إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم
المؤلف: بياربوديو وجان كلود باسرون
التصنيف: كتب أخرى
عرض PDFالوصف:
بيار بورديو وجان كلود باسرن، ترجمة ماهر تريمش، إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2007، بيروت لبنان.
مقدمة المترجم
ثمة قراءة ممكنة لبيار بورديو لعل المسلك المناسب لها هو أن تفكر به، فيه مثلما دعا هو إلى ذلك السوسيولوجيين في معرض حديثه عن مقومات الكتابة العلمية. وليس يضمر ذلك انتقاء بين غث وسمين، وكثيراً ما درج الدارسون على ذلك، أو تقريعاً لهنات أو انتصاراً لأفكار.
لقد درج بورديو أن يكون موضوع كتابات عميمة مختلفة تخصصاتها ومتنوعة مشاربها لو نعدها لا نحصيها. مثلما درج كثير من الدارسين أن يجعلوا منه، وليجة إليه لاستشهاد تارة وتعزيز حجة تارة أخرى، أو لاستعراض بغير جهد نظري طوراً، فيه يتقطع النسيج النصي لنظريته وتتيم مفاهيمه أن يُرمى بها في سياقات غير سياقاتها وأن تحشر مع نظريات لا صلة نظرية بينها وأن تنتزع للتميز» بأن يكون الباحث بنظرية بورديو الشهير حقاً لعليم.
ومهما يكن من أمر هذه الأدبيات على كثرتها وكثائتها واستطارتها فإن بورديو تقاطعت فيه الأماني بين منتصر له وشاتم ما حسب البورديو كثير، وما قيل عليه كثير أيضاً، غير أن تلك الأدبيات تظل في معظمها بحدود التوصيف والعرض لغاو له أو مريد وهو ما
الصفحة 7
ساد في الكتابات وما زال عليها ظاهراً (1).
وخرجت اجتهادات عن السائد من الأدبيات، حملت معظمها، بدرجات متفاوتة طبعاً، محاولات تجديد نظرية بورديو والتجاوز لما سقط فيه من إحراجات نظرية، آخذه عليها كثيرون، بيد أنها لم تخرج عن «براديغم بورديو ولم تبتدع داخله حتى نقول إنها تجاوزته أو خرجت عنه حتى تكون بدعة غاية ما في الأمر أنها اجتهدت من داخل حدود مقولات بورديو فظلت حبيستها (2).
أما هجاؤه فهم كثر، لا مفازة من تعدادهم، وكذلك أمر مداحيه إن كانوا على سواء في منأى من أن يبلوروا - بدرجات طبعاً - نصوصاً معرفية تقدر صاحبنا، علمياً، حق قدره فتُجرّح المفاهيم وتغور في المرجعيات و تعيد بناء النظرية بناءً لم تستقر عليه في نشأتها (3).
الهوامش:
(1) تذكر هنا على وجه الخصوص: Jacques Bouveresse, Bourdieu, savant politique, la collection «blanc d'essais» (Marseille: Agone, 2003); Bernard Lahire, dir., Le Travail sociologique de Pierre Bourdieu: Dettes et critiques, textes à l'appui (Paris: Découverte, 1999); Michel Onfray, Célébration du génie colérique: Tombeau de Pierre Bourdieu, collection l'espace critique (Paris: Galilée, 2002); Louis Pinto, Pierre Bourdieu et la théorie du monde social, bibliothèque Albin Michel des idées (Paris: A. Michel, 1998); Jeannine Verdés-Leroux, Le Savant et la politique: Essai sur le terrorisme sociologique de Pierre Bourdieu (Paris: B. Grasset, 1998), et Alain Accardo, «Un Savant engagé,>» Awal Cahiers d'études berbères, nos. 27-28 (2003).
(2) تذكر هنا بالخصوص
Bernard Lahire, L'homme pluriel: Les Ressorts de l'action, collection essais et recherches. Série «sciences sociales» (Paris: Nathan, 1998), et Luc Boltanski et Laurent Thévenot, De la justification: Les Economies de la grandeur, NRF essais (Paris: Gallimard, 1991.
(3) شدّد بورديو أيما تشديد على الرقابة الإبيستمولوجية المتبادلة داخل النسق العلمي سيما أنه فيها مقومات تشكل هويته وتصيرها مع ذلك فإن النجاعة العلمية التي للنقد إنما تتتبع شكل التبادلات وبنيتها تلك التي فيها تتم : فكل شيء يدعو إلى اعتبار التبادل المعمم للنقد حيث، كما في نسق التبادلات الأمومية ذات الاسم الواحد، أ ينقد ب الذي ينقد ج الذي ينقد أ، يمثل منوالاً أكثر ملائمة لاندماج عضوي للوسط العلمي. انظر : Pierre Bourdieu, Jean Claude Passeron et J. C. Chamboredon, Le Métier de sociologue, les textes sociologiques; Paris; La Haye: Mouton, Bordas [1968], p. 104.
الصفحة 8
لن نعمل في هذا التقديم إلا على تتبع قراءة لهذا الأثر تقضي بقراءة ما تقدم من عمله بما تأخر منه على معنى قراءة أثره الذي بين أيدينا - إعادة الإنتاج - في سياق نظريته التامة»، وكذلك رغبها، بخواتم ما قرأ به ما كتبه وما رأى به ذاته عينها في ما كتب عن العوالم الاجتماعية، أو ما رأى به العوالم الاجتماعية في ما كتبه عن ذاته عينها (4).
نطرح ها هنا فرضية تقضي بأن ما حمله بورديو في كلامه» في السوسيولوجيا إنما هو غير ما أراده كلامه أن يقول»(5). لقد تمكن "اللاوعي الترانسندنتالي"(6) من خطابه بحيث بدا وعيه به غير ذلك، على جهة غير الوعي الذي وعى به ذاك هو أمر بورديو، أيان استغشى البنيوية التوليدية غشى حقيقة نظريته أن كانت نظرية النسق
الهوامش:
(4) Pierre Bourdieu: Méditations pascaliennes, collection liber (Paris: Seuil, 1997); Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, collection «cours et travaux» (Paris: Raisons d'agir, 2001), et Esquisse pour une auto-analyse, collection «cours et travaux» (Paris: Raisons d'agir, 2004).
وإحقاقاً للحق فإن كامل ما خطه بورديو يخترقه خيط رابط إن تعقبناه لقيانه جهرة أم سراً يكشف عن فكرة - هاجس تقضي بتحليل ذاتي وموضعه للذات في سياق بحوثه في الحقول الاجتماعية وكشفه لشروط أشغالها وبناءها. ولعل الأثر الذي بين أيدينا حمال للفكرة التي طالما تهوس بها بورديو أن يحلل سوسيولوجيا ذاته عينها في شتى الحقول التي حين تسكنه يسكنها. حقل التعليم هنا رأسها.
(5) نستحضر هنا : Pierre Bourdieu, Ce que parler veut dire: L'Economie des échanges linguistiques (Paris: A. Fayard, 1982).
(6)Bourdieu, Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, p. 154.
الصفحة 9
ذاتي الأشياء (Théorie du système autopoétique) البنيوي والنسقي وهل يستوي الذي يعلم مورده والذي لا يعلمه.
انتماؤه النظري ذاك يقوم بحسب اعتقادنا على علة منزلته، على معنى السبب في صدر السوسيولوجيا، طبعاً دونما وعي منه ومن قرائه، مثلما يقوم على علة على معنى السقم، إمكان سوسيولوجيا محررة (7) وكذلك صبا إليها.
مفارقة المثقف التي شملها بورديو ببحوثه والتي تقضي باغتراب المثقف بين سلطة حقله عليه الحقل الفكري وبين وعيه بها، سيق إليها هو نفسه. أما محصلة ذلك فكانت أن خرج علينا خطابه مفارقاً نظرياً (Paradoxal) ومفارقاً عيانياً لواقعه. لربما كان في ذلك بعض تميزه.
لبورديو علينا - أني نقرأه - العمل بمنهجيته والوقوف على ما وقف عنده إبيستمولوجيا، على جهة أنه إن كان ثمة شيء يُحسب له أكثر من سواه وأكثر من أي شيء آخر إنما هو ما بسطه لنا لقراءته أو بالأحرى لقراءة كل إنتاج فكري أدبي علمي، ثقافي. .)، وعلى جهة ثانياً أن قراءة كل إنتاج بورديو، ولكونه صاغ لنا نسقاً فكرياً مستقلاً ومنغلقاً، إنما لا تكون إلا من جوانيته، أي من حيث يشتغل فيفهم، ومن حيث تبعث تناقضاته فيكشف.
الهوامش:
(7) Pierre Bourdieu, Choses dites, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1987), p. 24
". لكن السوسيولوجيا آخر ما أنجبت العلوم علم نقدي لذاتها عينها، وللعلوم الأخرى، وهي أيضاً نقد للسلط من ضمنها سلط العلم. إن العلم أيان يعمل على معرفة قوانين إنتاج العلم لا يمنح وسائل الهيمنة لكن لعله يمنح وسائل الهيمنة على الهيمنة". انظر :
Pierre Bourdieu, Questions de sociologie, documents (Paris: Editions de Minuit, 1980), p. 49.
الصفحة 10
لقد كان لنا في منهجية الرجل أسوة حسنة سرنا سيرتها. نعتمد لذلك مفهوم المعقولية (Rationalite). إن الذي نقصده من وراء المعقولية هو نسق المبادئ والمفاهيم التي تشكل النسيج النصي من دون أن تتطابق ضرورة معه. فالمعقولية ليست هي النص وإن احتواها، ولا هي بانعكاس للواقع باعتبار ما للفكر من ربط بالواقع وإن أحالت إليه أو أخبرت عنه. هذا أمر يُفتح آفاق أن يتضمن النص معقولية غير التي رغب في تضمينها. لأجل ذلك يتأتى لنا الحديث عن معقولية للنص مستقلة عن معقولية منتجه، تزيف إحداهما الأخرى أو تغترب إحداهما بفعل سطوة الأخرى. فتستحيل المعقوليات إلى غير ذاتها أو تقول غير ما عنت وتتبادل بينها الأدوار يعوّض بعضها بعضاً أو يتطابق بعضها مع بعض أو يصير بعضها على بعض ظهيراً منظوراً إليها في سياق تنزلها في الفضاء الاجتماعي على هذا النحو تقرأ المعقولية نصاً (Texte) وتعملاً (Prétexte) وسياقاً ومنزلة )Prise de position( أو كما قال بورديو، موقفاً. )Contexte( (Position) وضدية (Opposition) وهو معنى الموضعة (8) (Objectivation) الذي دعا وسعى إليها سعيه.
