البنائية من منظور إبستمولوجى وتربوي



المؤلف: حسن حسين زيتون كمال عبد الحميد زيتون

التصنيف: نظريات التعلم

عرض PDF

الوصف:

حسن حسين زيتون وكمال عبد الحميد زيتون، البنائية من منظور إبستمولوجى وتربوي، الطبعة الأولى 1992.

مقدمة



يمثل مؤلفنا هذا محاولة مبكرة لإزالة الستار حول البنائية، إذ لم يسبق تناول ما أثير من أفكار حول البنائية بصورة مجملة سواء في الكتبات العربية أم الأجنبية. ولذلك تطلب الأمر تجميع أحدث ما نشر من مقالات بالمجلات العلمية المتخصصة حول البنائية. وقد ساهمت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية بالمملكة العربية السعودية يجهد طيب في تيسير ذلك العمل.

وقد اشتمل مؤلفنا عن البنائية على أربعة أجزاء جاء أولها ليبرز الملامح الإبستمولوجية للبنائية، وذلك من خلال توضيح مفهوم المعرفة، ومجال نظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا، ثم تحليل الجذور الإبستمولوجية للبنائية، والإفتراضات التي تقوم عليها، وأخيراً مقارنة البنائية بالمذهب الإبستمولوجى المضاد لها، وهو المذهب الموضوعي لإبراز مدى إختلاف البنائية عن غيرها من المذاهب الإبستمولوجية الأخرى فيما يتصل بقضايا المعرفة.

كما جاء الجزء الثاني ليكشف عن معالم البنائية من زاوية كونها نظرية في التعلم المعرفي، وذلك بتحديدنا لمفهوم التعلم لدى منظرى البنائية، وبيان كيف أن هذا المفهوم وما يحويه من مضامين حول إكتساب المعرفة يعد بياجي النهج، بالإضافة إلى مناقشتنا للإفتراضات التي تعكس ملامح البنائية كنظرية في التعلم المعرفي، كما أجرينا مقارنة بين البنائية ونظرية التعلم التي تقف منها على طرف نقيض وهي السلوكية.

وفي الجزء الثالث تناولنا ما يمكن أن يثار من تساؤلات حول البنائية سواء فيما يتصل بما قدمته من فكر جديد حول إكتساب المعرفة، أو بإعتبارها نظرية صادقة في إكتساب المعرفة، وأخيراً ما يمكن أن تمثله من فكر عملى من المنظور التربوي. ولبيان معالم ما أسميناه النموذج البنائى فى التعليم المعرفى فقد قارناه بالنموذج المضاد له وهو النموذج الموضوعى فى التعليم، وذلك من خلال تحليل رؤية كليهما لكل من الأهداف التعليمية ومحتوى التعلم وإستراتيجيات التدريس ودور المتعلم وأدوار المعلم والتقويم وأخيراً تناولنا أبرز المشكلات التى تواجه تطبيق النموذج البنائي في التعليم المعرفي.

وفي الجزء الرابع والأخير من مؤلفنا هذا تناولنا إستراتيجيات التدريس التي يمكن أن نتبناها داخل فصولنا المدرسية تطبيقاً للنموذج البناني في التعليم المعرفي وقد تمثلت في ثلاث إستراتيجيات أولها: إستراتيجية التعلم المتمركز حول المشكلة. 

وثانيها: إستراتيجية دورة التعلم، وثالثها: إستراتيجية التدريس بخريطة الشكل (V).

 وإننا إذ نقدم هذا الكتاب إلى القارىء العزيز لنرجو أن يضيف شيئاً مفيداً و معنى جديداً لكل مشتغل في ميادين الفلسفة والتربية وعلم النفس. ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون فيه نفع للناس، ونعوذ به سبحانه من علم لا ينفع" إنه سميع مجيب .




مدخل: تساؤلات حول ماهية البنائية (محاولة لتحديد المعالم)

ما البنائية؟

      بداية نقول إن البحث عن معنى أو تعريف محدد للبنائية Constructivism يعد في حد ذاته إشكالية عويصة ... ففيما نعلم أن المعاجم الفلسفية والنفسية والتربوية قد خلت من إشارة لمادة البنائية ... بإستثناء المعجم الدولى للتربية (1) الذي عرفها بما يفيد

أنها  :رؤية في نظرية التعلم ونمو الطفل قوامها أن الطفل يكون نشطاً في بناء (2)

أنماط التفكير لديه نتيجة تفاعل قدراته الفطرية مع الخبرة وبتعبير فلسفي فإن البنائية تمثل تفاعلاً أو لقاءا بين كل من التجريبية (3) Empiricism والجبلية (4) Nativism".

    إن تعريفا مثل هذا قد لا يوضح إلا القليل من معالم البنائية، وربما قد يعبر فقط عن منظور معين لها)5) .. فإلى أين نتجه إذن في تحديدنا لتعريف البنائية .

