علوم التربية وسيكولوجيا الطفل

المؤلف: عبد العلي الجسماني

التصنيف: علوم التربية

عرض PDF

الوصف:

عبد العلي الجسماني، علوم التربية وسيكولوجيا الطفل، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى 1414ه الموافق ل 1994م، بيروت-لبنان.

القسم الأول: التربية والتعليم منذ عام 1935



تمهيد :

عندما يتصدى المرء المهمة صعبة يحاول مثل تلخيص ما مرت به التربية والتعليم من تطور خلال حقبة الثلاثين عاما المنصرمة ، بل حينما يواجه مسألة اصعب ، تلك هي محاولة تقييم ما طرأ من تقدم في التربية وفي علم النفس أبان تلك الفترة فان الفرد ليجد نفسه مأخوذا بما هو قائم من عدم توازن لا يزال ماثلا لم يتضاءل منذ عام 1935 ، ويتمثل عدم التوازن هذا بين غمرة الجهود المكثفة التي بذلت في مجالات التربية، وبين انعدام التجديد في طرائقنا المتبعة ، وفي برامجنا ، وفي ميادين ما يتحدانا في مواقفنا من مشكلات ، بل وفيما يواجهنا في التربية ككل بوصفها علما موجها . ففي عام 1939، تحدث لوسين فيفريه عما يبلوه الفرد من عنف ومن صدمة ماحقة عندما يريد مقارنة الخبرة في التربية مع (الواقع السليم ، المستقيم، المثمر الذي تتمخض عنه الدراسات النفسية والاجتماعية وما يمكن أن تستمده منها التربية من الهام ، وقد فسر هذا التأخر بل هذا النقص في التوافق والانسجام ، بانه ناجم عما يتخبط فيه المجتمع من تعقيد يتمثل في حياته الاجتماعية. وما اسرع ما ينعكس هذا على التربية التي تعتبر الوسيلة والارادة في معالجة المشكلات الاجتماعية، وهذه حقيقة من غير شك ولكن ما فتئنا نعايش المشكلة - وهي تزداد تفاقما على مر الايام - وتلك هي انى يتسنى لنا علم في الطب - حتى ولو كانت مناهجه قليلة تطبيقاتها في القطار اخرى وفي المستويات الاجتماعية المتفاوتة - في الوقت الذي يختلف فيه وزراء التربية عن غيرهم، وممن يهتمون بالصحة العامة اذ ان وزراء التربية لا يسعهم الركون إلى مجالات محايدة وموضوعية لتزويد السلطة بمبادئ وحقائق ملموسة . لهذا فهم يتصدون فقط لتلك المشكلات التي تحدد افضل وجوه التطبيق . وياختصار ، فأن وزراء الصحة لا يشرعون في جو المعرفة الطبية

الصفحة 11

نظرا لوجود علم في الطب تتمتع البحوث فيه بالاستقلال الذاتي وبالتشجيع العام من جانب الدولة، بينما نجد المربين في الحقل العام يحملون صفة الموظفين المدنيين وهم مسؤولون امام وزارة لا تشمل قراراتها جوانب التطبيق فحسب بل تتناول كذلك الاصول الواجب تطبيقها ، وعلة ذلك بكل بساطة هي لانها - وزارة التربية - تفتقر الى علم في التربية متطور بدرجة كافية ليجيب على ما هناك من مسائل لا حصر لها تجد كل يوم ولذا فان هذه المسائل يترك حلها اما للخبرة واما للتقاليد.

لذا فان نقصي تطور التربية منذ 1935 حتى الوقت الحاضر يشتمل على الاحاطة بما طرأ من تقدم كمي هائل حصل في مجال التعليم العام ، مع ملاحظة ما هناك من تحسن نوعي محلي . وبخاصة في المجالات التي تم فيها تشجيع مثل هذا التحسن - لما حصل خلال تلك السنين من تطورات سياسية واجتماعية . ولكن قبل كل شي - بصرف النظر عن كل تلك المقدمات التي قد تغير من وجه الصورة بعض الشي" - فان هذا معناه علينا ان نسأل انفسنا : لماذا لم يحرز علم التربية الا تقدما ضئيلا اذا ما قارناه ، بالتطورات الجديدة الواسعة التي جدت في علم نفس الطفل وفي علم الاجتماع إياه

الصفحة 12



الفصل الأول: مراحل التطور في التربية

لا مجال للتساؤل في اننا سنتخذ الاعتبارات النظرية منطلقا لنا . وانما السبيل الوحيد هنا هو ان نبدأ بالحقائق التي ستجعل هذه الاعتبارات ضرورية ان عاجلا أو آجلا . ثمة ثلاثة ضروب من الحقائق لازمة ومختارة من بين حقائق أخرى كثيرة لها شأن في هذا الميدان .

الجهل بالنتائج :

اول ملاحظة ترد على الذهن، وانها المثار دهشة ، بعد انصرام ثلاثين عاما هي الجهل الذي ما برحنا تتخبط فيه ، الجهل بما في أساليبنا التربوية. فمعرفتنا سنة 1965لا تزيد على معرفتنا سنة 1935 . اذ لا تعرف مقدار ما يتبقى عالقا في اذهان مختلف الناس من ضروب المعرفة المختلفة المكتسبة في المدارس الابتدائية والثانوية ، بعد مضي عشرين سنة . وان كنا بطبيعة الحال نمتلك معلومات غير مباشرة عن هذه الناحية ، كتلك المعلومات التي تتأتى لنا في الامتحانات التي تلي المرحلة المدرسية، كما حصل في امتحانات مجندي الجيش السويسري، وما لها من قضية مثيرة فيما بين الاعوام 1785، 1914 ، كما سجلها لنا ب ، بوفيه . ولكن ليس لدينا مثلا معرفة عما يمكن ان يتذكره مزارع يبلغ من العمر ثلاثين عاما لما كان قد تعلمه في المدرسة من معلومات تاريخية وجغرافية . او مقدار ما بقي عالقا في ذهن محام مما كان قد درسه في المدرسة الثانوية من كيمياء وفيزياء وهندسة . قيل لنا من قبل بأن اللاتينية لا معدى عنها الطالب الطب، ولكن هل هناك من أحد حاول تحديد مقدار التأكيد وتجريده من العوامل المهنية التي تتبناه ، وهل هناك من حاول تقييم مقدار ما يبقى مائلا منها في ذهن الطبيب بعد تخرجه وهو يمارس مهنة الطب ، ومع ذلك فان الاقتصاديين الذين اسهموا في وضع الخطة العامة للدولة الفرنسية قد طلبوا بصورة

الصفحة 15

خاصة بان تخضع طرائق تمحيص المردود التربوي الذي تتبناه إلى واقع التصميم الدقيق وأن توضع موضع التطبيق وقد يشار اعتراض مؤداه أن ذاكرتنا لما تعلمناه لا ترتبط بالثقافة المكتسبة ، ولكن اني يتاح للمرء تقييم الثقافة هذه من غير الركون الى الحكام عامة مطلقة وأحكام ذاتية ، وهل الثقافة التي تؤثر في قرد معين في دائما الثقافة التي مصدرها ما تلقاء من تعليمه المدرسي . او انها ما غرسته فيه مدرسته من خلال وما أيقظت لديه من اهتمامات وما وفرت له من حوافز بحيث اتضح له بانها جزء لا يتجزأ من اصول ما يسمى بتربيته الاساسية . اننا لنجد حتى المسالة الرئيسية الخاصة القيمة اللغات المندثرة على اساس انها تشيع ممارسة تمكن من انتقال المؤثرات والنتائج النافعة من مجال الى مجالات اخرى من النشاط، فحتى هذه المسالة ما عقدت قائمة من غير حل قاطع تفصل به التجارب اليوم . فهي قائمة كما كانت قبل ثلاثين عاما علت ، رغم ما تم اجرائه من دراسات بريطانية ، لذا فان المربي وهو يواجه مسألة إسداء النصح بشأن جوانب رئيسية كهذه فانه لا يعتمد فقط على ما تجمع لديه من معرفة ، بل لا بد له كذلك من الاتكاء على اعتبارات من الحصافة والتحري.


  يضاف الى ما تقدم,  ثمة مسارب معينة من التعليم خالية تماما من اية قيمة شكلية ، واننا ماضون في ارسائها وكانت أساسية دون معرفة منا بانها في الواقع تضر أو لا تضر بالغاية النفعية التي اقترنت بتلك المسارب اقترانا تقليديا . فكل واحد منا مثلا يتقبل الفكرة الذاهبة الى انه لكي يحيا المتعلم حياة اجتماعية مقبولة عليه ان يتقن التهجية                                          ولكن ما فتتنا تفتقر إلى المعرفة الحاسمة التي تمكننا مما إذا كانت الخاصة النعيم خطوات بقواعد التهجئة السليمة تزيد من قدرتنا في مجال التعليم أو انها حيادية التاثير، أم أنها تكون أحيانا  

الصفحة 16

عائقا . وقد كشفت بعض التجارب عن ان عمليات التسجيل الاوتوماتيكي لذاكرتنا البصرية تحقق نفس النتائج التي تتمخض عنها الدروس المنظمة : ففي تجربة اجريت على فئتين من الطلاب أعطت احداهما ارشادات بأصول التهجئة وتركت الفئة الأخرى دون ارشادات فأتضح في نهاية التجربة انه لا فرق هناك في النتائج بين المجموعتين على انا هذه التجربة ليست بكافية للكشف عن المتغايرات الكثيرة، خاصة وانها لم تتوسع في التنوع والشمول ولكن من غير المعقول في مجال مفتوح للتجارب كمجال تعليم القواعد بشكلها التقليدي، مجال تتباين فيه النظريات اللغوية المتضاربة ان يقف المربي من كل هذا موقفا لا ينظم فيه طرائقه ولا يحدد تجاريه وليس من المعقول ان يكتفي بالإجابة على مثل هذه الاسئلة فقط بالركون الى اراء بداهتها تطمس معالم الكفاءة بخلاف ما يكشف عنه عادة الاستدلال الفعال وكل ما هو متوفر لدينا، في الحقيقة، كأساس للحكم على نتائج طرائقنا المدرسية هي نتائج الامتحانات المدرسية والى حد ما بعض امتحانات المنافسة . لكن استعمال هذه الحقائق يستلني اثارة مزيد من التساؤل واحداث ما يسمى بالحلقة المفرغة ان اثارة السؤال، ابتداء ، انما تتأتى لأننا نفترض بان النجاح في تلك الامتحانات يؤلف برهانا على استمرار المعرفة التي يكتسبها المتعلم ، في حين ان المعضلة في حقيقتها لم تحل ، وهي تتكون على وجه الدقة من محاولة ترسيخ ما يتبقى في الذهن بعد مضي عدد من السنين من معرفة كانت تدل في حينها على النجاح في تلك الامتحانات ، كما يتطلب الامر في الوقت ذاته محاولة تقرير التوليف الحقيقي لما تبقى قائما مستقلا في الذهن عن المعرفة المنسية بتفاصيلها . فعن هاتين النقطتين الرئيسيتين لم تتوفر لدينا تقريبا معلومات كافية بشأنهما

الصفحة 17

اما الحلقة المفرغة . ولعلها اخطر - فذلك لأننا نأخذ بالحكم على قيمة التعليم في المدرسة بنتائج النجاح في الامتحانات النهائية عندما تكون كل الجهود في المدرسة معبأة بتأثير السير نحو تلك الامتحانات، وتكون هذه مشوهة بشكل خطير ، كما يرى بعض المفكرين ممن لهم آراؤهم المحترمة. ذلك لان السعي الى الامتحانات يصبح باستطراد الشغل الشاغل للفرد فلا يهتم بمحتوى المعرفة لذاتها.

فلا مشاحة في القول اذن ، اذا شئنا أن نحقق اية موضوعية علمية او اية امانة تربوية ترضي الآباء والابناء على حد سواء. فيجدر بنا اذن أن نولي اهتماما اوليا لاعتبارات الدراسة في سبيل المقارنة بين المردود المدرسي ونتائج الامتحانات المدرسية ، حيث تتجلى قيمة جهود الطالب عن طريق تقييم المعلم له في ضوء ما اداه المتعلم من وظائف خلال العام الدراسي، مع الاحتراس من ان المدارس الاعتيادية قد لا تشوه وتزيف مجهود الطالب وحده فحسب، بل تتعداه الى مجهود المعلم كذلك. وقد يعترض على هذا بأن المعلمين ليسوا دائما حياديين في تقييمهم ، ولكن هل هناك ما هو اشد مما تحدثه الامتحانات وما تثيره في نفس الطالب من احتباسات انفعالية وقد يعترض بالقول ايضا بأن الطلاب ليسوا بخنازير غينيا نخضعهم للتجريب عليهم تربويا وفق اهوائنا ، ولكن اليست القرارات الادارية التي تتخذ والتنظيمات التي تستحدث في الوقت في خاتمة المطاف تجارب بعينها ايضا ، وانها تختلف هي الحاضر عن التجارب العلمية فقط في انها لا تنطوي على اجراءات منتظمة منسقة . وقد يعترض ايضا بالقول بأن الامتحانات تؤدي وظيفة رسمية . ولكن هذا هو ما نريد بالدقة اثباته مستعينين على ذلك بالتجارب الموضوعية معرضين عن الاقتناع بالآراء المجردة ، حتى اذا كانت تلك الآراء مزركشة بعبارة تبعا لرأي الخبراء ، لا سيما اذا كانت الاراء متعددة ومتناقضة

الصفحة 18

والحقيقة هي انه في جميع هذه المسائل الاساسية ، كما هي الحال ايضا في مسائل مهمة أخرى، أن التربية التجريبية - مع ما حققته من جهود قيمة - ما عتمت تلتزم الصمت ، وهذا مما يؤكد عدم التوازن المريع الذي لا يلبث قائما بين مجال اهمية ما يوجهها من مشكلات وبين الوسائل المتبعة لحل تلك المشكلات . فعندما يعطي الطبيب مثلا علاجا معينا فأن قراره هذا ينطوي في الواقع على شي من الخبرة ، ولكن ليس بمقدور المرء أن يقرر ما اذا كان الشفاء الحاصل كان نتيجة للدواء الذي وصفه ام انه حدث نتيجة مرور الوقت فعالجته الطبيعة دونما جهد خارجي . ولكن رغم هذا فهناك قدر لا يستهان به من البحث في ميدان العقاقير والصيدلية مشفوعا بمعرفتنا الفسلجية، وهذه كلها تكون أساسا صلبا للتقدم الحاصل في الحدس الاكلينيكي . فكيف اذن في المجال التربوي. وهو مجال يكمن فيه مصير الاجيال القادمة كما يكمن في مجال الصحة العامة ، كيف يمكن ان يبقى البحث الاساسي في هذا الجانب ضئيلا كما تشير الامثلة المضروبة الى ذلك.

مشكلة البحث والهيئة التدريسية :

في الفترة الواقعة بين 1935 –1965، بمقدور المرء ان يذكر اسماء باحثين افذاذ لمعت اسماؤهم في مختلف ضروب المعرفة بما فيها ما اصطلحنا على تسميتها بالعلوم الطبيعية والاجتماعية والانسانية ، باحثين يتمتعون بسمعة عالية ، استطاعوا ان يطورا المعرفة بمختلف مناحيها تطويرا شاملا وذلك بتكريس جهودهم لها . ومع هذا لم تبرز اسماء جديدة بعيد هذه الفترة ذاتها يمكن اضافتها الى الاسماء اللامعة التي برزت خلال تلك الفترة المذكورة . بحيث يمكن معها القول بأنها اسماء تكون معالم ظاهرة في تاريخ التربية . وتلك مشكلة اخرى .

الصفحة 19

فهي مشكلة لا تقتصر في حدودها على الفترة التي نحن بصددها الآن . اذا القينا نظرة على محتويات الجداول في مختلف كتب تاريخ التربية ، فأول ملاحظة تستوقفنا هي تلك الاسماء الكثيرة من المربين المبدعين الذين لم يكونوا اساسا تربويين محترفين . ومنهم مثلا كومينيوس ، فهو انشأ مدرسة وكان يطبق في رحابها اراءه في التربية ، علما بأنه كان رجل دين وفيلسوفا ، ومنهم روسو ، فهو لم ينشي صفوفا دراسية، ومع أنه كان لديه اطفال ، فهو لم يشغل ديوي نفسه بهم كثيرا . ومن تلك الاسماء فروبيل مؤسس رياض الاطفال . وصاحب الدعوة الى التربية الحسية )مهما كانت عليه من نقص) فهو في الاصل كيمياوي وفيلسوف . ومن بين معاصرينا، جون اذ كان فيلسوفا ، ومنهم مدام منتسوري ، ودكرولي . وكلاباريد ، فهؤلاء جميعا كانوا اطباء والاثنان الأخيران منهم كانا متخصصين بعلم النفس الى جانب الطب. ومن الاسماء المعروفة جيدا بستالوتزي ، فهو من الجهة الأخرى، كان خير مثال من بين المربين الذين كانوا منصرفين الى التربية اساسا (وكان حديث الآراء بكل معنى الكلمة). فهو لم يأت بجديد في مجال الطرائق ، ما خلا استعماله الصفائح التوضيحية في التدريس ، وحتى هذه استعملها لاسباب اقتصادية.

ان احدى الاحداث المهمة في التربية في الفترة الواقعة بين 1935 و 1965نشوء المشروع الفرنسي للإصلاحات وما ترتب عليه من قيام (مراحل المراقبة والتوجيه) وقد برزت كنتيجة مباشرة الى تحريات لجنة قادها وازجاها شخصان احدهما فيزياوي والاخر دكتور نفساني هما : لانجفيه وولان . هناك دون شك امثلة اخرى في ميادين المعرفة المختلفة لها قيمتها الالهامية الاساسية اسهم فيها رجال لم يكونوا اصلا من نفس فروع تلك المعرفة . فكلنا نعرف مثلا كم أفاد الطب من خدمات باستور وهو لم يكن طبيبا اصلا . لكن الطب بأوسع معانيه انما هو

الصفحة 20

من صنع جهود الأطباء، وأن العلوم الهندسية قد انشأها مهندسون، وهكذا الأمر. ولكن لماذا لم تكن التربية من جهود المربين الا قليلا . فهذه معضلة قائمة وهي بعد جد خطيرة . فالبحث الموجه الى طبيعة التعليم المدرسي الذي أكدنا عليه أنفا من الندرة . وهو يمثل حالة خاصة ماثلة والمشكلة العامة. هي يجب أن نتبين لماذا لم يؤلف من بين هذا الحشد الهائل من المربين في العالم. لم يؤلف منهم فريق من الباحثين يكرسون جهودهم للبحث التربوي بحيث يضفون عليه حيوية فيجعلونه علما قائما بذاته ومرتكزا إلى الاسس العلمية، بحيث تأخذ التربية مكانها الصحيح بين تلك العلوم التطبيقية فتمتاح من الفن والعلم معا.

والسؤال هو: هل العلة تكمن في طبيعة التربية نفسها. بمعنى ان النقص فيها راجع الى عدم امكانية تحقيق توازن بين حقائقها العلمية وتطبيقاتها الاجتماعية. فهذا شي سنتطرق اليه فيما بعد في ضوء المشكلات الجديدة التي طرأت بين1935و 1965. وسيكون جوابنا بالنفي ولكن قبل تمحيص المسائل النظرية فأنه لا معدي عن البدء بأيلاء اهمية خاصة إلى العوامل الاجتماعية، طالما أنه من الحق بمكان في هذا المجال كما. هي مختلف ضروب المعرفة العلمية، بأن العلم لا يمكن ان يتطور إلى أكثر من كونه وظيفة تعكس الحاجات والمنبهات التي تحفل بها البيئة الاجتماعية. والحقيقة هي انه في هذه الحالة الخاصة بالذات فأن المنبهات لا تكون متوفرة دائما، وان البيئة لا تكون ملائمة دائما. ثمة ظاهرة لا يمكن تخطيها لخطورتها وقد تفاقمت اهميتها في السنوات الاخيرة، تلك هي صعوبة استقطاب المعلمين للمدارس الابتدائية والثانوية. فالمؤتمر الدولي السادس والعشرون المنعقد سنة 1963 تحت شعار (من اجل التربية العامة)، قد ضمن جدول اعماله مشكلة)العمل من اجل توفير المعلمين للمدارس الابتدائية).

الصفحة 21

وقد اتضح خلال اجتماعات ذلك المؤتمر كم كانت المسألة خطيرة وهذه بطبيعة الحال مسألة ذات طابع اقتصادي ايضا ، فاذا كان لنا ان نمنح المعلمين مرتبات مجزية تكافي" ما يكسبه الآخرون في المهن الحرة، فعلينا في الوقت ذاته العمل على توفير العدد اللازم من المعلمين. لكن المشكلة في الواقع أوسع من ذلك وهي تهم المربي في موقفه في الحياة الاجتماعية ككل: وهذا سبب ارتباطها بأحكام بالمسألة المركزية : مسألة البحث التربوي.

والحقيقة هي أن مهنة المربي لم تكتسب بعد في مجتمعاتنا المكانة الطبيعية التي يؤهلها لها حقها في اتخاذ مكانها على سلم القيمة الفكرية. فالمحامي، حتى وان لم يكن ذا ذكاء عال، انما هو مدين فيما يتمتع به من احترام الى علم محترم، اذ ان القانون، يستمد مركزه من منابع محدودة بوضوح مصدرها اساتذة الجامعة، وان الطبيب، حتى وان لم يفلح دوما في شفاء مرضاه. انما يمثل علما اجوف، يتطلب اكتسابه جهودا مضنية وأساليب معينة. ويمثل المدرس في الجامعة ما يدرسه من علم يكرس له حياته في سبيل تقدمه. وان ما يفتقر اليه معلم المدرسة، مقارنة مع هؤلاء كافة، هو مكانة فكرية تضاهي ما يتمتع به سواه من مدرسي الجامعات مثلا وان السبب في فقدان ذلك انما يعزى إلى مجموعة من الظروف غير الاعتيادية والمقلقة حقا ان السبب العام، في الغالب: هو ان معلم المدرسة، ينظر اليه سواء من جانب الاخرين، والأسواء، هو سوء ظنه بذاته، بأنه ليس متخصصا من وجهة النظر المزدوجة التقنية منها والعلمية الابداعية، وانما يعتبر مجرد ناقل لنوع من انواع المعرفة هي في متناول كل فرد. وبتعبير آخر، ينظر إلى المعلم الجيد بأنه ما عليه الا ان يقدم ما هو منتظر منه عندما يمتلك. تربية اولية عامة وانه متعلم لبعض الصيغ المناسبة تمكنه من غرس ما لديه من تعليم في اذهان تلاميذه.

الصفحة 22

عندما نفكر بهذه الطريقة، فمن الميسور أن ننسى أن التعليم في مختلف ضروبه يثير ثلاث مشكلات اساسية لا تزال حلولها بعيدة المنال، وما زلنا ملزمين بأن نتساءل هل يمكن حلها من غير تعاون معلمنا أو على الاقل بالتعاون مع قسم منهم: 1 - ما هدف هذا النوع من التعليم هل هو لتجميع معرفة نافعة؟ ولكن نافعة في أي معنى؟ هل هو تعليم الطلاب ليتعلموا؟ هل الهدف هو تعليم الطلاب ليبدعوا؟ ليتمكنوا من تقديم شي جديد. اي مجال يكون موضع اهتمامهم، كما يلزمهم في الوقت نفسه ان يتعلموا هل الهدف هو تعليمهم كيف يدققون ويمحصون ويحققون، او هو مجرد تعليمهم فقط للاجترار والتكرار.. الخ 2 - وحالما يتم اختيار الاهداف هذه (بصرف النظر عمن يجيزها أو يقبلها) فأنه تنشأ هناك مسألة تقرير أي الفروع (أو فروع الفروع)

ضرورية لازمة، وأيها غير ملائمة او اقتصادية، ما. التي تتيحها : هل هي فروع التربية ، فروع الاستدلال ، ام فروع التجريب التي تساعد على تكوين الاكتشاف والتحقيق الفعال - ومع ضروب الملاءمة المختارة، تتأتى اخيرا ضرورة اكتساب معرفة كافية تتضمن قوانين النمو العقلي ليتسنى للمرء التوصل إلى انسب الطرائق الخاصة بنمط التكوين التربوي المحيد سنلتفت بطبيعة الحال الى كل من هذه المشكلات وهي قد تم تحويرها بحصافة منذ عام 1935لكن السؤال الراهن هو ما يتعلق بالموقف الخاص بالبيئة التدريسية وصلة ذلك بالبحث ، وما يتصل كذلك بالعوائق الاجتماعية التي تحول دون توجه المعلمين في بحوث لها اهميتها، الاساسية المتصلة بالمشكلات التربوية وأولى هذه العقبات هي أن عامة الناس (بما فيهم بعض السلطات التربوية وعدد من المعلمين لا يستهان به) لا يدركون مقدار ما عليه هذه المشكلات من تعقيد، وأنهم لا يدركون 

الصفحة 23

ان التربية علم يمكن مقارنته بسائر العلوم الأخرى ، بل انه علم صعب جدا ، وان تعقيده ناجم مما ينطوي عليه من عوامل معقدة ، فالطب عندما يطبق البيولوجي والفسلجة العامة على ما يواجهه مشكلات مرضية يبتغي علاجها فانه لا يتوانى في ذلك تحقيقا للأهداف المترجات، وهو يستخدم ما توفر لديه من علوم متقدمة وهو في الوقت يسهم في تطوير ما استعان به من علوم . وعلى النقيض من هذا كله ، فان التربية حينما تتوخى تطبيق حقائق الفسلجة وعلم الاجتماع ، تجد نفسها في مواجهة المسائل معقدة مختلطة متداخلة لا تتصل بالغايات فحسب، بل ترتبط بالوسائل ايضا ، وهي في هذا كله لا تتلقى من العلوم الاخرى الاعونا متواضعا ، نظرا الى ان تلك العلوم نفسها لم تحرز بعد تقدما كافيا ، والتربية من جانبها ما فتئت في طور تكوين هيكل المعرفة الخاصة بها وثانية تلك العوائق ، هي أن المعلم منكمش على نفسه فلا يمتثل الى مجموعة من البرامج ولا يطبق طرائق مملاة عليه من الدولة ، في حين نجد الطبيب مثلا مسئول امام جماعة تخصصه وامام مجلس مهنته اكثر مما هو مسئول ازاء وزارة الصحة . لا مراء في ان وزارات التربية يتكون معظم موظفيها من المربين ، لكمنهم مربون يملؤن مناصب ادارية فلم يعد لديهم متسع من الوقت الكافي لاجراء البحوث . لاريب كذلك في ان هذه الوزارات تحتاط الى تأسيس معاهد البحث وتحرص على استشارة معاهد البحث الاخرى ، لكن هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان الاستقلال الفكري الذاتي المحدد لاعضاء هيئة التعليم يبقى مقيدا في جميع العالم مقارنة لهؤلاء المعلمين بما يتمتع به سواهم ممن ينتمون الى المهن الحرة الأخرى.

ثالثة تلك الحوائل هي لدى مقارنة الجمعيات التي يكونها المربون بتلك الجمعيات التي يكونها اناس من مهن أخرى.

الصفحة  24

كجمعيات الاطباء والمحامين او جمعيات المهندسين والمعمارين. وباختصار ، بجميع : تلك الجمعيات التي يكون ممثلوها من نفس التخصص المهني حتى اذا كانت جمعيات علوم تطبيقية معرضة لها ، علوم صرفة - ينهمك اعضاؤها في دراسة مشروعات مشتركة او يتبادلون الخبرات عما توصلوا اليه ، نجد مع الاسف مقابل هذا ما يسود جمعيات المربين من انعدام الدينامية العلمية حتى عندما يناقشون المشكلات الداخلية لاتحادهم وجمعياتهم ورابعة تلك المعوقات، وهذه من غير شك مسألة اساسية هي انه في كثير من الاقطار يجري فيها اعداد المعلمين دون ان يكون هذا الاعداد مرتبطا قط بكليات الجامعات فالأعداد الجامعي للمعلمين يقتصر على مدرسي الثانويات وحدهم . وحتى في هذه الحالة فان هذه الفئة من المدرسين يدرسون في المدارس الثانوية ما كانوا قد تلقوه من معلومات ابان اعدادهم او انهم سيخفضون ما اكتسبوه من معرفة الى ادنى حد مطلق، في الوقت الذي يعد فيه معلمو الابتدائية في معاهد بمعزل عن الجامعة وهي الان تفتقر إلى روح البحث الجامعي. سنتناول فيما بعد هذه الافكار والمؤسسات وما تم بشأنها خلال ثلاثين عاما انصرمت ولكن المهم الان ان نتبين مدى ما تركه النظام التقليدي من تأثير معوق على البحث التربوي: فهو أولا، قد جعل مدرسي المدارس الثانوية في جهل تام بشأن امكانيات هذه البحوث. وهو ثانيا، قد أسهم في جعل التعليم الابتدائي في عزلة فكرية منطوية وجعل المعلمين محرومين من الاعتراف بمكانتهم اعترافا اجتماعيا سليما. ومما زاد الطين بلة هي حقيقة انحسار معلمي التعليم الابتدائي عن الاتجاهات العلمية الحديثة وابتعادهم عن جو البحث والتجريب وهو سبيل لو ثمنوه لبعث فيهم حياة جديدة فيما لو انهم اتيحت لهم فرص الاتصال بأجواء التعليم الجامعي (سنلتفت الى هذه المشكلة ثانية في الفصل الثامن)

الصفحة 25

معاهد البحث :                                                                                                          

 ان علاج ما وفوصفنا من مواقف مختلفة انما يتوخى قبل كل شي ، وهو أمر صحيح ، انشاء معاهد للبحث التربوي ، ومن هذه عدد كبير قد تم استحداثها في الاعوام الاخيرة .                                                         

 ان هذا الاتجاه قد اصبح واسع الانتشار ، وان المنظمة الدولية للتربية في الواقع قد تمكنت من القيام يحوث مقارنة بصدد هذا الموضوع ، وقد عقدت ندوة لمناقشته في احدى مؤتمراتها الخاص بالتعليم العام .                  

وتتألف المعاهد هذه من انماط ثلاثة : منها اكاديميات للعلوم التربوية ، وهو نمط تتبناه الجمهوريات الشعبية في الشرق ، ومنها معاهد العلوم التربوية او اقسام التربية ملحقة بالجامعات على صورة كليات ، او اقسام، او اقسام ضمن كليات ، ومنها نمط ثالث وهو مراكز البحوث ، سواء كانت معترف بها رسميا ام لا ، فهي تعمل بصورة مستقلة عن الاكاديميات او الجامعات.                                                                                   تؤلف الاكاديميات التربوية نموذجا من البحث المنظم ، تغدق عليها الدولة ، بسخاء مع منح الباحثين فيها استقلالا كافيا فيما يتعلق بتفصيلات اعمالها ونشاطها (ماخلا بعض التحديدات الخاصة بضرورة تقديم خططها لما تزمع القيام به من بحوث لعدة سنوات مقبلة)                                                                            يوجد في هذه المعاهد عدد كبير من المتخصصين بعلم نفس الطفل لكل منهم مختبره ومساعدوه التابعون له ، وكل من هؤلاء المتخصصين على صلة وثيقة بالمشكلات التربوية نتيجة للتعاون الوطيد بين هؤلاء الباحثين. ففي موسكو ، مثلا ، اطلعت على نتائج بحوث تتصل بقياس الادراك الحسي ومواقف النشاط المختلفة واللعب وذلك من اجل مقارنة هذه بقياسات اجريت في سياقات اخرى ، والهدف هو تطبيق اثار النشاط والاهتمام على الادراك

الصفحة 26

الحسي نفسه : ان اختيار هذا الاتجاه من البحث يشير في نفس الوقت الى ما هناك من اهتمام يتصل بربط البحث بالمشكلات العامة الخاصة بالتربية كما يشير الى شي من الاستقلال المتعلق بالتطبيق المباشر مما يجعله بمنجاة عما قد يتعرض له من تحديد في مجالات البحث والتقصي . ولكن في المستطاع القول توا بأن عددا كبيرا من مشروعات البحوث الأخرى تمتد فائدتهال لتشمل المسائل المفصلة في التعليم نفسه، وتسري نتائج هذه المشروعات فتصبح في متناول المربين الذين هم في مجال الممارسة، أن المندمجين في هذه4البحوث راضون بوجه عام عن هذا النوع من التنظيم في البحث وان ما يرونه من تكييف لها يختزل في الاساس الى قسمين : تنسيق بين الاكاديميات أو الجامعات، وتنسيق بين عمليات البحث العلمي التطبيق وبين ، اعداد المعلمين انفسهم ، وهو اعداد لما يزلمعهودا به الى معاهد تربوية منفصلة تماما عن مراكز البحوث النمط الثاني من المعاهد التي تضطلع بالبحوث هي المعاهد الكائنة في الجامعات حيث يوجد المدرسون الذين لا ينتظر منهم فقط القيام بتدريس مختلف الموضوعات، بل هم يقومون كذلك بتنظيم مشروعات البحث والتخطيط لها. ثمة جامعات معينة قد استحدثت. وهذا اصبح منذ فترة قليلة ماضية اتجاها سائدا - كليات للتربية - مساوية في اهميتها كليات الآداب والعلوم والعلوم الاجتماعية وسواها. ولكن المهمات المثبطة تكاد تكون في اجواء التربية اكثر وضوحا مما في غيرها من المجالات الاخرى : ان المشكلات الاساسية في مجال البحث التربوي انما تتمثل في الحقيقة ، في اثراء هذه البحوث عن طريق ارتباطها بجوانب اخرى من المعرفة لتنتشل الباحثين من وهدة الانعزال ، بل وتعالجهم مما يحسونه من شعور بالنقص ، لذا فأن معهد جان جاك روسو عندما الحق بجامعة جنيف (اخر مرحلة تمت عام 1948) رفض ان يكون كلية منفصلة قائمة

الصفحة 27

بذاتها، بل أثر أن يكون معهدا فرعيا تابعا ، من جهة ، الى كلية علوم النفس ، ومن جهة اخرى، تابعا في مجال التربية الى كلية الاداب. ومن الممكن ان يكون لهذه الصيغة من المعاهد المتفرعة التابعة لكليات مختلفة مستقبلها كامنا في اجواء علوم متفاوتة ويلاحظ بأن الصيغة هذه قد تبنتها جامعة امستردام كوسيلة للتنسيق بين جميع فروع دراساتها الفلسفية.                                                                                            ثمة صورة أخرى من صور الصلة. بين مجالات البحث التربوي وبين الحياة الجامعية، وهذه الصورة تتمثل في النظم الانجلو - سكسونية حيث الوحدة الوظيفية فيها هو القسم بدلا من الكلية . وفي هذه الحالة نجد اقساما للتربية مساوية من حيث المستوى لاقسام علم النفس . ويوسع المرء تسمية عدد من هذه الاقسام في كل من بريطانيا العظمى والولايات المتحدة ، وهي معاهد نشطة تقوم ببحوث جيدة كثيرة. على ان اعضاء هذه الاقسام يشكون أحيانا من منقصتين . الأولى هي التقسيم الحاصل بين علم النفس والتربية . وهذا الانشطار يعالج احيانا بتجمع علم نفس الطفل والتربية في مجموعة واحدة، ولكن هذا الضم لم يتخلص من مأخذ فصل علم النفس الوراثي عن علم النفس التجريبي ، دون اتاحة ما يكفي من ضمان ، يحول دون احتمال ما قد يتعرض له قسم التربية من عزلة . والهنة الاخرى ، ويشار اليها بلباقة ، هي ان هذا النظام من شأنه أن يفسح المجال للمتخصصين في الرياضيات ، والفيزياء ، وعلوم الحياة ، ممن لم يبرزوا في مجالاتهم الخاصة ، في ان يجدوا في اقسام التربية متنفسا لهم، فيطلقون يعلمون تعاليم الرياضيات والفيزياء والبيولوجي وغيرها - وهي حالة لا يترتب عليها دائماتقدم من شأنه أن يخدم البحث التربوي.ان هذه الصيغ الخاصة بربط البحث التربوي بالجامعات قد اثبتت جدواها بوجه عام، وبخاصة ما يتعلق من هذا بالتنسيق

الصحفة 28

الخاص في اعداد المدرسين على المستوى الجامعي والاساليب المختلفة الخاصة باعداد المعلمين، وهذا ما سنعود اليه ثانية في الفصل الثامن.                                                                                        اما ما يتصل بمراكز البحوث المستقلة عن الاكاديميات والجامعات فهي ايضا ذات اثر فعال. بعضها معترف بها رسميا (كالمتاحف التربوية )ونفوذها احيانا ايسر في اروقة الوزارات مما يكون عليه نفوذ الجامعات . وبعضها ، كما هي الحال في الولايات المتحدة. تعتمد على مؤسسات خاصة وهذا يسمح لها بالتالي ان تقدم عطاء ثرا ، كم هي الحال في جملة ( مشروعات) تهتم بتدريس علوم من مختلف المراحل بدء من المراحل الأولية فصاعدا ، وتحت تأثير عوامل كثيرة معينة ولا يستثنى من هذا حدث سبتنك اصبح كثير من المتخصصين بالعلوم ، المختلفة ومن الفيزيائيين البارزين خاصة يهتمون بضروب من طرائق التفكير ويلتفتون إلى اكتساب انماط جديدة في تفكيرهم، وهو تطور ينبغي أن يعتبر مجديا تماما من وجهة النظر التربوية.                                                                                                  

(1) البيداغوجيا العلمية وتحديد الأهداف التربوية :                                                     

    لا مشاحة في ان تحديد الأهداف التربوية الرامية إلى تنشئة الاجيال الصاعدة انما هو من مهمات المجتمع ، وان المجتمع ليمتلك من القوة ما يؤهله ليتصرف دائما بدقة واحكام ، وهو يتخذ في هذا سبيلين . فهو يثبت الاهداف مقدما وبصورة تلقائية بواسطة ما هو مفروض فيه وسائر كاللغة، والتقاليد ، والاراء ، وتأثيرات الاسرة ، والضررورات الاقتصادية، وسواها اي مستخدما جميع ما لديه من اساليب يتمثل فيها النشاط الجمعي وهو ما تستخدمه عادة المجتمعات لغرض الحفاظ على نفسها وتطورها بصهر كل جيل جديد على نحو تتجلى فيه عتبة الثبات او الدينامية بصورة تختلف عما

الصفحة 29

سبق وهو (المجتمع) يثبت الأهداف.                                                                           

  1.            يلاحظ ان بياجيه يكثير من لفظة البيداغوجيا وهو يستعملها بمعنيين: الاول مرادف للفظة التربية Education والثاني يريد بها المعنى الشمولي بما في ذلك الاهداف والمبادئ والقوانين والنصوص فتتضمن معنى التربية كما نالفها.                    
  2.               بطريقة شعورية مدركة خلال ما يمتلك من وسائل اعلام وبواسطة المعاهد والمؤسسات الخاصة، وهو يعمل هذا تبعا لما يتوقعه من انماط تربوية.                                                                 

  لكن تقرير الغايات التربوية هذه لا يأتي اعتباطا فحتى في حالة التحديد واتخاذ القرار تلقائيا فان هذا يخضع لقوانين علم الاجتماع القابلة للتحليل وفائدة التحليلات هذه هي انها تنير الآفاق امام السلطات لتتخذ ما تراه مناسبا من قرارات تخص الأمور التربوية اما ما يتعلق بتلك القرارات فانه عامة لا تتخذ الا بعد توفر المعلومات الكافية بشأنها ولا يقتصر الامر في هذا الشأن على المعلومات السياسية فحسب، بل يتناول ايضا الجوانب الاقتصادية والفنية والخلقية والفكرية وسواها . ولا يتم تجميع المعلومات الا بالاستشارة المباشرة يتجه بها الى من يعنيهم الامر والطريقة الاولية هذه لا معدى عنها، كما في حالة استكمال المعلومات عما يتعلق مثلا بالحاجات التقنية والاقتصادية للجميع. وهنا يجدر القول انه من الضروري جدا ان تتوفر لدى من يصدرون تعليماتهم الى التربويين الدراسات الموضوعية الخاصة بالعلاقة بين الحياة الاجتماعية والتربية. وهذا معناه لا يكفي تقرير الغايات من اجل تحقيقها فقط. اذ لا تزال أمام المربي مشكلة الوسائل، وهي مسألة تخص علم النفس أكثر مما تهم علم الاجتماع، ولكن ذلك تؤثر في الغايات. لذا فأن (دركهايم) كان قد بسط المسألة

الصفحة 30

أكثر مما ينبغي عندما ذكر بأن ما يبدعه الانسان من تربية انما . من صنع المجتمع ولا دخل للطبيعة في ذلك . فالحقيقة هي ان الطبيعة لا تخضع الى رغاب المجتمع الا في ظروف معينة ، وعلى هذا فان اكتساب الانسان معرفة بتلك الظروف بدلا من عرقلتها ، فأنه تتحقق له الاستنارة بشأن اختيار الاهداف الاجتماعية . فلو اننا اقتصرنا في جهودنا فقط على مسألة الاهداف والمرامي ، فأن ما سينشأ من غايات متفاوتة نرغب فيها ستكون الى حد ما متوازنة أو متناقضة . اذ لا تمكننا ان نضمن مثلا بأن الأفراد الذين نعدهم سيكونون معماريين ومبدعين في ان واحد وفي ظروف اجتماعية معينة، في حين اننا بحاجة الى مثل هذه المؤهلات واننا في مناحي اخرى من مناحي المعرفة والنشاط بحاجة الى ممتثلين ملتزمين . لذا فان تحديد الاهداف التربوية يجب ان تكون مسألة رأي مسموح به معتمدا التخويل والخبرة أو يجب ان يكون موضوع دراسة منسقة ولقد اصبح هذا الاخيار في الاعوام الاخيرة شديدة الوضوح بصورة مستطردة.

اتضح لنا اذن بأن تطور علم الاجتماع التربوي الذي اغفل ما هناك من مشكلات كبرى ناقشها مؤسسو هذا العلم، ومنهم مثلا-درکهايم وديوي، لكنه اختص بدراسة بعض البنى الملموسة - كدراسة الصف المدرسي، مثلا ، بوصفه يمثل مجموعة تمتلك دينامينتها الخاصة بها ( ومنها القياس الاجتماعي ، والتواصل الكافي والتفاهم التام بين المعالمين والطلاب) ودراسة ما يتعلق بالهيئة التعليمية بصفتها دئة اجتماعية ذات طابع خاص ، وقبل هذا كله دراسة مجتمع التلاميذ، من حيث الخلفيات الاجتماعية للطلاب وعلاقة هذا بما يصلون اليه من مستويات ، وفرص العمل وما هناك ما يسمى عادة بأعناق القنينات، والتعبئة الاجتماعية وما لها من علاقة بالعوامل التربوية .... الخ

الصفحة31

على صلة وطيدة بعلم الاجتماع، أي أن ترتكز الى دراسة مفصلة ومنظمة للظروف الاجتماعية المؤثرة في النظام التربوية . وليكن مفهوما ايضا بأنه ليست هناك دراسة كمية تعتبر بحد ذاتها امرا دقيقا ذلك لأننا بحاجة الى وحدات من القياس ذات دلالة ومغزى وتكون المسألة على هذه الصورة مالم تكون تلك الدراسة مستندة الى تحليلات نوعية ، وهذه حقيقة تؤول بنا الى تلك المشكلات الكبرى التي لا يمكن تفاديها.

(2) البيداغوجيا التجريبية ، أو دراسة البرامج والطرائق : سواء اكانت البرامج التربوية والطرائق:       

 التعليمية مفروضة من جانب الدولة ام متروكة الى مبادرات المعلمين ، فمن الواضح اننا لا نستطيع اصدار قرارات مبررة تتعلق بالمردود العملي لتلك البرامج والطرائق ، ولا يمكننا تشخيص مقدار ما ستتركه من تأثيرات على التكوين العام للأفراد ، مالم نتبين دراسة منسقة مستخدمين لهذا الغرض مختلف الوسائل المثمرة في امكانيات التحقق من مدى المتداخلة المتقابلة الناجمة عن الدراسات الاحصائية الحديثة وما تمخضت عنه البحوث المختلفة في مجالات علم النفس الاجتماعي منذ عدة عقود من السنين خلت ، ونتيجة لهذا الادراك ، كان قد نشأ فرع من فروع المعرفة جديد يسمى (البيداغوجيا التجريبية) تركزت مهمته في الدراسة المتخصصة لهذه المشكلات . وان كلاباريد ، في كتاب له يحمل عنوانا مزدوجا هو : علم نفس الطفل والبيداغوجيا التجريبية وقد تكررت طبعته عدة مرات وتمت ترجمته في مطلع هذا القرن، كان قد اوضح فيه ان البيداغوجيا هذه ليست فرعا من فروع علم النفس (ماخلا ما يتعلق منها بجهود المعلمين المرتكزة الى مادة علم النفس ). تهتم  البيداغوجيا التجريبية عمليا فقط بتطور ونتائج العمليات التربوية، وهذا لا

الصفحة 32

   ان المشكلات الخاصة بمجتمع الطلاب قد استأثرت في الآونة الاخيرة باهتمام كبير بالحكم على المرامي الخاصة بالتعليم . وان موضوع (اقتصاديات التربية) اصبح احد المجالات التي تحظى بتطورات كبرى . ومنها مثلا دراسة التوافق والتباين الكائن بين النظم التربوية وبين الحاجات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع ككل ، وبدراسة طبيعة وحجم المصادر الموضوعة تحت تصرف المدرسة في سبيل تحقيق اغراضهال، والتعرف على العلاقات بين توجيه مدرسي ، وبين التطورات الحاصلة في النشاط الاقتصادي من مختلف الضروب والصيغ.

   لامراء في ان هذا الضرب من العمل ككل يعتبر ذا أهمية اساسية بالنسبة الى (التخطيط التربوي) الذي يعد اليوم امرا يستأثر باهتمام كل قطر ، اذ يتوفر على اعداد المشروعات الاصلاحية مقدما المستقبل أت. ويرتبط التخطيط هذا بطبيعة الحال بتحديد الاهداف المستوفاة ، وان التحديد هذا يسلط اضواء من د درجات متفاوتة على مواطن معينة من اجتماعيات التربية.                                                                                                                                                  ولعل سؤالا يثار مرده الى ان المعرفة اللازمة لتخطيط وتثبيت الاهداف التربوية يمكن استقاؤها على نحو أدق مما جد من بحوث في ميدان التربية المقارنة اضطلع بها اناس كثيرون في امريكا (منهم مثلا كاندل) وفي بريطانيا ( لايريس) ، وما زالت هذه الدراسات تتوالى ممثلة بجهود العاملين في اللجنة الدولية للتربية ومنهم ، مثلا ب .روسيلو في بحث له يستند الى التقارير السنوية الصادرة من وزارات التربية يتضمنها الكتاب السنوي الدولي عن التربية والتعليم . وبمقارنة الفقرات الكمية الخاصة بالمعلومات المطلوبة فأن المرء ليلاحظ توا مقدار ما هناك من زيادة ونقصان وتفاوت من عام لآخر في الجهود ، او قد تبرز هناك ارتباطات تعكس تداخل المشكلات . وليفهم جيدا بأن التربية المقارنة لا مستقبل لها مالم تبق

الصفحة 33

يعني ، كما سنرى ، أن علم النفس لا يؤلف مرجعا ضروريا لها ، لكن المشكلات التي تتعرض لها تختلف عن تلك التي يتولاها علم النفس بالدرس والتمحيص ، وان المشكلات هذه اقل اهتماما بخصائص الطفل والتلقائية وبما يتصل بذكائه.

فالمسألة، مثلا، متروكة للبيداغوجيا التجريبية لتحدد ما اذا كانت افضل طريقة في تعلم القراءة هي البدء بالحروف ومن ثم التدرج الى الكلمات فالجمل ، تبعا للطريقة الكلاسيكية او (التحليلية) كما تسمى ، ام انه اجدى الشروع بصورة معكوسة والبدء من اخر المراحل المذكورة هنا تبعا لطريقة دكرولي (الكلية) . وان حل المسألة يكمن فقط في بحث منظم يقسم الصبر والاناة مستخدما مجموعات للمقارنة مستثنيا . جميع العوامل المتداخلة والطارئة ومستعملا فترة زمنية متوازنة . ولا مجال هناك لتحري حل المسألة في ظل اعتبارات استقرائية مبنية على معرفة بعلم النفس، مهما كانت تجاربه سليمة ، فيما يتعلق بدور الجشتالتيين في تقدير طبيعة الادراك الحسي عند الطفل فهناك دراسات معينة عن هذا الموضوع وان كانت لا تزال بعيدة عن التكامل ، قد ادت الى دعاوى مؤداها أن الطريقة الكلية. وان كانت تتيح نتائج سريعة فأنها ضارة باستيعاب الطفل فيما يتعلق بالتهجئة في مراحل تالية، بيد ان الادعاء هو هذا هو الاخر نتيجة ملاحظات اعتباطية تتطلب بدورها اجراءات وهيمنة بالغة الدقة. ثمة بحوث أخرى تشير الى ان النتائج المتاحة تتباين تبعا لأنماط فئات الاطفال الذين شملتهم تلك التطبيقات (الكلية) ، وقد ادت هذه الحقيقة بامرأة في شيربروك في كندا الى ان تطور طريقة مختلطة ، وهي طريقة كلية في اساسها لكن كل طفل في المجموعة الواحدة منهم يسهم بكلمة للتألف من مساهمتهم مجتمعين جملة ذات معنى . ومحصلة هذا كله تدعو الى الحاجة الى مزيد من البحوث لتتلاقى جميع ما هناك من متغيرات ولتقرير اسس للمقارنة

 الصفحة 34

بين هذه الطريقة وغيرها من الاساليب الأخرى. وهناك من الباحثين من يرى بأن المشكلة ستبقى ماثلة وتتطلب التصدي اذا نحن اقتصرنا في جهودنا على العوامل الادراكية والدافعية ، وان المسألة الحقيقية تبقى ثانوية في مستوى المعاني وفي تداخل العلاقات بين الاشارات وبين ما يراد الاشارة اليه . واذا ما تم تبين وجهة النظر هذه فان الأمر حينئذ يستلزم اجراء بحوث جديدة فتفتح آفاقا جديدة للبيد اجوجيا التجريبية، وهو اتجاه لا يستثنى بحال الضرورة القائمة في العلاقات بين العوامل الادراكية ، وان الاخيرة هذه وان لم تكن العوامل الوحيدة المعنية غير ان هذا لا يعني انها اصبحت لا جدوى فيها.