1 في ما ثقلت به موازین بوردیو
قد يكون الاستهلال في الحديث عن بورديو من دون ذكر كم كانت حذاقته بالفلسفة عميقة وتمكنه من السوسيولوجيا شديداً، أكل للحم الرجل ميتاً. فذكر ما أتى به الرجل في السوسيولوجيا على جهة التخصيص والعلوم الاجتماعية على جهة الجملة من كتابات فريدة
الهوامش:
(8) Pierre Bourdieu: Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001; Questions de sociologie, et «Participant Objectivation,>» Journal of the Royal Anthropological Institute, vol. 9, no. 2 (juin 2003).
الصفحة 11
عصية ثرية مدرارة، وما أتى عليه من موضوعات وظواهر ومجالات شتى، وما صنعه على عينه من مفاهيم مستحدثة أحسرت عن قدرة كشفية، والآكد، عن أسئلة، كانت المعرفة السوسيولوجية والفلسفية في غفلة منها، فيه إقرار بعلمه سعة وعمقاً وإجلال لما سبغ به على السوسيولوجيا من إضافات - و نحن الذين نذود إليه، به، حتى نفهمه - مثلما فيه تبيان إلى أن الرجل سعى في العلم ليتملك ناصية نظرية عامة لا تذر واقعة أو ظاهرة أو ممارسة إلا ادعت تملك أسبابها والعلم بتأويلها (9). إن في ذلك لتصديق لقولنا عن نزع بورديو إلى نَسْقَنة المعرفة كلها.
الآكد أن بورديو كان أوسع ما يكون اطلاعاً على الفلسفة قديمها ووسيطها وحديثها وأوسع ما يكون إلماماً بالمدونة السوسيولوجية في نظرياتها وشبهاتها وفويرقاتها. إحاطته تلك والتي لدربه المدرسي أثر فيها (10)، ولجنوحه إلى نظرية سوسيولوجية عامة
الهوامش:
(9) لعل ما يعتد به بورديو وما يُرجم به أيضاً اعتقاده بإمكان نظرية سوسيولوجية عامة (Theorie sociologique générale و اعتقاده بضرورة ذلك. ولقد صبا إلى ذلك فعلاً مثل Talcott Parsons, Le Système des : دأب تالکوت بارسونز و نیکلاس لوهمان انظر sociétés modernes, traduit par Guy Melleray; préface de François Chazel, collection organisation et sciences humaines; 15 (Paris; Bruxelles; Montréal: Dunod, 1973), et Niklas Luhmann, Social Systems, Translated by John Bednarz, Jr., with Dirk Baecker; Foreword by Eva M. Knodt, Writing Science (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1995).
(10) يذكر بورديو في Esquisse pour une auto-analyse الآلام والإهانات الرمزية التي عانى منها لما انتقل في صباه إلى داخلية ثانوية بو (Peau)، أو حين دخوله السوربون ودار المعلمين العليا، وهو القادم من ريف بيارن (Bearn). قول ذاك ليس على شيء أن الطفولة بورديو أثراً مباشراً في عبقريته التي بناها ثأراً "للهابتوس الريفي" قبالة "الهابتوس البورجوازي". قد يفيد الأثر الذي بين أيدينا في فهم المسار المخص ببورديو وهو الذي اخترق إعادة الإنتاج. الآكد أنه يخبر عنه ولكن يظل التفسير فتوراً. عينه بورديو لم يسعفنا - بغير تفسير - قدر اقتضابه، عكسياً إبهامه - لها بتوسه العلمي المنشطر، نتاج توفيق المتناقضات والذي لعله يجنح إلى الإصلاح بين المتناقضات». انظر:
Bourdieu, Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, p. 216.
الصفحة 12
فيها تفسير، لم تكن حوصلة ولا تحصيلاً لتراث يترى بعضه بعضاً. لقد شهد البورديو بحذق الاستيعاب والاستعمال (11) لتراث بنى منه و به جهازه المفاهيمي المستحدث.
قد يكون من المفيد - لئلا يكون ما سيق إطراء يخرج عن حدود الشرعة العلمية - الوقوف على أحد أكثر مفاهيمه رواجاً وطرافة وغموضاً واستعمالاً واستشكالاً معاً، أن هو الهابتوس، كي يعطي لكل ذي حق حقه ونستجلي ما كان عليه الرجل من تبحر يشهد له به.
هكذا يرمي بورديو بالمفهوم في غيابات الفلسفة يصنعه فيها وبها، فيؤوب إلى أرسطو الذي أخذ عنه مفهوم الهيئة و الاستعداد الجسدي (12). وإلى هوسرل الذي نهل منه فكرة مخزون المعارف» (13). وإلى هيغل الذي يستعمل أيضاً بالوظيفة نفسها مقولات مثل الاستعداد الخلقي والخلقي، حيث يتعلق الأمر بالقطع مع الثنائية الكانطية وإعادة إدراج الاستعدادات الدائمة المكونة للأخلاق المحققة قبالة النزع الأخلاقي للواجب» (14). وإلى لا يبنتز الذي أسهم في فلسفة النسق أن
الهوامش:
(11) انظر: Bouveresse, Bourdieu, savant et politique
(12)Pierre Bourdieu: Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, libre examen. Politique (Paris: Seuil, 1992), p. 294, et Choses dites, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1980), p. 140.
(13) Pierre Bourdieu, Le Sens pratique, le sens commun; Paris: Editions de Minuit, 1980, p. 140.
(14) Bourdieu, Choses dites, p. 23.
الصفحة 13
جاء بفكرة حرية الآلة (15) (Automate) وإلى موريس مرلو بنتي (16) الذي جعل قبلية التفكير (Pre-reflexive) شكل وجود الكائن في العالم تميزاً عن برغسون الذي تناول الذاكرة وسيطاً بين الجسد والعالم الخارجي فاصلاً بذلك بين الفعل وفضاء الفعل. وإلى فيتغنشتاين الذي أخذ عنه بورديو مقولة القاعدة المستدمجة (17) متوسلاً ترويض الجسد اجتماعياً لتعلم القاعدة بما هي معرفة عملية. وإلى جون ألستير الذي جعل مفهوم الجسد فكرة مركزية لنشأة الهابتوس على سبيل أنه لا وجود له خارج )18( الجسد
أما سوسيولوجياً فحدث ولا حرج. هنالك كانت البورديو (19) (20) صولات وجولات مع دوركايم في الهابتوس المسيحي وفيبر في معرض بحوثه عن الصلات التي (21) في الخلق البروتستاني وموس توثق الهابتوس بتقنيات الجسد. وليفي ستروس (22) الذي جاب فيه البنى الرمزية. وبياجي الذي أخذ عنه مفهوم الترسيمة (Scheme). وتشومسكي الذي نهل منه فكرة القدرة التوليدية، ونحوهم. ذلك قليل من كثير يُثبت القول إن الرجل كان له من أمر المعرفة بالإنسانيات باع كثير وأثر عميق يسر له وسوع أيضاً أن يحتل في
الهوامش:
(15) Bourdieu, Le Sens pratique, pp. 169-170; Bouveresse, Bourdieu, savant et politique, p. 39, et Luc Ferry et Alain Renaut, La pensée 68: Essai sur l'anti-humanisme contemporain, le monde actuel ([Paris]: Gallimard, 1985), p. 209.
(16) Bourdieu, Choses dites, p. 120.
(17) Bourdieu, Le Sens pratique, pp. 66-67.
(18) Bourdieu, Choses dites, p. 120.
(19) المصدر نفسه، ص 94
(20) المصدر نفسه، ص22-23.
(21) المصدر نفسه.
(22) المصدر نفسه، ص69-54.
الصفحة 14
المشهد الفكري في عمومه صدره ولعله رأسه في مواطن كثيرة وأعمال عميمية، إعادة الإنتاج هذا حجة على ذلك.
وما يزيد للرجل وجاهة معرفية زيادة على ارتحاله بين فضاءات معرفية في الإنسانيات قديماً كانت منفصلة، فألف بينها في 6 سياق نحته لجهازه المفاهيمي : علم النفس، علم الاجتماع الأنثروبولوجيا، الإثنولوجيا، علم الاقتصاد، الألسنية، علم التواصل، تفتيقه الآفاق ومجالات وإخصابه لها بمساهمات كشفية ذات شأن عظيم. كذلك حقل الأدب (23) والألسنية (24) والتعليم (25) والإبيستمولوجيا (26) والاقتصاد (27) والفن (28) والأنثروبولوجيا (29).
الهوامش:
(23)Bourdieu, Les Règles de l'art, Genèse et structure du champ littéraire.
(24) Pierre Bourdieu: Ce que parler veut dire: L'Economie des échanges linguistiques, et Langage et pouvoir symbolique, préface de John B. Thompson, points. Essais ([Paris]: Seuil, 2001).
(25) Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron: Les Héritiers, les étudiants et la culture, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1964), et La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, le sens commun ([Paris]: Editions de Minuit, [1970]), et Pierre Bourdieu: La Noblesse d'état. Grandes écoles et esprit de corps, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1989), et Homo academicus.
(26) Bourdieu, Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, et Bourdieu, Passeron et Chamboredon, Le Métier de sociologue.
(27) Pierre Bourdieu, Les Structures sociales de l'économie, collection liber (Paris: Seuil, 2000).
(28) Pierre Bourdieu: L'Amour de l'art, les musées d'art euopéens et leur public (Paris: Editions de Minuit, 1996), et Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, et Pierre Bourdieu [et al.], Un Art moyen, essai sur les usages sociaux de la photographie, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1965).
(29)Bourdieu, Le Sens pratique.
الصفحة 15
والجندر (30) والمثقف (31)، وغير ذلك.