الهوامش :

(1) International Dictionary of Education. (1977). New York and London: Kogan Page.

(2) تلفت نظر القارئ الكريم إلى ضرورة ملاحظة لفظة "بناء" الواردة في التعريف وما قد توحى به من معان حول مفهوم "البنائية".

(3) التجريبية (المذهب التجريبي): مذهب فلسفى ينسب المعرفة للخبرات الحسية.

 (4) الجبلية : مذهب فلسفى يرى أن الأفكار موجودة في العقل من قبل، وأنها تبزغ خلال عملية النضج.

(5) يعبر هذا التعريف - في رأينا - عن البنائية في ضوء أفكار جان بياجيه Jean Piaget مؤسس البنائية في العصر الحديث كما سيرد ذكره فيما بعد.

الصفحة 1

على نحو دقيق؟ إن الإجابة المنطقية عن مثل هذا السؤال تقتضى القول بالتوجه صوب منظرى البنائية ... أى البنانيين Constructivists أنفسهم، وذلك على أمل أن يكون عند جهينة الخبر اليقين" .... ولكننا هنا قد نصاب مرة أخرى بحالة من الدهشة

والإستغراب إذ لم يقدم منظرو البنائية المعاصرون (6) - فيما نعلم - تعريفاً محدداً لها . فلقد أسهبوا في الحديث عنها ، ولكنهم تجنبوا حصرها فى كلمات موجزة ... وحسناً فعلوا . فالأمر إذن يحتاج إلى تفسير ... وهذا ما سنحاول تناوله وفك شفراته.

 إن ثمة إحتمالات ثلاثة نطرحها فى محاولة تفسيرنا لعدم تناول منظرى البنائية تعريفاً لها، أولها : أن لفظة البنائية تعد جديدة نسبياً فى الأدبيات الفلسفية والنفسية والتربوية (7) وعليه فهي كغيرها من مصطلحات العلوم الإنسانية - قد تحتاج لسنوات

عدة قبل أن تستقر على معنى محدد لها ... وربما لن نستقر عليه...

      ثانيها : أن منظرى البنائية ليسوا بفريق واحد ولكنهم عدة فرق، ومن ثم فليس هناك إجماع بينهم على تعريف محدد لها . 

      ثالثها: أن منظرى البنائية قد قصدوا ألا يعرفوها )الشيء ما في نفس يعقوب) ... فربما أثروا أن يتركوا الأمر لكل منا ليكون معنى محدداً لها في ذهنه (8).

ما الحل إذن؟!

 الهوامش :

(6) من أبرز منظرى البنائية في عصرنا الحالي لون جلاسر سفلید Von Glassersfeld و نیلسون جودمان Nelson Goodman، وب. واتزلوك P. Watzlawick انظر مؤلفاتهم في قائمة المراجع

(7) يجدر التنويه إلى أن مولد لفظة البنائية غير معلوم لنا تحديداً .. غير أننا قد ترجح أنه قد نحتها جان بياجيه

(8) يتضح مغزى الإحتمال الثالث لدى القارىء عند إطلاعه لاحقاً على إفتراضات البنائية.

الصفحة 2

   الحل - في رأينا - قد يكمن فى صرف النظر عن البحث عن تعريف محدد للبنائية. ولكن ما البديل؟ البديل هو أن نسبر أغوار البنائية.. نسير في أعماق مدلولاتها بغية محاولة تحديد معالمها .

البحث عن الهوية ما معالم البنائية؟

 إن أول خطوة لتحديد معالم البنائية تتمثل في تحديد السياق الذي نبتت فيه والبيئة التي نمت في رحابها. وعليه فقد تتكشف لنا بعض معالمها الأولى وذلك ما سنتناوله في الجزء الأول من هذا المبحث .


الصفحة 3 



الجزء الأول: البنائية نظرية في المعرفة أو "الابستمولوجيا "



     قد يتطلب تفسير هذا العنوان إلقاء الضوء على كل من مفهوم المعرفة Knowledge ونظرية المعرفة وذلك قبل أن نكشف عن ملامح البنائية بإعتبارها إحدى نظریات المعرفة. وهذا ما سنحاول بيانه فيما يأتي.

أولاً: ما معنى المعرفة؟

      أن مفهوم المعرفة لم يستقر بعد على معنى محدد إذ في تصورنا أن عملية البحث عن معنى معياري ى (10) للمعرفة فى الأدبيات الفلسفية قد يشبه البحث عن إبرة لا وجود لها في كومة من القش ... وقد لا نكون متشائمين إذا قلنا إنه يشبه البحث عن خمسة حروف هى (م)، ع، ر، ف، (ة) متناثرة وبلا ترتيب ألقت بها رياح الزمن في كهف مظلم طوله نحو 2500كيلو متراً، وعند دخولنا الكهف وجدنا صدى لأصوات أشباح.

