، في واقع الأمر، وسطاً يتطلب قدرات خاصة ومعارف محددة، حيث تسود أفكار خاصة، ومهارات معينة، وطبيعة للادراك متميزة؛ وبما أنه يجب اعداد الطفل للقيام بوظيفة محددة، فإن التربية، في مستوى عمري معين، لا يمكن لها أن تكون واحدة بالنسبة للذين تباشرهم كافة ولذلك فإننا ننظر إليها هكذا في مختلف البلدان المتمدنة والتي تميل إلى التنوع والتخصص. وبالتالي فإن هذه الخصوصية تميل إلى أن تكون أكثر نضجاً وتطوراً مع مرور الايام.

     إن التناقض الناتج لا يقوم كما لاحظنا منذ قليل، على اسس اللامساواة غير العادلة، ولكنه ليس أكثر من ذلك. ومن أجل العثور على تربية متجانسة عادلة على نحو كامل يجب علينا أن نعود إلى مجتمعات ما قبل التاريخ، والتي لا يوجد فيها أي تباين أو اختلاف. ويضاف إلى ذلك أن هذه النوع من المجتمعات لا يمثل في حد ذاته، سوى لحظة منطقية في

الصفحة 64

تطور تاريخ الانسانية. 

ولكن مهما تكن أهمية هذه النماذج التربوية الخاصة، فإنها لا تمثل بحد ذاتها كل التربية. إذ يمكن القول إنها غير كافية بحد ذاتها؛ وأنها، وفي كل مكان، لا يمكن لإحداها أن تتباين عن الأخرى، إلا بدعاً من لحظة يكون فيما بينها تداخل كبير. وهذا يعني ا أن هذه النماذج جميعها تنطلق من مبادئ مشتركة. إذ لا يوجد هناك شعب دون نسق واحد من الأفكار، والمشاعر والممارسات المشتركة، تقوم التربية بتكريسها عند الأطفال كافة، دون تمييز يتعلق بتنوع الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها. وذلك يغطي حتى المجتمعات التي تعاني من الانغلاق الفئوي والطبقي، إذ يوجد دائماً دين مشترك للجميع، أو عناصر ثقافة دينية واحدة واساسية بالنسبة للسكان جميعاً. وإذا كان لكل طبقة ولكل عائلة آلهة خاصة، فهناك دائماً أفكار دينية عامة، واحدة من حيث الجوهر، تنال اعتراف الجميع وقبولهم، وتحظى بحب الاطفال وتقديمهم لها. وبما أن هذه الأفكار تجسد بعض المشاعر، وبعض كيفيات ادراك العالم والحياة، فإنه لا يمكن تقديس هذه الأفكار دون مواجهة الأفكار وطرائق التفكير الأخرى، التي تتعارض مع طبيعة الحياة الدينية الخالصة. ويمكن ملاحظة ذلك، في العصور الوسطى، حيث كانت مختلف الطبقات الاجتماعية من عامة، ونبلاء، وبرجوازية، تتلقى التربية المسيحية الواحدة. وإذا كانت هناك مجتمعات بلغت فيها التناقضات العقلية والأخلاقية حداً كبيراً، فإن ذلك يبلغ مداه عند الشعوب المتقدمة، حيث توجد الطبقات الاجتماعية المتمايزة، والتي تفصل بينها هوة أقل عمقاً! وإذا كانت العناصر المشتركة للتربية لا تتبدى على نحو جلي، فإن ذلك لا يعني بأنها غير موجودة. إذ يلاحظ في

الصفحة 65

سياق تاريخنا وجود مجموعة من الأفكار حول الطبيعة الانسانية، وحول بنيتنا العضوية، وحول الحق والواجب والمجتمع والفرد، والتقدم والعلوم والفنون الخ. وهي الأفكار التي تشكل أسس مشاعرنا القومية. وكل تربية، سواء أكانت خاصة بالفقراء، أم خاصة بالأغنياء، أهذه التي تقود إلى المهن الحرة، أم تلك التي تعد للمهن الصناعية تسعى في النهاية إلى تكريسهذه الأفكار العامة المشتركة في داخل الوعي.

    وبالنتيجة فإن كل مجتمع يقوم بتحديد صورة مثالية للإنسان، أي ما يجب أن يكون على المستوى العقلي والفيزيائي والاخلاقي، وإن هذه الصورة المثالية تتحدد ببعض المعايير، وهي المعايير نفسها بالنسبة لأي مواطن، مع أن هذه الصورة تتباين في بعض المستويات، وفقاً لتباين الأوساط الاجتماعية التي يشتمل عليها مجتمع ما.

    ومثل هذه الصورة المثالية للانسان تتصف بالوحدة والتنوع في آن واحد، وتشكل في الوقت نفسه، محور العملية التربوية، حيث تعمل التربية على التأثير في الجوانب التالية عند الأطفال:

  1. الحالات الفيزيائية والعقلية والتي يراها المجتمع ضرورية بالنسبة لأي فرد من أفراده.
  2. بعض الحالات الفيزيائية والعقلية الخاصة بالفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الاطفال والتي أيضاً ضرورية بالنسبة للأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة.

    فالمجتمع ككل متكامل، وأي تكوين اجتماعي في داخله، معنياً بتكريس الصورة المثالية المرسومة، والعمل على تحقيقها عن طريق التربية. فالمجتمع لا يستطيع الاستمرار إلا إذا كان هناك حد أدنى من التجانس

الصفحة 66

بین افراده، وبالتالي فإن التربية تعزز هذا التجانس وتكرسه، وهي تسعى قبل كل شيء إلى تكريس عناصر التشابه الاساسية في نفوس الاطفال، وهو التجانس الذي تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعية. ولكن، لا بد من الاشارة، في جانب آخر، أنه من غير وجود بعض التنوع، فإن أي تعاون يصبح غير ممكن، وعلى التربية أن تقوم أيضاً، بتعزيز وجود ذلك التنوع الضروري، عبر التنوع الذي يتجلى في خصوصياتها ومناهجها.

     وفي الحال الذي لا يستطيع فيه المجتمع أن يصل إلى درجة من التطور الذي يؤدي إلى إزالة التقسيم الطبقي الاجتماعي، فإن المجتمع يعمل على ايجاد تربية جديدة تنطلق من أسس مشتركة. وعلى خلاف ذلك، عندما تتزايد حدة تقسيم العمل في المجتمع، فإن التربية تسعى، في المستوى الأول، إلى تعزيز الافكار والمشاعر المشتركة عند الاطفال. 

     وتكرس في الوقت نفسه التنوع الخاص بالكفاءات المهنية. وعندما يتعرض المجتمع لتهديد المجتمعات الأخرى، فإنها تعمل على تعزيز الروح القومية والوطنية، وعلى نقيض ذلك فإنها تعمل على أن تكون عامة وانسانية عندها يتخذ التنافس الدولي طابعاً سلمياً. وهذا كله يعني أن التربية ليست بذاتها سوى الاداة التي تعزز في نفوس الاطفال الشروط الاساسية لوجود المجتمع. وسنرى لاحقاً كيف يجد الفرد بنفسه مصلحته في الخضوع إلى هذه الشروط والمتطلبات. 

    وبناء على ما تقدم، يمكن لنا أن نصل إلى التعريف التالي للتربية وهو : التربية هي الفعل الذي تمارسه الاجيال الراشدة على الاجيال التي لم ترشد بعد من أجل الحياة الاجتماعية. وهي تعمل على خلق مجموعة من

الصفحة 67

الحالات الجسدية والعقلية والاخلاقية عند الطفل وتنميتها. وهي الحالات التي يتطلبها المجتمع بوصفه كلا متكاملا والتي يقتضيها الوسط الاجتماعي الخاص الذي يعيش فيه الطفل.

الصفحة 68

                                                             الخاصة الاجتماعية للتربية

     يبين لنا التعريف السابق، أن التربية تقوم على تحقيق التنشئة الاجتماعية المنهجية للأجيال الصغيرة. وبناء على ذلك، يمكن القول بوجود كائنين في داخل كل متاح وهما كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحر مجرد. ويمثل أحد هذين الكائنين جملة الحالات الذهنية والعقلية التي لا تعبر إلا عن ذواتنا وعن أحداث حياتنا الفردية ومجرياتها، وهذا ما يمكن أ أن نطلق عليه الذات الفردية؛ أما الكائن الثاني فيتمثل في نسق الأفكار والمشاعر والعادات التي لا تعبر عن شخصيتنا، بل عن الجماعة أو الجماعات المختلفة التي ننتمي إليها، وذلك هو الحال عندما يتعلق الأمر بالعقائد الدينية والممارسات الاخلاقية والآراء الجمعية من أي نوع كانت. وبالتالي فإن مجموع هذه الأفكار والعقائد والممارسات يشكل الكائن الاجتماعي. ويكمن هدف التربية في بناء هذا الكائن الاجتماعي وهنا بالذات تكمن أهمية التربية وخصوبة فعلها؛ وجدير بالاشارة، أن هذا الكائن الاجتماعي ليس معطى من معطيات البنية الفطرية للانسان، ولا يمكن له أن ينمو بشكل عفوي. فالإنسان ليس ميالاً بفطرته إلى الخضوع للسلطة السياسية، أو إلى احترام النظام الاخلاقي أو إلى التضحية والايثار. إذ لا يوجد في بنيتنا الفطرية الأولية، ما يدفعنا إلى أن نكون خاضعين لارادة سماوية، أو الشعارات رمزية سائدة في المجتمع، نرفعها أصناماً للعبادة، وأن نعاني من الحرمان لتقديسها. إنه المجتمع الذي استطاع أن يستمد من قدسية هذه الاشياء سلطاته الاخلاقية الكبرى،

الصفحة 69

التي تجعل الفرد يشعر بدونيته ازاءها وعندما نحاول أن نتصور على نحو تجريدي أن هناك بعض النزعات الغامضة التي تعزي إلى التركة الوراثية، فإن الطفل يدخل إلى الحياة، وهو لا يحمل سوى طبيعته الفردية. وهكذا فإن المجتمع يجد نفسه دائماً في مواجهة أجيال جديدة يتوجب عليه أن يشكلها من جديد أخلاقياً واجتماعياً. وهو مطالب أن يجعل من الفرد اللاجتماعي، الذي يرى النور للمرة الأولى، كائناً اجتماعياً جديداً قادراً على مواكبة الحياة الاخلاقية والاجتماعية للمجتمع. وهنا تكمن المهمة الكبرى للعملية التربوية والتي يمكن لنا أن نقدر عظمتها وأهميتها. وهي في هذا السياق لا تحاول تنمية الملكات الفردية المسجلة في فطرة الانسان، أو تسعى إلى تفجير القوى الخفية في داخله بل تسعى إلى خلق كائن جديد، هو الكائن الاجتماعي. إن هذه الخاصية الابداعية للتربية تمثل من طرف آخر، خاصية مميزة للتربية الانسانية. وكل تربية أخرى، كالتربية التي تتلقاها الحيوانات، يمكن أن نطلق عليها عملية ترويض متسارعة، يمارسها الكبار على الصغار، وهي تربية تسعى إلى تنمية بعض الغرائز الكامنة في الكائن، ولكنها لا تعده لحياة جديدة، بل تساعده على تنمية الوظائف الطبيعية لديه، دون أن تعمل على ايجاد قوى جديدة. فالأم التي تدرب صغيرها على الطيران، أو على بناء عشه، لا تعلمه شيئاً يتعذر عليه اكتشافه بنفسه عبر تجربته الخاصة، فالحيوانات الدنيا التي تعيش بعيداً عن أية تجربة اجتماعية، تعمل على بناء مجتمعات بسيطة، وفق آليات غريزية مسجلة في فطرتها. وهذا يعني هنا أن التربية، في هذا المستوى، لا يمكن لها أن تضيف شيئاً جديداً إلى الطبيعة؛ وذلك لأن البنية الفطرية الطبيعية كافية، بحد ذاتها لكل شيء سواء أكان ذلك بالنسبة لحياة الجماعة أم

الصفحة 70

الحياة الفرد. وعلى خلاف ذلك، فالحياة الاجتماعية الانسانية بالغة التعقيد، وتقتضي وجود كفاءات وقدرات متنوعة لا يمكن أن تسجل في بنية الانسان العصبية، تحت شكل استعدادات عضوية مكتسبة. 

     ويترتب على ذلك أن هذه الكفاءات لا يمكن لها أن تنتقل من جيل إلى آخر عن طريق الوراثة، بل أن المهمة هنا تقع على عاتق التربية، التي تقوم بتحويلها. وحين نأخذ بعين الاعتبار، أن هذه القدرات ذات طابع أخلاقي، وذلك لأنها تقتضي من الفرد التضحية والحرمان، ولأنها تعيق حركته الطبيعية، وأنه لا يمكن لها أن تتكون إلا بتأثير فعل خارجي، ولأنه على كل فرد أن يسعى إلى اكتسابها بشكل عفوي؟ وذلك هو حال الكفاءات العقلية التي تسمح للفرد أن يكيف سلوكه وفقاً لطبيعة الأشياء، وتلك هي حالة القدرات الجسدية وكل ما يمكن له أن يسهم في تمكين الجسد من ادائه الوظيفي الذي يتسم بالدقة.

     ومن أجل ذلك كله تسعى التربية إلى تطوير هذه القدرات وإلى تحقيق درجة عالية لتطوير طبيعة الانسان ذاتها، وإلى الانتقال بالفرد إلى حالة الكمال النسبي؛ وذلك في اتجاه ما يريده هو بنفسه، أو بقدر ما يستطيع أن يصل إليه تحت تأثير المنافسة الاجتماعية.

    ولكن ما يظهر جلياً، على الرغم من المظاهر المختلفة، التي تبدو هنا وهناك، هو أن التربية تستجيب لضرورات الحياة الاجتماعية قبل أي شيء آخر. وهذا ما يحدث حتى في المجتمعات التي تفتقر إلى الكفاءات العالية، وهي الكفاءات التي تتوزع بشكل متباين وفقاً لتباين المجتمعات. فالثقافة القوية المتماسكة هي : الثقافة التي تعم فوائدها على أفراد المجتمع كافة. وغني عن البيان أن العلوم والروح العلمية النقدية، التي نقدرها عالياً اليوم، كانت

الصفحة 71

بالأمس البعيد توضع في دائرة الشك والريبة، ألا يخطر لنا في هذا السياق المقولة التي تعلن أن سعادة الإنسان تكمن في جهله؟. وفي هذا الخصوص. يجب علينا أن نتحفظ كثيراً ازاء الاعتقاد بأن اللامبالاة بالمعرفة قد تم فرضها على الناس بشكل صنعي وبطريقة أدت إلى اغتصاب طبيعتهم. وغني عن البيان أن الناس لا يملكون الرغبة الفطرية لاكتساب المعرفة التي دائماً ما كانت تعطى لهم بشكل اعتباطي. أنهم لا يرغبون في المعرفة إلا بمقدار ما علمتهم التجربة بأنهم لا يستطيعون دونها التوافق مع الحياة الاجتماعية. وفيما يتعلق بقدراتهم على تنظيم حياتهم الفردية لم يكن لديهم إلا العمل من أجل اكتسابها. وكما قال جان جاك روسو من قبل: إن التجربة والغريزة والعاطفة، تحرك الانسان كما هو الحال عند الحيوان، من أجل تلبية حاجاته الحيوية.

     ولو لم يكن عند الانسان غير هذه الحاجات البسيطة، التي تتجذر في فطرته، ما كان له ليسعى إلى البحث عن المعرفة العلمية، وما كان له أن يبذل الجهد والشقاء في اكتسابها. لقد عرف الفرد تعطشه إلى المغرفة عندما أيقظ المجتمع ذلك في نفسه، وما كان للمجتمع أن يوقظ فيه ذلك إلا تحت ضرورة الحاجة إليها. وعندما يصل المجتمع إلى درجة عالية من التعقيد في مستوى تطوره، فإن التفكير العلمي يصبح ضرورة ملحة بالنسبة له. ويعني ذلك أن الثقافة العلمية تصبح ضرورية، عندما يعلنها المجتمع لا فراده ويفرضها عليهم على أنها واجب. وبقدر ما تكون البنية الاجتماعية بسيطة، لا تغاير فيها متجانسة بذاتها، فإن التقاليد العمياء تكون كافية بحد ذاتها، إذ تؤدي وظيفتها على منوال الغريزة، حيث لا يكون للتفكير النقدي أية أهمية تذكر بل وعلى خلاف ذلك، يمكن

الصفحة 72

للتفكير النقدي أن يكون سلبياً، لأنه يهدد التقاليد السائدة في المجتمع ولذلك فإن المجتمع يعمل على استبعاده.

      ويضاف إلى ذلك أنه لا أهمية للخصائص الجسدية الفيزيائية في هذه المجتمعات. وذلك لأن حالة الوسط الاجتماعي تكرس في الوعي الجمعي النزعة إلى التقشف وبالتالي فإن التربية الجسدية تستبعد إلى الدرجة الثانية. وهذا ما يمكن ملاحظته في مدارس العصر الوسيط؛ ومع ذلك كان ذلك التقشف ضرورياً، لأنه كان يمثل الطريقة الوحيدة للتكيف مع . صعوبات الحياة في ذلك العصر. ولقد كانت هذه التربية الجسدية تأخذ أبعاداً متنوعة وفقاً لاتجاهات الرأي العام وحركته. فبينما كان هدف التربية البدنية في اسبرطه يتمثل في تكوين أجساد قوية، كان هدفها في أثينا العمل على بناء الجسد الذي يتميز بالرشاقة والجمال. وكانت في عصر الفروسية تسعى إلى اعداد محاربين يتميزون بالقوة والرشاقة. وفي أيامنا يكمن هدفها في تحقيق التوازن الصحي واحتواء مخاطر النمو الثقافي المتطور. وبالتالي فإن الفرد لا يبحث عن القيم، التي تحتل مكانها في أولويات السلم القيمي، والتي غالباً ما تكون مرغوبة عفوياً، إلا إذا دعاه المجتمع إلى ذلك، وهو يبحث عنها وفقاً للطريقة التي يحددها المجتمع بالدرجة الأولى. 

     ونحن الآن في موقع الاجابة عن تساؤل ينطلق من جملة الملاحظات السابقة، وبما أننا بينا أن المجتمع يعمل على صوغ أفراده، وفقاً لحاجاته، فإنه ليبدو أن هؤلاء الأفراد يخضعون، من هذا المنطلق، لعملية اکراه قاسية. ولكن الحقيقة هي غير ذلك، لأن هؤلاء الأفراد أنفسهم يميلون إلى وضع أنفسهم في دائرة هذا الخضوع ويستسلمون له. فالكائن

الصفحة 73

الجديد ( الكائن الاجتماعي (الذي تسعى التربية إلى غرسه في نفوسنا، هو الكائن الذي يمثل أفضل جانب من جوانب ذواتنا. فالانسان، في الواقع، ليس انساناً، إلا لأنه يعيش في مجتمع. ومن الصعب جداً، في اطار مقالة كهذه، أن نبين بدقة هذه الاطروحة التي تتميز بدرجة عالية من العمومية والأهمية، والتي يمكن لها أن تلخص لنا الأعمال الجارية في مجال السوسيولوجية المعاصرة. وفي البداية، يمكن القول، أن هذه الفكرة تلاقي مع مرور الزمن اعتراضاً أقل حدة ويضاف إلى ذلك، أنه ليس صعباً جداً، أن نحدد بشكل مختصر، الجوانب الأكثر أهمية، التي تبرر شرعية هذه الاطروحة.

      في البداية، إذا كان من الثابت تاريخياً اليوم، أن الاخلاق توجد في علاقة قوية مع طبيعة المجتمعات، وذلك لأنها، كما بينا سابقاً، تتغير مع التغير الذي يعتري المجتمعات فهذا يعني أنها نتاج للحياة الجمعية المشتركة. فالمجتمع الذي يسحبنا خارج ذواتنا، ويكرهنا على الموازنة بين مصالحنا والمصالح الأخرى، هو الذي يعلّمنا كيف نسيطر على عواطفنا واندفاعاتنا وغرائزنا وأن تخضعها للقانون، وأن نوجه أنفسنا، وندربها على الحرمان، وعلى التضحية بالذات، وأن تخضع مآربنا الشخصية لغايات اجتماعية أكثر سمواً. وهو الذي أوجد فينا، وغرس في وعينا، نظام تصوراتنا، الذي يتضمن فكرتنا عن القانون والنظام واحساسنا به سواء أكان ذلك بطريقة داخلية أم خارجية. وعلى هذا النحو تم لنا اكتساب خاصية تملك الذات، وهي خاصية مميزة للإنسان، والتي تجعل منا أناساً بقدر ما تكون متطورة ومتأصلة في نفوسنا. 

    ونحن، في سياق ذلك كله، لا ندين للمجتمع، بأقل من ذلك،

الصفحة 74

وذلك من وجهة نظر عقلية. فالعلم هو الذي أوجد المفاهيم الاساسية، التي يتميز بها تفكيرنا مثل مفهوم السبب والقانون، والمكان، والعدد ومفهوم الجسد، والحياة، والوعي، والمجتمع، الخ....

    وبالتالي فإن هذه المفاهيم الأساسية جميعها توجد في حالة دائمة من التطور فهي نتاج وخلاصة للاعمال العلمية، ويضاف إلى ذلك أنها تشكل نقطة البداية، كما يعتقد بستالوتزي (Pestalotzzi). ونحن في عصرنا هذا، والحق يقال لا ننظر إلى الانسان والطبيعة، والاسباب، كما كان ينظر إليها في العصور الوسطى؛ وذلك لأن معارفنا، ومناهجنا العلمية، ليست هي نفسها التي كانت سائدة في العصور الوسطى. فالعلم عمل اجتماعي، وذلك لأنه يتطلب تعاوناً واسعاً بين العلماء، ليس في عصر واحد فحسب، وإنما تعاون العلماء في عصور مختلفة ومتعاقبة في تاريخ الانسانية. -- قبل أن يكون العلم كان الدين يلعب الدور نفسه، وذلك لأن أي فكر أسطوري، يتضمن تصوراً متماسكاً عن الانسان والعالم. وبالتالي فإن العلم هو الوريث الشرعي للدين. ومما لا شك فيه أن الدين يشكل مؤسسة اجتماعية - ونحن عندما نتعلم اللغة، فإننا نتعلم نسقاً من الافكار والتصورات المتمايزة والمصنفة، ونحن نتوارث، في هذا السياق، معرفة مصدر هذه التصنيفات التي تمثل خلاصة قرون من التجربة الانسانية. ويضاف إلى ذلك كله : أنه من غير اللغة، لا يمكن أن يكون لدينا أفكار عامة وذلك لأن الكلمة هي التي تحدد الأفكار، وتعطي المفاهيم تماسكاً كافياً من أجل أن تكون قابلة للمعالجة العقلية بمرونة. وهي اللغة، أيضاً، التي اتاحت لنا أن نرتفع فوق حدود الغريزة الخالصة. وليس ضرورياً أن نبرهن بأن اللغة هي شيء اجتماعي بالدرجة الأولى. وتبين هذه

الصفحة 75

الأمثلة، إلى أي حد يمكن أن يختزل الانسان، إذا جرد من مكتسباته الاجتماعية: أنه ينحدر إلى مستوى الحيوان، وإذا كان الانسان قد استطاع أن يتجاوز حدود ما يتوقف عنده تطور الحيوان، فإن ذلك لا يعود في أي حال من الأحوال إلى جهوده الشخصية، وإنما إلى تعاونه المنظم مع الأفراد الآخرين، وهو الأمر الذي يعزز نتائج نشاط كل فرد وتجربته.

 وهذا يعني بالتأكيد، أن جهود جيل من الاجيال، لا يمكن ان تكون جهوداً ضائعة بالنسبة للجيل الذي يليه. وبالمقابل كل ما يمكن أن يكتسبه الحيوان في أثناء تجربته الحياتية، لا يتاح له أن يستمر في الوجود لاحقاً. وعلى خلاف ذلك، فإن نتائج التجربة الانسانية، تحتفظ باستمراريتها، وحتى في مستوى تفاصيلها الدقيقة، على نحو متكامل وذلك بفضل الكتب، وبفضل الأوابد التاريخية، والأدوات التي يتركها، وانطلاقاً من الوسائل الأخرى كلها التي يوظفها في عملية التحويل، من جيل إلى آخر، وصولاً إلى مستوى التقاليد الشفوية. فالأرض تغتني، دائماً، بالطمي المتنامي باستمرار، والعقائد الانسانية تتجدد من جيل إلى آخر، والحكمة الانسانية تتراكم دون انقطاع، وهو التراكم نفسه الذي يرتفع بالانسان فوق مصاف الحيوان، ويدفعه إلى تجاوز ذاته. وذلك التراكم لا يتم له في نهاية المطاف إلا بوساطة المجتمع ومن خلاله. وذلك لأن خبرة كل جيل، لا يمكن لها أن تستمر في الوجود إلا من خلال توافر شخصية أخلاقية تستمر وتعلو، في وجودها، على وجود الاجيال التي تتعاقب، وتترابط من خلال الشخصية الاخلاقية المتمثلة في شخص المجتمع. 

   ولا بد لنا في هذا السياق من القول إن المعارضة بين الفرد والمجتمع، وهي فكرة غالباً، ما حظيت بالقبول، على نحو واسع، فكرة لا

الصفحة 76

تتوافق أبداً مع معطيات الواقع. بل على خلاف ذلك، أن هذين المفهومين يتداخلان ويترابطان. فالفرد الذي يريدة المجتمع يبحث عن ذاته. والفعل الذي يمارسه المجتمع على الفرد عن طريق التربية، لا يهدف أبداً إلى افساد الفرد، أو الحاق الضرر به، بل على العكس من ذلك تماماً، إنما يسعى إلى تحقيق نموه وازدهاره ورقيه الاجتماعي وأن يجعل منه انساناً حقاً. انساناً حقاً. ومن غير شك، فإن الفرد لن يستطيع أن يحقق نموه ما لم يبذل قصارى جهده من أجل ذلك، والفعل الإرادي الذي يقوم به الإنسان، من أجل ذلك، يعد بحق إحدى السمات الجوهرية للإنسان.

الصفحة 77

-4                         دور الدولة في العملية التربوية

لنا، وبسهولة، ايجاد إن التعريف التي رسمناه للتربية آنفا. يسمح المخرج المناسب للإشكالية المعقدة الخاصة بحقوق الدولة وواجباتها في مجال التربية.