ذاك طل من هطل منه ما هو في كتب أخرى ومنه ما انتشر في دوريات وما انتشر على موضوعات قدداً ثراء الواقع الاجتماعي حتى إذا أحصيناها، والمقام لا يتيح لنا شيئاً من ذلك، يجدي ذلك في الانتصار له على جهة مساهمته عالماً في الحقل المعرفي والسوسيولوجي على وجه التحديد.
2 - في ما هو حقيق ببورديو من مأثرة
ونحن نقتفي القراءة التي آثرنا يستوقفنا للرجل مكسبان عزيزان عليه شديدان على المثقفين، إعادة الإنتاج فاتحتهما. أما الأول فهو ما كان من أمر سوسيولوجيا العلم. وأما الثاني فهو ما كان من عداوة التشيؤ. (La Réification)
أ - إذا كان لدوركايم من فضل على السوسيولوجيا فالآكد أنه سعيه إلى صياغة إواليات رقابة إنتاج الخطاب السيولوجي - قواعد المنهج في علم الاجتماع - حفظاً لعلميته وصوناً لاستقلاليته ورسماً لهويته (32) ولقد قفاه بورديو بما أسماه موضعة الذات المموضعة) (33)
الهوامش:
(30(Pierre Bourdieu, La Domination masculine, collection liber [Paris]: Seuil, 1998.
Bourdieu, Homo academicus. (31) تذكر بخاصة :
Emile Durkheim, Les Règles de la méthode sociologique, bibliothèque de (32)
philosophie contemporaine (Paris: Presses universitaires de France, 1958).
Les Usages sociaux de la science: Pour une sociologie clinique du champ (33)
scientifique: une conférence-débat, organisée par le groupe sciences en questions, Paris, INRA, 11 mars 1997, sciences en questions (Paris: Institut national de la recherche agronomique, 1997); Pierre Bourdieu: Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, p. 341; Questions de sociologie, pp. 37-94; Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, et Esquisse pour une auto-analyse, et Bourdieu, Passeron et Chamboredon, Le Métier de sociologue, pp. 95-106.
بالكاد يخلو أثر البورديو لا يحيل فيه اقتضابا أو إسهابًإ إلى مسألة موضعة العالم والعلم في الحقل الفكري. لقد تعلقت همته بالأمر حتى لكأنه كان يرى فيه رسالته العلمية. انظر مثلاً: Bouveresse, Bourdieu, savant et politique, p. 176.
ولما كان الأمر كذلك فإن إعادة الإنتاج أيضاً من خالص هذا الهوس الذي يبغي كشف أواليات إنتاج العلماء» من غير العلماء»، والمؤسسات التي تعمل في العلم سلطتها وقوانينها.
الصفحة 16
(Objectivation du sujet objectivant)
الفكرة خلابة فيها الإبيستمولوجي والسوسيولوجي والسياسي أيضاً. أما ما كان من أمر الإبيستمولوجي فقد جنح بورديو إلى كونت على حساب كانط أن انتصر له على جهة أنه انتصر للسوسيولوجيا «أميرة العلوم» - كذلك أرادها كونت تبحث في العلل وضعيا فتنزل الأفكار من عليائها وتُنسبها أن تعرّي نواميسها الاجتماعية - على ترانسندنتالية الأفكار حيث الحقائق جمعاء.
هذا التقابل الذي يبسطه بورديو إنّما يقضي بالتساؤل أني لعون (34) تاريخي في الاجتماعي والتاريخي يسكن وهما فيه يسكنان، أن ينتج حقائق ما فوق تاريخية قدّت عن كل صلة بالمكان والزمان والاجتماع والعمران ومن ثمة صالحة لأمد إن لم يكن للأبد (35).
الجدال حول كونية المعارف قديم بدأته الفلسفة حين أرادت
الهوامش:
(34) نعتمد هنا مفردة العون ترجمة لمقابلها بالفرنسية Agent» على المعنى الذي قصده بورديو، أي الذات الاجتماعية التي هي لا بالفاعل المريد ولا بالعنصر السلبي، وكلما كان المقام تفسيراً لبورديو أو سرداً لقوله استعملنا مفردة العون و كلما كان المقام مقام نقد منا أو من آخرين استعملنا مفردة الفاعل لتبيان ما هو من نظريته وما هو ما ليس منها.
(35) يذكر بورديو متحدثاً باستغراب عن كانط : أنى يكون ممكناً أن ينتج نشاط تاريخي منخرط في التاريخ مثل النشاط العلمي، حقائق عابرة للتاريخ ومستقلة عن التاريخ ومنفصلة عن كل الصلات بالمكان والزمان وبالتالي صالحة أبداً وكوناً. انظر : Bourdieu Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, p. 10.
الصفحة 17
تخصيب المعرفة أن جعلت للإنسان بذور علم مزروعة ما قبلياً في العقل في شكل مبادئ مع ديكارت أو في الوعي الترانسندنتالي بما هوَ مكان الحقائق جمعاء والذي تبنى منه وبه «الحقائق الدنيوية» مع كانط، أو في المنطق لغة للعلم الذي لا يستقيم إلا بها مع الموقف الوضعي للإبيستمولوجيا.
(36) أما الردود على ذلك ففلسفية أيضاً نجدها مع نيتشة وهردر وغادمير (37) وماركس وحديثاً مع تشارلز تايلور (38) كل ذلك مع فارق الاختلاف والمسافات بينهم. لكن ما يجمعهم جميعاً هو تسويغ تنسيب المبادئ الكونية التي حملتها الحداثة بمثقفيها، بالتاريخ والمجتمع أن تك النزعة الكونية بما هي نزعة ليست سوى إفراز تاريخي وعليه يجب أن تقرأ بالتاريخ، وهو معنى «التاريخانية» الذي عناه بورديو.
سوسيولوجيا أيضاً نلقى هذا التبرم من مبدأ الكونية والمثقف الكلي في سوسيولوجيا العلم. أصل هذا الصد نلقاه في مراجعات ليفي ستروس (39) ومرتون (40) وبخاصة في البرنامج القوي» الذي بشر
الهوامش:
(36) Johann Gottfried Herder, Histoire et cultures, trad. et notes par Max Rouché; présentation, bibliogr. et chronologie par Alain, GF; 1056 (Paris: Flammarion, 2000).
(37)Hans-Georg Gadamer, Vérité et méthode: Les Grandes lignes d'une herméneutique philosophique, [traduit de la 2ème éd. allemande par Etienne Sacre et Paul Ricœur], l'ordre philosophique ; Paris: Seuil, 1976.
(38) Charles Taylor, Multiculturalisme: différence et démocratie, avec des commentaires de Amy Gutmann, Steven C. Rockfeller, Michael Walzer [et al.]; trad.
de l'américain par Denis-Armand Canal, champs; 372 ([Paris]: Flammarion, 1997).
(39)Claude Lévi-Strauss, Anthropologie structurale (Paris: Plon, [1958]).
(40)Robert King Merton, The Sociology of Science: Theoretical and Empirical Investigations, Edited and with an Introd. by Norman W. Storer (Chicago: University of Chicago Press, 1973).
الصفحة 18
به ت. كون (41) وجذره بلور (42) ولاتور)43( وانتهى في صيغته السوسيولوجية مع بورديو.
أوردنا آنفاً أن بورديو انتصر لكونت على كانط. هو اقتراف يجب أن يُفهم من ورائه، حتى لا نزدري للرجل حقاً، لا على أنه انتصار للوضعية التي بشر بها كونت، إنما هو ولى وجهه قبل أن تكون السوسيولوجيا قبلة المعارف كلها دعوتها أن تخرج العلوم من الظلمات إلى النور، ظلمات جهلها بالشروط الاجتماعية التي تقف من حقائقها» أسا، تزعم إطلاقيتها، ونور المعرفة بلاوعيها المتعالي الترانسندنتالي الذي تستثمره الذات العالمة في المعرفة، من دون معرفة (44). لقد رغب كونت في أن تكون المعرفة العلمية - أرقى حالات الذهن البشري - معرفة أنطولوجية، إنما صبا إلى أن تكون معرفة واقعية عبر معرفة واقعها بهذا المعنى يتعين فهم أن السوسيولوجيا نظرية للمعرفة وليس نظرية عن المجتمع والتغير أو خطاب عنهما.
إن ما يُضمره تساؤل بورديو عن شروط المعرفة على معنى الشروط الاجتماعية إنما هو سؤال عما يجعل الحقيقي ممكناً، وعما
الهوامش:
(41) Thomas S. Kuhn, La Structure des révolutions scientifiques, trad. De [la 2ème éd. américaine) par Laure Meyer, champs; 115. Champ scientifique (Paris: Flammarion, [1982]).
وقد صدرت ترجمة النسخة الإنجليزية، ط 3 (1996) عن المنظمة العربية للترجمة أيلول / سبتمبر 2007.
(42)David Bloor, Sociologie de la logique ou les limites de l'épistémologie (Paris: Pandore, [1983]).
(43)Bruno Latour et Steve Woolgar, La Vie de laboratoire: La Production des faits scientifiques, trad. de l'anglais par Michel Biezunski, sciences et société (Paris: La Découverte, 1988).
(44)Bourdieu, Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, p. 154.
الصفحة 19
يجعل المعرفة هي ما هي عليه بصرف النظر عما يكون منها الدحض درجات أم جملة. ثمة فرق هنا وشبهة، فليس السؤال هل الحقيقة ممكنة، إنما السؤال ما هو إمكان الحقيقة. ذاك تحير حمله بورديو والحق القول إنه لم يجب عنه إنما أتى بما إن فقهناه يمكن أن يجيب
عنه، "الموضعة المشاركة"(45) (Objectivation participante)
النسبية (46) (Relativite) غير النسبوية (Relativisme). ذلك أنه ليس يتأتى للعالم حرية المعرفة إلا أن يعرف حدود تلك الحرية فيزداد حرية في معرفته وفيما يمكن أن تهدي إليه من معرفة داخل حقل الإمكانات المعرفية. موضعه الذات هنا، رأس الأمر.