يكشف المثال العام هذا اول ما يكشف عن تعقيد المشكلات التي تبده البيداغوجيا التجريبية وذلك اذا ما شئنا الحكم على الطرائق التربوية تبعا لمعايير موضوعية وليس تبعا لتقييمات المعلمين او الموجهين التربويين ، انما هي في الواقع ذات طبيعة تربوية وليست نفسية خالصة ، طالما ان قياس النشاط المدرسي يخضع المعايير تهم المربي وحده وان كانت الطرائق المستخدمة تتواشج مع ما يقدمه المتخصص بعلم النفس من بحوث ونظريات ومن الجهة الاخرى ، فان مسألة الضرورة القاضية بالتعاون بين البيداغوجيا وعلم نفس الطفل بدلا من نشدان الاستقلال المطلق لأولهما ، قد أثيرت الدعوة اليها مؤخرا ، وخاصة في المناطق التربوية التي تتكلم الفرنسية (1)

لم تنشأ مثل هذه المشكلة في الاقطار الانجلو - سكسونية ولا في الجمهوريات الشعبية التابعة للجامعات وفي الاكاديميات البيداغوجية، يجري بتحفظ قبول الفكرة الذاهبة الى ان البيداغوجية التجريبية ملزمة بالاتكاء على علم النفس تماما كما هي الحال في اعتماد الطب على البيولوجيا والفسيولوجيا، في حين يبقى

الصفحة 35  

متميزا عنهما. ومقابل هذا، نجد (ر . دوترانز) ، وتؤيده جمعيات البيداجوجيا التجريبية التي ساعد على انشائها في الاقطار التي تتكلم الفرنسية ، نجده يؤكد على ضرورة الاستقلال التام لهذا الضرب من المعرفة (2) ، ولكي يدافع عن وجهة نظره ، فقد أشار بما يثير الدهشة الى نصوص لكلا باريد تبين فقط الفروق بين المشكلات المعنية ، ولعل وجه الدهشة يكمن في أنه يجعل عمل مؤسس (3) معهد روسو يبدو وكأنه لم يكن موجها صوب ارساء التربية على اسس نفسية صلبة . وان المشكلة في الحقيقة بالغة البساطة، اذ ان حلها يتوقف على مقار تواضع او اتساع طموح البيداغوجيا التجريبية  فاذا كانت (البيداغوجيا التجريبية) تنوي ان تقتصر ، مجاراة المفاهيم العلوم الوضعية ، على مجرد بحث الحقائق والقوانين دون الاخذ بتفسير ما تنص عليه ، فلا حاجة بها اذن الى ان ترتبط بعلم

النفس، وسيلاحظ ، مثلا نه في ثلاث مجموعات متكافئة من الاطفال ونتيجة للطريقة التحليلية بعد (س) من الشهور قد برزت قدرة على قراءة معدل (ن) من الكلمات ، علما انه استخدمت في الحالات نفس الكتاب . وسيتم قياس سرعة التقدم الحاصل شهرا بعد شهر. وسيلاحظ اخيرا بعد عامين او ثلاثة أن نفس هذه المجموعات الثلاث، بعد تلقيها تعليم متماثل من جميع الوجوه، قد احرزت كذا وكذا من النتائج بقدر ما يتعلق الأمر بالقدرة على التهجئة مثلا. وتنتهي المسألة عند هذا الحد ومعظم ما يمكن توقعه كنتيجة لهذا هو احتمال الاختيار من بين الطرائق المبحوثة.                                                           

         لكن البيداغوجيا التجريبية اذا كانت تبتغي فهم ما تنوي الاضطلاع به واذا كانت هي راغبة في ملاحظاتها بتعليلات او تفسيرات سببية ، فيكون واضحا لها بأن عليها ان تستخدم علم النفس الدقيق وليس الركون إلى الحس العام أو البداهة . وفي حالة

الصفحة 36


مثالنا الحالي فان عليها ان تمتلك معلومات مفصلة في مجالات الادراك الحسي البصري، وادراك الكلمات والحروف ، والجمل وعليها ان تعرف على وجة الدقة ما . هي العلاقات بين الادراك الحسي والكلي ،) (الفعاليات الادراكية ، كما عليها ان تعرف طريعة قوانين الوظيفة الرمزية ، وكذلك العلاقات بين ادراك الكلمة والرزمية ان المثال المضروب انفا لا يعتبر متميزا بحال من الاحوال اذ ان اية طريقة تعليمية او اي برنامج للتعليم، فيما لو حللت البيداجوجيا التجريبية تطبيقاتها ، ونتائجها ، فانها ستثير بذلك مشكلات تتصل بسيكولوجية النمو ، وسيكولوجية التعلم ، وعلم النفس العام الخاص بالذكاء . وبالتالي ، فان اي تقدم يتم في ميدان البيداجوجيا التجريبية فيما لو احتسبت علما مستقلا من حيث موضوعها ، يجب ربطها بالضرورة شأن جميع العلوم الأخرى ، ببحوث متكاملة متداخلة ، اذا اريد لها أن تكون علما حقيقيا يركن اليه للاستشارة ،

وباختصار ، يجب ان تكون علما تفسيريا وليس مجرد علم وصفي . وهذه بعد ، حقيقة قد تفهمتها واستوعبتها معظم مراكز البحوث التي تتولى بحث هذا العلم الناشيء ، وان ما ذكرته لحد الان لا يعدو في الواقع كونه استهلالا لما اصبح في الاعوام الاخيرة حقيقة مقبولة بوجه عام .

الصفحة 37



الفصل الثاني: تقدم سيكولوجية الطفولة والمراهقة

   توطئة: 

يتضمن المجلد الخامس عشر من دائرة المعارف الفرنسية فصلا كتبته منذ اكثر من ثلاثين عاما خلت حول ما يجب ان يقدمه علم نفس الطفل الى المربي . مقارنة لتلك الصفحات بما اسهم فيه (ه. والان) من مقالة في المجلد الثامن ، خصها بعنوان (الحياة العقلية)نجد ان (ل . فيفريه) يرى هناك تباينا بين الرأيين ، لكنه تباين في صالح التربية . فبينما يصر (والان) على دمج الاطفال تدريجيا بالحياة الاجتماعية التي ينظمها الكبار، فأني من جهتي اؤكد على استقلال الجوانب التلقائية والنسبية لتطور التكوين العقلي عند الاطفال. 


ومع ان ما يتبعه (والان) وما أتبعه انا من منهجية في علم النفس قد اصبحا متكاملين بدلا من ان يكونا متعارضين ، ذلك ان تحليله للفكر يوضع قبل كل شيء الجوانب المجازية المعنوية في حين ان تحليلي له (الفكر) يؤكد الجوانب الاجرائية ، فأن المشكلة التي اثارها فيفريه لم تتضاءل بعد في الوقت الحاضر ، وان كانت تبرز اليوم في اطر قد تم تحويرها في ضوء حقائق كثيرة تم اكتشافها منذ ذلك الوقت .


فهذه المشكلة ، وهي بصورة او اخرى ، تبدو اساسية بقدر ما يتعلق الامر بطرائق التعليم فهي تتجلى من الناحية العملية في الاطرالتالية : هناك بعض الموضوعات كالتاريخ الفرنسي او التهجئة ، وهي موضوعات طور محتوياتها او ابتدعها ، الكبار فأن نقلها وتوصيلها الى المتعلم لا يثير مشكلات تذكر غير تلك المشكلات التي تتعلق بمسألة افضل او اسوأ اساليب المعرفة . ثمة من الجهة الاخرى ، فروع اخرى من فروع التعلم تتصف بخصائص من ضروب الحقيقة لا تعتمد من بعيد او قريب على اية احداث خاصة ناجمة عن قرارات فردية ، لكن عند اجراء البحث والاكتشاف خلال


الصفحة 41


مسراها في سبيل العلم نجد ان ذكاء الانسان يوكد وجودها ويؤيد خصائص شمولها واستقلالها الذاتي . فالحقيقة الرياضية مثلا ، لا تعتمد على احكام مجتمع الكبار وانما تعتمد على تكوين عقلاني الوصول اليه ميسور لكل ذكاء سليم . وان حقيقة في الفيزياء يتم التحقق منها بعملية تجريبية لا تعتمد ايضا على الآراء الجمعد وانما تتوقف على المنحى العقلاني ، بشطريه الاستنباطي والاستقرائي ، وهو كذلك قريب المنال من الذكاء السليم نفسه .


فالمشكلة ، اذن ، هي حينما تكون هناك حقائق من هذا الضرب ، فأن ما يجب اتخاذه من قرار هو هل يكون من الافضل اكتسابها بالطرائق التربوية عن طريق النقل والتوصيل كما يتبع عادة في نقل معرفة من الدرجة الاولى بصورة لا تخلو من النجاح ، او ان الحقيقة لا يتم تمثلها حقا كحقيقة الا في اعادة تكوينها واكتشافها بواسطة نشاط على جانب من الكفاءة تمكن من تلك المهمة .


تلك هي المشكلة الاصيلة في التربية المعاصرة منذ عام 1935، وهي باقية كذلك اليوم . اذا شينا ، وذلك تصديا لما يجبهنا من حاجات متزايدة ، ان نعد افرادا يتمتعون بفكر مبدع يستطيعون مساعدة مجتمع الغد ليحقق ما يصبو اليه من تقدم ، فمن الواضح اذن انه لا معدى عن تربية تعد بحق اكتشافا فعالا للواقع تشاو تربية تقدم للناشئين فقط ارادات جاهزة ليأخذوا بها وتزودهم بحقائق مهيأة ليعرفوا بها . فحتى لو ان المرء شرع بأعداد اذهان امتثالية تلتزم بما يقدم لها من حقائق ، فأن السؤال مازال قائما ، سؤال يتعلق فيما اذا كان نقل الحقائق المهيأة عن طريق عمليات التكرار البسيط يكون اكفأ ام انه يتحقق على نحو افضل بواسطة النشاط القائم على التمثل المكتسب بواسطة الجهد الذاتي .


وانه في الواقع جوابا على هذه الحقيقة ، فأن علم نفس الطفل ، بما بلغه من تطور عام 1935 ، لهو الان قادر على تقديم الاجابة لها،


الصفحة 42


وان لم يكن متقصدا التوفر على حلها من قبل . وان لهذا الجواب تأثيرا على ثلاثة جوانب بصورة خاصة ، والجوانب الثلاثة هذه كافة ذات اهمية بالغة بالنسبة لما يتعلق باختبار الطرائق التعليمية بل وحتى بالنسبة لما يتصل باعداد البرامج التربوية ومنها : الذكاء او المعرفة ، ودور الخبرة في تكوين الافكار ، ومكنية الاتصال الاجتماعي او اللغوي بين الكبير والصغير .


تكوين الذكاء والطبعية الفعالة للمعرفة


في مقالة كتبها مؤخرا (ر .م. هتشنز) لدائرة المعارف البريطانية، اكد فيها ان الهدف الرئيسي في التربية هو تطوير الذكاء ، وفوق هذا كله اتباع كيفية تطويره ، (طالما هو قابل للتقدم اكثر) وهو بطبيعة الحال يستمر في النمو حتى بعد سن ترك المدرسة . وسواء كانت الغايات المنوطة بالتربية ، علانية او استتارا ، تنطوي على اتباع الفرد للمجتمع كما هو ام ان عليه ان يعمل على تطويره الى ما هو افضل ، فأن كل فرد سيقبل صيغة هتشنز بلا شك . ولكن من الواضح جدا ان هذه الصيغة لا تعني شيئا كثيرا مالم يكن المرء دقيقا فيما يعنيه بالذكاء ، ذلك ، لانه وان كان المعنى العام لا يتفاوت كثيرا حول هذا الموضوع ، غير ان اراء النظرتين تتباين كثيرا مما يؤثر على الاشكال المتبانية في التربية . فلا مناص اذن من الرجوع الى الحقائق لمعرفة ما هية الذكاء ، ولا سبيل للتجارب النفسية الى الاجابة على هذه المسألة اكثر من وصفه تبعا لاساليب تكوينه ونموه.


على انه لحسن الحظ ان يكون في هذا المجال بالذات ان يتيح لنا علم فس الطفل احدث النتائج منذ عام ١٩٣٥ 


ان الوظائف الجوهرية للذكاء تنطوي على الفهم والابداع ، وهي تتألف بعبارة أخرى من بناء تكوينات عن طريق بناء الواقع . فيبدو


الصفحة 43


واضحا في الواقع باستطراد ان هاتين الوظيفتين متلازمتين ، طالما انه لكي نفهم ظاهرة او حدثا ، فعلينا اذن ان نعيد تكوين التحولات وما ينشأ عنها ، وطالما انه كذلك لكي نعيد تكوينها فانه يلزمنا ان نهي تكوينا لهذه التحولات التي تفترض مقدما ان هناك عنصر ابداع او تكرارا لابداع . فبينما نجد نظريات الذكاء القديمة تؤكد على الفهم واعتبرت الابداع مجرد اكتشاف لحقائق قائمة من قبل ، فأن النظريات الحديثة من الناحية الاخرى ، مدعمة بالحقائق المبرهنة ، تجعل الفهم تابعا للابداع ، معتبرة الاخير تعبيرا عن عملية تكوين مستمرة ، عملية تنطوي على بناء كليات متكاملة .ان مشكلة الذكاء ، ومعها المشكلة المركزية الخاصة بالتربية والتعليم ، قد برزت مصحوبة بمشكلة الاشتقاق الاساسية المتعلقة طبيعة المعرفة : والسؤال هو : هل المشكلة الاخيرة هذه تؤلف نسخة من الواقع ، او انها على العكس من ذلك ، انها تمثل للواقع مندمجا بتكوين من التحولات ، ان الافكار الكامنة وراء مفهوم نسخ المعرفة لم يجانبها كل فرد ، فهي افكار لما تزل بعد مصدر الهام لكثير من الطرائق التربوية ، بل هي في الغالب ، مصدر الهام حتى لتلك الطرائق الابداعية التي يلعب فيها التصور والتطبيقات الخاصة بوسائل الايضاح دورا يراه كثير من الناس غاية الانتصار الذي بلغه التقدم التربوي . ففي علم نفس الطفل لا يزال هناك كثير من الباحثين يعتقدون بأن تكوين الذكاء يخضع لقوانين (التعلم) تبعا نظريات التعلم التي يأخذ بها الانجلو - سكسونيون كما يمثلهم (هل) : وملخصها هو استجابات الكائن الحي الى المنبهات الخارجية ، وتثبيت تلك الاستجابات المتكررة بالتعزيزات او التدعيمات الخارجية ، وتكوين سلسلة من الارتباطات او (سلم من العادات) التي تنتج عنها (نسخة وظيفية) من المتواليات المنتظمة تمثل الواقع ..


الصفحة 44


لكن الحقيقة التي تناهض مخلفات الخبرة الارتباطية هذه ، وقد قلبت مفاهيمها عن الذكاء ، تذهب الى ان المعرفة انما تستمد من النشاط ، ليس بمعنى مجرد استجابات ارتباطية انما بمفهومها العميق القائم على تمثل الواقع وتحويله الى تنسيق ضروري وعام منعكسا في صورة نشاط . اذ ان معرفة الشيء تعني العمل به ونقله وتطويره ، لكي يتاح معها استيعاب مكنيات ذلك التحول كما تتجلى مظاهر وظائف هذه الكنيات من خلال علاقتها بالنشاطات التحويلية هذه . فالمعرفة اذن معناها تمثل الواقع واحالته الى تكوينات من التحول والانتقال ، وهذه التكوينات هي ما يكون نها الذكاء امتدادا مباشرا لنشاطنا .ان الحقيقة الذاهبة الى ان الذكاء يتأتى من النشاط ، وهو تفسير يطابق ما كان عليه علم النفس في الاقطار التي تتكلم الفرنسية من تقليد خلال العقود القليلة الماضية ، يفضي بنا الى النتيجة الاساسية التالية : الذكاء ، حتى في اعلى مظاهره عندما يتسنى له الاستطراد منتفعا في هذا من وسائل الفكر ، فأنه يتجلى في التنفيذ وفي التنسيق ، وان كان هذا يتم على صورة تبطن وانعكاس . فالنشاطات التي يتم تبطنها فأنها لا تعدو كونها عمليات ، رياضية او منطقية ، فهي محركات الحكم العقلي او الاستدلال باكمله . لكن العمليات هذه ليست كأية نشاطات مستبطنة ، وانما هي قبلا وكونها تعبيرا عن تناسق عام من النشاط ، تعكس سمة مزدوجة : في كونها تعاكسية (كعمليتي الجمع والطرح) وكونها تناسقية يتمثل فيها توحيد التكوينات الجزئية في تكوينات كلية اكبر (كما في توالي الاعداد لتكون ارقاما كلية)، فمن هذا ينجم ان الذكاء، في جميع مستوياته، انما هو تمثل الحقائق واحالتها الى تركيبات تحولية ، ابتداء من تكوينات النشاطات الاولية الى اعلى التكوينات الاجرائية . يلي ذلك ان البنيويات هذه تستحيل الى نظام من الواقع، سواء كان واقعا


الصفحة 45


عمليا ام فكريا ، وليس مجرد نسخة منه .


نمو العمليات العقلية:


انه لتطور مضطرد ابتداء من المرحلة الحسية - الحركية بشكلها الاولي وانتهاء بمرحلة العمليات العقلية الموغلة في التجريد ، هذا هو ما حاول علم نفس الطفل ان يعكف عليه خلال الثلاثين عاما الماضية ، وان ما تم الظفر به من حقائق في اقطار مختلفة ، وما هي عليه من تفسيرات متطابقة تتيح اليوم للمربين الذين يرغبون في تطبيقها عددا كافيا من العناصر المرجعية المستمرة .


- فأصل عملياتنا العقلية يمكن تقصيها اذن بدء من اول مرحلة من مراحل التطور المتصف بخصائص النشاط الحسحركي (١) والذكاء .


فهذا الذكاء العملي الخالص يبدأ في مراحله الاولى على صورة ادراكات وحركات بوصفها وسائله الوحيدة قبل ان يتسنى له التمثيل او التفكير ، فأنه يعبر عن كنه دلالته ابان سنوات وجوده الاولى ، وهو يحاول جادها فهم موقفه وموقعه من الحياة . فهو يحقق لنفسه من غير شك نظاما من النشاط تؤدي الى تكوينات ثانوية تخدم التكوينات الاجرائية والقصدية التي تنمو اخيرا . ففي هذا المستوى مثلا بوسعنا ان نلاحظ مباشرة تكوينا من نظام اساسي للاستمرار وهو يمثل انجازا تنعكس فيه الاشياء المجسمة الملموسة، وهذه تتجلى في حركات الطفل في هذا العمر ، ويمكن مشاهدتها من خلال زجاج ينفذ النظر فيه من جهة واحدة ، والاظفال داخله بعيدين عن مجال الادراك . ويقترن بما تقدم ، هو انه بمقدورنا ملاحظة تكوين البيانات ذات الخصائص التعاكسية كنظام تغيير الاماكن والمواقع ضمن (تجميع) يتصف بأمكانية اجراء حركات فيه تأخذ اشكالا شتى مثل التقديم والتأخير والتدوير .وباستطاعتنا ملاحظة تكوين علاقات سببية ، ترتبط اول الامر


الصفحة 46


بالنشاط مباشرة ثم تحول بأستطراد الى اشياء موضوعية ومكانية من خلال ارتباطها ببنية الشيء ، والمكان والزمان . واحدى الحقائق التي يمكن الاستعانة بها للتحقق من اهمية المكنية الحسحركية هذه في تكوين العمليات العقلية المقبلة ، هي يلاحظ على الاطفال الذين يولدون عميا منذ البداية ، وهذا ما عرفتاه من بحوث (ي .هتويل) ، اذا ان عدم الكفاءة في النظام الاولي للادراك البصري عند هؤلاء الاطفال يؤدي الى تأخر في النمو يقدر بثلاثة او اربعة اعوام او اكثر في تكوين اكثر العمليات العامة ، ويستمر ذلك حتى مرحلة المراهقة ، في حين ان الاطفال الذين يصابون بالعمي فيما بعد يعانون من هذا التأخير ولكن بدرجة اقل .


وفي حوالي الثانية من العمر ، تبدأ فترة ثانية تمتد حتى السابعة ١ الثامنة ، وان مستهل الفترة الثانية هذه يتميز بتكوين الوظيفة الرمزية . وهذه تمكننا من تمثيل الاشياء او الاحداث التي لا تكون موجودة في مجال الادراك واستحضارها على شكل رموز او علامات . وان اللعب الرمزي عند الطفل هو مثال حي على هذه العملية كما هي الحال كذلك بالنسبة الى التقليد المرجأ ، والصورة العقلية ، والرسم ، واللغة قبل كل شيء . وبهذا فأن الوظيفة الرمزية تمكن الذكاء الحسحركي من ان يتسع نطاقه بواسطة الفكر ، ولكن يوجود ، من الجهة الاخرى ، ظرفان يؤخران تكوين العملية العقلية كما يجب ان تكون عليه ، بحيث ان الفكر القائم ، على الذكاء يبقى طيلة الفترة الثانية هذه مجرد فكر سابق للتفكير الاجرائي .


واولى هذه الظروف هو الزمن المستغرق في تبطن النشاطات على صورة فكر ، طالما انه من الصعوبة ان يتبين المرء طبيعة النشاط ونتائجه ، اي ان يتبنيها على صورة فكر اكثر مما يقيد نفسه بتنفيذ مادي وبأجراء مادي يتعلق بذلك النشاط ، فمثلا لان نتصور بالفكر مربعا يدور في الوقت الذي يمثل المرء لنفسه وضع كل تسعين درجة


الصفحة 47


[زاوية قائمة] تتخذها الجوانب الملونة المتفاوتة ، فأن المسألة في هذه الحالة تختلف تماما عن تدوير المربع بصورة حقيقية ومن ثم ستبانة النتائج المترتبة على ذلك . فتبطن النشاط على هذا الاساس يفترض اعادة تكوينها على مستوى جديد ، ولعل اعادة التكوين هذه تمر بنفس المراحل التي مر بها تكوين النشاط نفسه ، ولكن الوقت المستغرق في هذه الحالة يكون ابطأ .


وثانية تلك الظروف هي ان اعادة التكوين تفترض عملية ابتعاد مستمرة عن النزعة المركزية ، وتتسم هذه النزعة بتكوين اشمل في مجالها على المستوى الحسحركي . فخلال العامين الاولين من اعوام تطوره (المرحلة الحسحركية) يكون الطفل قد بدأ ما تسمى بالثورة الكوبرنيكية (١) ولكن بشكل مصغر ، اذ يكون قد شرع بأسترجاع جميع الاشياء الى نفسه فيكون قد انتهى في هذه الفترة عهد كان يعتبر فيه كل شيء قائم على السببية والشمول الزماني والمكاني ، فلم يعد جسمه مجرد شيء بين اشياء جمة ، وكأن كل شيء قائم على شبكة هائلة من العلاقات وراء مجال جسمه هو . وهذا يصدق ايضا علد شبكة هائلة من العلاقات وراء التكوينات الفكرية بالنسبة اليه ، ولكن على نطاق اوسع وتضاف الى هذا صعوبة اخرى : اذ يلزم الطفل ان يضع نفسه ليس فقط في مجال العلاقة الكلية للاشياء وانما عليه كذلك ان يحدد ذاته بالنسبة الى العلاقة الكلية بالنسبة للاشخاص المحيطين به ، وهذا يستلزم من جانبه عملية النأي عن النزعة المركزية الذاتية متزامنة علاقيا واجتماعيا ، وهذا اذن انتقال من المركزية النفسية الذاتية والتحول الى ذينك الضربين من ضروب التوافق وهما مصدرا التعاكسية الاجرائية .


فالطفل خلال الفترة الثانية هذه ، وهو يفتقر الى العمليات العقلية ، ليس بمقدوره ان يفلح في تكوين ابسط الافكار الاولية عن طبيعة الثبات والاستمرار ! وهي الافكار التي تعتبر من شروط


الصفحة 48


الاستقرائية المنطقية . لذا فأنه عندما يرى امامه عشرة صناديق مرتبة في صف واحد ، تصبح عنده اكثر عددا عندما تتباعد المسافات بينها ، وان مجموعة الاشياء تتألف من صفين اكثر بالنسبة اليه من جمعها في صورة كل مجتمع ، وان الخط المستقيم عنده يكون اكبر مسافة عندما يجزأ الى القسمين . فالمسافة بين (أ)


و(ب) ليست بالضرورة هي نفس المسافة (وخاصة اذا كان هناك انحناء) ، وان كمية السائل في القدح (أ) يراها اكثر عندما تفرغ في القدح (ب) الضيق ....الخ .


وفي حوالي السابعة او الثامنة من حياة الطفل تبدأ فترة ثالثة تحل خلالها بسهولة اكثر من هذه المشكلات وسواها كثير نظرا لما يطرأ على التبطن من نمو ومن توافق ، وعمليات تنحي عن النزعة المركزية ، وبهذه كلها تنتهي بذلك التكوين العام من التوازن الذي يأتي نتيجة للتعاكسية الاجرائية . وبعبارة اخرى ، فأننا نكون بصدد ملاحظة عمليات واجراءات عقلية تتألف من ربط وتوحيد بين اصناف مختلفة ، وهذه هي مصادر التبويب والتنسيق ، كما نكون بصدد الربط بين علاقات مثل (أ) أكبر من (ب)و (ج) أكبر من (ح) ... وتؤلف مصدر التسلسل ، وكذلك المتماثلات ، وتؤلف مصادر جداول الاعمدة المزدوجة ، في الحساب ، ونكون كذلك بصدد تركيب مجاميع على صورة اصناف ونظام عددي تتمخض عنه اعداد ، يضاف الى هذا الاقسام المكانية والابدال المكاني المنظم ، المؤدي الى التوليف بينها ، وهي عملية قياس . لكن العمليات الاولية الكثيرة هذه لا تزال محدودة ولا تشمل الا مجالا محددا. فهي من جهة مطبقة فقط على الاشياء الموضوعية، فهي ليست مطبقة في فرضيات مصاغة صياغة لفظية على صورة مقدمات (ومن هنا جاءت عدم جدوى اتباع اسلوب المحاضرة الى تلاميذ المدارس الابتدائية فأقتضت الضرورة استخدام طرائق تعليمية محسوسة) . وهي من


الصفحة 49


الجهة الاخرى ، مازالت مندمجة اذ يتم الانتقال فيها من شيء معين الى شيء اخر يليه ، على العكس مما ، سيأتي فيما بعد من عمليات جتمعة ومتداخلة ، وهي عمليات على درجة كبيرة من المرونة . لا يخلو هذان الحدان من شيء من شيء من الفائدة وهما يوضحان كيف ان هذه العمليات الاولية التي نسميها (محسوسة) لاتزال وثيقة الصلة بالنشاط الذي تنشأ عنه ، ولما كانت العلاقات ، والارتباطات والتسلسلات ، والمتشابهات ، يتم انجازها على صورة نشاطات فيزيقية محسوسة فأنها تبرز في الوقت ذاته هاتيبن الخاصتين بشكل فعال .


واخيرا في الحادية عشرة او الثانية عشرة من العمر تبدأ ثمة مرحلة رابعة ونهائية تتوافق هضبة توازنها مع حلول فترة المراهقة . تتصف هذه الفترة عامة بخصائص استهلال صفة جديدة من الاستدلال ، وهي فترة لا تكون مرتبطة تماما بمعالجة المحسوسات او تمثيل الواقع بشكل مباشر ، لكنها تكون فترة متسعة بالركون الى استخدام (الفرضيات) ، وبعبارة اخرى تلجأ الى استخدام المقدمات التي يمكن ان تستمد منها الخلاصات النطقية ، دونما حاجة الى الرهنة على صحتها او خطئها ، قبل تمحيص نتائج تطبيقاتها . لذا فأننا نتبين هنا بداية تكوين عمليات عقلية اجرائية جديدة نصطلح على تسميتها بأنها (مقدمات) وهذه تكون مضافة الى ما كان هناك من عمليات محسوسة ، ومن تطبيقاتها مثلا (اذا...اذن) ، و(اما ... واما) ، استخدام المتعارضات ، واستعمال حروف العطف .. الخ . وان العمليات هذه تسستتلى خاصيتين جديتين اساسيتين اولاهما ، انها تتطلب عملية مركبة ، تختلف عن التجميع في اصناف وعلى صورة علاقات على اساس المستوى السابق ، والعملية المركبة هذه تطبق منذ البداية على العوامل الموضوعية والفيزيقية كما تطبق على الافكار والمقدمات .، ثانية تينك


الصفحة 50


الخاصيتين ، هي ان كل عملية علاقية تتصل بما هو مختلف وبما هو مشترك بحيث ان هذين الجانبين من جوانب التعاكسية ، والذين كانا منفصلين لحد الان ، يصبحان منذ الان متحدين ليكونا نظاما كليا يتخذ شكل مجموعة مؤلفة من اربعة تحولات رئيسية .


الجوانب المجازية والعملية للمعرفة

:


ان التطور التلقائي للذكاء ، تطورا يبدا بالنشاط الحس حركي الاولي مرورا بالنشاط الحسي وانتهاء بالعمليات الشكلية المعنوية ، يتسم بترسيخ اتساق مستمر من نظم التحولات او التبدلات .وسنطلق على هذا الجانب من المعرفة اسم الجانب (الإجرائي)وهذا المصطلح يشمل النشاطات الاولية كما ينطوي على التكوينات الاجرائية . لكن الحقائق التي تجدر معرفتها لا تتألف فقط من (التحولات) بل تضاف اليها ايضا ما يسمى ب (الحالات)


طالما ان كل تحول يتأصل اساسا في حالة معينة ليكتسب حالة اخرى ، وطالما ان كل حالة تكون نتيجة للتحولات او تولف نقطة انطلاق لها . ونقصد ب (المجازية) ادوات المعرفة التي تتناول بالمعالجة الحالات او الجوانب التي تترجم الحركات والتحولات الى متواليات بسيطة من الحالات : ومن هذه ، مثلا ، الادراك الحسي ، وكذلك التقليد ، والمحاكات التبطنية التي تتأتى عن طريق التصور العقلي.


فهذه موضوعات قد اتاح فيها علم نفس الطفل حقائق جديدة منذ عام 1935، وهي حقائق يحتمل ان تكون موضع اهتمام المربي . وان التربية الحسية قد استأثرت في الواقع بأهتمام كبير لنذ اقدم الاوقات ، وحاول فروبيل ان يطبقها في مستويات ما قبل المدرسة . فمن حيث الفترات الزمنية ، راح الباحثون يؤكدون على الطرائق (الحسية) ، ويتفق احيانا ان بعض المربين المهتمين بهذا الجانب يتصورون الفائدة الاساسية من الطرائق العملية هي ان


الصفحة 51


تحل الطرائق الحسية محل الطرائق المجردة ، بل لقد ظنوا انهم بلغوا اوج التقدم التربوي عن طريق دعم المجازات الحدسية على نحو لم تعد بحاجة الى الناحية العملية . وسيكون من المجدي تربويا ان نتبين كيف تنظر البحوث النفسية الحديثة الى العلاقات بين جوانب الفكر الجازية والاجرائية .


وبقدر ما يتصل الموضوع بالادراك الحسي ، فمن الصعوبة البالغة ، بادى ذي بدء ، الاعتقاد اليوم كما كنا نخال في الماضي ، بأن تكون الاراء والعمليات العقلية تستمد من الادراك الحسي بواسطة التجريدات والتعميمات البسيطة . لا ريب في ان (ميشوت) كان قد حاول عام 1954 ، ان يثبت بأن فكرة (السبب) مرتبطة في (الادراك الحسي للسببية) ، واننا لنجد في الحقيقة هذا النوع من الادراك حتى عند الطفل الصغير . ولكن تسنى لنا ان نوضح بأن السببية الحسحركية لا تنبع من السببية الادراكية ، بل على العكس، ان السببية الادراكية البصرية ترتكز على سببية لمسية -حركية وهذه الاخيرة نفسها تعتمد على النشاط ككل ولا تعتمد تماما على عوامل ادراكية . ويترتب على هذا ان السببية الاجرائية لها جذورها الراسخة في السببية الحسحركية ، وليس في السببية الادراكية ، ذلك لان هذه الاخيرة هي نفسها تعتمد على السببية الحسحركية في جوانبها الحركية والادراكية. والمثال هذا يوضح امثلة اخرى كثيرة. فحينما يسود الاعتقاد بأن فكرة معينة تستمد من ادراك حسي محدد ، دون ان تكون هناك اية عملية متداخلة بينهما ، فأن النشاط نفسه يتم نسيانه في كل حالة ويتضح فيما بعد ان النشاط الحسحركي يكون الاساس العام المشترك للافكار والادراكات المتلازمة . وهذه حقيقة عامة واساسية لا ينبغي للتربية اغفالها .اما عن التمثيل بواسطة الصور العقلية ، فأن الحقائق التي درست


الصفحة 52


تدلل باستمرار كذلك على ان الجوانب المجازية والمعنوية من الفكر تتبع الجوانب الاجرائية . فعند تتبع تطور الصور العقلية عند الطفل نلاحظ ، في الواقع ، في حالة الصور العقلية في المرحلة السابقة للمرحلة الاجرائية ، تبقى الصورة العقلية ثابتة استاتيكية على نحو مدهش مقتصرة على تكرار لما يلاحظه الطفل نظرا الى عدم قدرته على التوقع او استباق الحركات او نتائج التحولات . فالطفل البالغ من العمر اربع او ست سنوات ، مثلا ، يمكنه ان يتصور تحول سلك مقوس الى سلك مستقيم عن طريق مد سلك مقعر فيحوله الى خط مستقيم مساو لما طلب منه تصوره ، ويتصوره علئ شكل انتقال او تحول سريع ، طلب منه تصوره ، ويتم تصوره هذا علد شكل انتقال او تحول مفاجئ ، لعدم تمكنه من تصور الحالات الوسيطة المتتالية . انه فقط بتأثير من العمليات المجسمة المحسوسة ، وبحدث فيما بين السابعة والثامنة وما بعدهما ، ان تصبح الصورة عنده استباقية واكثر مرونة في ان واحد . لذا فأن تطور الصور العقلية لا يخضع لقوانين مستقلة لكنه يفترض تدخل عوامل خارجية ، عوامل اجرائية في طبيعتها . وحتى في مجال استرجاع الصور وفي التذكر يمكن ان نتبين مقدار ما يمكن ان يكون عليه التكوين البنيوي وحتى ضروب الثبات والاستمرار في الذاكرة من ترابط واتصال بمنظومات


النشاط والاجراء : فاذا ما قارنا ، مثلا ، ذاكرات تميز مجموعة من الاطفال بوسعهم حفظ اشكال مجاميع من المكعبات ، تبعا لما يمكن ان تكون عليه النظرة الى مجاميع المكعبات هذه اذا كانت (أ) تمت مشاهدتها او تم ادراكها، (ب) او تم تركيبها من اجنب الطفل نفسه، او (ج) تم تركيبها من اجنب شخص كبير والطفل يراقب ذلك ، فأننا نجد ان الذاكرات الناجمة عن الحالة (ب) تكون متفوقة بوضوح . وان ما يجريه الكبير في (ج) لا يأتي بنتائج تفضل مجرد الادراك في (أ) ، وهذا يوضح تارة اخرى بأن اجراء تجارب امام


الصفحة 53


الطفل بدلا من جعل الطفل يجرب بنفسه ، يؤدي الى ضياع القيمة المعرفية والتكوينية المتوخاة من النشاط .


نضج الذكاء وممارسته

:


ان تطور الذكاء ، كما يبزغ من خلال البحوث الموصوفة آنفات ، انما يتوقف على عمليات طبيعية او تلقائية ، يمكن اهتبالها وتسريعها عن طريق التربية البيتية او في المدرسة ، لكنها لا تستمد اساسها من تلك التربية ، وانما هي ، على العكس ، تؤلف شرطا تمهيديا وضروريا كفاءة اي ضرب من ضروب التعليم . والتلقائية في الذكاء هذه التي يتسم بها تطور القدرة الاجرائية قد برهنت على صحتها الدراسات المقارنة التي اجريت في اقطار مختلفة .


لذا فأنه يمكن اعتبار العمليات العقلية التي تكون التعبير عن توافقات عصبونية تتطور على شكل وظيفة تعكس النضج العضوي .


ولما كان نضج الجهاز العصبي لا يكتمل قبل السنة الخامسة عشرة او ا السادسة عشرة من العمر ، فيبدو واضحا اذن انه يقوم بدور بارز في بناء التكوينات العقلية ، حتى وان لم يكن يعرف عن ذلك الدور الا قليل .


فالحقيقة القائلة ان ظرفا معينا يعد ضروريا للنضج ، هذا لا يعني ان هذا الظرف وحده كاف ، وانه من الميسور تبيان ان نضج الكائن العضوي لا يعتبر العامل الوحيد في تطور القدرة الإجرائية : فنضج الجهاز العصبي ، مثلا لا يقوم بأكثر من فسح المجال امام امكانيات كانت مستبعدة حتى يبلغ الفرد مستويات من العمر معينة ، ولكنه يبقى فعالا في تحقيقها ، وهذا يستلزم ظروفا اخرى ، اكثرها ضرورة هو ممارسة الذكاء عن طريق النشاط . ان البرهان على ما للنضج الطبيعي والجسمي من صفة محدودة ، هو ، وان كانت المراحل التي وصفناها تتبابع بنفس النظام المذكور ،


الصفحة 54


وهذا يصدق ايضا على مراحلها الفرعية ، وهو برهان كاف على الخصائص الطبيعية والتلقائية لتطورها المتسلسل المتوالي. ، فالبرهان هو ان المراحل هذه لا ترتبط ، من الجهة الاخرى ، بعمر مطلق معين ، بل الامر على العكس من ذلك ، وهو ان التسريع او التأخير انما تتم ملاحظتها وتبدو تبعا لما هناك من اختلافات في البيئة الاجتماعية وفي الخبرة المكتبة . فقد تبين النفسانيون الكنديون ، الباحثون في (مارتنيك) مستخدمين اختباراتي الاجرائية ، تبينوا تأخرا زمنيا في هذا الجانب يمتد الى حوالي اربع سنوات ، وقد اكتشفوا هذا عند الاطفال الذين تتماثل برامجهم مع تلك المطبقة في فرنسا .


عوامل الخبرة المكتسبة :


كان هناك تأكيد مضطرد خلال الاعوام القليلة الماضية على نقطة اشعر انها لا يمكن تأكيدها اكثر مما يجب وهي انه يوجد ثمة نقص اساسي في طرائقنا التعليمية ، واغلب هذا يتجلى في مدينة شديدة الاعتماد على العلوم التجريبية ، ومع هذا فهي لا تتواني عن اظهار عدم الاهتمام بتطوير الاتجاه التجريبي في عقول طلابنا . فليست المسألة اذن مسألة قلة اهتمام تربوي عندما نهتم اليوم بتمحيص ما استطاع علم نفس الطفل ان يتيحه لنا في الاعوام الاخيرة عن دور الخبرة المكتسبة في تطور الذكاء وعما اتاحه بشأن التجريب التلقائي .


فأما ما يتصل بالنقطة الاولى ، فأننا نعرف اليوم ان الخبرة ضرورية لازمة لتطور الذكاء لكنها ليست بكافية في حد ذاتها ، وانها تطرأ في صورتين مختلفتين اخفقت الخبرة ، الكلاسيكية ان تميز بينهما :


وهاتان الصورتان هما الخبرة الفيزيقية والخبرة المنطقية الرياضية.


الصفحة 55


وتتألف الخبرة الفيزيقية مما يطرأ على الاشياء من نشاط وما يقع عليها من تأثير وما يتم اكتشافه من خصائص الاشياء عن طريق التجريد المستخلص من تلك الاشياء . ومثل على ذلك ، وزن الاشياء ومن ثم التوصل الى ان اثقلها ليس هو دائما اكبرها حجما .


والخبرة المنطقية - الرياضية هي الاخرى نتيجة ما يقع على الاشياء من نشاط ، لكن عمليات التجريد التي تكتشف بها خصائص تلك الاشياء لا تكون مسلطة على الاشياء كما هي ، وانما تكون مسلطة على النشاطات التي تؤثر في الاشياء: ومثال على هذا، وضع عدد من الحصي في صف واحد واكتشاف ان عددها لم يتغير سواء حركتاها من اليمين الى اليسار او بالعكس (او سواء وضعناها على شكل دائرة) ، ففي هذه الحالة لا الترتيب نفسه ولا المقدار العددي يعتبران من خصائص الحصى سواء قبل صفها او قبل عدها ، ولذا فأن اكتشاف المقدار بأنه مستقل عن الترتيب ينطوي على التجريد المستمد من الملاحظة المبنية على النشاط المتضمن للعد والترتيب ، حتى وان كانت القراءة للعدد في التجربة متركزة على الاشياء نفسها ، طالما ان خصائص المقدار والترتيب تلك قد اضيفت الى تلك الاشياء بواسطة النشاط الواقع عليها .


اما عن التجربة الفيزيقية ، فأنها تبقى مبسطة نوعا ما لفترة طويلة في الذهن، شأن ما كان يحدث في الحقيقة في القرن السابع عشر في تاريخ المدنية الغ بية ، فالتجربة الفيزيقية بالنسبة الى الطفل تتألف اول الامر فقط من تصنيف الاشياء ووضعها على صورة علاقات او ضمها في متماثلات بعضها الى بعض وذلك بواسطة عمليات ملموسة ، وان كان يجري هذا كله دونما فصل منتظم عن الوعامل المتداخلة فهذه الطريقة المباشرة في التعامل مع الواقع، وهي اقرب ما تكون الى التجربة المباشرة منها الى التجريب الحقيقي، فأنها تكفي لان تفضي بالمجرب الى اكتشاف علاقات سببية


الصفحة 56


معينة : ومثال على هذا ، نجد الطفل وهو في حوالي السابعة الو الثامنة من العمر يعالج عمليات الجمع ويدرك ما بشأنها من افكار خاصة بالثبات ، كما يبدأ يفهم ان السكر المذاب في قدح من الماء لا يتلاشى ، كما كان يظن قبلا ، وانما هو محفوظ على صورة ذرات ودقائق لا ترى ، وان مقدارها مساوكمية مكعبات السكر المغمورة. 


ولكن في اغلب الحالات نجد العمليات المحسوسة غير كافية لتحليل هذه الظواهر . اما فيما يخص العمليات المنطقية وما ينشأ عنها من قضايا متجمعة، وهذه تحدث فيما بين الحادية عشر والثانية عشر ، وفيما بين الرابعة عشر والخامسة عشر من العمر نجد لدى الطفل استعدادا للروح التجريبية : اذ نجد الطفل يتحرى فصل العوامل وعزلها عن بعضها ويحاول ادخال تغييرات على كل واحد منها على حدة وذلك بتحييد العوامل الاخرى ، او انه يحاول القيام بعملية تجميع منتظم فيما بينها .


ان مدارسنا ليس لديها في الغالب فكرة عن التطورات الممكنة المترتبة على مثل هذه الاستعدادات ، وستلتفت فيما بعد الى ما يترتب على هذه من مشكلة تربوية اساسية .


الاتصال التربوي والتوازن :


بصرف النظر عن عوامل النضج والتجربة ، فأن اكتساب المعرفة يتوقف بطبيعة الحال على الاتصالات التربوية او الاجتماعية ، وعلى هذه العملية بالذات قصرت المدرسة التقليدية اهتمامها لفترات طويلة . وان علم النفس لا يرغب في ان يهمل الاتصال هذا لكنه يريد ان يكرس نفسه لدراسات ما يؤثر فيه من مسائل كان يظن بأنها مفروعا منها وانها كانت قد حلت : والسؤال الان هل النجاح في الاتصال يتوقف على خصائص يمتلكها الكبير وادراكه لما يريد غرسه وتثبيته في ذهن الصغير ، او انه يتطلب من الاخير وجود وسائل


الصفحة 57


يعكسها التمثل الذي يحول فقدانه دون الادراك والاستيعاب.


وبقدر ما يمت الى النشاط التجريبي من صلة بتطور المعرفة ، فقد أتضح لنا ان العقل لم يكن ، كما كان يظن في الماضي ، صفحة بيضاء تنطبع عليها الارتباطات والانطباعات الجي ( ni)الكائنة في البيئة . ان البحوث الحديثة قد اظهرت العكس ، اذ وضحت ان اكساب حقائق البيئة يتطلب اداة تمثل متضمنة في نشاط الفرد . وان ما يتلقاه الطفل من الابوين والاخرين ومن المعلمين انما يمثل تكوينا معدا من قبل وما عليه الا ان يكتسبه منقولا اليه وموضحا ليتنثله هو بذكائه . وفيما يتصل بالكلام والتعلم اللفظي فاننا نميل الى ان نعتقد بان نقل المعرفة التربوية الى الطفل تزوده بمؤهلات التمثل وتمكنه في نفس الوقت من اكتساب المعرفة التي يتمثلها ، ناسين ان مثل هذه الوسائل لا يمكن اكتسابها الا من خلال النشاط الداخلي الذاتي للفرد ، وان التمثل بأمله ما هو الا اعادة تكوين بنائي وابداعي . وقد كشفت البحوث الحديثة عن امكانية تطبيق ذلك في مجال اللغة نفسها . فالطفل وهو في فترة ما قبل المرحلة الاجرائية بين الخامسة والسادسة من العمر ، ومن خلال ملاحظة لمسطرتين موضوعتين بجانب بعضهما بشكل متواز فأنه يد ك انهما متساويتين في الطول ، ولكنه سيقول ان احداهما اطول من الاخرى فيما لو دفعت واحدة منهما لتكون متعامدة تقريبا مع الاخرى ، ذلك لان كلمة (اطول) انما تفهم (فكريا واشتقاقيا) بمعناها الترتيبي وليس بمعناها القياسي . وكذلك فيما لو عرضت على الطفل سلسلة مثل (أ) أصغر من (ب) و (ج) أصغر من (ح) فأنه ميقول ان (أ) اصغر وان (ج) اكثر ، وان (ب) بينهما ، ولكنه سواجه صعوبة في تقبل فكرة كون (ب) هي في الوقت ذاته اكبر من (أ) واصغر من (ج) لان خصائص (الكبر) و(الصغر) غير متوافقة بالنسبة اليه وبعبارة اخرى فأن اللغة ليست بكافية لنح المنطق وانما


الصفحة 58


هي تفهم فقط عن طريق التمثل المنطقي الذي تمتد جذوره عميقا ، لاعتمادها على التوافق العام للنشاطات او الاجراءات .


ان اهم ما اتاحته بحوث علم نفس الطفل المختلفة للتربية من استخلاصات نافعة خلال الاعوام القليلة الماضية هي تلك المتصلة بطبيعة التطور العقلي . فهذا التطور يعتمد اساسا على نشاط الفرد من جهة ، ومصدر نشاطه الاساسي هذا يستمد من فعالياته الحسحركية امتدادا الى العمليات المتبطنة تماما ، فهو نشاط لا يتجزأ وهو في الوقت نفسه نشاط اجرائي تلقائي . وان النشاط الاجرائي هذا ، من الجهة الاخرى ، ليس بالنشاط الذي يؤدي مرة واحدة ويتوقف ولا هو بالنشاط الذي يفسر على ما تسهم به التجارب الخارجية او عوامل الاتصال الاجتماعية : فهو نتيجة لسلة من التكوينات المتتابعة ، وان العامل الرئيسي في بنية التكوين هذا ما يتحقق من توازن بواسطة التنظيم الذاتي الذي يتيح امكانية علاج ما قد يطرأ من خلل ، ويسمح بحل ما يحصل من مشكلات ، ويتغلب على ازمات او فترات الاختلال ، وذلك بواسطة استحداث تراكيب من صيغ جديدة بوسع المدرسة اغفالها او تشجيعها تبعا لما نطبقه من طرائق . فليست بالممارسة العقيمة اذن ان نستعرض ، قبل تمحيص ما احرزته هذه الطرائق من تطور ، بعض ما حدث في علم نفس الطفل من تطور وهو تطور قد قطع خطوات فسيحة في المجال ، وان لم يكن قد بلغ الشأو بعد بحيث يتسنى له فتح ما هناك من آفاق شاسعة مازلنا بحاجة الى ارتيادها.


الصفحة 59



الفصل الثالث: تطور بعض جوانب التعليم



هناك عدة جوانب من التعليم قد اثارت منذ عام 1935 ، مسألة اعادة النظر ببرامجها وبطرائقها التدريسية ، وقد ادت الى هذا ثلاثة انواع من الاسباب ، متداخلة احيانا ، واحيانا مستقلة بعضها عن بعض . واول هذه الاسباب هو التطور الداخلي للموضوعات التي يراد تدريسها . فالرياضيات ، مثلا ، قد خضعت خلال السنوات القليلة الماضية الى اعادة في التنظيم يتسم بالدقة ، الى حد ان لغتها قد تغيرت تماما ، وهذا اذن يتطلب بطبيعة الحال محاولة كيف الطلاب لهذا الموقف ، تكيفا يبدأ في اعمار مبكرة، الى عالم جديد من المفاهيم يدركونها ، وبخلافه فأنها ستبقى دوما غريبة عليهم . والسبب الثاني هو ظهور طرائق في التعليم جديدة :


فالخطوات الاولى في اعتماد الحساب ، مثلا ، قد اتاحت مجالا مجديا افضى الى استخدام وسائل تعليمية فيزيقية جديدة . وثالث تلك الاسباب ، وان كان في نطاق متواضع ولكنه ذو نتائج فعالة ، هو الانتفاع مما اتاحه علم نفس الطفل والمراهق من حقائق .