    إذ غالباً ما تتم المقابلة بين واجبات الاسرة وواجبات الدولة. فالطفل ينتمي إلى أبويه : وهما المعنيان بتوجيه نموه العقلي والأخلاقي. وهنا تبدو التربية بوصفها عملية منزلية خاصة بالدرجة الأولى. وبناءً على ذلك فإنه غالباً، ما ينظر إلى دور الدولة التربوي في حدوده الدنيا. وتقتصر مهمة الدولة، في هذه الحالة على اداء دور تربوي مساعد للأسرة. وعندما تكون الاسر غير قادرة على القيام بوظيفتها وواجباتها التربوية فإن من الطبيعي أن تقوم الدولة بأداء هذه المهمة. وتستطيع الدولة أن تجعل من العملية التربوية عملية في غاية السهولة وذلك عندما تضع المدارس في خدمة الأطفال حيث تستطيع الأسر ، إذا شاءت، أن ترسل ابناءها. ولكن يجب أن تقف مهمة الدولة عند حدود ذلك، وإن تمتنع عن ممارسة أي فعل آخر، يمكن لتأثيره أن يكون حاسماً على عقول الشباب وتوجهاتهم. فدور الدولة إذن يجب أن يكون سلبياً إلى حد كبير. 

   ولكن إذا كانت التربية، كما حاولنا أن نبين ذلك، تمارس وظيفة اجتماعية قبل كل شيء، وإذا كان موضوعها هو تحقيق تكيف الطفل مع الوسط الاجتماعي، الذين يعيش فيه، فإنه لمن المستحيل أن يكون المجتمع بعيداً بتأثيره عن هذه العملية. إذ كيف يمكن للمجتمع أن يسجل غيابه في هذا المجال، وهو يمثل المحور المرجعي الذي يجب على الفعل التربوي أن

الصفحة 78

ينطلق منه؟

    إذ يتوجب على المجتمع، ودون توقف، أن يملي على المعلم، الأفكار، والمشاعر، التي يجب أن تغرس في الاطفال من أجل تحقيق تكاملهم مع الوسط الاجتماعي الذي يتوجب عليهم العيش في أحضانه. وإذا لم يكن المجتمع يقظا وحاضراً من أجل توجيه الفعل التربوي، وفق غايته الاجتماعية المحددة، فإن ذلك الفعل يوظف بالضرورة في خدمة العقائد الخاصة وبالتالي فإن الروح الوطنية الكبرى تذوب وتنشطر إلى نزعات متعددة ومتناحرة. إذ لا يمكن المضي أكثر من ذلك في معارضة الهدف الأساسي للتربية. وهنا يجب أن يتم الاختيار: إذا كان للمجتمع تأثير ما - ونحن هنا في طريقنا لمعرفة ما الذي يعنيه بالنسبة لنا ، يجب على التربية أن تضمن للمواطنين طائفة من الأفكار والمشاعر المشتركة، والتي من غيرها يصبح الوجود الاجتماعي غير ممكن؛ ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يجب على التربية أن لا تخضع كلياً لحكم الخصوصيات.

    وفي اللحظة التي تكون فيها التربية وظيفة اجتماعية، لا يمكن للدولة أن تكون غير معنية بها. وعلى خلاف ذلك، يجب على كل تربية، في نهاية الأمر، ووفقاً لبعض المعايير، أن تخضع للفعل الاجتماعي. ومن أجل تحقيق ذلك، فإنه لا يجب بالضرورة العمل على تحقيق مركزية التعلم. فالمسألة في غاية التعقيد، ولا يمكن معالجتها بطريقة عابرة. هذا ويجري الاعتقاد بأن تحقيق التقدم المدرسي أمر أكثر سهولة وسرعة عندما يكون للمبادرة الفردية هامش كبير من الحرية، وذلك لأن الفرد أكثر ارادة وميلاً نحو التجديد من الدولة. ولكن ما يجب على الدولة أن تقوم به، من أجل المصلحة العامة، هو أن تترك المجال لانشاء مدارس أخرى غير هذه التي تخضع لمسؤوليتها

الصفحة 79

بشكل مباشر، ولكن لا يجب، وفي أي حال من الأحوال، أن تكون بعيدة عما يجري في اطار هذه المدارس. وعلى خلاف ذلك، فالتربية التي تمارس، في إطار هذه المدارس، يجب أن تبقى خاضعة لرقابتها. وفي هذا السياق، لا يمكن أن يسمح لمن لا يحمل كفايات خاصة أن يقوم بوظيفة المربي، وهي كفايات يعود أمر تقديرها إلى الدولة. ومن دون شك، فإنه من الصعب رسم حدود تدخل الدولة دفعة واحدة، ولكن لن يكون بالمستطاع أبداً الاعتراض على مبدأ تدخلها. حيث لا توجد مدرسة، ابداً، تستطيع أن تعلن لنفسها الحق، وبملء الحرية، في تبني تربية معادية للحياة الاجتماعية. 

     ومع ذلك، فإنه لا بد لنا من الاعتراف بإن الوضع الحالي لتشتت العقول وتنافرها، في بلادنا، يجعل من واجب الدولة أمراً أكثر صعوبة، وفي الوقت نفسه أكثر أهمية. فليس على الدولة، في واقع الأمر، أن تقوم بابداع الاطار الشعوري الفكري المشترك، والذي من غيره لا يكون هناك مجتمع، إذ يجب على هذه الافكار والمشاعر أن تتكون بذاتها، حيث لا يمكن إلا العمل على تعزيزها، وتكريسها، وترسيخها في وعي الأفراد. وما يؤسف له، في هذا الخصوص، أن الوحدة الأخلاقية لدينا ليست كما يجب أن تكون عليه في مختلف مستوياتها. حيث نتشاطر تصورات متباينة وأحياناً متناقضة، وفي اطار هذه التصورات المتباينة توجد مسألة يصعب انكارها ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وهي تتمثل في مسألة الاعتراف بحق الأكثرية في فرض ارائها واتجاهاتها على اطفال الاقليات الاجتماعية. فالمدرسة ليست ملكاً لفئة اجتماعية معينة، والمعلم لا يقوم بواجبه، عندما يحاول أن يفرض على الاطفال أفكار الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي

الصفحة 80

تبدو له شرعية. ولكن وعلى الرغم من كل التناقضات القائمة، يوجد لدينا في الوقت الراهن، وفي أصل ،ثقافتنا طائفة من المبادىء المشتركة، والتي تأخذ وجوداً علنيا أو مضمرا في ضمائر الجميع. وقليلون هم الذي يجسرون على انكار هذه الحقيقة مثل تقدير العقل، والعلم، والأفكار والمشاعر التي توجد في أساس الاخلاق الديمقراطية والدولة، هنا، معنية بالعمل على اطلاق هذه المبادىء الأساسية، وتعليمها في المدارس وايقاظها في نفوس الاطفال ومن ثم ايلاء هذه المبادىء الاحترام الذي يجدر بها في كل مكان. وذلك كله يتطلب فعلاً يمكن له أن يكون أكثر تأثيراً وفعالية كلما كان أقل عدوانية وتوجها نحو العنف، وكلما كان في اطار حدوده المعقولة.

الصفحة 81

5                         ـ سلطة التربية ووسائل التأثير

إذا كان هدف التربية قد تحدد، يجب علينا أن نبحث عن تحديد معيار تحقيق ذلك الهدف وكيفياته، أي كيف وبأي معيار يمكن للتربية أن تكون أكثر فعالية. 

    لقد كانت هذه المسألة، في شتى الأوقات، بالغة الصعوبة، وفي هذا الخصوص يرى مونتين Montaigne أنه ولا يمكن للتربية، إذا كانت جيدة أو سيئة أن تؤدي إلى خلق الخصائص الجيدة أو تحسينها أو افسادها». وعلى خلاف ذلك فالتربية بالنسبة للوك Locke، كما بالنسبة لهلفيتيوس Helvetius تملك قدرة كلية حيث يعلن هو لفيتيوس أن الناس يولدون على مبدأ التكافؤ ، وأنهم يحملون كفاءات وقدرات واحدة، والتربية وحدها هي التي تكرس التباين بينهم. وعلى هذا المنوال تأخذ نظرية تاكوتو اتجاه التجانس مع فكرة هلفيتيوس ـ فالحل الذي يقترح للمسألة، مرهون إلى حد كبير بالفكرة التي تنشأ حول أهمية الاستعدادات والميول الأولية من جهة، وحول قوة الوسائل التي يملكها المربي من جهة أخرى. 

   فالتربية لا تصنع انساناً من العدم، كما يعتقد لوك وهيلفيتيوس. بل تمارس فعلها على استعدادات موجودة وقائمة بشكل مسبق. ومن جهة أخرى يمكن أن نسلّم بصورة عامة أن هذه النزعات الأولية تتميز بالصلابة والقوة، وأنها تستعصي على التدمير، أو على التغير بطريقة راديكالية. وذلك لأنها مرهونة بشروط عضوية، تقل عندها أهمية تأثير المربي. وبالنتيجة فإنه عندما تشكل هذه النزعات موضوعاً محدداً، وعندما

الصفحة 82

تملي على الفرد والعقل أنماط السلوك وأنماط التفكير، بشكل محدد، فإن مستقبل الفرد سيحدد بشكل مسبق، وأنه لا يبقى للتربية مجال واسع لعملها.

    ولكن، ولحسن الحظ، فإن احدى السمات الأساسية للنزعات الأولية الأساسية عند الانسان تتصف بخاصية المرونة والتموج. فالغريزة وحدها هي النموذج الوحيد الذي يتميز بخاصية التصلب واللاتغاير وهي قلما تخضع لتأثير العوامل الخارجية.

    والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يوجد لدى الإنسان غريزة واحدة خاصة. إذ يجري الحديث عن غريزة البقاء، ولكن هذا التعبير لا ينطوي على دلالة خاصة. فالغريزة نظام من الفعاليات المحددة التي تتكرر باستمرار، دون تغاير والتي عندما يتاح لها أن تنطلق، تحت تأثير مثير ما، فإنها تتدافع آلياً، واحدة تلو الأخرى، حتى مرحلة الوصول إلى غايتها الطبيعية دون تدخل من التفكير وفي هذا الإطار، عندما تتعرض حياتنا للخطر، فإن الحركات التي نقوم بها، لا تتصف ابداً بالمحدودية واللاتمايز الآلي. فهي تتغير بتغير الحالات، ونحن نكيفها وفقاً للظروف المتاحة أي أنها لا تجري دون حد ما، من اجراء الخيارات الواعية. ان ما نطلق عليه غريزة البقاء ليس بالتحديد سوى دافع عام يساعد على تجنب الموت، وذلك دون أن تكون الوسائل المستخدمة محددة بشكل مسبق أو دفعة واحدة. وذلك ينسحب على ما يسمى، بطريقة غير دقيقة، غريزة الامومة والابوة والغريزة الجنسية. وهي دوافع تأخذ اتجاهاً محدداً، ولكن الوسائل التي تجسدها تختلف من فرد لآخر. وهذا يعني أن هناك مجالاً واسعاً لتدخل التفكير والتكيف الشخصي، وبالنتيجة،

الصفحة 83

لتدخل الأسباب التي لا يمكن الاحساس بمدى تأثيرها إلا بعد مرحلة الولادة. والتربية هنا تمثل إحدى هذه الاسباب.

    يزعم أن الطفل، يرث، أحياناً، نزعات قوية للقيام بأفعال محددة، مثل الانتحار، والسرقة والقتل والاحتيال، الخ... . ولكن هذه المزاعم ليست واقعية على وجه الاطلاق ومهما يقال، بشأن ذلك، فإن الانسان لا يلد مجرماً، أو مهيئاً، منذ الولادة، لارتكاب هذا النوع من الجرائم ذاك. وبالتالي فإن المفارقة التي سجلها علماء الجريمة الايطاليين لا تجد، اليوم، كثيراً من الانصار أن ما يمكن أن يورث هو نقص في التوازن العقلي الذي يجعل الفرد أكثر استعداداً للانحراف عن السلوك السوي والمنظم. والبنية الفطرية للإنسان لا تساعد الانسان على أن يكون مجرماً، إلا بالقدر نفسه الذي تساعده على أن يكون مستكشفاً، وعاشقاً، ومغامراً، ونبياً، ومجدداً، وسياسياً، الخ.... ويمكن أن يقال الشيء نفسه، عندما يتعلق الأمر بالكفاءات المهنية جميعها. وكما يلاحظ باين Bain» أن ابن أحد كبار فقهاء اللغة لا يرث كلمة واحدة وأن ابن احد كبار الرحالة يمكن له أن يُسبق في مادة الجغرافية من قبل ابن عامل في منجم». وهذا يعني أن الطفل يرث من والديه بعض الخصائص التي تتصف بالعمومية، كالقدرة على تركيز الانتباه، ودرجة الثبات، أو بعض القدرات العقلية، وبعض ملكات التخيل الخ... 

     ولكن أية ملكة من هذه الملكات الموروثة يمكن لها أن توظف في اطارغايات متعددة. فالطفل الموهوب كثيراً في قدرته على التخيل، يمكن له، بحسب الظروف المتاحة، ووفقاً للتأثيرات التي يتعرض لها أن يصبح فنانا: أو شاعراً أو مهندساً مبدعاً أو رجل أعمال كبير. ومن شأن ذلك، أن

الصفحة 84

يبين لنا، أن هناك تبايناً كبيراً بين السمات الطبيعية التي توجد عند الانسان، وبين الشكل الذي تأخذه في اطار الحياة الاجتماعية. ويترتب على ذلك أن مستقبل الفرد لا يمكن أن يتحدد بالبنية الفطرية عند الانسان. أن الاشكال الوحيدة للنشاط والتي يمكن أن تتحول وراثياً هي هذه التي تتكرر بطريقة واحدة والتي تتجذر في بنية الفرد العضوية. فالحياة الانسانية مرهونة بشروط متعددة ومعقدة، وهي ليست قابلة للتغير والتبدل، بل يجب أن تخضع لذلك دون انقطاع. وينتج عن ذلك، بأنه من غير الممكن بلورة الحياة الانسانية في شكل محدد ونهائي. ولكن النزعات العامة جداً، والمتموجة جداً، التي تعبر عن السمات المشتركة لكل التجارب الخاصة، هي وحدها التي تستمر وتنتقل من جيل إلى آخر . 

    فالقول إن السمات الفطرية هي في أغلب حالاتها، سمات عامة بأنها لدنه ومرنة جداً، وذلك لأنها قابلة للتشكل في تحديدات وصيغ مختلفة يعني ذلك أن هناك تبايناً كبيراً بين القدرات الفطرية اللامتعينة في الانسان لحظة ولادته وبين الشخصية المحددة التي يتخذها الفرد في اطار حياته الاجتماعية. وهنا تكمن مهمة التربية في ايجاد ذلك التباين وتعزيزه. وهنا يتبدى الحقل الواسع للعمل والفعل التربوي. 

    ولكن إذا كان على التربية أن تمارس فعلها هذا، فهل تملك الوسائل الكافية لتحقيق هذه الغاية؟

     من أجل اعطاء فكرة واضحة عن بنية الفعل التربوي وعن قدراته قام أحد علماء النفس المعاصرين كوييو (Guyau) بمقارنته بالتنويم المغناطيسي؛ ولا يمكن لهذه المقارنة أن تكون من غير أساس علمي. 

    يقتضي الايحاء المغناطيسي، في الواقع، وجود شرطين أساسيين هما:

الصفحة 85

  1. حالة المنوّم المغناطيسي الذي يوجد في حالة استثنائية من السلبية المفرطة، حيث يكون العقل والوعي مفرغان من مكوناتهما وتكون الارادة في حالة شلل كامل وبالتالي فإن الفكرة الموحى بها لا تواجه أية فكرة معاكسة حيث تأخذ مكانها دون أي حد من المقاومة. 
  2. ومع ذلك فإن الفراغ الذهني لا يمكن أن يكون مطلقاً، وهذا يعني أنه يجب على الفكرة المراد ادخالها أن تكون مشحونة بطاقة ايحائية خاصة. ومن أجل ذلك يجب على المنوم أن يلجأ إلى استخدام لهجة آمره نافذة. يجب أن يقول: أنا اريد، وأن يبين بأن عدم الخضوع أمر غير مقبول، وأن الفعل يجب أن يتم، وأن الاشياء يجب أن تظهر كما يريد أن يظهرها هو نفسه، وأنها لا يمكن أن تكون إلا كما يحددها. وحين تبدو معالم الضعف على المنوم، فإن المنوم يميل إلى التردد وإلى المقاومة وأحياناً إلى رفض الخضوع. 

وعندما يدخل في مناقشة فهو يمارس قوته. وكلما توجه الايحاء ضد الميل الطبيعي عند المنوم، فإن اللهجة الآمرة يجب أن تبلغ أشدها. إن هذين الشرطين يوجدان في اطار العلاقة بين المربي والطفل:

  1. فالطفل يوجد في حالة بالغة السلبية، يمكن مقارنتها مع حالة المنوم المغناطيسي، الذي يكون وعيه خالياً إلا من بعض التصورات التي يمكن لها أن تناضل ضد الأفكار الموحى بها. وبالتالي فإن ارادة الطفل تعاني من الشلل والقصور، وهي قابلة للإيحاء بدرجة كبيرة، وللسبب ذاته فإن الطفل مهيء لعملية تقليد عفوية وشاملة.
  2. ويضاف إلى ذلك المكانة العالية التي يحتلها المعلم، بالقياس إلى التلميذ، والتي تتمثل في تفوقه المعرفي والثقافي، والذي يعطي لفعله

الصفحة 86

قدرة هائلة على النقاد وهي القدرة الضرورية له، من اجل تحقيق الفعل التربوي.

     تبين لنا هذه المقارنة بين الحالتين إلى أي حد يجب أن يكون المربي مجرداً من الاسلحة وذلك لأننا ندرك القوة الهائلة التي توجد في الفعل الايحائي. وإذا كان العقل التربوي يشتمل، حقاً، وفي أدنى حدوده ومستوياته، هذه الفعالية المشابهة، فهو يسمح لنا أن نحقق أموراً كثيرة، وذلك بشرط وجود امكانية الاستفادة من ذلك وتوظيفه بشكل جيد. وبدلاً من أن نشكو من ضعف سلطتنا التربوية، يجب علينا، على الأصح، أن نخشى أبعاد هذه السلطة ومداها. وإذا كان الاباء والمعلمون يشعرون، دائماً، أن كل شيء يمر أمام الاطفال، يترك أثراً في نفوسهم، وأن بنية الطفل النفسية وشخصيته مرهونتان بآلاف الأحداث الصغيرة، التي تمر دون أن نشعر بها، والتي تحدث في كل لحظة، والتي قلما نعيرها أي اهتمام، بسبب تفاهتها الظاهرية، فإنهم سيولون، لسلوكهم، ولغتهم مزيداً من الاهتمام! إذ لا يمكن للتربية وبالتأكيد، أن تعطي نتائج هامة عن طريق اجراءات سريعة فجائية ومتقطعة.

     وكما يقول هيربارت (Habart) انه ليس بالتوبيخ واستخدام العنف تتم تربية الطفل، وكلما ابتعدنا أكثر فأكثر عن ذلك، كلما استطعنا أن تؤثر فيه بدرجة أكبر. وعندما تنطلق التربية على أساس من التروي والصبر والاستمرار بعيداً عن تسجيل النتائج الفورية الظاهرية، وعندما تنطلق أيضاً من مبدأ الاستمرارية، وتسعى نحو هدف محدد، من غير أن تترك للأحداث والظروف الخارجية مجالاً كبيراً للتأثير خارج اطارها المحدد، فهي تسيطر على الوسائل الضرورية كافة من أجل التأثير

الصفحة 87

بعمق في النفوس. وهنا يمكن لنا أن ندرك القوة الاساسية للفعل التربوي. وهي القوة التي تتجانس مع فعل القوة المغناطيسية وتأثيرها في العقول، وهي القوة التي تستحوذ على الظروف المحيطة. ومن خلال المقارنة التي اجريناها سابقاً، يمكن القول إن التربية يجب أن تكون، بالضرورة، شيئاً ذا طبيعة سلطوية. ويمكن لهذه الاطروحة الهامة أن تبنى مباشرة بطريقة أخرى. لقد رأينا أن التربية تسعى إلى أن تخلق في الفرد، الذي يولد لا اجتماعياً، كائناً جديداً اجتماعياً. حيث يجب عليها أن تجعلنا نتجاوز حدود طبيعتنا الفطرية :

    وذلك هو الشرط الاساسي الذي يسمح للطفل أن يغدو راشداً. ونحن في هذا السياق لا نستطيع أن نتجاوز أنفسنا إلا من خلال بعض الجهود التي قد تكون شاقة لدرجة كبيرة أو صغيرة. ولا يوجد تصور للتربية أكثر مخاتلة من التصور الابيقوري للتربية، وهو التصور الذي نجده عند مونتين Montaigne والذي يتضمن أن الفرد يمكن له أن يتشكل ، من خلال اللعب، دون عناء، وبحكم ما تقتضيه جاذبية اللذة والسعادة. وإذا لم يكن في الحياة حقاً ما هو قائم وكتيب، فإنه لمن الجرم أن نجعلها كذلك أمام أعين الأطفال، فهي على الرغم من ذلك على غاية الجدة والخطورة، وبالتالي فإن التربية التي تعد للحياة، يجب أن تسهم في أحياء هذه الجدية. إذ يجب على الطفل من أجل أن يتعلم السيطرة على نزعاته الانانية، وأن يُخضع نفسه لغايات نبيلة، وأن يجعل من ارادته اليد العليا، وأن يسيطر على رغباته في مجال الحدود المطلوبة، يجب عليه أن يمارس على نفسه اكراها وان يتملكها على ضوء الجهود المطلوبة، وفي هذا السياق

الصفحة 88

فإننا لسنا مكرهين على القيام بشيء أو على استخدام العنف إلا في حالتين: عندما يتعرض الطفل لضرورة فيزيائية، أو عندما يتوجب ذلك علينا اخلاقياً. ولكن الطفل لا يستطيع أن يشعر بالضرورة الفيزيائية، وذلك لأنه لم يوجد بعد في حالة احتكاك مباشر مع حقائق الحياة التي تجعل اكتساب هذا الموقف ضرورياً. وإذا كان لم يبدأ معركته الحياتية بعد، فإنه يجب علينا أن لا نتركه يتعرض لردود فعل قاسية تجاه الاشياء. ويجب عليه أن يُعد للحياة أولاً، وأن يتملك تجربة تربوية جيدة، قبل أن يخوض غمار تجربته الخاصة. ولا يمكن لنا بأي حال، أن تركن إلى اكراه الاشياء نفسها، من أجل أن نجعل ارادة الطفل مرنة، وأن نجعله قادراً على تملك نفسه بالدرجة المطلوبة.

    أما فيما يتعلق بمبدأ الاحساس بالواجب، فإن ذلك المبدأ هو أمر واحد بالنسبة للراشدين كما هو الحال بالنسبة للاطفال. وهو الحافز الاساسي للنشاط والجهد. وهو الاحساس الذي يفترضه الحب الخاص. ومن أجل أن يكون الطفل مدركاً وواعياً، كما يجب، لمبدأ الواجبات والحقوق، يجب عليه أن يعي كرامته وبالنتيجة واجبه. ولكن الطفل لا يستطيع أن يعرف واجباته إلا بمساعدة معلميه وذويه وهو يستطيع أن يدرك ذلك من خلال سلوكهم ولغتهم وهذا يعني أنه يجب عليهم أن يجعلوا من الواجب أمراً مجسداً وحيا في اطار سلوكهم وذلك يعني أيضاً أن السلطة الاخلاقية تمثل السمة الاساسية للمربي، وأن هذه السلطة التي يملكها تجسد مبدأ الواجب وما يقوم به لا يتعدى اللهجة الآمرة التي يتكلمها ويوجهها إلى الوعي والاحترام الذي يفرضه على الارادات، التي يخضعها له عندما يعلن عنه. وبالنتيجة فإنه لمن الضرورة بمكان أن يتجلى

الصفحة 89

مثل هذا الانطباع في شخص المعلم.

     وليس من الضرورة في هذا المكان أن نشير إلى أن هذه السلطة الواسعة تخلو من مظاهر العنف والاكراه في آن واحد: وذلك لأنها تقوم كلياً على أساس من السمو الاخلاقي وهي تقتضي أن يقوم المربي باستيفاء شرطين أساسيين. إذ يجب أن يستحوز المربي على الارادة في البداية. وذلك لأن السلطة يجب أن تقوم على أساس من الثقة، والطفل لا يستطيع أن يمنح ثقته لمن يعتريه التردد في اتخاذ قراراته. ولكن هذا الشرط، نيس هو الشرط الأكثر أهمية، وما هو مهم بالدرجة الأولى، يكمن في أن يحظى المربي، الذي يريد أن يمنح الآخرين الإحساس بالثقة، بدرجة عالية من الثقة بنفسه أولاً. ومثل ذلك الاحساس يجسد وجود قوة لا يمكن لها أن تظهر إلى حيز الوجود، إذا لم تكن موجودة فعلاً. ولكن من أين يمكن لها أن تستمد وجودها؟ وهل تكمن في ادواته المادية التي تسمح له بايقاع العقاب والثواب؟ ولكن العقوبة شيء آخر يختلف عن احترام السلطة، وهو لا يتضمن دلالة أو قيمة اخلاقية إلا إذا بدت عادلة بالنسبة لمن يتلقاها. وهذا يتضمن أن السلطة التي تعاقب هي شرعية أيضاً وذلك أمر يقبل المناقشة. فالمعلم لا يمارس سلطته بوحي خارجي، وإنما يمارس ذلك من منطلق ذاتي، ومصدر سلطته ينبع من الداخل. إذ لا يجب على المعلم أن يثق بنفسه، أو بسماته العقلية العليا، أو بعاطفته فحسب، بل وبسمو مهمته التربوية وعظمتها. إن ما يعزز وجود السلطة التربوية والتي تتلون بلون الخطاب الكهنوتي، يتمثل في الفكرة السامية التي يكونها المعلم عن مهمته، وذلك لأنه يتحدث باسم اله يؤمن به، ويشعر بانه أقرب إليه بالقياس إلى الآخرين. وهنا يجب على المعلم العلماني أن: يتمتع بذلك

الصفحة 90

الاحساس، إذ إنه أيضاً يمثل اداة لتنفيذ ارادة اخلاقية تتجاوزه: هي ارادة المجتمع.