وفي الحقيقة لا عاصم مع بورديو من الموضعة فكل إليها أواب ليقرأ كتابه. هكذا يقع تبصره في المعرفة على الرياضيات حيث يؤاخذ الموقف الأفلاطوني الذي يقضي باعتبار الموضوعات الرياضية ماهيات ما قابلية الوجود عن تعقلها بالذهن فتكتشف لا أكثر ولا أقل. إن في ذلك لإغفال أن القوة الكارهة التي للتمشيات الرياضية (أو التي للعلامات التي فيها تعبر عن نفسها إنما تجري، أقله على جهة بفعل أنها مقبولة ومكتسبة ومستعملة صلب استعدادات دائمة وجماعية وبها. فلا تفرض الضرورة والبداهة التي لتلك الكينونات» المتعالية، في حقيقة الأمر نفسها، إلا على أولئك الذين اكتسبوا، عبر تعلم مديد المهارات الضرورية لاحتضانها (47). ولا يتأتى
الهوامش:
(45) Bourdieu, «Participant Objectivation».
(46) ليس مما يحتاج إليه بيان أن نبين أن نسبية بورديو ليست كنسبية أينشتاين فيما هو أكثر من تباين المجالين لسببين، أولهما أن نسبية بورديو تدرج الاجتماعي حقيقة غير نسبية في كل معرفة هي جوهراً نسبية لثلا تصير المعرفة سلطة. وثانيهما لأن نسبية بورديو تكشف وعلى خلاف أينشتاين ليس الجهل مما أصبنا من المعرفة إنما تكشف المعرفة تما أصابنا من الجهل، أي الإمكان المعرفي صلب حقل الإمكانات المعرفية الذي لها.
Bourdieu, Méditations pascaliennes, p. 136(47).
الصفحة 20
للعلامات الرياضية اللازمنية والتاريخية المتعالية والماثلة معاً مثل الرموز الدينية أو اللوحات أو القصائد، أن تكون حية وفاعلة. . (48) إلا أيان تقرن مع فضاء أعوان جناحين ومقتدرين على بعث هذا الفضاء الرمزي المستقل.
لا يلزم عن ذلك يوماً انفصاماً (49) للعالم بين موقفين أو شخصيتين مثلما يُقال في علم النفس. فمما يترك بالغ الترحيب عند بورديو من مشروعه أنثروبولوجيا الذات إنما هو ذهابه إلى أن المعني بالموضعة إنما هو ليس الأنثروبولوجي وهو يحلل عالماً برانياً بل هو العالم الاجتماعي الذي جعل منه الأنثروبولوجي والأنثروبولوجيا الواعية واللاواعية التي يستقدمها في ممارسته الأنثروبولوجية، ليس أصوله الاجتماعية فحسب ومنزلته ومساره في الفضاء الاجتماعي وانتماءاته ومعتقداته الدينية وجنسيته، ونحو ذلك، إنما أيضاً، وهو الأهم منزلته الخصوصية داخل حقل الأنثروبولوجيين (50). فما من شيء إلا وكان إلى فضاء المنازل والعلاقات والشروط الاجتماعية مشدوداً فليس ثمة من معرفة مطلقة، وليس ثمة من معرفة عارضة ولا من عالم عليم، إذ كل لحقل المواقف والمنازل أواب (51).
الهوامش:
(48) المصدر نفسه، ص136
(49) اللهم إذا كان ها بتوساً منشطراً على المعنى الذي عناه بورديو أي ذاك الذي عنده ذاك أمر فيه نظر انظر:
de France, 2000-2001, p. 216 Bourdieu, Science de la science et réflexivité: Cours du Collège
Bourdieu, «Participant Objectivation,» p. 283 (50)
(51) هكذا لا تتخذ الأضداد الإبيستمولوجية معناها الكامل لولا أن ننسبها إلى نسق المنازل والضديات التي تنشأ بين المؤسسات، والزمر، أو العصب التي أحلت بتباين في الحقل الفكري. إن جملة السمات التي تُعرف كل باحث على سبيل نمط تكوينه علمي أم انتقائي مكتمل أم جزئي، ونحو ذلك، مكانته في الجامعة انتماءاته المؤسسية، ارتباطاته المصلحية ومساهمته في زمر ضغط فكرية على وجه التحديد دوريات علمية أو غير علمية، مجالس أو لجان، ونحو ذلك، كلها تسهم في تحديد حظوظه في أن يحل بهذه المنزلة أو بتلك أي في أن يعتنق هذه الضديات أو تلك صلب الحقل الإبيستمولوجي. وإن كنا إمبيريقيين، شكلانيين، منظرين أو لا شيء من كل ذلك، فليس مرد ذلك الدعوة بقدر ما هو القدر على جهة أن معنى الممارسة المخصة بكل منا إنما تجري على مجرى شكل نسق الإمكانات والاستحالات التي تعين الشروط الاجتماعية للممارسة الفكرية». انظر :
Bourdieu Passeron et Chamboredon, Le Métier de sociologue, p. 101
الصفحة 21
ذاك هو على عجل معنى أن تُقرأ الأفكار موقفاً ومنزلة وضدية، أو كما يقول إعرف ذاتك، ذاتك عينها. هي قراءة لا تقف على وقفة قط ولن تكتمل ولن تستوي لأنها قراءة لخطاب معرفي ليس به اكتمال فحقيقته ليست منحصرة ومنحسرة في حدوده وهو أمر عنى عند الكثيرين مقاربة المعرفة في اكتمالها إن كان لها اكتمال حتى - أو کواقعة برانية مستقلة عنا. إن ما يسطو على الحس المشترك العامي وحتى العلمي لبس الذات الإمبيريقية بالذات العالمة، يتعين. حفظا للقيمة الأنطولوجية للمعرفة - الفصل بينهما ومعرفة مناطق التداخل بينهما والانفصال.
إن الحقيقة التي يقف عليها العلم ويسعى إليها الفكر، إنما هي عن مصلحة في الحقيقة. ذاك أمر لا يقي إمكان الحقيقة إلا أن تكون المصلحة ذاتها. غير أن قول بورديو في ذلك غير ذلك. فإذا كان شرط الحقيقة مثلما ساد ولا يزال الترفع عن المصلحة فإن ما أجلاه بورديو إلا حقيقة لا تسندها مصلحة ولعله شرطها، أقله ألا حقيقة من غير الوعي بالمصلحة في نكران المصلحة، وألا خير في اللاوعي بالسلطة وراء اللامصلحة. وإلا نعلم بكل ذلك كان الخسران المبين.
وإذ يعلم المرء ذلك يجعل في ما ينتجه معرفة، لذاته ولشروطها وللحقل الاجتماعي قدراً معلوماً، فيسعى حثيثاً إلى حصصه ما له وما عليه ما هو من العلم وما هو ليس من العلم في
الصفحة 22
شيء. ومهما يكن من أمر هذا النهج في المعرفة فإن البورديو فيه خصوصية لا تميزه من الأقدمين من السيولوجيين فحسب، إنما أيضاً تميزه عنهم.
أ - إنه جعل من التحليل الذاتي ممارسة معرفية مستمرة وذاتية. لقد كان يقول في سياق تحليله لذاته متحدثاً عن بحوثه الميدانية عن الجزائر في بداية عهده بالسوسيولوجيا وعن البيارن (Bearn)، مسقط رأسه في نهاية عهده بها، أنها كانت ضرورية الأسباب تقنية ونظرية معاً، ولكن بالقدر نفسه لكون التحليل كان يرافقه في كل مرة تحليل ذاتي بطيء وعسير (52).
ب - إنه جعل له من التحليل الذاتي مشروعاً إبيستمولوجياً يقضي بصياغة إواليات مراقبة إنتاج الخطاب السوسيولوجي، ثم يتوسع منه إلى المعرفي بعامة.
العلاقة بين الذاتي والموضوعي والمسافة بينهما مسألة معلومة فيها اجتهادات معلومة أيضاً، الإرث السوسيولوجي يشهد بتلك السجالات انتصاراً لأحدهما على الآخر (دوركايم، فيبر) أو تلفيقاً بينهما (شولتز، زيمل، إلياس برغر ولوكمان، ميد، ونحوهم) لكن أن تصاغ مسألة سوسيولوجية وسياسية فذاك أمر ما كان لسابق له ولا معاصر، فيه يد ولا باع.
لقد تأكد البورديو وهو يصوغ كتابه هذا أنه إن لم يبتدع العلماء أنهجاً، أن يتقمطوا الوعي السعيد - ابتغاء تحصين الحقل الفكري مما يتهدده من سلط برانية عنه وداخلية له زائغة متى تمكنت بالمعرفة لا بد أنها تفسدها - إيذان بخراب المعرفة وفساد الفكر.
الهوامش:
Bourdieu, «Participant Objectivation,» p. 292(52)
الصفحة 23
وهل شيء أبلغ إلى حقيقة المعرفة صنعاً واشتغالاً، وأجدر لأن يُتبع من هذه الدراسة - وغيرها كثير - لحقل التعليم، غاية ما تجرى إليه كشف ما يوارى في إنتاج المعرفة واستقصاء ما يُسر من أسباب ما تستتب به المعرفة. اعتقد في حقيقة الأمر أن فضاء العلم مهدد اليوم بتراجع رهيب. إن الاستقلالية التي كان العلم قد اكتسبها شيئاً فشيئاً في مواجهة السلط الدينية والسياسية أو حتى الاقتصادية وجزئياً على الأقل في مواجهة بيروقراطيات الدولة التي كانت تؤمن الشروط الدنيا لاستقلاله، إنما أنهكت كثيراً. فالإوليات الاجتماعية التي تشكلت كلما تأكدت مثل منطق المنافسة بين الأتراب، على شفا أن تلفي نفسها في خدمة أغراض مفروضة من الخارج. فالخضوع للمصالح الاقتصادية واغراءات الإعلام تهدد بأن تتضافر مع الانتقادات الخارجية والاغتيابات الداخلية بعض الهذيانات ما بعد الحداثية آخر تجلياتها كي تقوض الثقة في العلم وبصورة خاصة في العلوم الاجتماعية. باختصار نقول إن العلم في خطر ومن ثمة تصير خطراً(53).
هلا لنا إن ننزل هذا الكتاب في سياق دفاع عن الحداثة. يعسر علينا إن نستوفي شروط إجابة قاطعة. فكل خطاب بورديو يحمل من عوامل الشيء وضده، ولو كنا أقرب إلى القول بالإيجاب توكلاً على موقفه وموقعه من سيرورة وصيرورة السوسيولوجيا.