الهوامش :

(9) يشتق مصطلح الابستمولوجيا" من لفظلين إغريقيين هما Episteme وتعنى المعرفة، وLogos وتعنى نظرية أو علم ... وبناء عليه لمصطلح الابستمولوجيا قد يشير إلى نظرية المعرفة أو علم المعرفة. غير أنه وجب التنويه إلى أن هناك إختلاف حول اعتبار مصطلحى نظرية المعرفة والابستمولوجيا مترادفين من عدمه، راجع في ذلك مثلاً:

 روبير بلانشيه (1986) نظرية المعرفة العلمية (الابستمولوجيا) ترجمة حسن عبد الحميد.

 الكويت :مطبوعات جامعة الكويت، ص ص 9-8 

(10) نقصد بالمعنى المعياري الذي يكون محلاً للإتفاق بين المفكرين في مجال ما حول مصطلح معين.

الصفحة 5


يصرخ كل منها وجدتها ... وجدتها ... أى أنهم قد عثروا جميعهم على هذه الحروف

الخمسة وقاموا بترتيبها على النحو الصحيح.

  إن المغزى الذى قصدناه بالتشبيه سالف الذكر أن الحروف الخمسة إنما هي للفظة المعرفة، كما أن هذا الكهف المظلم إنما يمثل ذاك التراث وتلك الأدبيات الفلسفية التي عنيت بتناول المعرفة عبر فترة من الزمن تصل لنحو ٢٥٠٠ عام، وما هؤلاء الأشباح إلا الفلاسفة أو الابستمولوجيين من نوى المذاهب المختلفة أمثال أرسطو، وأفلاطون، وديكارت وكانط، وبرتراند رسل، وغيرهم). إذ لم يتفقوا على معنى محدد لكلمة المعرفة فكل منهم قد قدم تصوراً مغايراً بعض الشيء. غير أنه من المدهش حقاً أنهم قد اتفقوا نوعاً ما على أمر واحد يخص المعرفة وهو ما يمكن تسميته بعناصر المعرفة وهي العناصر الواجبة لحدوث المعرفة والتي تتمثل في:

 1- الذات العارفة Epistemic subject وهو الشخص الذي يسعى لاكتساب المعرفة.

 -2موضوع المعرفة Epistemic object وهو الموضوع الذي نسعى لإكتساب المعرفة عنه وقد يكون شيئاً أو حدثاً أو ظاهرة طبيعية أو إجتماعية (مثل الزلازل، وكسوف الشمس، وتنظيم الأسرة).

3- الصلة أو العلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة Epistemic relation. ولكنهم اختلفوا مرة أخرى بالنسبة لتصوراتهم حول حقيقة هذه العناصر وعلاقة بعضها بالآخر.

الصفحة6

 يتضح مما سلف أننا أمام مشكلة فلسفية مطروحة حول معنى المعرفة (11).

مشكلة كل العصور. وإذلك فقد أفرد الفلاسفة لها مبحثاً خاصاً، ذلك ما يعرف بمبحث نظرية المعرفة أو ما سعى فيما بعد بالابستمولوجيا (12).

مجال (أو) مبحث نظرية المعرفة أو الابستمولوجيا :

           قلنا سلفاً إن مجال مبحث نظرية المعرفة أو الابستمولوجيا هو دراسة مشكلة المعرفة ... وهنا نطرح سؤالاً هو:

من أى النواحى يتعرض هذا البحث لمشكلة المعرفة؟

   إن مبحث نظرية المعرفة يتناول مشكلة المعرفة من حيث إمكان قيامها وحدودها وصحتها، ثم الطرق الموصلة إلى إكتسابها، وأخيراً حقيقة موضوع المعرفة.

  ومن إستعراض الإجابة سالفة الذكر يبدو لنا أن هناك ثلاث قضايا )أو مناح) متشابكة فيما بينها وهى محل دراسة واستقصاء مبحث نظرية المعرفة، وسوف نتناول .

الهوامش :

(11) يمكن للإلمام بأبعاد مشكلة المعرفة مراجعة المصادر التالية:

1- ذكي نجيب محمود. (1969). نظرية المعرفة. القاهرة: المطبعة الفنية الحديثة.

2- معن زيادة (1986). الموسوعة الفلسفية العربية. المجلد الأول. بيروت: معهد الإنماء العربي. ص ص 753-762

-3أحمد عصام الصفدى. (1991) تصنيف المعرفة والعلوم في ضوء خصائص الأمة الإسلامية الرياض: المركز العربي للدراسات الأمنية.

4-Edwards, P. (1976). The encyclopedia of philosophy, Vol. 31 New York: Macmillan Publishing Co. Inc & The Free Press. pp. 345-350.

(12) الفلسفة ثلاثة مباحث رئيسية على حسب الإتجاه التقليدى فى فهمها وهي مبحث الوجود )الانطولوجيا)، ومبحث القيم (الاكسيولوجيا ) ومبحث نظرية المعرفة (الابستمولوجيا).

الصفحة7