     وكما يستوحي رجل الدين أفكاره الأخلاقية الكبرى من ارادة ربانية عليا، فإن المعلم يستوحي أفكاره الأخلاقية من العصر الذي يعيش فيه ومن البلد الذي يحتضنه وبقدر ما يؤمن بأفكاره هذه فإنه يشعر بمدى العظمة والسمو الموجودتين في هذه الافكار. وعندما يكون واعياً لها فإنه يستطيع أن يحقق اتصاله مع شخص هذه الأفكار وبمصدرها. وبالتالي فإن السلطة التي تستمد وجودها من مصدر غير شخصي لن تكون سلطة تبجح ومفاخرة وكبرياء، بل سلطة تقوم كلياً على أساس من الاحترام الذي يوليه المعلم لعمله ووظيفته. وذلك هو الاحترام الذي ينتقل من وعي المعلم إلى وعي الطفل عبر الكلمة والاشارة. وتجري المقابلة أحياناً بين الحرية والسلطة وكأنهما أمران متعارضان، لا يمكن لأحدهما أن يحدد الآخر. ولكن هذا التعارض لا يعدو أن يكون أمراً وهمياً. إذ يوجد هناك تداخل بين المفهومين في واقع الأمر، وأحدهما لا ينفي الآخر. فالحرية ابنة السلطة من غير شك أن تكون حراً لا يعني أن تفعل ما تريد، بل أن تكون سيداً لنفسك وأن تكون قادراً على السلوك بوحي من العقل والواجب. ووفقاً لذلك يجب على سلطة المعلم أن تكون لدى الطفل القدرة على تملك نفسه. فسلطة المعلم لا تعدو أن تكون سوى جانب من سلطة الواجب والعقل. حيث يجب على الطفل أن يتدرب على احترام وتقدير سلطة المربي وأن يخضع لسموها. وضمن إطار هذه الشروط يمكن له أن يجدها لاحقاً في عمق وعيه وأن يميزها.

الصفحة 91



    الفصل الثاني: طبيعة التربية ومنهجها:



     غالباً ما يتداخل مفهوما التربية ( Education ) والبيداغوجيا (۱) ( Pedagogie ) ومع ذلك فإن الفصل بينهما بدقة وعناية أمر تقتضيه الضرورة المنهجية . فالتربية ( Education ) تعني الفعل الذي يمارسه الآباء والمعلمون على ا الأطفال. ، وهو فعل يتميز بديمومته وعموميته . إذ لا توجد مرحلة ما في الحياة الاجتماعية ، إذا لم نقل لحظة من لحظات الحياة اليومية ، والتي لا يتعرض فيها الأطفال لعملية الاتصال مع الراشدين ولتأثير هم التربوي . فالتأثير التربوي لا يحدث في اطار اللحظات القصيرة فحسب ، والتي يتواصل فيها الآباء والمعلمون بشكل واع مع صغارهم عن طريق التعليم ، والذي ينقلون من خلاله لهؤلاء الأطفال حاصل خبراتهم الحياتية . إذ توجد هناك تربية غير مقصوده )عرضية ) تتميز بخاصة الديمومة والاستمرار . وهذا يعني أننا نمثل نموذجا تربوياً يتجلى في أحاديثنا وأفعالنا التي نقوم بها في اطار حياتنا الاجتماعية . وهو نموذج تؤثر من خلاله في عقول أطفالنا بشكل دائم .

الصفحة 93

     فالممارسات التربوية هي شيء آخر غير البيداغوجيــا (Pedagogie) التي تتجسد في اطار متكامل من النظريات والآراء والأفكار التربوية ، كما تتجسد في وجهات نظر تدور حول التربية وهي شيء آخر يختلف عن الممارسة التربوية العملية . ويمكن لنا في هذا السياق تحديد مفهوم البيداغوجيا بشكل جيد عندما تتم مقابلته مع مفهوم الممارسة التربوية . فالتربية التي يعلن عنها رابليه ( Rablais ) ، وهذه التي يبديها روسو ( Rousseau ) والتي رسمها بستالوتزي (Pestallotzzi) هي نظريات تتعارض مع التربية الواقعية التي كانت سائدة في أيامهم. فالتربية (Education) موضوع يخضع لدراسة البيداغوجيا (Pedagogic) التي تتمثل في بعض اتجاهات التفكير الخاصة بالقضايا التربوية.

     تلك هي الصورة التي تمثلها البيداغوجيا وذلك في المرحلة الماضية على الأقل ، والتي اتسمت في مناحي نموها بالتقطع التاريخي، بينما استمرت التربية (Education) . حيث لم تشهد البيداغوجيا وجوداً لها عند بعض الشعوب في مراحل معينة من تاريخ الإنسانية . وكانت ولادتها مرهونة بمراحل تاريخية محددة ومتقدمة في سلم التطور الاجتماعي . لقد ظهرت البيداغوجيا في العهد اليوناني في عصر بريكلس (Pericles) ، في فكر افلاطون (Platon) وعند كزينيفون (Xamophon) ، وفي فلسفة أرسطو (Aristote) ، ولكنها كادت أن تكون مجهولة في عهد الأمجاد الرومانية .

وفي المجتمعات المسيحية لم تظهر البيداغوجيا إلا في القرن السادس عشر الذي احتضن انطلاقات فكرية تربوية هامة ، بدأت تخبو في القرن السابع

الصفحة 94

العشر ؛ ثم بدأ مسارها يأخذ أهميته من جديد في مجرى القرن الثامن عشر . والحكمة من ذلك كله أن الإنسان لا يهب نفسه للتفكير على نحو دائم ولكنه يفكر بقوة عندما تقتضي الضرورة منه ذلك . ويضاف إلى ذلك أن شروط التفكير لا توجد دائماً في كل مرحلة تاريخية أو في كل  مكان .

    إن هذه الإشكالية تتطلب منا أن نعمل على تحديد سمات البيداغوجيا وخصائصها . والمسائل التي تطرح نفسها في هذا الخصوص هي : هل تتسم العقائد التربوية بالطابع العلمي ؟ وهل يمكن للتربية ( Pedagogie ) أن تكون علماً له موصفات علم التربية Science de reduxcation ؟ وهل يناسب أن نطلق عليها تسمية أخرى غير علم التربية ؟ وما هي هذه التسمية المقترحة ؟ إن الإجابات المتأنية عن هذه الأسئلة. ستتيح لنا تحديد طبيعة البيداغوجيا وهويتها في إطار صلتها بعلم التربية ومناهجه وانطلاقاً من ذلك يمكن لنا أن نسوق النقاط التالية :

  1. إذا كان يمكن لقضايا التربية أن تشكل موضوعاً لعلم ما ، يشتمل على مواصفات العلوم الأخرى ، فإن ذلك أمر يسهل البرهنة عليه في هذا المجال . وذلك لأن الدراسات والأبحاث الجارية يمكن أن تأخذ الصيغة العلمية إذا توافرت فيها الخصائص التالية : 1- أن تتناول هذه الدارسات ظواهر وحقائق قابلة للملاحظة . وذلك لأن العلم ينطلق من موضوع له وجود عياني ، قابل للتمايز والتحديد المكاني .

.

  1. أن تكون الظواهر المدروسة متجانسة فيما بينها بالقدر الكافي ، الذي يسمح بتصنيفها في فئة واحدة . وفي الوقت الذي تكون

الصفحة 95

فيه هذه الظواهر متباينة ، فإننا لسنا بصدد علم واحد وإنما بصدد عدد من العلوم المتباينة ، وبصدد موضوعات متمايزة من الأشياء التي تخضع للدراسة . ويحدث ، في غالب الأحيان ، أن تعاني العلوم التي هي في طور الولادة ، من تداخل بين مجموعة من الموضوعات المختلفة ، وذلك هو حال الجغرافية والانتربولوجيا على سبيل المثال . ولكن مثل هذه الحالة تمثل حالة انتقالية في تاريخ تطور العلم الناشيء .

  1. أن يكون هدف العلم دراسة هذه الظواهر من أجل معرفتها بشكل موضوعي ، وليس من أجل أي شيء أخر . فنحن نستخدم بشكل مقصود كلمة يعرف (Connaitre) وهي كلمة عامة وغامضة بعض الشيء وذلك من غير أن نحدد بطريقة محددة ماذا نعني بكلمة المعرفة العلمية.

     إذ ليس من مهمة العلماء الأساسية بناء نماذج بل السعي إلى اكتشاف القوانين ووصفها وتفسيرها . فالعلم يبدأ من اللحظة التي تم فيها البحث عن المعرفة من أجل المعرفة ذاتها . فالعالم يعرف من غير أدنى شك وبشكل مسبق أن اكتشافاته قابلة للاستجابة والتوظيف . وهو يستطيع دون ريب ب أن يوجه ابحاثه نحو هذا الموضوع أو ذاك وفقاً لسلم أولويات يتعلق بمدى تلبية هذه الابحاث نحو هذا الموضوع أو ذاك وفقاً لسلم أولويات يتعلق بمدى تلبية هذه الأبحاث الحاجات معينة وبمدى الفائدة التي يمكن لها أن تقدمها . ولكنه عندما يهب نفسه للبحث العلمي فإنه قلما يلتفت إلى النتائج العملية لأبحاثه . إنه يبين ما هو كائن ، ويلاحظ ماهية الأشياء ، ويتوقف عند هذه الحدود . ودوره يتوقف عند حدود التعبير عن الحقيقة وليس الحكم عليها .

الصفحة 96

      وبناء على المعاينات السابقة فإن التربية تستحوذ على الشروط الكاملة لأن تكون موضوعاً للمعرفة العلمية ، وهي بالنتيجة ، تستوفي الشروط التي تجعلها موضوعاً شرعياً للدراسة العلمية . فالتربية ، التي توجد في مجتمع معين ، وفي مرحلة معينة من مراحل تطور ذلك المجتمع ، تتضمن في الواقع على منظومة من الممارسات والكيفيات ، من العمل والتقاليد ، التي تشكل ظواهر محددة على نحو كامل ، وهي ظواهر تشتمل على الحقيقة نفسها التي توجد في الظواهر الاجتماعية الأخرى . وهذه الظواهر ليست كما كان يعتقد سابقاً بأن موازنات صنعية أو عرضية بدرجة ما ، والتي لا توجد إلا تحت تأثير ارادات متقلبة الأطواز ، بل هي وعلى خلاف ذلك كله مؤسسات اجتماعية حقيقية .

      فالانسان لا يستطيع أن يصنع مجتمعاً ما ، يشتمل في لحظة ما ، على نظام تربوي آخر غير هذا الذي يوجد في أصل المجتمع القائم ، كما هو الحال بالنسبة للكائن ، الذي لا يستطيع أن يوجد عضوية أخرى ، أو وظائف أخرى غير هذه التي توجد في بنيته الأصلية . وفي هذا السياق ، علاوة على الأدلة التي " سقناها حول تصورنا لمفهوم التربية ، فإنه يجب علينا أن نضيف إلى ذلك كله اشياء أخرى جديدة ، إذ يكفي أن نعي القوة القسرية التي تفرضها الممارسات التربوية علينا . إذ ليس صحيحاً أننا نربي أطفالنا كما نريد نحن، فنحن مكرهون على اتباع القواعد التربوية السائدة في اطار الوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه . وذلك لأن الرأي العام يتطلب منا أن نأخذها بعين الاعتبار ، والرأي العام يشكل قوة أخلاقية ، وبالتالي فإن السلطة التي تمارسها هذه القوة الأخلاقية لا تقل أهمية عن الاكراه الذي تمارسه القوى الفيزيائية . فالعادات التي تشكل

الصفحة 97

مصدراً لقوة التربية ، هي في الوقت نفسه ، مستخلصة وبدرجة كبيرة أفعال الأفراد أنفسهم . ويمكن لنا أن نعارض هذه القوة الأخلاقية وتقاومها ولكنها بدورها تواجهنا وتتحرك ضدنا ، ونحن لا نستطيع ازاء القوة والفوقية التي تتسم بها ، إلا أن تخضع لها . وذلك هو حالنا عندما نتمرد على القوى المادية التي تحيط بنا ، فنحن نستطيع أن نعيش بطريقة أخرى تخالف طبيعة الوسط الذي نعيش فيه وتتنافى مع معاييره ، ولكن في نهاية الأمر فإن عقابنا سيكون المرض أو الموت وهو نتاج لفعل تمردنا . فنحن نعيش في جو من الأفكار والمشاعر الجمعية ، التي لا نستطيع أن نغيرها بإرادتنا . وعلى مثل هذه الأفكار والمشاعر ترتكز الممارسات التربوية . فهي أشياء متمايزة عنا ، وذلك لأنها تقاوم ارادتنا . وهي حقائق تحمل في ذاتها طبيعة محددة تفرض نفسها علينا . وبالنتيجة فإنه يمكن لنا أن نلاحظ هذه الحقائق، وأن نبحث عنها من أجل هدف واحد هو معرفتها لا غير ذلك . ومن جانب آخر ، يمكن القول أن الممارسات التربوية ، مهما كانت ، ومهما يكن التباين القائم بين جوانبها ، تنطوي على سمة مشتركة جوهرية : إنها نتاج للتأثير الذي يمارسه جيل على جيل آخر من أجل مساعدته على التكيف مع معطيات الوسط الاجتماعي الذي يجب عليه أن يعيش فيه . وتمثل هذه الممارسات التربوية أنماطاً مختلفة للعلاقات الأساسية التي تقوم بين جيلين ، وهي في النهاية ظواهر متجانسة تصدر عن فئة واحدة متجانسة من الظواهر ، وهذا يعني أنها قابلة لأن تكون موضوعاً . متفرداً لعلم واحد هو علم التربية (science de l’éducation)

       ويمكن لنا في هذا المقام أن نعالج بعض المسائل الأساسية التي

الصفحة 98

يطرحها علم التربية . فالممارسات التربوية ليست أحداثاً ينفصل بعضها عن الآخر ، وهي بالنسبة المجتمع معين مترابطة في نسق تتكامل أطرافه من أجل تحقيق غاية واحدة. ويمثل هذا النسق ، من الممارسات التربوية ، النظام التربوي الخاص بمجتمع ما في زمن ما . فلكل مجتمع نظامه التربوي الخاص ، كما هو الحال بالنسبة لنظامه الأخلاقي ، ونظامه الديني ، والاقتصادي ، الخ ... ومن جانب آخر ، يمكن القول أن الشعوب المتجانسة في شروط حياتها تستحوذ على أنظمة تربوية متجانسة إلى حد ما ؛ فالتجانس الذي يوجد بين البنى الاجتماعية يؤدي إلى نوع آخر من التجانس الهام والذي يتجسد في الأنظمة التربوية القائمة . وبالنتيجة ، يمكن لنا أن نحدد من خلال المقارنة ، عناصر التشابه ، واستبعاد عناصر التباين ، وذلك لتحديد النماذج الأساسية للتربية والتي تتوافق مع مختلف أنواع المجتمعات الانسانية . ففي مجتمع القبيلة ، على سبيل المثال ، تأخذ التربية طابعاً جمعياً ، وتعطى الجميع أعضاء القبيلة دون تمييز ، إذ لا يوجد معلمون محددون أو متخصصون لتربية الأطفال وتأهيلهم ، فالكبار يمثلون الجيل الذي يمارس العملية التربوية . وكانت مهمة التعليم الخاص تقع على عاتق المعمرين بالدرجة الأولى . ومع تقدم المجتمعات الانسانية بدأت العملية التربوية تأخذ أشكالاً أخرى أكثر تقدماً ، وأصبحت التربية عمل يقوم به الموظفون المتخصصون . فرجال الدين هم الذين كانوا يقومون بالعمل التربوي في مصر وفي الهند حيث كانت التربية في هذه المجتمعات القديمة مهنة كهنوتية بالدرجة الأولى .

     لقد بدأت الحياة الدينية تسعى إلى ايجاد مؤسسة خاصة تقوم بإدارة وتنظيم الأفكار الدينية ونشرها . وقد ساعد ذلك على نمو الفكر

الصفحة 99

الديني التأملي وتطوره بفضل المؤسسات الدينية التي تجسدت في وجود بنية طبقية كهنوتية خاصة به. واستطاع الوسط الكهنوتي أن يشكل المهد الأول لنشوء وتطور العلوم مثل : علم الفلك ، والرياضيات ، والتنجيم . وقد سبق لأوغست كومت ( Comte ) أن أشار إلى ذلك منذ عهد بعيد وهي مسألة لا تصعب على التفسير . فمن الطبيعي جداً ، أن تقوم مؤسسة ما ، بعملية تصنيف الأفكار التأملية في مجموعة محددة ، ومن ثم العمل على تطوير هذه الأفكار وتنميتها . وذلك هو حال التربية التي لم تتوقف عند حدود تدريب الطفل على الممارسة ، وتطوير بعض أنماط السلوك لديه ، بل بدأت تعنى وعلى نحو واسع بالمواد الثقافية كموضوع خاص بها. فالكاهن يعلم أفكاره وينقلها إلى الآخرين وخاصة هذه التي تكون في مرحلة النشوء والتكوين ، وذلك لأن تعليماته ومعارفه التأملية لا يمكن لها أن تتأصل في نفوس الآخرين على نحو عفوي . وهي تحت تأثير العقيدة الدينية استحوذت على الخاصية القدسية ، لأنها مشبعة بالعناصر والرموز الدينية، والتي تكونت وتشكلت في أحضان الدين ؛ أفكار متواصلة ، ومتكاملة ، وغير قابلة للإنشطار . فالتربية في بعض البلدان ، كما هو الحال في بلاد الإغريق ، كانت مهمة تتقاسمها الدولة والعائلة بنسب محددة تتباين بتباين المدن . وإذا كانت الدولة تعد للحياة الدينية على المستوى الكهنوتي فإن التربية العملية ، هذه التي لا تحتاج إلى بعد تأملي ، كانت تتم خارج إطار الدولة، وخارج اطار المؤسسة الدينية نفسها .

     فالعلم يلد عندما تقتضيه الحاجة وتلتمسه . وفي اطار هذه الصورة يأخذ فلاسفة الأغريق وضعية خاصة . لقد أخذ العلم . غالباً موقعاً

الصفحة 100

معادياً للدين . وهذا بدوره ينسحب على الثقافة ( Culture ) ، حيث كان للثقافة دائماً طابعاً علمياً يتميز بالخصوصية . كان المبرمج في أ موظفاً عادياً، ولم تكن له صفة دينية أو رسمية . وليس من الضرورة هنا  أن نذكر أمثلة متعددة لتوضيح هذه المسألة : فالمقارنة بين مجتمعات ذات أصل واحد تساعدنا في بناء تصور لنماذج تربوية منشودة ، كما يمكن لها أيضاً أن تساعد في بناء تصورات نموذجية حول العائلة والدولة والدين ويتيح أيضاً بناء تصنيف لها . ومثل هذا التصنيف لن يقدم حلولاً نهائية للمسائل العلمية التي تطرحها الحياة التربوية ، ولكنه يساعد على تقديم صورة للعناصر الأساسية من أجل الوصول إلى حلول أفضل . وعندما يتم بناء مثل ذلك التصنيف فإن ذلك يتطلب ايجاد تفسير له. وهذا يعني البحث عن الشروط والسمات المميزة لكل من التصنيفات الممكنة ، وتحديد العلاقات التي تربط بينها ، وكيفية صدور احداها. الآخر وفيما بعد يجب تحديد القوانين التي تحدد مسار تطور الأنظمة التربوية ، حيث يمكن لنا ، فيما بعد ، تقصي الاتجاه الذي يسير فيه التطور التربوي ، والأسباب التي : تحدد مسار هذا التطور وتفسره . ومثل ذلك يشكل مسألة نظرية بالتأكيد ، ولكنها تملك اسقاطاتها الواقعية في مجال الممارسات التربوية دون خفية وعلى نحو سريع .

إن الدراسة التاريخية للماضي تتيح لنا ادراك الطريقة التي تكونت من خلالها مؤسساتنا التربوية . ويمكنها أيضاً أن تؤدي مهمة أخرى تتمثل في تحديد الوظائف التي كانت تقوم بها هذه المؤسسات ، والمهمات التي كانت تباشرها ، وابراز النتائج التي وصلت إليها ، والشروط التي أدت إلى تباين نتائجها وآثارها. ومن أجل إجراء مثل هذه الدراسات

الصفحة 101

التاريخية ، يجب أن تكون هناك احصائيات مدرسية جيدة ونوعية . 

     إذ يوجد في كل مدرسة نظام من العقوبات والمكافآت ، وكم هو مهم أن نعرف ومن خلال الملاحظة المهنية العمليات التي تسير هذه الأنظمة في مختلف المدارس التي توجد في حيز مكاني واحد ، وذلك في مختلف مراحل العام الدراسي، كما في مختلف لحظات اليوم المدرسي ... وجميل أن نعرف أيضاً المخالفات المدرسية الأكثر تكراراً ، ودرجة تباينها ، في اطار المنطقة ، أو بين البلدان ، وما العلاقة بين هذه المخالفات المدرسية ومتغيراتها كالعمر وحالة العائلة الخ .. مثل هذه الأسئلة ، تطرح نفسها ، الأطفال ، وهي لا تقل أهمية ، في أي حال من الأحوال ، حول جنوح عن الأهمية الخاصة بمسألة الانحراف والجريمة عند الراشدين . إذ يوجد علم دراسة الانحراف عند الأطفال ، كما يوجد هناك علم الجريمة الذي يدرس أحوال الجريمة عند الراشدين. ولا يمكن للنظام أن يكون الموضوع الوحيد للدراسة في اطار المؤسسة المدرسية ، إذ يمكن للمناهج التعليمية أن تكون في مقدمة الموضوعات التي تتطلب الدراسة .

      فالمناهج التربوية ظواهر قابلة للدراسة وفقاً للطريقة المبينة ، وذلك كله يفترض بالضرورة وجود أداة أساسية من أجل اجراء هذه الدراسات والتي تتمثل في وجود احصائيات متكاملة .

                                                                                - II -

     هناك إذن طائفتان من الظواهر التربوية يمكن دراستهما على نحو علمي . تتمثل الطائفة الأولى كما رأينا بالأصول التاريخية للمسألة التربوية ، بينما تجسد الطائفة الثانية وظائف الأنظمة التربوية. ولا تخرج الأبحاث الجارية في هذا الميدان ، عن دائرة وصف هذه الظواهر في ماضيها

الصفحة 102

وحاضرها ، أو في البحث عن أسبابها ، أو في نتائجها الحاصلة . وتشكل هذه الأبحاث في جملتها علماً ، وذلك هو ، أو بالأحرى ما سيكونه ، علم التربية ( Science de l'éducation ) .

      فالنظريات التربوية لا تعدو أن تكون ، كما تبين لنا في المقدمة التي رسمناها بوضوح، سوى نوعاً من التأمل الفكري . وهي ، في كل الأحوال ، لا تسعى إلى تحقيق هدف واحد أو تنظيم منهج واحد . إن هدف هذه النظريات لا يكمن في وصف أو تفسير ما هو قائم ، أو ما كان قائماً ، بل في تحديد ما يجب أن يكون . ولا تنطلق هذه النظريات من الحاضر ، أو من الماضي بل تتجه إلى المستقبل ، وهي لا تسعى إلى معالجة الواقع أو دراسته ، بل تسعى إلى صياغة ارشادات سلوكية . وهي في كل الأحوال لا تنبىء عن واقع الأشياء الموجودة ، أو عن أسباب وجودها بالفعل ، بل تحاول أن تحدد لنا الصورة المستقبلية التي يجب أن تتحق بالفعل . وتنسحب معطيات هذه المقولة على المنظرين الذين يتحدثون عن الممارسات التربوية في الماضي أو في الحاضر انطلاقاً من رؤية سلبية وذلك عندما يركزون بدرجة واضحة على جوانب النقص والقصور التي تعتري هذه الممارسات التربوية السائدة . وذلك هو حال كبار المنظرين ، كرابليه ، ومونتين ، وروسو ، وبستالوتزي ، الذين جسدوا ارادات نقدية وجهت ضد الممارسات التربوية السائدة في عصر كل منهم . وهم لا يمرون على ذكر الأنظمة التربوية، القائمة أو المعاصرة لهم ، إلا من أجل الحكم عليها ، وإدانتها . وهم إذ ذاك يعلنون بأنها أنظمة منافية لطبيعة الأشياء.

     ويترتب على ذلك أنهم يريدون . دائماً الانطلاق من نقطة الصفر

الصفحة 103

لتأسيس أنظمة تربوية جديدة ومتكاملة. 

     وفي هذا الخصوص يجب علينا أن نميز بعناية بين نوعين مختلفين من التأمل الفكري التربوي : فالبيداغوجيا ( Pedagogie ) هي شيء آخر غير علم التربية ( Science de l’ éducation ) . ولكن ما البيداغوجيا ؟ هل نستطيع أن نقول بأن البيداغوجيا فن ؟ ومن الصعوبة هنا أن نجد حدوداً وسطى بين هذين المفهومين المتداخلين ، إذ أننا نسمي فناً أي نتاج فكري وهو شيء آخر غير العلم Science ، وذلك يعني اعطاء كلمة فن » استطالة واسعة لحدودها حيث تشتمل على أشياء مختلفة جداً . 

      إننا نطلق كلمة فن ( Art (، في واقع الأمر ، على التجربة العملية المكتسبة من قبل المعلم ، في اطار عملية اتصاله مع الأطفال، وفي سياق ممارسته المهنية ، وهي تجربة تختلف جداً . تجربة تختلف جداً عن دلالة النظريات التربوية ، وهذا ما تشير إليه الملاحظة باستمرار . إذ يمكن للمربي أن يكون بارعاً في عمله دون أن يأخذ بعين الاعتبار الأفكار التربوية التأملية . والمعلم الكفؤ ، هو المعلم الذي ، يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل ، دون أن يكون قادراً على تبرير الاجراءات التي يوظفها دائماً في عمله . وعلى خلاف ذلك فإن ( البيداغوجي ) ( رجل النظرية Pedagoque ) قد يحتاج إلى أية كفاءة عملية . ونحن لا نستطيع أن نعهد اليوم إلى روسو ) أو مونتين تعليم أحد الصفوف ، وحتى بستالوتزي نفسه الذي كان مع ذلك رجل المهنة. ويتجلى ذلك التداخل بين المفهومين الفن والعلم في ميادين أخرى، إذ يطلق على المعرفة العملية لرجل الدول فناً، كما يطلق ذلك على الخبير الذي يعالج الأمور العامة. ويقال أيضاً عن كتابات أفلاطون وأرسطو

الصفحة 104

وروسو بأنها تمثل خصائص الفن السياسي . وهي كتابات تنطوي على أعمال علمية حقيقية . لأن هدف هذه الأعمال لم يكن مكرساً لدراسة الواقع ، بل للبحث عن نموذج مثالي) Un ideal ) . ومع ذلك فإنه توجد هناك هوة عميقة بين المحاولات العقلية التي توجد في كتاب روسو ( العقد الاجتماعي ) ( Le contrate social ) وبين ممارساته الادارية كرجل سياسة . لقد أخفق روسو 

( Rousseau ) في عمله كوزير للدولة كما أخفق في أن يكون مربياً ناجحاً . ويتجلى ذلك التناقض في مجال العلوم الطبية ، إذ يوجد آلاف المنظرين في مجال الطب ، الذين لا يعلون من أفضل الأطباء .