معلوم أن السوسيولوجيا نشأت في سياق الحداثة الغربية توفيقاً بين النظام والوعي النسق والفاعل العالم الموضوعي والعالم الذاتي وسعت إلى حفظ المسافة بينهما، وهي مسافة تضيق اتساع
الهوامش:
(53) Bourdieu, Science de la science et réflexivité: Cours du Collège de France, 2000-2001, pp. 5-6.
الصفحة 24
المسافة عن جوهر الحداثة ودونما دخول في التفاصيل، يمكن القول إن السوسيولوجيا استثمرت حركة الحداثة لتطرح على نفسها مهمة توطين الإنسان في المجتمع وأرضنته كياناً منتجاً للمعرفة عن ذاته. فارتبطت نشأتها بخلق المجتمع طبيعة ثانية للإنسان. بين السوسيولوجيا والمجتمع إذاً علاقة حيوية كل يسوع للآخر وجوده.
خلق المجتمع هو لب الحداثة بما هوَ نظام وفردنة، اشتغال وتغيّر، لذلك ارتهنت السوسيولوجيا بها وتماهت وهي التي طرحت نفسها أجوبة عن أسئلة التقدم والزمن الآت. الحاجة كانت في تأكيد الإنسان وتوطينه كياناً للمعرفة عن ذاته متحكماً في مصيره(54) وفي معارفه حتى لكأن قدرته على التفكير أضحت تساوي حداثته. وإلا يكون ذلك كذلك تنتكص أن تتقلص المسافة بين الفرد والنظام حتى التوحد وأن تتناءى حتى التعلق ألا يخبر أحدهما عن الآخر ويصير كل في ناموسه يسبح.
إن أحقية الإنسان بالمراجعة المزمنة لممارساته وتقدر ذلك عليه إنما هو ضمانة للحداثة ألا تزيغ إنها تفرض تفكيراً حول التفكير عينه(55)
و ليس من الإطراء في شيء أن نقول إن بورديو ذهب بكتابه هذا وآخرون يوم كتب عن نسق التعليم أبعد من السوسيولوجيين السلاف أن استبدل في المعرفة، الذي هو استفكاري (Reflexive) بالذي هو ترانسندنتالي ليس لكون الاستفكارية تقوم من الحداثة -
الهوامش:
(54) Michel Foucault, Les Mots et les choses; une archéologie des sciences humaines, bibliothèque des sciences humaines ([Paris]: Gallimard, 1996).
(55) Anthony Giddens, Les Conséquences de la modernité, trad. de l'anglais par Olivier Meyer, théorie sociale contemporaine (Paris: Ed. l'Harmattan, 1994), p. 45.
الصفحة 25
هوية الإنسان الجديد - مقام الاس والجوهر فحسب، إنما لكون الإنسان استفكاري بجبلته - على جهة أنه منتج للدلالة التي تُؤول في الممارسات الاجتماعية وتتأوّل بها - وعليه فإن الذي يدرس الممارسات تلك استفكاري بجبلته وأيضاً لكونه منخرط بعمق ليس في المراجعة المزمنة للممارسات الاجتماعية على ضوء ما استقر من معرفة أنتجتها بهذه الممارسات فقط، بل أيضاً لكونه يعيد صياغة هذه الممارسات أيان يدمج خطابه العلمي بما هوَ ممارسة اجتماعية أيضاً في السياقات الاجتماعية التي يحللها. كذلك هي السوسيولوجيا حمالة لهوية هر منيطقية مضاعفة تُؤوّل الممارسات - العلمية منها -التي تؤول بعضها بعضاً - فتتأوّل بها وتؤوّلها لئلا يكون على العلم ظهيراً من خارجه (المال والإعلام والسياسة) لا يبقي مكسباً أتاه ولا يذر.
كذلك هي السوسيولوجيا تصنع العالم الاجتماعي الذي يُصنع بها فتسهم في عدم استقرار موضوعها : الممارسة الاجتماعية (Pratique sociale) وعدم استقرارها هي على هذا المعنى يجب أن تفهم استفكارية بورديو ودعوته إلى حفظ المعرفة واستبقاء استقلاليتها. فيها تخوف من انهيار الحكايات الكبرى على حد قول ليوتار وتخوّف على علمية العلم من أجل ذلك كان بورديو يدافع دوماً عن أن الاستفكار، سوسيولوجياً، في المعرفة فتخضع للتحليل الذاتي، يزد في علميتها ولا تضرها بشيء.
وإن من سبيل إلى ذلك فهو إدراج الريبية في الحقيقة وإسكان النسبية في الإطلاقية ريبية لا يلزم عنها ضرب من الإقرار بانعدام اليقين، إنما يلزم عنها استحالة الموضوعية. فلا ضير في اليقين ما دام صورة للوعي بما يحايث الوعي. أما الموضوعية ففيها كل الحرج يوم تخص الوعي به خارج الوعي فيصير الوعي به حقيقة مطلقة.
الصفحة 26
هكذا ليست الاستفكارية بهذا المعنى غير مناسبة تترى تستذكر فيها الحداثة لتسترد فيها أنفاسها وهي متعبة بانجازاتها حد النهاكة وليس أبلغ من هذه الكلالة من تلك التي تصيب من رأس الحداثة، نسق التعليم.
3 - الاستفكارية قبالة الاعتباطية
إن أمقت ما كان بورديو يمقته، أشباه العلماء: الصحافيون السياسيون المقاولون إذا دخلوا حقل الفكر جعلوا أعزته أراذله وأراذله أعزة مفكريه. لكن أنى لنا والسقم بعضه، بل قل كثيره جواني أن يظل المثقف مثقفاً ؟ ومن المثقف من المثقفين، وهم نفير. دع عنا، ابتغاء الإجابة أشباه المثقفين ممن أحصاهم بورديو، ليسوا من الحقل الفكري في شيء إلا التطفل حسداً من عند أنفسهم. الحق إنا لا نتهيأ على تعريف فيما خطه بورديو للمثقف. لقد بدا له أن كل تعريف استنقاص له وأنه يقضي برؤية ماهوية للمثقف ما أنزل الله بها من سلطان. أفليس من أزمة المثقف أن أوثق نفسه بتعريف يرضاه. ثم أفليس كل تعريف موقف يتوكل على منزلة من الفضاء الاجتماعي بأمر ذلك هو باطل. لا غرو إذاً ونحن نبسط بعض قوام سوسيولوجيته ألا نعثر على تعريف للمثقف على جهة الهوية الماهوية. يذهب بورديو في شأن هذا ما ذهب إليه الأسبقون: دوركايم (56)
الهوامش:
(56) إنما الكتاب و العلماء مواطنون من البديهي إذاً أن تكون لهم المساهمة في الحياة العامة واجباً صارماً. يظل أنه يتعين في أي شكل وفي أي حدود. . علينا قبل كل شيء أن نكون نضاحاً مرتين. لقد جعلنا كي نشد من أزر معاصرينا حتى يهتدوا إلى أنفسهم في أفكارهم و شعورهم أكثر مما هو كي نسوسهم. إنه في حال الجلبة الفكرية التي فيها نحيي أي دور نافع نؤديه أكثر من هذا الدور. انظر:
Emile Durkheim, "L'Elite intellectuelle et la : démocratie" dans Emile Durkheim, L'Individualisme et les intellectuels, postf. par Sophie Jankélévitch; couv. de Olivier Fontvieille, mille et nuits; 376 ([Paris]: Ed. Mille et une nuits, 2002), p. 41.
الصفحة 27
وفيبر، مع تباين في الكيفية. فإذا كان ما يجمعهم اعتبار المثقف ذا خاصيتين : المعرفة والفعل على سبيل أن واو العطف ليست من قبيل الجمع بين المتنافرين إنما من قبيل الفصل صورياً للشيء ذاته، فإن ما فرق بينهم هو العلاقة بين المعرفة والفعل ذلك أنه إذا ما كانت المعرفة دون سواها كانت الترانسندنتالية وكفى. وإذا ما كان الفعل منفرداً كانت السياسة المتسيسة. وهل طالب بورديو المثقف بغير العمل بهما ؟
لقد جاء في نعيه لميشال فوكو صدر بجريدة لوموند (Le) Monde بتاريخ 27 حزيران/ يونيو 1984 أنه ما من أحد توفق أفضل توفيق في المصالحة بين الكفاءة الأكاديمية والانخراط السياسي أفضل مما توفق إليه فوكو لكونه لم يدع الكونية ولكونه أحسن صنعاً أن جعل فكره مناضلاً»، ولكونه زاوج بين الحكم الأخلاقي والحكم على الأخلاق ولم يحمل في ذلك لبساً، كان فوكو أقرب إلى فؤاد بورديو من سواه (57).
و إذا كان ذلك كذلك بالنسبة إلى فوكو، فإنّ سارتر يمثل الوجه المظلم للمثقف. لقد مثل سارتر المثال الأكثر دلالة على استلاب المثقف هذا الاستلاب نسبة إلى بورديو لم يكن من فرط فقدانه
الهوامش:
(57) Pierre Bourdieu, Interventions, 1961-2001: Science sociale and action politique, textes choisis et présentés par Franck Poupeau et Thierry Discepolo, contre-feux ([Marseille]: Agone; [Montréal]: Comeau et Nadeau, 2002), pp.178-181.
وإن عدنا الى الأس الذي يقرب الرجلين بعضهما من بعض لوجدناه مفهوم الحقل باعتباره فضاء الإمكانات الاستراتجية. قوام هذا الفضاء انه بنية» مقعدة من الاختلافات والانتشارات بداخلها يتجدد كل أثر فريد من ذلك يتحدد المثقف عوداً إلى ذلك الفضاء وبه حيث تعشش علاقات السلطة وحيث تتحدد حرية المثقف انظر:
Bourdieu, Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, pp. 326-327.
الصفحة 28
وعي العالم، إنما من فرط ادعائه وعيه به هذا الوعي الأقصى الذي حمله سارتر أفقد المثقف عموماً وأفقده هو بصيرته فكانت عمياء أمام شروط تحققها الاجتماعي والتاريخي. لقد تبرم سارتر من شرط وجود الذات لكي يطرح سؤال وجود يدرك وعياً ومن دون وسائط (58).
لكن بورديو لا يُصدر هذا التصنيف جزافاً، فللموقف أس إبيستمولوجي تحول سوسيولوجياً.