فالمنبهات الثلاثة هذه قد تتداخل مع بعضها ، ولكن قد لا تكون الحال بالضرورة على هذه الشاكلة ، واذن قد يكون محتملا ان نجد احدث الرياضيات تدرس بأكثر الوسائل قدما من الناحية التقليدية ، وما ذلك الا لأنه لم تبذل لتوثيق العلاقة الدقيقة بين ما تم اكتشافه من تراكيب جديدة في الرياضيات وبين ما تم التوصل اليه من تراكيب اجرائية قد تكونت تلقائيا عند الطفل خلال مسرى نموه العقلي .


تعليم الرياضيات :


ان تدريس الرياضيات طالما اثار مشكلة متعارضة الجوانب نوعا ما . توجد ثمة فئة من الطلاب ، مثلا يتميزون بذكاء فوق المتوسط ويبدون من هذا الذكاء في المجالات الاخرى ما يجعلهم فعلا بارزين


الصفحة 63


 ولكنهم يرسبون في الرياضيات بصورة متوالية . ان الرياضيات تؤلف امتدادا مباشرا للمنطق نفسه وبقدر ما يتعلق الامر بهذا الجانب فأنه من غير الممكن رسم خط فاصل بين هذين المجالين . لذا فانه من العسير ان يابين المرء كيف ان الطلاب الموهوبين تلقائيا في مواقف تتصف بتحليل واستعمال تراكيب الذكاء المنطقية - الرياضة ، يجدون انفسهم معوقين في استيعاب فرع من فروع التعليم يوثر تأثيرا شاملا على ما هو مشتق من تلك التراكيب .فهذه الفية من الطلاب موجودة بالفعل وموجودة معها هذه المشكلة نجيب عادة بطريقة مائعة عند التحدث عن (الاستعداد) في الرياضيات (او قفزة الذاكرة الى الهدف) . لكننا لو تعرضنا الى العلاقة بين هذا الضرب من المعرفة وبين التراكيب الاجرائية الاساسية في الفكر واعتبراناها صحيحة فأننا نجد اما ان هذه لجوانب (الاستعداد) او (القفزة) غير متميزة عن الذكاء نفسه وهذا غير صحيح طبعا ، او انها لا ترتبط اطلاقا بالرياضيات كما هي ، وانما يعزى الامر بجملته الى الطريقة التي تدرس بها الرياضيات . ان التراكيب الاجرائية الخاصة بالذكاء ، وان كانت في الحقيقة ذات طبيعة منطقية - رياضية ، فأنها ليست موجودة في عقول الاطفال على صورة تراكيب شعورية : فهي تراكيب من النشاطات او العمليات الاجرائية ، توجه من غير شك الاستدلال عند الطفل لكنها لا تؤلف بحد ذاتها شيئا موضوعيا يمكن تأمله فعلا (كما هي الحال في ترديد اغنية وتذوقها دون معرفة بموسيقاها) .


فتدريب الرياضيات ، من هذه الناحية ، يتطلب من الطالب ان يتأمل بصورة خاصة هذه التراكيب ويتمعن فيها بصورة شعورية ،وان تعليم الرياضيات هذا يستلزم لغة فنية تتألف من شكل معين من اشكال الرمزية ويستدعي درجة على جانب من التجريد . لذا فأن  


الصفحة 64                                                                                               


ما يسمى باستعداد الطالب الى الرياضيات قد يكون الوظيفة التي تمكن الطالب من استيعاب تلك اللغة نفسها ، بوصفها مختلفة عما نصف من تراكيب ، وتختلف عن سرعة عملية التجريد المرتبطة بالرمزية ، فلا يكون استعداده هذا اذن متصلا بالتمعن بتلك التراكيب التي تعتبر من بعض الوجوه طبيعية . وطالما ان كل شيء مترابط ومتداخل في اي موضوع استقرائي ، فأن مسألة الاخفاق او عدم القدرة على الاستيعاب بقدر ما يتعلق الامر بأية حلقة فيه ، تستتلي صعوبة بالغة في تتبع الحلقات المتتالية المتلازمة ، بحيث انه يتعذر على الطالب الذي اخفق في فهم اية نقطة ان يفهم ويتابع ما يعقب ذلك من نقاط ، وبالتالي فأنه يبدأ يتشكك بأستمرار في قدرته على الفهم والمتابعة ، فتنشأ لديه العقد الانفعالية وهذه غالبا ما يمكنها من نفسه من هم حواليه ، فتتم المعوق الذي كان قد تكون عنده في موقف كان يمكن ان يكون مختلفا تمام الاختلاف لو تم ادراك الامر على وجهه الصحيح .


وبأيجاز ، فأن المشكلة الاساسية في تدريس الرياضيات هي مسألة التكيف المشترك بين التراكيب الاجرائية التلقائية الى طبيعة الذكاء وبين البرامج او الطرائق المرتبطة بالجوانب الخاصة بما يراد تدريسه من رياضيات . ولقد تم في السنوات الاخيرة تحوير هذه المشكلة تحويرا كبيرا ، وذلك نظرا لما طرأ على الرياضيات نفسها من تحولات : وذلك بأتباع عملية تبدو لأول وهلة متناقضة لكنها سيكولوجيا طبيعية في الحقيقة وميسورة التفسير ، وهي ان اكثر التراكيب تجريدا وعمومية في الرياضيات المعاصرة ، مرتبطة ارتباطا شديدا بتكوينات الذكاء الاجرائية الطبيعية وبالفكر ذاته ، وارتباطها هذا اكثر صلة بهذه الجوانب مما كانت عليه التراكيب الاة الت يتاحت في يعم ما اطارا للرياضيات الكلاسيكية و الطرائق التعلمية. 


الصفحة 65


واننا لنعرف ، نتيجة لذلك ، انه منذ الوقت الذي قام به (يورباكي) ومدرسته ببحوث في هذا الشأن ، فأن الرياضيات لم تعد اليوم مجرد مجموعة من فصول متناثرة او متالفة وانما هي سلم ضخم من تراكيب متداخلة تنبع كلها من عدد من (التراكيب الاساسية) التي يمكن ضمها الى بعضها او تفريعها وتمييزها بطرائق مختلفة . والتراكيب الاولية هذه هي ثلاثة في عددها :


التراكيب الجبرية ، وتتضف بخصائص المتعاكسية وتتخذ صورة تغيير مثل (ت - ت - ١ = صفر) وصفتها الثابتة هي (المجموعة) والتراكيب المتوالية او المتسلسة ، وتعاكسها يم Crsاشتراكها في خصائص تجمعها منظومة من العلاقات ، وتضمها صفة (الشبكة) network ، والتراكيب الطوبولوجية وتعالج مسألة فكرة الاستمرارية والتقارب proximity يتفق احيانا ان ترتبط التراكيب الثلاثة هذه والتي تنتمي الى ارومة واحدة ، ارتباطا وثيقا بالتراكيب الاجرائية الاساسية للفكر . واننا لنجد في مرحلة العمليات المحسوسة التي بحثناها من قبل ، اساسا للتراكيب الجبرية متضمنا في المجاميع المنطقية للاصناف ، ونجد ايضا التراكيب المتوالية في مجاميع العلاقات ، كما نجد كذلك التراكيب الطوبولوجية في شكل من اشكال تلقائية الطفل ازاء الهنسة . وحالما تبدأ مرحلة العمليات الافتراضية عند الطفل فاننا نجد هناك تراكيب اجرائية تتمثل فيها (المجاميع) و(الشبكات) .


فالرياضيات الحديثة اذن متخذة منطلقها من مبادات (يورباكي) في بحوثه ، وتؤكد على نظرية الكليات والمتماثلات البنيوية التكوينية بدلا من التأكيد التقليدي القائم على التجزي" ، وقد برزت هناك حركة جديدة تماما ترمي الى ادخال هذه الافكار في تدريسنا الرياضيات في ابكر مرحلة ممكنة ، وان مثل هذا الاتجاه له ما يبرره تماما ، طالما ان عمليات التجميع في كليات او تجزئة هذه الكليات


الصفحة 66


والترتيب تبعا للمتماثلات التي تعتبر مصادر المتشابهات ، هي على وجه الدقة يركبها ويستعملها ذكاؤنا منذ السابعة او الثامنة من العمر وفيما يلي بعدئذ ، وكذلك منذ الحادية عشرة او الثانية عشرة وما بعد هذا العمر .


على ان الذكاء يستخدم هذه التراكيب دون ان يكون واعيا لها على اي وجه تأملي شعوري ، لكن هذا لا يعني انه حينما يتلكم (م .جوردين) نشرا انه يتحدث بدون ان يعرف ما يريد ، وانما بمعنى ان اي شخص كبير لا يعرب علم المنطق ، فأنه مع ذلك يستخدم تطبيقاته ، فأنه مع ذلك يستخدم تطبيقاته ، ويستعمل حروف النطق وحروف الفصل دون ان تكون له ادنى فكرة بالطريقة التي يفلح فيها المنطق الرمزي او الجبري في تفسير هذه العمليات بصورة مجردة وبشكل معادلات جبرية . فالمشكلة التربوية ، اذن رغم ما تحقق من تقدم في هذا المجال وذلك بالعودة الى الجذور الطبيعية المتعلقة بالتراكيب الاجرائية العملية ، فهي ما زالت قائمة برمتها .


تلك هي ايجاد انجع الطرائق تربط حالة الانتقال القائمة بين الراكيب الطبيعية اللاتأملية وبين التأمل الشعوري المنصب على هذه التراكيب ذاتها ، وكذلك وصل هذه كافة بالتكوين النظري لها .


وعند هذه النقطة بالذات يأتي ، في الواقع ، مرة اخرى ما كنا تحدثنا عنه من قبل من تناقض قائم بين المعالجة الاجرائية للتركيب وبين اللغة الرمزية التي تتيح تفسيرها . اذ ان احدث التراكيب العامة في الرياضيات المعاصرة انما هي تجريدية في طربيعتها كذلك، في حين ان تراكيبها هذه لا يستوعبها عقل الطفل الا اتشحت برداء الطابع العملي الملموس ، على ان المختص بالرياضيات الذي لا عهد له بعلم النفس ، قد يشكك بقيمة اعطاء التمرينات بصورتها العملية ويعتبرها معوقة لعملية التجريد ، في حين ان المختص بعلم النفس


الصفحة 67


مألوف لديه التمييز بين التجريد القائم على الاشياء (التجريب المبني على المجال الفيزيقي غير المألوف في الرياضيات) وبين التجريد المرتكز الى النشاطات وهو مصدر الاستقراء والتجريد في الرياضيات. يجب ان نتحاشى الظن بأن التدريب السليم على التجريد والاستقراء يتطلب قبل الاوان لغة فنية ورمزية فنية فقط ، طالما ان التجريد الرياضي ذو طبيعة اجرائية وانه يتطور وراثيا بصورة فطرية متبعا في ذلك سلسلة متصلة مؤلفة من مراحل متماسكة تتأصل جذورها في عمليات مجسمة محسوسة . ولا يجب كذلك ان نسمح لانفسنا بالخلط بين ما هو محسوس وبين التجربة الفيزيقية التي تستمد معرفتها من الاشياء الموضوعية وليس من نشاط الطفل نفسه ، وان نحذر الخلط ايضا بين المحسوس وبين الظواهر الحدسية، طالما ان العمليات هذه مستقاة من النشاطات والفعاليات، وليس من صيغ ادراكية او بصرية تم تذكرها . ان مصادر سوء الفهم المختلفة هذه توضح لنا انه وان كان تدريس الرياضيات المعاصرة في مراحل مبكرة من التعليم تتيح تقدما كبيرا من حيث المبدأ من وجهة النظر النفسية التربوية ، فأن النتائج المتاحة بصورها وحالاتها الفردية قد تكون ممتازة ، ولعلها تكون موضع تسائل وذلك تبعا للطرائق المطبقة . ولهذا السبب فأن المؤتمر الدولي الخاص بالتعليم العام (التابع لليونسكو) كان قد ضمن توصياته ، في جلسته عام 1956 (رقم43) المواد التالية الخاصة بتدريس الرياضيات في المدارس الثانوية (المادة20) : (أ) انه لمن الاهمية بمكان ان يوجه الطالب الى تكوين افكاره الخاصة به التي تمكنه من اكتشاف العلاقات والخصائص الرياضية بنفسه ، بدلا من فرض تفكير الكبار عليه . (ب) من المهم التأكد من انه قد اكتسب عمليات اجرائية وافكارا عملية قبل تعريفه بالنواحي الشكلية والمعنوية.


الصفحة 68



(ج) لا ينبغي الركون الى الاتمية automation في العمليات الاجرائية التي لم يتمكن الطالب من تمثلها.


( المادة (21)) : (أ) من الضرورة بمكان أن نتأكد من الطالب يكتسب قبل كل شي الخبرة في العلاقات والكليات الرياضية قبل اقحامه في الاستدلال الاستقرائي.


(ب) التدرج في توسيع التكوين الاستقرائي في الرياضيات بصورة مستطردة.


(ج) تعليم الطالب ان يثير مسائل رياضية ، وان يركز على الحقائق ، وان ينتفع من هذه كلها ، وان يوازن بين النتائج .


(د) من الضروري ترجيح جانب البحث الجمالي والذوقي من المسائل بدلا من التركيز على النواحي النظرية وعلى قوانينها .


(المادة22) : (أ) من الضروري دراسة ما يقع فيه الطلاب من اخطاء واتخاذها وسيلة لفهم تفكيرهم الرياضي .


(ب) تدريب الطلاب على ممارسة المراجعة الشخصية وتعويدهم على التصحيح الذاتي .


(ج) ان تغرس لدى الطلاب روح التقريب الدقيق .


(د) ان تعطى الاولوية الى التأمل والاستدلال .


ان اهمية البحث الذاتي للطالب تم تأكيدها في هذه المواد تصح في مختلف المستويات . ففي ابكر المراحل وفي بدء العد في الحساب ، راح المعلم البلجيكي (كوسينار) يستخدم وسائل تعليمية محسوسة على صورة عصي صغيرة مؤلفة من مجموعات ذات وحدات مختلفة اسماها (الارقام في الوان) . والمبدأ الذي استخدمه (كوسينار) هو نفس المبدأ الذي طبقه (ميليه اودمار) و(لافندال) في جنيف ، لكن ابتكار هما كان يتألف من التمييز بين عصي من وحدات تختلف في اطوالها ٣،٢،١ ،... وحسب تسلسل الوانها . ان كلا من الالوان وما


الصفحة 69


تشغله العصى من مجال مكاني من حيث الاطوال يمكن ان يفضي الى تطبيقات وتفسيرات على درجة كبيرة من التفاوت ، رغم جهود (س .هاتيجو) الرامية الى ضرورة وضع قواعد دولية عامة تخص (طريقة كوسينار) ، نظرا الى ان طريقة (كوسينار) هذه لا توجد في الواقع على صورة وحدة موحدة الجوانب ، وانما هي عبارة عن مجموعة من الطرائق تتراوح بين الجزالة والفسالة . فهذه الوسائل وان كانت ممتازة في حالة استخدامها للتوضيح ولترسيخ الدرس فأنها قد يستعملها المعلم لمجرد عرضها والطفل لا يستفيد منها سوى انه يراقب طريقة العرض ، وهذا وان كان يسهل عملية الاستيعاب افضل من الكلام اللفظي ، ولكن في هذا تكمن خطورة التأكيد على الصيغة والشكل دون الاهتمام بالعمليات والاجراءات . وان هذه المخاطرة لتصبح واقعا بكل ما يصاحبها من مخاطر تحف بها ، عندما يتم التأكيد على العلاقات بين الالوان ، وعندما يستخدم المعلم في التعليم طرائق حدسية فقط فأنه في الحقيقة يكون تحت وهم الانطباع بأنه مخلص في انتهاج ما وضعته المدرسة من وسائل فعالة .


نتيجة لهذه الصعوبات ، فقد اعدت هناك برامج لسلسلة من البحوث في الوقت الحاضر في كل من كندا ، وبريطانيا العظمى ، وسويسرا ، وفي اقطار اخرى ، وكلها تترك حول محاسن ومساوى*


الطرائق المختلفة المستعملة تحت اسم طرائق (كوسينار) ؛ وان عدة اختبارات اجرائية من اختباراتي التي كنت قد اعددتها من قبل بقصد مقارنة ما حصلت عليه المجموعات المتكافئة من الاطفال عندما جرى تعليمهم بالطرق الاعتيادية او بطريقة (الارقام في الوان) فيظهر ان هناك تقدما جزئيا قد حصمل في هذا الشأن خاصة في حالات تطبيق طريقة الارقام في الوان بصورة فعالة واجرائية ، ولا حاجة الى القول بأن هذا يتم على وجه افضل عندما


الصفحة 70


يكون المعلمون على معرفة تامة بعناصر الرياضيات المعاصرة وبسيكولوجية العمليات العقلية .


وفي مستويات عالية تمتد الى مرحلة البكالوريا ، وفي مستويات جامعية جرت هناك محاولات ، وخاصة في (نيو شاتيل) بتوجيه من المختص بالرياضيات المربي (ل . بوليه) ، الغرض منها التأكد عما اذا كان ممكنا استخدام الوسائل التجريبية التي استخدمتها . ان الاهداف السيكولوجية وتطبيقها في مجال الممارسات التربوية ، وان الهدف الواضح من طريقتي هذه ، هو التمكين من تدريس تراكيب الرياضيات المعاصرة وفق طرائق تقوم على التكوين الاجرائي التلقائي عند الطفل . وقد جرت محاولة في هذا الاتجاه ، قام بها (دينز) في استراليا وطبقها في كثير من الاقطار التي زارها والمحاولة متميزة في التخيل الذي ابدع وسائل تكوينية جديدة .


تشجيع روح التجربة وتعويد الطلاب على البحث في العلوم الفيزيائية والطبيعية :


ان المجتمع المعاصر قد انتقل نقلة فسيحة بفضل تضافر جهود علماء الفيزياء والكيمياء وعلم الحياة ، ومع هذا فيصح القول بأن ما يكونه هؤلاء المختصون والمخترعون من صفوة مختارة لا تؤلف من حيث الكثرة الا عددا ضئيلا غير متجانس من مجموع البنية الاجتماعية بكاملها ، ولهذا سببان : اولهما ، ان بحوثهم لم تفهم من جانب الاخرين فهما جيدا ، وذلك ليس من ناحية التفصيلات الفنية فحسب بل من ناحية الروح العامة كذلك ، وثانيهما ، فقد اتضح بأن الاعداد الفكري الحاضر والتربية العامة لم يتم تكيفهما الى حاجاتنا الجديدة تكيفا صحيحا ، سواء من ناحية الاعداد والتدريب ام من ناحية الجمع بين المجالات التقنية والعلمية .


ان التربية التقليدية في بعض الاقطار الكبرى قد ارست التأكيد 


الصفحة 71


في الحقيقة على الانسانيات والرياضيات ، وكأن المؤهلات والخصائص السائدة عند الانسان العقلاني ملائمة تماما لموضوعي التاريخ والاستقراء الشكلي . اما بصدد التجريب العملي ، فقد اعتبر وكأنه نشاط او فعالية صغرى ، يكون نفعه مجديا للمدنيات التي على الفة بفلسفة المعرفة والمعلومات . وترتب على هذا بأن ساد الظن القائل بأن التدريب التجريبي المرضي يمكن ان يتم بمجرد تعريف الطالب بنتائج التجارب الماضية او بمجرد مراقبة للمعلم وهو يجري التجارب امامه ، كما لو كان ممكنا ان يتعلم الانسان السباحة بمجرد الجلوس في صفوف منتظمة على حافة المسبح ومراقبة الاخرين يقومون بعمليات العوم والغطس . حقا ان المحاضرة التي يتلوها تطبيق في المختبر تكون ذات جدوى كبيرة ، اما ان يكتفي بأعادة شرح تجارب ماضية دونما تجريب من جانب الطالب ، فأنه عمل لا يوقظ لديه روح التجريب ، ولا يعوده على التدقيق والتمحيص والاختراع .


ففي هذه الحالة اذا كان هدف التدريب العقلي هو تكوين الذكاء وليس حشو الذاكرة واعداد مكتشفين ورواد فكر وليس تخزين معرفة ، فمن الواضح ، اذن اعتبار التربية مقصرة تقصيرا خطيرا في هذا المجال . حقا ان الفيزياء قد نشأت بعد الرياضيات بعشرين عاما وان هناك كذلك من الاسباب ما يجعل التدريب التجريبي اصعب من تنظيم صفوف في الرياضيات او اللاتينية . ولكن الامر كما لاحظنا انفا بصورة عابرة ، هو ان الطفل فيما بين الحادية عشرة والثانية عشرة ، وفيما بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة كتسب تلقائيا جميع الوسائل العقلية الضرورية للتجريب بكل ما ينطوي عليه هذا المعنى ، والوسائل العقلية هذه من ضربين . فثمة اولا ادوات الفكر ، وهي على صورة عمليات افتراضية متكاملة ، وهذه تمكن الطفل من التمييز بين التطبيق واللاتطبيق ، وبين


الصفحة 72


المعطوفات والمتخالفات والمتناقضات ، ... الخ وهناك ثانيا ، طريقة اجرائية معينة ، تكون ميسورة بحكم توفر العمليات والاجراءات المذكورة، وهذا يمكن من عزل العوامل عن بعضها تبعا لفرضيات محددة مسبقا ومن ثم تفريقها وتمييزها تجريبيا، واحدة بعد اخرى، وتحييد العوامل الاخرى او تجميعها بطرائق متفاوتة .


ولعل مثالين اوليين يكفيان لتوضيح الفرق في الاستجابات التلقائية عند الاطفال فيما بين السابعة والعاشرة ، وفيما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر : نعرض عليهم سائلا اصفر اللون ، ومن ثم نعطيهم اربعة سوائل عديمة اللون والرائحة تمتد من أ _ د ، ونسلمهم انبوبة تؤلف عنصر (5) ، ونطلب منهم ان ستحضروا نفس اللون الاصفر . فنجد ان الاطفال من عمر سبع الى عشر سنوات يمزجون سوائلهم بمزيج (2) الى (2) ، ومن ثم يمزجونها كلها مرة واحدة مع بعضها دون ان يظفروا بطائل ، بينما نجد الذين اعمارهم بين الثانية عشرة والخامسة عشرة يمزجونها (2) الى (2) و(3) الى (3) و(4) الى (4) ، فهم يعملون بأتجاه جميع الاحتمالات ، وبذلك يكتشفون انه كي يحصلوا على اللون المطلوب فأنه لابد من مزج ثلاثة عناصر سوية ، ويتوصلون الى ان الرابع قاصر اللون ، وان عنصرا خامسا هو عنصر حيادي تماما (2) يعطى الاطفال مجموعة من القضبان تختلف في مرونتها ويطلب منهم اكتشاف العناصر المشتركة بينها (كالطول والسمك ، وشكل المقطع وطبيعة المادة) واختبار الدور الفعال البارز لتلك العوامل المشتركة .


فالاطفال البالغون من العمر احدى عشرة واثنتا عشرة سنة يستطيعون ان يتبينوا تلك العوامل بسهولة الى حد ما ، ولكن بصورة عامة وبشكل تحسسي صعب ، وبترتيب بجرونه تبعا لعدة اعتبارات لديهم من خبراتهم ، ولكي يتبينوا دور الطول مثلا ، فقد يقارنون قضيبا رفيعا طويلا مع قضيب قصير سميك وذلك (لكى


الصفحة 73


يتعرفوا على الفرق بينهما على وجه افضل) . بينما يبدأ الاطفال البالغون ثلاث عشرة وخمس عشرة سنة بتدوين قائمة بالافتراضات الممكنة ، ثم يطفقون يمحصون كل عامل على حدة بدراسة ما فيه من مفارقات ، بمعزل عن الجوانب المتماثلة . فيتوصلون اذن الى ان التباين بين عاملين او اكثر في وقت واحد لا يسمح بالتوصل الى استنتاج سليم اذا استطاع الطفل ، بعد اجتيازه مرحلة العمليات الحسية وبلوغه مرحلة العمليات الافتراضية - الاستقرائية ، ان يجمع بين تلك الفرضيات والتحقق منها تجريبيا ، فيمكن القول اذن ان مدارسنا يحق لها ان تفخر بأنها قادرة على ان توجه وتطور هذه القدرات والاستعدادات لكي تستخدمها في تطوير الاتجاه التجريبي في عقل الطالب وفي تطوير طرائق تدريس العلوم الفيزيقية التي من شأنها ان تؤكد اهمية البحث والاكتشاف بدلا من الركون الى التكرار فقط .


هذا شيء بدأ اخيرا يتجلى واضحا لبعض المربين في عدد من الاقطار ، واحد الامثلة التي يمكن التمثل بها هي الولايات المتحدة ، وان الحركة هذه جديرة بأن نتتبعها في ذلك البلد الكبير حيث النظم التربوي مختلفة وبهذا يسهل تمييز المؤثرات المتداخلة وملاحظة ما يمكن احرازه من نجاح في المراحل المتفاوتة ، مهما كانت جزئية اوجه النجاح تلك . واحد الاحداث الرئيسية لهذه الحركة بدأتها الاكاديمية القومية للعلوم في واشنطن ، وبالمذكرة التنبيهية التي تقدم بها الفيزياويان (ج . زاكرياس ) ف . فريدمن) من معهد ماسوستش للتكنولوجيا M.I.T اللذان اكدا خطورة التفاوت الكلي القائم بين التقدم العلمي وبين تدريس العلوم في جميع المستويات . ويومذاك ، عام 1959 ، نظمت الاكاديمية المذكورة مؤتمرا عقد في (ودزهول) يتألف من خبراء امريكان معروفين في


الصفحة 74


الرياضيات والفيزياء والبيولوجي وعلم النفس ، ودعت اليه خبيرا من الخارج متمثلا بزميلتي (ب . انهيلدر) . وقد ضمت نتائج المؤتمر في مجلد واحد وتم تفسيرها بشكل شائق من قبل النفساني (ج . س . برونر) (بعنوان : العملية التربوية في1961) . ان المعهد المذكور مضى في تأسيس قسم تتركز مهمته على طرائق تدريس العلوم لمختلف المراحل ، ويجد المرء في هذا القسم ، مختصين بالفيزياء ممن يضنون بوقتهم ليوفروه لبحوثهم ومع هذا ، تجدهم مضون بعض الوقت هناك الى جانب المختصين بعلم النفس والمربين ، يدرسون الطرائق التعليمية الجديدة ، وتطبيقاتها المتعددة التي جرت تجربتها .


ان الدافع المتاح على هذا النحوادى الى تكوين كثير من جماعات البحث في هذا المجال ، جماعات لم تقتصر في جهودها كما قد يظن على الاجتماعات والمحاضرات وانما مضت بعزم وتصميم على ان تعمل في المدارس نفسها ، تولت في مهامها تجارب ميدانية تتناول طرائق التعليم . وانه لشيء مدهش حقا ، ان يجد المرء احيانا مختصا بالفيزياء يسهم في جماعات كهذه فيقوم ببحوث تربوية تتناول صغار الاطفال في الصفوف المبتدئة . وكمثال على هذا هوما قام به (ر . كاربلاس) من قسم الفيزياء بجامعة كاليفورنيا ، اذ طور مجموعة من الوسائل التعليمية ! درس نتائجها ايضا بنفسه ليتيح للاطفال الوقوف بأنفسهم على ما يسمى بوجهات النظر النسبية (بأن توصف الظاهرة الواحدة وصفا مختلفا من قبل عدة مشاهدين) ، ويمكنهم من ملاحظة السببية عن طريق التفاعل بد من عرض الاشياء عرضا متسلسلا بسيطا . ومثال اخر هو ما قام به (بين نكلس) استاذ الهندسة الكهربائية ، اذ نظم (فرعا لدراسة العلوم الاولية) ضمن (اتحاد الخدمات التربوية) ، وفيها قارن ،:


بمساعدة النفساني والمربي (ي . دكورث) ، بين مجموعات من


الصفحة 75


الاطفال فيما اذا كان بوسعهم عندما تتوفر لهم مقومات الفعاليات التجريبية التلقائية ، ان يكتشفوا قوانين فيزيائية اولية .لا ريب في ان التجارب المدانية هذه المنصبة على طرائق التعليم الفعالة والمنبثقة من مجال الفزياء تتضافر الجهود فيها مع سائر الجهود الاخرى المبذولة في سبيل تطوير تدريس الرياضيات بل وحتى المنطق ، وقد جرب هذا وايده كل من (ج . أ_ ايسلي) و(ج. كلبا ترك)


تدريس الفلسفة:


ان مشكلة تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية مشكلة تتجدد باستمرار . وان مسألة ارة موضوع تدريس العلوم بمختلف مراحلها وبطرائقها واساليبها التجريبية انما تمثل في الواقع احد هذه الجوانب . ان تدريس الفلسفة يعتبر مهما في بعض الاقطار كفرنسا مثلا ، لكنه لكنه لا وجود له في اقطار اخرى : فلا يظهر للفلسفة اثر الا في المناهج الجامعية ، والسبب في هذا التفاوت يعزى الى ما ينسب الى الاهداف من تدريسها ، والاهداف هذه تتفاوت من قطر الى آخر .


فاذا كان الهدف الرئيسي من التربية الفكرية هو التدريب العقلي، فيلي ذلك بصورة اوتوماتيكية التأمل الفلسفي فيؤلف الغرض الاساسي في اعداد الطلاب لتمكينهم من التدرب على الاستقراء الرياضي والطرائق التجريبية ولتوجيه الطلاب ايضا نحو الدراسات الانسانية والتاريخية . ولكن لو سلمنا جدلا بهذا الرأي ، فما السبيل الذي يجب اتباعه في تقديم الفلسفة الى الطلاب لكي تتحقق تلك الغايات .


ان ما طرأ من تغيرات منذ عام 1935في مجال الرياضيات والعلوم التجريبية قد جعلها عامة مشاعة وواضحة المعالم ، لكن


الصفحة 76


الامر بالنسبة للفلسفة يختلف تماما الاختلاف اذ اننا لا نجد اتفاقا بشأنها وبالغرض من تدريسها حتى بين المختصين بها .


ان تاريخ الفلسفة بجملته يعكس اتجاهين رئيسيين يمكن تسميتهما بالاتجاه المركزي والاتجاه العمركزي . الاول منهما جامد ولم يتغير فيما بين 1965،1953 ، في حين تطور الثاني منهما باستمرار خلال الثلاثين سنة الماضية .


فمن اولى مهمات الفلسفة ، وهذا امر شائع في مختلف نظمها ، انما هي محاولة للتنسيق بين القيم في اشمل معانيها ، والدأب على وضع قيم المعرفة ضمن مجموعة الغايات الانسانية الاخرى .


فهدف الفيلسوف ، من وجهة النظر هذه ، ينصب على اكتساب (الحكمة) ، او احراز يقين معقول ، سواء اكان هذا خلقيا ام اجتماعيا ، ام ذا طبيعة ما ورائية . ومن هنا جاء الاختلاف في الاهتمام بتدريس الفلسفة تبعا لموقف الدولة وفلسفتها في الحياة .


بيد ان الفلسفة يمكن اعتبارها ضربا من من المعرفة وهنا نواجه التباين في وجهات النظر بشأنها ونواجه تلك الاتجاهات العمركزية المتزايدة التي اصبحت اشد وضوحا في الاختلاف خلال العقود القليلة الماضية . فالفلسفة عند بعض المفكرين تنطوي على ضرب من ضروب المعرفة ذات طبيعة ما ورائية او ذات طبيعة فوق مستوى العلوم . وهي عند اخرين معرفة ، لكنها معرفة لا تتقدم بذاتها الا عن طريق اللا تحديد للمشكلات وعن طريق تهذيب الطرائقوتنقيحها : وهذان منهجان مثيلان بالمنحى العلمي .


وبصرف النظر عن الرياضيات التي عايشت الفلسفة في دراسات فيثاغورس وافلاطون فان المنطلق يعتبر مثالا بارزا على الفصل بينه وبين الفلسفة : فهو نتيجة لما تمخض عنه فكر ارسطو والرواقيين ، فقد حسبه (لايبنتز) يساعد على التعميم ، وقد اكتسب أبان القرن التاسع عشر استقلاله واساليبه الخاصة به التي اصبحت اثرى واكثر تعقيدا .


الصفحة 77


وبنفس الطريقة فقد استقل علم النفس عن الفلسفة خلال السنوات المبكرة من القرن التاسع عشر وهو الآن يدرس في كثير من الاقطار جنبا الى جنب مع البيولوجي في كليات العلوم . فالاتحاد الدولي لعلم النفس العلمي الذي يضم في عضويته الاتحادات النفسية يشترك فيها اكثر من ثلاثين قطرا ، قد رفض باستمرار الانضمام الى عضوية المجلس الدولي للفسفة والعلوم الانسانية ، وذلك ليحمي نفسه من مغبة التأمل فحسب . وان كان كل واحد يعتبر نفسه بطبيعة الحال نفسا نيا ، فما زالت هناك تظهر (علوم نفس فلسفية) لها اهميتها الى المختص بعلم الاخلاق ولكن لا علاقة لها قط بعلم النفس . ان علم الاجتماع هو الاخر يتيح شواهد على نفس قوانين التطور، وان كان تطوره لم يتقدم كثيرا بعد ، بسبب ما يواجه من معوقات في مجال التجريب ولأن الاحصاء فيه لا يحقق كل اغراضه .


ونتيجة لهذا الموقف المعقد ، نشأت الازمة التي لا تنكر في ميدان الفلسفة ، وما يترتب على هذا في تدريسها ، سواء على مستوى الجامعة ام على المستوى الثانوي . ولكي نقتنع بوجهة النظر هذه فما علينا الا ان نلاحظ ما هناك من تباين قائم في الانماط المتبعة في تدريس هذه المادة على المستوى الثانوي ، والثانوي ، والتفاوت الموجود في انماط اعداد الذين يراد تدريبهم ليتولوا تدريس الفسفة قيما بعد .


ان المشكلة القائمة في تدريس الفلسفة متأتية من شطر الكليات في الجامعات الى كليات علمية واخرى ادبية ، وكذلك تقسيم الاقسام في الثانويات الى علمية وادبية ، ولا يمكن تأكيد المخاطر المترتبة على هذا التقسيم أبرزها مظاهر تكوين طرقة اجتماعية من الفلاسفة ، يبحثون عن عموميات دون ان تكون لهم صفة البحث العلمي الموجه


الصفحة 78


. ففي الوقت الذي اسهم فيه فلاسفة الماضي في استباق البحث العلمي والمشاركة في تصميم التخطيط له ، نجدنا اليوم نعد متخصصين في الاستشراق لهم صفة القفز مباشرة الى الجوهر ، وهم براء من صفة التخصص العلمي التجريبي وللمرء ان يتساءل عما اذا كنا بعملنا هذا نسير بأستمرار نحو اعداد الافراد الى ان يجزؤا وبالتالي يستبعدوا المنحى العلمي عن الروح الفسفية وهو اتجاه غير محمود العقبى .


جرت في بعض الاماكن محاولات لمعالجة هذا الموقف الخطير .


ففي امستردام ، مثلا ، نجح (بيث )المختص بعلم المنطق ،في ان يفصل العلوم الفسفية عن كلية الاداب ، وان يكون من تلك العلوم معهدا قائما بذاته تابعا للكلية له سلطة منح الدرجات والدكتوراهات العلمية ، وبهذا فقد افلح في اقامة نظام وحدة تتصف بخصائص البحث العلمي والتأمل الفسفي . وقد حاولت بعض الجامعات في سويسرا ان تدخل مساقات في الفلسفة على برامج كلية العلوم وكلية الآداب في آن واحد ، وان تتعهد بتدريس الفسفة في الاقسام العلمية والادبية في المدارس الثانوية المحلية . وفي بلجيكا طبقت الان مشروعات مماثلة الى تلك المتبعة اليوم في هولندا .


تدريس الكلاسيكيات ومشكلة الانسانيات :


ان الدراسات الادبية والانسانية ، تختلف عن فروع المعرفة التي تطرقنا لها آنفا لم يحدث من التحوير في مجال تدريسها الا الشيء القليل . ولعل السبب في هذا راجع الى انها فروع من التعلم لم يطرأ على محتواها الا شيء ضئيل من التنوع رغم ما حصل في اللغة وفي التاريخ من تطور كبير . لكن السبب الرئيسي يتوقف من غير شك على اعتبارات مهمة مختلفة - تلك هي الموقف الراسخ وما تلاه من اهتمام مهني في هذا الميدان .


الصفحة 79


وردت الاشارة من قبل الى عدم جدوى تدريس اللاتينية والاغريقية الى طلاب الطب ، وقد اكدنا انه لا فائدة هناك يجنيها الطبيب من دراسته لتلك اللغات ولا هو يمارسها عند مزاوليه لمهنة الطب . اما كونها تدرب العقل وتنشط الفكر فتلك اسطورة لم يعد لها كيان ولا شأن .


ولكن المشكلات الحقيقية التي تثيرها مسألة تدريس الكلاسيكيات في المدارس الثانوية ، وهي مشكلات الاهداف المتوخاة من ذلك . والاهداف هذه هي ضربان : احدهما هدف اساني وهو معرفة التطور في الاتجاه التاريخي الخاص بالعقل والمعرفة لتلك المدنيات التي نجمت عنها المجتمعات الغربية . فتلاقح الافكار وتتابع الآراء وارتقاء المنحى العلمي ما هي الا سلسلة محبوكة حلقاتها تمثل تدرج الانسانية في مدارج الحياة . فمن المشروعية بمكان اذن ان نأبه كثيرا بأستعدادات الفرد وبتخصصات المستقبل اذا نحت شئنا ان نشرئب بأعناقنا وان نتطلع قدما الى تكوين الانسانية التي سيتجلى دورها في بناء كيان حياة المجتمع على نحو لا يقل شأنا عما اسدته العلوم والمعرفة العقلية بصورة عامة .


الى جانب الهدف الرئيسي الآنف ثمة هدف هامشي ، وكثيرا ما انصب التأكيد عليه ، وهو هدف الاعداد العقلي وتدريسه بوجه عام . فكثيرا ما يدور النقاش حول الرأي الذاهب الى ان تدريس لغة معينة الى الطالب تكسبه مرونة عقلية بصرف النظر عما اذا كانت لها .ضرورة في حياته العملية ، لأنها ستزيد فيما بعد من ذكائه . ان دعاة هذه الفرضية لا ينون يؤكدون عليها حتى ولو تبين لهم عدم جدواها . ولذا فقد راحت كثير من الاقطار ، ومنها بريطانيا ، مثلا ،


الصفحة 80


عي النظر في موضوع تدر اللغات المندثرة ، وخاصة ما يتعلق من ذلك بالهدف الهامشي الثاني. اما ما يتعلق بأكتساب تربية انسانية وتكوين فكر تاريخي فأن الدراسات الكلاسيكية تحقق بوجه عام الاهداف المرتجاة في هذا الشأن .


وبقدر ما يتصل الامر بتدريس اللغات نفسها نجد هناك تناحرا بين ما يطبقه النحويون وبين ما ينتهجه اللغويون . فالفريق الاول يتبع ما يسميه ب (التحليل النحوي) اساليب بالية ، لا يني يفرضها على الطالب تحت اسم ضرورات (منطقية) ، بينما نجد اللغة بشكلها المتجدد لا وجود لها في برامج الطالب على المستوى الثانوي


الصفحة 81


الفصل الرابع :تطور طرائق التدريس

اقتصرت حتى الآن على ما طرأ هناك من تحولات في مختلف المجالات منذ عام 1935 ، موضحا خلال ذلك ، وجهة النظر التقليدية المتمهلة كما يراها المراقب المهتم بطبيعة ما يدرس من فروع المعرفة ، والاستيعاب الفكري ، وبما للمجتمع من قيم ثابتة . سنواجه فيما يأتي من فقرات التطورات الثلاثة الجديدة الاساسية التي تسم المواقف الجديدة سواء في التربية ام في التعليم ، والتي تقرر مختلف ضروب الاختيارات بصورة سريعة وملزمة . ولذا فأن محتويات الامور التالية ستجانب تدريجيا النغمة الهادئة في البحث وستتبنى نبرة مباشرة ملموسة في العرض والمناقشة .


والتطورات الثلاثة هذه هي : الزيادة المذهلة في اعداد الطلاب ، وهذا راجع الى ما هناك من متسع في فرص القبول الى مختلف ضروب التربية والتعليم ، ومشكلة استقطاب العدد الكافي من اعضاء هيئة التدريس المؤهلين ، ومشكلة ما تجمع هناك من حاجات متراكمة ، وأولها الحاجات الاقتصادية والتقنية ، والعلمية ، فهي حاجات تتطلبها المجتمعات التي من اجلها تنظم التربية عادة .


والعوامل الثلاثة هذه لها من التأثير الكبير الواضح على اختيار الطرائق التربوية بصورة عامة فتؤدي الى تناقضات يسهل ادراكها بين الطرائق التقليدية اللفظية التي يتيسر استعمالها عندما لا يكون اعضاء الهيئة التدريسية قد تلقوا اعدادا متقدما كافيا ولم يطوروا انفسهم ، وهناك الطرائق الفعالة التي تصبح ضرورتها اكثر وضوحا كلما ازدادات الرغبة اكثر في اعداد الفنين والمختصين بالعلوم ، وهناك الطرائق التبصيرية او التوضيحية ، ويراها بعض الافراد انها تتيح نفس النتائج التي تتيحها الطرائق الفعالة وهي تنجز


الصفحة 85


تعاظم تجادة ل خطر يجعن اما ر من مع يقودي طرائق التلقين او الطرائق الالقائية من جانب المعلم :


قد لا يبدو مستحسنا بحث الطرائق التقليدية القائمة على التعليم اللفظي في حين اننا نرمي الى تأكيد ما حصل من تطورات منذ عام 1935 . ولكن الحقائق الجديدة هي ان بعض الاقطار (الثقدمية)


الشرقية تبرر استخدام هذه الطرائق على اساس التفاعل المباشربين المعلم والمتعلم وتتيح للمعلم ثقة بنفسه . ولا حاجة الى القول في هذا الصدد بأن البحث قد اتاح من الشواهد المستمرة على ما تلعبه الاهتمامات وما يبديه الطالب في نشاطه من فهم ، لذا فأن الصراع المحتمل نشؤوه يتأتى من طبيعة تطبيق هذه الطرائق ومما ترتكز اليه من نظريات تعتمدها . فأستعراض تطور هذه الطرائق في الاقطار الشرقية ولا يخلو من فائدة تذكر .


ان هناك تناحرا في وجهات النظر الخاصة بهذه الطرائق نابعة من مصدرين : اجدهما عامل بيلوجي والآخر عامل اجتماعي .


فالعامل العضوي البيولوجي يهي ظروف التعلم : وهي قوانين التعلم الشرطي الرئيسي (بالمعنى البافلوفي) والنظام الثانوي الخاص بالتعلم بواسطة الاشارات ، او نظام اللغة . ام اما الحياة الاجتماعية من الجهة الاخرى ، فأنها تتيح مجموعة كلية من القواعد العملية ومجموعات محددة من ضروب المعرفة يسهل نقلها من جيل الى جيل . فالعوامل البيولوجية والاجتماعية هذه تكفي اذن لمواجهة متطلبات الحياة العقلية ، وان اي توجه الى الشعور الفردي ، بتوفر وجهة النظر هذه تتمثل فيها خطورة الافضاء الى تكريس الفردية او المثالية .


ولكن ثمة الجانب الثاني للموضوع ، يرتبط بنفس المصدر


الصفحة 86


المذكور ، يبدو انه يملأ ما يدعو الى الشك في انه اشبه بفجوة تخطاها التعليل الاول : وهذه الفجوة هي دور النشاط في الانتقال الحاصل بين العوامل البيولوجية والاجتماعية . وهذا الدور وما يقوم به من نشاط قد تم التأكيد عليه حتى تم اعتبار الادراك نفسه فعالية تؤديها اعضاء الحس . وقد اكد على هذا الدور النفسانيون الروس الذين قاموا ببحوث كبيرة تتعلق بهذا الموضوع .


فمن وجهة النظر الخاصة بأصولها ، وهذه تتلخص فيما اذا كان الامر يتطلب التأكيد على الدور الابداعي الذي يقوم به الكبير في الحياة الاجتماعية ، وما يفضي اليه من تأكيد على ارجاء المعرفة من قبل المعلم ، او ان الامر يقتضي التأكيد على دور النشاط وهو لا يقل عن الاول اهمية ، ولكنه يرسي معظم المسئولية على ما يبذله الطالب نفسه من جهد . والاتجاه سائر الى الجمع بين الطريقتاين . ولكن لا مشاحة في ان اعطاء الدرس يتوقف الى حد بعيد على ميول المعلم ذاته . وان البحوث هناك متجهة الى تأكيد دور النشاط وقد انشئت مراكز بحوث لهذا الغرض تمارس اعمالها في مدارس تجريبية تجلأي فيها تلك البحوث وفي رومانيا ، مثلا ، حيث يدرب الطلاب على الاعداد المهني وما يقوم به الطلاب انفسهم ، نجد هناك تزاوجا بين نشاط الطالب وبين توحيد العمل الفردي مع عمل الفريق .


الطرائق الفعالة :


لعله من غير الصحيح القول ان اي تغيير كبير طرأ منذ عام 1935، انما جاء لتغيير طرائقنا التربوية لتسير بأتجاه الاساليب الفعالة . والسبب الرئيسي لهذا هو بالتأكيد ليس سببا من حيث المبدأ ، طالما انه لا تثأر لدينا الا اعتراضات ضئيلة على المستوى النظري فيما يتعلق منها بأستثمار فعاليات الطلبة الخاصة . وان عددا من المفاهيم المغلوطة قد تبددت ، ولو نظريا في الاقل ، ومن


الصفحة 87


المفاهيم هذه المفهومان الرئيسيان التاليان :


واولهما ، فقد اصبحنا ندرك ان المدرسة الناشطة الفعالة ليست بالضرورة هي المدرسة التي يكثر فيها العمل اليدوي ، ومع ان نشاط الطفل في مستويات معينة يتطلب اتاحة المجال له ليعالج الاشياء بنفسه معالجة محسوسة ، فأنه توجد هناك مراحل ومستويات وبخاصة بالنسبة مثلار للافكار المنطقية - الرياضية ، لا تستمد معانيها واصولها من المعالجات الجسمية اليدوية المحسوسة


، وانما تستبقي اصولها مما يقوم به الطفل من نشاط عقلي ومما يقوم به فكريا من تنسيق بين اصولها وفي مستويات اخرى فأن اغلب النشاط في البحث المتميز الواضح انما يتم في اجواء من التأمل والتمعن ، ومن اشد ضروب التجريد تقدما ومن المعالجة اللفظية المجردة (بشرط ان تكون تلقائية وليست مفروضة على الطفل دون ان يدركها ادراكا تاما ) .


وقد تم الادراك مؤخرا ، ولو على المستوى النظري في الاقل ، بأن الاهتمام لا يستبعد الجهد - على العكس في الواقع - اذ ان التربية التي تجتهد في تهيئة اعداد صالح للحياة لا تنطوي على احلال تراديد جافة محل جهود تلقائية . انه لأمر معروف ولا شك بأنه وان كانت الحياة تنطوي على قدر لا بأس به من الجهد المفروض على الفرد الى جانب ما يتقبله بمحض ارادته فأنه ما يدرس من موضوعات تتمثل فيها الكفاءة عندما يتقبلها المتعلم تقبلا ذاتيا . لذا فأن الطرائق الفعالة لا تؤدي بأي حال الى الفردية الفوضوية ، بل العكس اذا انطوت على الجمع بين النشاط الفردي ونشاط الفريق فأنها تفضي الى التحكم بالذات وترويضها والى الجهد الاختياري .


ومهما يكن من امر ، فان وجهات النظر هذه وان اصبحت اليوم اكثر قبولا من اي وقت مضى فأنه لم يطرأ كبير تقدم لوضعها موضع الممارسة ، والسبب في ذلك بكل بساطة هو ان الطرائق الفعالة هذه


الصفحة 88


اصعب استخداما مما تكون عليه الطرائق التلقينية . فهي اولا تتطلب نشاطا متنوعا ومركزا على نحو اوفى من جانب المعلم ، في حين ان اعطاء الدرس نظريا يكلف جهدا اقل وانه يساير الميل الطبيعي عند الكبير عامة ! وعند المربي خاصة . ان الطرائق الفعالة تتطلب ثانيا ، اعدادا متقدما عاليا ، وانه من غير معرفة وافية بسيكولوجية الطفل ، فلا يكون بمقدور المعلم ان يفهم متطلبات الطالب التلقائية ، وبهذا فانه يخفق في الانتفاع من الاستجابات التي تبدو واضحة بانها ذات معزى ومهمة ، فيعتبر ردود الفعل التي يبديها الطالب بانها مضيغة للوقت . ان الصعوبة التي تبلغ حدا الانهيار في التربية ، كما هي الحال في الواقع في الطب وفي مختلف فروع المعرفة التي تشترك فيها الفنون والعلوم ، هي عندما نعلم بأن افضل الطرائق


هي اصعبها : فمن المتعذر ، مثلا ان نطبق الطريقة السقراطية مالم نكتسب شيئا من مؤهلات سقراط ، ومنها احترام الذكاء المتمثل في عملية التطور والنمو .