     وهنا تقتضي الضرورة المنهجية أن لا نشير بكلمة واحدة إلى شكلين مختلفين للنشاط الانساني . حيث يجب علينا هنا أن نستخدم كلمة فن ( Art ) لتعيين التجربة الخالصة من غير نظرية . وهذا يعني ايضاً أن الجميع يوافق على كلمة فن ، عندما يجري الحديث عن فن الحرب ، وفن المحاماة ، وفن التعليم. فالفن هو منظومة من طرق العمل التي تسعى لتحقيق غاية معينة ، والتي يمكن لها أن تكون نتاجاً للخبرة التقليدية التي تتواصل عبر التربية ، أو نتاجاً لخبرة الفرد الشخصية . ولا يمكن للمرء أن يكتسب ذلك الفن إلا من خلال تواصله مع الأشياء التي يمارس عليها تأثيره . وإذا كان الفن ، دون شك ، يتواصل مع التفكير ، فإن التفكير هنا لا يعد عاملاً أساسياً من عوامله .

    وبين الفن الذي حددناه والعلم ، يوجد هناك مكان لتوسطات ذهنية متعددة. فمن أجل التأثير في الأشياء وفي الآخرين وفقاً لطرق محددة، يجري أحياناً التفكير في اجراءات الفعل التي توظف ، ليس من

الصفحة 105

أجل معرفتها وتفسيرها ، وإنما من أجل تقدير نتائجها ، ومعرفة ما إذا كانت كما يجب، أو ما إذا كانت هناك ضرورة لتغييرها ، وكيف يمكن إذا دعت الضرورة ، استبدالها باجراءات جديدة . إن هذا التفكير يأخذ شكل نظرية ، وهو يشكل نوعاً من الموازنات الفكرية الخاصة بالاجراءات الفعلية ، وهي موازنات تقارب المعرفة العلمية في بعض جوانبها . ولكن هذه الموازنات لا تسعى إلى تفسير طبيعة الأشياء ، بل تهدف إلى توجيه الفعل ، وهي لا تمثل اتجاهات بل شيئاً من هذا القبيل ،، وذلك عندما تسعى إلى تحقيق عملية التوجيه . وهي إذا لم تكن أفعالاً فإنها تمثل برامج عمل على الأقل ومن هنا فهي تتقارب مع الفن . وذلك هو شأن النظريات الطبية والسياسية والاستراتيجية الخ… 

     ومن أجل تفسير السمة المشتركة لهذا التنوع الخاص بالتأملات الفكرية فإننا نقترح أن نطلق عليها نظريات عملية . والبيداغوجيا والبيداغوجيا (Pedagogie) وفقاً لذلك هي نظرية عملية من هذا النوع . فهي لا تسعى إلى دراسة الأنظمة التربوية على المستوى العلمي ، بل إلى تقديم أفكار توجه المربي .

lll                                                                          

     يمكن لنا أن نقول ، والأمر شرعي، أن البيداغوجيا نظرية عملية ، وخاصة عندما تنطلق من أساس علمي معترف به وتجسد تطبيقاً له . وفي هذه الحالة فإن المفاهيم النظرية التي تشتمل عليها تحمل قيمة علمية تتجسد في نتائج يمكن تحديدها . وهذا ما ينطبق على الكيمياء التطبيقية ، والتي لا تعدو أن تكون سوى نظرية تطبيقية للنظريات العلمية الخالصة في مجال الكيمياء . فالنظريات التطبيقية تتجاوز في أهميتها العلوم التي تشكل

الصفحة 106

ينبوعاً لمفاهيمها الأساسية . وفي هذا السياق يمكن لنا أن نتساءل عن العلوم التي يمكن أن تستند إليها البيداغوجيا ؟ إذ لا بد لها من أن تنطلق من علم التربية ( Science de l'Education ) .

     وعندما نريد أن نعرف ما التربية يجب علينا قبل كل شيء ، أن ندرك طبيعتها ، والشروط التي تحددها ، والقانونية التاريخية لتطورها . ولكن علم التربية ( Science de raducation ) لم يوجد بعد وما زال في صيغة مشروع يمكن تحقيقه . وهذا يعني أنه يمكن لفروع علم الاجتماع أن تأخذ على عاتقها مساعدة و البيداغوجيا ، على تحديد هدفها وتوجيه مناهجها. ويمكن أيضاً لعلم النفس أن يلعب دوراً بالغ الأهمية في تحديد تفاصيل العملية التربوية . ولكن علم الاجتماع علم حديث العهد ، وهو لم يشتمل بعد إلا على قليلاً من الأطروحات المحددة . وعلم النفس ، والذي سجل ولادة مبكرة بالقياس إلى العلوم الاجتماعية الأخرى ، يعاني من التناقضات الحادة، والتي تتجلى في الطروحاته العديدة . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف يمكن تقييم النتائج التطبيقية للنظرية التربوية التي تستند إلى معطيات علمية غير أكيدة وغير كاملة في آن واحد ؟ وما قيمة التفكير التربوي الذي يفتقر إلى قاعدة علمية ينطلق منها ؟ ولكن إذا كانت هذه الأسس غير متداعية كلياً فهل تعاني التربية من ضعف في مستوى تماسكها ؟

    إن ما يدفع إلى رفع الثقة عن البيداغوجيا ( Pedagogie ) هو أمر. لا يمكن الاعتراض عليـه بحد ذاته. وهذا يعني أنه على علم التربية ( Science de l'éducation ) أن يحاكي الخطوات التي نهجها كل من علم الاجتماع، وعلم النفس ، في المرحلة التي كانا فيها في مستوى أدنى من

الصفحة 107

التطور . وإذا كان يمكن الانتظار، فمن الحكمة ، ومن المنهجية ، الانتظار حتى تستطيع هذه العلوم أن تحقق تطورها ، من أجل أن نثق بمعطياتها . ولكن ما يحدث هو أننا لا نستطيع أن نصبر ، ) ، ولسنا أحراراً في تأجيل طرح المسائل التربوية الملحة التي يمليها الواقع وتقتضيها ضرورة الحياة الاجتماعية . ونحن هنا إزاء مشكلة معقدة ويجب علينا مع ذلك أن نتابع ونستمر.

      فنظامنا التربوي التقليدي لا ينسجم في بعض جوانبه مع أفكارنا وحاجاتنا وليس أمامنا سوى أحد الخيارين : 

     إما الابقاء على الممارسات التربوية الموروثة من الماضي ، والتي لا تستجيب لضرورات الواقع الراهن، أو ايجاد نوع من التوازن باجراء التغيرات الضرورية الممكنة . وفي اطار هذين الخيارين نجد أن الخيار الأول غير ممكن إذ أنه لمن العبث أن نحاول بعث الحياة في جسد مؤسسات عتيقة فقدت ميرزات وجودها ، والاخفاق هنا أمر محتم . وإذا كان من الصعب خنق الأفكار التي تعارض وجود هذه المؤسسات ، أو الغاء هذه الحاجات التي تنمو باستمرار، فإنه لا يجب علينا أن نستسلم للقوى والصعوبات التي تواجهنا .

      يجب علينا أن نبدأ العمل بشجاعة ، وذلك من أجل اجراء التغيرات المطلوبة وتحقيقها فعلياً . ولكن كيف يمكن لنا أن نعرف اتجاه التغيرات المطلوبة دون التفكير والتأمل ؟ فالتفكير الواعي النقدي يمكنه ايجاد البديل للضعف الذي تعانيه التقاليد التربوية . فما الدور الذي يمكن للبيداغوجيا (Pedagogie) أو للتأمل التطبيقي، المرن والمنهجي أن يلعبه في هذا المجال ؟ وإذا لم يكن بين أيدينا ، بالتأكيد، العناصر

الصفحة 108

الضرورية من اجل ايجاد الجل المناسب ، فإن ذلك لن يجعلنا نركن إلى الاستسلام وأن نكف عن البحث لايجاد الحل المناسب للمسألة ، لأنه يجب أن يكون هناك حل لها . وفي هذا السياق ، ليس أمامنا إلا أن نبذل قصارى جهدنا لدراسة وتفسير وتحليل الظواهر التربوية ، وفقاً للإمكانيات المنهجية الممكنة، بغية تقليص فرص الخطأ الممكنة إلى حدودها الدينا . وذلك هو الدور الذي يتوجب على البيداغوجيا Padagogie أن تلعبه في هذا الخصوص . ومن العقم أيضاً أن نستسلم للصوفية العلمية التي تدعو ، تحت ذريعة أن علم التربية لم يتكوّن بعد ، إلى الاستسلام وأن تطالب الناس بأن يكونوا شهود عيان سلبيين ازاء ما يجري في اطار الواقع . فالسوفسطائية الجاهلة ليس أكثر خطراً من السوفسطائية العلمية . ومن غير شك فإن المبادرة ، في اطار هذه الظروف ، تحمل في ثناياها جملة من المخاطر ، ولكن الفعل لا يمكن له أن يكون أبداً من غير مجازفة . إذ لا يمكن ، حتى للعلوم المتقدمة ، أن تلغي شروط ولادة المخاطر في اطار المبادرات الصعبة . وكل ما هو مطلوب منا هو ، أن نوظف كل ما لدينا من معرفة علمية ،، مهما تكن عيوبها ، وكل ما لدينا من وعي ومن قوة ، من أجل التنبؤ بالمخاطر الممكنة .

     فالبيداغوجيا ، في اطار هذه المراحل الحرجة ، ليست ضرورية فحسب ، بل يجب عليها ، تحت الحاح الضرورة ، تحقيق التكامل بين الأنظمة المدرسية مع حاجات العصر المتنامية ، ويجب عليها أيضاً أن تلعب دوراً هاماً في مجال العملية التربوية. وإذا كان فن المربي) (Art De l‘éducateur، يتكون في الواقع، وبالدرجة الأولى ، تحت تاثير العادات التي أصبحت في حكم الغرائز ، فإنه يجب علينا رغم ذلك أن

الصفحة 109

تنمي لديه إمكانيات التفكير النقدي والذكاء .

      فالتفكير لا يمكنه أن يكون بديلاً للعادة ، والعادة لا يمكنها أن تتجاوز حدود التفكير ، وذلك على الأقل ، في الوقت الذي تحقق فيه الشعوب درجة عليا من التطور الحضاري . وفي واقع الأمر ، أنه كلما صارت الشخصية الفردية عنصراً أساسياً في اطار الثقافة العقلية والأخلاقية الانسانية ، يجب على المربي أن يأخذ بعين الاعتبار وجود مبدأ النزعة الفردية في كل طفل . ويجب عليه أن : يسعى ، ، بكل الوسائل الممكنة ، إلى تحقيق نمو هذه الفردية وازدهارها . وبدلاً من أن يقوم بتطبيق طريقة واحدة على الجميع يتوجب عليه أن ينوع في منهجه وطرائقه بما ينسجم مع طبيعة التنوع الفردي الذي يتميز به كل طفل من

الأطفال.

     وعلينا هنا ، من أجل تحقيق التكيف الفطن بين الممارسات التربوية والتنوع الفردي القائم ، معرفة غاية ذلك التفريد وخصوصيته، ومعرفة الإجراءات التي يتكون منها ذلك التفريد والنتائج التي يقود إليها في مختلف الظروف. وبكلمة واحدة يجب أن يخضع ذلك كله إلى معطيات التفكير التربوي وتأملاته .

    فالتربية التطبيقية الآلية لا يمكن لها أن تكون مؤثرة وفاعلة هذا من جهة . ومن جهة أخرى ، يلاحظ أن التطور الاجتماعي يصبح متسارعاً بدرجة أكبر ، كلما تقدم تاريخ الانسانية ، وبالتالي فإن كل مرحلة تاريخية محددة ، تتباين عن المرحلة التي سبقتها . فلكل عصر سمته الخاصة، وفي سياق ذلك يلاحظ أن هناك أفكاراً جديدة تلد ، وحاجات متجددة تنبعث دون توقف. ومن أجل الاستجابة إلى ما تطرحه هذه التغيرات

الصفحة 110 

المستمرة والتي تداهم الرأي العام، والعادات والقيم ، يجب على التربية نفسها أن تتغير، ويجب أ أن تتسم بخاصية المرونة التي تسمح بالتغير المتواصل ، والوسيلة الوحيدة لحماية التربية من الوقوع تحت نير العادة ، وفي مصائد الآلية والتصلب ، تكون في تجدد الفكر التربوي وازدهاره وتواصله .

     وعندما يستطيع المربي ادراك وتحليل المناهج التي يوظفها ، والغاية من وجود هذه المناهج، فإنه سيكون في وضعية تسمح بالحكم والتصرف ، وسيكون بالتالي قادراً على اجراء التغيرات المناسبة ، عندما يصل إلى قناعة بأن الغاية التي تسعى إليها التربية ، لم تعد هي الغاية القديمة نفسها ، أو أن الوسائل الموظفة يجب أن تكون مختلفة . فالتأمل التربوي هو القوة المتميزة التي تتنافى مع الروتين ، وبالتالي فإن الروتين يشكل العقبة الأساسية أمام التطور الضروري للحياة التربوية . 

    وإذا كان صحيحاً ، كما نوهنا سابقاً ، بأن البيداغوجيا ( Pedagogie ) ، لم تظهر في التاريخ، إلا على نحو متقطع ، فإنه يجب علينا ، مع ذلك ، أن نضيف بأنها بدأت تتحول تدريجياً إلى وظيفة دائمة للحياة الاجتماعية . فالعصر الوسيط لم يعرف الحاجة إلى البيداغوجيا ، وذلك لأنه كان عصر الوحدة والتجانس، حيث كان الناس جميعاً يفكرون ويشعرون بطريقة متجانسة ، وكأن العقول قد تشكلت في قالب واحد . فالتباينات الفردية كانت نادرة أو محدودة ، وكانت التربية غير شخصية ، وكان المعلم في ذلك العصر يتوجه في مدرسته إلى الجميع دون أن تكون لديه فكرة عن تفريد التعليم وخصوصية كل فرد من التلاميذ . ويمكن الملاحظة أيضاً، بأن تصلب العقائد التربوية الأساسية ، كان

الصفحة 111

يتعارض إلى حد كبير مع حاجة النظام التربوي إلى التطور السريع . ويعود انخفاض وتيرة الحاجة إلى التفكير التربوي إلى ( Pedagogie ) هذين السبيين بالدرجة الأولى .

      ولكن كل شيء قد تغير في عصر النهضة : إذ بدأت تظهر في هذه المرحلة معالم الشخصيات الفردية ، التي انسلخت عن الشخصيات ذات الطابع الجمعي ، والتي كانت ، حتى تلك المرحلة ، تعاني من الذوبان والتداخل . وبدأت العقول تتباين في الوقت نفسه الذي بدأ فيه التطور يتسارع ، والحضارة الجديدة تتشكل . ومن أجل الاستجابة الجملة التغيرات الجارية بدأ الوعي التربوي يستيقظ ، والذي لم يستطع أن يتألق دفعة واحدة أو أن يصل إلى درجة الكمال.

IV                                                                            

      ولكن من أجل أن يكون التأمل التربوي قادراً على اعطاء النتائج الأساسية المنتظرة منه ، كان يجب عليه أن يخضع لثقافة مناسبة ومواتيه . لقد سبق لنا أن بينا أن البيداغوجيا Pédagogie) ) ليست هي التربية ( Education ) ذاتها ، وأنها لا تستطيع أن تأخذ مكانها . فالبيداغوجيا لا يمكنها أن تكون بديلاً للمارسة التربوية ، إن دورها يكمن في توجيه هذه الممارسة ، وفي تسليط الضوء عليها ، وتعزيزها ، وتصفية العيوب التي تحيق بها ،، وايجاد الحلول للمسائل التي تطرحها . وليس في مقدور البيداغوجيا Pedagogie أن تعمل على خلق نظام تعليمي من العدم ، إذ يجب عليها ، وعلى خلاف ذلك ، أن تعمل ، بالدرجة الأولى ، على معرفة وتفهم النظام التربوي القائم . وذلك هو المعيار الذي تستطيع من خلاله أن تقدم خدمات أساسية ، وأن تبين جوانب الضعف والنقص التي توجد في اطار

الصفحة 112

الأنظمة التربوية السائدة . ولا يكفي لنا ، من أجل ادراك بنية الأنظمة التربوية القائمة ، أن ننظر إليها في حدود بنيتها المعاصرة . فهي. أنظمة تشكلت تاريخياً . وإذا كانت هذه الأنظمة نتاجاً للمراحل التاريخية السابقة ، فإنه على ضوء التاريخ : يمكننا أن نجد تفسيراً موضوعياً لمنطلقات وجودها . . فالأنظمة المدرسية والتعليمية القائمة اليوم تشكل ، في كل الأحوال ، مؤسسينات اجتماعية . فالمدارس الفرنسية تترجم وتعبر عن الروح الفرنسية ، ولا يمكن لنا أبداً أن ندرك ماهية هذه المدارس والهدف الذي تسعى إلى تحقيقه ، إذا لم ندرك ماهية الروح القومية أو العناصر التي تقوم على أساسها والخلفيات الدقيقة لهذه العناصر ، وخاصة هذه التي تعزى بدرجة ما إلى عوامل الصدفة العابرة . والتاريخ وحده يمكنه أن يلهم الاجابات الشافيه عن هذه المسائل .

     إنه لمن الصعوبة بمكان تقديم اجابة موضوعية عن المسألة ، التي تطرح نفسها اليوم بقوة ، حول المكان الذي يجب أن تحتله المدرسة الابتدائية في اطار النظام المدرسي العام وفي الحياة العامة للمجتمع الفرنسي ، إذا كنا نجهل كيفية نشوء مؤسساتنا المدرسية ، وإذا لم ندرك جيداً مصدر تشكل سماتها المميزة وخصائصها . إذ لا بد لنا في هذا السياق أن نعرف المكان الذي احتلته المدرسة الابتدائية في الماضي . 

    والأسباب التي عززت أو أعاقت نموها الخ ... إن تاريخ التعليم ، وخاصة التعليم في مستواه الوطني يعدّ المنطلق الأول الذي هياً لوجود ثقافة تربوية، وإذا كان الأمر يتعلق بالتربية الابتدائية فمن الطبيعي أن يكون التعليم الابتدائي هو المعني بالأمر . ولكن ذلك لا يعني كما أشرنا سابقاً أن

الصفحة 113

التعليم الابتدائي يمكن له أن ينفصل عن بنية التعليم عموماً وهو لا يشكل في كل الأحوال سوى جزءاً منه .

     إن النظام المدرسي لم يكن وليد الممارسات التربوية والمناهج المستخدمة أو نتاج التركة التاريخية لتجربة الماضي فحسب . بل يضاف إلى ذلك كله ، التوجهات المستقبلية والطموحات التربوية التي كانت تسعى إلى بناء نماذج مثالية جديدة للتربية . ونحن معنيون ، وفي ذلك أهمية كبيرة ، بمعرفة هذه الطموحات وتملك القدرة على تحديد المكان الذي يجب أن تحتله هذه الطموحات على المستوى المدرسي . وهي أمور تسجل وجودها وتعبر عن نفسها في اطار العقائد التربوية المختلفة . ويجب علينا هنا العمل على تقصي تاريخ هذه العقائد وذلك ينسحب على تاريخ التعليم . ويجري الاعتقاد اليوم بأنه يمكن تحديد الغاية التاريخية دون التوغل بعيداً في عمق الماضي، ألا تكفي معرفة هذه النظريات المعاصرة ؟ أما النظريات الأخرى التي ظهرت في العصور الماضية فهي اليوم ، وفقاً لذلك المنظور ، باطلة وليس لها ، كما يبدو ، سوى قيمة أثرية . وعلى خلاف ذلك فإننا نعتقد أن هذه الرؤية العصرية لا تقلل من أهمية أحد أهم المصادر التي يمكن لها أن ترفد الفكر التربوي وتغنيه وهي المصادر التاريخية .

     غني عن البيان أنه لا يمكن للعقائد الحديثة أن تكون وليدة الأمس القريب ، بل هي نتاج للعقائد السابقة، والتي من غيرها يتعذر بالنتيجة أن تكون قابلة للفهم . ومن أجل استطلاع العوامل المحددة لتيار تربوي ما يجب استطلاع تاريخ هذه العوامل ، والتوغل تدريجياً في عمق ذلك التاريخ. وفي اطار هذه الشروط ذاتها يمكن لنا أن نضمن بأن هذه

الصفحة 114

النظريات التي تتألق حالياً لن تكون نظريات وقتية عابرة ولن تذهب ضحية للنسيان السريع في المستقبل.

     فمن أجل أن ندرك الاتجاه الحالي للتعليم، على سبيل المثال ، والذي يمكن أن نطلق عليه التربية الواقعية ، يجب أن لا نتوقف عند حدود واقعه المعاصر ، بل يجب أن نعود إلى المرحلة التي ولدت فيها هذه النزعة أي إلى القرن الثامن عشر في فرنسا، وحوالي نهاية القرن السابع العشر في بعض البلدان البروتستانتية . وهنا تكمن الاصول الاولى للنزعة الواقعية في التربية والتي تتجلى بطريقة أخرى مغايرة كلياً لواقعها المعاصر ، عندها ندرك بشكل أفضل أن هذه النزعة ترتبط بأسبابها العميقة غير الشخصية والتي نجدها عند الشعوب الأوروبية كافة . ويمكن لنا ، في الوقت نفسه ، أن ننطلق من شروط أفضل لادراك عوامل هذه النزعة ، ولإدراك المعطيات الحقيقية لها ، هذا من جهة ؛ ومن جهة أخرى ، يمكن الملاحظة ، بأن هذا التيار التربوي قد يكون في سياق التعارض مع اتجاه متناقض له ، وليكن في هذه الحالة اتجاه النزعة الانسانية . وهكذا فإنه لا يمكن لنا أيضاً أن نقدر حدود الاتجاه الأول ، بدرجة دقيقة ، ما لم ندرك حدود الاتجاه الآخر . ونحن هكذا مكرهون على التوغل من جديد أيضاً في عمق التاريخ ، ويترتب على ذلك أن تاريخ التربية لا يعطي ثماره إذا لم يرتبط وبعمق مع تاريخ التعليم. ونحن إذا كنا نتناول التاريخين بشكل منفصل في عرضنا هذا فإنهما مترابطان ولا يمكن الفصل بينهما على أي حال . وذلك لأنه في كل مرحلة تاريخية كانت العقائد التربوية مرهونة بواقع التعليم ، وهي في الوقت نفسه تعكسه من جهة وتوجهه من جهة أخرى . وبمعيار ما تمارس هذه العقائد من تأثير فعال فإنها تسهم في تحديد

الصفحة 115

إليها النظام التعليمي وتوجهاته. فالثقافة التربوية ترتكز على أساس تاريخي . 

     وفي اطار هذه الشرطية ، يمكن للتربية أن تسقط اللوم الذي يوجه دائماً . والذي يحجب الثقة عنها . فهناك كثير من المربين ، وبينهم الأكثر شهرة ، الذين عملوا على بناء نظرياتهم التربوية دون التفكير في النظريات التربوية السابقة لهم. وإذا لم يكن هناك قاسم مشترك بين التربية الجديدة والتربية القديمة، فإن ذلك يعني وضع المسألة التربوية خارج شروط وجودها الواقعية .. إذ لا يمكن للمستقبل أن ينطلق من العدم ، ولا يمكن لنا أن نشيد صروحه إلا من خلال المواد التي ورثناها من الماضي . والمثال التربوي الذي يبنى وفق منطق يخالف الواقع لا يمكنه أن يتحقق ، لأنه يفتقر إلى أصوله الحقيقية ، فللماضي اسباب وجوده ، وهو لا يستطيع الاستمرار إلا إذا استطاع أن يلبي حاجات مشروعة ، والتي لا يمكن لها أن تختفي كلياً بين عشية وضحاها . وبالتالي فإنه لا يمكننا أيضاً أن نضرب صفحاً عنه بطريقة راديكالية دون أن نتجاهل ضرورات بالغة الحيوية . وذلك كله يعني أن البيداغوجيا لم تكن في أغلب الأحيان سوى شكلاً من أشكال الأدب الطوباوي الحالم. ونحن اليوم في موقع الدفاع عن الأطفال الذين تطبق عليهم بدقة المناهج التربوية لجان جاك روسو وبستالوتزي. ومما لا شك فيه أن هذه الايتوبيات التربوية قد لعبت دوراً هاماً في تاريخ التربية ، حيث كان للبساطة التي تميزت بها أن تجعلها قادرة على التأثير في العقول وتحريك المشاعر ودفعهما إلى الفعل . ولكن لم يكن لمعطيات هذه النظريات الايتوبية أن تمر دون صعوبات وعقبات . : ويضاف إلى ذلك أن هذه التربية السائدة التي كان يحتاجها المعلم في توجيه فعله التربوي ، كانت تحتاج إلى قليل من الحماس وأحادية الفعل ،

الصفحة 116

وهي تحتاج اليوم ، على خلاف ذلك ، إلى كثير من المنهجية والاحساس العميق بأهمية الحقيقة وإلى ادراك الصعوبات المتعددة التي تتطلب المواجهة . وذلك كله يمكن أن يعطي للثقافة التربوية خصوصياتها الواضحة . 

    إذا كان تاريخ التعليم والتربية يتيح لنا بمفرده أن نحدد الغايات التي تسعى التربية إلى تحقيقها في كل مرحلة زمنية . فإن علم النفس يحدد الوسائل الضرورية لتحقيق هذه الغايات الفعلية ومن هذا المنطلق علينا أن نسترشد علم النفس ونسير على هداه.

    فالنموذج المثالي للتربية في مجتمع ما ، في عصر ما ، يعبر ، واقعياً  وقبل كل شيء، عن وضعيّة المجتمع في المرحلة التاريخية المعينة.

    ولكن ومن أجل أن يصبح ذلك النموذج حقيقة واقعية يتوجب عليه أن يقوم بتشكيل وعي الأطفال وعقولهم. وإذا كان للوعي قوانينه الخاصة، فإنه يجب معرفة قانونيته ، من أجل تغييرها ، وذلك ، إذا أريد ، على الأقل وبقدر الامكان ، توفير التجربة الأمبيريقيه ، التي تنطلق منها التربية . وعلينا في هذا السياق، من أجل تحفيز النشاط على التطور في اتجاهات محددة ، معرفة القوى التي تحركه ، وطبيعة هذه القوى ، لأن هذه المعرفة تشكل الشرطية الممكنة لتحقيق التطور المنشود ، وهي معرفة تنطوي على ادراك الأسباب والنتائج . وإذا كان الهدف ، على سبيل المثال ، هو ايقاظ حب الوطن ، أو تنمية الحس الانساني ، فإننا نستطيع أن نوجه الحس الأخلاقي للتلاميذ ، نحو هذا الاتجاه أو ذاك ، بقدر ما تكون لدينا تصورات كاملة ومحددة ، حول مجموع الظواهر التي يطلق عليها اتجاهات ، وعادات ، ورغبات ، وعواطف الخ .. ، وحول الشروط

الصفحة 117

المختلفة التي تحيط بالظواهر المعنية ، والشكل الذي تبدو فيه هذه الظواهر في نظر الأطفال . إن طبيعة النظر إلى هذه النزعات ، بوصفها نتاجاً لتجارب سارة أو قاسية ، أو على خلاف ذلك ، بوصفها ظاهرة فطرية سابقة للحالات الانفعالية التي ترافقها ، تحدد الطرق المختلفة لتحديد مسار عملها . وهنا تقع مهمة علم النفس التربوي ، وبالأحرى ، علم نفس الطفولة ، الذي يجب عليه أن يجد الحلول المناسبة لهذه المسائل المطروحة . وإذا كان علم النفس هذا ، غير قادر على تحديد الغاية ، وذلك لأن الغايات تتباين بتباين الحالات الاجتماعية ، فإنه من غير شك ، قادر على القيام بدور هام في مجال بناء المناهج . وإذا كان لا يمكن للمنهج أن يطبق بطريقة واحدة على مختلف الأطفال ، فإنه على علم النفس أن يساعدنا على ادراك ذواتنا في وسط ذلك التنوع العقلي ، والتنوع في سمات الشخصية . ولكننا ندرك اليوم ، وهذا من سوء الحظ ، أننا ما زلنا بعيدين عن هذه المرحلة التي يستطيع فيها علم النفس حقاً أن يلبي طموحنا هذا .