لنعد الى البدء مع دوركايم وفيبر. فأما دوركايم فقد كان مهموماً بتصليد السوسيولوجيا أسوة بما سبقها من العلوم، ففصل بين الذاتي والموضوعي وجعل بينهما برزخاً قواعد المنهج، لا يبغيان. لذلك أتى خطابه عن المجتمع في ظاهره خطابين أحدهما نظري صرف (تقسيم العمل، الانتحار العائلة المدرسة. .) والآخر سياسي أيديولوجي الدولة الاشتراكية، التجمعات الحرفية. .) وفي باطنه خطاب حمال المعقولية واحدة تقضي بأجرأة الخطاب العلمي من خلال التحكم في مختلف العلاقات بين الوقائع الاجتماعية والنواميس المشغلة للأنساق الاجتماعية. ثمة صبو إلى خلق سلطة على المجتمع باعتباره نسقاً عيانياً يختبىء وراء توظيف علم الاجتماع». وإذ يجنح بورديو إلى دوركايم على جهة ضرورة الفعل، فإنه ينأى عنه على جهة أنه ينصب نفسه مصلحاً للمجتمع وموجهاً له وهو اعتقاد يستدعى مغالطتين الوعي المطلق وسلطة التغيير. وفي حقيقة الأمر لا هذا ولا ذاك هما له يتسنيان. وأما فيبر، وإذ نادى بالحياد الاكسيولوجي على غرار دوركايم وجعل بين العالم والسياسي
الهوامش:
(58) المصدر نفسه، ص 308-314، ولقد رمى بورديو هابرماس وهايدغر بالجهالة» Pierre Bourdieu, L'Ontologie politique de 348-347ذاتها. انظر: المصدر نفسه، ص Martin Heidegger, Le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1988).
الصفحة 29
حجاباً، قدم علم الاجتماع خطاباً عن الفعل الاجتماعي. هو خطاب علمي تفهمي للمعيش الاجتماعي للفاعلين تفهمياً لأنه يطرح نفسه فعلاً على الفعل. هكذا هي سوسيولوجيا فيبر تقترح نفسها تمثلاً علمياً موضوعياً للفعل موسطة قدرة السوسيولوجي على الفهم، فيخفي تحكم السوسيولوجي في الاجتماعي ورغبة في الرقابة عبر قدرته على التفهم والعقلنة من أجل ذاك يعتبر بورديو أن الموضوعية الاكسيولوجية كذبة المثقفين وأن ادعاءهم الكونية إخفاء لما هو من أجل الذات (pour soi) في ما هو في الذات (en soi) فيخرج للناس نبياً يحجب السلطة التي تجعله من وراء إدعائه الكلية والكونية مصطفى.
بهذا التفويض تمنح الكونية للمثقف إمكان تغشية حقيقته الاجتماعية والتاريخية حين ينير ما حوله دون أن يُنار، وفي ذلك إضعاف لموقف المثقف وتقزيم لدوره الحقيقي، ذلك أنه يمتاز بخاصيتين : الأولى نفوذ خاص يمنحه عالم فكري مستقل عن السلط دينية - إعلامية - سياسية - اقتصادية). والثانية توظيف هذا النفوذ الخاص في الصراعات السياسية. وليس بين الخاصيتين تناقض أو تنافر. فما يدعو إلى القبول بإمكان تعايش الفكري والسياسي أنه إذا كان المشروع الفكري لبورديو تعرية إواليات الهيمنة وهو ما يمنحإمكانات الهيمنة على الهيمنة، فإنه من اليسير قبول أنه سياسي. ثم إنه إذا كان معنى الانخراط السياسي كشف إواليات الحقل السياسي والمنزلة فيه والموقف من المواقف والمنازل فيه وتفسير تلك المواقف بما يحيلها إلى شروطها الاجتماعية والسياسية فالخير كل الخير في السياسة. أخيراً أليست كل كتابة فعل سياسي فيها المواقف والمصالح وإن أخفيت. لا حرج في السياسة إذا إن كانت فعل موضعة للذات وللآخرين. وإلا يكون ذلك تسقط في «الحدثية»
الصفحة 30
و«الآنية» وتخرج أنفسنا من فضاء اللازمنية (59).
اللازمنية براء من الترانسندنتالية، إنما ما عناه بورديو، وبشكل مفارق لغوياً، التاريخانية أي إرجاع للتاريخ وللمجتمع ما أعطيناه الترانسندنتالية ما أو لذات ترانسند نتالية (60). وإن لم يكن بالأوب هذا تقوم ذاتي مطلق، فإنّ به تمكن من التشيؤ على معنى الوعي به.
4 - نبوءة التشيؤ ذاتية التحقق (prophetie auto réalisatrice)
هناك إحلال عند بورديو للتشيؤ محل المحور الذي تحوم في فلکه نظريته برمتها، تعقبه في كل ما كتبه. ولعل لب هذا الكتاب إعادة الإنتاج، فضح للتشيؤ الذي ينخر التعليم ويقوم مقام الناموس الذي يسوسه. لقد أتى بورديو التشيؤ من حيث هو ظاهرة كلانية وكأن العالم المشيأ هو الوحيد الممكن الدعوة هنا إذا إلى فضح آلياتها التي يرسمها بورديو في وعي السحر وإغراء شيطان الجهل بالسلطة». نقد كهذا يقف على خلفية تفعيل السياسي واستعراض للنقد تبدو مدرسة فرنكفورت النقدية حاضرة بقوة في نصوص بورديو ما يستحضرها هو استشكال التشيؤ وإعمال الفكر فيه. ويعترف بورديو صراحة بقربه منها على الرغم من اختلافه معها لارستقراطية تحاليلها وظهر مفكريها لبعدهم عن الميدان أن ترفعوا عن المجتمع. هذه القراءة النقدية على غرار كامل الإرث الماركسي استعادت مفهوم الفيتشية (61) (Fetichisme). لكن الفضل في صياغتها
الهوامش:
(59)Pierre Bourdieu, Réponses: Pour une anthropologie réflexive, avec [la présentation, les notes et la bibliographie de] Loïc J. D. Wacquant, libre examen Politique (Paris: Seuil, 1992), p. 156.
(60)Bourdieu, Méditations pascaliennes, p. 37.
(61) معضلة التشيؤ قديمة في السوسيولوجيا، نظر إليها كل من ماركس وفيبر وزيمل ونحوهم على أنها سمة رئيسة للمجتمعات الحديثة أو لنقل للحداثة. أما حديثاً فدارسوها كثر، تذكر لوفيفر وغولدمان ولوكاش وأدرنو ونحوهم.
الصفحة 31
في نظرية سوسيولوجية متجانسة إنما يؤوب الى بورديو.
بالنسبة إلى بورديو التشيؤ (La Reification) هو شرط السلطة في المجتمع. وإذا كانت علاقات الاجتماع علاقات سلطة فإن القول بهذا يسوق إلى القول إن التشيؤ، وعلى نحو مفارق، ليس حادثة تاريخية وكذلك ذهب ماركس ومن لف لفه، إنما هو حقيقة المجتمع إذ لا عاصم لمجتمع منه. إنه تاريخه وليس تأريخه. لهذا امتد تعريفه للسلطة ليتسع إلى وجهيها المادي وكذلك الرمزي، وهو العمري السلطة كلها، ليمس كل المجالات التعليم، المثقف السياسة، الدين. . وليمس رأس الوجود الاجتماعي الوعي (62)، وإلى ذلك صبا غولدمان من قبل.
إن انحاز بورديو إلى ماركس فقد انحاز أيضاً في هذا الموضع تحديداً إلى فيبر الذي قال إن الشرعية إنما هي شرعية الرمز وليست شرعية القوة. إلى هذا وذاك أضاف بورديو الاعتباط الذي يقضي بأن تتخفى السلطة على أنها كذلك فتعرض نفسها على أنها غير ذلك. وإن فعلت على هيئة ذلك فإنّها تعرض نفسها على جهة أنها الطبيعة كلها. وفي كلتا الحالين فإن شروط إنتاجها الاجتماعية والتاريخية وديمومتها، على معنى إعادة إنتاجها، هي ما يواريها الاعتباط التشيو.
بهذا المعنى لا يتهيأ للتعليم بأسناده مؤسسات وأساتذة أن يفرضوا ثقافة اعتباطية هي نتاج علاقات قوى قدمت على أنها ثقافة
الهوامش:
(62) لوسيان غولدمان أعطى للتسيق التعريف التالي : إن ما نعنيه بمقولة التشيؤ هو ظهور سيرورات اقتصادية في الحياة الاجتماعية بما هي ظواهر مستقلة ومن ثمة تحديداً كمية خالصة. انظر:
Lucien Goldmann, Recherches dialectiques Paris: Gallimard, 1959 : p. 86.
الصفحة 32
كونية بريئة إلا بتوسط سلطة اعتباطية أي سلطة رمزية معلقة عن شروط إنتاجها الاجتماعية أو بالأحرى علقت شروطها في الوعي.
كل مؤسسات إنتاج المثقفين وكثيرين منهم أفرغ عليهم هذا الاعتباط وألزمهم، فمنهم من يعيد إنتاجه ألا يعيه وهم جُل، ومنهم من يعيد إنتاجه تميزاً ظاناً أنه يزداد من السلطة الرمزية كيل بعير»، ومنهم من سعى سعيه إلى فضحه وما بدل تبديلاً.
ونحن لا نماري في ما بذله بورديو من جهد وما لقيه من نصب وأذى. ولكن أنى لنا بمقاس ما أتى به من سعي للحد من غلواء التشيؤ في وعي الناس أن نعلم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من التشيؤ. وأين تقف درجة التشيؤ التي تجعل صاحبها يقتفي أثرها ويعالجها معالجته للداء تلك أسئلة لا ندعي فقه إجاباتها.
5 - في معنى إعادة الإنتاج
تمثل المقاربة النسقية التي اعتمدها بورديو في نظريته تجاوزاً للتحليل البنيوي والوظيفي (63)، ليبني على أنقاض ما تحطم بفعل نقده له، نظرية الإنشاء الذاتي للنسبق (64).
الهوامش:
(63) انظر نقد بورديو للتحليل البنيوي الماركسي للتعليم وللمقاربة الوظيفية لدوركايم النسق التعليم المستقل، ص 342 - 348 من هذا الكتاب.