لئن لم تكن هناك موجة مد من الطرائق الفعالة ولئن كان ممكنا تفسير هذا النقص بتزايد الصعوبات التي طفقت تعترض اصدق النوايا لمواجهة تزايد اعداد الطلبة وقلة عدد المعلمين ، وتفاقم عدد العوائق المتعددة ومنها نقص المواد اللازمة للعملية التربوية ، ازاء هذا كله لا ينبغي لنا ان نغفل شأن الجهود الفردية المهمة كجهود (فرينيه) مثلا ، ولا ان ننسى الاتجاه الثابت الرامي الى احياء الاهتمامات الكبرى التي تتوخى تحفيز الطرائق الفعالة حينما تقتضي الحاجات الاجتماعية التجدد وعندما تدعو الحاجة اليها .


لاحظنا من قبل اتساع نظاق الحركة التي ادت في الولايات المتحدة ، مثلا الى التفكير الشامل مجددا بتدريس الرياضيات والفيزياء والتي انتهت بطبيعة الحال بالعودة الى الطرائق الفعالة وكان المؤتمر الدولي الخاص بالتربية العامة قد ابرم في احدى جلساته عاما


ال

صفحة 89


1959ظ ، توصية (رقم49) مطولة وجهها الى الوزارات المعنية حول اتخاذ الاجراءات الكفيلة الرامية التي تسهيل مسألة استقطاب الاعداد الكافية من المعلمين والفنيين المؤهلين فنيا وعلميا . فقد نصت المادة (34) من ميثاق المؤتمر المذكور على ما يأتي :


(لكي نزيد مما يظهره التلاميذ من اهتمام بالدراسات الفنية والعلمية في المرحلة الابتدائية ، فأنه لينصح بأتباع الطرائق الفعالة المصممة لتطوير روح التجريب).


اما ما يتصل بالجهود الفردية التي بذلها معلمون في بعض المدارس الابتدائية ممن مكنهم ما اتصفوا به من ابداع ومن تكريس الجهد للاطفال بحيث وجدوا سبيلهم في قرارة انفسهم الى ان يتولوا تربية الذكاء بشكله الخالص البحت والبسيط (من هؤلاء بستالوتزي مثلا) وبوسعي ان اذكر عددا كبيرا منهم في بلدان مختلفة ، منهم فرنسيون ومنهم المان ، ومن بينهم نمساويون ، ومن جملتهم ايطاليون ومنهم انكليز . ولكن سأذكر هنا بخاصة ما قام به (فرينيه) ، اذ هو لم يتلق اعانة ولا تشجيعا من جهات حكومية ، وانما قام بجهود فردية اثرت في الاقطار التي تتكلم الفرنسية ومنها القسم الفرنسي من كنذا . نجد (فرينيه) من غير ان ينهمك كثيرا بدارسة علم نفس الطفل ويستغرق معظم وقته فيه ، نجده محفزا بالحاجات الاجتماعية فحاول تحويل المدرسة الى مركز للفعاليات التي تتساوق باستمرار مع متطلبات البيئة الاجتماعية المحيطة بها . ففكرته المعروفة الداعية الى استعمال وتطبيق الطباعة في مدرسته انما تؤلف مثالا حيا يعكس كثيرا من ارائه الاخرى في هذا الشأن ، فمن المؤكد ان الطفل الذي يتولى بنفسه طباعة اقتباسات مما ي؟رؤه من كتبه المقررة ينجح في تعلم القراءة والكتابة والتهجئة على نحو يختلف تماما عن الطريقة التي قدمت بها اليه او كيف تمت تهيئة تلك الوثائق والمقررات .


الصفحة 90



فمن دون التوجه مباشرة الى تربية للذكاء وبدون التأكيد مباشرة على اكتساب المعرفة عن طريق النشاط بوجه عام ، استطاع (فرينيه)


تحقيق هذه الاغراض في المدرسة الفعالة بواسطة توجيه اهتمامه وتفكيره قبل كل شيء كل شيء الى تطوير اهتمامات الطفل والى اعداده اعدادا اجتماعيا . وبذون الالتزام بأية نظريات ، فأنه استطاع من غير شك ان ينجز حقيقتين اساسيتين من حقائق سيكولوجية وظائفغ


التعرف : الاولى : تنمية العمليات العقلية التي تبدأ من النشاط الفعال بأشمل معاينه ، وذلك لان المنطق هو قبل اي شيء تعبير عن التنسيقي العام للنشاط ، والثانية ، ان التنسيق العام للنشاطات هذا يتضمن بالضرورة بعدا اجتماعيا ، ذلك لان التنسيق الفردي الذاتي لهذه الفعاليات والتنسيق الفردي الخارجي يكونان عملية واحدة متماثلة ، وان العمليات الفردية في مختلف جوانبها تطبع تطبيعا اجتماعيا ، وان التعاون في ادق معانيه انما يتألف من تحديد وتوجيه نشاطات الفرد مجتمعة .


الطرائق التبصيرية:


ان احد  أسباب التباطؤ التي ادت الى تبني الطرائق الفعالة وتطبيقها ، وهو سبب نابع من عدم التدريب النفسي الكافي للمربين ، يرجع الى ما يحصل هناك من خليط بين الطرائق التبصيرية . فهناك عدد من المربين يتصورون ان الاخيرة هذه مكافئة للاولى ، او في اقل تقدير يرون ان الطرائقف التبصيرية تتيح نفس المنافع الاساسية التي تتمخض عنها الطرائق الفعالة .


نحن هنا نواجه نوعين متميزين من هذا الخلط . الاول ، وقد المعنا اليه من قبل ، هو ما يؤدي ببعض الافراد الى التفكير بأن اية (فعالية) يأتيها الطالب ١ او يقوم بها الطفل انما هي فعالية جسمية او فيزيقية ، وهذا ظن يصدق على المراحل الاولى ولكنه ليس كذلك في


الصفحة 91


مراحل متأخرة ، عندما يكون بوسع الطالب ان يكون فعالا تماما حينما يتسنى له ان يكتشف شخصيا الحقائق التي يكتسبها ، حتى اذا كانت الفعالية التي يقوم بها موجهة داخليا نحو الذات وقد تمت على صورة تأمل مجرد.


ووجه الخلط الثاني يتكون من الاعتقاد بأن اية فعالية تعالج ، الاشياء الملموسة لا تعدو كونها عملية مجازية معنوية ، وبتعبير اخر ، فما هي الاسبيل الى استنساخ لتلك الاشياء سواء تم هذا الاستنساخ عن طريق الادراك الحسي ام عن طريق الصور العقلية لتلك الاشياء الموضوعية . واذا سرنا بهذا الاتجاه نكون قد نسينا حقيقة ان المعرفة هي ليست عملية استنساخ صور معنوية للواقع كما نصور الامر لانفسنا ، لكن المعرفة بشكل ثابت تتألف من عمليات اجرائية تؤدي الى تغيير وتحويل في الواقع الذي يعيشه المرء ، ويتم ذلك على صورة نشاطات او على شكل تفكير ، وذلك كي يتم التمكن من استيعاب هذا التحول وبذلك يتاح تمثل الاحداث والاشياء الموضوعية فتتحول الى منظومات من العمليات الاجرائية .


هذا الى جانب كوننا ننسى ان الخبرة التي تؤثر في الاشياء الموضوعية قد تتخذ صورتين ، احداهما منطقية - رياضية وترتكز في وضعها على استقاء المعرفة ، ولكنها معرفة لا تستمد من تلك الاشياء كما هي ، وانما من

النشاطات التي تحور تلك الاشياء :


الموضوعية . واخيرا ، اننا ننسى كذلك ان التجارب الفقيزيقية بدورها ، والتي تتأتى المعرفة فيها وتستل عادة من تلك الاشياء نفسها ، تؤثر في الاشياء الموضوعية لتحولها وتنقلها لتجردها وتميزها ، ولتوضح التباين بين ما تتيحه تلك الاشياء من عوامل ، واذن فليست المسألة هي مجرد استخلاص نسخ معنوية ، كما قد يظن .لما كانت هذه الجوانب كافة يكتنفها النسيان ، فأن الطرائق


الصفحة 92


التبصيرية تتولى بكل بساطة عملية تزويد الطلاب بوسائل ايضاح بصرية ناطقة ، تعكس الاشياء او الاحداث نفسها ، او انها تتيح لهم نتائج العمليات الممكنة ، ولكن دون ان تفضي الى اي ادراك فعال لتلك العمليات . فهذه الطرائق ، التي تعتبر تقليدية ، قد نمت ذاتيا وهي تعتبر تقدما ظاهرا بالنسبة الى الاساليب اللفظية او الشكلية ، وانه فقط كنتيجة للخط البسيط بين جوانب الفكر المعنوية والاخرى الاجرائية نجم الاعتقاد الذاهب انه من الممكن امتداح ما هي عليه الطرائق الفعالة من مثالية في الوقت الذي يعزي فيه الى مادة التربية جانب شكلي من ناحية المظهر المعنوي الخالص فقط .


ورغم كل ما تقدم ، فأن الفترة التي مرت فيما بين ١٩٦٥،١٩٣٥ قد شهدت مجددا ظهور الطرائق التبصيرية بصور جديدة متعددة كثيرا وكلها ، ينبغي لي ان اكرر ، مما ييبعث على الاضطراب ، وهذا نابغ من ان جميع المتبارين في حلبتها يعتقدون بحسن نية منهم قد وفوا بجميع المتطلبات الحديثة في علم نفس الطفل . ولنضرب مثلا واحدا على هذا ، فأنا نفسي كنت قد تلقيت احد الكتب البلجيكية المقررة في الرياضيات للمبتدئين وتتصدره مقدمة لاحد المربين المعروفين جيدا ، وفيد يشير كل من المؤلف وكاتب المقدمة الى بحوثي الخاصة بهذا الصدد . بل ينسبان لي الشرف بأنني انا مصدر الالهام في هذا الشأن ، علما بأن معالجة الجانب المنطقي - الرياضي قد اختلفت عن طريقيهما التي يدعوان اليها واحلا محلها البديهيات المعنوية - والتي هي حقا استاتيكية في الغالب .


الصفحة 93


ولا جدوى هنا من العودة ثانية الى موضوع (القضبان الكوسينارية) اذ سبق لنا ان رأينا انها معرضة كلية الى عكس ما ترمي اليه من طرائق ، وان بعضها اجرائية اصيلة فيما اذا سمح لطفل ان يستبين بنفسه العمليات المختلفة التي يمكن ان تتحقق عن طريق معالجته للقضبان معالجة تلقائية ، لكن بعضها تبقى اساسا حسية او معنوية عندما يتوقف الامر على ما يأتيه المعلم من تفسير يتناول التكوينات العامة لها .


وقد طرأت لاحد المربين السويسريين فكرة استخلاص اقصى ما يمكن ان تنطوي عليه الطرائق التبصيرية من دينامية ومرونة في تدريس الرياضيات ، ليس بواسطة الطرائق الجامدة ، وانما عن طريق الاف م التي عن طريق استمرار حركتها البصرية تمكن الطفل من ملاحظة الاساليب الجذابة في التحليل والتركيب ل رقام على صورة حركة دائمة . وبالنسبة للمبتدئين بدراسة الهندسة ، فلنضرب مثلا متميزا بارزا ، وهو ان هذه الطريقة تتيح اجلى توضيح لنظرية فيثاغورس التي تكتسب العلاقات فيها وضوحا


بصريا جديرا بأسمى عبارات الثناء . ومع هذا ، فالسؤال لا يزال :


هل هذا هو حقا السبيل الحي الى تدريب الطفل على الاستدلال الهندسي والبناء الاجرائي عامة ، كان (بيرغسون (١) ، الذي كان مضطغنا على الذكاء ، قد شبه نشاطه (الذكاء) بعملية التصوير السينمائي ، ولو كان مصيبا في مقارنته هذه لكانت الطريقة السينمائية هذه للمبادرات التربوية اخر المطاف في الطرائق التعليمية العقلانية . على ان بيرغسون ، للاسف ، قد اخطأ بحق مشكلة العمليات العقلية واخفق في فهم ما يؤلفه التحول الاجرائي من نشاطه اصيل ، مستمر متوافتر ، ابداعي : لا ريب في ان نقده للذكاء نقد يتصف بالعمق من وجهة نظر الاستعراض البصري ، اي من الناحية المعخوية وليس الناحية الاجرائية للفكر ، وكذلك يمكن


الصفحة 94


القول ان تربية تقوم على الصور العقلية حتى لو اثريت بما يبدو من دينامية في الغلم ، فأنها تبقى تربية عاجزة عن تدريب البنية الاجرائية وما ذلك الا لأن الذكاء لا يمكن تفتيته وتحويله الى مستوى الصور التي تبدو في الفلم : ولعله من الاصح مقارنة الذكاء بمسقاط (projector) يضمن استمرار عرض الصور ، بل الافضل تشبيهه بسلسلة من المكنيات السبرانية (cybernetic)


التي تؤمن فعلا بتلاحق وتتباع مجرى الصور مع وومضات من النطق الداخلي الذاتي وبواسطة عمليات وبواسطة عمليات ذاتية التنظيم وذاتية التصحيح .


وبأيجاز ، فأن الصور والافلام ، وجميع الطرائق السمعية - البصرية التي تأخذ بها اية بيداجوجيا حريصة على ان تساير الحداثة والتحديث وتمطرنا بأستمرار بما هناك من مستحدثات انما هي وسائل لها قيمتها بقدر ما يمكن ان تكون عليه من متضمنات روحية ، ومن الواضح انها تمثل تقدما واضحا يفوق طرائق التعليم اللفظية المجردة . ولكن هناك لفظية في الصور العقلية ، كما توجاد ثمة لفظية في الكلمة ، وعندما نقارنها بالطرائق الفعالة وبالطرائق الفعالة وبالطرائق التبصيرية ، فأننا نجد ان الجوانب اللفظية هذه ما هي الا تعويض عن تلك الطرائق اللطيفة المهذبة الموضحة ، وكأن الامر بأكمله قد حلت فيه لفظية صورية محل لفظية تقليدية .


ومما تجدر ملاحظته - وهذا هنا هو بمثابة دين وليس بمثابة رصيد يضاف على علم النفس من حيث تطبيقاته البيداجوجية - هو ان الطرائق التبصيرية الحدسية قد استطاعت ان تفيد فائدة كبرى من الحركة النفسية بجملتها ، هذه الحركة التي اظهرت جدارة كبرى في جوانب اخرى : والحركة هذه هي المعروفة بأسم صيغة علم نفس الجشتالت ، وقد بدأت اول الامر في المانيا ، قبل ازدهارها في مواطن اخرى . فليس من قبيل المصادفة اذن ان تكون للطرائق


الصفحة 95


التبصيرية هذه اوسع تطوراتها في الارجاء التي تتحدث الالمانية ، حيث ما تزال تحظى بأعتبار كبير . فعلم نفس الجشتالت وذلك بعد ان غير تغييرا جذريا كثيرا من مشكلات الادراك الحسي على نحو عميق ومفيد ، فهو قد راح يتحرى في التراكيب المدركة او في (الكليات) ، انماطا ثابتة محددة في جميع البنى العقلية الاخرى ، بما فيها التراكيب العقلانية اوة المنطقية - الرياضية . واذا كان هذا صحيحا ، فلا حاجة الى القول اذن بأن هذا الاتجاه يؤلف تسويفا محددا لوجود الطرائق التبصيرية .


على ان نظرية الجشتالت لم تعد اليوم تتمتع في مجالات علم النفس ككل ، بما كانت تحتله من مكانه ، والسبب يعزي اساسا الى اغفالها نشاط الفرد واتجاهها الى التأكيد على ما يصدر هناك من بنى اولية ونشاطات فيزيقية متخصصة او نيورولوجية ، وهذا ما جعلها في مجابهة مع مد الحركة الوظيفية الظافرة التي نشأت في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا . يضاف الى هذا فأن الجشتالتية انما هي تركيب كلي ليس تجميعا اضافيا ولا تكوينا تعاكسيا ، في حين ان الكليات التكوينية الاجرائية هي تعاكسية وتجميعية اضافية (فمثلا 4= 2+ 2، لا اكثرلا ولا اقل فليس كما هي الحال عادة في المجال الادراكي) . وهذا بالضرورة ينطوي على ان العمليات العقلية لا تخضع الى (اشكال) او صيغ الادراكالبصري او الادراك الحسي بوجه عام وكنتيجة مباشرة لهذا :


فأن الطرائق التربوية التبصيرية يجب ان تمكث من حيث المكانة كثيرا دون ما هي عليه الطرائق الاجرائية او الفعالة من مكانه .


الطرائق المبرمجة والادوات التعليمية :


جنبا الى جنب مع مدرسة بافلوف الانعكاسية ، تمخض علم النفس الامريكى عن عدد من نظريات التعلم المبنية على أساس


الصفحة 96


المنبه - الرجع او (S-R ،م -ر) . اذ كان (Hull هل) اولا ومن كم (طولمان) قد طورا عددا من النظريات المفصلة القائمة على مؤثرات تكوين العادات ونتائجها ، وهذه تنتهي بتكوين (سلم متدرج من العادت) المتأتية من استعمال دلائل ومؤشرات ذات مغزى على انه وان لم يكن هناك اتفاق تام بين هؤلاء الباحثين فيما يتعلق بأهمية هذه العوامل بشكلها التفصيلي ، فأنهم جميعا يقرون بأهمية عناصر (التعزيز) او التدعيم الخارجية ، ويعترفون متطلبات قوانين التعلم الثابتة نسبيا وخاصة ما يتعلق منها بمسألة التكرار وطول الفترة اللازمة للتعلم .


واحدث النظريين الامريكيين واشهرهم هو هو (سكنر) ، صاحب التجارب المعروفة التي اجراها على الحمام (وان كان قد اجرى من قبل تجارب معروفة ايضا على الجرذان البيضاء لكنه جانبها بعد)


قد انتهج منهجا وضعيا . وبمعرفتنا الاولية بطبيعة التكوين النيورولوجي وجه سكنر اهتمامه الى المنبهات او المدخلات ، التي يمكن ان تتنوع حسب الارادة ، والى الاستجابات او المخرجات ، التي يمكن ان تلاحظ كذلك ، وقد وجه عنايته الى ما يربط بين الاثنين من علاقات مباشرة ، مهملا ما هناك من روابط داخلية . ففكرة


(الصندوق الفارغ) بالنسبة للكائن العضوي ، تصدم أنفه عن قصد في مختلف ضروب الحياة العقلية ، سواء بالنسبة للانسان ام للحيوان ، لذا فأنه مضطر ازاء هذا الى ان يلزم نفسه بسلوك تتمثل فيه الجوانب المادية المحسوسة بأجلى مظاهرها ، لذا فأن (سكنر) قد اغفل اي بحث ممكن يرمي الى ايجاد تفسيرات من شأنها ان تؤدي الى التكريز كلية على قوانين عراض يكشف عنها التجريب المتزمت المفصل . ولما كان الامر على هذه الصورة ، فأن سكنر ، وقد سبق له ان صاغ كثيرا من القوانين الخاصة بالتعلم وقد حقق بعضها الاخر ، فأنه حاول التجرد من كل ما يمكن ان يعرقل مسيرة


الصفحة 97


بحوثه وتجاربه ، فأدرك ان التجارب تسير على نحو افضل عندما يستعاض عن تدخلات الانسان فيها بأدوات واجهزة اخرى .


وبعبارة اخرى ، فأن الحمام المجرب عليه قد اصدر ارجاعا اكثر انتظاما عندما كان يجد نفسه بصدد التعامل مع (مكائن تعليمية) نستطيع تطبيق المنبهات بمنتهى الدقة وبأقل متغيرات زمنية . وقد ادرك (سكنر) بفكره الثاقب ، وهو معلم بالمهنة ومنظر في مجال التعلم ، بأن ملاحظته هخذه يمكن تطبيقها في مجال تعليم الانسان ، وان الادوات التعليمية هذه متى كانت مبرمجة على نحو جيد ، يمكن ان تتيح نتائج افضل مما تأتي به طريقة التعليم اللفظية المعرضة لكثير من المتغيرات عند التطبيق . ولما لم تكن فكرة الصندوق الفارغ بالنسبة للكائن العضوي بقادرة على ان تجعل كثيرا من الاعتبارات المتعلقة بالعوامل الداخلية لتعلم الانسان ضرورية ، فأنه يكفي ان يلم بقوانين التعلم العامة وبمادة الموضوع المتعلقة بفروع المعرفة المختلفة التي يراد تدريسها ، لغرض بناء برامج مساوية في محتواها في الاقل الى مجموع المعرفة المطلوبة بوجه عام .


فالتجربة قد طبقت وبرهنت في نتائجها على نجاح شامل . ولا حاجة الى القول بأننا اذا ما اقتصرنا في تدريسنا على الطرائق الاعتيادية في التعلم بواسطة التوصيل اللفظي واعتمدنا على العمليات التلقينية ، فأن الاسلوب هذا لا ينهار . اننا لنجد المناسقين وراء العواطف وممن هم بطبيعتهم قلقون يحزنون لفكرة لا اساس لها وهي ان المكائن والالات ستحل محل المعلمين . وفي اعتقادي ان هذه المكائن والالات قد حققت لنا في الاقل خدمة جلى ، فهي قد طبقت بما لا يدع مجالا للشك طبيعة وظيفة المعلم في تدريس الرياضيات على النحو الذي تؤديب به وفق الطريقة التقليدية في التعليم : فأذا كان المثال المرتجي من تلك الطريقة هو لمجرد


الصفحة 98


استلال تكرار الاستجابة الصحيحة لما كان تم تقديمه بصورة صحيحة من تعلم ، فلا مشاحة في القول في انه بوسع الالة او الماكنة هذه ان تنجز الشروط المطلوبة منها على وجه سليم .


ومما اثير من اعتراضات القول بأن الالة تستبعد جميع العوامل الفعالة المؤثرة لكن هذا ادعاء ليس بالصحيح ، وان (الحفز) المكثف ليحقق الشيء الكثير اكثر مما يتحقق بالطرائق التقليدية وبالدروس التقليدية . فالسؤال في الحقيقة عما اذا كان المعلم يؤدي على نحو مؤثر دوره ويقوم بانجاز وظيفته بالشكل المطلوب . وكان(كلاباريد) 


قد افصح عن رأيه يومذاك بأن فترات التدريب الكافية التي تنفق في اعداد المعلم يجب ان تعطى الى تمرين الحيوان وتدريبه ، والسبب ان الاخفاق فيما يأتيه الحيوان من اداء بعد التجربة ينسبه المدرب الى نفسه بينما عندما يحدث الاخفاق في التربية يعزوه المعلم الى التلميذ .


ولهذا الاعتبار فأنه ينبغي ان نلاحظ بأن الات (سكنر) تتيح شواهد على علم النفس الصالح ، اذ دائما تنتفع من التدعيمات الايجابية وتستثنى كلية العقوبات السلبية .


ان مبدأ البرمجة (الذي طبقه سكنر في دروسه النفسية قبل نعميه ليشمل جميع فروع التعليم) هو التالي : بعد ان يعطى الطالب التعريفات الاولية ، فيجب عليه بعدها ان يستخلص الاستنتاجات من تلك التعريفات والتحديدات ، وهذا معناه ، عليه ان يختار الحل الصحيح من بين حلين او ثلاثة تقدمها له الآلة . فأذا اختبار الحل الصحيح ، بعد الضغط على زر معين ، فأن تتابع العمل يتوالى ، في حين انه اذا اخطأ فأن العمل يتوقف وعليه ان يعيد الكرة شكلها الصحيح . فكل فقرة جديدة من فقرات المعرفة التي تقدمها الآلة تؤدي اذن الى اختيارات تتيح شواهد على مقدار ما احرز المتعلم من استيعاب ، وبالتكرار الضروري ، وكذلك عن طريق


الصفحة 99


التقدم المضطرد يتحقق النجاح المطلوب المتواتر . وان اي فرع من فروع التعلم يمكن برمجته على هذا النحو تبعا لهذا المبدأ ، سواء أكان تعلما يقوم على الاستدلال الخاص ام تعلما يرتكز على التذكر البسيط.


ان الآلات التعليمية ، من الناحية العملية ، منظورا اليها من هذه الجوانب ، قد حققت نجاحا فائقا وهي قد ادت الى ازهار في مجال الصناعة . ففي وقت تعاظمت فيه اعداد الطلبة مع قلة في اعداد المعلمين لمواكبة تزايد الاعداد هذه ، اصبحت الادوات التعليمية هذه تؤدي خدمات جلى ، وهي بوجه عام توفر وقتا كثيرا اذا ما قورنت بطرائق التعليم التقليدية . وهي لا تستخدم في المجال المدرسي فحسب ، بل هي ايضا تستعمل في الميادين التجارية حيث تقتضي الضرورة ، لامر او لاخر ، توجيه الكبار وتعليمهم بسرعة .


اما عن القيمة التي تنطوي عليها الطريقة التعليمية هذه ، فتلك تتوقف بطبيعة الحال على ما يرتبط بها من اهداف في مجال من مجالات التطبيق . ففي حالة الاهتمام بأكتساب معرفة معينة ، كما هي الحال في تعلم اللغات مثلا فأن الالة هذه تؤدي خدمة لا تنكر وخاصة من حيث توفيرها للوقت . وفي الحالات التي يكون التوجه فيها الى التدريب على الاستدلال ، كما في تعليم الرياضيات مثلا ، فأن الالة تتطلب من الطالب ان يكون في موقف متمكن فيه من الاستيعاب او الاستدلال ، وهي توجه مسار بهما في قنوات ليست في صالح المتعلم للاسف ، وتستبعد امكانية المبادأة من جانبه . وانه لمن النافع ان نشير في هذا الصدد الى مؤتمر (وودزهول) الذي المعنا اليه من قبل ، حيث كان اهتمام المؤتمرين فيه من مختصين بالرياضيات والفيزياء منصبا على ايجاد وسائل لانعاش تدريس العلوم ، لم تجد اراء سكنر في ذلك المؤتمر الاحماسا محدودا ، نظرا الى ان المشكلة التي كانت امام المؤتمرين لم تكن البحث عن وسائط


الصفحة 100


تحقيق استيعاب افضل ودقيق بقدر ما كانت ترمي الى التحري عن انجع السبل لتشجيع تنمية العقول المستوعبة والمبدعة .


يمكن القول اجمالا ، طالما ان كل جانب من جوانب المعرفة وان كل موضوع فيها ينطوي على مجموعة من الحقائق المكتسبة ، وان الموضوعات هذه قد تتخذ منطلقات لفعاليات مختلفة من البحوث المفضية الى الاكتشاف واعادة الاكتشاف ، فمن المكن اذن ان نلاحظ ثمة توازنا يصاب في هذا الشأن ، لكنه يتفاوت من موضوع لاخر ، والتأرجح هذا ينشأ تبعا للدور الذي يتم فيه اكتساب الموضوع اعتمادا على التذكر او الفعالية الحرة . وهنا يأتي دور هذه الالات في توفير الوقت الذي لا ضرورة لتبديده فيما لو اتبعت الطرائق التقليدية ، وبتوفير الوقت يتضاعف عدد الساعات التي يمكن توظيفها في النشاط وفي العمل الفعال . وعندما يكون الامر على هذه الصورة ولا سيما اذا كان العمل الفعال يستلزم العمل والنشاط على صورة عمل فريق فيما يتصل بالحوافز والضوابط ، ونجد الالات هذه من الجهة الاخرى تتطلب عملا فرديا ، فأن هذا يفضي الى ضرب اخر من ضروب التوازن : بين الجوانب الجمعية والاخرى الفردية من حيث المجهود العقلي ، وكلا الجانبين اساسي في الحياة المدرسية المتناغمة .


لكن التعليم المبرمج لا يزال في بداياته ، وان من السابق لاوانه ان نتنبأ بشأن مستقبله . فهو كسائر طرائق التعلم الاخرى يقوم على اساس جانب واحد من جوانب دراسة تطور الحياة العقلية ، فهو قد يفلح من حيث وجهة النظر التي تمليناها الان ، ولعله في الوقت ذاته لا يبرهن على كفاءة مرموقة عندما ينظر اليه على انه طريقة تدريسية عامة . وهذه مسألة ، شأنها شأن كثير من المسائل البيداجوجية ، لا يمكن حلها بمقدار ما يقحم فيها من مناقشات مجردة او ظنية ، وانما يمكن الجزم بصددها عن طريق تجميع ماالصفحة 


الصفحة 101


يلزم من حقائق لازبة واختبارات موجهة .


على ان المستغرب في هذه الحالة ، وان اعداد مثل هذه الاختبارات يقتصر على مجال تعليم الكبار بدلا من ان يكون ميدانه الجو المدرسي اياه ، ولهذا سببان في الاقل : الاول ، ولعله مؤسف ، لكنه مشجع هو ان النتائج الفعالة لأية طريقة تعليمية يمكن اختبارها وتمحيصها عن كثب عندما تطبق على الكبار الذين لا وقت لديهم يبددونه فيتم التأكيد منها بصورة اسرع مما لو طربقت على الصغار الذين وان كان الوقت المنفق في تربيتهم ثمينا ، لكن كثيرا من الناس لا يرونه كذلك . لذا فأن نتائج التجارب التي على الكبار جديرة بالاهتمام الثاقب ، وامثلة اخرى يمكن ان تضرب على هذا ، منها مثلا دورات الرياضيات التي تعطي للطيارين والبحوث التي يقوم بها الاطباء في الجيش ، كتلك البحوث التي اجريت في مركز فرساي بالتعاون مع معهد علمن النفس في جامعة السوربون .


والسبب الثاني ، هو ان طرائق التعليم المبرمج ، في اغلب الحالات تتحول مقدما الى عمل لا قيمة له وعلة ذلك تعزى الى حقيقة هي ان القام على البرمجة هذه بدلا من اعداد برامج تتميز بالكفاءة المبنية على مبدأ الاستيعاب الاستطرادي المتقدم ، يقتصرون في جهودهم على مجرد نقل محتويات الكتب المقررة المتداولة - وهذه غالبا ما تكون واطئة المستوى ، ويحاولون تحويل المنقولات هذه الى اطر مبرمجة ميكانيكية - ويبدو ان هناك من الاسباب ما يدعونا الى ان نأمل بأن تأتي طريقة سكنر بنتيجة تهدف الى تخليصنا في الاقل من وطأة الكتب المدرسية الثقيلة ، التي اصبح معروفا على نحو واسع بأنها مصدر كثير من المكشلات الخطيرة . والحقيقة المتبعة في الغالب ، هي ان اؤئك المستئولين عن مهمة البرمجة ، استسهالا منهم للآمر ، فأنهم لا يكلفون انفسهم اكثر من انتقاء الاسئلة والاجوبة من بطون المقررات المدسية المتوفرة ، وهي اسئلة تتتابع


الصفحة 102


بصورة اوتوماتيكية ، وبالتالي فلا تتطلب من المتعلم اكثر من جهد الي التي والكير القام تعل الذكر مج تستلنم من جانبه


الصفحة 103



الفصل الخامس: التغيرات الكمية في التربية والتخطيط التربوي



لو شئت تقديم صورة متفائلة عن التربية منذ عام 1935، لبدأت بالفصل الحالي هذا ولاكدت منذ البداية على التوسع الشامل في مجالات التربية خلال العقود الاخيرة . وهذا بكل تأكيد تطور مشجع ، اذ ان ما طرأ من تزايد في اعداد الطلبة لم يكن مرده فقط الى الزيادة الحاصلة في ازدياد عدد السكان ، وانما يعزى كذلك الى ما اتخذ من اجراءات تتعلق بالعدالة الاجتماعية التي يسرت اسباب التعليم لجميع فئات الاطفال ، وبخاصة للمراهقين منهم ممن كانوا سابقا يواجهون صعوبة التعليم لاسباب اقتصادية ، كما يعزى الامر كذلك الى مد فترة ترك المدرسة في كثير من الاقطار ، والى تأسيس كثير من المدارس المهنية . لكن الجوانب الايجابية هذه في التطور التربوي يجب الا تنسينا ما هناك من مشكلات تتصل بكفاءة لطرائق التربوية المطبقة ، ولنتذكر ان تدبر الامور فقط من الزاوية الكمية فقط قد يؤول الى خطورة تزييف الصورة بعض الشيء فلا ظهر على حقيقتها ، اذ لا نستطيع ان نبرهن دائما على ان التوسع الكمي اللا محدود هذا ، يمكن ان يوازيه نجاح او نصر تربوي .


فيبدو لي من الاصوب اذن ان نسرع بالتأكيد على المشكلات التي لا تفتأ تواجهنا ، مشكلات تتعلق بالعجز في معرفتنا التربوية ، وبأخفاقنا في ربط هذه المعرفة بما هو حاصل من تقدم في علم النفس ، وباستيعاب مختلف ضروب التحولات في جميع فروع المعرفة ، وما هناك من تطورات في الطرائق التعليمية ، يلزمنا ان نلتفت الى هذا كله قبل الانطلاق صوب تمحيص المسائل الملموسة سواء ما كان منها يتطلب حلا عاجلا كلما جدت الحاجة ام ما كان منها يتطلب تأملا مستديما وتخطيطا منتظما كالمسائل التي تتوقف في حلها على مجموعة المشكلات المذكورة أنفا . لذا فأنه تمشيا مع المنحى الموضوعي ، كنا قد ارجأنا حتى الان مسألة تمحيص جميع التحويرات التي فرضتها على التربية التغيرات الحديثة في


الصفحة 107


مجتمعاتنا على ان نضع نصب اعيننا دوما بأن هذه الحقائق الكمية لا تعتبر بحال من الاحوال خالية من حيث الاهمية مما يشوبها ، وانها تدلل على ما هناك من مشكلات قائمة بدلا من ان تشير الى ما تم التوصل اليه مسبقا من حلول . فأذا شئنا ان نقيس مقدار ما حققه الطب من تقدم ، فأن الاحصاءات التي تذكر لنا عدد المرضى الذين تمت معالجتهم لا تجدينا شيئا كثيرا ، بينما نجد ان ما تم الحصول عليه من نتائج ايجابية انما تسنت نتيجة للمعالجات الحكيمة وتوسيع نطاقها الاجتماعي ، يتيح لنا تبصرا افضل حول المشكلة ، وانه على وجه الدقة لهذا هو الامر الذي ما برحت التربية تفتقر اليه ، وهو مهما طرأ من تقدم في الاجراءات المهيمن عليها رسميا من جانب الدولة ومهما كانت هذه الاجراءات مشجعة ، فأنها مشجعة ، فأنها رغم كل ذلك تدع هناك سلسلة غير متناهية من الاسئلة التي تنظر الاجابات .


على ان التغيرات الحديثة في مجال التربية ليست كمية وحسب ، واننا لنجد اصلاحات تربوية شاملة أخذة سبيلها بدرجات متفاوتة وفي مختلف البنى التربوية . وان الاصلاحات التربوية هذه قد جاءت نتيجة لعملية تضافرت فيها عوامل كثيرة ، ولعل ابرز عنصرين اثرا في هذا الشأن ولا يتمارى فيهما احد ، هما الثورة العلمية والتقنية من جهة ، والاتجاه العام بأزاء ديمقراطية المجتمع والتربية من ناحية ثانية . وان كان يجب ان نلاحظ هنا تارة اخرى بأن المآل التالي للاصلاح ونتائجه الفعالة هي ليست فقط عبارة عن وظيفة لما ادى الى تحفيزها وهي ليست نتيجة اثر من اثار الكفاءة في الادارة التربوية الجديدة والبنى التربوية الموضوعة تحت تصرف ما يرتجي من غايات : بل ان النتائج لتتوقف الى حد بعيد على الطرائق التربوية المطبقة ، وعلى افضل الخطط التي ، ما لم يدعمها تطوير جذري في المنهجية والتكنولوجيا ، تبقي من غير مستقبل مشرق


الصفحة 108


ولهذا السبب بالذات نتساءل : لماذا لم تعد المسائل الأولى الخاصة.بتطور الفكر العلمي بشرطيه (المنطقي - الرياضي ، والتجريبي ، بل وحتى الفني منه) ، والتي كنا بصدد بحثها لحد الآن ، لم تعد مسائل تمهيدية وانما هي امور تؤثر تأثيرا مباشرا على الدينامية الفعالة لما نتوخى من اصلاحات وما نرمي اليه من تخطيط بعيد المدى .


حقائق كمية

:


ان اولى الحقائق الاساسية هي النزعة السائدة في جميع الاقطار الجديدة الى تبني او تعميم مبدأ التعليم الالزامي ، والميل في تلك الاقطار المتبنية لهذا الاتجاه الى ان تطيل فترة التعليم . ففي فرنسا مثلا ورد في قانون الاصلاح التربوي الذي صدر في كانون الثاني (يناير) 1959، ضرورة استمرار التعليم الالزامي (حتى نهاية السنة السادسة عشرة للاطفال من كلا الجنسين ، سواء منهم الفرنسيون ام الاجانب المقيمون في فرنسا ممن يبلغون السادسة بعد اليوم الاول من كانون الثاني1959) يساير التوسع في التعليم الالزامي هذا زيادة الاجراءات المتخذة بشأن الغاء نفقات التعليم المطلوبة من الافراد وزيادة المنح التربوية التي تعطى الى الافراد .


وان التعليم الذي تتولى تمويله الدولة على المستوى الابتدائي ، قد امتد ليشمل المستويات الثانوية ، بل وصل احيانا ليشمل بعض معاهد التعليم العالي .


بصرف النظر عن التمييز العنصري والعرقي الذي لا يزال قائما في بعض الاماكن من العالم ، فأن عدم المساواة بين الجنسين في حقوق التعليم وفي فرصة يبقى عقبة تحول دون انتشار التعليم وتعميمه في كثير من الاقطار . وانه لفي وقت متأخر ، وذلك عام 1929، شعر المؤتمر الدولي الخاص بالتربية العامة ؛ بأن الضرورة


تلزم بأتخاذ توصية توجه الى وزارات التربية تتعلق بموضوع


الصفحة 109


(الفرص التربوية الممنوحة للمرأة) والمطالبة بأشياء كثيرة لها ، منها مدة فترة التعليم الالزامي للمرأة واستثناؤها من نفقات التعليم ، ومنحها الاعانات العائلة ، ومنحها المساعدات لمواصلة دراستها ، وبهذا يمكن للمرأة ان تتابع تعليمها الثانوي والفني ، والجامعي .


ورغم ما تحقق من تقدم في هذا الشأن فما زلنا بحاجة الى البيانات التي تكشف لنا عن الحقائق التي انجزت بهذا الصدد ، وما زلنا نتطلع الى الحالات التي يمكن ان ترغ على الاسئلة المطروحة وما تم انجازه بصدد المعالجات المطلوبة .


رغم هذه المعوقات التي لم تكن لحسن الحظ واسعة ، فأن انتشار التربية وتوسع التعليم سائر ان بشكل منتظم من حيث الكم ، وتبين من التقارير التي قدمتها بعض الاقطار الى اللجنة الدولية للتربية ، ان عدد الاطفال الذين يتلقون تعليما سابقا للمرحلة الابتدائية قد ازداد فيما بين عامي 1956و 1959 بنسبة


- ٪6٪ 7، وازداد عدد الذين يتلقون تعليما في المرحلة الابتدائية بنسبة- ٪6٪ 8فيما بين عامي 1959 و1963) (وقد بلغ ذلك احيانا بنسبة 12 - ٪11٪ في بعض الدول. ومن مجموع ((64


بلدا قدمت حقائق كمية عن التعليم الثانوي ، تبين ان (59) بلدا منها كانت الزيادات فيها مستطردة ، وانه فقط (5) منها اتضح فيها تناقض من حيث الكم . وفيما بين 1959و1963 ، نجد معدل الزيادة يتراوح بين 5ر7- ٪10ر13٪ في العام الواحد (وان الارباعي الرابع يبدأ من 6ر18٪) . وقد تبينت زيادات مماثلة في الاعداد المهني وان عدد الطلاب في التعليم العالي قد تفاوتت نسبة اعدادهم من قطر لاخر ، اذ ان النسبة هذه تراوحت بين اقل من 7٪ (الارباعي الاول) و6ر17٪ (الارباعي الرابع) .


ولا ضرورة للقول بهذا الصدد ان هذه الزيادات تستلزم زيادات


الصفحة 110



في ميزانيات وزارات التربية . فالميزانيات المرصودة قديما لم تعد كافية وخاصة بالنسبة لمتطلبات التعليم العالي ومن هنا جاءت الضرورة لانشاء مراكز البحوث العلمية اذ هي ترفد ما هو مرصود في ميزانيات الجامعات لمواجهة (التعليم العالي) ، لكن هذه الزيادات في ارتفاع مستمر ، ففي عام 1963 كانت الزيادة قليلة نسبيا بمقدار 9٪ حسب منظور الارباعي الاول (وهذا بالنسبة الى 87 بلدا) وبنسبة 65ر15٪ حسب منظور الارباعي الرابع .


والدلالة الملموسة الاخرى في هذا الاتجاه العام هي اضطراد عدد من ما بني من مدارس جديدة . واية مقارنة صادقة تكون صعبة المنال في هذا المجال ، ولكن لدينا الارقام التالية نوردها على سبيل التمثيل (مستقاة من اللجنة الدولية الخاصة بالتربية) :


اعلنت فرنسا انها فتحت في ايلول (سبتمبر) (13915)، 1961


صفا جديدا لطلاب المرحلتين الابتدائية والثانوية ، وذكرت بولندا انها بنت سنة4221 1962)) صفا في المرحلة الابتدائية ، واوضحت كندا انها فتحت اكثر من (8000) صف في ثمان من مقاطعاتها . ولكن مقابل ما تقدم ، لم تتوفر لدينا حقائق تتعلق باستقطاب العدد اللازم من المعلمين ولا نعرف عما تم بصدد اعدادهم لمسايرة هذه الزيادات المضطردة . وسنعود فيما بعد الى هذه المشكلة المركزية ، التي عليها يتوقف في النهاية مستقبل التربية كله (في الفصل الثامن .(


التخطيط التربوي :


ان هذه الزيادة الكمية المكثفة في التربية ما هي الا انعكاس للتحولات الشاملة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية (1945) ، وقد ادت الزيادة هذه الى اصلاحات في البنى في البرامج التربوية ، وكانت السبب الثابت بل الدافع الحقيقي الذي اضطر كثيرا من


الصفحة 111


الحكومات الى التفكير بهذه الاصلاحات مع التطلع الى المستقبل ، وان تقوم بالتخطيط البعيد المدى .


ان الضرورة لاعادة البناء والتعمير الاجمالي في المناطق المنكوبة ، وما حصل ، من تغيرات سياسية في كثير من الاقطار ، وما ظفرت به بلدان اخرى من استقلال ، وتقسيم العالم الى كتل ، وما تلا هذا مت تجمعات سياسية ، وما صاحب هذه التجمعات من تحولات وتغيرات عميقة في التكنولوجيا وعلم الاجتماع والاقتصاد استمت احيانا بالصلاح واتصفت في احايين اخرى بكوارث ، واخيرا ما طرأ هناك من تناحر وصراع بين التقاليد الثقافية وبين ضرورات اعادة التكيف هذه الاسباب كلها مجتمعة ومتفرقة قد انعكست آثارها ، بدرجات متفاوتة ، على الاصلاحات التربوية . ومما يدهش حقا هو اننا نجد الحكومات وهي تواجه هذه المشكلات الكثيرة الملحة ، تولي الاهمية الاولي الى الاصلاحات التربوية . لكن حياة الانسان تقوم اساسا على اعداد الاجيال الجديدة اللاحقة من قبل الاجيال القديمة السابقة على اساس من النقل الخارجي او التربوي ، وليس على اساس من الجوانب الداخلية او الوراثية ، لذا فأن الاهتمام الاول لاي نظام يتوخى ارساء دعائمه يجب ان يرتكز على الاعداد المدرسي ، وبعبارة اخرى ، على الوسائل المباشرة التي في حوزته ، وعلى التربية في رحاب الاسرة .


لذا فاننا نجد من مقارنتنا لمجموع الاصلاحات او لجزء منها كما اعلنتها عدة وزارات للتربية في تقاريرها السنوية التي ضمها الكتاب السنوي للتربية الدولية ، ان الاصلاحات قد انجزت من قبل 43٪ -


72٪ من الاقطار فيما بين 19038،1933 ، وقد انخفضت الى  - ٪28٪ 45


خلال الحرب ، ثم ارتفعت الى - ٪84٪98 من مجموع الاقطار كافة فيما بين 1946و1960 .


لكن الاصلاحات شيء ) (وسنعود اليها في الفصل السادس)


الصفحة 112


والتخطيط البعيد المدى شيء اخر . وحالما تحصل زيادة في اعداد الذين يدخلون المدارس بحيث لا تعود هناك نسبة وتناسب بين الداخلين الى المدارس وعدد السكان ، وحالما تتخذ الاجراءات ، لاسباب تتعلق بالعدالة الاجتماعية او تحت تأثير ضغوط العوامل الاقتصادية ، لاطالة فترة التعليم الالزامي ولتسهيل بلوغ مرحلة اللا الزام ام بأية وسيلة ممكنة ،! فلا يبقى هناك اختيار غير التفكير بالمستقبل ولتفادي اعتبار بنى الحاضر انها ستستمر على احسن ما يرام لما يأتي من اعوام بعيدة مقبلة .


هناك محاولات ، بطبيعة الحال ، تجرى لاستبانة احداث المستقبل ، وما من حكومة تعد ميزانية لبناء مدارس جديدة ، مثلا ، فلا تأخذ في الحسبان ما سيتخلل الاعوام المقبلة . لكن ما يلفت النظر في مدنيتنا فيما بعد الحرب هو اننا وجدنا انفسنا في مواقف سريعة التحول ، والفينا انفسنا ازاء تغيرات متواثب بعضها منظور جزئيا وبعضها غير منظور اطلاقا ، وقد حدثت التغيرات هذه في مختلف المجالات ، وراحت الجلطات المعنية تدعو الى التكيف الوظيفي في ما نصبو اليه من بنى تربوية لتوائم حاجات المجتمع الذي يجد ازاءها وينشط نحوها سوريا ، بدلا من العمل آليا او تركها للمصادفة والظروف ، كما كانت عليه الحال في الماضي .


كان ثمة حتى يومنا هذا طبعا ، نوع من المهن الممكنة والبرامج الضرورية اللازمة لمساقات الاعداد المناسب ، ولكنها كلها كانت قد تم اعدادها وفق اتفاق مهم بين جهات متعددة ، وقد اعدت على اساس اهداف متوقعة ولكن غير مخطط لها .


وعندما اعلن وزير التربية الفرنسي ، جان بيروتا قائلا : (ان نعد طالبين في الآداب مقابل ثلاثة طلاب في العلوم ، في الوقت الذي نحتاج فيه سبعة طلاب متخصصين في العلوم وطالبا واحدا في الآداب) ، كان في الواقع ينعى وجهة نظر غير سليمة ، وان قراره


ا

لصفحة 113


هذا كان مبنيا على معلومات مدروسة قدمت اليه غير المعلومات المتوفرة لدى السلطات التربوية . كيف يمكن معرفة الحاجة الى عدد معين من المختصين بالعلوم ، فمن غير شك ان وزير التربية حينما يعلن ذلك فإنما يكون ذلك بعد استشارة اقتصاديين ومتخصصين بعلم الاجتماع وتكنولوجيين ، وهو بالإضافة الى هذا كله ينظر الى الاشياء من وجهة نظر ترتكز الى خطط قائمة ، والى اتجاهات ستقبلين تهم المجتمع ككل .


فهذه هي الاعتبارات التي افضت الى فكرة التخطيط البعيد المدى الذي تطور بدرجات متباينة في عدد كبير من الاقطار خلال الاعوام الاخيرة . وان كل ما يراد تحديده من اتجاهات تربوية ومن قبول في اعداد الطلبة ومن توجيه قائم على اهداف محددة ، انما يجري عادة وفق تخطيط مرسوم . على ان المشكلة الحقيقية هي اتاحة تطور لكل نوع من انواع المدارس وفي جميع المستويات ، مع الاخذ في الحسبان حاجات المجتمع الحاضرة والمقبلة ، الحاجات المرتبطة بعدد ونوعية المدارس في كل فيئة ومن كل نوع او قسم :


وحالما توضع الخطة الطويلة الامد هذه موضع التنفيذ ، فأن المشكلة التي تبرز تتصل بتكييف المجتمع الطلابي الى اطار العمل المرسوم وفق نظم توجيه مرنة (مراحل توجيهية) ويصاحب هذا ضرورة توفير نشاط مدرسي كاف لضمان اختيار الافراد وانتقاء الطلاب بحديث لا يعود الامر وقفا على مجرد التقاليد العائلية ، ولا على الوضع المالي للأبوين ، ولا على مغرضات من مختلف الانواع ، بل تصبح المسالة بجملتها مرتكزة الى اسس علمية تعتمد على استعداد الفرد وعلى الاعتبارات الموضوعية للمستقبل .


سنلتفت في الفصل السادس الى مساءلة الاصلاحات البنيوية وتكييف البرامج . ولنتوفر الآن على موضوع التخطيط الطويل الامد الذي ناقشه مناقشة مستفيضة المؤتمر الدولي للتربية العامة في


الصفحة 114


دورته لعام 1962 .