    ولا بد من الاشارة هنا إلى أحد فروع علم النفس ، والذي يحتل أهمية خاصة عند المربي : هو علم النفس الاجتماعي . فالصف هو جزء صغير من المجتمع ، ويجب أن لا ينظر إليه وكأنه تجمع بسيط من الناس ، الذين يوجد كل منهم في حالة استقلال عن الآخر . فالأطفال في الصف يفكرون ويشعرون ويسلكون بطريقة مختلفة عندما يكونون في حالة عزلة . وقد يعاني الصف في بعض الحالات الطارئة من ظواهر متعددة مثل الخلاعة والفساد الأخلاقي، أو من الهيجان المتبادل أو الطبيعي ، ويجب علينا هنا ادراك هذه الحالات من أجل التنبؤ بها ، أو العمل على ممانعة

الصفحة 118

بعضها والسماح ببعضها الآخر . وبالتأكيد ما زال ذلك العلم في مرحلة طفولته ، ومع ذلك فإنه يوجد هناك بعض الأطروحات الهامة في هذا المجال ، والتي يجب علينا أن لا نتجاهلها .

تلك هي المعايير الأساسية التي يمكنها أن توقظ وتنمي التفكير التربوي . وبدلاً من أن نسعى ، في مجال البيداغوجيا ، إلى ايجاد قانونية التعقيد  مجرده من صيغتها المنهجية ، وهو مشروع يتميز بدرجة عالية . من والذي لا يمكن تحقيقه بطريقة كافية – فإنه من الأفضل كما يبدو لنا تحديد الطريقة التي نراها ضرورية لتشكيل المربي واعداده . وهنا يمكن لنا أن نجد أنفسنا أمام عقلية متطورة تأخذ على عاتقها مواجهة المسائل المطروحة والمشكلات التربوية القائمة.

هوامش :

  1. البيداغوجيا تعريب للكلمة الفرنسية Pedagogie وقد ترجمت إلى العربية بمعنى نظرية التربية أحياناً وعلم التربية أحياناً أخرى ومن أجل تجاوز هذه الإزدواجية تجري العادة على استخدام اللفظة الأجنبية ( بيداغوجيا ، وهو المفهوم الذي يحاول دوركهايم تحديده وذلك بالقياس إلى مفهومي علم التربية Science de l'education ومفهوم التربية Education .

الصفحة 119



  الفصل الثالث: التربية وعلم الاجتماع :

  أيها السادة : أنه ليشرفني حقاً أن أكون خلفاً في هذا الكرسي لرجل المعرفة والإرادة ، للرجل الذي تدين له فرنسا بفضل تجديد التعليم الابتدائي . لقد اتاح لي احتكاكي المباشر مع معلمي مدارسنا منذ خمسة عشر عاماً ، عندما كنت أدرس التربية في جامعة بوردو (Bordeaux) ، أن أطلع عن كثب على ا عن كتب على الأعمال الرائدة التي قام بها بويسون Buisson ، عندها أدركت عظمة هذا الرجل وأصالته . أنه لمن الصعب ألا يدهش المرء عندما يقارن بين حالة التعليم في مرحلة الإصلاح ، وحالته اليوم وذلك حين يشاهد التقدم الكبير الذي حصل في مستوياته كافة . لقد تضاعف عدد المدارس وتحولت بناها المادية ، واستطاعت المناهج الجديدة العقلانية أن تأخذ مكان المناهج الروتينية القديمة ، التي كانت سائدة في الماضي. ويضاف إلى ذلك الانطلاقة الحقيقية للفكر التربوي والمبادرات الخلاقة، وذلك كله يمثل ، بالتأكيد ، إحدى كبريات الثورات التي حدثت في تاريخ تربيتنا الوطنية .

     إن الأعمال التي قام بها بويسون تمثل ثورة حقيقية على مستوى المعرفة العلمية ، وذلك عندما قدر بويسون أن مهمته قد أنجزت ، فتخلى

الصفحة 121

عن وظائفه المتعددة، من أجل أن ينقل أفكاره وخلاصة تجاربه إلى الجمهور عن طريق التعليم. لقد أتاحت له تجربته الشاملة والتي اهتدت بفلسفة شمولية واسعة ، اتصفت بالفطنة المتجددة ، أن تضفي على خطابه العلمي قوة اخلاقية ، أعلت بدورها من شأن السحر الأخلاقي لشخصيته ، وأعلت من شأن الخدمات الجليلة التي قدمها للقضايا الكبرى وكرس لها حياته ..

     إن ما أحمله لكم لا يرقي إلى مستوى الكفاءة المتفردة التي تميز بها بويسون . وأنه ليتملكني احساس بالرهبة أمام المسائل الصعبة التي تقتضيها مهمتي ، ما لم أهدئ من روع النفس بأنه يمكن النظر إلى هذه المسائل وفقاً لرؤى ووجهات نظر متنوعة . وأنني هنا بوصفي عالم اجتماع ، ومن خلال علم الاجتماع، سأحدثكم عن التربية . وبعيداً عن التحيز ، أني أنظر إلى منهج علم الاجتماع بوصفه المنهج الأكثر كفاءة في هذا المجال. انني أنظر إلى التربية ، في واقع الأمر ، بوصفها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى ، ذلك في إطار توجهاتها ووظائفها ، وانني أعتقد بأن هناك صلات عميقة تربط بين البيداغوجيا (Pedagogie) وعلم الاجتماع وذلك بالقياس إلى العلوم الإنسانية الأخرى . وإذا كانت هذه الرؤية قد هيمنت حقاً على مسار عملي التدريسي ، وبخاصة أعمال التدريس المشابهة والتي أديتها في جامعة أخرى، فإنه لمن الضروري بمكان أن أوظف هذا اللقاء في تحديد هذه الفكرة لكي يكون بمقدوركم متابعة الدروس اللاحقة بشكل أفضل. وغني عن البيان بأنه لا يمكن لي أن انجز هذه المهمة عبر استعراض سريع في مجرى محاضرة واحدة. إذ لا يمكن لنا أن نتناول عقيدة تتصف

الصفحة 122

بالعمومية وتأخذ ابعاداً واسعة إلا على نحو تدريجي . وما يمكن لنا أن نقوم به في اللحظة الراهنة لا يتعدى تقديم لمحة سريعة شمولية ، و هذا يعني تحديد المحاور الأساسية للمسألة ، والتي يجب أن تحظى بموافقتكم منذ البداية وذلك تحت مظلة الافتراض الوقتي، وفي إطار التحفظ المرهون بالاختبارات الضرورية اللاحقة. وهذا يعني في النهاية أنه علينا أن نرسم المسار والحدود في آن واحد ، وذلك هو موضوع المحاضرة الأولى .

                      -l-                                                                              

     إنه لمن الأهمية بمكان ، أن ألفت انتباهكم إلى احدى المسلمات التربوية الأساسية ، التي يتفق عليها المربون المعاصرون حتى هذه السنوات الأخيرة ـ ويمكن أن تكون هناك بعض الاستثناءات ـ وهي النظر إلى ـ التربية بوصفها ظاهرة فردية بالدرجة الأولى . ويترتب على هذه المسلمة النظر إلى التربية على أنها نتاج مباشر لعلم النفس. فالتربية كما يرى كانت (Kant) وميل (Mill) وهيربرت (Herbart) وسبنسر (Spencer) ، تهدف إلى تحقيق النمو الأمثل الممكن للملكات الفردية الفطرية للنوع الإنساني . وهم بذلك يفترضون أن هناك تربية ، وتربية واحدة ، يمكنها أن تناسب جميع الأفراد دون استثناء ، وذلك مهما تكن الشروط التاريخية والاجتماعية التي تحيط بهم. وهي التربية النموذجية المجردة والوحيدة التي يسعى المنظرون إلى تحديدها . وهذا يعني أنهم يوافقون على وجود طبيعة إنسانية واحدة ، تحددت خصائصها وسماتها مرة واحدة إلى الأبد . وتكمن المسألة التربوية هنا ووفقاً لهذه الرؤية في البحث عن أنموذج محدد للتربية ، يجب أن يمارس على الطبيعة الإنسانية

الصفحة 123

دون تمييز.

    غني عن البيان أيضاً أن الإنسان يتكون تدريجياً ، في مجرى حياته المتتابعة ، منذ مرحلة الولادة حتى مرحلة الرشد . ويجري الافتراض ، أن ذلك التكون يتدرج من حال القوة إلى حال الفعل، عبر عملية توليد الطاقات الفطرية الكامنة والموجودة على نحو مسبق في البنية الفيزيولوجية والذهنية للطفل . وليس لدى المربي ، ما يضيفه ، في هذه الحالة إلى الطبيعية الإنسانية ، وهو هنا لا يستطيع أن يبدع شيئاً جديداً . ويتوقف دوره عند حدود حماية هذه الخصائص الفردية الموجودة من الضعف والشلل ومن الانحراف عن مسارها الطبيعي ، أو من التطور على نحو متثاقل . وانطلاقاً من ذلك ، فإنه ليس لشروط الزمان والمكان والوضعية الاجتماعية أية أهمية تذكر بالنسبة للبيداغوجيا . وذلك لأن الكائن الإنساني ينطوي في ذاته على مقومات نموه وهي المقومات التي يجب أن تخضع للمراقبة والملاحظة من أجل تحديد اتجاه نموها وكيفياته . والمهم هو معرفة الملكات الفطرية التي ينطوي عليها الكائن وادراك طبيعة هذه الملكات . وفي هذا السياق فإن العلم الذي يصف ويفسر سلوك الإنسان الفرد ونموه هو علم النفس . وهذا يعني أنه يتوجب على علم النفس أن يلبي حاجات المربين كلها . 

    وما يؤسف له أن هذا التصور التربوي يقع في دائرة التناقض الشكلي مع كل ما يمكن أن يعلمنا أياه التاريخ . إذ لا يوجد شعب استطاع أن يجعل من هذا التصور التربوي حقيقة تربوية قابلة للتطبيق . ويمكن القول في بداية الأمر وبغض النظر عن فكرة وجود تربية عامة صالحة لجميع الناس ، أن الأنظمة التربوية المختلفة لمجتمع ما كانت تتواجد

الصفحة 124

في ان واحد وتؤدي عملها بشكل متواز. فالمجتمع يتكون من طبقات اجتماعية مختلفة . والتربية تتغاير بتغاير الطبقات الاجتماعية . فالتربية التي سادت في أوساط الدهماء كانت تتغاير عن هذه التي تسود في أوساط النبلاء . والتربية التي سادت عند طبقة الكهنوت غير تلك التي سادت عند طبقة العامة من الشعب . ومثل ذلك ينسحب على العصر الوسيط حيث يتبدى التباين الكبير بين الثقافة التي يتلقاها الاقطاعيون في مجال فنون الفروسية ، وهذه التي يتلقاها أبناء الفلاحين في إطار المدارس الدينية والتي تتميز بالقصور والضحالة وتكاد تقف عند حدود تعليم . الأطفال حساب أيام الأعياد وبعض الأناشيد والقواعد اللغوية .

    وتتباين التربية اليوم أيضاً مع تباين الطبقات الاجتماعية ومع تباين المجتمعات الإنسانية ، فالتربية التي تسود في المدينة ليست كتلك التي تسود في الريف ، والتي تسود في إطار الطبقة البرجوازية هي غير تلك التي تسود في أوساط العمال. ويتضح لنا هنا أنه لا يجب أن نترك تربية أطفالنا لمحض الصدفة العابرة ، وهي الصدفة التي تجعلهم يولدون هنا أو هناك ، أو تجعلهم ينتمون إلى هذا الأب أو ذاك. ولكن بافتراض أن الضمير الأخلاقي، لعصرنا ، يستطيع أن ينجح في الوصول إلى غاية ما ينشده ، فإن التربية مع ذلك لن تصبح أكثر وحدة أو تجانساً مما هي عليه. وبالتالي فإن سيرة كل طفل من الأطفال لن تكون ، بأي حال خاضعة ، المحددات التركة الوراثية العمياء . حيث يشكل كل وسط مهني حالة خاصة تقتضي وجود كفاءات خاصة ، ومعارف خاصة . ففي كل وسط تسود بعض الأفكار ، وتهيمن بعض العادات وبعض طرائق النظر إلى الأشياء . وبما أنه يتوجب على الطفل أن يُعد الممارسة وظيفة ما ، فإن

الصفحة 125

التربية ، وانطلاقاً من بعض المراحل العمرية المحددة ، لا يمكن لها أن تكون واحدة بالنسبة للافراد الذين تحاول اعدادهم .. ولهذا فإننا نجدها متجانسة في كل البلدان المتحضرة ، والتي تميل شيئاً فشيئاً إلى تحقيق التنوع والتخصص الذي يأخذ اتجاهاً متقدماً وعلى نحو دائم . ان التناقضات التي تظهر إلى حيز الوجود ، هذه التناقضات التي تبين لنا وجودها منذ قليل ، لا تقوم على أساس من اللا مساواة غير العادلة ، ولكنها ليست أقل من ذلك . ومن أجل العثور على أنموذج تربوي متجانس وعادل ، فإنه يجب علينا أن نذهب بعيدا حتى المجتمعات القديمة، وهي المجتمعات التي لا يوجد فيها أي شكل من أشكال التنوع الاجتماعي ، والتي تمثل في مستوى تطورها لحظة منطقية من لحظات تطور التاريخ الإنساني . لقد قامت التربية القديمة دون شك بتطوير بعض الكفاءات الفردية ، وهي كفاءات متأصلة في الطبيعة الفردية والتي لا تتطلب سوى وضعها في دائرة الفعل وهذا يعني أن التربية هنا كانت تساعد على تحقيق طبيعة الإنسان فقط . ولكننا نعرف إلى أي حد تكون نزعات التفرد في اطار تلك التربية المحدودة حالة استثنائية . 

     إنه لمن البداهة القول : إنه لا توجد لدينا استعدادات فطرية عقلية أو أخلاقية لأداء وظائف بالغة الدقة والتحديد . فالإنسان المتوسط يتميز بقابلية كبيرة للتشكل ، حيث يمكن له أن يمارس وظائف بالغة التنوع . وعندما يتخصص الإنسان في صورة ما فإن ذلك لا يتم له لأسباب داخلية دفينة ، أو تحت تأثير اندفاعات توجد في طبيعته . ولكن المجتمع ، ومن أجل تحقيق استمراريته، يحتاج إلى تقسيم العمل بين اعضائه، والذي يأخذ هذا الشكل أو ذاك بدرجة أكبر ، وهو نشاط يؤديه المجتمع عبر

الصفحة 126

القنوات التربوية ومن خلالها ، وذلك من أجل تأمين احتياجاته من العمال المتخصصين . ولذلك فإن التربية تميل إلى التنوع من أجل المجتمع وبواسطته . ويضاف إلى ذلك أيضاً أن التربية لا تتم دون اخفاق جزئي ، لأننا لا نستطيع أن نطور بعض ملكاتنا بمقتضى الكثافة الضرورية المطلوبة التي تشتمل عليها وظائفها ، دون أن نترك بعضاً منها في دائرة اللافاعلية ، ومن دون أن نترك جانباً من طبيعتنا . فعلى سبيل المثال ، يؤثر الانسان بوصفه كائناً عاقلاً في الأشياء على الأقل بواسطة التفكير والشيء نفسه عندما ينظر إليه بوصفه كائنا حياً فهو قادر على التأثير في الأشياء بوساطة الفعل، لأن الحياة تتطلب الفعل. ومع ذلك، فإنه انطلاقاً من اللحظة التي تصبح فيها الحياة العقلية للمجتمعات الإنسانية أكثر تطوراً، فإنه يوجد ، ويجب أن يكون هناك بالضرورة ، أناس يكرسون أنفسهم من أجل التفكير ، ولا يقومون بعمل آخر سوى التفكير . وفي إطار ذلك فإن التفكير لا يمكن له أن يتطور إلا إذا استطاع أن ينفصل ويحظى باستقلاله ، وأن يترابط ويتكامل في إطار استقلاليته الذاتية ، وأن يكون قادراً على تحويل اتجاه الفعل الإنساني المعطى وتوجيهه .

    إن الدراسات المجردة والتأملية التي تناولت بنية الإنسان لم تسمح قط بإمكانية التنبؤ بأن الإنسان قادر على تشويه ما يوجد حوله من أجل تحقيق تجوهره ، ولا بأن التربية ضرورية من أجل الإعداد لعملية التشويه الضرورية هذه .

    ومع ذلك ومهما تكن أهمية هذه الأنماط التربوية الخاصة فإنه لا يمكن الاعتراض بأنها لا تمثل التربية كلها. ويمكن القول أيضاً إنها

الصفحة 127

ليست كافية بداتها. وهي اينما كانت فإنها لا تتباين إحداها عن الأخرى إلا اعتباراً من مستوى محدد يتجاوز عتبة التجانس وذلك لأنها جميعاً ترتكز إلى اساس اجتماعي مشترك.

     فلكل شعب، في واقع الأمر، نظام من الافكار والمشاعر والممارسات، وعلى التربية تقع مسؤولية نقله إلى الأجيال المتلاحقة ، وذلك دون تمييز بين الفئات الاجتماعية التي ينتمي إليها الأطفال . وتلك هي التربية المشتركة نفسها التي تشكل إلى حد ما التربية الحقيقية ، وهي التربية الوحيدة والجديرة بأن تحمل ذلك الاسم حقاً . ويضاف إلى ذلك أنها التربية التي تأخذ طابع الهيمنة وذلك بالقياس إلى أنماط التربية الأخرى كافة، وما هو مهم هنا ، هو أن نعرف على نحو خاص فيما إذا كانت هذه التربية تطبق كلياً ووفقاً لمفهوم الإنسان ... والحق يقال إن المسألة لا تطرح نفسها ، على هذا النحو ، فيما يتعلق بالأنظمة التربوية التي عرفناها من خلال التاريخ . لأن هذه الأنظمة ترتبط على نحو صريح بالأنظمة الاجتماعية القائمة ولا يمكن الفصل بينهما . فعلى الرغم من الاختلاف الذي كان يفصل بين طبقة الاشراف والعامة في روما فإن هناك تربية مشتركة لجميع الرومانيين . وتبرز الخاصية الأساسية لهذه التربية بأنها رومانية . حيث تشتمل على كل الأنظمة القائمة في المدن وتجسد في الوقت نفسه منطلق هذه الأنظمة

     وما يقال بخصوص روما يمكن أن ينسحب على المجتمعات الأخرى كافة . فلكل شعب تربيته الخاصة به ، والتي يمكن لها أن تحدده ، وأن تحدد في الوقت نفسه ، نظامه الأخلاقي والسياسي والديني ، وهي بالضرورة تشكل أحد عناصر شخصية المجتمع المعني ..

الصفحة 128

     وانطلاقاً من ذلك نجد أن التربية تتنوع بدرجة كبيرة وفقاً لتباين العصور والبلدان والمجتمعات. ويجب هنا أن نتساءل لماذا تقوم التربية هنا بإعداد الفرد للتخلي عن شخصيته لصالح الدولة ؟ ولماذا تقوم هناك ، على خلاف ذلك ، باعداد شخصية الفرد المستقلة ، أو الفرد القادر على تنظيم سلوكه الشخصي بشكل مستقل . لماذا كانت التربية تقشفية في العصر الوسيط ؟ وحرة في عهد النهضة ؟ وشكلية في القرن السابع عشر ؟ وعلمية في عصرنا الراهن ؟ فالناس لا يحتقرون ذواتهم وحاجاتهم على أثر انحراف أو تشويه ، ولكن ما يحدث هو أن هناك تغيراً في حاجاتهم . وهم يتغيرون أيضاً لأن الشروط الاجتماعية لم تعد نفسها كما كانت دائماً . 

     ويمكن الملاحظة في هذا السياق أن أفكار الماضي ترفض في الحاضر . ويترتب على ذلك منطقياً أن أفكار الحاضر سترفض في المستقبل . فجميع الناس يوافقون اليوم ، وبدون تردد ، على أن هدف التربية الوحيد كان في روما وفي بلاد الإغريق اعداد الاغريقيين والرومانيين ، الذين كانوا متضامنين في إطار كل متكامل من المؤسسات السياسية والأخلاقية والاقتصادية والدينية . أما تربيتنا اليوم فإنها استطاعت أن تخرج على قانونية التجانس ، وأن تكون منذ اللحظة غير مرهونة بالظروف الاجتماعية الطارئة ، وهي بالتالي تسعى إلى تجاوز كلياً نحو المستقبل . ألا نردد اليوم ودون انقطاع ، بأننا نريد أن الحاضر تجعل من أطفالنا أناساً قبل أن يكونوا مواطنين . ولكن ألا . يبدو لنا بأن خاصيتنا الإنسانية تنفلت من تأثير الحياة الجمعية ، وأن الخاصية الإنسانية سابقة في وجودها للحياة الجمعية ؟ ومع ذلك ، اليس مدهشاً حقاً بأن تتغير طبيعة التربية كلياً ، بعد أن عرفت

الصفحة 129

بخصائصها كمؤسسة اجتماعية خلال عصور متلاحقة من الزمن ؟ أن ما يدهش لدرجة أكبر ، هو أن تتحول التربية إلى نوع من الخدمات . الاجتماعية العامة ، حيث يلاحظ ، منذ نهاية القرن الماضي ، بأن التربية بدأت تخضع تدريجياً لرقابة الدولة وهيمنتها ، وذلك ليس في فرنسا. فحسب بل في أوروبا كلها . ألا يلاحظ أيضاً بأن الغايات التي تسعى إلى تحقيقها تنفصل ، على مر الزمن ، وبشكل متزايد ، عن الشروط المحلية والتقنية التي كانت تميزها في العهود الماضية، حيث أصبحت تدريجياً أكثر عمومية وأكثر تجريبية . ولكنها مع ذلك لم تفقد خاصيتها الجوهرية الاجتماعية ، إذ أنها تجري بمقتضى الروح الجمعية ، وهي تنمي عند اطفالنا السمات المشتركة مع الآخرين ؟ ولا شيء يمكن أن يضاف إلى ذلك. فهي لا تمارس علينا اكراهاً أخلاقياً بوساطة الرأي العام من أجل أن ندرك واجباتنا بوصفنا كمربين فحسب بل هي معنية، كما سبقت الإشارة ، بأداء هذه المهمة مباشرة . وعندما تصل إلى هذا المستوى من الفعل، فإنه لمن السهل علينا أن نتنباً بأنها أدت دورها المطلوب .

       فالثقافة التي تتسم بالبعد الإنساني الواسع ، هي وحدها التي تستطيع أن تهب المجتمعات الحديثة المواطنين الذين تحتاجهم هذه المجتمعات. ولأن كل شعب أوروبي كبير يغطي مساحة واسعة من الأرض ، و ،، ويتحدر من أصول بالغة التنوع ، ولأن تقسيم العمل يأخذ في كل من هذه المجتمعات بعداً لا حدود له لذا فإن الناس، الذين يشكلون لحمة هذه المجتمعات، يتباينون فيما بينهم إلى درجة كبيرة تكاد تغيب معها الصورة المشتركة التي تجمعهم ، باستثناء واحد يتعلق بالخاصية الإنسانية العامة . وهم على هذا النحو لا يستطيعون الاحتفاظ بالتجانس.

الصفحة 130

الضروري للاتفاق الاجتماعي ، والشرط الوحيد لذلك التجانس الضروري هو تشابه الناس في جانب واحد يشتركون فيه جميعاً ، وهذا يعني الخاصية الإنسانية للأفراد . وبعبارة أخرى يمكن القول إنه لا يوجد في المجتمعات المختلفة جداً ولا يمكن أن يوجد انموذج جمعي آخر غير الانموذج العام المتصل بالتجانس الإنساني . وعندما يفقد المجتمع بعضاً من عموميته هذه ويعود إلى خصوصيته القديمة فإن الدول الكبرى تصبح مهددة بالتداعي إلى جماعات صغيرة متعددة ومحدده.

      وانطلاقاً من ذلك ، يمكن لنموذجنا التربوي أن يجد تفسيراً له في ضوء البنية الاجتماعية القائمة. وذلك ينسحب على واقع الانموذج التربوي عند الاغريقيين والرومانيين ، والذي لا يمكن أن يدرك الا بناء على تنظيم المدينة . وإذا لم تكن التربية الحديثة وطنية فإنه يجب أن نبحث عن سر ذلك في بنية الأمم الحديثة . وهذا ليس كل شيء ، فالمجتمع لم يحدد انموذج الإنسان وفقاً للانموذج الذي يجهد المربي نفسه من أجل تحقيقه فحسب، بل هو الذي يسعى أيضاً إلى بناء ذلك الانموذج ويحققه وفقاً لاحتياجاته المتنامية . وأنه من الخطأ الاعتقاد بأن ذلك الانموذج التربوي قد تحدد كلياً في البنية الطبيعية للإنسان، وأنه ليس علينا إلا أن نكتشفه عبر الملاحظات المنهجية . ان الإنسان الذي يجب على التربية أن تحققه فينا ليس الإنسان على غرار ما صنعته الطبيعة ولكنه الإنسان على نحو ما يريده المجتمع أن يكون ، وهو يريده كما يتطلب اقتصاده الداخلي . وما يبرهن على صحة ذلك هو التغاير الكبير الذي ينظر فيه إلى الإنسان من مجتمع لآخر. فالأقدمون كانوا يرغبون في أن يجعلوا من أطفالهم أناساً كما هو حالنا. وهم عندما كانوا يرفضون الاعتراف بالآخرين في مجتمعات

الصفحة 131

أخرى ، فإن ذلك لأنهم يعتقدون أن تربية المدينة وحدها قادرة على بناء الإنسان الحق في جوانبه الإنسانية . وهم بذلك ينظرون إلى الإنسانية بطريقتهم التي تختلف عن طريقتنا في النظر . فكل تغير يحدث في المجتمع يجد انعكاساً له ، بالمستوى نفسه من الأهمية . ، في النسق الفكري عند الإنسان في نظام تصوراته عن ذاته . وأنه كلما ازداد تقسيم العمل وازدادت حدة المنافسة ودرجة التخصص، فإن دورة الأشياء التي تتضمنها التربية تصبح أكثر تحديداً، والنموذج الإنساني أكثر افتقاراً إلى خصائصه .