(64) تدرج هنا بعض رؤوس الكتابات في نظرية النسق ذاتي الإنشاء للتدليل على أن بورديو كان سباقاً إلى إنشائها من قبل أن تتشكل في مختلف المجالات التي فيها استعملت نظر:
Russell Lincoln Ackoff and Fred E. Emery, On Purposeful Systems (London: Tavistock Publications, 1972); Bela H. Banathy, Instructional Systems (Palo Alto, Calif.: Fearon Publishers, 1971); Peter Checkland, Systems Thinking, Systems Practice (Chichester [Sussex]; New York: J. Wiley, 1981); Jean Louis Le Moigne, La Théorie du système général. Théorie de la modélisation, systèmes-décisions: Section systèmes de gestion (Paris: Presses universitaires de France, 1977); Jacques Mélése, L'Analyse modulaire des systèmes de gestion; une méthode = efficace pour appliquer la théorie des systèmes au management ([Puteaux): Editions hommes et techniques, [1972]); James Grier Miller, Living Systems (New York: McGraw-Hill, 1978); Joël de Rosnay, Le Macroscope: Vers une vision globale (Paris: Seuil, [1975]); Claude Elwood Shannon, The Mathematical Theory of Communication (Urbana: University of Illinois Press, 1949); Herbert A. Simon, La Science des systèmes: Science de l'artificiel, traduction et postface de Jean-Louis Le Moigne (Paris: Epi, 1974); C. Atias et Jean Louis Le Moigne, coords, Echanges avec Edgar Morin: Science et conscience de la complexité, collection cheminements interdisciplinaires (Aix en Provence: Librairie de l'université, 1984); Ludwig von. Bertalanffy: General System Theory; Foundations, Development, Applications (New York: G. Braziller, 1968), and Théorie générale des systèmes: Physique, biologie, psychologie, sociologie, philosophie, traduit par Jean-Benoist Chabrol (Paris: Dunod, 1973); Charles West Churchman: The Systems Approach, Delta Book (New York: Dell Pub. Co, [1968]), and Qu'est-ce que l'analyse par les systèmes?, traduit de l'américain par B. et M. A. Leblanc, Dunod entreprise. Série organisation et direction (Paris; Bruxelles; Montréal: Dunod, 1974), et Edgar Morin: La Nature de la nature, la méthode; t. 1 (Paris: Seuil, 1977), et La Vie de la vie, la méthode; t. 2 (Paris: Seuil, 1980
الصفحة 33
نظرية الإنشاء الذاتي فيها انزياح عن تبني النسق المفتوح على المحيط يرتق معه علاقات معقدة فيصير ويستحيل ويتحدد بفعل ما اخترقه من تأثير للمحيط ينال أحد مستوياته أو بعضها. حكمة النسق حينها تكمن في قدرته على التكيف والتلاؤم مع الشروط الخارجية فيكون وقعها أن تستبدل سيروراته الداخلية ويترجم ذلك في ما سمي في النظرية النسقية بالتغاير النسقي يدعم التفرقة بين النسق والمحيط من دون أن يقضم ذلك «التحالف» الحيوي بينهما بوصفهما فضائين بينهما عُروة لا انفصام لها ومجال حيوي لا استغناء عنه.
الشبهة مع نظرية النسق المغلق تنقيتها أكثر عسراً. إذ بينهما شراكة في سياق تعظيم انغلاق النسق حول نفسه يعيد إنتاج نفسه
الصفحة 34
إبقاء الحيويته وحفاظاً على بقائه. بيد أنه من الزيغ النظري أن نطابق بينهما حتى وإن كان في نظرية الإنشاء الذاتي دعوة للعودة إلى التبصر في حدود النسق الموصد.
النسق في نظرية الإنشاء الذاتي مغلق حدود هويته النسقية تكمن في مرجعية ذاتية إلى سيروراته الداخلية يستعيض عن المحيط في ما يفيد خطوطه الدالة على عملياته لكي ينتجها من ذاته. ولكن دون أن يفيد هذا القول قطيعة مع المحيط باعتباره محدداً للبقاء. فالنسق ذاتي الإنشاء مستقل عن المحيط ولا يعدمه، هو مفتوح عليه لكونه مكتفياً ذاتياً في إنتاجه ومن ثمة بقائه.
تصير العلاقة بالمحيط ها هنا ثانوية في تحديد هوية النسق. ففي مثل هذا الاشتغال ذاتي التنظيم لا يقدر النسق على ضمان اشتغاله وإعادة إنتاجه إلا من خلال عود دائم إلى الذات لضمان إنتاج الكامل عناصره ويناه وسيروراته وحدوده ووحدته وإعادة إنتاجها وذلك عبر عمليات دائرية.
لا يملي المحيط على النسق مرجعية لهذه الحركة الداخلية ولا يمثل مصدراً لها ضرورة، ذلك أن استقلالية النسق (Autonomie). تقوم على إنتاج ذاتي دائري وليس على لا تبعية (Indépendance) للمحيط. إن النسق ذاته ما يمثل مصدر هذا الاشتغال والمرجع الذي به يحدد ذاته وهو معنى إعادة الترجمة (65) التي للنسق. تهدف إعادة الترجمة إلى إنتاج ذاتي للنسق عبر حذقه السيرورات الداخلية ومراقبتها. إنه نسق ذكي يعلو الأنساق المغلقة والأنساق المفتوحة على حد سواء، له قدرة استفكارية بمعنى العودة الدائمة إلى اشتغاله
الهوامش:
(65) Bourdicu et Passeron, La Reproduction, éléments pour une théorie du système d'enseignement, p. 104.
الصفحة 35
معتمداً خزان المعلومات الذي يحفظه.
يبدو النسق في هذا التعريف مسيطراً على مستوياته الداخلية وأنساقة الفرعية فيكون محصنا لا يأتيه التأثير من المحيط ولا التغيير إلا بقدر ما تمليه عليه سيروراته الداخلية. وهذه الاستقلالية حيوية للنسق وإلا أضحى تابعاً للمحيط. فبقاؤه يحفظه بالقطيعة» معه. وإن كان غير ذلك يصير استمراره وبقاؤه تابعين لسلطة المحيط عليه ولحدثيته والظرفيات التي يحياها النسق.
المرجعية الذاتية التي لنسق التعليم والتي تمثل إعادة الترجمة وإعادة التأويل إواليتين لها غير الإنشاء الذاتي الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني يفترض الانتقال من الرمزي إلى الممارسة. يستتبع ذلك انتقال من درجة نمو للنسق إلى درجة أرقى وأعقد. حينها يضحى الحديث ليس عن نسق رمزي إنما عن نسق الفعل.
نرى في هذا الأثر كيف يفصل بورديو هذا الانتقال أيان تعيد الثقافة المهيمنة التي يمأسسها نسق التعليم إنتاج نفسها عبر الأفعال البيداغوجية وعبر الهابتوس
إعادة التأويل باعتبارها أحد أنماط المرجعيات الذاتية هي كفاءة النسق على القيام واقعياً بالوصل (Jonction) بين عناصره واستخلاص من ثمة ترابطاً لعمليات له خصوصية. ولا يعني هذا تكراراً بسيطاً للعمليات بل على النقيض إذ هو يعني إعادة تشكيل العمليات داخل النسق باعتباره معلومة خاصة به على هذا النحو لا يفهم ربو نسبة التمدرس والتغيرات في تراتبية التخصصات داخل المدرسة وتراتبية المؤسسات وتبدل شروط الدخول إلى هذا وذاك إلا باعتبارها معلومات داخلية لنسق التعليم بحسب منطقه الجواني بحيث ليس لها
الصفحة 36
من معنى إلا صلب اشتغال النسق الذي يقوم على الإقصاء والإصطفاء.
وترتقي إعادة التأويل إلى الدورة القصوى (Hypercycle) متی تستطيع تصليب النظام داخل النسق وتتحوّل إلى قيمة بنيوية فيه وهو ما يعبر عنه بورديو بـ «التأبيد الذاتي» حيث ينتج نسق التعليم معيدي إنتاجه الذين يعيدون إنتاجه (66) وحيث يدفع بمن لا يتوفر لديهم الوفاء لقيم النسق إلى الإقصاء الذاتي عاجلاً أم آجلاً.
هكذا يمارس الحقل المدرسي مرجعية ذاتية حين لا ينتج الممارسات مباشرة والقواعد التي يتحرك الناس وفقها إنما حين يبنين العمليات التي تجعل ذلك ممكناً. فمنطق الحقل (67) هو نتيجة لإعادة التأويل الذاتي تلك والتي تفرز صلبه الممارسات في حدود بنيته وقواعد اشتغاله.
التعديل الذاتي (68) مثلاً للتواصل البيداغوجي أو لنمط البيداغوجيا ومستوياتها هو الوجه الحركي للإنتاج الذاتي. فإذا كان النسق قادراً على تشييد بنى مخصة به وحفظها، فإنه أضحى معدلاً ذاتياً بمعنى أن له القدرة على تعديل البني النسقية إذا ما أملت عليه إعادة الترجمة وإعادة التأويل ذلك.
إننا إزاء ظاهرة تعديل ذاتي للنسق أيان يصوغ معايير تحديد هويته وإجراءات تحوّله بمعزل عن المحيط الذي يشتغل فيه. وإذا لا ينتمي النسق إلى محيط، فلأنه مستقل عنه، يستطيع الحقل أن يشتغل في محيط آخر غير ذلك الذي نشأ بداية فيه أو ذاك الذي اعتاد»
الهوامش:
(66) المصدر نفسه، ص76.
(67) المصدر نفسه، ص127.
(68) المصدر نفسه، ص114.
الصفحة 37
الاشتغال فيه بخاصة عندما تتبدل مورفولوجيته (69).
ما يعطيه هذه السلطة على ذاته هو قدرته على الإنتاج الذاتي ما كان المقصود يوماً القطيعة مع المحيط، ذلك أننا إذا اكتفينا بأن النسق ينتج ذاته بذاته فإن الشكوك حول جبلته الاجتماعية تتكاثر وتبقي النسق في علياء نظام ما فوق اجتماعي بلى، للنسق علاقات بالمحيط بيد أنه يجب النظر إليها من زاوية مختلفة.