امانة في القول ، وان كنا نسمع باستمرار تردد في كل مكان عبارات نخطي تربوي بعيد المدى ، فأن العبارة وان اصبحت متداولة وتقليدية متكررة ، قد حملت من المعاني فوق ما تحتمل ، حتى اصبحت تستخدم بمناسبة وبدون مناسبة ، وللضرورة ولغير ما ضرورة فهي تستعمل في مجال خطط توسيع المدارس دون ان يصيب التوسيع هذا مسالة تحوير البنى التربوية . فمن الحصافة اذن الا نستخدم عبارة (تخطيط بعيد المدى) الا في الاقطار التي تستحدث اقساما للتخطيط التربوي المتخصص التابع الى وزارة التربية ، وفي تلك الاقطار التي يخضع التخطيط التربوي فيها الى سلطات عليا مهمتها التنسيق والتخطيط للنشاطات العامة في الدولة . والى هذه يمكن ان نضيف طبعا تلك الحالات التي لا تمتلك مثل هذه الوسائل ، ولكن توكل وزارات التربية فيها مهمة اعداد التقارير او الاقتراحات الى لجان خاصة ، وهذا ما اتبع في فرنسا حيث عهد الى لجان لتقدم تقارير عن مختلف المجالات والمراحل التربوية وقد استمرت هذه اللجان حتى عام 1970 .


وعلى المستوى الدولي ، فأن اليونسكو قد استحدثت سنة 1964بمبادرة من (ماهيو) دائرة للتخطيط التربوي ، يكون مديرها مسؤولا مباشرة امام المدير العام المساعد للمنظمة . ومن المقيد ان نلاحظ ان الدول ذات الانظمة المختلفة كلها تضع خططا تربوية طويلة المدى (وان كانت الخطط ذات الخمس سنوات هي الغالبة عامة) وهي تصر على تنسيق هذه الخطط مع خططها الاقتصادية والاجتماعية وتطلعاتها التكنولوجية . وان التعاون بين المربين والاقتصاديين والمختصين بعلم الاجتماع والتكنولوجيا وممثلي العلوم الطبيعية ، يتم من خلال تطبيق هذه الخطط ومن خلال تدقيق النتائج . ان النقص في الاحصاءات الضرورية تعتبر عايقا


الصفحة 115


خطيرا يقف امام نجاح هذه الخطط وتنفيذ مراحلها ، ولذا فأن لمؤتمر الدولي للتربية العامة ادرج في جلسته عام 1964 مادة (رقم


31تنطوي على : (انه لمن الاهمية بمكان ان يبذل كل جهد ممكن لتحقيق تقدم في اساليب التقييم النوعي والكمي الذي من شانه ان بسمح بالتحقيق المنتظم من النتائج المتاحة ، وان التحقيق هذا ليعد ضرورة لازمة لرسم خطط المستقبل) .


والامل معقود على ان تفضي هذه الدراسات المتعددة والبحوث الكثيرة ، ليس فقط الى ما نرغب فيه من تحسين في مجالات التعليم المختلفة وطبيعة حاجاتنا الاجتماعية ، بل وان تودي ايضا الى تقدم باتجاه تطور التربية العلمية ، للتمكن من ايجاد الحلول الموائمة لا نواجه من مشكلات قائمة ، سواء كانت هذه المشكلات تتعلق باجتماعيات التربية ام انها تكمن في حقل علم النفس التربوي .


اما فيما يتصل بمسالة مواجهة الحاجات الاجتماعية ، التي تتميز بها جميع (الخطط) العامة بالتربية العامة الكثيرة ، والتي اكدت عليها اللجنة الدولية الخاصة بالتربية العامة في دورتها المعقودة عام 1964، فقد جاء بصددها بانها ترمي الى اطهار اتجاه عام واضح المعالم ، يتوخى تطوير تعليم متكامل في المجالات الفنية ، والمهنية ، والعلمية ، سواء على المستوى الثانوي او العالي ..


ياده عدد المدارس الفنية والمهنية ، والبحث عما يتصل بتنقيح برامجها ، والاهتمام بالجامعات وبكليات الهندسة فيها والاهتمام فيها والاهتمام بالمتخصصين في مجالات العلوم التطبيقية (1) .


هذا واننا لنعرف كم تعتمد العلوم التطبيقية على ما يجري من بحوث في العلوم الاساسية البحتة ، واننا لندرك كم يتطلب اعداد وتدريب الباحثين من تحوير في طرائقنا التقليدية المتبعة حاليا في التربية ، لذا فأن مشكلة التعليم العلمي بجملته ويوجه عام قد أثيرت


الصفحة 116



 باعتبارها مشكلة من المرتبة الاولى في الاهتمامات مشروعات التخطيط الاجتماعي الحالي.


اعداد الباحثين الفنين والعلميين:


ففي الوقت الذي الذي تبدو فيه محاولات التخطيط التربوي على المدى البعيد ، ضرورية فقط . لمعالجة مشكلات الاهداف والبنى التربوية ، لذا فأن تأكيد الذين يتعاونون في التخطيط للموضوعات المتداخلة ينصب على اهمية الاعداد الفني والعلمي ، وهذا قد اثار مسائل تتعلق بالبرامج والمنهجية نفسها ، التي بدونها تمكث (الخطط) مجرد اوعية خاوية . وان اية محاولة لتقرير عدد السنين اللازمة لدراسة معينة في اي نمط من انماط التدريب والاعداد لا جدوي منها مالم تتوفر لدى المرء معلومات وافية تتصل بتفصيلات ذلك الاعداد وما يقترن به من تمثل للمعرفة المطلوبة ، وما يرتبط بتطور الاستعدادت اللازمة للقيام بالبحث ، وبالتكيف العلمي او التجريبي بل وبألابداع والاختراع .


ولعل اطول توصية اقرها المؤتمر الدولي للتربية العامة (1959) هي المادة (2) المتعلقة بأعداد الفنين والباحثين العلميين . وجاء في المادة (8) انه (من المهم جدا ان تضع التربية في اعتبارها ، اذا كان عليها ان تواجه ما هناك من متطلبات في الاعداد الفني والعلمي ، بأن تكون مرنة بدرجة كافية ، لتتمكن من التكيف لتقوى على مسالة البنى التربوية ، فأن التوصية تبنت بخاصة فكرة (الدراسة المتخصصة المتقدمة على مستوى ما بعد الثانوية وما بعد التخرج في الجامعة ، كما تبنت فكرة منح شهادة الدكتورا في التكنولوجيا)


المادة (28).كنا قد اشرنا من قبل الى ان التوصية قد اكدت اهمية الطرائق 


الصفحة 117



الفعالة المصممة في سبيل تنمية الاتجاه الفكري التجريبي (مادة 34) ، واوصت بضرورة التعاون (بين المعلمين والباحثين العلميين (مادة36) . وهذا اتجاه جديد ، وكنا قد لاحظنا الى اي مدى كانت الطرائق التقليدية قد اغفلت هذا الجانب . فأذا افلحنا فيما قلناه بشأن التخطيط التربوي فأن هذا سيحقق اسنى ما تتطلع اليه المدرسة من تطور حاسم. وقد انصب التأكيد في الغالب (المادة40) على ضرورة تضمين المناهج موضوعات ذات قيمة ثقافية عامة وذات طبيعية تعليمية فنية وعلمية . على ان هذا لا يعني اغفال شأن الموضوعات الادبية ، وما يمكن ان يترتب عليها من تدريب للاتجاه التجريبي ، حتى ولو اقتصر الامر على مجال علم النفس . ان البدء بطرائق الضبط العلمي وتطوير العقل البناء والناقد يؤلف في النتيجة احد اركان الانسانية الجديدة التي تتسم بها ثقافتنا المتطورة ، وانها لهذه هي الحقيقة التي لا تبارح مخيلة اؤلئك المربين الذين يحاولون جاهدين ، رغم النزعة القائمة لتقسيم العلوم الى وحدات مجزأة ، الحفاظ على وحدة متماسكة فيما نتوخى من اعداد مدرسي.


التعليم المهني:


من المظاهر الاخرى العامة السائرة في نفس الاتجاه الكمي هو ما ترمي اليه اليوم كثير من الاقطار من رغبة في اعادة تنظيم التعليم المهني . ثمة متطلبات متكاملان قد اصبحا الان من الوضوح في هذا الشأن : فهناك من جهة توسع في هذا النوع من التعليم بحيث يمثل الآن التعليم المدرسي بشطريه النظري والعلمي ، ويشمل اكبر عدد مكن من المهن ، ولا يقتصر فقط على تلك الدراسات التي تتطلب تدريسا صفيا عبر سنوات طوال ، وهناك ما الجهة الاخرى الذين يعملون في الحرف والمهن التي تتطلب مهارة ، بأن يتمتعوا بثقافة


 

الصفحة 118



عامة واسعة قلما تختلف عن التربية الواسعة العامة المألوفة في صيغ وضروب التعليم الثانوي . وقد صاحبت الاتجاه هذا ، نزعة الى توسع كمي في المعاهد والمؤسسات التي تهي الافراد عليما لمواجهة ما يتطلبه المجتمع من اتساع في مقتضيات حاجاته مستقيلا.


الصفحة 119



الفصل السادس: الاصلاحات البنيوية البرامج ومشكلات التوجيه


ان التوسع العام في التربية ، الذي وضحنا طبيعة تفجره في الفصل السابق ، قد حصل افقيا ويتمثل ذلك على شكل زيادة في طول مدة التعليم الالزامي والزيادة في فرص التربية على المستويين الثانوي والعالي ، كما حصل التفجر التربوي هذا عموديا متمثلا في التمييز بين مختلف ضروب التربية والتعليم وفي الزيادة في عدد المدارس الفنية والمهنية.

ان مثل هذا الموقف ، سواء أكان حقيقة قائمة من قبل ، ام انه يتجلى على صورة خطط منظورة ومتوقعة ، يثير على التو ثلاث مشكلات تم التماس الحلول لها بلا ريب . واولى هذه المشكلات هي مسألة الوحدة الثقافية ، او مسألة الاساس التربوي المشترك ، وثانية تلك المشكلات هي مسألة التعبئة التربوية المرتبطة بالتطور الاجتماعي او المسألة المقترنة بموضوع الانتقال من قطاع اجتماعي الى آخر ، وما يتبع ذلك من توجه خلال مجرى الحياة المدرسية للفرد كما يظهر ذلك على صورة اتجاهات او على شكل مواقف محددة ، وثالثة تلك المشكلات هي مسألة الطرائق المستخدمة توخيا لتيسير هذا الوجه ولارسائه على معطيات موضوعية بدلا من اقامته على ما يكون هناك احيانا من تخمينات وهمية (سواء منها ما كان مستمدا من الطلبة او ما كان مصندره الآباء ، او ما كان منها مستخلصا من نتائج الامتحانات). الى جانب المشكلات الرئيسية هذه والتي استأثرت بالاهتمام في كل بلد تقريبا ، تأتي ثمة مسألة اخرى ، لا تقل اهمية عن مثيلاتها ، بيد انها لم تحظ بحظ وافر من الدراسة : فتطور المعرفة المتواتر ، وازدياد حجم التكنولوجيا ، والرغبة في مواكبة هذه التيارات دونما اغفال لتدفق الاعداد الثقافي الاساسي ! هذه كلها قد نجم عنها زيادة في عد الحالات المتمثلة في اتخام البرامج التربوية على نحو لا

الصفحة 123


 يحتمل ، وهذا يلحق الاذى دون ريب بصحة الطالب وبعقله فيؤول الى تأخير اعداد وتدريبه بالقياس الى الرغبة المبتغاة من اجل التسريع او محاولة التوصل الى شي من الكمال . ان مشكلة الشبكة المدرسية هذه التي تعتبر احيانا مشكلة تواجه الدوائر الصحية والنفسية اكثر مما تهم السلطات التربوية ترتبط مع هذا بالمسألة المركزية وهي مسألة التأكد عما اذا كانت المدرسة احيانا تعلم ما لا جدوى منه ، ولا سيما اذا كان التأكيد ينصب على قدرات المبادرة والابداع عند المتعلم بدلا من الاهتمام على تجميع المعرفة المتوفرة في المقررات المدرسية . والمشكلة هذه تعود بنا مرة اخرى الى تلك التي تتصل بالامتحانات وخاصة في الاقطار التي ينتعش فيها نظام امتحانات المنافسة والتي قد يضيع المع ابنائها واكثرهم موهبة واشدهم نفعا اشهرا او او اعواما من حياتهم في تلك المرحلة من مراحل الدراسة ، في حين ان الافكار التي تشكل مسألة مسالكهم في المستقبل هي آخذة في النضج وفي البلورة في اطار تكوينهم الذاتي.

تربية ما قبل المدرسة الابتدائية:

اتجهت بعد الحرب العالمية الثانية ، الاصلاحات التربوية العامة بشأن المشكلات العريضة التي ذكرناها الى ان تقترح ، بوجه عام ، مسارا مبدئيا لتعليم الطلاب من جميع الفئات يمتد امده حتى الحادية عشرة او الثانية عشرة (واحيانا اكثر من هذا) ، تلي ذلك (مرحلة توجيه) ، يتم خلالها التوصل الى اعداد متخصص متميز.

ان عمر الحادية عشرة او الثانية عشرة يعتبر مناسبا ، وقد تم اختياره بصورة مناسبة ايضا ، اذ ان هذا هو العمر الذي يخلف الطفل فيه من الناحية النفسية ، وراء العمليات الحسية ويتجه بعده الى اكتساب العمليات الفرضية او الشكلية ، مما يمكنه من افتراض الفرضيات وتملك زمام الحجاج ميمما صوب الممكن : وبعبارة اخرى ، فأنه يتخلص من ربقة الحقائق المباشرة متجها الى ما هناك من اهتمامات ومشروعات سرعان ما تكشف عن استعدادته الحقيقية. 

الصفحة 124


لكن في اية مرحلة يبدأ دور التدريب والتعليم المدرسي؟ يبدأ عادة وبصورة عامة حوالي سن السابعة من العمر ، وقد تم اختيار هذه السن من الناحية القانونية ايضا ، لأنها تساير المراحل المبكرة من وكيف يتسنى لنا تشجيع تكوين تلك الادوات العقلية الاساسية ؟ لا تزال تربية ما قبل المدرسة ، وتوصف احيانا بتربية الحضانة وتنعت تارة بالتربية الامومية (1) ، تؤدي الى ضروب من التنظيم تتفاوت كثيرا من بلد الى اخر.

ففي الولايات المتحدة مثلا ، يدخل هذه المدارس حوالي نصف مجموع الاطفال ، وفي اونتاريو توجد حوالي (1650) مدرسة حكومية خاصة ، ويوجد ملحق بكل واحدة منها تقريبا صف خاص بالحضانة وفي مقاطعة كيوبك الح تقرير الاباء ، الذي يعتبر من المحاولات النافعة في التخطيط او الاصلاح التربوي الح على ضرورة تعميم صفوف الحضانة هذه. وان كان هذا مما اشار اليه المؤتمر الدولي الخاص بالتربية العامة لعام 1939، حيث ذكر : (ان تربية ما قبل المدرسة لطفل ما قبل مرحلة التعليم الالزامي ، ينبغي ان يكون موضع اهتمام السلطات التربوية وان يكون متاحا لجميع الاطفال) . ثمة ، طبعا ، اسباب اقتصادية تتدخل في الموضوع ، ذلك لان ظاهرة ذهاب المرأة المتزايد للعمل تؤدي حتما الى اجراءات من شأنها ان تضمن العناية بتربية الاطفال خلال ساعات غياب الام عن البيت.

ولكن ثمة الى جانب ذلك اسباب نفسية ايضا ، يتأكد صدقها بأستمرار ، ولا مجال الى تبيانها هنا ، طالما ان هذه احدى المسائل

الصفحة 125

 

التي يتوقف حلها على ما نحن عليه من معرفة وعلى ما يجري من بحوث في مجالات نمو الطفل . ففي الوقت الذي كان يعتبر فيه الذكاء بأنه ينشأ اساسا من تفاعل الادراك الحسي مع البيئة او من الاحساسات ، وما ترتب على هذه النظرة من دعو الى (التربية الحسية) الدعوة التي نادى بها فروبيل وطبقها عمليا ، فمن الطبيعي ان تجيب على معظم متطلبات التعليم في دور الحضانة. وقد استخدمت فيما بعد مدام منتسوري نفس المبدأ (والفضل يرجع الى حصافتها وان لم تطور من ذلك نظرية) مضيفة اليه قدرا لا بأس به من النشاط ، المعزز ببعض الاجهزة والادوات . لكننا اليوم نعرف ان عمليات الذكاء هي قبل كل شيء امور تتصل بالنشاط ، وان تطور الوظائف الحسحركية ، يؤلف ضربا من ضروب التربية اللازمة للتدريب العقلي نفسه . وما من شك في ان الطفل السوي يتمكن من توجيه ذاته ومن مواجهة هذه المواقف في حميع الظروف . وبمقدار ما يألف المرء تفصيلات التطور هذه ، يصبح بمقدوره ان يأخذ بيد الطفل فيشجعه الى ابعد حد ممكن ، وان هذا لهو احد الادوار التي على تربية ما قبل المدرسة ان تنتهج حينما تتاح لها معطيات كافية ودقيقة ترتكز اليها. انه لفي هذه الروح قدم المؤتمر الدولي لعام 1939، توصياته الى وزارات التربية واكد على ان التربية القبمدرسية (1) (يجب ان تقتصر على التربية الحسحركية) وان (التعليم المنتظم في مجالات القراءة والكتابة والحساب) يجب الا يشرع به حتى تبدأ مرحلة التعليم الابتدائي . لكن توصية المؤتمر تضيف انه في حالة توفر الاجهزة الكافية ، وبالركون الى ما لدى الطفل من نشاط تلقائي ، فأن المعالجات الحسحركية هذه تؤدي الى اكتساب افكار عددية واشكال بيئية) . وان الخطوات العددية والمكانية هذه تهيء الطفل في هذه المرحلة الى العمليات المنطقية ، طالما ان المنطق يقوم على 

الصفحة 126


التوافق العام لضروب النشاط قبل ان يصبح بوسع الطفل صياغته على مستوى اللغة.

لكن العائق في وجه تطور التربية القبمدرسية هذه ، هو انه كلما اشتدت رغبة الفرد في اللجوء الى شحذ الفعاليات التلقائية عند الطفل ، ازدادات حاجته الى المعرفة النفسية اللازمة للتبصر بطبيعة نموه . والحقيقة هي انه لمن السهل ان تدار شؤون الاطفال الصغار في اطار الالعاب والتمارين والفعاليات وانه لميسور للمعلم ادارتهم وتوجيههم ولكن كلما كان المعلم اقل حظا من التدريب والاعداد ، كان فهمه لهم اضأل وليعلم جيدا كم مبلغ خسارته الناجمة عن قلة معرفته بعلم النفس . وان التوصية نفسها (مادة17) لتعرب عن امل المؤتمرين في (ان يتضمن دائما اعداد معلمي مدارس الحضانة مساقا من التعليم النظري والعملي يهيؤهم لمهماتهم . على الا يقل الاعداد هذا من حيث المستوى عن مستوى اعداد معلمي المدارس الابتدائية) . ولذا فأن المرء يتوقع ما يمكن ان يتبع ذلك من امور تتعلق بالروات وبالظروف الخاصة بالعمل (المادتان 20-19).

اعتذر لمن يرى بأني قد انحدرت الى تلك المستويات من التعليم الاولى ، ولمن يظن بأني انشد الاصلاح منذ ابكر المراحل ، ولكن اذا كنا ندعو الى التأكيد على الاصلاحات العلمية وعلى ضرورة تطور العلم التجريبي ، فما بالنا نغفل ما هو اهم من ذلك ، وهو تنمية الكائنات البشرية . واني لادعو اولئك المربين من المستويات (العالمية) ممن قد يسخرون من دعوتي هذه ، ان يأتوا معي ليشاهدوا بعض كبار الفيزياويين في الولايات المتحدة الذين الذين لا يرون غضاضة في التواضع وزيارة مدارس الحضانة والرياض ليقفوا على ما يمكنهم الاسهام به في سبيل تحسين الطرائق المستخدمة.

الصفحة 127


الاصلاحات البنيوية على مستوى المدارس الابتدائية والثانوية:

ان مشروع (لانجفن - والان) ما عتم نموذجا متبعا في خطط الاصلاح المتكامل . وعندما قدم الى وزير التربية عام 1944، فقد تضمن ، (1) تربية الزامية تبدأ بسن ست سنوات وتنتهي في الثامنة عشرة من العمر وتتألف من ثلاث مراحل منفصلة (أ) مرحلة اولية تبدأ من السادسة حتى الحادية عشرة ، وتكون عامة لجميع التلاميذ (ب) مرحلة توجيهية ، وتبدأ من الحادية عشرة وتنتهي عند الخامسة عشرة ، ومع اتاحة الفرصة للتخصص الفردي المضطرد ولكن مع مراعاة امكان استمرار الحركة الاستطرادية هذه من نمط تعليمي الى اخر (ج) المرحلة النهائية وتنتهي في الثامنة عشة وهذه تتألف من ثلاثة قطاعات - هي العملي والمهني والنظري (2) مساقات دراسية ممهدة لدخول الجامعة ، (وتشمل الاعمار فيما بين20-18) (3)التعليم العالي. 

على ان هذا المشروع لم يوضع موضع التطبيق . وقد تم احياؤه دونما تغييرات تذكر تقريبا ، من جانب (م . ديبريه) ثم من قبل (يدلبو) ، وكذلك للمرة الثالثة عام 1953من قبل (أ . مار) الذي تقدم بفكرة تتعلق بالمرحلة الاولى وجعلها تتضمن مسارين متوازيين في التعليم ، احدهما قصير الامد والاخر طويل الاجل . وفي عام 1955، تقدم (م - برتواه) بمشروع خفض فيه مدة الالزام وجعلها تمتد الى سن ستة عشر عاما ، واقترح (أ) منهجا عاما لمن اعمارهم بين 6- 11سنة ، (ب) مرحلة توجيه لمن اعمارهم 13- 11عاما ، ثم (ج)

مرحلة ثالثة لمن اعمارهم بين 16- 13وهذه تنطوي على اربعة.اقسام : عام ، ومهني ، وشبه نهائي ، وعالي . وقد قدم مشروع اخر عام 1956، كان تقريبا مماثلا للمشروع المذكور الآن وفي السادس من كانون الثاني (يناير) (1959) ، وضع على الكتب 

الصفحة 128


المقررة شعار يحدد فترة التعليم الالزامي بستة عشر عاما ، وقد نشر في حينه قانونان يحددا طبيعة اصلاح البكالوريا وفي سنة (1960) اتخذت اجراءات تطبيقية مناسبة كانت نتيجتها بعد انتهاء المرحلة لاولية الممتدة من 11- 6سنة ، استحداث ما وصف بأنها صفوف واصلة او تمهيدية تضمن امكانية الانتقال من احد انماط التربية الى نمط اخريليه مع ضمان الاستمرار في توجيه الطالب . وتتبع في نهاية المرحلة التوجيهية ثلاثة مسالك : هي عام ، ومهني ، وتدريب او اعداد شبه نهائي.

ان هذا الضرب من الاصلاح قد اعتبر بأنه باهظ التكاليف ، وعده بعضهم بأنه (موت للتعليم الثانوي) ، او انه تنقصه الكفاءة.

وفي آب (اغسطس1963) نشر قانون قسم التعليم الثانوي الى مرحلتين ، الاولى لمن هم فيما بين 15- 11سنة ويستكمل خلالها التوجيه ، والثانية تمتد فيما بين 18- 15سنة . وتنطوي المرحلة الاولى على شعب متوازية تكاد تكون متساوية من حيث طبيعتها مع ضمان المرونة للانتقال من واحدة الى اخرى والشعب او الاقسام 

هذه هي : قسم التعليم العام . قسم الدراسات المهنية (بما فيها الزراعة) . اما المرحلة الثانية فتوفر تعليما قصير الامد (عام او فني) وتعليما طويل الامد (ينتهي بأمتحان البكالوريا في الفسفة او في العلوم) . اطلق على المدارس المتعددة القنوات اسم (كليات التعليم الثانوي).

ان فكرة المرحلة التوجيهية تلقى الآن تقبلا ، وقد طبقت في اقطار اخرى ومنها مثلا مقاطعة جنيف ، حيث تم اتاحة فرصة امدها ثلاثة اعوام للنظام المتعاقب الخاص بالشعب الثلاث ضمن المرحلة نفسها ، وكلها تمتد من عمر 15- 12وهي توفر صلة تربط بين التعليم الابتدائي الحاضر وبين مرحلة التعليم الثانوي التالي.

ولاغراض المقارنة فبوسع المرء ان يشير الى ما جرى في 

الصفحة 129


يوغوسلافيا من اصلاحات ، تمت في مراحل امتدت عبر بضع سنوات بعد زيارات قام بها خبراء من اقطار مختلفة وزيارات قام بها خبيران من اليونسكو . اذ نجد ان التعليم الابتدائي الزامي فيما بين 15- 7من العمر . ينتقل التلميذ بعدها اما الى مدرسة ثانوية او مهنية مع امكانية انتقاله من احداهما الى الاخرى ، ويوجد في المدارس الثانوية قسمان ، يختص احدهما بتدريس اللغات والعلوم الاجتماعية ويهتم الثاني منهما بتدريس العلوم الطبيعية والرياضيات : علما بأن هناك في القسمين دراسات تربوية لجميع الطلبة لكنها اختيارية وليست اجبارية . اما الاعداد المهني لينطوي على نظام يجمع بين التدريب الاكاديمي والعلمي لضمان المرونة في اعداد الكوادر اللازمة من القوى البشرية الماهرة ويتكون التعليم الجامعي من ثلاثة انماط : احدهما يتألف من مرحلة تمهديدية لمدة سنتين تتيح تدريبا مهنيا عاليا ، ومرحلة ثابنة تمتد بين 5- 4سنوات وتتوفر على الدراسات الجامعية المنهجية الاكاديمية ، الاعتيادية ، ومرحلة ثالثة مخصصة للبحث العلمي المتخصص . ان دخول الجامعة لا يتوقف على نمط امحان البكالوريا ، وانما على نمط من الامتحانات يؤدي في نهاية المرحلة الثانوية. يتضح مما تقدم ان النظام اليوغسلافي بعد نخبة من المفكرين ، في الوقت الذي يسعى فيه الى ابستبعاد التقسيم الحاد بين ما كان يظن بأنها مهن متقدمة عالية واخرى متواضعة ، ويكفل النظام هذا مرونة كافية للانتقال الطلاب (افقيا) مع التأكيد على قدر من القدرة الضرورية للمحافظة على التكيف للحاجات الجديدة التي قد تجد وتتطلبها حياة البلد الاقتصادية والاجتماعية. كما يلاحظ مما مر آنفا ، ورغم ما يوجد ثمة من اختلافات في الفكر وفي المصطلحات ، فأن هناك تماثلا بين انماط الاصلاحات هذه . ويتجلى هذا التشابه في البحث عن اطار مشترك ينجم عنه 

الصفحة 130


تمايز محدد ، وفي توسيع أفاق التخصص في المجالات المهنية والفنية والمرونة في التحرك الافقي بالنسبة الى فروع الدراسة المختلفة وان هذه الخصائص نفسها موجودة في مشروعات للاصلاحات اخرى ما توضع موضع التطبيق بعد ، اما لأنها تصطدم بمعارضة بدعوى المحافظة على التقديم ، واما لأنها ما فتئت حديثة العهد.

ومن النوع الاخير هذا يمكن ان نذكر تقرير الاباء في القسم الفرنسي من كندا ، اذ يعتبر منطويا على الابداع حقا ، فهو يتيح تعليما ابتدائيا يمتد مدة ست سنوات تخصص السنوات الثلاث الاولى منه الى تعلم الاساليب الاساسية بواسطة اكثر الطرائق فعالية ، وفي السنوات الثلاث الاخرى يتدرب المتعلم تدريبا اوليا بواسطة طرائق تجمع بين العمل الفردي وعمل الفريق . تلي هذا مرحلة تعليم ثانوي متعدد القنوات يمتد لمدة خمسة اعوام يتضمن اقصى ما يمكن من المرونة واكثر ما يمكن من الاختيار ولكن تطبق فيه التفصيلات البنيوية والطرائق التالية:

لا ينبغي للمدرسة الابتدائية ان تستبقي التلاميذ عندها بعد عمر التالثة عشرة : وان تستقبل المدرسة الثانوية جميع التلاميذ غض النظر عن النتائج الحاصلة عليها ، وتهيأ سنة تحضيرية للضعاف منهم وتتعدد لذلك جوانب الاختيار وقنوات الفروع التي نتخب الطالب احدها ويستمر فيه طيلة اعوام تعليمية الثانوي ، ويتضمن اي فرع من هذه الفروع العمل في مشاغل ملحقة بالمدرسة الى جانب الدراسة الاكاديمية تضمن تقرير الآباء ايضا بأن يتم الابتعاد عن الجمود وعن السكوت على المآخذ . واكد على ان يكون التعليم وفق الطرائق الفعالة وموائما لاحدث بحوث علم النفس الطفل كما اكد على ضرورة الاعداد المتقن للمعلمين ككل .ذ هذا وقد خص التقرير عمل الفريق بين المعلمين بشي كثير من التأكيد . لكن تقرير لجنة الاباء يقترح قبل كل شي الغاء الامتحانات واستند في

الصفحة 131


 هذا الاتجاه الى ان هدف المدرسة هو تدريب الطالب على اجادة طرائق عمله وليس المقصد النجاح في امتحان نهائي لم يقم على شيء اكثر من ارتكازه الى تجميع هامشي من المعرفة . لذا فأن الطالب يقيم على اساس عمله ، وبعد مرحلة سنتين من التعليم العام تعقبها ثلاث سنوات من التعليم المركز يمنح دبلوم الدراسة في الثانوية تتضمن وصفا لما احرزه من نتائج . وبين الدراسة الثانوية والمرحلة الجامعية ، توجد هناك فترة امدها سنتان هي مرحلة تمهيد جامعية ومهنية ، مفتوحة لجميع الطلاب ، وهي تعطي في معاهد خاصة ستقلة عن الجامعات نفسها وتشمل الدراسة فيها موضوعات شاملة ومتعقمة.

طرائق التوجيه ودور الموجه النفساني في المدرسة:

ان المراحل التوجيهية من حيث منافعها القيمة ومن حيث وجهة النظر الاجتماعية تؤدي خدمة تربوية جليد عندما تهي الطلاب وتعدهم للامتحانات في نهاية المرحلة نحسب المفاهيم السابقة للتربية والبنى التربوية يتبع كل طالب مسلكا او قناة معينة محدودة ، ولكن عليه ان يقرر اختياره ويحدده مقدما ليتم تدريبه فيه واعداده له بصورة مبكرة . ولقد تبين ان تكيف الطالب في هذه الجوانب كان تاما وان نتيجة دراسته كانت تتوج بالنجاح في الامتحانات النهائية التي تصمم عادة لاختيار ما حصل عليه من معرفة ومعلومات بعضها ضرورية ولا غنى عنها وبعضها يتلاشى بفعل عوامل النسيان.

وفي حالات الاخفاق في الامتحانات او عدم التكيف ، تبقى هناك شكلتان لم يتم حلهما : الاولى تحصل عندما ينتهي تعليم الطالب بغض النظر عن المستوى الذي يقف عنده التعليم هذا ، وهذا يتأتى اما لأنه لم ينجح في الامتحانات واما لأنه لم يتكيف لما اختار من

الصفحة 132


 اتجاه مهني وللتخفيف من هذه الصعوبة ، فأن هناك مؤسسات تستقبل هؤلاء الطلبة بعد التعرف على خلفياتهم على اسس ملموسة وحقائق مدروسة ، فينسب كل فرد او جماعة منهم في المكان الملائم له حسبما تؤله لذلك قابلياته واستعدادته . وهذا يتم وفق توصيات من المؤسسات الاستشارية هذه ، وهذه المؤسسات قد ازداد عددها كثيرا منذ عام 1935، وقد تحسنت اساليبها الى حد بعيد . ان الارشاد هذا قد اصبح عاما على المستوى الجامعي وان المسؤسسات المتخصصة ومنها على سبيل المثال ،! (المعهد الوطني للتوجيه المهني) الذي اسسه في باريس (ه . بيران) ، وتولاه بعده (م . روكلان) تطبق المؤسسات هذه طرائق علمية متقدمة ومن الجهة الثانية ، فأن البنى التربوية التي تسبق المراحل التوجيهية ، ليس لديها من الوسائل ما تحل به مشكلة ما قد يقع من اخفاق ، بحيث يتم تلافي الامر قبل حدوثه بغرض تكييف الطالب لظروفه الجديدة التي يكون فيها على نحو يتابع فيه دراساته. ولتلافي هذه الحالات ومعالجتها فقد الشي نظام التوجيه والارشاد النفسي في المدرسة ، وان المعلم اعد ليكون مؤهلا لتقديم النصيحة الى الطالب في سبيل متابعة ما هو بسبيله من دراسات او قد ينصح بتغيير جو الدراسة فينتقل الى مدرسة اخرى . والى جانب ذلك ، فقد يحدث هناك عدم تكيف مرده الى اسباب عقلية او خلقية في طبيعتها ، وفي هذه الحالة يتسعان بالمختص بعلم النفس ليبدي ارشاداته في هذا المجال . وهناك ايضا يأتي دور طبيب المدرسة ، واذا كان ملما بعلم النفس بأنه يسدي خدمة اكبر ، وسواء كان المرء طبيعيا ام غير ذلك ، فأن الاعداد النفسي يتطلب وقتا طويلا وتدريبا متخصصا على جانب من الدقة كبير.

الصفحة 133


لذا فأن الخدمات النفسية قد تم انشاؤها . وفي فرنسا اوحت الفكرة هذه الى المختصين بأن يوكلوا هذه النواحي الى متخصصين مؤهلين في ناحيتين : تأهيل تربوي تام (دبلوم تربية مثلا مع مساقات علمية واعداد نفسي كامل مدعم بمساقات اعداد تخصصي عميق).

لقد حققت الخدمات هذه انجازات من العمل ممتازة ، ولا سيما في فرنسا ، وعندما الغيت في مقاطعة (تالسين) مؤقتا قوبل هذا الالغاء بأمتعاض شديد ، والى جانب ما قامت به هذه الخدمات من دراسات نفسية فأنها اجرت كثيرا من البحوث العلمية وقد اهتم المؤتمر الدولي للتعليم العام بهذه المشكلة وقد صوت وزراء التربية عام 19048، الى جانب توصية تقضي (بتطوير الخدمات النفسية في المدرسة) ، وقد وصفت المادة (3) من هذه التوصية الاهداف من هذه الخدمات كما يأتي : (التعرف على المتخلفين والموهوبين من الاطفال ، واعادة تكييف الاطفال المشكلين ، والقيام بالاختيار وبالتوجيه التربوي ، واسداء الارشاد الى من يريدون اتخاذ مهن معنة وتكيف البرامج المدرسية وتدقيق نتائج مختلف الطرائ التربوية المعدة من قبل المعلمين والسلطات التربوية). وانه لمن الاهمية بمكان ان نلاحظ بأن التوصية الآنفة لم تقتصر في التأكيد على ما يتوقع من هذه الخدمات في مجالات علم النفس الفردي وعلم النفس الفارق فحسب ، بل هي ايضا تناولت مسائل تدقيق والتأكد مما يتأتى من الطرائق التي يطبقها المعلمون من نجاح وما ترتبط به هذه الطرائق من جوانب تدخل تحت مظلة علم النفس العام الذي يبحث كذلك في مسائل الوظائف العقلية . ونجد المادة (2) من توصيات المؤتمر المذكور تتناول هذا الموضوع منطوقها القائل : (ينبغيب الا يقتصر علم النفس المدرسي على مجرد اختبار الحالات الفردية وتشخيصها ، بل ينبغي كذلك ان

الصفحة 134


 يسهم مع ما يبده المعلم من مجهود في سبيل تحليل الفائدة المجتناة من تطبيق الطرائق التربوية ، كما يجب ان يسهم في تكييف تلك الطرق للتوائم وما يكون عليه الطلاب من تطور عقلي). 

تلك كانت هي المشكلة قبل تطبيق المراحل التوجيهية . ولكن يمكن القول بلا مواربة بأن المراحل التوجيهية هذه كانت تعالج المشكلات مع شي من التغيير الجذري ، طالما ان المسألة لم تعد مسألة معالجة وتكييف فحسب ، وانما يراد بها ايضا التوجيه المستمر للطالب لكي تثمر جهوده فيما يبذله من نشاط.

ان اختيار فرع الدراسة متروك ، من حيث المبدأ ، الى الابوين ، فهما اللذان يقررا انه . وفي النظام الفرنسي يوجد (مجلس للتوجيه) يضم جميع المعلمين المعنيين ليقرروا ما يرونه مناسبا للطالب لكن اقتراحاتهم ليست ملزمة . ولكن في حالة قبول مقترحاتهم فأن الطالب ينتقل الى الفرد او المؤسسة المناسبة التي اوصى بها مجلس التوجيه المكون من المعلمين . واذا ما اختلف رأي الاباء عن مقترحات مجلس التوجيه فبمقدور الطالب التقديم الى الفرع او المؤسسة التي يراها ابواه ولكن يدخلها بعد اداء امتحان دخول.

ان قانون الثاني من حزيران (يونيه) 1960، الذي جاء تطبيقا لقانون 1959، لم يذكر مهمة النفسانيين في المدرسة ، ما خلا اشارته الى (مجالس الاقسام) التي تضم معا ممثلين عن مختلف ضروب الفروع التربوية ، بما في ذلك الاكاديمية ، ومجالس الاباء وخدمات التوجيه المدرسي ، وطبيب المدرسة ، والمختص بعلم النفس فيها ، ومهمة مجالس الاقسام هذه هي لتطبيق الاصلاحات او الاقتراح بما يمكن تحويره من تطبيقات تربوية مرغوبة ومطلوبة. ولا حاجة الى القول بأن ما يقع على كاهل المدرسين من اعباء تتصل بأرشاد الطلبة في المرحلة الثانوية ، يستلزم عون النفساني في المدرسة . ففي جنيف حيث التجربة مطبقة عن نطاق ضيق بحيث ان

الصفحة 135


 الموقف لا يسمح بتحليل مفصل للحالات الفردية ، نجد النفسانيين في المدارس مشغولين تماما الى حد الانهماك ، وانهم ليؤدون دورا بارزا في التشخيص وفي التنبؤ بقدرات واستعدادات الطلاب وبما تؤهلهم له مستقبلا من مهن منتظرة تؤكد المراحل التوجيهية في هذا الشأن ، وبكل ما تنطوي عليه من دقة ومن شمول على اهمية المشكلة الاساسية في التربية ، وعلى طرائق تقييم القيمة العقلية للطالب وعلى استعداداته الشخصية على ان عبارة (القيمة العقلية) هنا يجب ان تحمل على محمل الشمول ، ذلك لأنه من الواضح بأن عادات العمل والنشاط المتكامل ! والاستعداد للابداع وسواهما هي نتائج ما يكون عليه المتعلم من ذكاء وسعة خيال ، وقوة ذاكرة : فليس من الصعر مثلا ، ان تجد اشخاصا في مجالات علمية يملكون كل ما يؤهلهم لتحقيق نجاح باهر في مجالاتهم تلك ولكن ينقصهم التحكم بالذات ، وتنقصهم فكرة التطبيق ، والقدرة على اتخاذ القرار . فما هي ، اذن ، يا ترى الطرائق التي تمكننا من الحكم على ، او التنبؤ بنتائج عمل الفرد ، وبخاصة اذا كان لا يزال طفلا او مراهقا.

ويلاحظ اولا بأن فترة 13- 11سنة من العمر تمثل ادنى مرحلة يتطلب الامر فيها التوجيه : اذ انه في مثل هذه الاعمار تصبح مسألة العمليات الاجرائية والافتراضية ممكنة بالنسبة الى المتعلم ، وان الهضبة بالنسبة الى هذه المرحلة لا تبدأ قبل الرابعة عشرة او الخامسة عشرة من العمر ، اذ ان كثيرا من السمات قد لا تتبدى الا في اعمار متأخرة وبعبارة اخرى فكلما كان الطفل اصغر ، كانت مشكلة التشخيص ادق واصعب.

واول طريقة هي ما يقوم به المعلم من مراقبة طويلة الامد لنشاط الطالب وما يمكن ان ينجزه من عمل . وان قيمة الحكم والتقييم في هذه الحالة انما هي بنسبة ما لدى المعلم : بما لديه من ذكاء ، وبما 

الصفحة 136


هو عليه من موضوعية او عدم تحيز ، وخاصة بما عنده من قابلية الفصل بين الخصائص الثابتة عند الطالب والمؤهلات المدرسية لديه . فهذه الطريقة لها ميزة التوقف على الامتحانات في التقييم ، ونظرا لميزتها هذه برزت الدعوة الى الغاء الامتحانات . ويبدو انه برزت ملاحظتان بالنسبة لهذه الطريقة : احداهما ، كما يظهر ، شكلية خالصة ، ولكنها مع هذا ذات اهمية تربوية : فبدلا من تقييم الطلاب عن طريق منحهم درجات ممثلة بالارقام (من صفر الى 10او 20، ..الخ) ، فأنهم يقيمون بأطراءات لفظية ، مثل (جيد) او كأن تكتب للطالب عبارة (عليه ان يضاعف جهده) ، وهذه اثبتت انها حفزة اكثر من الدرجات التي لا تعني شيئا سوى ان انها رمزية.

والملاحظة الثانية تكاد تكون اكثر خطورة : هي ان تقييم عمل الطالب خلال فترة محددة لا تترك فقط الى تقدير المعلم الذي يمكن ان يكون موضع كل الثقة ، وانما يتحدد التقييم هذا بما يتبع من طرائق في انجاز ذلك العمل . انه فقط في المحيط المدرسي حيث تستخدم الطرائق الفعالة تبرز خصائص الطالب في اقصاها ، في حين انه في الظروف التي تنتهج فيها الطرائق التلقينية قد تبرز الطلاب الذين يتميزون بالحفظ من الكتب ولكن تطمس سائر المؤهلات عند غيرهم من الطلاب الاخرين ، مما يتطلب تشخيصا نفسيانيا شاملا للكشف عن تلك المؤهلات. وثانية الطرائق المتبعة في تقييم الطالب هي طريقة الامتحانات المدرسية ، وما اكثر ما تم التأكيد على ما للامتحانات من دور مؤذ بالنسبة للعمل المدرسي ، والسبب ببساطة هو لأنها تتركز اساسا حول متابعة نتائج هامشية وهي نتائج في الغالب مصطنعة ، في وقت كان يجب ان يكرس الجهد فيه الى فعاليات من شأنها ان تسهم في بناء الذكاء والطرائق الصالحة للعمل . واننا لنجد الامتحانات هذه بشكلها المتبع عرضة للانتقاد الحاد وان كانت هي احيانا تنطوي 

الصفحة 137


على دلائل وشواهد تشير الى القيمة العقلية عند المتعلم.

وكانت في فرنسا قد ولدت فكرة الدراسة العلمية للجدوى الحقيقية من الامتحانات ، هذا وقد تقدم كل من (ه .ب بيران ) و(هلاجير) ، وسواهما اخرون بشواهد جمة تدل على مدى التغاير في الدرجات التي تعطى في الامتحانات وما تكون عليه تلك الدرجات من تفاوت واعتباطية وكم هي تنقصها الموضوعية . اضف الى هذا كله ، فأن الامتحانات وان كانت مقبولة من حيث المبدأ كوسيلة لتقييم مدى ما تحقق من استيعاب الموضوع معين ، فأنه لا يمكن الاقتصار فيها عمليا على هذه الوظيفة بالذات فقط لانها في هذه الحالة تشمل مسألة الذاكرة ، وانها لتشمل نوعا من الذاكرة لا علاقة لها عامة بتلك الذاكرة المستخدمة في الحياة الشعورية ، لأن الامتحانات في هذه الحالة لا تقيس الا مقدار من تجمع من معلومات متناثرة اختزنتها الذاكرة وان الامتحان الاصيل الذي يؤدي بشكل فعال وذلك بغرض استبعاد الاضطرابات الانفعالية ، هو عندما يسمح فيه للممتحن ان يستخدم ما لديه من كتب ومن ملاحظات بحرية تامة وان يستنبط منها ما يمكنه استنباطه مستعينا فكرة وذكائه حيث تكون وظيفة الامتحان مكملة لوظيفة العمل المدرسي سواء بسواء.

وثالثة طرائق التقييم هي طريقة الاختبارات الاعتيادية ، التي هي من اختصاص علم النفس المد سي . وقد يقال بأن هذه ايضا تعتبر ضربا من ضروب الامتحان ، ولكن يمكن القول بأن الامتحان يؤدي من اجل الامتحان بينما تخلو الاختبارات هذه من طريقة التحضير المفتعل من جانب الطالب ، وانها تفتي الى نتائج اكثر استقرارا ، كما انها تنطوي على جانب كبير من الاتفاق الموضوعي بين مختلف المقائمين على ادارة هذه الاختبارات . على ان ما يؤخذ على هذه الاختبارات هو انها تقيس فقط النواتج او الانجازات فلا

الصفحة 138


 تنفذ الى ما وراء ذلك من اعماق تشمل المكنيات الوظيفية او التكوينية . وبالتالي ، فهي وان كانت تعتبر وسائل قيمة للتشخيص ، فانها لا تكفي لغرض التبنؤ.

ورابع طريقة تستعمل في التقييم يجب ان تشتمل على امتحان نفسي تأهيلي يتتبع بدقة الوظيفة العقلية عند الفرد وعلى ان يكشف الامتحان هذا ما لديه من بنى اجرائية افلح في اتقانها . لذا فأن الامتحان هذا يتخذ شكل اختباراتا يطلب خلالها حل مشكلة معينة بصورة مستطردة ، وهذا اجراء يسمح بأتاجة مجال مناسب للتحليل وفي الوقت نفسه يتيح مجالا لمقارنات تعقد في اطار معيار متطور ذي طبيعة ترتيبية اكثر منها قياسية . وانه على هذا الاساس كان المعهد الوطنيق للتوجيه المهني ، وبأقتراح من (م . روكلان) ، قد طور اختبارات لهذا الغرض اوحت بها ما قدمته من تحليلات اجرائية ، لاستعمالها خاصة في مستويات المراهقة وما قبلها.

يبدو ، بوجه عام ، ان ما يقدمه علم النفس المدرسي من خدمات آخذة قيمتها في الاضطراد بالقياس الى اعتمادها على علم النفس بما هو عليه من تحسن وتنظير . وان علم النفس قد استغرق في الغالب وقتا في مطاردة الظل بدلا من تعقب الثعلب بحثا عن التطبيقات ، وبخاصة تنقيبا عن القياسات ، قبل التوفر على فهر المكنيات التكوينية وقبل فهم اهمية العوامل المطلوب قياسها . ففي هذا المجال ، وكذلك في مجالات اخرى كثيرة ، يمكن القول بأنه ليس ثمة شيء اسمه علم النفس التطبيقي ، وانما علم النفس الجيد أكمله قابل للتطبيق.

رسم برامج المدارس الابتدائية والثانوية:

ان التطورات الحاصلة فيما يدرس من موضوعات (انظر الفصل الثالث) المتمشية مع الزيادة المضطردة في اعداد الطلبة في مختلف

الصفحة 139


 قطاعات التربية والتعليم ، وما تمخضت عنه المراحل التوجيهية من نمو في مرونة الانتقال من قطاع او فرع تعليمي الى اخر ، هذه كلها تفرض ضرورة التنقيح المستمر وتتطلب اعادة النظر في البرامج المدرسية . وهذا بطبيعة الحال ، يجعلنا نواجه مشكلة ، بل هي شكلة ثابتة مستمرة من غير شك ، وقد فرضت نفسها ايضا على نحو متزايد خلال الاعوام القليلة الماضية الى حد جعل المؤتمر الدولي للتعليم العام يشعر بأنه مضطر الى ان يصوت عام 1960،2958، الى جانب توصية تتعلق (برسم وصياغة برامج التعليم الابتدائي) ثم (برامج التعليم العام على المستوى الثانوي). واذا ما اشرت الى هذه التوصيات بأستمرار ، فليس هذا من قبيل المبالغة ، وانما لما لها من اهمية بارزة ، ولانها تمثل جهودا رسمية مشتركة تقدمت بها وفود تمثل مختلف وزارات التربية ، ولان التوصيات هذه تكون تأملا دقيقا في لب المشكلة ، قد لا تمثل حقيقة آراء الرأي العام او اراء المعلمين المعنيين ، لكنها بكل تأكيد تعكس وجهات نظر السلطات التربوية التي تمتلك كامل السلطة التنفيذية لمضي في التطبيق حالما تتم المصادقة على اقتراحاتها من جانب برلماناتها.

وفي كل الاحوال ، فأن هذه التوصيات (50-46) تؤكد على مخاطر حشو برامج مدارسنا بمواد اكثر مما ينبغي : (اذ من المرغوب فيه ومن المستحسن ان تأخذ الافكار الاساسية والضرورية مكان المحتويات الانسكلوبيدية في برامج مدارسنا) (التوصية 46من المادة9) كما ورد ايضا (ان الاتجاه العام الى اثقال المفردات وحشو البرامج بمواد جديدة او بتوسيع نطاق المحتويات لكل موضوع معين تنشأ عنه خطورة حقيقية ، ولكي نواجه هذه الخطورة فمن الاهمية بمكان ان نتقدم بأفكار جديدة تعوض عما 

الصفحة 140


يمكن ان يقال بأن فكرة طردت فكرة ، فالافكار المقدمة يجب ان تكون ذات اهمية خاصة) . (توصية 50، المادة20) . وقد قال احد وزراء التربية مرة ان المشكلة الدولية الملحة في التربية بالنسبة اليه الحشو الذي تضج به مناهجنا.

ولكن كيف نختار هذه (الافكار الجوهرية) التي يجب ان تلتزم بها برامجنا المدرسية ؟ ترى التوصيات المذكورة ان رسم البرامج وتنقيحها ينبغي ان يعهد بها الى فئات مختصة تضم طبعا ، ممثلين عن المعلمين من جميع المستويات ومن مختصين في الموضوعات الدراسية ، ومعلمين من مستويات في مجالات اخرى ليكون هؤلاء المعلمون حلقات اتصال - وان تضم الفئات هذه (مختصين بالمسائل التعليمية) ، وكذلك مختصين بعلم نفس الطفولة والمراهقة.