     كانت الثقافة الأدبية منذ عهود من الزمن تشكل عنصراً أساسياً في كل ثقافة إنسانية . وها نحن نعيش اليوم في عصر أصبحت فيه الثقافة اختصاصية . ويبرز ذلك التباين أيضاً فيما يتعلق بالسلم القيمي لخصائصنا الإنسانية . وإذا كنا نعطي بعض هذه الخصائص أهمية أكبر من بعضها الآخر ، وإذا كان يترتب علينا ، من أجل ذلك ، أن نعمل على تطوير الخصائص المرغوبة، بدرجة أكبر من الخصائص الأخرى ، فإن هذه الأهمية التي تحظى بها لا تكمن في جوهر هذه الخصائص المفضلة وليست هي الطبيعة نفسها التي تمنح هذه الخصائص تراتبية الأهمية ، بل أن سلم الأهميات والأولويات هذه يتحدد على أساس القيمة الاجتماعية التي تمثلها كل خاصة في إطار المجتمع . وكما أن هذه التراتبية ، في سلم القيم ، تتغاير من مجتمع إلى آخر ، فإن هذه التراتبية لن تكون أبداً هي ذاتها في لحظتين تاريخيتين مختلفتين . بالأمس كانت الشجاعة تمثل أولوية في سلّم القيم ، أما اليوم فإن التفكير والتأمل يحتلان هذه الأولوية ، وقد تكون المشاعر الفنية هي المرشحة لاحتلال هذه الأولوية

الصفحة 132

في المستقبل . وانطلاقاً من ذلك ، يمكن القول في الوقت الحاضر كما كان هو الحال في الماضي . إن نموذجنا التربوي نتاج للحياة الاجتماعية في أدق تفاصيله . فالمجتمع هو الذي يطبع فينا صورة الإنسان الذي يجب أن نگونه ، ، وهي الصورة التي تعكس في الوقت نفسه الخصائص المتنوعة للمجتمع المعني .

      باختصار فإن التربية لا تتناول الفرد ومصالحه كموضوع وحيد ورئيس لها ، بل هي قبل كل شيء الوسيلة التي يستطيع المجتمع من خلالها أن يجدد شروط وجوده الخاصة باستمرار . فالمجتمع لا يستطيع يتواصل إلا إذا كان هناك تجانس كاف بين أعضائه وافراده. وتسعى التربية إلى تأصيل هذا التجانس وتعزيزه عن طريق تكريس عوامل ذلك التجانس الذي تقتضيه الحياة المشتركة في نفوس الأطفال، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن كل تعاون يتعذر من غير وجود حد أدنى من التباين . ويترتب على ذلك أن تقوم التربية بإيجاد التباين الضروري عبر عملية تخصصها وتباينها . وهي تقوم عبر ذلك ، في إطار تنوعها هذا ، بعملية التنشئة الاجتماعية المنهجية للأجيال الجديدة . وفي إطار ذلك يمكن القول ، إنه يوجد كائنان في كل منا ، لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي . أحدهما نتاج لكل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما يمكن أن نطلق عليه الكائن الفردي . أما الكائن الأخر فهو نظام من الأفكار، والمشاعر والعادات التي لا تعبر عن شخصيتنا بل عن شخصية الجماعة أو الجماعات المختلفة التي ننتمي إليها من مثل العقائد الدينية والممارسات الأخلاقية، والتقاليد القومية والمهنية ، والمشاعر الجمعية من أي نوع كانت ، وهي تشكل في مجموعها

الصفحة 133

الكائن الاجتماعي الآخر . وبناء مثل هذا الكائن في كل منا يشكل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها .

      وهنا تتجلى ، في واقع الأمر، أهمية التربية وخصوبة فعلها وحركتها . إذ لا يمكن أن يكون ذلك الكائن الاجتماعي معطى من معطيات البنية الفطرية للإنسان، وأنه لا يمكن له بالتالي أن ينمو على نحو عفوي . إذ ليس في فطرة الإنسان ما يدفعه للخضوع إلى السلطة السياسية، أو إلى مقبول نظام أخلاقي، أو إلى التضحية . حيث لا يوجد في فطرتنا الأولية ما يجعلنا عبيداً لارادة السماء ، وللشعارات الرمزية التي يطرحها المجتمع ، أو ما يدفعنا إلى رفعها أصناما للعبادة ، وإلى حرمان أنفسنا من أجل تقديسها ، إنه المجتمع نفسه الذي أوجد هذه القوى الأخلاقية الكبرى التي يشعر الإنسان بدونيته وقصوره ازاءها . ونحن عندما نتأمل النزعات الداخلية التي تعود إلى الوراثة ونأخذها بعين الاعتبار ، فإن الطفل عندما يدخل إلى الحياة لا يحمل في ذاته غير طبيعته الفردية . والمجتمع هنا يجد نفسه ، تقريباً عند ولادة كل جيل ، أمام صفحة بيضاء، تتطلب منه جهوداً جديدة ، إذ يجب على التربية ، وعبر قنواتها المختلفة جداً ، أن تعمل على تكوين الكائن الاجتماعي وغرسه في بنية الكائن الجديد الفردي اللااجتماعي الذي يلد لتوه . وهو الكائن الذي يمكن الطفل من الولوج في إطار حياة اجتماعية اخلاقية ، وتلك هي مهمة التربية . ويمكن لكم هنا معاينة عظمتها. فهي لا تتوقف عند حدود تطوير البنية الفردية التي يعبر عنها بالطبيعة، أو أن تظهر الطاقات الخفية الكامنة والتي لا تحتاج إلا إلى عملية الكشف عنها ، إنها تُوجد في الكائن إنساناً جديداً وهو الإنسان الذي يتضمن ما هو جيد فينا وكل

الصفحة 134

ما تتطلبه ارادة الحياة . ومثل هذه الخاصية المبدعة للتربية هي من جانب أخر خاصية مميزة للتربية الإنسانية . وكل ما عدا ذلك ، كهذه التربية التي تتلقاها الحيوانات، إذا جازت التسمية، هي عملية تدريب متقدم لما يورث عن الأبوين . والتربية هنا يمكن لها أن تسرع في تنمية بعض الغرائز الغافية عند الكائن، ولكنها لا تعدّه الحياة جديدة . فهي هنا إذ تسهل عملية نمو الوظائف الطبيعية ، فإنها لا تبدع شيئاً جديداً على الإطلاق ، وعندما تساعد أمات الطيور صغارها على الطيران مبكراً ، أو على بناء أعشاشها ، فإن ذلك لا يعلم الصغار ما لا يستطيعون كشفه بأنفسهم وبخيراتهم الخاصة وتجربتهم الفردية . وذلك هو حال الحيوانات التي تعيش خارج اطار الحياة الاجتماعية، والتي تشكل مجتمعات بسيطة للغاية ، وتستمر في وجودها تحت تأثير عمليات آلية غريزية متأصلة في البنية الفطرية لكل فرد من أفرادها منذ اللحظة التي يولدون فيها . فالتربية هنا لا يمكنها أن تضيف أي أمر جوهري إلى الطبيعة ، لأن البنية الفطرية تحقق كفايتها الكلية في هذا المستوى . أما عند الإنسان ، فعلى خلاف ذلك ، لأن الكفاءات المتنوعة التي تتطلبها الحياة الاجتماعية بالغة التعقيد ولا وجود لها في بنية الإنسان الفطرية الأولى ، ولا يمكن لهذه الكفاءات أن تتحول من جيل إلى آخر عبر الوراثة بل يتم ذلك التحويل عن طريق التربية .

     فالاحتفالات التي نصادفها في عدد من المجتمعات تبين لنا بوضوح السمة المميزة للتربية الإنسانية. وذلك هو حال الطقوس الاجتماعية التي تجري فيها المسارة (ايقاف العضو الجديد على أهم الاسرار العقائدية للجماعة). حيث تشكل هذه الطقوس وهذه الاحتفالات المرحلة

الصفحة 135

الأخيرة من العملية التربوية التي يمارسها الكبار على الصغار وذلك حين يقوم الكبار بعملية الكشف عن العقائد الأساسية والعميقة للجماعة التي تتصف بطابع القدسية. وعندما ينجز هذا الطقس الاجتماعي ( المسارة ) يأخذ الفرد مكانه الخاص في السلم الاجتماعي، وينفصل عن النساء اللواتي عاش معهن مرحلة طفولته ، ويبدأ يحتل منذ هذه اللحظة مكانه المميز بين المحاربين، حيث يتوجب عليه، في الوقت نفسه، أن يعي دوره الذي يتعلق بجنسه وأن يأخذ على عاتقه كل الواجبات والحقوق المترتبة عليه ، بوصفه انساناً ومواطناً. وتمثل هذه الطقوس عقيدة ذات طابع شمولي إذ عرفتها مختلف الشعوب وهي طقوس تؤكد للمتعلم ، بوساطة المسارة أنه قد أصبح رجلاً جديداً ، يتمتع بشخصيته الجديدة ويأخذ تسمية جديدة . ومن المعروف أن الاسم الجديد ليس مجرد اشارة بسيطة شفوية بل أن ذلك يشكل عنصراً أساسياً لمكونات شخصية الفرد . وتعد المسارة (Initiation) بمثابة ولادة ثانية للفرد ، ومثل ذلك التحول يُعير عنه ، ، وفقاً للعقلية البدائية ، بصورة رمزية روحية ، على أنه نوع من تشكل جديد للنفس الإنسانية يتأصل في وعي الفرد . ولكن إذا اتيح لنا أن نستبعد من هذه العقيدة العناصر الخرافية ألا يمكن لنا أن نجد في رمزية هذه الطقوس أن للتربية هدفاً تسعى إلى تحقيقه وهو أنها توجد في الإنسان إنساناً آخر جديداً كل الجدة هو الكائن الاجتماعي .

    ومع ذلك، إذا كانت خصائص الإنسان ذات صبغة اخلاقية، وذلك لأنها تفرض على الفرد نوعاً من الحرمان ، وتعيق حركتة الطبيعية ، والتي لا يمكن لها أن توجد في داخلنا إلا من خلال فعل خارجي . الا يوجد ملكات أخرى تجعل كل فرد معنياً بالبحث عن الحقيقة

الصفحة 136

واكتسابها عفوياً ؟ مثل ملكة الذكاء التي تسمح للفرد أن يكيف سلوكه بشكل أفضل من طبيعة الأشياء . ومثل الملكات الفيزيائية وكل ما من شأنه أن : يسهم في تحقيق الدقة وسلامة البنية العضوية للإنسان .

     ومن أجل ذلك كله ، على الأقل ، يبدو أ أن التربية التي تقوم بتطوير هذه الملكات ، لا تفعل شيئا آخر غير تسريع عملية النمو التي تقتضيها الطبيعة الإنسانية ، والتي تتمثل في تحقيق الكمال النسبي للفرد أي في إطار الاتجاه نفسه الذي ينزع أن ينمو فيه وأن يكون ، والذي يصل إليه بفضل المنافسة الاجتماعية . ولكن، وعلى الرغم من المظاهر البادية ، فإن التربية هنا ، كما في أي مكان آخر ، تعمل قبل كل شيء ، على تلبية الضرورات الخارجية ، أي الاجتماعية . إذ توجد مجتمعات لم تعمل قط على صقل هذه الملكات . وبالتالي فإن وجهات النظر إلى هذه الملكات تتباين إلى حد كبير وفقاً لتباين المجتمعات الإنسانية . فالعلم والروح النقدية اللذان نقدرهما عالياً اليوم ، كان ينظر إليهما ، وخلال مرحلة زمنية طويلة ، بعين الريبة والشك . وما موقفنا اليوم من العقيدة التي تعلن أن هؤلاء الذين يحملون عقولاً ضعيفة هم أناس سعداء ؟ ألا يجب أن ندرك أيضاً بأن اللامبالاة الخاصة بالمعرفة قد فرضت على الناس بشكل صنعي عبر استلاب طبيعتهم أن هؤلاء الناس الذين لم تكن لديهم آية رغبة في تحصيل المعرفة هم هؤلاء الذين عاشوا في مجتمعات بسيطة لم تشعر بالحاجة الضرورية إلى وجود مثل هذه المعرفة . ومثل هذه المجتمعات كانت تحتاج إلى التقاليد الراسخة من أجل الاستمرار والتواصل ، والتقاليد لا تسعى إلى ايقاظ الروح العلمية ، بل على خلاف ذلك تسعى إلى استبعاد التفكير والتأمل . وهنا أيضاً لا وجود لتقدير

الصفحة 137

الخصائص الإنسانية الفيزيائية .. وذلك لأن الوضع الاجتماعي السائد يدفع الوعي العام نحو التقشف، وبالتالي فإن التربية الرياضية تُستبعد إلى المرتبة الأخيرة . وتلك هي بعض المظاهر التي كانت تجري في مدارس العصور الوسطى . والأمر نفسه يمكن أن يلاحظ وفقاً لاتجاهات الرأي العام حيث تأخذ هذه التربية نفسها أبعاداً مختلفة . ففي اسبارطة كانت التربية تسعى إلى ايجاد رجال اشداء لا يعرفون التعب والضعف ، ولكنها كانت تسعى في اثينا إلى بناء أجساد تتميز بالرشاقة والجمال . وفي العهد الروماني كانت تعمل على ايجاد محاربين يتميزون بالمهارة والمرونة ، وهي تهدف في ايامنا هذه إلى تحقيق غايات صحية وإلى حماية الناس من أخطار ثقافة عقلية بالغة الكثافة والتعقيد . وذلك كله يشير إلى أن الخصائص والسمات التي تحتل المرتبة الأولى ، والتي تصبح مرغوبة وبشكل عفوي ، لا يسعى إليها الأفراد إلا إذا دعاهم المجتمع للبحث عنها بالطريقة التي يحددها المجتمع نفسه.

      وانتم تعرفون إلى أي حد لا يستطيع فيه علم النفس وحده أن يكون مصدراً كافياً للبيداغوجيا (Pedagogie) . وإذا كان المجتمع كما أشرت منذ قليل هو الذي يرسم الصورة المثالية للفرد والتي يسعى إلى تحقيقها عبر التربية ، فإنه لا يوجد في الطبيعة الإنسانية الفردية اتجاهات أو حالات محددة يمكنها أن تطرح نفسها كمنطلق أولي لتحقيق ذلك النموذج المثالي للتربية ، أو التي يمكن أن ينظر إليها بوصفها شكلاً داخلياً أو متوقعاً . وهذا لا يعني أبداً أنه لا يوجد فينا كفاءات وقدرات عامة والتي من غيرها يصبح العمل التربوي غير قابل للتطبيق. ففي الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان أن يتعلم التضحية فهو قادر على التضحية،

الصفحة 138

وإذا استطاع أن يخضع نفسه لمنطق العلم فهذا لا يعني أنه لم يكن صالحاً ، لذلك . ولأننا نشكل جزءاً متكاملاً من العالم الذي يحيط بنا فإن ذلك يدفعنا إلى أن نأخذ بالاعتبار أشياء أخرى غير ذواتنا ، ويضاف إلى ذلك أنه يوجد فينا ملامح لا شخصية أولية تعد وتهيء لعملية تعويض . وهذا هو الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير حيث يوجد لدينا بعض الميل إلى المعرفة . وهنا توجد هوة عميقة بين هذه الميول المتموجة والمتداخلة مع تأخذه الميول النقيضة لها من جهة ، وبين الشكل المحدد والخاص الذي . تحت تأثير المجتمع وفعله من جهة أخرى.

     ويصعب اليوم حتى على أهل النظر الثاقب الإدراك بشكل مسبق ، في غمرة هذه الأسباب اللا متمايزة ، ما يدعوها إلى الوجود كلما بادرت الحياة الجمعية إلى اخصابها : فالحياة الجمعية لا تقف عند حد اعطاء هذه النزعات ما تحتاجه من وضوح، بل تسعى إلى اضافة بعض الأشياء ، وهي في كل الأحوال تضفي على هذه النزعات بعضاً من طاقتها وحيويتها الخاصة . وهي بناء على ذلك تحوّلها إلى أفعال لم يسبق . لها أن سُجلت في مخزون الفطرة . وهكذا فإنه عندما لا يكون الوعي الفردي مجهولاً بالنسبة لنا ، أو حتى عندما يصل علم النفس إلى مرحلة النضج ، فإن المربي لا يحتاجه رغم ذلك كي يرشده مباشرة إلى الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه. وعلم الاجتماع وحده الذي يستطيع أن يساعدنا في ادراك الغاية والهدف ، وذلك عندما يربط بين هذه الغاية والأوضاع الاجتماعية التي تحددها وتعبر عنها. كما يمكن له أن يساعدنا على اكتشاف الهدف التربوي عندما يكون الوعي الجمعي في حالة فوضى ولا يستطيع أن يحدد الهدف التربوي المطلوب.

الصفحة 139

     ولكن إذا كان لعلم الاجتماع هذه الأهمية في تحديد الغايات التي يجب على التربية أن تحققها فهل يحظى بالأهمية نفسها فيما يخص اختيار الوسائل ؟

     وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أهمية الدور الذي يحتله علم النفس . وإذا كان النموذج التربوي يعبر قبل كل شيء عن الضرورات الاجتماعية فإنه لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال وعبر وعي الأفراد . ومن أجل أن يكون ذلك شيئاً آخر غير رؤية بسيطة للنفس ، أو ايعاز بسيط يوجهه المجتمع إلى أفراده ، يجب ايجاد الوسيلة التي تناسب وعي الطفل . وذلك لأن هناك قوانين خاصة للوعي يتوجب علينا ادراكها من أجل تملك القدرة على تغييرها، وبخاصة ، إذا كانت هناك رغبة في تجاوز وتوفير العفوية التجريبية التي تسعى التربية إلى اختصارها ضمن حدودها الدنيا . ومن أجل اثارة النشاط وتوجيهه في اتجاه بين التحديد ، يتوجب أيضاً معرفة نوازع حركته وطبيعته . ففي هذا السياق ، وضمن هذه الشروط يمكن أن نصل إلى مرحلة التطبيق ، وذلك عبر معرفة العلة والفعل المناسب . وإذا كانت المسألة تعني ، على سبيل المثال ، إثارة حب الوطن ، أو تنمية الحس الإنساني ، فمن الأفضل لنا هنا أن نوجه الحس الأخلاقي لتلامذتنا في إطار هذا الاتجاه أو ذاك ، وهي الاتجاهات التي نملك عنها تصورات أكثر كمالاً وأكثر تحديداً ، والتي تعبر عن جملة الظواهر التي : نطلق عليها ، نزعات وعادات ورغبات وانفعالات الخ . والتي تتحدد بالشروط المختلفة لوجودها ، وتعبر عن الشكل الذي تبدو فيه أمام عيون الأطفال . وبقدر ما تكون هذه النزعات نتاجاً لتجارب سارة أو غير سارة يمليها النوع الإنساني ، أو على خلاف ذلك نتاجاً لنزعة فطرية سابقة

الصفحة 140

للحالات العاطفية التي تصاحبها ، فإنه يجب اعتماد طرائق مختلفة لرعاية نموها وتطورها. وفي هذا الإطار فإنه على علم النفس ، وبالأحرى علم نفس الطفولة، أن يجد الحلول المناسبة لهذه المسائل. وإذا لم يكن لعلم النفس كفاءة تحديد الغاية أو بالأخرى غايات التربية فإنه ومن غير شك مطالب، بأن يسهم بدور هام في بناء المناهج . وإذا لم يكن لأي منهج أن يطبق بطريقة واحدة على مختلف الأطفال فإنه على علم النفس أيضاً أن يساعدنا على الاعتراف بأهمية الوسط الذي يحتوي على مقومات تباين الذكاء والسمات . ومن المؤسف له حقاً أننا ما زلنا بعيدين عن اللحظة التي يمكن فيها أن نكون في حالة مواتية لتحقيق هذه الأمنية .

      إن الخدمات التي يمكن لعلم النفس أن يقدمها للتربية (Pedagogie) لا يمكن أن تكون موضع نقاش ، ونحن سنعمل على أن يأخذ ذلك العلم دوره كاملاً . . ومع ذلك ، وفي إطار هذه الدائرة من الاشكاليات التي يمكن فيها لعلم النفس أن ينير درب المربي ، يجب عليه أن يتجاوز مرامي التنافس مع علم الاجتماع . وذلك لأن غايات التربية ذات طبيعة اجتماعية ، ولأن الوسائل المتوخاة لتحقيق ذلك يجب أن تكون ذات طابع اجتماعي أيضاً . إذ لا توجد في واقع الأمر أية مؤسسة من المؤسسات التربوية التي لا تحمل سمات المجتمع الذي يحتضنها . والمؤسسة التربوية تعاود انتاج السمات الأساسية للمجتمع على نحو مصغر . إذ يوجد نظام في المدرسة كما هو الحال في المدينة . والقوانين التي تحدد للتلاميذ واجباتهم تتشابه مع هذه التي تحدد للفرد سلوكه . فالعقوبات والمكافات التي يخضع لها التلاميذ تبدو متجانسة مع تلك التي يخضع لها الراشدون . وإذا كنا نعلم الأطفال العلوم التي وصلت إلى مرحلة النضج،

الصفحة 141

فإنه يمكن لنا أن نعلمهم هذه التي لم تنضج بعد ، والتي ما زالت تمر في مرحلة التكوين . ومبادىء هذه العلوم لن تبقى سجينة عقول هؤلاء الذين يبدعونها ، ولكنها لن تصبح فعالة إلا عندما تحقق تواصلها مع الآخرين . وفي إطار هذا التواصل الذي يقتضي وجود شبكة من

نستعرض

.

العمليات الاجتماعية، فإن التعليم الذي يتلقاه الراشد لا يختلف في توجهه عن ذلك الذي يتلقاه التلاميذ من معلميهم. ألا يمكن أن يقال في هذا السياق أن العلماء كانوا معلمين لمعاصريهم، ألا يمكن أن نلاحظ بأن الجماعات التي التفت حولهم أخذت تسمية و) مدارس) ؟ ويمكن هنا أن نستعرض أمثلة كثيرة . وبما أن الأخيرة ليست سوى نتاج لازدهار الأولى ، فإنه لمن المستحيل أن تكون العمليات الأساسية التي تجري في احداها منفصلة عن هذه التي تنظم عمل الأخرى . ويمكن لنا هنا أن ننتظر من علم الاجتماع )علم المؤسسات الاجتماعية ) أن يساعدنا على ادراك ماهية المؤسسة التربوية ، وعلى تحديد الاسقاطات المستقبلية لما يجب أن تكون عليه هذه المؤسسات . وبقدر ما نستطيع أن نعرف المجتمع ، يمكن لنا أن ندرك كل ما يجري في إطار ذلك العالم الصغير الذي هو المدرسة . وعلى نقيض ذلك ، وكما ترون ، كم يتوجب علينا أن نكون حذرين عندما نريد الاستفادة من معطيات علم النفس ، حتى عندما يتعلق الأمر بتحديد المناهج . فعلم النفس لا يستطيع بمفرده أن يقدم لنا العناصر الأساسية لبناء تقنية ، تتضمن بالتحديد ، نموذجا خاصاً ، لا يوجد في داخل الفرد ، وإنما في إطار الحياة الاجتماعية . ومن جانب آخر، فإن تأثير الوضعيات الاجتماعية التي تحدد الغايات التربوية ، لا يتوقف هنا عند حدود الفعل. بل يتعدى ذلك أيضاً إلى تحديد

الصفحة 142

التصورات الخاصة بالمنهج وذلك لأن طبيعة الغاية تتداخل مع طبيعة الوسائل . وعندما يتوجه المجتمع ، على سبيل المثال ، نحو تعزيز السمات الفردية ، فإن الإجراءات التربوية التي يمكن لها أن تستلب الفرد ، وتتجاهل شخصيته الداخلية تصبح مرفوضة ومستهجنة . وعلى خلاف ذلك فإنه عندما يشعر المجتمع بالحاجة إلى ايجاد تجانس أكبر عند افراده ، وذلك تحت تأثير ظروف دائمه أو عابرة ، فإن كل ما من شأنه ، أن يصعد المبادرة الفردية ، يصبح مستبعداً ومحظوراً . وفي الواقع ، فإنه في كل مرة تتعرض فيها المناهج للتغيّر العميق، فإن ذلك يحدث تحت تأثير أحد التيارات الاجتماعية ، والذي يؤثر أيضاً بدوره في مجرى الحياة الاجتماعية برمتها . فالمناهج الجديدة التي ظهرت في عصر النهضة لم تكن نتاجاً للاكتشافات التي حققها علم النفس في هذه المرحلة ، والتي تتعارض كلياً مع هذه المناهج التي عرفت في العصور الوسطى . بل كانت هذه المناهج نتاجاً للتغيرات العميقة التي شهدتها البنية الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية في تلك المرحلة ، والتي شهدت ميلاد رؤية جديدة للإنسان ، وللمكان الذي يجب أن يحتله في الحياة. والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على المربين في القرن الثامن عشر وفي بداية القرن العشرين ، الذين أخذوا على عاتقهم مهمة استبدال المناهج الاستنتاجية بالمناهج المجردة ، وهم في كل الأحوال يمثلون صدى الطموحات الاجتماعية في ذلك العصر . 

     إن مفكرين مثل باسدو Basedo وبستالوتزي Pestalozi، وفروبل Frobel ، لم يكونوا في أي حال، علماء نفس متميزين وهم الذين تتجسد عقيدتهم التربوية في احترام الحرية الداخلية ورفض الإكراه ، والتسلط ، وحب الإنسان ، وعلى الخصوص حب الأطفال،

الصفحة 143

وهي المبادئ التي شكلت منطلق النزعة الفردية للعصر الحديث . فللتربية خصوصية مشتركة واحدة في كل مكان تتمثل في أن الغايات التي تسعى إلى تحقيقها ، والوسائل التي توظفها ، مرهونتان إلى حد كبير بالضرورات الاجتماعية ، التي تتمثل في أفكار ومشاعر جمعية ، وهي ، من غير ربية ، المشاعر والأفكار التي يجد فيها الفرد خصوصيته . ألا : يجب علينا أن نعترف بأننا ندين للتربية بأفضل ما فينا ؟ وأن ذلك يعود إلى أصول اجتماعية. وهذا يعني أ أنه يجب علينا أن نعود دائماً إلى دراسة المجتمع ، حيث يمكن للمربي أن يجد المبادئ الأساسية لتأمله وتفكيره . ويستطيع علم النفس بالتأكيد أن يوجه المربي نحو تحديد أفضل للطرائق الخاصة بتربية الطفل، وتلقينه المبادئ المطروحة ، ولكن علم النفس لا يستطيع أبداً أن يساعدنا على اكتشاف هذه المبادئ . 

    ويمكن لي أن أضيف في هذا السياق ، بأنه إذا كان هناك من زمان ومكان طرحت فيهما الرؤية السوسيولوجية نفسها بطريقة خاصة وملحة على المربين ، فإن بلادنا وزمننا هما بالتأكيد اللذان يشكلان الإطار الموضوعي الذي احتضن هذه الرؤية . فعندما يعيش المجتمع حالة استقرار نسبي ، كحال المجتمع الفرنسي في القرن السابع عشر ، على سبيل المثال ، وعندما يكون هناك ، وفي الوقت نفسه ، نظام تربوي متماسك ، وعندما لا يكون هناك اعتراض من قبل أحد على هذين النظامين ، فإن المسائل الوحيدة الضاغطة هي مسائل التطبيق بالدرجة الأولى . حيث لا تظهر شكوك كبيرة تتعلق بالأهداف والغايات المراد تحقيقها أو حول التوجه العام للمناهج، وهنا لا يمكن أن نجد تناقضاً إلا حول مسألة الوصول إلى أفضل الطرائق المناسبة لعملية التطبيق والممارسة ، وهي

الصفحة 144

صعوبات يمكن لعلم النفس أن يجد لها الحلول المناسبة . وليس لي هنا أن أخبركم بأننا نعيش غمرة هذا الأمن الفكري ، والأخلاقي أي في العصر الذي نعيش فيه ، فالتحولات العميقة التي اعترت المجتمعات الأوروبية المعاصرة ، أو هذه التي تباشرها حالياً ، تقتضي تحولات مكافئة لها في جانب التربية الوطنية . ولكن عندما نشعر بضرورة هذه التغيرات فإننا لا نعرف جيداً ما يجب أن تكون عليه. ومهما تكن ديانات ومعتقدات الأفراد الخاصة والأحزاب السياسية فإن الرأي العام يعاني من التشويش والفوضى . فالمسألة التربوية لا تطرح نفسها علينا بالطريقة عينها التي عرفها رجال القرن السابع عشر. والمشكلة هنا ليست في توظيف الأفكار المكتسبة ولكن في ايجاد أفكار توجهنا . ولكن كيف يمكن لنا العثور على هذه الأفكار ، واكتشافها إذ لم تتوغل بعيداً لمعرفة مصادر الحياة التربوية ، أي البحث في إطار الحياة الاجتماعية .

     فالمجتمع هو المعني بالأمر ، إذ يجب أن يعرف حاجاته الضرورية وأن يعمل على اشباعها . وعندما نتوقف عند حدود النظر في دواخلنا وذواتنا ، فإن ذلك يعني أننا نبتعد بأنظارنا عن الحقيقة التي نسعى لإدراكها ، وهذا يعني أننا نضع أنفسنا في دائرة يستحيل علينا فيها أن نفهم الحركة التي تقود العالم من حولنا ، أو أن ندرك العلاقة التي تربطنا بالعالم الخارجي . ولا أعتقد هنا بأنني أنطلق من حكم بسيط مسبق ، أو استغرق في حب متطرف لعلم كرست نفسي وحياتي من أجله ، إذ أقول أنه ليست هناك من ثقافة أكثر أهمية بالنسبة للمربي من الثقافة السوسيولوجية ، وأقول أنه ليس أمامنا سوى علم الاجتماع الذي يمكنه أن يضع في أيدينا المفاتيح المناسبة الخاصة بالإشكالية التربوية . وعلم

الصفحة 145

الاجتماع هذا يمكنه أن يقدم لنا المعطيات أكثر إلحاحاً ، أي أنني أريد أن أقول أنه يقدم لنا نظاماً من الأفكار الموجهة ، التي تمثل روح ممارستنا وتعمل على تعزيز هذه الممارسة . ويضاف إلى ذلك كله أنه يمكن لنظام الأفكار هذا أن يمنح فعلنا معناه ودلالته ، وهو في نهاية المطاف يشكل الشرط الأساسي الذي يجعل فعلنا أكثر غنى وخصوبة .

الصفحة 146



  الفصل الرابع: تطور التعليم الثانوي وحوره في فرنسا

   أيها السادة ليس لي وليست مهمتي، في هذه المحاضرة، أن أدربكم على اكتساب تقنية عملكم، لأن اكتساب هذه التقنية أمر مرهون بالممارسة المهنية التي تتوجب عليكم في العام الدراسي القادم (2). ولكن أية تقنية أو مهارة عملية مهما يكن أمرها، ستكون مفرغة من مضمونها، وستتحول إلى تخبط تجريبي، إذ لم يتح لها أن تهتدي بمعطيات التفكير والتأمل في الغاية التي تسعى إلى تحقيقها، وفي الوسائل التي توظفها.

    إن مهمتي في هذه المحاضرة تكمن في توجيه تفكيرهم نحو الظواهر الخاصة بالتعليم والتربية وتدريبكم على دراستها، وفق طرائق منهجية محددة ومتكاملة. إذ تتطلب مهمتنا التربوية أن لا نقف عند حدود وضع معلم المستقبل في صورة بعض الاجراءات والمواصفات المهنية فحسب، بل يجب أن نزوده بالوعي النظري المطلوب لأداء وظيفته وعمله في مجال التربية.

    تقتضي مهنة التعليم بالضرورة أن تكون ذات طابع نظري وقد شكل ذلك منطلق رؤية سلبية لأهميته وضرورته. حيث يؤكد أصحاب

الصفحة 147

هذه الرؤية كفاية الروتين في مجال التعليم، وذلك لأن التقاليد لا تحتاج إلى توجيه التفكير الحصيف. ولكن التاريخ يعلمنا بأن جوانب النشاط الانساني المختلفة، قد عرفت تواصلها العميق والضروري مع معطيات المعرفة النظرية والتأمل الفكري الذي يلعب دوراً متزايداً في توجيه الممارسة العملية وهدايتها. 

     وبناء على ذلك فإنه لمن الغرابة بمكان أن ينظر إلى النشاط التربوي بوصفه نشاطاً انسانياً استثنائياً يتجاوز حدود التواصل بين الفكر والممارسة. ومن هذا المنطلق وجّه النقد إلى أعمال عدد كبير من التربويين الذين ابلوا في مجال الفكر التربوي، وذلك لأن الانظمة الفكرية التي شيدوها، والتي تأخذ طابعاً شكلياً يفتقر إلى خصوبة الواقع وغناه، نيس لها أهمية كبرى على مستوى الممارسة والتطبيق. ولكن لا يمكن لهذه الرؤية أن تكون على المستوى الموضوعي كافية لتبخيس التفكير والتأمل التربويين. وعلى خلاف ذلك فإن الحاجة إلى الثقافة التربوية تظهر عند معلمي المرحلة الابتدائية في مدارسنا، وذلك بسبب الثقافة المحدودة التي اكتسبوها، حيث تساعدهم هذه الثقافة التربوية على التفكير في مهنتهم وعلى فهم المناهج الذي يستخدمونها والاستفادة منها بشكل أفضل. وفي هذا الخصوص يوصف مدرسو المرحلة الثانوية، الذين أعدوا معرفياً في) الليسية Lycee) ومن ثم في الجامعة بالتوقد الذهني ونفاذ البصيرة، وادراكهم للاتجاهات الفكرية الكبرى. ولذلك فإنه لا يجب علينا أن نتوجس خيفة من قصور في كفاءاتهم وبالتالي فإن العمل على تطوير معارفهم النظرية التربوية لا يعدو أن يكون سوى مضيعة للوقت. فالطاقات الفكرية التي يتميزون بها تساعدهم على اداء دورهم الطبيعي

الصفحة 148

المتكامل في قاعات الصفوف المدرسية وذلك دون الحاجة إلى صقل ثقافتهم أو اخضاعهم لإعداد تربوي مسبق. ولكن الواقع يخالف منطق هذه الرؤية ولا يشهد لصالح هذه الفضيلة التي يتميز بها مدرسو المرحلة الثانوية فيما يتعلق بالتفكير المهني.

     فالتفكير الذي يرافق انماط السلوك الانساني يتطور باستمرار، وهو بذلك يضفي على الممارسة المهنية المرونة والقدرة على احتواء الجديد وتمثله. وإذا كان التفكير يمثل حقاً، النقيض الطبيعي للروتين وعدوا له، فإنه وحده يستطيع حماية العادات من التصلب ويدفعها في اتجاه التجدد الدائم. وبعبارة أخرى يستطيع التفكير أن يحافظ على مرونة التقاليد، وأن يجعلها في حالة من اللدونة الضرورية لأن تكون متنوعة ومتطورة وقادرة على تحقيق التوافق مع حركة الوسط الاجتماعي وتغيراته، وعلى خلاف ذلك كلما تدنت حصة التفكير في النشاط الإنساني يكون التصلب على درجة أكبر. 

    تشير معطيات الواقع ليس إلى غياب خاصية المرونة في نظام التعليم الثانوي وإلى قصور في قدرته على احتواء الجديد وتمثله فحسب، بل إلى وجود عداوة حقيقية بين ذلك النظام واتجاهات التجديد. وإذا كان يمكن لنا أن نلاحظ في واقع الأمر، كيف تغير كل شيء في فرنسا، وبخاصة هذه التغيرات التي اعترت الأنظمة السياسية والاقتصادية والاخلاقية، فإن هناك بعض الظواهر التي بقيت عصيّة على التغير نسبياً: كالمفاهيم التربوية التي تشكل القاعدة الاساسية لما يمكن أن نطلق عليه نظام التعليم الكلاسيكي، وذلك باستثناء بعض الاضافات التي لا تمس عمق الاشياء. لقد بينت لي، الملاحظة في هذا الخصوص، أن أبناء جيلي تكونوا تربوياً

الصفحة 149

وفقاً لأنموذج تربوي لا يختلف جوهرياً عن ذلك الذي هيمن على المدراس اليسوعية، وهذا يعني أن التفكير النقدي لم يشهد تطوره المطلوب وأنه لم يلعب دوراً هاماً في حياتنا المدرسية.

      لقد أعلى عدد كبير عدد كبير من المفكرين من شأن اختصاصهم العلمي ومعارفهم العلمية، ولكنهم وعلى الرغم من ذلك كانوا اشبه بالأطفال في ما لا يقع في دائرة اختصاصهم. لقد اتسمت حياة بعض من هؤلاء العلماء الكبار بالبساطة وسجلت غياباً للتفكير النقدي وتجانست مع انماط حياة رجال العامة. ويعود ذلك إلى هيمنة الاحكام القبلية المسبقة على منطلق التفكير والتأمل. وإذا كان بعض الناس يتخلى عن التصورات التقليدية ويرفضها فإن بعضهم الآخر يحتفظ بها ويدافع عنها بكل ما يملك من قوة. وما يحدث أيضاً، إن احداً ما، قد يتحرر من اسار فكرة تقليدية ما، ولكنه يبقى خاضعاً واسيراً لنسق من الأفكار الأخرى. وإذا كانت كل فئة من الظواهر تقتضي نمطا يناسبها . ا يناسبها من التفكير، وفقاً لمناهج خاصة بها، فإن هذه المناهج لا ترتجل، بل يجب تعلمها. إذ لا تكفي، على سبيل المثال، الثقافة الواسعة والدقيقة في مجال اللغات القديمة، أو في الرياضيات أو في التاريخ القديم والحديث، من أجل أن يكون المرء، وبشكل عفوي، قادراً على التفكير المنهجي في مجال التربية. وذلك لأن التفكير المنهجي المحدد يشكل اختصاصاً يتطلب تدريباً مسبقاً. وهنا يجب علي أن أبذل الجهد لاستجلاء هذه المسألة وذلك في اطار هذه المحاضرة.

     إذا كان معلمو المرحلة الثانوية يملكون حقاً الحظوة الثقافية فإن ذلك لا يعفيهم من ضرورة اعدادهم تربوياً وتملكهم لثقافة تربوية خاصة، بل، وعلى خلاف ذلك، يحتاج معلمو هذه المرحلة إلى الثقافة التربوية

الصفحة 150

لأن بدرجة تقل عندها حاجة معلمي المرحلة الابتدائية. وذلك التعليم الثانوي يمثل مؤسسة أكثر تعقيداً من التعليم الابتدائي. وبناء على ذلك يمكن القول إنه كلما كان الكائن وحياته على درجة عالية من التعقيد، تزداد حاجته إلى التفكير والثقافة من أجل استحواز القدرة على تنظيم السلوك وضبطه. ففي المرحلة الابتدائية يقوم المعلم بإدارة الصف بمفرده، والتعليم الذي يقدمه يتميز بالبساطة والعفوية، وشخص المعلم هنا هو محور العملية التربوية، ومن السهل على المعلم في هذه المرحلة أن يقوم بإدارة عمله في مواد مختلفة، وإن يكامل بين هذه المواد ويوظفها جميعاً في خدمة غاية واحدة. ولكن الأمر يختلف في المرحلة الثانوية )الليسيه Lycée (حيث يتلقى التلميذ مواد مختلفة، يؤديها معلمون متعددون، إذ يوجد هنا تقسيم حقيقي للعمل التربوي، وهو تقسيم ينمو مع مرور الزمن، ويعمل على تغيير شكل المدارس الثانوية ومضمونها. والسؤال هنا هو : أية معجزة تستطيع أن تحقق الوحدة في اطار هذه التعددية؟ وكيف يمكن للوحدات التعليمية المتعددة أن تتوافق فيما بينها؟ وأن تتكامل من أجل تحقيق هدف واحد متكامل؟ ،وخاصة إذا كان لا يوجد بين هؤلاء الذين يعلمون احساس واحد مشترك يتعلق بالأنموذج التربوي المراد تحقيقه وبالطريقة التي يجب أن تعتمد في تحقيق ذلك الهدف المتكامل. وإذا لم نكن الآن في موقع تحديد غاية التعليم الثانوي - وهي مسألة سندرسها في موقعها المناسب في نهاية هذه المحاضرة - يجب علينا أن ننوه إلى أننا لا نسعى في المرحلة الثانوية إلى اعداد عالم في الرياضيات أو في الأدب أو في الطبيعة أو مؤرخ الخ... والمسألة التي تطرح نفسها هنا: هي كيف يستطيع كل معلم في هذه المرحلة أن يؤدي واجبه في سياق العمل الكلي المتكامل للمدرسة

الصفحة 151

الثانوية. وهو عندما لا يعرف دوره فكيف يستطيع زملاؤه تحقيق التعاون والانسجام معه بطريقة تتضافر فيها جهود الجميع؟ وفي معرض الاجابة عن هذه الأسئلة يعلل الأمر على الأغلب، بأن كل شيء يجري على نحو طبيعي عفوي، وكأن تحقيق الغاية المشتركة لا تنضوي على أية صعوبة، وكأن الجميع يدرك دلالة اعداد الانسان! ولكن والحق يقال، إن هذا التصور يفتقر إلى مضمونه الايجابي، ولذلك فإنني سأعالج المسألة دون أن احدد بشكل مسبق النتائج التي ستسفر عنها هذه المعالجة. ينطوي التصور السابق على اهمال أهمية التخصص وضرورته، دون أن يسعى إلى تحديد الأنموذج التربوي الذي يجب أن يعتمد عليه في عملية بناء العقول وتشكيلها. فالطريقة التي اعتمدت لتشكيل العقول واعدادها في القرن السابع عشر لا تناسب متطلبات عصرنا، ونحن نعمل على بناء الانسان في المدرسة الابتدائية على خلاف ما يحدث في المدرسة الثانوية. وبالتالي فإنه وبقدر ما يجهل المعلمون الحلقة الأساسية لتحقيق التوازن التربوي فإن جهودهم ستكون مبعثرة وقاصرة بالضرورة.

    يقوم كل مدرس في المرحلة الثانوية )الليسيه Lycée) بتعليم اختصاصه، وكأن اختصاصه غاية في حد ذاتها، علماً بأن كل اختصاص لا يمثل إلا وسيلة تهدف إلى تحقيق غاية سامية. وأنني أذكر أنه عندما كنت أدرس في المدارس الثانوية قام أحد الوزراء، من أجل النضال ضد التجزؤ والفوضى، بتكوين مجالس شهرية يجتمع فيها المدرسون لمناقشة المسائل فيما بينهم، ولكن وللأسف الشديد فإن هذه المجالس لم يكن لها إلا طابع شكلي لا قيمة له. إذ كنا نعود من هذه المجالس ونحن على أشد الاختلاف، حيث لا يوجد لدى أحدنا ما يقوله للآخر، وذلك لأنه لا

الصفحة 152

يوجد لدينا احساس بوجود أمور مشتركة فيما بيننا. وكيف يمكن أن يحدث ذلك في مرحلة الثانوية بينما يغيب هذا الأمر في الجامعة حيث تتلقى كل مجموعة من الطلاب التعليم الذي تفضله في اطار حلقات مغلقة؟ إن الطريقة الوحيدة التي يمكن لها أن تجعلنا نخرج من هذه الحالة المفككة تكون عبر اجتماع عام للمدرسين في المستقبل من أجل التفكير بشكل مشترك في مهمتهم المشتركة.

     حيث يجب عليهم، في لحظة ما من مستويات تحضيرهم، تبادل وجهات النظر في مختلف ابعاد المسألة التربوية، وذلك من أجل تحقيق التواصل بين النظام المدرسي والحياة الاجتماعية، إذ يجب عليهم البحث عن واقع الوحدة أي الأنموذج التربوي الذي يسعون إلى تحقيقه، وكيف يمكن لكل الأطراف التي تكونه أن تسهم في تحقيق الهدف النهائي. وفي هذا السياق فإن هذه المبادرة لا يمكن لها أن تتم إلا من خلال التعليم، الذي سأعمل على تحديد مخططه المنهجي في الحال.

     بالإضافة إلى ما تقدم يمكن القول بأن التعليم الثانوي يوجد اليوم في إطار شروط بالغة الخصوصية، والتي تجعل من الثقافة التربوية على غاية الأهمية، وذلك على نحو استثنائي. إذ يلاحظ إنه منذ النصف الثاني للقرن الثامن العشر والتعليم الثانوي يعاني من أزمة حادة لم تصل حتى الآن إلى دورتها النهائية. حيث يتفق الجميع على أنه لا يمكن لنا أن نبقى في حدود ما كان في اطار الماضي ولكن لا احد ينظر بالدرجة نفسها من الوضوح إلى ما يجب أن نكون عليه في المستقبل. وتشهد الاصلاحات المتعاقبة، في اطار الزمن وبشكل دوري، على صعوبة المسألة وتؤكد أهميتها. وبالتأكيد فإنه لا يمكن لنا أن نجهل أهمية النتائج الحاصلة: فالنظام القديم ما زال

الصفحة 153

يتواصل مع الافكار الجديدة، وهناك نظام جديد في مرحلة التكوين والذي يبدو مليئاً بالنشاط والحيوية. ولكن هل من مبالغة إذا قلنا بإن هذا النظام الجديد ما يزال يبحث عن هويته حتى اللحظة، حيث لا يوجد هناك سوى وعي أولي غير مؤكد عن طبيعته. وبالتالي فإن النظام الجديد يتميز بالمرونة والتسامح إلى درجة أنه لم يستطع أن يجد نفسه؟ ونحن في اطار ذلك أمام ظاهرة تجعلنا نشعر بالاضطراب وخصوصاً عندما نركز افكارنا حول هذه المسألة. ففي كل الأزمنة التي سبقت عصرنا يمكن تعريف النموذج التربوي، الذي كان التربويون يطرحونه ويسعون إلى تحقيقه، وذلك بكلمة واحدة ففي العصور الوسيطة كان المعلم يسعى ليجعل من تلامذته علماء في المنطق والجدل، وفيما بعد مرحلة النهضة كان اليسوعيون واداريو الكليات الجامعية يهدفون إلى اعداد تلامذتهم وفقاً لفنون النزعة الانسانية. أما اليوم فإنه لا يوجد لدينا تعبير مناسب من أجل تحديد الهدف الذي تسعى إليه مدارسنا الثانوية، لأننا لا نرى ذلك الهدف إلا على ظلال ما يجب أن يكون. ولا يجب الاعتقاد لنا باننا نجد حلاً للمسألة بالقول إن واجبنا هو، وبكل بساطة، أن نجعل من تلامذتنا أناساً . والجل هنا لا يتعدى شفويته، إذ يجب علينا أن نحدد بدقة الافكار التي يجب أن نكونها عن الانسان الاوروبي ولاسيما الانسان الفرنسي في القرن العشرين. إذ يوجد لكل شعب، وفي كل مرحلة تاريخية من تاريخه صورة محددة عن الانسان النموذج. فهناك صورة للإنسان خاصة بالعصر الوسيط، وأخرى بعصر النهضة. والسؤال هنا هو: ما صورة الانسان النموذج التي يجب أن تكون في عصرنا نحن؟ وهذا السؤال يتميز بالعمومية إذ لا توجد دولة كبرى اوروبية بعيدة عن طرح مثل هذه التساؤل وبخاصة

الصفحة 154

في الأوقات المتشابهة. ويدرك المربون ورجال السياسة اليوم، وفي كل مكان، إن التغيرات الشاملة للمجتمعات المعاصرة تتطلب وجود تحولات عميقة أيضاً في الجانب الخاص بالبنية المدرسية. والسؤال هنا، لماذا تكون هذه الازمة على هذا النحو من الشدة في مجال التعليم الثانوي بخاصة؟ وذلك تساؤل سنعمل على معالجته في يوم ما، أما في الوقت الحالي فإنني سأقتصر على تحليل الظاهرة التي لا تظهر بشكل صريح.

    وفي هذا الخصوص ومن أجل الخروج من اطار هذه العبثية واللايقينية فإنه لا يجب علينا أن ننطلق من فعالية القرارات والتنظيمات لوحدها. ومهما تكن سلطة القرار، واللوائح الناظمة للعمل، فإن هذه القرارات واللوائح، ليست في نهاية الأمر، سوى كلمات لا يمكن لها ابداً أن : ، تصبح واقعاً حياً، إلا من خلال العمل الذي يقوم به هؤلاء المكلفين بتطبيقها وتنفيذها. وإذا كان يتوجب عليكم أنتم القيام بالمهمة وتطبيق هذه اللوائح، فإنكم لا تستطيعون قبولها، إلا على اكراه من انفسكم. وإذا حاولتم تنفيذ هذه القرارات دون حماس منكم، فإنها ستظل كلمات لا حياة فيها، ولن تؤدي ما هو مطلوب منها. إذ يمكن لهذه القوانين، وفقاً للطريقة التي تدركونها أن تؤدي إلى انتاج اثار مختلفة كلياً عما هو مقدر لها، أو مخالفة تماماً لما أ لما هو مطلوب منها. لأن هذه اللوائح ليست سوى مشاريع مرهونة إلى حد كبير، وبشكل دائم، بإرادتكم ورأيكم. وكم هو هام هنا بالنتيجة أن تكونوا في مستوى القدرة على بناء رأي واضح! وعندما لا تكون هناك امكانية لاتخاذ القرار في داخل النفس، فإنه لا يمكن لأي قرار اداري أن يحقق ذلك. فالنموذج التربوي، يجب أن يُدرك، لا أن يُوصف، وأن يكون مرغوباً من قبل جميع هؤلاء الذي يعملون على

الصفحة 155

تنفيذه. وبكلمة واحدة يجب أن يكون الاصلاح، واعادة التنظيم المطلوب مهمة الفريق المدعو نفسه إلى اعادة البناء واعادة التنظيم. ويجب أيضاً أن نزود ذلك الفريق بالوسائل الممكنة والضرورية كافة التي تمكنه من أن يدرك ذاته بذاته وأن يدرك الاسباب التي تدفعه إلى التغيير والصورة التي يجب أن يكون عليها هذا التغيير.

      ومن هنا يتبين بوضوح أنه لا يكفي، من أجل الوصول إلى مثل هذه النتيجة، توجيه معلمي المستقبل نحو ممارسة مهنتهم فحسب، بل يجب اثارة طاقاتهم وجهودهم نحو التفكير بالدرجة الأولى. وإنه يجب عليهم الاخذ بمعطيات ذلك التفكير على مدى حياتهم المهنية اللاحقة، وأن يبدأ العمل بذلك في اطار الجامعة، وذلك لأنه هنا فقط يمكن للمعلمين أن يجدوا العناصر الاساسية للمعرفة والتي من غيرها يصبح تفكيرهم حول مهنتهم ضرباً من البناء الايديولوجي، ونوعاً من الاحلام التي لا طائل منها. 

    إن تحقيق هذه الشروط يمكننا من ايقاظ الحياة الواهنة لتعليمنا الثانوي وذلك دون اجراءات شكلية. إذ انه يستحيل تجاوز هذه المسألة على أثر هذه الفوضى الفكرية، التي تضيع فيها الصلة الواضحة بين ماضي يحتضر ومستقبل لم يولد بعد. وذلك يمثل واقعاً لا يمكن للتعليم الثانوي فيه أن يجد حيويته وخصوبته من أجل تشكل جديد.

     والملاحظة في هذا الخصوص تنطلق من هامش واسع للحرية لأنها لا تنطوي على أية جوانب نقدية لشخص ما ؛ وبالتالي فإن ما يلاحظ لا يتعدى أن يكون نتاجاً لأسباب غير شخصية. إن العقيدة التي انطلق منها الحماس القديم لإحياء الآداب الكلاسيكية أصبحت تعاني من الاختناق

الصفحة 156

الكامل. وليس لنا أن ننسى هنا امجاد النزعة الانسانية التي سجلت في المرحلة الماضية، أو الخدمات الجليلة التي قدمتها وواصلت تقديمها. ومع ذلك فإنه لمن الصعب أن نستخلص بأن جانباً من ذلك المذهب قد استمر في الوجود بمفرده. هذا من جانب؛ ومن جانب آخر فإنه لا توجد أية عقيدة استطاعت أن تحتل مكان هذه التي اندثرت في طيات الزمن. وبالنتيجة، فإن المعلم يتساءل دائماً وبقلق حول اتجاه وجدوى الجهود التي يبذلها، وهو لا يستطيع أن يدرك كيف تترابط وظيفته وتتواصل مع الوظائف الاساسية للمجتمع. وذلك يشكل منطلق شك متعاظم وخيبة أمل ومعاناة اخلاقية حقيقية تظهر إلى الوجود. وبعباره واحدة، إن ذلك لا يمكن له أن يمر دون مجازفة فالهيئة التعليمية التي لا تحمل عقيدة تربوية، هي هيئة من غير روح. إن واجبكم الأول، ومصلحتكم الاساسية، تكمن في اعادة الروح للهيئة التي تجمعكم، وأنتم وحدكم قادرون على القيام بذلك. ومن أجل اعدادكم لأداء هذه المهمة فإنه هذه المحاضرات التي تلقى إليكم خلال بعض الشهور غير كافية بالتأكيد، لأن ذلك يقتضي منكم العمل على مدى حياتكم. ولكن هل يجب أن تكون البداية بإيقاظ ارادتكم نحو العمل، وأن نضع بين ايديكم الوسائل الضرورية من أجل أن تؤدوا ما عليكم. إن ذلك يمثل موضوع التعليم الذي ابدأه معكم اليوم.