وبقدر ما يتعلق الموضوع ببرامج المدرسة الثانوية ، فأن المؤتمر المذكور قد اصدر توصيات مفصلة منها : (ان الفئات والجهات المسئولة عن اعداد هذه الب امج ينبغي ان تأخذ في الحسبان مرحلة تمهيدية للتوثيق ، مع التأكيد بخاصة على : أ) خصائص وتساوق التطور عند الاطفال ولا سيما في مرحلة الاعمار التي يتأثرون فيها بأزمة المراهقة

(ب) الاهتمام بأبرز ما تحقق من مظاهر التطور العلمي في مجالات الموضوعات التي يتم تدريسها.

(ج) الاهتمام بالحقائق الجديدة التي جدت في مجالات التعليم ، سواء منها المتخصصة ام العامة.

(د) رفع المستوى العلمي والتدريسي للمعلمين الذين يتولون ما يدرس من موضوعات.

(ه) الاطلاع على الاتجاهات التي تتحكم فيما في العالم الحديث من تطورات ثقافية واجتماعية واقتصادية.

الصفحة 141


(و) متابعة ما هناك من دراسات مقارنة تتصل بالبرامج المطبقة في أقطار اخرى.

 (ز) الانتفاع من نتائج ما اجرى من تجارب في هذا الشأن سواء في هذا البلد او في اقطار اخرى) (توصية 50المادة (28                

هذا ولقد اوصى المؤتمر مع شيء من التأكيد على انه قبل الصياغة النهائية للبرامج ينبغي (اخضاعها اخضاعا يتصف بالعناية والدقة الى اختبارات اجرائية ، على ان يتم اختبارها هذا اما في مدارس ذات طبيعة تجريبية او في مدارس اعتيادية يتم اخيارها لهذا الغرض) . وعندما اوصى المؤتمر بأجراء الاختبارات الموجهة على البرامج لم يكن يعني تطبيق جميع ما هناك من اختبارات نفسية ، وانما كان يرمي الى اجراء بحوث مستفيضة ترتكز الى اسس نفسية تتم في تلك المراكز التي تمتلك الوسائل المناسبة لهذا الغرض ، مع اشراك من يهتم بهذا الجانب من المعلمين ليتولوا القيام بهذه المهمات لانها تهمهم تطبيقيا (انظر التوصية 50المادة27).

ونصت التوصية (46) من المادة (15) على ما يلي:

(طالما انه لا معدى عن البحث التربوي ذي الطبيعة التجريبية ليلعب دورا له الاهمية الاولى في اعداد وتنقيح برامج المدرسة الابتدائية ، فمن المناسب اذن زيادة عدد المراكز والمعلمين ممن يكرسون جهودهم لمثل هذه الحوث ، ومضاعفة ما يوضع تحت تصرفهم من وسائل اما فيما يتصل بمسألة الحشو في برامج المدرسة الثانوية ، فأنه تجدر الاشارة الى بعض العوامل الانفعالية او الاقتصادية التي يتجلى تأثيرها على وضع المدروس ومركزه ومكانته. والحقيقة هي ان كلا من هؤلاء المعلمين يخص نفسه بتدريس موضوع معين لجملة من الاسباب المتشابكة منها ما يتصل بجوانب عقلية ومنها ما يرتبط بالمكانة الاجتماعية في اروقة مدرسته . لهذا

الصفحة 142


 فقد اصبح واضحا احيانا ان الرواتب تحتسب بالضبط بالنسبة الى عدد الساعات التدريسية ، فيترتب على هذا الاجراء ان عاجلا او أجلا ، زيادة في عدد تلك الساعات في حين انه عندما لا تحتسب الرواتب بنسب ساعات التدريس فيؤدي الامر بسهولة الى خفض مؤكد في عدد الساعات التى تشحن بها البرامج عادة.

الصفحة 143



الفصل السابع: التعاون الدولي في الشؤون التربوية


ان ابرز ملامح التغيرات التربوية منذ انتهاء الحرب العالمية الاخيرة هو ما اتخذته هذه التغيرات من بعد دولي توفر على دراسة ما جد من مشكلات في مجالات التربية وكذلك ما طرأ من تقدم في التعاون الدولي في هذه الميادين ، هذا التعاون الذي كان قد اتخذ سبيله مسبقا فيما بين 1925و 1939، كان هذا ولا ريب ، ولكنه بلغ ابعد مدى فيما بين1945 و1965.

حقا ان علم نفس الطفل والتربية ، يعتبران ، طبعا ، من الموضوعات العلمية ذات طبيعة دولية ، بمعنى انه من الصعب متابعة بحث معين في بلد معين دون التعرف على طبيعة بحث مماثل او بحوث اخرى اجريت في اقطار اخرى من العالم . فدراسات ديوى، ودكرولي ، ومنتسوري مثلا قد اثرت في التربية في كل قطر من اقطار العالم . يضاف الى هذا ، فأن الباحثين في المجالات التربوية قد نظموا بطبيعة الحال الحال مؤتمرات دولية ، كمؤتمر التربية الحلقية مثلا ، الذي عقد له اجتماعات منتظمة دولية ، والف له لجانا فرعية تتدارس مختلف جوانب الموضوعات التربوية ومنها على سبيل المثال ، رابطة التربية الجديدة ، التي رأستها لفترة طويلة السيدة اينسسور ،! المعروفة ببحوثها التربوية المهمة التي كانت ولا تزال تطبق اليوم على نطاق واسع.

ولكننا نجد خارج اطر مجالات البحث ، والى جانب دعاية المتحمسين للطرائق الجديدة ان علماء التربية في كل بلد ما فتئوا مقتصرين في جهودهم ضمن حدود اقطارهم . وان كان يصدق احيانا ان قطرا صغيرا قد يقتبس من قطر اخر كبير طرائقه وبناه التربوية ولعل هذا ينطبق ايضا على الاقطار الكبرى - لكن مع هذا قلما يكون هناك اهتمام بتبادل نتائج التجارب التي تجري ، ونادرا ما يكون هناك التفات الى الدراسات المقارنة التي من شأنها تيسير التوصل الى اتخاذ القرارات . ولعله تكون هناك احيانا معرضة لمثل 

الصفحة 147


هذا التعاون ، وذلك لاسباب تقوم على دعوى المحافظة على السيادة ، بل والمدهش حقا ، في سبيل الحفاظ على التقاليد والاتجاهات الفلسفية.

بيد ان التعاون الدولي اليوم في الشئون التربوية ، قد اصبح من الامور الاعتيادية ولنضرب مثلا على هذا ، هو ان المؤتمر الدولي الخاص بالتربية العامة ، قلما صاغ توصية تخلو من معنى التعاون الدولي المشترك ، اذ تكررت الاشارات الى هذا من قبيل : (تبادل التعاون الدولي) ، (الجوانب الدولية للمشكلة) ، وقد ترددت امثال هذه العبارات سواء كانت متصلة بنواحي التمويل ، او بالتربية الريفية ، او ببناء المدارس ، او بتدريس الرياضيات ، ام بالتعليم الخاص لضعاف العقول والمتخلفين ، ام البرامج العامة ، او ما يتعلق منها بالتخطيط الطويل الامد.

مراحل التعاون الدولي في مجال التربية:

ولعل بعض المعارضة قد جاءت حينما تأسست عصبة الامم ورغم ما تقدم به انذاك ليون بورجو من اقتراحات في سبيل دعم التربية ، فأن العصبة صممت على استبعاد التربية من مجالات نشاطها.

وكان رد الفعل لهذا النقص في اعمال عصبة الامم مزدوجا فالحكومة الفرنسية ، من جهة ، قد انشأت عام 1925، المعهد الدولي للتعاون الفكري ، وقدمته الى تلك المنظمة ، ذلك المعهد الذي كانت نشاطاته جمة ، وان لم تكن بادى الامر كافية لرفع الخطر المفروض على استبعاد التربية . وكان هناك من الجهة الاخرى ، معهد جان جاك روسو ، وكان انذاك معهدا خاصا في جنيف ، وقد افلح في التأثير في تأسيس اللجنة الدولية للتربية ، وكانت ايض خاصة في طبيعتها ، ولكنها نجحت في ان تنظم عدة مؤتمرات ، 

الصفحة 148


وراحت تطور وتحور في بنيتها منذ عام 1929، بحيث ضمت اليها عدة حكومات وجعلت من بين اعضائها وزراء التربية في تلك الحكومات ومن بين الاقطار التي بادرت الى العضوية في تلك المؤسسة التربوية هي ، بولندا ، والاكوادور ومقاطعة جنيف من سويسرا (اذ كانت حكومة سويسرا الفدرالية متحفظة في قرارها).

وفيما بين 1939،1929، تضافرت جهود ونشاطات معهد التعاون الفكري واللجنتة الدولية للتربية . وقد افلح المدير العام للمؤسسة الاولى منهما في ان ينشي في عدة اقطار (مراكز دولية لتوثيق التربوي) وجعل مهمة التنسيق فيما بينها من واجبات المعهد نفسه . وتولت اللجنة الدولية للتربية مسألة تنظيم اجتماعات سنوية فيما بين 1932و1933 لمجالس التربية في الاقطار المختلفة كان من نتيجتها عقد المؤتمر الدولي للتربية العامة . اذ عقد خلال تلك الفترة مؤتمرا ان للتربية وتم عام 1943عقد ثالث مؤتمر لمتربية بمساعدة الحكومة السويسرية وكانت الدعوة اليه مفتوحة لجميع الاقطار . وقد حقق المؤتمر نجاحا لتكريسه جهوده الى مسائل حيوية منها سن الالزام في التعليم والقبول في المدارس الثانوية ، واقتصاديات التربية وهذه الاخيرة نظرهم لدى طلبهم اموالا كان التقصير فيها يؤثر تأثيرا مباشرا في التقدم التربوي . استطردت مؤتمرات التربية العامة سنويا حتى عام 1939، حيث انقطعت فترة ، ثم استؤنفت ثانية عام19476.

وبعد الحرب العالمية الثانية ، ادت نفس الاسباب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الى التوسع المتفجر في ميادين التربية بحيث اصبح التعاون الدولي في هذه الميادين ليس من الامور المرغوبة فقط بل من الامور الضرورية الى حد لم يعد اليوم هناك من يعارض فكرة الانضمام الى المؤسسات الدولية الخاصة بالتربية ، وهذا على خلاف ما كان عليه الامر ابان تأسيس عصبة الامم . ولذا

الصفحة 149


 فقد انشئت تحت مظلة الامم المتحدة المنظم العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ومن اهم نشاطاتها منذ بدء تأسيسها ، هو التعاون في مجالات التربية والتعليم.

تتميز اليونسكو قبل كل شي بكونها هيئة تنفيذية ، وهي المؤسسة التي نتعاون معها الان للحصول المعونات المالية والدعم السياسي وهذا لا يعني ان المنظمة هذه لا تقوم ببحوث طالما ان بعض البحوث ضرورية قبل الشروع بأية حملة تربوية في اي مجال ، لكنها لا تقوم بالبحوث بنفسها الا في الحالات التي تراها ذات فائدة اعم ، وهذا يصدق في مجالات العلوم الاجتماعية ، اذ لدى المنظمة هذه مجلة حيوية تتولى نشر البحوث النافعة . ولما كانت المهمات التربوية اشمل من ان يحاط بها ، لذا فأن اليونسكو قد ركزت طاقاتها على الالتزامات الدولية التي تدخل ضمان اطار التنفيذ . وكلنا على علم بما تبذله هذه المؤسسة من جهود محمودة في ميادين محو الامية التي اصبحت في عالمنا هذا عائقا دون اكتساب المعرفة المتفجرة وما من احد ينكر جهودها في مجال تقديم المساعدات الفنية والتقنية.

وقد انشأت اخيرا المعهد الدولي للتخطيط التربوي لغرض تشجيع الدراسات وتبادل الخبرات والمعلومات في هذا المجال الحيوي. وسياسة اليونسكو تقوم على الانتفاع من الجهات والهيئات ، ولكن بدون احتوائها ، وانما تترك لها حرية التصرف المستقل القائم على التشاور والتعاون.

النشاطات والمآخذ في اعمال المؤتمر الدولي للتربية العامة:

ان قرار ما ينبغي ان يتضمنه جدول اعمال مؤتمر التربية العامة انما تتخذه لجنة مشتركة مؤلفة من ثلاثة ممثلين عن المجلس التنفيذي التابع لليونسكو وثلاثة ممثلين عن اللجنة الدولية للتربية.

ولذا فأن دوائر اليونسكو هي التي تحضر هذا الجدول للاعمال 

الصفحة 150


الموحدة بالاضافة الى اية دراسة مطلوبة تتعلق بالمسائل المنتخبة ، فتتولى طباعتها وتوزيعها على مؤتمر وزراء التربية ، وذلك قبل ان تصبح محتويات التقرير معروفة لدى الرأي العام وقبل تداولها.

فتتولى الدائرة الدولية للتربية مهمة اعداد استبيان يتعلق بالمسائل المختارة التي يراد ادخالها في جدول الاعمال وترسله الى جميع وزارات التربية ، بعد ان يكون الاستبيان قد تم تدارسه مسبقا من قبل لجنة المؤسسات التنفيذية التي تمثل فيها جميع الاقطار الاعضاء . ومن ثم تنسق نتائج الدراسات المقارنة هذه وتظهر كمطبوعات شأنها في هذا شأن الاستبيانات ، فتوزع على الممثلين قبل اعلانها الى الرأي العام.

فيلتقي المؤتمر اذن استجابة لدعوة مشتركة تتقدم بها المنظمات وتبعا لما في جدول اعمال مصادق عليه من قبل المجلسين . وتوجه الدعوة الى جميع وزارات التربية بصرف النظر عما اذا كانت اعضاء في المنظمة ام لا ، لترسل ممثلين يتمتعون بنفس الحقوق على حد سواء . لكن اليونسكو ، وهي احدى المؤسسات المتخصصة التي انشأتها الامم المتحدة فهي اذن ملزمة بأتباع نظمها وقوانينها.

وان اللجنة الدولية للتربية ليست تابعة للامم المتحدة لكن الرغبات السياسية التي تبديها الاغلبية قد تواجه تحديدا وقيودا.

وبعد ان يجتمع المؤتمر فأنه يشرع بمناقشة المسائل المدرجة في جدول الاعمال ويصادق على ما يتخذ من توصيات . ولا حاجة للتكرار هنا بعد استقاء ما فيه الكفاية من توصيات ، ويكفي ان نعلم ان هذه التوصيات تكون قد ابرمت من جانب ممثلين عن 80 -

100وزارة تربية. ويجدر ان يذكر ان تلك التوصيات غير ملزمة والسبب لهذا بكل بساطة هو ان التعاون الدولي في الشئون التربوية يقوم على الاحترام المتبادل وليس على الالزام ، ويرتكز الى تمتع كل وزارة عضو في اليونسكو ممثلة بمن يمثلها انما تتمتع بكامل

الصفحة 151


 استقلالها فيما تراه من تصرف . ولذا فأن الالزام بالتطبيق معناه التدخل في الشئون الخاصة لتلك الوزارة ولبلدها . والسبب الثاني هو ذو طبيعة بيداجوجية ، وذلك ان الالزام يمثل مستوى ادنى من مستوى التوصية التي تمثل اعلى وافضل مستوى من حيث النتائج التطبيقية القائمة على التجارب . ولا ينكر اثر توصيات المنظمة العالمية هذه في دعوتها الى حقوق الانسان وتبنيها وفيما قامت به من دراسات وما اجرته من تجارب في مختلف حقول التربية.

ولنعد قليلا الى ما كنا بدأنا به في هذه الدراسة ، ويجب الاقرار بأن السلطات التربوية ووزارات التربية شي وان علم التربية او البحث التربوي شي اخر . وان هذا حقا ،! هو ما يقره ممثلو وزارات التربية في مؤتمراتهم المتعلقة بالتربية العامة . لكن الحقيقة مع ذلك ما عتمت كما هي عندما نقارن هذا المؤتمر بسواه من المؤتمرات الاخرى من نفس النوع ، اذ تكشف لنا هذه الحقيقة عن عدم توازن هي ليست مصدره وانما تعاني منه التربية المعاصرة برمتها.

وبأختصار ، فأن وزارات التربية وما تضطلع به من عقد مؤتمرات انما تكون بصدد سن القوانين لكن الوزارات هذه لا تصنع الحقائق العلمية او التربوية . وان العمل على المستو الدولي مكن ان يكتمل وان يكون متكاملا في هذا الشأن فقط عندما يتم بحث نفس المسألة في مؤتمر يعقد لهذا الغرض بعد ان تكون المسائل المطروحة للبحث قد تدارسها مختصون بالتربية التجريبية وبعلم النفس . وانه بتداول مختلف المسائل بين اعضاء المؤتمر وبين المتخصصين الخبراء ينجم عنه توضيح لجميع جوانب الموضوعات وهذا يفضي الى زيادة عدد البحوث التي تؤدي في هذا المجال . وان القيام بمثل هذه البحوث يدعو اليه عادة مؤتمر التربية العامة وان استمرار الحوار في هذا الجانب يتمخض عن افضل ما نتوخى من المرامى التربوي واهدافها.

الصفحة 152


الفصل الثامن

اعداد المعلمين للمدارس الابتدائية والثانوية

ليست تمة مسألة واحدة من مسائل التربية والتعليم تناولتها منذ عام 1935 حتى الآن الاولها صلة ، بشكل او اخر ، بمسألة اعداد المعلم وان اعظم الاصلاحات جدارة بالتقدير تجد نفسها عاجزة عن التطبيق مالم تكن مصحوبة بأعداد كافية من المعلمين الاكفاء. نعلم نفس الطفل بوسعه ان يمدنا بمعين من الحقائق والمعرفة الخاصة بمكنيات التطور ، لكن هذه الحقائق والمعرفة لا يمكن ان تأخذ مكانها في المدرسة مالم يكن المعلمون قد تشربوها بصورة كافية واصبح بمقدورهم ترجمتها الى تطبيقات اصيلة . اذ ان تطلبات العدل الاجتماعي والحاجات الاقتصادية للمجتمع قد تضطرنا الى التوسع في جميع قطاعات التربية ولعلها تملي علينا زيادة في المرونة في قبول الطلبة في مختلف قنوات الدراسة ضمن هذا الاطار ، لكن الضرورة الى المعلمين ما تزال قائمة ، اذ هم الذين يتحملون المسؤولية الجسيمة في التوجيه الفردي ، وهم الذين يستوعبون فهم المشكلات المعقدة هذه ، وهم بهذا يسهمون بما يسدونه من عون في هذا الشأن . ويمكن القول احتمالا ، انه كلما اصلحنا مدارسنا اكثر ، اصبحت مهمة المعلم اثقل ، وكلما تحسنت طرائقنا التعليمية على نحو افضل صارت مسألة تطبيقها اصعب. على ان الحقيقة المؤسفة هي ان التوسع في النهضة التربوية خلال الاعوام الاخيرة قد تزامن مع تناقص في الاعداد المطلوبة من المعلمين . يضاف الى هذا ، فليس ثمة ما هو اعتباطي حول هذا التزامن : اذ ان الاسباب هذه نفسها جعلت نظام مدارسنا قاصرا وقد تأدت هذه الاسباب ايضا الى اضعاف مكانة المعلم الاجتماعية والاقتصادية.

وهذه الاسباب يمكن ايجازها بالقول ، ان نظام مدارسنا ، سواء ما كان منها تحت ظل اليمين ام اليسار ، قد بناه محافظون (من وجهة النظر الايديولوجية) ممن كان تفكيرهم ينصب على صهر اجيالنا في

الصفحة 155


 مصهر التعليم التقليدي اكثر مما كان تفكيرهم هذا موجها الى اعداد وتنمية عقول مبدعة نقدية . ومن وجهة نظر حاجات المجتمع الحالية ، يبدو واضحا ان تلك المصاهر القديمة قد اخذت تتصدع تفسح المجال الى نظم وطرائق تربوية اكثر مرونة واشمل تطبيقا. ولكن من وجهة نظر المعلمين ومن حيث واقعهم الاجتماعي ، فأن تلك المفاهيم التربوية القديمة قد جعلت منهم مجرد ناقلين للمعرفة العامة بشكلها الاولي او فوق مستواها الاولي بقليل ، دون اتاحة الفرصة لهم للابداع وقللت اكثر فرص البحث والاكتشاف بالنسبة اليهم ، لذا فهي قد قيدتهم في حدود مكانتهم الحالية الخفيضة . اما واننا لنشهد اليوم ثورة تربوية لها اهميتها التاريخية ، وطالما هي ترتكز على الطفل والمراهق ، وعلى ما يمتلكان من خصائص عظيمة الجدوى لمجتمع الغد ، فهذا قد لا يدع مجالا للمعلمين للتمكن من علم في التربية متقدم بكفاءة يسمح لجهودهم الشخصية للاسهام في تقدم هذا العلم اكثر ولا يدع مجالا ايضا لما هناك من اعتبارات رصينة تقترن بهذا الضرب من ضروب النشاط العلمي ،

الاجتماعي : وبالتالي فأن مكانة المعلم تبدو غير جذابة فتزداد مسألة استقطاب المعلمين صعوبة. فمشكلة اعداد المعلمين اذن ، تؤلف ، من جميع الوجوه ، المشكلة الرئيسية التي على حلها تتوقف جميع المسائل التي بحثناها حتى الان . لذا فأن على الحلول المقترحة التالية الخاصة بهذه المشكلة ، قد ارجئت الى الفصل الحاضر ، انما هي بمثابة خلاصة لما تقدم ذكره من تحليلات بوجه عام.

اعداد معلمي المدرسة الابتدائية:

ثمة ثلاثة نظم متبعة لاعداد المعلمين هي : معاهد المعلمين (قد تكون داخلية وقد لا تكون) وكليات التربية واقسام التربية اوكليات 

الصفحة 156


التربية في الجامعات . والاتجاه السائد خلال الاعوام الاخيرة يؤكد على رفع مستوى مستوى اعداد المعلمين ، وذكر المؤتمر الدولي الخاص بالتربية العامة المنعقد عام 1953 ، ان اعداد معلمي المدارس الابتدائية في مؤسسات عالية المستوى يؤلف المثل الاعلى الذي نجهد بأستمرار لبلوغه) ، (توصية 36 ، المادة10).

هناك مأخذان على معاهد اعداد المعلمين . الاول هو انها تجعل منذ البداية التعليم الابتدائي نظاما مغلقا على نفسه ، وبعبارة اخرى ، فهي تكون وحدة اجتماعية مغلقة ، تشعر بقيمتها لكنها معرضة الى نوع من وباء الشعور بالنقص الجمعي الناشي عن الاسباب المذكورة . وكل فرد يعي هذه الظاهرة التي هي حالة مفتعلة تماما او جدتها ظروف اجتماعية فأصبحت احدى العوائق الرئيسية تحول دون اجتذاب المعلمين للتعليم . فأضحت عاملا معوقا اما توسع النظام المدرسي . والمأخذ الثاني هو ان ما يعطي لمعلمين ابان الاعداد في معاهدهم من معرفة يحتاجونها فيما بعد ، تنجم عنها قيم ثقافية : وسواء ارادها المرء ام اباها ، فأنما هذا حصل والسبب بكل بساطة لان طلبة دور المعلمين يحرمون من تبادل وجهات النظر والخبرات لما يدرسونه من مساقات مع غيرهم ممن يدرسون مساقات تؤدي الى مهن مختلفة . وبخاصة نجد ان الاعداد السيكولوجي الضروري لمعلمي المدرسة الابتدائية ،! من الواضح انه اكثر تعقيدا واشد صعوبة مما يكون عليه التعليم في المرحلة الثانوية ، فهو اذن لا يمكن ان يدرس بكفاءة الا في حالة ارتباطه بمراكز البحوث الملحقة بالجامعات ، حيث يمكن تيسير الامر من جانب المتخصصين العاملين بأستمرار هناك . حقا ، انه ليس بوسع المرء ان يتعلم علم نفس الطفل الا اذا ساهم في مشروعات بحث جديدة وشارك في تجارب معينة ، ولا جدوى من قصر المسافات على تمرينات محددة او على اعمال تطبيقية موجهة 

الصفحة 157


الى نتائج معروفة . وان البحوث هذه لا توجد في الغالب الا في الجامعات ، وان الجامعة هي المكان الوحيد الذي يمكن ان يتعلم نيه المعلمون اساليب البحث ليصبحوا باحثين وليرتفعوا فوق ستوى الناقلين فحسب . ويصدق الشي نفسه على البيداجويا التجريبية نفسها ، طالما ان غايتها الظاهرة هي ترويض واعداد المعلمين لتكتسب فعاليتهم ونشاطاتهم الفردية مكانة علمية ، على ان يدربوا بكفاءة عالية : على ان الاعداد هذا لا يتم بمعزل عن مستوى رفيع من مستويات التربية النفسية واجتماعياتها.

ان الكليات الوسيطة او معاهد التربية تحاول معالجة هذه النقائض عن طريق اعداد يتم على مرحلتين : مرحلة اعداد عام على المستوى الثانوي ، ويكتسبه المعلم مقدما في المدرسة الاعدادية ، واعداد متخصص يتم في هذه الكليات او المعاهد . ولكن تبقى هناك مثلبة الفصل بين معلمي المدارس الابتدائية بوصفهم وحدة اجتماعية ، وبين مدرسي المدارس الثانوية ، وكذلك الفصل بين هؤلاء كافة وبين المدرسين من خريجي الجامعات ممن يسهمون ببحوث تثري المعرفة وطرائق التعليم . وان مجرد وجود معاهد لاعداد معلمي المدارس الابتدائية بمعزل عن الجامعة ينعكس على مكانة المعلم ويؤثر على نفسيته ، ويجعل مهنة التعليم الابتدائيي وكأنها مهنة مغلقة فلا تشجع المعلمين على التطور والتحري والبحث . وما فتئت المشكلة قائمة حقا ، ففي عدد من الاقطار لا يزال هناك تمييز بين (معاهد التربية) و(مدارس التربية) ، والاخيرة هذه مخصص لاعداد المعلمين للصفوف الابتدائية. 

وازاء هذا كله ، فيبدو مناسبا هنا اثارة سؤال هو : بأي المعاير يحكم على التعليم الاولي في الصفوف الاولى من المدرسة الابتدائية بأنه اسهل من التعليم في الصفوف المتقدمة منها ، وكيف نحكم على ان التعليم في المدارس الابتدائية اقل صعوبة مما هو عليه في

الصفحة 158


 المدارس الثانوية . والاعتبار الوحيد الذي يسوغ مسألة هذا التسلسل ، بطبيعة الحال هو ان مادة الموضوع التي يراد تدريسها ، وان كانت هذه تقاس بمعيار المعرفة وبمعزل عما يمكن ان يتمثلها الطالب من حيث الصعوبة او السهولة . وبهذا نواجه مباشرة مشكلتين او ليتين ينبغي ان نفرغ منهما . الاولى هي ان نوضح ما اذا كان من الحقيقة في اشي ان ان نجعل طفلا فيما بين السابعة والتاسعة من العمر ان يستوعب تركيبا اوليا في الحساب او اللغة مثلا ، اسهل من ان نمكن مراهقا من تمثل تركيب بالغ التعقيد توصيله الى المراهق ، وان كان يبدو ظاهريا اشد تعقيدا ، لكنه يور توصيله الى عقل المراهقين ، لأن المراهق في هذه المرحلة اقرب الى تفكير الكبار واوعى لتفهمهم . والمشكلة الثانية التي تستلزم التوضيح ، وبقدر ما يتعلق الامر بتطور عقل الطالب وتفكيره ، وسواء كان تمثل التراكيب هذه مرضيا تماما ، فأن المسألة هنا مهمة جدا سواء على المستوى الابتدائي ام المستوى الثانوي ، ولعله في المرحلة الابتدائية اكثر اهمية ، لأنه يكون لاساس ويمهد لما يليه من مراحل ويؤثر في حياة الطالب المدرسية المقبلة كلها ، والامر يكون على هذه الصورة لأن الطالب في المراحل المدرسية المقبلة تكون له القدرة على التعويض او التصحيح الذاتي لما يراه تبعا للمستوى الذي هو فيه. فمن وجهة النظر المزدوجة هذه المتصلة بمصاعب التمثل والمتعلقة بالاهمية الموضوعية للافكار ، فمن الممكن القول - اذا ما اتخذ المرء وجهة النظر النفسية والمعرفية بدلا من الناحية الادارية بأنه كلما كان الطفل اصغر كان تعليمه اصعب ، وكان ذلك التعليم اكثر اثمارا لما سيأتي به المستقبل من نتائج . لهذا فقد امتدت تجربة تتصل باعداد المعلمين لمدة اعوام قام بها جودفري تومسن ،

الصفحة 159


 النفساني الكبير ، رئيس بيت موراي ، وهو قسم التربية بجامعة ادنبرة . فمعلمو المستقبل ، بعد اعدادهم في الموضوعات التي ينوون تدريسها يتلقون في بيت موراي اعدادا نفسيا وتعليميا مناسبا ، ولا سمح لهم بأختيار ما يرغبون التدريس فيه من مستويات الا بعد استكمال هذا الاعداد النفسي والتربوي . وبتعبير اخر فأن معلمي المدارس الابتدائية والثانوية كانوا يدربون معا خلال السنوات الاخيرة من اعدادهم التربوي ، بدون ان يقرر منذ البداية نوع المستوى الذي ينتمون اليه : وهذا قد تمخض عن منفعتين:

استبعاد الاحساس بالنقص او بالتفوق واعداد يتركز على حاجات الطالب بدلا من الاهتمام بمنافع ما يجتني من كل مستوى من مستويات التعليم. ولا ندعي بأن هذا الموقف النموذجي المثالي يجب ان يعمم طالما انه يتطلب نفقات عالية - لكنه من غير شك يتيح تمهيدا لمحاولات شتى منها ما اجريت ومنها ما عرضت على شكل مشروعات تتعلق بأعداد المعلمين في الجامعات . ولا ينبغي ان نسمح لانفسنا بأن تضللنا الالفاظ ، اذ يجدر ان نحسب لكل حالة معينة حسابها الخاص ، وان نتساءل عن طبيعة المستويات المطلوبة على المستوى الجامعي . فكثير من (كليات المعلمين) الامريكية انما هي (معاهد تربوية) من النمط الوسيط المبحوث انفا ، وهي مفتوحة لطلبة الجامعة في المرحلة الاولية ، ممن لا يتطلب منهم ان يقوموا ببحوث كثيرة ولكن هذا لم يمنع من محاولة تنسيق اعداد معلمي المستقبل وجعل اعدادهم هذا مرتبطا بالحياة الجامعية ، وقد تم التأكيد على هذا في تقرير الاباء المعد في القسم الفرنسي من كندا ، مثلا ، بوصفه احد اصلاحات الغد الضرورية.

وتجربة اخرى ، تم اجراؤها في جنيف خلال السنوات القلائل الماضية ، وهي ايضا نافعة من وجهتي نظر نقائصها ونجاحها.

الصفحة 160


 والمبدأ الذي قامت عليه هو ان معلم مدرسة المستقبل الابتدائية يجب ان يبدا بالحصول على شهادة البكالوريا ثم يبدا اعدا تخصصا امده ثلاثة اعوام . يخصص العام الاول منها الى تدريب الطلاب عمليا من خلال دراستهم ملساقات عملية تمكنهم من التعرف على المشكلات بأنفسهم ، ومن ثم يعودون في العام الثالث الى التطبيق العملي . اما السنة الثانية فيقضها الطلاب في الجامعات حيث يدرسون خلالها علم النفس ويتلقون دروسا في التوجيه واجراء البحوث والتدريب عليها ، وبعدها يخضعون لامتحان منحون بعده الشهادة المطلوبة.

من المآخذ على النظام المذكور تنشأ من حقيقة قصر الوقت المنفق في الجامعة مما لا يسمح بتكامل اكتساب المعرفة المطلوبة . يضاف ألى هذا هو ان اختيار الموضوعات الاختيارية مفروض وليس متوقفا على انتخاب الفرد له ، والى جانب ذلك يتقاضى الطلاب مرتبات مما جعلهم بمعزل عن سائر الطلبة في الجمعة . ولكن نجد من الجهة الاخرى ان المبادرة مغرية وتثير اهتمام الطلبة المتقدمين لمهنة التعليم مستقبلا اذ ان فرص الحصول على الدرجات العلمية كالدبلومات مثلا بل وحتى الدكتورا ، مفتوحة امامهم على ان النقطة الاساسية هي ان البدء بدراسة علم نفس التطور العقلي وما يصل بهذه المسألة يتجاوز حدود هذه المثال . فالجميع متفقون على ان اعداد المعلمين يتطلب دراسة علم النفس . على ان طرائق المدرسة الفعالة مازالت بعيدة عن المارسة العامة عما يهم الطلاب انفسهم ، وان التدريب النفسي والاعداد فيه لا يزيد في الغالب عن كونه مجرد محاضرات واتجاهات ، ولا يتألف الجانب العملي منه الا من اجراء قليل من الاختبارات.

ان فهم موضوعات علم النفس على نحو افضل مما هي عليه الحال في الموضوعات والعلوم الاخرى ، يتوقف على ما يمكن ان يضطلع به 

الصفحة 161


الفرد من مشروعات بحث خاصة به وهذا بطبيعة الحال هو الجانب العسير تنظيمه ، وبخاصة للمبتدئين . وفيما يتعلق بالمشكلة التي نحن بصددها فأن حلها هو كالتالي:

لدى المعهد برامج بحوث يعدها سنويا على الاساتذة ويشرف على تنفيذها مساعددوهم ، الذين يذهبون عصر كل يوم لزيارة مواقع معينة من المدارس التي تجري بها البحوث ويتحدثون الى اطفالها ليتبينوا ما يريدون التوصل اليه . وان الطلاب الذين سيصبحون فيما بعد معلمين يشاركون في هذه البحوث ويصبحون اولئك المساعدين في زياراتهم على شكل جماعات مؤلفة من اثنين او ثلاثة على الاكثر - فتتيح لهم مصاحبة المساعدين في تلك الزيارات كيف يدونون الحقائق وكيف يستجوبون الاطفال ، ويتعلمون كيف يعدون التقارير الدورية المطلوبة منهم على فترات ، وهذا الاجراء يجعلهم مندمجين في عملية البحث فيسايرون فترات الاخفاق والنجاح فيها.

وهذا هو نوع التعاون الذي يدعى معلمو المستقبل الى الاسهام فيه ، وهذا هو نوع وضعهم بتماس مع عملية فصل الحقائق واحصائها مما يكون اساس الاعداد الرئيسي لهم : فهذا هو الاعداد الفكري لهم اذ انه يضطرهم الى فهم ما تكون عليه المسألة من تعقيد ، وهذا هو الاعداد الخلقي والاجتماعي لهم ، اذ انه يمنح المربي القناعة بأن موضوعه يشتمل على فرص غير محدودة للبحث النظري والتطوير والتحسين الفني . وبأيجاز ، فأنه بالبحث وعن طريق البحث يمكن لمهنة المعلم ان تتجاوزكون مجرد حرفة بل حتى انها نتجاوز مستوى المهنة الانفعالية فتكتب رصانة المهن التي تستقي من معين العلم والفن معا ، وذلك لأن العلوم التي تهتم بالاطفال واعدادهم وبتدريبهم تكون مجالا لا ينتهي من الجهود ، وهذا يصدق على الوقت الحضر اكثر من اي وقت اخر

الصفحة 162


 اعداد المدرسين للمدرسة الثانوية:

في معظم الاقطار يتم عادة اعداد مدرسي الثانويات في رحاب الجامعات حيث يحصلون على شهادة واحدة في الاقل . فهم لهذا على ألفة بالبحث وبطرائقه ، ويكون هذا على الاقل تقدير في الموضوعات التي سيقومون بتدريسها ، واذا كان الحماس يملأ جوانحهم ، فأنهم سيختارون باحثي المستقبل من بين طلابهم ويمضو في تدريبهم للقيام بهذه الفعاليات (البحوث) ويمكنوهم من تمثل المعرفة . على ان ما يحدث في الغالب هو انه كان مدرسو الثانويات اكثر حماسا لموضوعه الذي يعلمه ، كان اقل اهتماما بعلم التربية اياها . او بالاحرى ، كون البيداجوجيا تجمع بين صفتي العلم والفن بقدر ما يتعلق الامر بتطبيقها فأن المدرس ذا الموهبة في التدريبس وفي قدرته على توطيد دعائم الاتصال التربوي بينه وبين طلابه ، يميل الى الظن بأن الموهبة وحدها تكفى" وان الحاجة الى المعرفة المفصلة بمكنيات عقل الطفل انما هي شي لازم لمعلمي الابتدائية فقط حيث يدعوهم الامر الى التعرف على حاجات صغار الاطفال ، اما بالنسبة الى مستوى المراهقين فأنه لا فائدة ترجي من التحليلات النفسية ولا تستطيع هذه التحليلات ان تضفيس شيئا على الخبرة الصفية بالنسبة الى مدرس جيد يتمتع بمعرفة ذاتية تمكنه من التعرف على طلابه.

ولعل مثالا صغيرا واحدا يوضح ما يترتب على مثل هذا التفكير من نتائج ، ان الرياضيات المعاصرة تستمد في احد جوانبها من نظرية الكليات (Wholes) وان احدى الطرائق الجديدة في تدريس هذا الموضوع تقوم الآن على البدء بعمليات اولية تتضمن التجزئة والربط بين مجموعتين من الكلبات : وهذا مشروع معقول الى درجة كافية طالما ان الطفل قبلا يستخدم مثل هذه العمليات تلقائيا على مستوى الاجراءات الملموسة . ومع هذا فأن مدرس

الصفحة 163


 الرياضيات يستغرب ، عندما يجد طلابه فيما بين الثانية عشرة والثالثة عشرة من العمر يواجهون صعوبة في معالجة هذه العمليات وهم لا يستطيعون تطبيقها ممن غير اخطاء ، وان كان يمهد لهم بتعريفات لاغبار عليها بالنسبة الى هذه الموضوعات . فالمعلم هنا قد نسي في الحقيقة الفرق النفسي الاساسي الموجود بين الاستعداد على استخدام وتطبيق عملية عقلية على نحو تلقائي ولا شعوري ، وبين القدرة على استعمال التأمل لكي يستمد منه تكوينا مجردا . وان تحليلا نفسيا للظروف التي تتحكم بالانفعال بين هاتين المرحلتين من مراحل الفكر تكمن كثيرا من تبسيط مشكلة عرض الموضوع الى المتعلمين ، ونظرا الى ان مثل هذه الفكرة لم تطرأ على اذهان المدرسين الذين كان يمكن ان يكونوا مدرسين ممتازين لو تدبروا هذا ، ولكننا نجدهم يدرسون مستويات من الرياضيات متقدمة عالية بطرائق تربوية قديمة بالية.

لذا نجد المؤتمر الدولي للتربية العامة المنعقد عام 1954 ، لم يأت تأكيده من غير ما سبب عندما تعرض الى مسألة اعداد المدرسين للثانويات ، حيث اكد على ضرورة تدريبهم علم النفس الى المستوى الذي يؤثر على ما سيقومون بتدريبه عن موضوعات . ولعل تطبيق الاعداد النفسي التربوي على مدرسي الثانويات يكاد يكون اصعب من تطبيقه على معلمي الابتدائيات والاسباب قد المع اليها انفا . والى جانب ما تقدم ، فالصعوبة تكمن في انه لكي نفهم سيكولوجية المراهقة ، فيلزم المرء ان يبدأ بتتبع التطور العقلي بجملته منذ ابكر السنوات حتى سني الرشد وان يستمر ذلك حتى انتهاء اعداد مدرسي المستقبل للثانويات ، ليتمكنوا من فهم كيف ان حليل هذه العمليات التكنونية ككل تلقي ضوء على ما يتعلق بالمراهقة يكشف باستمرار عن عدم اهتمام بسنوات الطفولة المبكرة.

الصفحة 164


 ثمة طريقتان افلحتا حتى الان لاقناع المدرسين في دور التدريب لتقبل مثل هذا الاعداد ، والطريقتان هما . الاولى منهما تتألف بطبيعة الحال من اشراكهم في بحوث تربوية - نفسية ذات تأثير مباشر على التركيب المنطقي - الرياضي ، او على بعض المواقف المعنية التي تتصف بطبيعة سببية ، وغالبا ما يحصل ان تكون هناك موضوعات ذات سمة قديمة ولكن المعرفة المفصلة تكون مجدية كثيرا في طرقها . ويلتفت في الطريقة الثانية الى الاعداد النظري.

وتفق احيانا ان يبدي مدرسوا العلوم مستقبلا استخفافا بعلم نفس التطور وهم يبقون هكذا حتى يفلح المرء في جعلهم يستوعبون التأثير المعرفي لقوانين التطور والنمو . في حين انه عندما نعرض لهم مشكلات اكتساب المعرفة وتحصيلها في اطار العلاقات بين الذاتني والمضوعي او بين الموضوع وما يقابله من شيء ، او في حدود التفسيرات الخبرية ، او القبلية ، او البنائية ، وسواها فأنهم يعون الصلة فيدركون بعض المشكلات المركزية المرتبطة بموضوعاتهم الخاصة ويدركون مع ذاهمية البحث بعد ان كان مجرد عرض شكله التربوي مثبطا لهم فجعلهم عنه يحجمون.

اما ما يتصل بأعداد معلمي المستقبل للفنون الحرة فأن حالة البحث لا تسمح الا بشي من الاتصال بذلك قليل . ولكن بفضل ما طرأ من مجالات تقدم ملحوظ في مجال التحليل اللغوي المؤثر على تطور لغة الفرد ، فأنها (مجالات التقدم) يبدو واحدة ، وذلك ليس من وجهة نظر البنيوية اللغوية ذاتها فحسب ، وانما كذلك من حيث التطور الوظيفي والعقلي . وهنا ثانية ، يتوفر مجال للبحث رحب ، انتفاعها من هذه المساهمات كافة كافة ، اساليب تتسم بالنقاوة والتشذيب الى حد ابعد مما نمتلك اليوم ، وستنجح بحكم هذه الحقيقة ليس فقط في مجال تحقيق اعداد مدرسين اكثر كفاءة ، وانما كذلك في ميدان الاسهام المستمر في التطور الذاتي المتجدد في هذه العلوم.

الصفحة 165



القسم الثاني: الطرائق الجديدة أسسها النفسية



تمهيد

كيف يتسنى للمرء ان يعرف الطرائق التربوية ومنذ متى ينبغي له ان يؤرخ لظهورها اول مرة . لأن تربي معناه تكييف الطفل الى بيئة الكبير الاجتماعية ، وبمعنى اخر ، تغيير التكوين النفسي - البيولوجي للفرد لينسلك في اطر التكوين الكلي للواقع الاجتماعي لجمعي الذي ينتسب اليه المجتمع بصورة شعورية قيمة محددة. لذا فأن هناك جانبين لتلك العلاقة التي ترسمها التربية : فهناك الفرد النامي من جهة ، ومن الجهة الاخرى ، توجد القيم الاجتماعية ، والفكرية والاخلاقية ، التي يتولى المربي مسؤولية تقديمها الى الفرد . وقد بدأ الراشد ، وهو ينظر الى هذين الجانبين من زاويته هو ، بأعارة اهتمامه الى الثاني منهما فقط ، لذا فهو قد راح يعتبر التربية مجرد اداة نقل القيم الاجتماعية بصورتها الجمعية من جيل الى جيل وبدافع من الجهل بل وحتى بدافع من التعارض بين طبيع خصائص كل فرد وبين معايير التنشئة الاجتماعية ، نجد المربي قد اهتم منذ البداية بغايات التربية بدلا من اهتمامه بأساليبها وطرائقها ، والتفت الى الانسان المتكامل بدلا من الالتفات الى الطفل والى قوانين تطوره ونمائه.

وقد تأدي هذا الاعتقاد بالمربي ، ضمنا او صراحة الى ان ينظر الى الطفل اما انه رجل صغير يحتاج الى التعليم ، واشرابه معنى الاخلاق ، وتصنيفه بأقمى سرعة مستطاعة مع نماذج الكبار ، او اعتباره كتلة من الخطايا المتأصلة المختلفة ، اي فهو عبارة عن مادة خام صماء بحاجة الى احياء وتطهير بدلا من حاجته الى التعليم. وانه لمن هذا المعتقد تنشأ معظم طرائقنا التربوية . وانه لمن هذه الزاوية تعرف الطرائق (القديمة) او (التقليدية) في التربية . اما لطرائق الجديدة فهي تلك التي تأخذ في الاعتبار طبيعة الطفل الخاصة ، وهي تلتمس الاهتمام به عن طريق اللجوء الى قوانين التكوين النفسي للفرد وتلتفت الى سبل نمائه وتطوره . فهي تهتم 

الصفحة 169


 مبدا : السلبية عكس الفعالية . ولكن فلنفرض ان ليس ثمة سوء فهم في الموضوع . فأن الذاكرة ، الطاعة السلبية ، والمحاكاة للكبار ، وعوامل التلقي بوجه عام ، هذه كلها جوانب طبيعية تبدو على شكل نشاط تلقائي عند الطفل . ولا يمكن القول في هذا المجال بأن الطرائق القديمة ، مهما بدت منافية لعلم النفس احيانا ، قد اغفلت تماما ملاحظة الطفل ومراقبة مراحل تطوره . فمعيار التمييز بين ضربي التربية اذن لا ينبغي تحريه في اي مظهر من مظاهر عقلية الطفل وانما يجب التماسه في مظان ما يكونه المربي من مفهوم عام عن الطفل في كل حالة.

هل الطفولة بالضرورة شر ، بل هل لخصائص عقلية الطفل اهمية وظيفية تحدد معالم النشاط الاصلي عنده ، تبعا للاجابة المعطاة عن هذا السؤال الحيوي ، فأن العلاقة بين مجتمع الكبار وبين الطفل المطلوبة تربيته تبدو اما احادية فردية من طرف واحد واما مشتركة . ففي الحالة الاولى يطلب من الطفل ان يتلقى ما توصل اليه الكبار من نتائج متكاملة عن المعرفة والاخلاق ، فالعلاقة التربوية هنا تتمثل في ضغط من احد الجوانب وتلق من الجانب الاخر الاخر . ومن وجهة النظر هذه ، فأن معظم ضروب المهمات الفردية التي يحققها الطلاب (ككتابة مقالة ، القيام بترجمة ، حل مشكلة معينة) لا تؤدي الا الى مشاركات في النشاط التلقائي والبحث الفردي على نحو اقل من الممارسة المفروضة او المفروضة او القيام بأستنساخ نموذج خارجي ، فتبقى اخلاقية الطالب في اعماقها موجهة اساسا الى ابداء الطاعة بدلا من توجيهها الى الاستقلال الذاتي . بينما نجد ، من الجهة الثانية ، انه حينما ينظر الى الطفولة بأنها تمتلك نشاطها الخاص بها ، وان التطور العقلي متضمن في دينامية ذلك النشاط بالذات ، فأن العلاقة بين الافراد المنوي تربيتهم وبين المجتمع تصبح علاقة مشتركة : فلا يعود الطفل قترب من حالات الرشد عن طريق تلقي الحكمة والعقل والقواعد

الصفحة 170


الصحيحة المصاغة مسبقا ، وانما هو يقترب من ذلك بواسطة ما يحققه منها بجهوده الخاصة وبخبرته الشخصية ، وبالمقابل فأن المجتمع يتوقع من اجياله الصاعدة اكثر من مجرد التلقي والتقليد : فهو ينتظر منهم اثراءه واغناءه

الصفحة 171



الفصل التاسع: نشأة الطرائق الجديدة



البدايات

ان الطرائق التربوية وان كان يمكن تعريفها وتحديدها تبعا لما تتركه في الطفل من نشاط اصيل وبما تؤصله من علاقة ذات خصائص مشتركة بين الافراد الذين تراد تربيتهم وبين المجتمع الذي يؤلفون جزء منه فأنه ما من شي في الحقيقة يمكن ان يكون اقل حداثة من هذه النظم . فجميع كبار النظريين تقريبا في تاريخ التربية قد ادركوا بطريقة او بأخرى كثيرا من جوانب مفاهيمنا الحاضرة. القول بأن محاورات سقراط كانت موجهة الى نشاط الطالب بدلا من سلاسة انقياده شي على جانب من الوضوح كبير . فهو امر واضح كوضوح الحقيقة الذاهبة الى ان ما ابداه كل من رابيليه ومونتين من رد فعل ضد التعليم اللفظي والتأديب القاسي في القرن السادس عشر مما افضى الى الهام في علم النفس دقيق : ومن ذلك الدور الحقيقي للاهتمام والملاحظة للطبيعة ، وضرورة المباداة بالحياة العملية ، والتمييز بين الاستيعاب الشخصي والذاكرة.

(ومن ذلك جاء القول: الحفظ غيبا معناه انك لا تعرف شيئًا)

وكما اوضح كلاباريد في مقالته المنشورة في مجلة المتافيزيقيا الاخلاقية مارس ، مايو1912) فأن هذه الملاحظات ، بل وحتى تلك التي اوردها فينيلو ، ولوك ، وساهما ، لا تعدوكونها شذرات ، واننا نجد في كتابات روسو ، من الجهة الاخرى ، مفهوما تاما قيمته تبعث على الدهشة في يومنا هذا وذلك لأنه لم يرتكز الى اية تجربة علمية ، وان محتواه الفلسفي قد حال حتى الان دون تقييمه تقييما موضوعيا.

ونظرا الى اعتقاده العميق بصلاح الطبيعة وانحراف المجتمع ، توصل روسو ، بأتباعه هذا المسلك غير المتوقع الى فكرة هي ان لعمر الطفولة منافعه وفوائده ، لأنه طبيعي وان النمو العقلي تنظمه 

الصفحة 175


قوانين ثابتة . وفي هذه الحالة ، يلزم التربية ان تفيد من هذه المكنية بدلا من الحيلولة دون تقدمها . ومن هذه المثابة انطلق الى تطوير نية تربوية تتسم بالسعة والشمول ، ولذا فأن المرء هنا يقف امام احد امرين من نظرية روسو ، فأما ان يستبق النظر الى طرائق تربوية جديدة ، واما ان يحسبها مجرد خيال ؛ وهذا يكون على هذه الصورة حسب ما يتخذه الفرد من فلسفة روسو ، اذ اما ان يعاملها بالاغفال والاهمال ، من حيث اولوياتها ونظرتها الى الحياة ، كما تمناه لها روسو نفسه وكما ارادها ان ترتبط بنظرياته الاجتماعية.

والواقع ، انه ليتعذر على المرء عندما يقرأ اميل ان يتوصل الى تجريد كامل لميتافيزيقية روسو : ومن هنا جاءت فكرة روسو عن الطبيعة واعتبارها البداية . لكن هذه الملاحظة بحد ذاتها تدعونا مباشرة الى ان ندرك بأن حقيقة حداثة طرائقنا التربوية في القرن العشرين هذا بوصفها تختلف تماما عن نظم النظريين الكلاسيكيين . ولكن في الحقيقة ان روسو الذي رأى ان (لكل عمر قوته الدافعة) ، وان (للطفل طرائقه الخاصة به في الملاحظة وفي التفكير وفي الاحساس) ، وانه قد اتاح من البراهين الوافية ما يكفي للتدليل على انه من العسير تعلم اي شيء من اكتساب القابلية لاتقانه والهيمنة عليه وان الطالب يجب ان يجدد الابداع في العلم بدلا من تكرار معادلاته وصيفه تكرارا لفظيا ، بل انه هو الذي اسدى النصحية التالية التي ستشفع بالصفح عنه ، اذ ذكر قوله : (ابدأ بدراسة لابك اولا ، فمن المؤكد انك لا تعرفهم قبلا قط) . لكن هذا الالهام المضطرد بشأن واقع النمو العقلي لا يزال مجرد اعتقاد اجتماعي ، او انه واقع لا يعدو كونه سلاحا فتاكا ، ولو تأتي له شخصيا ان يدرس قوانين عملية النضج النفسي الذي كان يدعو اليه بأستمرار لما فصل بين تطور الفرد وبين البيئة الاجتماعية . ولا شك في ان الافكار الخاصة بالاهمية الوظيفية للطفولة ، وبمراحل التطور الصحيحة المصاغة مسبقا و انما هو يقترب من ذلك بواسطة ما يحققه منها بجهوده الخاصة و بخبرته الشخصية و بالمقابل فإن المجتمع يتوقع من أجياله الصاعدة اكثر من مجرد التلقي و التقليد فهو ينتظر منه اثراءه و اغناءه

 العقلي والخلقي عند الطفل ، وبالاهتمام الحقيقي وبالنشاط ، هذه كلها متوفرة في كتابه (اميل) ، لكنها افكار لم تتح الهاما (للطرائق الجديدة) حتى تم استكشافها وارتيادها على مستوى الملاحظة والتجربة الموضوعية من جانب مؤلفين ينصب جل اهتمامهم على معرفة الحقيقة اللاحبة الخالصة والاجراءات المنسقة.

الصفحة 176


ومن بين من اكملوا رحلة روسو في أعمالهم ، هناك في الاقل اثنان اذ افلحا في ادراك افكاره في مجال التعليم العملي وبهذا الاعتبار فهما يعتبران الممهدين الحقيقيين لنشأة الطرائق الجديدة.

والمعنيان هنا هما بستالوتزي (1827-1746) من اتباع روسو وفروبيل (1852-1782) من اتباع بستالوتزي . يعجب الزائرون لمعهد (دي فيردو) بالنشاط التلقائي الذي يبديه الطلاب فيه ، وبسجاياه المدرسية ، وبالروح التجريبية السائدة في رحابه ، حيث تعد الملاحظات المفصلة متضمنة ما احرزه وما يحرزه الطلاب من تقدم وما يبلغونه من تطور نفسي وما تحقق من نجاح او اخفاق في الطرائق التربوية المطبقة فيه . ولحسن الحظ فأن بستالوتزي قد صحح لروسو نقطة مهمة منذ البداءة . والنقطة التي استدركها ستالوتزي هي : ان المدرسة مجتمع حقيقي لذا فأن احساس الطفل بمسئولياته فيها وقواعد التعاون تكفي بذاتها لتتيح تدريبا اخلاقيا ، وعلى هذا فلا ضرورة الى فرض القيود عليه او محاولة الاصلاح لما يبدو منه ، والابتعاد عن عزله ضمن حدود ذاته وتقييد حريته في الحركة واللعب . اضف الى هذا فأن للعامل الاجتماعي تأثيره البارز في مجال التربية العقلية وفي ميدان التنشئة الخلقية:

فبستالوتزي ؛ شأنه في هذا شأن بيل ولا نكستر ، قد نظم نوعا من النظام التعليمي التعاوني المشترك بحيث يتاح للاطفال فيه مساعدة بعضهم بعضا في بحوثهم.لكن طرائق بستالوتزي وان كانت مهمة على هذه الشاكلة ، وهي

الصفحة 177

 سابقة للزمن لما تنطوي عليه من روح التعليم المدرسي الفعال ، فأن هذا يجعل الفوارق بين تفصيلات مفاهيمه وبين الطرائق الحديثة في التربية الجديدة اكثر تباينا . ان ما كان ينقص  مذهب روسو مذهب روسو (ROUSSEAUISM)ليكون مؤهلا للنجاح وليكون علما تربويا ، هو افتقاره الى علم نفس التطور العقلي . حقا ان روسو قد اكد تكرارا بأن الطفل يختلف تمام الاختلاف عن الشخص الكبير وان لكل عمر خصائصه ، وكان ايمانه بثابت قوانين النمو النفسي عميقا الى حد دفع به الى صياغة معادلته القائلة بالتربية السلبية ، او عدم الجدوى من تدخل المعلم ، ولكن ما اذا كانت تعني عند روسو خصائص الطفولة وقوانين النمو هذه . فهو وان قام بملاحظات تتسم بالدقة تتعلق بفائدة التمرينات والتبطبيق العملي والتجارب الاستكشافية ، وما اثبته من فوارق واختلافات بين تلك الحالات وبين حالة الرشد تعتبر سلبية من اساسها : اذ ان الطفل لا يعرف شيئا عن العقل بمفهوم الكبار ولا يدرك معنى للواجب .. الخ . والنتيجة هي ان ما ذكره من مراحل خاصة بالتطور العقلي انما تثبت على نحو لا يخلو من اعتباطية ، تواريخ تظهر فيها الوظائف الاساسية او الظواهر المهمة للحياة العقلية : اذ ذكر مثلا في العمر المعين تظهر الضرورة ، وفي العمر المحدد بمرحلة محددة يظهر الاهتمام ! وفي العمر المعين بمرحلة معينة يظهر العقل.

وبعبارة اخرى ، فأننا لا نجد اثرا يوضح لنا بدايات الذكاء او الشعور ، وكيف ان الوظائف النوعية تنتقل من مرحلة الى اخرى ابان عمليات تطورها الديناميكي المستمر وكنتيجة لذلك وبعد ان لمح بذور التكوين العقلي والاخلاقي عند الاطفال منذ نعومة اظافرهم نجد بستالوتزي قد انكفأ فعاد الى ما كان ساريا في عصره من افكار تذهب الى ان الطفل يحمل في تكوينه مقومات الانسان الكبير ، وعاد الى الاعتقاد القائل بأن العقل نام مقدما . وهذا هو ما حدا بالمدرسة 

الصفحة178

الفعالة المترسمة خطى بستالويزي الى ان تحتفظ بخصائص عفى عليها الزمن . فكان بستالوتزي فكان بستالوتزي متشربا ، مثلا بروح ما تمليه الضرورة في العمل والتدرج في هذا من البسيط الى المعقد في جميع فروع التعليم ، ولكننا ندرك اليوم كم مبلغ البساطة النسبية اقرب الى عقليات بعض الكبار ، وكيف ان الطفل يرى الحياة اول ما يراها ككل غير متمايز . فيمكن القول اجمالا ، بأن افكار بستالوتزي كانت مصطبغة بصبغة الشكلية المنسقة ، التي تبدت واضحة فيما اعده من جداول ، وفي تصنيفه لما يدرس من مواد ، وفي تأكيده على التمارين الجمناستيكية الخاصة بتقوية العقل ، وفي حماسه للتطبيقات . ان افراطه في هذا الاتجاه يوضح كيف انه لم يلتفت كثيرا الى مسألة النمو العقلي.

وبالنسبة الى فروبيل (1852- (1782فأن الفرق بين فكرة النشاط وفكرة تحقيقه تكاد تكون اعظم . فهناك من جهة المثل الاعلى الذي نادى به روسو وهو التلقائية التي تزدهر في ربوع الحرية للطفل ، محاطا بالاشياء ، لا الكتب ويقوم بالنشاط وبالمعالجة اليدوية والجسمية ، لما يحيط به ، وفوق هذا كله يحيا في جو ريق مادي" دونما قيود او بذاذة ، ولكن لا نجد من الجهة الاخرى ، اي اثر لفكرة ايجابية تتصل بالنمو العقلي نفسه . وان فروبيل وان كان قد فهم بصورة الهامية الاهمية الوظيفية للعب ، وخاصة ما يتصل منه بالتمارين الحسحركية ، فأنه كان يعتقد بوجود مرحلة حسية خاصة بتطور كل فرد : فظنه كان وكأن الادراك الحسي لم يكن عملية معقدة ونتيجة للذكاء العملي ، وكأن تربيته الحواس لا تتطلب ان تكون مقترنة ومرتبطة بتنشيط الذكاء بكامله من جميع جوانبه.

والاسوأ من هذا كله ، فأن ما اعده فروبيل من وسائل - سلسلة التمارين السبعة المعروفة وان كانت هذه تمثل تقدما واضحا باتجاه النشاط ، فأنها ايضا قد شوهت منذ البداية فكرة النشاط وذلك

الصفحة179

 بأعاقتها تربية الابداع الاصيل وانها قد احدت محل البحث الحسي الملموس المقترن بحاجات الطفل في حياته اليومية ، نوعا من العمل اليدوي الرتيب.

والصورة بوجه عام ، هي الاتية : وان كان النموذج الامثل لنشاط واصول الطرائق الجديدة في التربية بوجه عام يمكن استبانتها دونما صعوبة في كتابات المنظرين التربويين الكبار الكلاسيكيين فهم مع هذا يختلفون عنا بفارق اساسي محدد . اذ انهم رغم ما كانوا عليه من نظرة ملهمة بصدد التعرف على طبيعة الطفولة ، فهم قد اخفقوا في ايجاد ما هو ضروري من علم النفس اللازم لاعداد الاساليب التربوية الضرورية حقا لتكييف قوانين النمو العقلي . اذ ان الطرائق الجديدة لم تجد كيانا لها عن طريق التعاون مع علم النفس الحقيقي الخاص بالطفل ، او بالتضافر مع علم النفس وعلم الاجتماع ، ومن تاريخ تأسيس هذا العلم يجب ان تؤرخ وجود هذه الطرائق بلا ريب.

الصفحة 180 

بيد ان هناك تحفظا اخر تقتضيه الضرورة وهو انه كانت ثمة عدة نظم بيداجوجية خلال القرن التاسع عشر مبنية على علم النفس لكنها مع ذلك لم تندرج تحت مظلة ما يسمى اليوم ب (الطرائق الجديدة) . ولا حاجة الى التطرق الى كثير من التفصيلات هنا ولا ضرورة تدعو الى مناقشة اراء سبنسر خاصة ، غير انه لا معدى عن الاشارة الى بعض افكار هيربارت . اذ ان مناقشة ارائه توضح ما سهمت به في مجال علم نفس الطفل الى علم التربية. لا مماراة في انه للمرة الاولى في تاريخ الافكار التربوية ، حاول هيربارت (1841-1776) بطريقة واضحة وصريحة تكييف الاساليب التربوية الى قوانين علم النفس وكل فرد تقريبا على علم بالحكم الحصيفة التي مررها لاجيال من المعلمين وبالنظام المنسق الخاص بالصيغ والمعادلات العملية التي قننها وجعلها لحسن الحظ في متناول العقول المقيدة . فالحياة النفسية بالنسبة اليه تتكون من نوع من المكنية التطبيقية تستبعد الذكاء بوصفه نشاطا ، وانه يستمد طاقته في المآل من معين الدافع النفسي فيسير بأتجاه حفظ الذات ، اذا كان الامر على هذه الصورة فأن المشكلة التي تبرز في التربية هي ان يعرف المرء كيف يعرض مادة موضوعه بحيث يسهل تمثلها واستبقاؤها محفوظة في الذهن : ان عملية الادراك العميق الواضح ، الذي يجعل من الممكن نقل المجهول الى المعلوم ، يقدم مفتاحا لهذا النظام . فهربارت وان كان يؤكد على ضرورة الاهتمام بالفترات المختلفة في تطور الطلاب وبذاتهم او فرديتهم او اهتماماتهم - وهو العنصر الحاسم في طرائقنا الحاضرة فهو انما بفعل ذلك فقط بقدر علاقته بمكنيات التطبيق : فعنده ان الاهتمام يأتي نتيجة للادراك العميق الواضح ، وان مختلف فترات الاعمار والانماط الفردية انما تؤلف امتداداته المختلفة.

ولكن هل استطاع هيربارت ان ينقل التعليم خطوات وان يحوله 

 الصفحة 181

عما كان مألوفا كلا : فليس هناك في مدارس منتسوري وديكرولي ، ما يمكن مقارنته بما يسمح بالقول بأنها مدارس تعتبر امتداد مباشرا لمدارس هيربارت نفسها . ولم لا ؟ لأن ما جاء به من علم نفس يعتبر اساسا مبدأ ثابتا بينهم عما يكون عليه العقل من تلق ومن قدرة على المحافظة . فهربارت لم يستطع توطيد نظرية خاصة بالنشاط عن طريق التوفيق بين وجهة النظر البيولوجية في التطور وبين تحليل عملية التكوين المستمر وهو الذكاء.

الطرائق الجديدة وعلم النفس:

نحن اذن الان في موقف يسمح لنا بأن نحدد ونفسر ظهور الطرائق الجديدة في التربية . فهي ممثلة العهد المعاصر . القول بأن التعليم يجب تكييفه ليلائم الطفل شيء حض عليه كل فرد بأستمرار . والقول بأن الطفل مزود بنشاط متأصل فيه ولا يمكن لتربية ان تنجح الا اذا رعت هذا النشاط ووسعته ومدت فيه ، فأمر ايضا كل امري يردده منذ ايام روسو وما برح ، والواقع ، ان تلك المعادلة كان يمكن ان تجعل منه كوبر نيكس العلوم التربوية لو انه وضح بالدقة ما كان يعنيه بطبيعة نشاط الطفولة . ولكن مسألة اتاحة تفسير ايجابي للتطور العقلي والنشاط النفسي مهمة قد استبقيت لعلم النفس في هذا القرن وما تمخض عنه هذا العلم من علوم تربوية.

فليغرب سوء الفهم ، على اية حال . اذ ان علم التربية الحديث لم نشأ من علم نفس الطفل كما نشأ ما حصل في الاساليب الصناعية من تقدم وتطور خطوة خطوة ، من اكتشافات العلوم نفسها . بل هي الروح العامة الناجمة عما حصل في مجال البحث النفسي ، وماجد في الغالب من طرائق استخدمت في الملاحظة ، هي التي نشأت علم التربية ، وذلك عن طريق مرور تلك العلوم من مرحلة مجال العلم

الصفحة 182

 الخالص البحت الى مجال التجريب المدرسي . فديوي ، وكلاباريد ، وديكرولي ، وان كان هؤلاء جميعا مؤسسي ومبدعي طرائق واساليب تربوية دقيقة ، فأنهم اعلام بارزين في ميدان علم النفس ، وان مدام نتسوري ، وهي طبيبة ، قد قصرت جهودها على الدراسات الانثروبولوجية والطبية والنفسية الخطيرة الخاصة بالاطفال غير الاسوياء ، فهي لم تلتزم بأكثر من المبادرة في علم النفس التجريبي.

وكذلك الحال بالنسبة الى (كيرشنشتاينر) ، فهو لم يدخل باحة علم النفس الا بعد ان كان مستقبله متألقا في الآفاق . ولكن مهما كانت الصلة في حال كل من اولئك المجددين الاعلام ، بين علم نفس الطفل وبين افكارهم الرئيسية في مجال التربية ، فما لا شك فيه قط هو ان الحركة الكبرى في علم النفس الوراثي الحديث هي منبع الطرائق الحديثة.

وان علم النفس المعاصر يتميز ، في الحقيقة ، عن علم النفس في القرن التاسع عشر بتغير جذري في وجهة النظر . فهذا الاخير بتأكيده على وظائف التلقي والبقاء والمحافظة على ما هو سائد ، انما هو قد حاول تفسير الحياة العقلية ككل بواسطة عناصر ثابتة جامدة في اساسها . ففي شكله الوضعي وفي محاولاته الرامية الى صياغات علمية كان آلي المرمى والاتجاه : اذان الارتباطية بجميع جوانبها ، وبخاصة من الناحية التطورية النشؤية والوراثية ، قد حاولت ارجاع النشاط العقلي الى مجرد مجموعات من الذرات النفسية الخابية الهامدة ، (الاحساسات والصور) وحاولت ان تجد نموذجا للعمليات العقلية في اشكال سلبية ، الارتباطات (العادات والترابطات) . ففي صيغته الفلسفية فأنه نذر ان اتى بما هو افضل ، واقتصر في ذاته على مفهوم الملكات (Faculties) ليعوض عما يفتقر اليه من تبريرات خبرية . وانه فقط (مين دي بيران) يقف هنا وحده في الميدان ويستحق الثناء ، لكن افتقاره الى النجاح ، ونظرا

الصفحة183 

 الى انه فقط اليوم تم اكتشافه ، الامر مما يؤكد فآلة التقييم بوجه عام.

اما علم النفس في القرن العشرين هذا ، فأنه من الجهة الاخرى ، قد اكد منذ البداية ، وفي جميع جوانبه ، النشاط وانطلق في تحليله . اذ كان هناك وليم جميس ، وديوي وبولدوين ، في الولايات المتحدة ، وبيرجسون وبنيه ، وجانيه ، في فرنسا ، ثم فلورنوي ، وكلاباريد ، في سويسرا ، ومدرسة فيرزبيرج في المانيا:

لدى هؤلاء جميعا وفي كل مكان نجد الفكرة القائلة ان العقل حقيقة دينامية ، وان الذكاء نشاط حقيقي وبناء ، وان الارادة والشخصية ضربا من ضروب الابداع المستطرد غير المنقطع . وبعبارة اخرى اننا لنجد في مجال، الملاحظة العلمية وفي ميدان الخبرة ، جهودا تضافرت تطير طرائق نوعية وكمية تستهدف تحقيق رؤية اكثر دقة لتلك العمليات الواضحة الرامية الى غايات بنيوية هي في الواقع تمثل التطور الحقيقي للعقل.

كيف نشأت الطرائق الجديدة:

في هذا الجو العلمي قد ولدت الطرائق الجديدة في التربية فهي لم تكن من عمل باحث واحد ولم تكن من جهد بعض التربويين ممن افلحوا في استخلاصها عن طريق الاستقراء الخالص على صورة نظرية نفسية - تربوية كلية تتناول وتطور الطفل من زاوية بحث معينة فهي قد اصبحت ضرورة لا معدى عنها من نواح متعددة في آن واحد.

ولقد حصل هذا نظرا الى ما طرأ من تغير عام في الافكار المتصلة بشخصية الانسان ، فهي قد اضطرت اؤلئك الذين يتمتعون برحابة الافاق الذهنية الى ان ينظروا الى الطفولة نظرة مختلفة : فلم يعد ثمة ميدان للاراء المكتسبة مسبقا القائمة على اساس الصلاح

الصفحة 184 

الطبيعي للإنسان ولا مجال هناك لفكرة براءة الطبيعة، وانما جدت مناك افكار جديدة وقيض الزمان لأول مرة في تاريخ العلم ، اناسا يتصفون بالتفتح الذهني ، فجاؤا بأراء اتاحت مسألة تطور الشعور، وبخاصة ، تطور النفس الطفلية . حينذاك فقط حلم كبار المجددين في التربية بإدخال النشاط الحقيقي الى رحاب المدرسة، واتاحة فرص الكشف عن، وتثمير ما لدى طلابهم من طاقات وفقا لما لديهم من عمليات داخلية ذاتية تتعلق بنموهم النفسي ، فأصبح النشاط المدرسي هذا مفهوما ملموسا واضحي واقعا قابلا للتحليل الموضوعي : وبهذا فقد تكونت الطرائق الجديدة متزامنة مع علم نفس الطفل واستطرت مقترنة بتقدم العلم . وهذا ما أيسر تطبيق والبرهنة عليه.

ولقد اتضحت ردة الفعل في الولايات المتحدة ضد الطبيعة الجامدة لعلم نفس القرن التاسع عشر في ناحيتين. فهناك من ناحية بحوث الذرائعيين (PRAGMATISTS) التي كشفت عن دور النشاط في تكوين العمليات العقلية، وبخاصة في تكوين الفكر، وثمة من جهة اخرى علم التطور العقلي ، او علم النفس الوراثي ، اذ هو قدم تقدم كثيرا وقد حصلت هذه الزيادة بتأثير من كتابات ستانلي هول و . ج . م بولدين . وقد التقى هذان الاتجاهان في اعمال جون ديوي الذي كان قد انشأ عام ١٨٩٦ مدرسة تجريبية تركز نشاط؟ الطلاب فيها حول الاهتمامات او الحاجات الخاصة بكل مجموعة من مجموعات الاعمار.

وقد حصل مثل هذا التطور ، في الوقت نفسه ، في ايطاليا ، وقد تأثر التطور هذا نتيجة لا لأبحاث المتخصص بالأنثروبولوجيا جوزيف سيرجي وقد حاول ان يحدث في علم التربية ثورة مستحدثة من خلال دراسته للطفل نفسه ، وكذلك جاء التطور في ذلك البلد نتيجة لما قدمته ماريا منتسوري ان هي تولت مهمة تعليم الاطفال 

الصفحة 185

المتخلفين، وقد كرست جهودها لتحليل هؤلاء الطلاب الشواذ وكما اتضح لديها بأن اولئك الضحايا الابرياء كانوا يعانون من مشكلات نفسية اكثر مما كانوا يعانون من مشكلات طبيعة، وقد وجدت فسها في ذات الوقت اعوص المسائل المركزية الخاصة بالنمو العقلي وبتربية الوضع . وبتعميم ما توصلت اليه من اكتشافات بشكل لا يباري، فأن مدام منتسوري قد طبقت مباشرة على الاطفال الاسوياء ما كانت قد تعلمت من دراستها للأطفال المتخلفين:

فالطفل ابان ابكر مراحل نموه يتعلم عن طريق النشاط اكثر مما يتعلمه عن طريق الفكر، وان تجهيز المدرسة بأدوات واجهزة تتيح لهذا النشاط اكثر مما يتعلمه عن طريق الفكر ،! وان تجهيز المدرسة بأدوات واجهزة تتيح لهذا النشاط المادة الخام ، يؤدي الى اكتساب المعرفة على نحو اسرع مما تؤديه اجود الكتب بل وحتى اللغة فسها . لذا فأن الملاحظات المتسمة بالمهارة يقوم بها مساعد تخصص بالطب النفسي مستطلعا طريقة المكنيات العقلية عند الاطفال المتخلفين كانت نقطة الانطلاق نحو طريقة عامة ترددت اصداؤها خلال العالم بأسره واوضحت فوائده لا تحصى . وكذلك الامر في بروكسل ، كان هناك طبيب على معرفة بعلم النفس ، وكان يجري دراسة على الاطفال الشوا؟ وكان ايضا يبني طرائق تربوية على ما توصل اليه من نتائج . اذ ان ديكرولي ، مثلا ، من خلال التحليل النفسي للمتخلفين كان قد استخلص طريقته الكلية المعروفة الخاصة بتعلم القراءة ، والحساب ، وغيرهما ، ومن ذلك التحليل استنبط كذلك نظريته العامة المتعلقة بمراكز الاهتمام وبالعمل الفعال . ولا شيء يمكن ان يكون رائعا اكثر من تزامن وتشابه اكتشافات ديوي ، ومنتسوري ، وديكرولي . فعملهم هذا يظهر كيف ان الافكار المبنية على الاهتمام، وعلى النشاط المؤدي الى تدريب العقل ، كانت موجودة ولكنها كامنة ، ولم يتبنيها علم النفس خلال

الصفحة 186

 القرن التاسع عشر كله (وخاصة في علم النفس البيولوجي)..

وكانت الاشياء في مواطن واماكن اخرى اشد تعقيدا على انها لم تكن اقل وضوحا مما تركته الافكار النفسية من تأثير . ففي الاقطار الناطقة بالألمانية نجد المدرسة الفعالة قد تأثلت بيسر وسهولة في مجموعة من معاهد الاعداد المهني كانت ترمي الى تعويد وتدريب عقول الطلاب فيها استخدام العمل اليدوي الى جانب البحث العملي كوسيلتين لازمتين تفضيان الى التعليم النظري . ولكن كيف كان يتم الانتقال من تلك المرحلة التي لا صلة مباشرة لها بالمدرسة الناشطة الى المرحلة الحاسمة التي يصبح النشاط الحر خلالها البؤرة المركزية في التربية ، فمن الواضح ان العمل اليدوي لا ينطوي في ذاته على نشاط ما لم يحركه بحث تلقائي يصدر عن الطلاب انفسهم بدلا من ان يكون ناجما عن توجيهات من المعلم ، وان النشاط - معناه الذي يراد به الجهد القائم على الاهتمام الشخصي - يمكن كذلك ان يكون عملا انعكاسيا ومجرد حركات لا ارادية ، حتى عند الرضع كما يمكن ان يكون عمليا يدويا . ولذا فأن ممارسة العمل اليدوي في المدارس الالمانية لعله قد سهل اكتشاف الطرائق الفعالة ولكن ما ابعده عن تفسير هذا الاكتشاف.

ان الانتقال المشار اليه آنفا المرتبط باسم (كرشنشتاينر) الذي كان باحثا علميا ناشئا في عام 1895، فكرس جهده الى دراسة النظرية التربوية استعدادا لمهمة التعرف على طبيعة المدارس الموجودة في ميونخ ، وبانتفاعه مما انجز في مجالات علم النفس الالماني وبخاصة علم نفس الطفل (وهو نفسه قد نشر عام ١٩٠٦ نتائج بحوث جمة كان قد اجراها تتعلق برسوم الاف الاطفال في مدارس بافاريا) ، فقد توصل الى فكرته الأساسية : ان هدف المدرسة يجب ان يتركز على تنمية وتطوير تلقائية المتعلم . وهذه هي فكرة المدرسة الفعالة . يضاف الى هذا ، فما على المرء الا ان يقرأ ما كتب

الصفحة 187

 ميومان ولا في ، وميسمر ، ليقتنع بأن الطرائق الجديدة ، سواء في المانيا او في اي مكان اخر انما نشأت بارتباطها الوثيق بعلم النفس ، فالبحث في تطور الطفل والدراسات الخاصة بالإرادة والفكر بوصفهما نشاطات ،! وتحليلات الادراك الحسي - هذه كافة توفر عليها واستخدامها المجددون الالمان على انه في سويسرا كانت نظرية كارل جروس. القائلة ان اللعب ممارسة تحضيرية واعداد للحياة، واذن فأن له اهمية وظيفية - قد لبقت اول مرة تطبيقا تربويا. وانه الى كلاباريد ، الذي انتفض في اعماله المبكرة ضد الارتباطية وفي دفاعه عن وجهة النظر الدينامية والوظيفية ، اننا لمدينون بالعرفان في فهمنا اهمية نظرية جروس لتربية . وان هذا الادراك هو الذي ادى الى الطرائق التعليمية والالعاب التربوية المطبقة في ميسور في جنيف ، وان الامر ليعزى ايضا الى الحركة التربوية التي الهب جذوئها وقادها - قبل تأسيس معهد روسو وبعده - وهي ترمي الى دراسة الطفولة والاساليب التربوية وذلك بصورة متوافقة.

وانه لمن غير الممكن انهاء هذا الملخص دون ان نذكر الاهمية الكبرى التي نسبت في مستهل اعوام هذا القرن الى عمل يعتبر من اجل الاعمال الاصيلة ابتدعها احد مشاهير علم نفس الطفل، ذلك هو الفريد بنيه . فهو وان لم يبدأ اية حركة محلية او نموذجية فر فرنسا - ولعل الامر يعزى الى انه لم يستشعر الرغبة الذاتية في التدريس - فأن بحوثه قد ترددت اصداؤها في كل مكان، سواء بشكل مباشر ام غير مباشر. وبخاصة فأن انجازه العملي الخاص بتصميم اختبارات الذكاء قد ادى الى عدد كبير من مشروعات بحوث تتضمن اساليب قياس النمو العقلي والاستعداد الفردية الذاتية.

فالاختبارات التي صممها، وان تهي" جميع النتائج المرجوة منها، فأن ما اثارته من مسائل ومن مشكلات تعتبر اكثر اهمية مما كانت عليه

الصفحة 188

 عندما تبدت للباحثين اول امرها: هذا يؤول بنا الى انه اما نوجد في يوم ما اختبارات صالحة واما ان تدخل اختبارات الذكاء الحالية التاريخ كمثال يدل على خطأ مثمر . والى جانب هذه الاختبارات، فأن بينيه قد اسدى ايضا الى التربية الجديدة خدمات جمة عن طريق نظريته في الذكاء وبكتابة الموسوم: افكار حديثة عن الاطفال.

الصفحة 189



الفصل العاشر:  

التربية تعني تكييف الفرد الى البيئة الاجتماعية المحيطة به وان الطرائق الجديدة تتوخى تشجيع هذا التكيف عن طريق استخدام ما هو كامن في الطفولة نفسها من دوافع ترتبط بنشاط لقائي لا ينفصم عن التطور العقلي . على انها (الطرائق) تنهض بهذا الواجب انطلاقا من فكرة ان المجتمع نفسه سينتفع ويغني.

فالتربية الجديدة اذن لا يمكن فهمها مع طرائقها وتطبيقاتها مالم يهتم المرء بتحليل اصولها بشي من التفصيل ويدقق قيمتها النفسية في اربعة اتجاهات في الاقل: اهمية الطفولة ، تكوين عقل الطفل ، قوانين التطور والنمو ، ومكنية الحياة الاجتماعية عند الطفل.

ان المدرسة التقليدية تركز نشاطها على الطالب: اي (تجعله عمل) . وما من شك في ان الطفل حر في ان يبذل شيئا كثيرا او قليلا من الاهتمام والجهد في ذلك العمل وبقدر ما يكون المعلم جيدا فأن ما ينشأ من تعاون بينه وبين طلابه سيترك اثرا محمودا تبدو مظاهره على ما يبذل من نشاط اصيل. لكن في منطق هذا الضرب من النظام فأن ما يبذله الطالب من نشاط عقلي واخلاقي يبقى هنا غير متوائم لأنه لا ينفصل عما يمليه المعلم على الطالب من ضغط متواصل، حتى وان لم يكن ذلك الضغط ملحوظا لدى الطالب بل حتى اذا تقبله بمحض ارادته. اما المدرسة الجديدة، فعلى العكس من ذلك، فهي تتوجه الى النشاط الحقيقي، والى العمل التلقائي القائم على الحاجة الشخصية والاهتمام. وهذا لا يعني كما أوجز كلاباريد ذلك بدقة. ان التربية الفعالة تدع الاطفال يفعلون ما يشاؤون، (فهي تتطلب منهم ارادة. فيما يعملون وعليهم ان يعملوا بتوجيه من ارادتهم، فلا يملى العمل عليهم املاء) فالحاجة اذن، والاهتمام هما وليدا الحاجة ونتيجة لها، (وذلك هو العامل الذي يجعل الاستجابة نشاطا ماثلا) فقانون الاهتمام اذن هو (المحور الوحيد الذي ينبغي ان يدور حول النظام بأمله) 

الصفحة 193

ان هذا المفهوم ينطوي على اية حال ، على فكرة دقيقة عن اهمية الطفولة وفعالياتها واذا ما رددنا مع ديوي وكلاباريد بأن العمل الاجباري مناهض للنزعة النفسية وان كل نشاط متميز يقتضي اهتماما يعني المخاطرة بأظهار ان ما ندعو اليه هو مجرد اعادة في تأكيد الطفل ما كان قد اعاده لتثبيت ما كان قد اكده المربون الكبار، ومن الجهة الاخرى فالقول بأن الطفل محبو بأمكانية الاستمرار في العمل عن طواعية ذاتية فأن المرء هنا يفترض بما هو مطالب بالبرهنة عليه . فهل الطفولة قادرة على هذه النشاط، الذي يعتبر من اعلى خصائص سلوك الشخص الكبير. وهو سلوك يتمثل في لبحث المتسم بالمواظبة المستمرة النابعة من الحاجة التلقائية، تلك هي المركزية في التربية الجديدة.

ثمة ملاحظة حاسمة اجراها كلاباريد يمكن ان تلقي شيئا من الضوء على مناقشة هذه النقطة. فأذ ما ميزنا بين تكوين العقل والعمليات النفسية من جهة ، وبين وظيفتها من جهة اخرى فيمكن القول اذن ان البيداغوجيا التقليدية قد نسبت الى الطفل تكوينا عقليا مماثلا للتكوين العقلي عند الكبير ، ولكن مع اختلاف في النمط الوظيفي : (اذ هي حبذت ان تعتقد بأن الطفل .. يستطيع مثلا ان فهم اي شي يمكن ان يتضح منطقيا، وانه بمقدوره ان يفهم المغزى العميق لبعض قواعد الاخلاق المعينة! وهي اعتبرت الطفل، في الوقت ذاته، يختلف وظيفيا عن الكبير، بمعنى انه في الوقت الذي المعرفة جفافا، وأنه يمكن ان يؤدي مطالب اي عمل يطلب منه، ولا لشي الا لأن المدرسة تتطلب منه ذلك، ولكن بدون ان يلبي ذلك العمل اية حاجة نابعة من ذات الطفل نفسه ومن غير ان يستجيب لصميم حياة الطفل الداخلية (الواقع ان العكس هو الصحيح. اذ ان البنى العقلية والخلقية  

الصفحة 194

عند الطفل ليست كما هي عندنا نحن الكبار، وبالتالي فأن الطرائق الجديدة في التربية تبذل قصاراها لتعرض مادة الموضوع المنوي تدريسه في صور وصيغ يسيغها الاطفال من مختلف الأعمار على نحو بتمشي وما هم عليه من تكوين عقلي وحسب مراحل تطورهم المختلفة. ولبكن من ناحية الوظيفة العقلية، فأن الطفل في الواقع مثيل بالكبير، فهو كالراشد، اذ انه كائن فعال وناشط، وكون نشاطه مقيدا بقانون الاهتمام او الحاجة، فأنه ليس بمقدوره العمل بحرية تامة مالم تتنبه لديه قوى الدوافع المستقلة الحركة لذلك النشاط.

ومثله في هذا مثل الدعموص اذ انه يتنفس، ولكن بأعضاء تنفس تختلف عن اعضاء الضفدع الكبير، فكذلك الحال بالنسبة الى الطفل اذ هو ينشط ويعمل كالبكير، غير انه يستخدم عقليته يتفاوت تركيبها وتكوينها تبعا لمراحل النمو. فما الطفولة اذن. وكيف يجب ان نكيف اساليبنا التربوية الى كائنات هي منذ البدء تشبهنا ومع ذلك فهي تختلف عنا. فالطفولة بالنسبة الى منظري المدرسة الجديدة ليست بالضرورة شر: فهي مرحلة نافعة بيولوجيا اهميتها تتجلى في تكيفها المضطرد الى البيئة الطبيعية والاجتماعية. أضف الى ذلك، فأن التكيف حالة من التوازن - توازن يحتل تحقيقه جميع فترات الطفولة والمراهقة ويحدد بنى تلك الفترات الخاصة بالكينونة - فهو توازن بين مكنيتين متلازمتين هما التمثل والتوافق. فنقول مثلا، فإن الكائن العضوي متكيف على نحو جيد عندما يحافظ بصورة متزامنة على بنيته وتكوينه عن طريق تمثل ما يستمده من البيئة الخارجية من غذاء وانه يوافق تلك البنية الى مختلف متطلبات تلك البيئة: فالتكيف البيولوجي اذن حالة من التوازن بين تمثل البيئة للكائن الحي وتوافق الكائن الحي مع البيئة. وبالمثل كذلك يمكن القول بأن الفكر متكيف تكيفا جيدا الى واقع معين حينما ينجح في تمثل ذلك الواقع ضمن اطاره في الوقت 

الصفحة 195

الذي يوافق ذلك الإطار الظروف الجديدة كما يعرضها الواقع. لذا فأن التكيف العقلي عملية تحقيق حالة من التوازن بين تمثل الخبرة وتحويلها الى بنيات استقرائية وتوفيق تلك البنيات الى حقائق الخبرة. فالتكيف عامة يقتضي التفاعل بين الفرد والشي، بين الذات والموضوع، بحيث يتشرب الاول الثاني فيتمثله في ذاته مكتسبا في الوقت نفسه خصائصه، وكلما كان التمثل والتوافق اكثر تمايزا او اكثر تكاملا ، كان التكيف اكثر اكتمالا.

فخاصية الطفولة هي على وجه الدقة ان تجد حالة التوازن هذه بواسطة سلسلة من الممارسات او بواسطة انماط من السلوك الاصيل، عن طريق نشاط بنيوي مستمر مبتدئا من حالة مهوشه مشوشة غير متمايزة المعالم بين الفرد والشيء. وهذا يعني بالنتيجة فأن الطفل منذ بداية تطوره العقلي يتجاذبه اتجاهان متعارضان لم يتأت لهما بعد ان يتسما بالتناسق والتناغم فهما ما فتئا غير متميزين نسبيا، طالما هما لم يجدا بعد توازنهما بالنسبة الى أحدهما الاخر. فهو اولا مضطر باستمرار الى ان يوافق اعضاءه الحس حركية، او الفكرية، الى الواقع الخارجي الى دقائق الاشياء التي عليه ان يتعلم كل شيء عنها. وان العملية المستمرة هذه من التوافق. والتي تتوسع فتأخذ شكل تقليد عندما تصبح حركات الفرد بصورة كافية قابلة لتطبيق خصائص الشي الموضوعي. تكون الضرورة الاولى لنشاطه. وهناك ثانيا، حالة ثانية ، وهي قلما تم ادراكها ، الا بالنسبة للممارسة والمنظرين من اصحاب المدرسة الجديدة ، وهي لكي يوافق الطفل نشاطه ويكيفه لخصائص الاشياء، فأنه يحتاج الى ان يتمثل تلك الاشياء وان يشربها ويوحدها في ذاته بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من واقع . فليس للأشياء اهمية في مبتدأ المرحلة الاولية من مراحل الحياة العقلية، ما خلا الحالات التي توري فيها جذوة النشاط اياه، وان هذا التمثل 

الصفحة 196

المستمر للعالم الخارجي وتشربه في الذات، وان كان معاكسا لاتجاه التوافق، فأنه متشابك معه على نحو محبوك ابان المراحل المبكرة بحيث يصعب على الطفل ان يتبين حدا فاصلا واضح المعالم بين نشاطه الخاص به وبين الواقع الخارجي، بين الذات والموضوع.

 مهما بدت هذه الاعتبارات نظرية في طبيعتها، فهي اساسية بقدر ما يتعلق الامر بالتعليم. اذ ان التوافق في انقى اشكاله، فما هو بشي اخر سوى اللعب، واللعب الذي هو من أبرز خصائص النشاط الطفلي، قد انتفع من الاساليب الجديدة في التربية لصغار الاطفال، وانه يمكث عصيا على التفسير ما لم يجلو المرء اهمية هذه الوظيفة وتبيان مدى علاقتها بالحياة العقلية عند الطفل وبتكيفه الفكري.

اللعب:

يعتبر اللعب حالة نموذجية لضروب من السلوك اغفلته المدرسة التقليدية حيث يرى أصحاب هذه المدرسة انه خال من المعنى التربوي وهو بالنسبة الى النظرية التربوية الجارية لا يعدو كونه اكثر من نوع من الارتخاء او رد الفعل المتسبب عن فائض في الطاقة المبسطة اكثر مما ينبغي لا تفسر ما ينسبه صغار الاطفال من اهمية الى الالعاب التي يمارسونها، ولا تعبر عما تتخذه ضروب العاب الاطفال من رمزية وخيال مثلا.

توصل كارل جروس، بعد دراسته اللعب عند الحيوانات، الى مفهوم يختلف تماما عن السلوك الذي ينسب الى اللعب بأنه تمارين تحضيرية واعداد للحياة وانه ينفع الكائن الحي في تطوره الجسمي. وكما ان العاب الحيوانات تؤلف طريقة لممارسة غرائز معينة كغرائز الصيد والمقاتلة، فكذلك الحال عندما يلعب الطفل اذانه ينمي ادراكاته الحسية، وذكاءه، ودوافعه ازاء التجربة، وغرائزه

الصفحة 197

 الاجتماعية. وهذه هو السبب في ان لعب الاطفال يعتبر عتلة قوية في عملية التعلم عند صغار الاطفال، الى حد ان واحدا يستطيع ان ينجح في تحويل خطواتهم الاولى في القراءة والحساب والتهجئة الى لعب، فسترى الاطفال منغمرين بشدة في تلك الاعمال، التي تقدم لهم اعتياديا بشكل موضوعات – جافة. على ان تفسير كارل جروس الذي لا يتجاوز الوصف الوظيفي البسيط فقط يكتسب اهمية من كونه مدعما بفكرة التمثل. فخلال السنوات الاولى مثلا وتمشيا مع الانماط السلوكية الخاصة بالتكيف والتي يتثبت الطفل خلالها بكل شي يراه - اذ يحرك الاشياء او يهزها او يمسحها.. الخ - من السهولة بمكان تمييز ضروب اخرى من السلوك هي نوع من التمرين والممارسة، فتميز بحقيقة ان استياءها وموضوعاتها لا تنطوي بحد ذاتها على اية مغزى او اهمية ولكنها تتمثل في تلك الصيغ من النشاط الحقيقي الذي يتجلى على انه مادة خام ذات طابع وظيفي. ففي مثل هذه الحالات التي يجب ان تعتبر بأنها الاساس في اللعب، فأن انماط السلوك تنمو بواسطة الممارسة الوظيفية - مسايرة للقانون العام للتمثل الوظيفي - وان ما تؤثر فيه انماط السلوك هذه من اشياء لا اهمية لها بالنسبة الى الطفل سوى انها تتيح فرصة للممارسة والنشاط. فاللعب في اساسه الحس حركي ليس بأكثر من تمثل خالص للواقع وتشرب به في ثنايا النفس حسب المعنى المزدوج لهذا التعبير: بالمعنى البيولوجي وبالمعنى النفسي المتعلق باحتواء الاشياء وتحويلها الى نشاط.

اما عن اللعب في اعلى مستوياته الخاصة بالألعاب التخيلية والرمزية، فمما لا شك فيه ان كارل جروس قد اخفق في تفسيره على نحو واف ، اذ ان الخيال عند الطفل يتجاوز حدود غرائز التمارين التحضيرية وفترة ما قبل اللعب ، فاللعب بالدمى مثلا لا يؤدي وظيفة تطوير غريزة الامومة فحسب بل هو ايضا يتيح فرصة التمثل

الصفحة 198

 الرمزي لكل الواقع الذي بلاه الطفل لحد الان ولكنه لم يتمثله بعد على نحو يمكنه من ان يعيشه ثانية ومن ثم يحيله الى ما تتطلبه حاجاته. فاللعب الرمزيه في هذا الاعتبار ، شأنه شأن لعب الاعداد للحياة ، يجب تفسيره ايضا بأنه تمثل للواقع وتشربه في طوايا النفس : فهو فكر ذاتي بأصفى معانيه واشكاله ، فهو في محتواه تفتح وازدهار النفس وادراك للمنى ، معارضة له في هذه الحالة للفكر العقلاني المتطبع بالطابع الاجتماعي الذي يكيف النفس الى الواقع ويعبر عن الحقائق المشتركة ، فمن حيث التكوين ، ان الرمز في اللعب بالنسبة الى الفرد اشبه بالإشارة اللفظية بالنسبة الى المجتمع.

فاللعب اذن من حيث شكليه الاساسيين وهما الممارسة الحس حركية والرمزية هوانما تمثل للواقع واحالته الى نشاط ، مهيئا لهذا الاخير ديمومته الضرورية ، هو في الوقت ذاته ينقل الواقع الى ما يتفق والحاجات المعقدة التي تتطلبها النفس . هذا هو السبب الذي يدعو الى كل ما تتطلبه الطرائق الفعالة في تربية الصغار وهو تزويد الاطفال بأدوات ووسائل مناسبة ، بما يمكنهم خلال اللعب من تمثل الواقع العقلي الذي يبقى بخلاف ذلك خارج اطار الذكاء الطفلي.

فالتمثل وان كان ضروريا للتكيف، فهو لا يكون الا احد جوانبه فقط.

اذ ان التكيف المتكامل التام الذي يعتبر من مهمات الطفولة ان تحققه انما يتكون من تأليف مستطرد يجمع بين التمثل والتوافق.

لذا فأن لعب صغار الاطفال ، خلال تطوره التخيلي عندهم ، يتحول تدريجيا الى بنيات متكيفة يتطلب بأستمرار ما يمكن ان يكون في النهاية عملا ونشاطا ، الى حد انه في صفوف صغار الاطفال في المدرسة الفعالة يمكن ملاحظة كل نوع من انواع الانتقال التلقائي بين اللعب والعمل . ولكن منذ ابكر الشهور من حياة الطفل ، نجد 

الصفحة 199

التوليف بين التمثل والتوافق ، يتخذ سبيله خلال عامل الذكاء نفسه الذي يزداد باضطراد العمر الذي يتأكد نشاطه الحقيقي الى اعلى حد مستطاع، وطالما انه على هذه الفكرة بالذات تبتنى التربية الجديدة من المآل.

الذكاء:

كان ينظر الى الذكاء في علم النفس الكلاسيكي انه اما ملكة وهبت، فهي توهب مطلقة وهو المعنى بالتعرف على الواق ومستجيبا له او انه كان يعتبر نظاما من الأرتباطات يكتسب اكتسابا آليا تحت وطأة الاشياء . ومن هنا ندرك طبيعة قدامي المربين وما كانوا ينسبونه الى التعلم بالاتصالات والتلقي من اهمية وما كانوا يعولون عليه من اعداد الذاكرة ومدها بالمادة الخام . الما اليوم ، من الجهة الاخرى ، فأن علم النفس التجريبي المتقدم يعترف بوجود الذكاء انه كائن خارج نطاق مكنيات الارتباط وتكوين العادات ، وان هذا العلم الان يعزو الى الذكاء نشاطا حقيقا اصيلا ، ولا يقتصر على مجرد التعرف والمعرفة.

يرى بعض الباحثين ان هذا النشاط يتألف من المحاولة والخطأ؛ يبدأ اول الامر عمليا وخارجيا ، ثمن يبدأ تبطنه على صورة تكوين لقلي من الافتراضات وعملية بحث موجهة بما ينشأ من تطبيقات (هذا هو رأي كلاباريد) . ويراه بعضهم انه ينطوي على إعادة ترتيب وتنظيم مستمرة لمجال الادراك الحسي وانه بنية ابداعية (رأي كوهلر) . لكن علماء النفس هؤلاء كافة متفقون على ان الذكاء يبدأ بشكله العملي او بصورته الحس حركية من حيث طبيعته ، قبل ان يتم تبطنه ليصبح فكرا بأدق معاني هذا التعبير ، وان اولئك العلماء يقرون ان نشاط هو عملية بنيوية مستثمرة.

يبدو ان دراسة ميلاد الذكاء خلال السنوات الاولى من الحياة 

الصفحة 200

تشير الى ان الوظيفة العقلية لا تأخذ شكل تعرف مبدئي ولا تتخذ صيغة بنية وراثية داخلية خالصة ، وانما تتحول الى نشاط تكويني ينطوي على كلتا الصيغتين اذ ينميهما الفرد مضافا الى هذا تكيف مضطرد لتلك الصيغ الى حقائق الخبرة . وبتعبير آخر ، فأن الذكاء تكيف في اعلى اشكاله ، وانه توازن بين تمثل الاشياء المستمر الى النشاط وبين توافق تلك المنظومات التمثيلية الى الاشياء نفسها.

والنتيجة المترتبة على هذا هي ان الطفل لا يدرك الظواهر (كالعلاقات المكانية ، والعلاقات السببية .. الخ) مثلا . في مستوى الذكاء العقلي الا بتمثله لتلك الظواهر على مستوى نشاطه الحركي ، ولكن بعد ان يتم ذلك ، فأنه يعود باتجاه معاكس فيوافق تلك المنظومات من التمثل ويخضعها الى تفصيلات الحقائق الخارجية.

وبالمثل فأن المراحل المبكرة من التطور عند الطفل تظهر تمثل الاشياء تمثلا مستمرا ما لدى الفرد من نشاط مقترن بما يوازيه من توافق منتظم مصدره تلك المنظومات ، فيضاف التوافق هذا الى ما لديه من خبرة . ومن ثم ، وبعد ان يصبح التمثل شديد الاقتران بالتوافق ، فأن اولهما ينخفض الى مستوى النشاط الاستقرائي ، ويتحول ثانيهما الى تجريب ، وان اتحادهما معا يصبح علاقة لا انفصام لها تجمع بين الاستقراء والخبرة التي تكون خصائص العقل.