      انكم تعرفون الآن الهدف الذي ارغب في متابعته معكم، وأنني ارغب، في البداية، أن اطرح عليكم مسألة التعليم الثانوي في سياقه العام من أجل أن تكونوا رأياً مشتركاً حول ما يجب أن تكون عليه هذه الثقافة، أولاً ومن ثم، من أجل بناء احساس مشترك يسهل تعاونكم المستقبلي ثانيا. والان إذا كان قد تبين لنا الهدف علينا أن نبحث عن المنهج المناسب

الصفحة 157

لتحقيقه.

     يتكون النظام المدرسي، مهما يكن شأنه، من نوعين من العناصر . إذ يوجد نسق من التنظيمات المحددة والثابتة والمناهج القائمة، وبكلمة واحدة مؤسسات، حيث توجد مؤسسات تربوية كما توجد مؤسسات حقوقية ودينية، وسياسية هذا من جهة ومن جهة أخرى، وفي الوقت نفسه، توجد أفكار في داخل الالة التربوية القائمة، وهي الافكار التي تنظم العمل وتدفع الآلة التربوية نحو التغير والتبدل، وباستثناء بعض الحالات التي يبلغ فيها الثبات ذروته يوجد هناك وبشكل دائم، حتى في اطار الانظمة الأكثر تصلباً وتحديداً، حركة نحو شيء آخر يغاير ما هو قائم، وهي نزعة نحو نموذج مثالي أكثر أو أقل وضوحاً. إن النظر إلى التعليم الثانوي من الخارج يجعله يبدو كنسق من المؤسسات التي تتميز ببنية مادية واخلاقية بينة ومحددة تحمل بين جوانبها طموحات دائمة البحث عن نفسها.

     وفي اطار هذه الحياة المحددة والمتماسكة توجد حياة أخرى بالغة الحيوية والخصب لا يمكن لنا أهمالها، وذلك من أجل أن لا تكون أكثر قدرة على التخفي والمواربة. ففي أحشاء الماضي، الذي يسجل استمراره، يوجد الجديد الذي يتكون وينتظر لحظة ولادته. والسؤال هنا هو: ما الموقف الذي يجب علينا أن نأخذه ازاء هذين الجانبين للحقيقة المدرسية؟ في البداية لا بد من الاشارة إلى أن المربين لا يولون الأمور العادية اهتمامهم. وهم يعطون قليلاً من الاهتمام للترتيبات المختلفة التي أورثنا اياها الماضي: فالمسألة كما يطرحونها، تعفيهم من اعطائها أية أهمية. وهذا ما يحدث بالنسبة لأصحاب العقول الثورية ، وعلى الأقل ،

الصفحة 158 

بالنسبة لأكثرهم . فالحقيقة القائمة لا تحمل قيمة كبيرة بالنسبة لأكثرهم ؛ وهم دائماً لا يحتملون وجودها إلا بقدر كبير من الصبر ، وهم د يحلمون بتجاوزها من أجل بناء نظام مدرسي جديد ، حيث يتحقق لهم بسهولة النموذج الذي يطمحون إلى تحقيقه . وانطلاقاً من ذلك لنتساءل ، كيف ينظر هؤلاء إلى الممارسات والمناهج والمؤسسات التي سجلت وجودها قبلهم ؟ إنهم ينظرون إلى المستقبل وفي جوانب محددة منه ، وهم يعتقدون أنهم يستطيعون ايجاده من العدم . ولكننا ندرك اليوم كل ما يوجد من أوهام ومن مخاطر في داخل هذا الحماس المعادي للتقاليد . إذ أنه ليس من الممكن وليس من المرغوب فيه أن يتم تذويب هذه المؤسسات في لحظة واحدة ، وكأنها لم تكن ؛ وأنتم ستعيشون في اطار هذه المؤسسات في لحظة واحدة ، وكأنها لم تكن ؛ وأنتم ستعيشون في اطار هذه المؤسسات وستعملون على احيائها . ولكن من أجل ذلك يجب عليكم أن تعرفوها بشكل جيد ، وتجب معرفتها أيضاً من أجل تغييرها ، وذلك لأن الخلق من العدم أمر غير ممكن في اطار الأنظمة الاجتماعية ، كما هو الحال في الأنظمة البيولوجية . فالمستقبل لا ينشأ من العدم ولا يرتجل، ولا يمكن بناؤه إلا بوساطة المواد التي توجد في الماضي. وبالتالي فإن ابداعاتنا الأكثر خصوبة تتحقق بالتأكيد ، وفي غالب الأحوال ، عبر عملية يتم فيها صب الأفكار الجديدة في القوالب القديمة . ويكفي هنا احداث تغيرات جزئية من أجل تحقيق التوافق والانسجام مع الأفكار الجديدة . والشيء نفسه يمكن أن ينسحب على الوسيلة التي تستخدم من أجل تحقيق النموذج التربوي الجديد . إذ يجب أن ننطلق من بنية المؤسسة القائمة واجراء بعض التغيرات الثانوية إذا اقتضى الأمر ذلك ، وذلك من

الصفحة 159

اجل تحقيق التلاحم بين المؤسسة والغايات الجديدة التي تنشدها . فالإصلاحات تبدو سهلة إذا لم تكن هناك ضرورة تقتضي احداث انقلاب في بنية المناهج والدروس . إذ يكفي أن نجيد استغلال وتوظيف الاجراءات القائمة والعمل على اكسابها روحاً جديدة .. ولكن من أجل الاستفادة أيضاً من المؤسسات التربوية القائمة والعمل على اكسابها روحاً جديدة . ولكن من أجل الاستفادة أيضاً من المؤسسات التربوية القائمة ، يجب علينا أيضاً أن لا نجهل مقومات وجودها . إذ أنه لا يمكن التأثير بفعالية على الأشياء إلا وفقاً للدرجة التي يمكن لنا فيها ادراك طبيعة هذه الأشياء . وإنه لا يمكن توجيه تطور نظام مدرسي ما إلا من خلال البدء بمعرفته على نحو جديد ، وادراك مقومات وجوده ومعرفة المفاهيم التي توجد في أصله ، والحاجات التي يستجيب لها ، والأسباب التي تكمن وراء ذلك كله وتحركه . وفي هذا السياق فإن الدراسة العلمية والموضوعية تبدو لنا ضرورية . وخاصة إذا استطاعت أن تقدم نتائج عملية سهلة على الادراك . ومثل هذه الدراسة يجب أن لا تكون بالغة التعقيد . لقد علمتنا الدراسة الطويلة في المجال التربوي أن تألف أمور الحياة المدرسية ، وهي أمور كما تبدو لنا في منتهى البساطة ، وذات طبيعة لا تطرح اشكاليات تقتضي حلولاً واجابات عبر مجموعة من الأبحاث . ومنذ سنوات عدة عرفنا أن التعليم الثانوي يمثل حلقة وصل وسيطة بين التعليم الابتدائي والجامعي . ولقد عرفنا أيضاً في اطار ما يجري حولنا في المدارس الثانوية ، إن المدرسة تتكون من صفوف ، وحملنا على الاعتقاد بأن كل التدابير تجري من تلقاء ذاتها ، وأن لا حاجة لأن تكون موضوعاً للدراسة المطولة من أجل معرفة من أين تنطلق هذه التدابير ، وما الضرورات التي

الصفحة 160

تستجيب لها . ولكن بدلاً من النظر إلى الأشياء من حيث هي في الحاضر ، نظرنا إليها في سياق الماضي ، وإذا بالأوهام تتلاشى أمام أعيننا . فالمستويات الثلاثة للتعليم لم توجد في اطار التاريخ ، أو حتى في عهدنا نحن. لقد ظهرت هذه البنية الهرمية في الأمس القريب ، حيث لم يكن هناك في الماضي تمايز بين التعليم الثانوي والتعليم الجامعي .

     توجد اليوم نزعة من أجل هدم الحدود الفاصلة بين التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي . فالمدارس الثانوية ( College ) بأنظمة الصفوف ، لم تكن موجودة ما قبل القرن السادس عشر . وقد قدر لذلك النظام في مرحلة الثورة أن يشهد نهايته. ولكن إلى أي حد يمكن لهذه المؤسسات أن تتوافق مع الضرورة الدائمة ؛ هذه المؤسسات تنطلق ، ليس من حاجات عامة للإنسان في مرحلة حضارية محددة ، بل تنطلق من أسباب محددة ، ومن حالات اجتماعية بالغة الخصوصية . وبالتالي فإن التحليل التاريخي وحده يملك القدرة على كشف ذلك . وانطلاقاً من ذلك فإنه وبقدر ما نستطيع الكشف عن هذه الحالات يمكننا أن ندرك حقاً بنية ذلك التعليم. وبالتالي فإن إدراك هذه الماهية لا يعني ببساطة ادراك الشكل الخارجي الصنعي ، بل إن ذلك يكمن في ادراك الدلالة والمغزى ، وإدراك المكان الذي يحتله والدور الذي يلعبه ذلك التعليم في اطار الحياة القومية . 

    والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يكفي قدر من النباهة والثقافة لتقديم اجابات واضحة عن أسئلة كهذه : ما التعليم الثانوي ، وما المدرسة الثانوية ، وما الصف المدرسي ؟ إنه لمن السهل حقاً و تحليل ذهني أن تفصل بين هذه المفاهيم ونحددها على نحو شخصي . ولكن

الصفحة 161

ما الفائدة التي يقدمها هذا التصور الذاتي ؟ إن ما يجعلنا قادرين على الفصل بين هذه المفاهيم، يكمن في البنية الموضوعية للتعليم الثانوي ، وفي مصدر التيارات الفكرية ، ومن خلال الحاجات الاجتماعية الحيوية للوجود. وبالتالي فإنه من أجل معرفة هذه الأسس الموضوعية، لا يكفي أن ننظر في ذواتنا وأنفسنا . ولأن هذه العوامل قد نشأت وتركت آثارها في الماضي فإنه يجب علينا أن نبحث وننظر إليها من خلال التاريخ الذي نشأت فيه . وعلى خلاف ذلك ، وبدلاً من النظر إلى هذه المفاهيم على نحو ما ترتسم في سرائرنا ، يجب علينا أن ننظر إليها بعين الشك والريبة ؛ وذلك لأن ما ينتج عن تجربتنا نحن يحمل دلالة فردية ويمثل وظيفة لخصوصيتنا الشخصية . ويترتب على ذلك أن النتائج التي نصل إليها لا يمكن أن تكون إلا بطلاناً وزيفاً . وهنا يجب علينا أن نغض النظر عن مثل هذه النتائج . وذلك من شأنه أن يدفعنا إلى تبني الشك المنهجي ،، وأن تعالج العالم المدرسي بوصفه عالماً مجهولاً نعمل على استطلاعه واستقصاء جوانبه ، حيث يمكننا ذلك من تحقيق اكتشافات حقيقة جديدة . ومثل ذلك المنهج يطرح نفسه بالنسبة لجميع المسائل الأخرى ، حتى المسائل الأكثر خصوصية وتفرداً ، والتي تطرحها بنية النظام المدرسي . 

      والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: من أين جاء نظام المنافسة المدرسية؟ 

     ( ومن السهل أن نعزي كل للمسؤولية إلى اليسوعيين ) . ومن أين جاءت مبادئ التمارين المدرسية؟ وما مصدر الأنظمة التأديبية؟ (وهي الأنظمة التي تتباين مع تباين المراحل الزمنية ) .

      وهناك كثير من الأسئلة الأخرى التي تمر بجانبها دون أن يخالجنا

الصفحة 162

شك في معرفتنا لها . وهي أسئلة تنغلق على نفسها في اطار الحاضر . وبالتالي فإن درجة تعقيدها لا تبدو للعيان إلا عندما تخضعها للدراسة فسياقها التاريخي .

     ويمكن لنا أن نلاحظ في هذا الخصوص ، وعلى سبيل المثال ،المكان الذي تبوأه واحتفظ به منهج تفسير وتأويل النصوص المقدسة القديمة ، أو الحديثة في داخل صفوفنا المدرسية ، حيث شكل ذلك المنهج أحد الخصائص الجوهرية لذهنيتنا وحضارتنا . ويمكن لنا أن نلاحظ ذلك ، عندما لنا أن ندرس التعليم الذي كان سائداً في العصور الوسطى يتسنى.

      لا يكفي أن ندرك ونفهم الآلة المدرسية كما هي قائمة في الوقت الحاضر . وذلك لأن المدرسة عرضة للتغير الدائم الذي لا ينقطع. وهنا يجب أن نعالج اتجاهات التغير التي تعتريها ، وتحديد ما يجب أن تكون عليه هذه الاتجاهات في المستقبل، وذلك بناء على معرفة الأسباب الداعية لذلك.

     والسؤال هنا هو : هل يمكن للمنهج التاريخي المقارن أن يكون ضرورياً ؟ وذلك من أجل ايجاد الحلول المناسبة للجانب الثاني من المسألة. إن ذلك يبدو غير ضروري للوهلة الأولى . ألا . يسعى كل اصلاح تربوي في نهاية الأمر إلى اعداد التلاميذ من أجل أن يكونوا رجالاً لعصرهم ؟ فماذا إذن يمكن للتاريخ أن يعلمنا لمعرفة الصورة التي يجب أن يكون عليها الانسان في عصرنا ؟ ونحن ازاء ذلك لا نستطيع أن نتبنى صورة الإنسان كما عرفتها العصور الوسيطة ، أو عصور النهضة أو كما عرفت في القرنين السابع والثامن عشر .

الصفحة 163

     إذ يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الصورة التي ينبغي أن يكون عليها انسان اليوم ، وليس انسان الأمس ، وذلك في اطار تعليمنا المعاصر وانطلاقاً من ذواتنا نحن يجب أن ندرك صورة ذلك الانسان ، ويجب أن : نرسم ملامحه المستقبلية . ولكن في البداية يجب أن نعرف أكثر مما يبدو لنا سهلاً على المعرفة ، ولا سيما متطلبات العصر الراهن . إن الحاجات التي يعلن عنها مجتمع كبير كمجتمعنا هي حاجات متعددة ومعقدة بلا حدود أو نهائية وبالتالي فإن نظرة سريعة نلقيها على أ أنفسنا ومن حولنا، ومهما تكن هذه النظرة متأنية وحذرة ، لن تكون كافية لاكتشاف هذه الحاجات في اطار تكاملها . ونحن عندما نكون في وسط محدد ، حيث يحتل كل واحد منا مكانه المجدد ، فإننا لا نستطيع أن ندرك سوى ما يتصل بنا عن قرب، وذلك هو أفضل ما يمكن لنا أن نقوم به على نجو فطري أو على نجو تربوي . أما بالنسبة للآخرين ، الذين نراهم عن بعد وبشكل مشوش ، فإننا لا نملك بالنسبة لهم سوى مشاعر ضعيفة ومحدودة ، وبالتالي فإننا لا نعيرهم أهمية تذكر.

    هل نحن إذن رجال عمل نعيش في وسط عملي ؟ إذا كنا كذلك فإننا نسعى لإعداد أطفالنا على نحو عملي . وإذا كنا مولعين بالتفكير والتأمل ، فإننا سنعمل على تمجيد خيرات العلم والمعرفة . وعندما نقوم بتطبيق ذلك المنهج فإننا نصل بالضرورة الحتمية إلى تكوين مفاهيم أحادية وقطعية يسعى أحدها إلى نفي الآخر بشكل متواتر . وإذا كنا نريد الهروب من إسار هذه القطيعة ، وإذا أردنا حقاً أن نكون مفاهيم أكثر تكاملاً حول العصر الذي نعيش فيه ، فإنّه يجب علينا أن نخرج من دائرة ذواتنا ، ويجب أن يكون نظرنا بعيد المدى وأن نباشر جملة من الأبحاث

الصفحة 164

والتقصيات بهدف استجلاء الطموحات المتنوعة التي يعلنها المجتمع . ولحسن الحظ فإن هذه الطموحات التي تتبدى ، ومهما يكن أمر كثافتها ، تترجم خارجياً تحت شكل يجعلها قابلة للملاحظة . وهي تأخذ شكلاً محدداً في اطار المشاريع الاصلاحية ، وفي اطار مخططات اعادة البناء التي نطمح إلى تحقيقها . وهنا يجب أن نسعى من أجل بلوغها ، إلى توظيف الخدمات الكبيرة التي يمكن أن توظفها والتي توجد في العقائد التربوية التي شيد صروحها علماء التربية : وهي عقائد على قدر كبير من الفائدة ، ليس لأنها نظريات فحسب، بل بوصفها ظواهر تاريخية . 

     فكل مدرسة تربوية تعبر عن أحد التيارات الفكرية التربوية السائدة ، وبالتالي فإن معرفة هذه التيارات والكشف عنها تحمل لنا في طياتها قدر كبير من الأهمية والفائدة . وانطلاقاً من ذلك ، فإن اجراء دراسة واسعة يحمل أهمية خاصة من أجل المقارنة بين هذه التيارات وتصنيفها وتفسيرها . ولكن لا يكفي لنا أيضاً أن نعرف هذه التيارات الفكرية التربوية فحسب ، إذ يجب أن نملك امكانية تقييمها ، وأن نقرر ما إذا كان يجب علينا أن نسير على هديها أو أن نقاومها . وإذا كان من المناسب لهذه التيارات أن تأخذ مكانها في اطار الواقع الاجتماعي . ، يتأتى علينا أن ندرك الشكل الذي يمكن لها أن تأخذ. . ومن الواضح هنا أننا لا نستطيع أن نقدر قيمة هذه الاتجاهات من خلال معرفتنا لها في لغة العصر الأكثر حداثة . ونحن لا نستطيع أن نحكم عليها إلا من خلال العلاقة التي تربطها بالحاجات الحقيقية والأهداف التي تحركها ، ومن خلال الأسباب التي أدت إلى ايقاظ هذه الحاجات . ويجب علينا بالتالي إما أن نترك لهذه التيارات الحبل على الغارب أو أن نقاومها ، على ضوء الأسباب الموضوعية

الصفحة 165

الكامنة ، وعلى ضوء معرفتنا بعوامل التطور الأخلاقي لمجتمعنا . ومثل هذه الأسباب والعوامل يجب أن تشكل موضوع عملنا وتقصياتنا . 

     ولكن كيف نحقق ذلك ؟ هل يكون ذلك من خلال اعادة بناء التاريخ ، ومن خلال العودة إلى مصادرها التاريخية وأصولها الأولية، أو انطلاقاً من عملية البحث عن الطريقة التي تطورت فيها بالعلاقة مع عوامل وجودها ؟ إذا كان لا بد لنا من أجل أن نستبق ما يمكن للحاضر أن يكونه في المستقبل ، وأن ندرك هذا الحاضر ، يتوجب علينا أن نخرج من الحاضر وأن نتجه بأنظارنا نحو الماضي .

     وسنرى ، على سبيل المثال ، كيف يجب علينا من أجل تحليل النزعة التي تحملنا اليوم على بناء نموذج مدرسي يختلف عن النموذج الكلاسيكي، ويتعالى فوق التناقضات الحديثة ، أن نعود إلى القرن الثامن حتى السابع عشر . إن ما يمكن ملاحظته في هذا الخصوص ، أن هذا التيار الفكري يسجل استمراره منذ قرنين من الزمن ، وأنه منذ اللحظة التي ولد فيها ، كان يأخذ قوة متعاظمة تدريجياً مع الزمن ، وهو إذ ذلك فإنه يبرهن بشكل جيد عن ضرورة حيوية تعلو على كل التناقضات الجدلية في العالم. ومن جانب آخر، ومن أجل التنبؤ بالمستقبل في أقل حد من حدود المجازفة، لا يكفي أن نأخذ بمعطيات الاتجاهات الاصلاحية ، أو أن ندركها على نحو مهني ؛ لأنه على الرغم من الأوهام التي ينطلق منها المصلحون ، فإن النموذج المثالي الجديد لا يمكن أن يبنى كلياً من أحجار جديدة ، إذ يوجد هنا بالتأكيد جانب من نموذج الأمس ، والذي يعنينا بدرجة كبيرة ، أن ندركه جيداً . إذ لا يمكن لذهنيتنا أن تتغير كلياً بين يوم وآخر، ويجب علينا أن نعرف هذه الذهنية

الصفحة 166

التي ما زالت تسهم في تحقيق تواصلها واستمرارها . ومن الضرورة بمكان أن نأخذ باعتبارنا أن النموذج الجديد غالباً ما يكون في وضعية تناقضية طبيعية مع النموذج القديم، حيث يسعى إلى ازاحته واحتلال مكانه ، ومهما يكن أمر النموذج الجديد فإنه لا يمثل ، في الواقع ، سوى مرحلة لاحقة وتطويراً للنموذج القديم، الذي لا يفقد بشكل كامل ، فالأفكار الجديدة التي تملك القوة الحيوية والشباب لا تستطيع أن تحطم التصورات القديمة بسهولة . 

     ونحن نستطيع أن نرى كيف تمت عملية الهدم في مرحلة النهضة ، وهي المرحلة التي تكوّن فيها التعليم الانسانوي : إذ لم يبق شيء تقريباً من التعليم الذي كان سائداً في العهد الوسيط . ومن المحتمل أن يكون ذلك الهدم الشامل قد أدى إلى عيوب كثيرة في اطار تربيتنا القومية . ومن المهم هنا أن نأخذ كامل الاحتياطات الممكنة كي لا نقع في الخطأ نفسه . وإذا كان يتوجب علينا في الغد أن نغلق أبواب النزعة الانسانية فإنه يجب أن ندرك جيداً ما الأمور التي يجب علينا أن نحتفظ بها. وبعبارة أخرى ، لا يمكننا أن ندرك بطريقة مؤكدة الطريق الذي بقي علينا أن نقطعه إلا إذا أدركنا اسقاطاته التي تمتد وراءنا .

     أنتم الآن تدركون جيداً دلالة العنوان الذي أعطيته لهذه المحاضرة ، وإذا كنت أقترح على نفسي ، أن أدرُس وإياكم الطريقة التي تشكل وتطوّر فيها تعليمنا الثانوي فإن ذلك لا يعني بأنني سأنصرف كلياً للمعرفة الخالصة ، ولكن ذلك سيكون من أجل الوصول إلى نتائج عملية : إن المنهج الذي أتبناه سيكون منهجاً علمياً ، وذلك على نحو

الصفحة 167

قطعي . وهو المنهج نفسه الذي يوظف في مجال العلوم التاريخية والاجتماعية . وإذا كنت قد تحدثت منذ قليل عن العقائد التربوية فإنه ليس لدي أي داع للدعوة إلى أي منها ، وسأكون دائماً رجل علم ومعرفة . ولكنني أعتقد أن علم الظواهر الإنسانية يمكن له أن يساهم في التوجيه الضروري للسلوك الإنساني ، وذلك كما تقول الحكمة القديمة يجب أن نعرف جيداً من أجل أن نسلك جيداً . ولكننا ندرك اليوم أنه من أجل الوصول إلى المعرفة الجيدة، لا يكفي أن نوجه اهتمامنا نحو الجانب السطحي أو الظاهري من وعينا ، وذلك لأن المشاعر والأفكار التي يمكن لها أن تزدهر ليست هي هذه التي لها فعالية وتأثير أكبر من سلوكنا . 

      ما يجب علينا أن ندركه ، جيداً ، يتمثل في العادات والنزعات تكونت تدريجياً في مجرى حياتنا الماضية ، أو هذه التي أخذناها : طريق الوراثة ونحن لا نستطيع اكتشافها ما لم ننظر بعمق إلى تاريخنا الشخصي ، وتاريخ أسرنا ، والشيء نفسه أمر ضروري من أجل اكتساب القدرة على القيام بوظيفتنا كما يجب في اطار النظام المدرسي ، الذي يجب علينا أن نعرفه بشكل جيد ، مهما يكن أمره، وذلك ليس من الخارج لأن التاريخ فحسب بل من الداخل أيضاً ومن خلال التاريخ . وذلك وحده يمكننا من اختراق الغلاف الشكلي الذي يغلف الحاضر، وهو وحده الذي يمكن له أن يحدد العناصر الأساسية التي يتكون منها الحاضر ، والشروط التي تؤثر احداها في الأخرى . وبعبارة واحدة يمكنه أن يضعنا في صورة حركة العلاقة العميقة القائمة بين الأسباب والنتائج الحاصلة.

    أيها السادة : ذلك هو التعليم الذي تتلقونه هنا ، وهو التعليم

الصفحة 168

التربوية بالمعنى الخاص للكلمة . وهو تعليم يختلف ، وفقاً للمنهج الموظف ، وبشكل واضح ، عن الدلالة الطبيعية لهذه الكلمة . وذلك لأن أعمال التربويين لن تكون بالنسبة لنا نماذج نحاكيها ، أو مصادر نستوحيها ، ولكنها وثائق حول وجدان الزمن . وكم أتمنى لعلم التربية وعلم التربية الجديد، أن يحقق نجاحه في نهاية الأمر ، وأن يتخلص من الإحساس بالقصور الذي يعاني منه . وأتمنى لكم في نهاية الأمر أن تتخطوا الرأي المسبق، الذي استمر طويلاً ، وأن تدركوا الفائدة والجدة الخاصة بالمؤسسة التربوية ، وأن تمنحوني بالتالي العون الفعال ، الذي أطلبه منكم ، والذي من غيره لا أكون قد قمت بعمل جدير بالاهتمام والتقدير.


الهوامش :

  1. 1ـ ألقيت هذه المحاضرة التمهيدية في الجلسة الأولى ، حيث قام كل من السادة : العميد ليارد Liard ولافيس Lavise ولانكلو Langios مدير المتحف التربوي بوضع الطلاب في صورة الاجراءات المتخذة من أجل تنظيم اعدادهم المهني . وقد ظهرت كلمة السيد لانكلو في مجلة Revue bleue في 25نوفمبر1905.
  2.  2- خلال السنة الثانية من التحضير لنيل أهلية التعليم ، خضع الطلاب المرشحين إلى دورة تدريبية للمدارس الثانوية في باريس –

الصفحة 169

قائمة المحتويات:

(انظر الصفحة 171 ضمن النسخة بدف أعلاه)