ان ذكاء الطفل الصغير ، منظورا اليه على هذه الصورة ، لا تمكن معالجته بطريقة اوفى مما يعالج بها ذكاء الشخص الكبير ، بواسطة طرائق تربوية تلقينية ، ان الذكاء بأكمله عملية تكيفية ، وان التكيف كله يستتلي تمثل الاشياء في الذهن ، بنفس الطريقة التي تتم بها عملية التوافق المتممة لعملية التمثل . وبهذا فأن جميع النشاط الذي يؤديه الذكاء انما يرسو على الاهتمام.

وما الاهتمام الا الجانب الدينامي للتمثل . وكما اوضح ديوي

الصفحة 201

 بعمق ، فأن الاهتمام يظهر عندما تتوحد النفس مع الافكار او الاشياء حينما يجد فيها وسيلة للتعبير فتصبح شكلا ضروريا من اشكال تغذية النشاط . فعندما تتطلب المدرسة الفعالة ان يتأتى جهد الطالب من نفسه بدلا من فرضه عليه فرضا وان ذكاءه يجب ان يتخذ صورة عمل واضح بدلا من ان يتقبل معرفة مقدمة اليه هضومة مسبقا ومملاة عليه من الخارج ،! فأنها تستلزم في هذه الحالة ان تحترم جميع قوانين الذكاء . فالعقل حتى عند الكبار لا يقوم بوظيفته على نحو فعال ولا يتيح فرصة للجهود التي تبذلها الشخصية بأكملها ، مالم تتمثل الشخصية هذه الاشياء التي احاط بها العقل ، بدلا من ان تبقى تلك الاشياء غريبة عليها . وان هذا يصدق اكثر عند الطفل ، طالما ان التمثل عنده لا يكون منذ البداية في حالة توازن مع عمليات التوافق الى الاشياء وعليه فأن الضرورة قضي عملية ممارسات في اللعب مستمرة تسير مع التكيف جنبا الى فقانون الاهتمام ، الذي ما يزال يتحكم في توجيه الوظيفة العقلية عند الكبير ، يصدق اذن على الطفل الذي لاتكون اهتماماته بعد متناسقة ومتوحدق بنفس الطريقة لذا فأنه ليستبعد الى حد ابعد مما هي الحال عندنا ، امكانية نشاط يقوم به العقل . ومن هن جاء ما اسماه كلاباريد بقانون الاستقلال الوظيفي ، اذ يذكر : (في كل لحظة من لحظات التطور ، يكون الحيوان وحدة وظيفية وهي طريقة اخرى من القول بأن استعداداته للاستجابة انما تتكيف الى حاجاته).فوظيفة العقل كما رأينا من قبل وان كانت واحدة في جميع ال خرعب الن يصدق الكي ذاك عل الحانق القسية كم يصدق على الكائنات العضوية : اذ ان الوظائف الاساسية ثابتة 

الصفحة 202

ولكنها قد تؤديها اعضاء مختلفة . فالتربية الجديدة وان كانت تريدنا ان نعامل الطفل بوصفه كائنا له استقلاله الذاتي من وجهة نظر الظروف الوظيفية في نشاطه وهي تريدنا ايضا من الجهة الاخرى ، ان نلتفت الى عقليته من وجهة النظر التكوينية وتلك هي الاصالة الثانية فيها.

اذان النظرية التقليدية في التربية تعامل الطفل دائما وكأنه رجل صغير تعامله ككائن يفكر ويشعر مثلما نفكر ونشعر وانما فقط تنقصه المعرفة والخبرة . ولما كان الطفل ينظر اليه على هذه الصورة فلم يكن اكثر من كبير جاهل ، فلم تكن مهمة المربي تكوين عقله وتشكيله بقدر ما كانت تترحي صقله وتهذيبه ، فأصبح الظن بأن مادة الموضوع التي يتلقاها من الخارج كافية لأن تكون تمرينا بحد ذاتها . لكن المشكلة تصبح مختلفة تماما حالما يشرع المرء يواجه فرضية الاختلافات التكوينية . فاذا كان عقل الطفل يختلف اختلافا نوعيا عن عقولنا ، فأن الهدف الرئيسي في التربية اذن هو تكوين وصياغة الطاقة العقلية والاخلاقية عنده ولما كانت الطاقة لا تكون من الخارج ، فالمسالة اذن هي ان نتحرى انسب الطرائق وافضل البيئات لمساعدته على ان يكون نفسه تكوينا ذاتيا ، وبعبارة اخرى ، يتمكن من تحقيق تماسك وموضوعية على المستوى العقلي وان يحقق تعاونا على المستوى الخلقي. فمن المهمات الاساسية للمدرسة الجديدة اذن هي ان تعرف ما طبيعة التكوين وان لدى مؤسسي المدرسة الجديدة جميعا أما معرفة حدسية عامة واما معلومات دقيقة . فروسو مثلا ، كان يؤكد في زمانه بأن لكل عمر طريقته الخاصة به في التفكير ، لكن هذه الفكرة لم تصبح ايجابية الا بعد ان حققها علم النفس في القرن العشرين هذا ، والفضل في هذا يرجع الى ما اجري من بحوث على الطفل نفسه من جهة، ومن جهة اخرى يعزى الموضوع الى الأفكار

الصفحة 203      

 المستمدة من الدراسات المقارنة في علم النفس وعلم الاجتماع. لذا، نفي الولايات المتحدة نتيجة لبحوث ستانلي هول ومدرسته ، ودراسات جون ديوي ومساعديه (ومنهم مثلا أ . كنج) ونظريات جم . بولدين العميقة ، تم تثبيت وجبر (للمنطق الوراثي) . وان الفكرة وحدها لهذا الموضوع الان تعتبر ذات اهمية كبيرة : فهذا الفرع يوضح كم اصبحنا معتادين على التفكير بخلاف ما كان عليه الوضعيون والعقلانيون في القرن التاسع عشر ، اذ ان العقل يمر بتطور تكويني ، وان ما يمر بها من عملية ابان الطفولة انما هي عملية بناء قويم . ففي اوروبا نجد دراسات كلاباريد وديكرولي على الادراك عند الاطفال ، ودراسات شتيرن على اللغة عند الطفل ، بوحوث كارل جروس على اللعب بله النظريات التي صيغت من الدراسات المعروفة عن العقلية البدائية ، او التحليل الفرويدي لمعقل الرمزي هذه كلها قد افضت الى افكار مماثلة . ويبدو لي من الضروري هنا ان أعالج هذه المشكلة ولو بإيجاز ، لما لها من تأثير كبير على نشوء الطرائق الجديدة في التربية.

منطق الشخص الكبير ومنطق الطفل الصغير:

حيثما يكمن اهتمام التربية الفكرية فأن المسألة الاساسية فيها هي مسألة منطق الطفل . فاذا كان الطفل يفكر كما نفكر نحن الكبار فللمدرسة التقليدية اذن ما يبرر موقفها عند ما تقدم مادة موضوعها وكأنها تقدم محاضرة الى اناس كبار . ولكن لا يلزم هنا اكثر من ان حلل نتائج دورس الحساب والكيمياء في المدارس الابتدائية تبعا لجميع الاعمار نعي منذ البداية مدى البون الشاسع بين نظرية الكبار حتى اذا كانت بشكلها الاولي ، وبين ادراكها من جانب الاطفال ممن هم فيما بين الحادية عشرة والثانية عشرة.

واول اختلاف ينبغي التأكيد عليه ، اختلاف يكفي لتسوية

الصفحة 204

 

جهود المدرسة الفعالة ، الا وهو المتصل بالعلاقة بين الذكاء اللارادي او الأعكاسي . والذكاء العملي الحسحركي . فعندما يتم بلوغ اعلى مستوى من العقل . فأن الممارسة تبدو تطبيقا للنظرية.

لذا فأن ما لدينا من صناعات . مثلا . قد مرت بفترة طويلة من المرحلة الخبرية . وها هي اليوم تنتفع من تطبيقات العلم وكذلك فأنه حل مشكلة تتطلب ذكاء عمليا من جانب الفرد السوي فأنما تنشأ اما عن تبديلات نظرية واضحة واما عن عملية تلمس خبري لا يصعب معها ادراك تأثير المعرفة السابقة الراسخة نظريا . وهذا هو سبب تحبيذ المدرسة التقليدية في التربية النظرية : فالأطفال ، مثلا يتم تعليمهم القواعد وهم لما يمارسوا طريقة الكلام والتحدث بعد ويجري تعليمهم قواعد الحساب قبل ان تتوفر لهم مسائل للحل.

والحقيقة هي قبل ان تكون هناك اية لغة لدى الطفل ، وقبل ان يكون لديه فكرا انعكاسي او ادراكي فأنه ينمو لديه ذكاء حس حركي او عملي يتقدم بعيدا ليخضع الواقع لتكوين اساسيات المجال والموضوع ، والسببية والزمان - بل انه ينجح منذ اكبر الاعمار في اعادة تنظيم الواقع هذا في كل متماسك متلازم على مستوى النشاط.

وحتى عندما يبلغ الطفل سن المدرسة ، فأنه لا يلبث يتيح شواهد على الذكاء العملي يدل على ما هناك من نمو قبلي لتكوين الذكاء الادراكي ويبدو ان مكنيات الذكاء العملي هي مستقلة عن الذكاء الادراكي وهي اصيلة تماما. على انه وان لم تترسخ العلاقة بكل تفاصيلها بين هذين النمطين من الذكاء بعد فيمكننا القول بكل تأكيد بأن الذكاء العملي عند صغار الاطفال يسبق الذكاء التأملي وان الاخير هذا يتمثل الى حد بعيد في تحقيق الاستيعاب الشعوري للأول منهما يمكننا التأكيد على اقل تقدير بأن الذكاء التأملي لا يمكن ان يستحدث اي شيء جديد وخاصة في مجال الاشارات والمفاهيم ، الا اذا توفرت شروط 

الصفحة 205

ارتكازه على أسس يشيدها الذكاء العملي. 

فأستيعاب الطفل للعالم الطبيعي مثلا ، سيمكنه من النجاح في التكهن بظواهر قبل تفسيرها بفترة طويلة ، لكن التفسير الصحيح هذا يتوقف على تحقيق ادراك شعوري مضطرد للدوافع التي وجهت ذلك التكهن.

فنجد التكيف العملي عند صغار الاطفال ، وهو ابعد ما يكون عن تطبيق المعرفة المجردة يولف اول مرحلة من مراحل معرفة نفسه والظروف الضرورية لما يلي من معرفة تأملية تالية وهذا هو السبب الذي يجعل الطرائق الفعالة في التربية اجدى كثيرا من الطرائق الاخرى في تعليم الموضوعات المجردة كالحساب والهندسة . واذا ما عالج الطفل الاعداد والارقام والاجسام ، كما هي قبل ان تتسنى له معرفتها من خلال قوى الفكر ، فأن الفكرة الذاهبة الى انه يكتسبها نيما بعد انما تنطوي على ابراز منظومة من النشاط، الى حيز الشعور وليس الامر ، كما هي في الطرائق الاعتيادية ، حيث يقترن المفهوم اللفظي بتمارين شكلية خالية من الاهتمام وتفتقر الى التكوين التجريبي . لذا فأن الذكاء العملي احد الحقائق النفسية التي ترتكز اليها التربية الفعالة . وليلاحظ هنا بأن لفظة (فعال) مستخدمة هنا بمعنى خاص اذ انه كما ذكر كلاباريد فأن مصطلح (النشاط) مصطلح مبهم ولعله يستخدم بمعنى السلوك الوظيفي القائم على الاهتمام ، وربما يستعمل بمعنى (الانجاز) والتحقيق وهو بهذا يشير الى اداء خارجي ذى طبيعة حركية . وانه في المعنى . الاول تتسم المدرسة الفعالة في كل مستوى في حين ان النوع الثاني من هذين المعنيين يكون النشاط ضرورة لا معدى عنها لدى صغار الاطفال في اعلى مستوياته ولكنه يتضاءل بتقدم العمر عندهم.

ان هذا التعاكس في العلاقة بين الذكاء العملي او الحس حركي، والذكاء التأملي ابعد من ان يكون الفرق البنيوي الوحيد  لتمييز

الصفحة 206

 عقل الطفل من عقولنا نحن الكبار ولهذا تطبيقاته التربوية المهمة.

وهذه تنطوي في الاقل على ثلاثة محاور في مجال تكوين الفكر المنطقي : الاصول الشكلية ، تكوين الاصناف او المفاهيم ، وتكوين العلاقات . وبقدر ما يتعلق الموضوع بهذه الجوانب الثلاثة ، فيبدو ان هناك حقيقة يمكن ملاحظتها ومنها يمكن الانطلاق : تلك هي ان الطفل لا يقدر في المرحلة قبل العاشرة او الحادية عشرة على الاستدلال الشكلي ، المبني كما يقال في التربية ، على مجرد الحقائق المظنونة المفترضة وليس على الحقائق الملاحظة.

فمثلا عندما يواجه صغار الاطفال مسائل رياضية اعتيادية، فأن احدى الصعوبات التي يخبرونها هي الاقتصار على تعابير تلك المسائل بدلا من الاستدلال مما تنطوي ذاكرتهم العملية المحسوسة المستمدة من الخبرة الشخصية . وبوجه عام فمن المتعذر على الطفل وهو فيما دون العاشرة تقريبا ان يفهم الجانب الافتراضي - الاستقرائي المختلف عن جانب الحقيقة الخبرية في الرياضيات. فيبدو واضحا اذن بأن اجابتنا يجب ان تأخذ في الاعتبار منذ البداية ما كنا قد لاحظنا من تمييز بين الوظائف والبنى . وليلاحظ بأن الطفل يتبع في نموه العقلي قوانين تدرج الوظائف العقلية في ادراك الاشياء وان الطفل ليسعي نحو تحقيق التكامل في وظائفه العقلية ولكن ليس بنفس الطريقة التي تؤدي فيها عقولنا وظائفها العقلية.

ان عقل الطفل يعمل وظيفيا كما تعمل عقولنا ، وانه ليبدي نفس الوظائف الخاصة بالتماسك والتماثل ويكشف عن نفس جوانب التبويب والتفسير والحكم على العلاقات وسوى ذلك . لكن البنى المنطقية المحددة التي تؤدي هذه الوظائف قابلة للنمو والتمايز.

وقد ترتب على هذا ان المطبقين والنظريين في المدرسة الجديدة قد اعتبروا انه من الضرورة بمكان ان تعرض مادة الموضوع التربوية

الصفحة 207

 الى الطفل وفق قواعد مختلفة عن تلك القواعد التي تنسبها عقولنا الناقدة الى ما يمكن ان تكون عليه من وضوح وبساطة . ثمة امثلة جمة يمكن ذكرها وتتوفر بخاصة في طريقة ديكرولي على اساس من افكار (التجميع) او التوليف.

مراحل النمو العقلي:

وهنا نتصدى لمشكلة اساسية : تلك هي المكنيات التي تمكن العقل من تحقيق نموه . ولنفرض ان الاختلافات التكوينية لعقل الطفل انما تتحدد من الداخل لنظام مستطرد من التتابع وبتساوق زمني ثابت ، وكل مرحلة تبدأ في لحظة معينة وتحتل مدة زمنية دقيقة من حياة الطفل. هب ، بإيجاز ، ان نمو عقل الفرد يقارن بنمو جنين يخضع لقواعد وراثية دقيقة ، فالنتائج المترتبة على هذا اذن لا تحصى بالنسبة ما يجب ان يتبع من طرائق تربوية اذ ان المعلم يضيع وقته ويبدد جهوده ان هو حاول تسريع نمو طلابه وان المسألة تصبح البحث عن طبيعة الملاءمة لكل مرحلة وما تم عرضه من تلك المعرفة بصورة يمثلها التكوين العقلي لمستوى العمر المطلوب. وبالعكس ، فاذا كان نمو العقل تابعا بصورة فريدة الى خبرة الفرد ومعتمدا عليها وعلى ما تمليه المؤثرات الاجتماعية والبيئية ، فيمكن للمدرسة الان وهي اخذه في الحسبان مسألة التكوين الأولي للشعور ، ان تزيد من سرعة ذلك النمو الى حد تحديد معالم المراحل ومقارنة الطفل بالراشد في اقصر وقت ممكن.

وكل تفاوت في الرأي انما يرجع الى النظرة الخاصة بمكنيات نمو العقل وان لم تكن جميع تلك الاختلافات مقضية الى تطبيقات تربوية مستمرة . وهذا بالضبط ما يجعل الحياة المدرسية تجربة منتظمة وهذه بدورها تجعل من الممكن دراسة تأثير البيئة على النم العقلي ، وبالتالي ، فأنها تستبعد كثيرا التعليلات غير المتروية.

 فحياة الطفل النفسية، مثلا تعتبر سلسلة موصولة الحلقات من

الصفحة 208

 فترات زمنية متلازمة تقررها الوراثة وتتصل بفترات تاريخ الانسان. وبهذه النظرة بالذات كان متأثرا ستانلي هول اذ هو اخذ بفكرة التطور البيولوجي السائدة في القرن التاسع عشر ، وهي نظرية تفترض الموازنة في النشؤ الوراثي ، او نظرية وراثة الخصائص المكتسبة وعلى هذا الاساس ذهب هول في تفسيره للعب الاطفال بأنه تلخيص لنشاط الاسلاف . وقد كان لهذه النظرية تأثيراتها على عدد من اصحاب النظريات التربوية ، وان لم تأت تطبيقات تربوية تذكر ، كما انها لم توفر متنفسا من الوجهة النفسية ، لهذا فهي قلما يؤخذ بها في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر ، وقد تحول الاهتمام اليوم الي ما تقدمه البيئة المعاصرة من مجالات للعب الاطفال واننا لنجد في الوقت ذاته هناك فكرة معارضة لتلك الالفة ومؤدى الاخيرة هذه ان النمو العقلي يعزى الى النضج الداخلي بمعزل عن البيئة الخارجية ، وهذا الاتجاه الان اصبح راسخ القدم . لا شك في ان الامر يتطلب فترة طويلة من الممارسة للمشي مثلا قبل نضج الاعصاب المركزية التي تساعد على هذه الفعالية ولكن يجب منع الطفل من محاولة المشي قبل ان تأتي اللحظة الملائمة ، وعندما يحين او ان السير المصاحب للنضج ، فأن قدرة محاولة السير لاول وهلة سيتم اكتسابها انيا تقريبا . وكذلك توضح بحوث جيزيل على التوائم المتماثلة ، وبحوث بوهلر على الاطفال الرضع الالبانيين - اذ كانوا يلفون بالاقمطة حتى وقت متأخر، وبعد ان رفعت عنهم عادة التقميط التي تزامنت مع وقت نضجهم فأنهم سرعان ما بدأ وا المشي، نوضح هذه البحوث ان تلك المكتسبات العقلية المتأثرة ظاهريا بالخيرة الذاتية وبالبيئة الخارجية ، بأن نضج الجهاز العصبي يقوم يدور أساس فيها.

وتذهب بوهلر في ابحاثها الى تقبل فكرة ان مراحل النضج العقلي التي حددتها تؤلف مراحل ضرورية ترتبط بمراحل زمنية ثابتة.

الصفحة 209

 ليس هذا هو مجال مناقشة ما في هذا الرأي من مبالغات وانه كما اعرف لم تترتب عليه تطبيقات تربوية منتظمة.

ويرى اخرون ان نمو عقل الطفل انما يعزى الى الخبرة وحدها. فالسيدة ايزاكس (في كتابها النمو العقلي عند صغار الاطفال) تذهب الى ان البنية العقلية للطفل لا تعمل اكثر من انها تهديه الى تسجيل دروس الواقع كما هو او بالأحرى فأن الطفل مدفوع بدوافعه الداخلية وميوله الى ان يتولى عملية تنظيم خبراته بشكل مضطرد وانه يحتفظ بالنتائج لاستخدامها فيما بعد أنى وجدت الحاجة.

وليس هذا هو اوان بيان وجهة النظر الخبرية في علم النفس وكيف يتم تطبيقها ، وملخصها ان البنية العقلية تنمو مع التطور الزمني . وسأكتفي بالقول ان التطبيقات التربوية العقلية تنمو مع العمر وأن التطبيقات التربوية المترتبة على ذلك تدعو الى التفاؤل الى حد لا يقل عن القول بأن النمو تتحكم فيه كليا عوامل النضج الداخلية . ولنذكر حقا بأن السيدة ايزاكس في مدرسة (مولتنج هاوس) ، في كمبرج ، قد امتنعت ومعاونوها عن مساندة فكرة تدخل الكبار في شئون نمو الاطفال ، وما يترتب على هذا التدخل من عواقب باسم تدخل لغرض تعليم الكبار للصغار . وان ما قامت به ايزاكس ومعاونوها هو تزويد الاطفال بما يحتاجون من ادوات واجهزة ثم يتركون وشأنه للقيام بترتيب تجاربهم بأنفسهم. فالأطفال ، وتتراوح اعمارهم فيما بين الثالثة والثامنة من العمر ، وضعت تحت تصرفهم ادوات واجهزة منها انابيب اختبار ، وانابيب تسخين ، ومصابيح بنزين ، وغيرها ، وهذا بالإضافة الى ادوات خاصة بدراسة التاريخ الطبيعي . فكان الاطفال يعالجون تلك الادوات باهتمام واظهروا من الحماس ما يظهر انهم شديدو الاهتمام بما يريدون القيام به ، وكل ذلك باندفاع ذاتي ولكني خرجت من زيارتي لتلك المدرسة بانطباع مزدوج : فأن الظروف

الصفحة 210

 المواتية المهيأة لم تكن كافية لتزيل من ذهن الطفل مختلف مظاهر التكوين العقلي القبلية وانها لم تزد على انها اسرعت في تطويرهم هذا من جهة ومن جهة اخرى ، فأن بعض ما يجريه الراشدون من تنسيق وتنظيم قد لا يضر كثيرا بالتلاميذ . ولكي نخلص الى استنساخ فلا بد من القول ان الضرورة تستوجب متابعة مثل هذا النشاط في المدرسة الى نهاية المرحلة الثانوية ولعل ما كان يرمي اليه اولئك المربون هو تنمية اهتمامات الاطفال في التجريب وتطوير روح التعاون فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين الكبار من ناحية.

اما بشأن الطرائق الجديدة في التربية . الطرائق التي تركت اثرا ناجحا مستمرا والتي تكون من غير شك اساس مدرسة ، مدرسة الغد الفعالة ، تستمد جميعها الالهام من مبدأ الوسيلة الذهبية الذاهبة الى القول بفسح المجال للنضج البنيوي العقلي ولتأثيرات الخبرة ومؤثرات البيئة الاجتماعية والطبيعية . وبخلاف المدرسة التقليدية التي تنفي تأثير العامل الاول من بين هذه العوامل وذلك بمقارنتها الطفل الصغير بالفرد الكبير فأن هذه الطرائق تأخذ في الاعتبار مراحل النمو العقلي ، ولكنها بخلاف تلك النظريات المبنية على فكرة النضج الوراثي المحض ، فأنها تعتقد كذلك بأمكانية لتأثير في ذلك النمو.

قيمة مراحل التطور في علم التربية:

فكيف يمكننا اذن تفسير هذه القوانين وهذه المراحل الخاصة بالنمو العقلي من وجهة نظر المدرسة ، وكمثال على هذا فلنبدأ بتطور السببية عند الطفل. عندما نسأل اطفالا من اعمار مختلفة عن الظواهر الطبيعية الرئيسية التي يحسون حولها باهتمام تلقائي فأننا نتلقى منهم اجابات تختلف تبعا لمجموعات اعمار اؤلئك الاطفال الذين سألناهم. فعند صغار الاطفال نجد مفاهيم مختلفة تختفي أهميتها

الصفحة 211

 بشكل ملحوظ مع الاعمار : فالأشياء بالنسبة اليهم مفعمة بالحياة ومملوءة بالمقاصد ، وانها تتحرك بأراداتها ، وان الغرض من تلك الحركات هو لتحقيق التناغم في العالم ولخدمة النوع البشري. وعند الاطفال الاكبر قليلا نجد مفاهيمهم عن النظام والسببية لا نختلف كثيرا عن مفاهيم الكبار ما خلا ما يتعلق بتفسيراتهم من مفهوم او مفهومين هما من رواسب المراحل السابقة وبين هذين الطرفين يأتي الاطفال ممن تتراوح اعمارهم بين 11 - 8 ، اذ نجد عندهم ضروبا متفاوتة من التفسيرات المختلفة تتراوح بين الاحيائية المصطنعة من جانب الصغار جدا وبين النزعة الالية الميكانيكية عند الاطفال الاكبر سنا . وكمثال على ذلك فهناك مثلا ضرب من ضروب الدينامية تشير بعض بقاياها الى انها تحدرت من فيزياء ارسطو وانها امتداد للفيزياء البدائية عند الطفل الصغير ولكنها في الوقت نفسه تتيح اساسا لصات علقات ث عات ان مثل هذا التطور في الاستجابة يبدو انه يتضمن الدليل على تحول بنيوي في الفكر مع تقدم العمر . والحقيقة هي بطبيعة الحال مثل هذه النتائج لم تكن متاحة ملاحظتها في كل مكان ، وان التفاوت هذا في ردود الافعال يجب تسجيله بعناية وافية ليستخدم في تفسير الاجراءات المتخذة . ومع ذلك ، فاذا ما قارنا استجابات صغار الاطفال باستجابات كبارهم فمن المتعذر نفي فكرة وجود عملية النضج ، اذ ان السببية العلمية ليست نظرية موروثة ولكنها تتكون تدريجيا وان عملية التكوين العقلي هذه لا تتطلب فقط تكيف العقل الى الواقع ولكنها تقتضي ايضا تصحيحا للمركزية الاولية في بني العقل. ثمة مرحلة طويلة في الواقع تمتد بين الملاحظة العامة الزمنية الثابتة . وما مراحل الاعمار هذه وما تتسم به من خصائص الا امور نسبية ، فهذه الاعمار وان كانت حقيقية بتتابعها ، فهي لا تستبعد

الصفحة 212

 حالات النكوص الفردية التي تطرأ انيا . وهناك ثاينا مختلف انواع المتداخلات التي يمر بها الفرد فيجتازها من حالة اختبار الى اخرى : فالطفل وهو في احدى مراحل اسئلة معينة تخص السببية مثلا ينتقل الى المرحلة التالية بحكم الجوار السببي لا غير . وان هذه المتداخلات في الامتداد ، اذا كان مسموحا بمثل هذه العبارة ، فقد تؤدي الى استبعاد امكانية ترسيخ حدود للاعمار قابلة للتطبيق بوجه عام ، باستثناء العامين الاولين او الاعوام الثلاثة الاولى من الحياة. ثمة من الجهة الثالثة تداخل في الادراك والاستيعاب : ولعل هذا الشيء يظهر في المرحلة الحسحركية او على المستوى العملي بفترة طويلة قبل أن يصبح الشيء هذا موضوع تأمل (وقد مر بنا انفا في مسألة المنطق العلاقي) . وفقدان التزامن هذا بين مستويات النشاط المختلفة وبين تطور الفكر ، يزيد من تعقيد ما نتوخى من تصور لمراحل النمو . واخيرا فأن كل مرحلة من مراحل التطور تتسم بمحتوى عقلي ثابت على نحو اقل مما هي تتسم بطاقة معينة ، ونشاط فعال محدد يمكن من تحقيق نتيجة معينة تتساوق وظروف البيئة التي يعيش فيها الطفل.

وهنا نمس مسألة بالغة الاهمية ليس فقط للتربية الجديدة والبيداغوجيا النفسية وانما كذلك لعلم نفس الطفل عامة ، مسألة تثير مصاعب مثيلة بتلك الكامنة في البيولوجيا الوراثية. فمن المعروف ان كثيرا من المشكلات الخاصة بالوراثة بقيت مرتبكة حتى تم التمييز بين الوراثة النشوئية او الاختلافات الوراثية وبين الاختلافات التكوينية غير الوراثية المتصلة بالبيئة. وان اي اتجاه نتخذه الان انما يرتبط بالجانب التكويني الثابت هذا طالما ان الكائن العضوي ليس ضمن البيئة في حين ان الناحية الوراثية هي عامل عام لكن الجانب الثابت وان كان يستلزم تجريدا

الصفحة 213

 يؤديه الذكاء، فأنه في الحقيقة يمكننا من فهم مكنيات التعاون والتنوع وما يكون عليه من درجات ويصدق الشيء على علم النفس:

اذ ان عقل الطفل لا يمكن ادراكه بمعزل عن البيئة.

فالطفل في كل مرحلة معينة يجيب اجابة مختلفة ويقوم بنشاط مختلف تبعا لنوع الاسرة التي نشأ فيها ووفقا لطبيعة البيئة التي ترعرع بين احضانها وتبعا لنوع الاسئلة المطروحة ويتوقف الامر على من يسأله . لذا فأننا لا يمكن ان نتلقى من التجارب الا اجابات نسبية . وان ما نظفر به من اجابات نحصل عليها من الاطفال انما تتفاوت بتفاوت الاعمار وبتفاوت البيئات .اننا وان لم نستطع حاليا رسم الحدود الفاصلة بين ما يسهم به النضج البنيوي لعقل الطفل وبين خبرته الفردية الذاتية او ما يعرض له من مؤثرات املتها عليه بيئته الطبيعية والاجتماعية ، فأنه ليبدو ان علينا ان نقبل بهذين العاملين بوصفهما يعملان باستمرار وان نتقبل فكرة ان النمو انما هو نتيجة لتفاعلهما المتواصل . فمن وجهة نظر التعليم ، فأن هذا الفكر الخام لا يتم تمثلها بنفس الدرجة في جميع الاعمار ، وعلينا ان نأخذ في في الحسبان اهتمامات كل مرحلة . وهو يعني ثانيا ان البيئة يمكن ان تقوم بدور حاسم في نمو العقل وان محتويات العقل هذا خلال مراحل الاعمار المختلفة ليست ثابة تماما وان الطرائق السليمة يمكن لذلك أن ترفع من كفاءة الطلاب بل وان تزيد من نموهم الروحي دون ان تجعل النمو هذا اقل سلامة.

الحياة الاجتماعية عند الطفل:

ان مسألة التأثير البيئي على النمو وحقيقة الاستجابات المميزة لراحل هذا النمو المختلفة المرتبطة كثيرا بالمكونات البيئية وبأجوائها والمقترنة بالنضج العضوي للعقل تقضي بنا بعد هذا الاستعراض المقتضب الى تملي المشكلة النفسية التربوية المتصلة

الصفحة 214

 بالعلاقات الاجتماعية التي تتسم بها الطفولة . وهذه هي النقطة التي تفترق عندها المدرسة الجديدة عن المدرسة التقليدية بأجلي معاني الافتراق حول اهم الموضوعات. فالمدرسة التقليدية قلما تقدم مجالا لأكثر من نمط واحد من انماط العلاقات الاجتماعية : ذلك هو تأثير المعلم مما لا ريب فيه.

حقا هو ان الصف المدرسي يؤلف جماعة حقيقية مهما كانت الطرائق المتبعة فيها وان المدارس قد برهنت دوما على. روح الزمالة وقواعد العمل المشترك وروح التعاون وطبيعة المعدلة والمنصفة السائدين في رحاب مثل هذا المجتمع . ويصدق القول كذلك ، اذا قبلنا فترات اللعب والرياضة ان ما ينمو بين الاطفال من حياة اجتماعية في اروقة المدرسة هي غير مطبقة قط داخل الصف نفسه ، وان ما يطلق عليها كثيرا اسم التمارين الجماعية لا تعدو كونها في الواقع صف افراد الى جانب بعضهم في مكان واحد بعينه . فنشاط المعلم ودوره في التأثير على التلميذ اذن هو كل شي . يضاف الى هذا القول ، طالما ان المعلم ينعم بالسلطة الفكرية والمعنوية وطالما ان التلميذ او التلميذة ملزم بالطاعة فان العلاقة الاجتماعية تؤلف تماما حالة نموذجية يسميها المختصون بعلم الاجتماع (الضغط) ويفهم منه بأن الطبيعة الضاغطة لهذا الضرب من الضغط تصبح ظاهرة على صورة من التطور ولكن من غير خضوع بين وانه في حالة وظيفته الاعتيادية قد يكون رقيقا ومقبولا من جانب التلاميذ.

تتجه الطرائق التربوية الجديدة منذ البداية من الجهة الاخرى الى تطوير الحياة الاجتماعية بين الاطفال انفسهم . ومنذ البدء بالتجارب الاولى التي اجراها ديوي وديكرولي ، اطلقت الحرية للاطفال ليعملوا معا وليسهموا سوية في بحث فكري بقدر اسهامهم في ابتناء ترويض اخلاقي. فهذا النشاط الفريقي وهذا النوع من ادارة الذات اصبحا عنصرين اساسين من عناصر ممارسات 

الصفحة 215

المدرسة الجديدة . وسيكون من النافع الخوض فيما تثيره هذه الحياة الاجتماعية الطفلية من مشكلات .فمن وجهة نظر السلوك الموروث - القائل بالغرائز الاجتماعية او بالمجتمع اشار اليه دركهايم بأنه ذاتي بالنسبة الى الفرد لأنه يرتبط بالتكوين النفسي للكائن العضوي فأن الطفل اجتماعي تقريبا منذ اليوم الاول لولادته . فهو يبتسم للناس في حوالي الشهر الثاني وانه ينزع الى ان يقيم علاقات مع الأخرين . والى جانب هذه الميول يوجد هناك المجتمع الذي يعتبر خارجا بالنسبة الى الافراد ، وهو يمثل مجموع تلك العلاقات القائمة بين الافراد من خارج ذواتهم : منها اللغة ، التبادل الفكري ، النشاط الاخلاقي ، او القانوني وبعبارة اخرى فان اي شيء ينتقل من جيل الى جيل ويكون الاساس الرئيسي لمجتمع الانساني المغاير لمجتمعات الحيوان القائم على الغزيرة.

فمن وجهة النظر هذه ، ورغم الحقيقة القائلة ان الطفل يمتلك منذ البداية دوافع تدفعه الى التعاطف والتقليد والمحاكاة ، فأن لديه (الطفل كل ما يريد ان يتعلمه . فهو يبدأ من حالة فردية ذاتية خالصة - منذ الشهور الاولى لوجوده تكون هناك صلة بينه وبين الاخرين - وينتهي بالمرور بتنشئة اجتماعية مضطردة هي في الحقيقة لا تنتهي . ففي البداية لا يعرف شيئا عما هناك لدى الكبار من قواعد واشارات وعلاقات وهذا يلزمه اذن ان يمر بعملية تكيف تدريجي ! يتألف التمثل والتوافق . وهذا سيمكنه من اتقان خاصيتين اساسيتين من خصائص المجتمع الخارجية وهذا يتألف من الاستيعاب القائم على الكلام ، وترويضا اجتماعيا قائما على معايير مشتركة.

ولذا فمن وجهة النظر هذه يمكننا القول ان الطفل يبدأ من حالة اولية من النزعة الذاتية المركزية اللاشعورية التي ترتبط ارتباطا وثيقا باندماجه الجماعة . فهناك صغار الاطفال الذين لا يسعون

الصفحة 216

 فقط الى اقامة صلات مع الاخرين ، ولكنه كذلك يقلدهم باستمرار، وبهذا فانه يقدم الدليل في هذا الشأن على ما هو عليه من درجة عالية من نزعة تنزع به الى تقبل الايحاء وهذا ما يتفق و (تعبير التوافق) . ولكن الطفل من الجهة الاخرى يتمثل الاخرين في ذاته وهذا معناه بعبارة اخرى انه ينفذ الى اعماق سلوكهم وما وراء دوافعهم وذلك بإرجاع كل ما يصدر عنهم الى ما يوافق وجهة نظره هو ومن ثم يسقط افكاره ورغابه عليهم . وطالما ان الطفل لم يتقن بعد كلا من الوسائل الاجتماعية او التفاهم المشترك والترويض الذي يطوع النفس الى القواعد المشتركة فمن الواضح أنه يظن بأنه المركز لكل من العالم الاجتماعي والعالم الطبيعي وان يحكم على كل شيء بواسطة التمثل القائم على النزعة المركزية الذاتية . ولكن عندما يبلغ مرحلة يفهم فيها الاخرين كما يفهم نفسه ، ويخضع خلالها ارادته وفكره الى قواعد يكون تماسكها كافيا في جعل هذه الموضوعية المضنية ممكنا ، فأنه يفلح في نفس الوقت من الخروج من قوقعة ذاته فيصبح واعيا لها ومدركا لعلاقتها بسواها فيكون بعبارة اخرى بمقدوره بأن يضع نفسه من الخارج بمكان الاخرين في الوقت الذي يكتشف فيه شخصيته وشخصية كل فرد اخر .إيجازا لما تقدم فان النمو الاجتماعي للطفل يتقدم من مركزية الذات الى المشاركة الاجتماعية ومن التمثل في نفس لم تحدد مكانها بعد الى ادراك مشترك يفضي الى تكوين الشخصية ومن لا تمايز مرتبك .ومضطرب ضمن الجماعة الى تمايز يرتكز الى تنظيم مرتاض

اثار مركزية الذات بشكلها الاولي:

فلنبدأ بتمحيص اثار النزعة المركزية الاولية هذه التي تمكن ملاحظتها بادى الامر في سلوك صغار الاطفال .

فعند اللعب وفي المدارس حيث يترك الاطفال وشأنهم لممارسة اللعب اما فرادى او سوية يظهر صغار الاطفال نموذجا متميزا من

الصفحة 217 

السلوك . فهم يحبون ان يكونوا معا وغالبا ما ينقسمون عامدين الى مجموعات مكونة من اثنين او ثلاثة ولكن مع هذا فهم لا يحاولون تنسيق جهودهم فيما بين هذه المجموعات . فكل مجموعة تعمل بنفسها مع شي من التمثل او بدونه . فحتى في الالعاب الجماعية مثلا كاللعب بالكرات الصغيرة في عمر ما بين 6- 5 ، فأن كل طفل يطبق القواعد على هواه وكل واحد منهم يكسب في الوقت نفسه.

وفي الالعاب الرمزية والعاب البناء نجد تماما نفس المزيج من الاطفال ومن الاتصال فيما بينهم اذ يبدو واضحا في لعبهم التقليد الظاهر والانفال اللاشعوري . وهذا هو سبب اخفاق عمل الفريق عند صغار الاطفال. 

وكذلك تكون لغة الطفل في هذه المرحلة متميزة . وقد لاحظنا في مؤسسة ميسون دي بتيس في جنيف شيئا من احاديث الأطفال الذاتية الجماعية التي تجري بين الاطفال من اعمار تتراوح بين3 -2، وكل طفل خلالها يتحدث مع نفسه ولمنفعته الذاتية فقط دون ان يصغي في الحقيقة الى الاخرين (بياجيه: تطور اللغة عن الطفل).

والملاحظات المدونة في بيئات اخرى توضح شيئا اقل من هذا من الكلام المتسم بمركزية الذات وربما اتسمت بانعدام هذه الظواهر. 

ومع هذا فأني اعتقد بأن حديث الطفل الى نفسه او الحديث المنفرد ضمن احاديث الاطفال الاخرين انما يؤلف نمطا او معيارا من معايير الخصائص التطورية في احدى المراحل من حياته وان الخصائص هذه لا ترتبط بالطفل وحده وانما تتصل كذلك بالبيئة التي ينشط فيها . وهذا في الحقيقة يصدق اولا على الاطفال الذين هم فيما دون ٨ - ٧ ولا يصدق على من هم اكثر من هذا من العمر وفي هذا تكمن دلالة كافية على اننا نتعامل مع خاصية تنفرد بها اعمار مبكرة . ان هذه الخاصية ، ثانيا تكشف عن نفسها فقط في بيئات معينة محددة ، ويمكن تقليلها او تطويرها تبعا للجو المدرسي

الصفحة 218

 او العائلي اي وفقا لما يمارسه الكبار من نشاط يؤثر في الصغار.

على انه من وجهة النظر العقلية تستحق نزعة مركزية الذات عند الطفل الاهتمام فهي تؤلف ظاهرة ذات اهمية عامة . وقد رأينا من قبل بان تمثل العالم المستمر في نشاط الطفل هو الذي يفسر اللعب عنده.

ان اللعب الرمزي خاصة لا يمكن ادراكه عند الطفل بدون تمثل الواقع الى العقل نظرا الى ان يفسر اشباع تلك الرغبات التي يتسم بها الخيال في حالة اللعب ويعبر في الوقت عن التكوين الرمزي للعب المختلف عن التكوين التصوري واللفظي للعقل المتطبع بالطابع الاجتماعي . فاللعب اذن ابرزسمة من سمات تفسير العقل بمركزية الذات هذا العقل الذي يبدو له العالم الخارجي خاليا من الاهمية الموضوعية ، لذا كان فأنه يتركز حول اهتمامات النفس فقط ، وانه يصبح فقط اداة لنموها . واذا كان اللعب الرمزي لا يعدوكونه عقلا ذاتيا يتحرى الاشباع المقيد عن طريق تمثل الاشياء واخضاعها لنشاطه الخاص به فنزعة مركزية الذات اذن انما تكشف عن نفسها بواسطة التكيف ذاته . وهي بعد حالة طبيعية ، طالما ان التكيف هو طريقة توازن بين التمثل والتوافق وطالما ان التوازن على فترة طويلة من البناء التكويني قبل ان تصبح عمليتاه متكاملتين.

لذا فأن جانبي منطق الطفل الذين وصفناهما في وقت مبكر وذكرنا بأنهما من خصائص تكوينه العقلي ابان المراحل الاولى من نموه انما يوجدان في حالة تداخل وثيق مع مركزية ذاته . فاذا ما واجه الطفل صعوبة في معالجة العلاقات على مستوى العقل في حين ان نشاطه الحس حركي كان متكيفا مسبقا لمعالجة العلاقات بين الاشياء، فما هذا الا لان النسبية تتضمن التشارك بين وجهات النظر، ولان الفرد قبل ان يكون قد عود عقله على هذا التشارك عن طريق التعاون ، يجب ان يبقى اسير وجهة النظر هذه والتي يعتبرها 

الصفحة 219

هو مطلقه . يضاف الى هذا ، فأن كان الطفل يواجه صعوبة كبيرة في تكوين مفاهيم اصيلة وفي معالجة عمليات منطق الاصناف فما ذلك الا لان مناقشة التبادل الفكري والضرورات اللازمة لذلك لا معدى عنها لتربية العقل التحليلي لكي تجعل العقل يعرف قيمة التعريفات الثابتة والمفاهيم الواضحة وتوجه عام فأن قواعد المنطق الشكلية تؤلف مغزى عقليا وهو ان التعاون وما ينطوي عليه احترام حقيقة التعاون هي وحدها الكفيلة بالتوطيد.

عمليات التنشئة: 

يبقى الطفل في كل جو من اجواء التنشئة - ولعله من وجهة النظر الخلقية يكون ايسر مما يكون عليه من الناحية العقلية ذاتي النزعة المركزية اهو لم يتكيف بعد الى الواقع الخارجي الاجتماعي . فمركزية النزعة الذاتية تؤلف احد الجوانب في كل بنية من بناه العقلية . فكيف اذن يستطيع الطفل تكييف نفسه الى الحياة الاجتماعية ، وبعبارة اخرى ، ما هي عمليات التنشئة ؟.

وهنا تصبح اصالة الطرائق الجديدة في التربية ظاهرة الوضوح.

ان المدرسة التقليدية قد حولت التنشئة بأكملها ، سواء منها العقلية ام الاخلاقية الى مكنية من مكنيات الضغط . وعلى العكس من هذا المدرسة الفعالة ، فهي تميز بعناية تقريبا في كل انجازاتها بين عمليتين لهما نتائج مختلفة تماما ومع هذا فهما تصبحان متكاملتين عندما تبذل في سبيلهما العناية والحصافة : ضغط الكبار وتعاون الصغار بعضهم مع بعض . فالضغط الذي يمارسه الكبار يحقق نتائج مهمة اذ هي تنفذ الى اعمق ميول الطفل واعمق المجالات في عقليته.

والنتيجة هي ان الطفل يبلو خبرة تتكون لديه عن الكبار عامة وازاء والديه خاصة وتتمثل في الانفعال الاساسي المؤلف من مزيج من الخوف والمحبة ، ويسمى الاحترام ، وكما اوضح ب . بوفيه ،

الصفحة 220

 فأن الاحترام هذا لا يستمد من قانون محدد كما اعتقد (كانت) ولا يستقى من روح جماعة متمثلة في الفرد كما ذهب دركهايم ، ان الاحترام يكون حقيقة رئيسية في العلاقات الوجدانية بين الطفل الصغير وبين الكبار المحيطين ، وهو يمثل في نفس الوقت طاعة الطفل وتكوين القواعد الملزمة . وان ما يعطيه الكبير من اوامر ، على ان تكون بقدر يحترمه الطفل ، الذي يشعر بأن تلك الاوامر اجبارية وان نشأة الاحساس بالواجب يمكن تفسيره عن طريق الاحترام ، والعكس صحيح ، اذ يفسر الواجب الممزوج بالاحترام بأنه دلالة تأثير الكبير على الصغير.

فلنسلم بأنه في ابكر مراحل النمو يكون الكبير هو مصدر النبعة الاخلاقية والحقيقة فان هذا الموقف لا يمكن ان يكون بدون مخاطر مصاحبة له فمن مجهة العقلية مثلا فأن ما يمتلكه الكبير من مكانة في نظر الصغير معناه ان الاخير منهما يتقبل ما يصدره اليه المعلم من تأكيدات انما هي لا تناقش ، وان الاوامر بعبارة اخرى انما تحفل بالحاجة التي تتطلب التأمل . وطالما ان اتجاه الطفل المركزي الذاتية يدفعه الى تأكيد والحاف لا سيطرة له عليه فأن الاحترام للكبير ينجح في تأكيد نزعته المركزية الذاتية بدلا من تصحيحها بواسطة احلال اعتقاد يقوم على السلطة محل اعتقاد بالذات وبدلا من ان يؤدي الى التأمل، وان المناقشة الناقدة تساعد على تكوين المحاكمة العقلية وان ذلك يمكن ان ينمو بالتعاون وبالتبادل الفكري. ومن الناحية الخلقية فأن الخطر باق كما هو . ويتصل بلفظية الاستكانة الفكرية فهناك نوع من الواقعية الخلقية: ان الصالح والطالح انما هما ما يمكن ان يأتلف او ان يختلف وقواعد الكبار. وهذا ضرب من الاخلاقية المتنافرة والتشويش . وطالما ان هذا لا يمكن ان يؤدي بالطفل الى الاستقلال الذاتي الذي يكون اخلاقية الخير وهذا يختلف عن موضوع الواجب الخالص ، وهذا 

الصفحة 221

قد يخفق في تهيئة الطفل الى ان يتقبل القيم الاساسية للمجتمع المعاصر . وهذا يفسر جهود النظرية التربوية الجديدة في احلال تأديب داخلي نابع من صميم الذات مبني على الحياة الاجتماعية للاطفال انفسهم، محل نقائص تأديب مفروض من الخارج. 

ذلك انه ليس بمقدور الاطفال فقط ، ضمن مجتمعاتهم وبخاصة في العابهم الجمعية فرض قواعد على انفسهم يحترمونها بكل قناعة وبوعي اكثر مما يحترمون فيه الاوامر الصادرة اليه من الكبار ، ولكنهم كذلك يدركون ادراكا فرديا انه يوجد ثمة وازع من التأديب والضبط في صفوف الدراسة وثمة نظام كلي من التعاون المبتادل المبني على (التفاهم الخاص) ويوجد كذلك احساس بالانصاف. وتميل الطرائق الجديدة الى ان تستخدم جميع هذه الطاقات الجماعية بدلا من اهمالها او تركها لتتحول الى اقصى مناوئة.

وبهذا الاعتبار فأن التعاون بين الاطفال الصغار له اهمية كبرى كتلك الاهمية القائمة بين الكبار . فهو من الناحية الفكرية تعاون يشجع التبادل الفكري الحقيقي ويشجع على النقاش التي تتسم من بين جميع ضروب السلوك بتنمية الاتجاه الناقد للعقل فتؤدي الى الموضوعية والتأمل التحليلي . وهو من الوجهة الخلقية يفضي الى الممارسة الواقعية لجميع اصول السلوك ، بدلا من الاستكانة الى الضغوط الخارجية فحسب . وبعبارة اخرى فأن الحياة الاجتماعية المقدمة داخل الصف خلال التعاون الفعال بين الطلاب انفسهم وبواسطة الترويض المستقل النابع من روح الجماعة امثل ما نتوخى من النشاط الذي وصفناه من قبل بأنه من خصائص المدرسة الجديدة : بل واكثر من هذا فأن التعاون هو سمة الاخلاق في حالة النشاط تماما كما يكون العمل الفعال سمة الذكاء في حالة التطبيق. بل إن التعاون يؤدي الى تكوين عدد من القيم المنفردة والمترابطة كقيم العدالة القائمة على المساواة وقيم التكافل

الصفحة 222

 العضوي. 

فلا حاجة الى القول ، اذن ، الا في الحالات القصوى بأن النزعة الى الطرائق الجديدة في التربية ، لا ترمي الى ابعاد ما يقوم به المعلم من نشاط اجتماعي ، بل ان المعلم يهدف الى تحقيق نوع من التوفيق بين الاحترام للكبير والتعاون وبين الاطفال ، وللتقليل ، بقدر المستطاع ، مما يمارسه المعلم من ضغط لكي يحوله الى ارفع مستوى من مستويات التعاون.

الصفحة 223