أثر المحيط في النسق ثابت. بل إن النسق ينهل من المحيط لكن دونما استكانة منه له، إذ يعود إليه القول الفصل في تحديد كيفية استثمار تلك الربط واسترجاعها لفائدة استقلاله عن المحيط.
للمحيط على النسق أَخْذُ ما يلقاه من جنسه يُصلّد به هويته التي قيد التشكل أو التي تشكلت فيختص بما في المحيط من تدفقات (Flux) ويذر تلك التي لم تستجب لمكوّناته. لا يكتسي المحيط هنا سوى دور ثانوي في إنتاج النسق، إذ العوامل المسببة في عملية الإنتاج داخلية للنسق وخارجية أيضاً. في كل الحالات من وجهة نظر نظرية النسق ذاتي الإنشاء، إن العلاقة بالمحيط ليست معطى حاسماً بما هي أحد مقومات النسق.
إن السمة الأساسية والإضافة الحيوية للنسق ذاتي الإنشاء إنما تتمثل في تنظيمه التدفقات البرانية داخل أسسه «المادية» والمعلوماتية وصياغة وحدات نسقية جديدة للاستعمال وربط بعضها مع بعض ومع ما سلفها من وحدات ذاك هو تاريخ النسق باعتباره تاريخ نسقنة الإكراهات والتجديدات التي يلقاها وفق المعايير التي تحدده بما هوَ نسقاً (70). هكذا ينتج النسق ذاته بذاته بأن
الهوامش:
(69) المصدر نفسه، ص122
(70) المصدر نفسه، ص185
الصفحة 38
يختص من العالم الخارجي التدفقات الحدثية لتشكل بناه الداخلية الجديدة والتي يستعملها لكي ييبس هويته النسقية بأن يوثقها بالبنى التي يتكوّن منها وهو معنى إعادة الترجمة أي أن يبدل منطقها منطقه الجواني. فالمدرسة قادرة على أن تخضع الطلبات الخارجية لإعادة ترجمة على نحو منهجي لكونها مطابقة للمبادئ التي تحددها باعتبارها نسقاً (71).
(Flux événementiels)
يمثل مفهوم الحقل المدرسي هنا مثالاً بليغاً لما بلغه، بما هوَ نسق ذاتي الإنتاج وإعادة الإنتاج من قدرة على إنتاج ممارسات بيداغوجية تولد في كل مرة ممارسات بيداغوجية أخرى تتكلس داخل الحقل لتصبح جزءا من بنيته القارة وتصبح أيضاً لها القدرة على استباق الممارسات القادمة وتحديدها بمعزل عما يكون مصدرها وأثر المحيط فيها.
الهوامش:
(71) المصدر نفسه، ص 174 يذهب هو مبرتو ماتورانا في تعريف النسق ذاتي الإنشاء
إلى أنه يجب العودة فقط إلى العمليات الدائرية والتي تعيد إنتاج العناصر ذاتياً كي نفسر آليات اشتغال النسق من هنا يفتقد النسق لاستراتيجية معالجة المعلومات التي تأتيه من خارجه بغية توجيه سلوكه أو التكيف طبقاً للمعطيات التي يفرضها المحيط. إن ما يوجد داخل النسق هو روابط داخلية لامتناهية وكثيفة. انظر:
Humberto R. Maturana et Jorge Mpodozis, De l'origine des espèces par voie de la dérive naturelle: La Diversification des lignées à travers la conservation et le changement des phenotypes ontogéniques, texte trad. de l'espagnol par Louis Vasquez et Paul Castella; augm. d'une interview de J. Mpodozis et J. C. Letelier (Lyon: Presses universitaires de Lyon, 1999).
أما نيكلاس لوهمان فإنّه يمزج بين العمليات الصلدة الإنتاج الذاتي والمرئة (التوصيف الذاتي) لتفسير الإنشاء الذاتي. أما الوظيفة الخصوصية للتوصيف الذاتي فهي تفضيل قدرة عمليات خاصة على الترابط مع عمليات أخرى وذلك عبر تعريف العمليات المنتمية للنسق وتحديدها. تبعة ذلك أن التوصيف الذاتي هو ما يجعل ثمة تمييزاً داخل النسق بين نسق ومحيط ومن ثمة يدعم آليات التعديل الذاتي وإعادة الإنتاج الذاتي. انظر : Niklas Luhmann, Social Systems, Translated by John Bednarz, Jr., with Dirk Baecker; Foreword by Eva M. Knodt, Writing Science (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1995),
p. 158.
الصفحة 39
إن قانون اشتغال الحقل هو بوجه من وجوهه ما يجعل الممارسات باعتبارها وحدات للنسق تُنتج ذاتياً بالرجوع إلى الحقل أي إلى الوحدات التي سلفت بهذا المعنى يتحدث بورديو عن الممارسات التكنوقراطية التقنية داخل النسق - الحقل والتي لا تأخذ لها مرجعية أساسية في آخر المطاف غير منطق الحقل المدرسي ذاته. وإن كانت لها ربط بحقول أخرى بما هي محيط آخر (72).
أما حقل السلطة فيمثل ذاك الحقل الذي علا كل الحقول لأن إنشاءه الذاتي يحدد الإنشاءات الذاتية لكل الحقول الفرعية الأخرى. إنه المنطق الذي يعلو كل الحقول ويسكنها أيضاً. .
لا يفترض تنسيب الاستقلالية انفتاحاً على المحيط بما هوَ مصدر تبدل للنسق، إنما يحتمل مبدأ تداخل الأنساق ذاتية الإنشاء بعضها في بعض حقل السلطة هنا أحدها رسم ماتورانا (73) (Maturana) تداخلاً من درجة أولى وثانية وثالثة للأنساق ذاتية الإنشاء في بحوثه حول البنية التنظيمية ذات الخلايا المتعددة وقد ميّز بين حالات ثلاث هي:
- حال التزاوج (Couplage) البسيط بين أنساق ذاتية الإنشاء والذي يحفظ فيه كل نسق هويته ولا ينصهر مع الآخر في وحدة نسقية جديدة.
حال إنتاج وحدة نسقية جديدة ذاتية الإنشاء والتي فيها تتخلى الأنساق الفرعية عن هويتها.
حال طفوح نسق ذاتي الإنشاء من درجة عليا يُحدد نشاط
الهوامش:
(72) Bourdieu et Passeron, Ibid., pp. 212-213.
(73) Maturana et Mpodozis, Ibid.
الصفحة 40
الوحدات الذاتية الإنشاء الفرعية وطرق اشتغالها.
نلقى تباعاً مع بورديو، ضروباً من الحقول التي تربط بعضها مع بعض علاقات تداخل من دون أن يفقد كل منها حدوده وهويته التنظيمية حقل الرياضة وحقل السياسة (مثلاً) أو (حقل المدرسة وحقل الثقافة).
ومن الحقول أيضاً من انضوى تحت حقل جديد وتفككت. حدوده وتحلل من هويته، وتعتبر حقول العلوم التي ما زالت مثالاً لذلك أو حين ينصهر حقل الفن مثلاً في حقل الاستهلاك والإنتاج. ومن الحقول من علا الحقول كافة، ذاك هو شأن حقل السلطة أو ما يعبر عنه بورديو هنا بعلاقات السلطة.
أ - استقلالية الحقل - النسق
ما يثمنه بورديو في تعريفه للنسق التعليمي، هو المنطق الجواني (74) والذي هو بمثابة قانون اشتغاله بما هوَ إفراز العلاقات القوى المختلة داخله يسطر بها هويته النسقية. ولكنه أيضاً يمثل حدوداً للنسق يباعد بين نسق وآخر به يُعرف ويعرف من في النسق ذواتهم لكونهم اجتمعوا على رهان محدد وأنتجوا لأجله ضروباً من النشاط والسلوك محددة، ينعدم وجودها في حقول أخرى. إذ ليس بمقدورنا - يؤكد ذلك بورديو - دفع فيلسوف إلى حمل رهانات عالم جغرافيا (75). فلكل منطقه ولغته ومعنى فعله بحيث إن نقلنا واحداً منها إلى حقل آخر أفرغ من معناه ودلالته ورمزيته وأصيب بالعبثية.
لا تعدم استقلالية الحقل العلاقة بالمحيط أو التأثر بما يقذفه به من أحداث هي مثيرات ما هو محل تشديد، وكي نطال فهم هذه
الهوامش:
(74)Bourdieu et Passeron, Ibid., pp. 127, 159 et 202.
(75)Bourdieu, Questions de sociologie, p. 114.
الصفحة 41
الاستقلالية التي لنسق التعليم يتعين الوقوف على الحقل باعتباره نسقاً ذاتي الإنشاء حمال القدرة على ألا يتقبل من المحيط ما لا يريد، لكون شرط وجوده لا يستقيه منه. هذا أمر كرره بورديو في هذا الكتاب في تفسيره المنطق الجواني لنسق التعليم. يقول بورديو في ذلك متحدثاً عن العوامل المرئية الاقتصادية والديموغرافية والسياسية والتي تطرح على النسق المدرسي مسائل برانية عن منطقه أنها لا تستطيع له تأثيراً إلا طبقاً لمنطقه».
(77) للحقل ضروب علاقات بالمحيط بعضها يحكمه التجانس، ذاك حال العلاقة بين البيروقراطية ونسق التعليم. وبعضها، وفي ذلك الدلالة كلها للإنشائية الذاتية، يضحي نسق التعليم على محيطه ظهيراً ألا يتبع غير منطقه الجواني. يستعرض بورديو لذلك مشهدين. أما الأول فهو ما أسماه ( الأثر المعدل (78) لما يخضع النسق سيروراته الداخلية وإوالياته إلى سلطة هذا المنطق على هذا النحو مثلاً يملي النسق على عناصره اشتغالهم، كذلك هو أمر الامتحان (79)، أو أمر التواصل البيداغوجي وأشكاله أو مقاييس الاصطفاء والإقصاء فتلين المقاييس أو تشدّد (80). أما الثاني فهو القدرة التنميطية لنسق التعليم. هي قدرة تتجلى في أفضل ما تتجلى فيه يوم لا يعترف النسق للمحيط الخارجي من أثر غير ذاك الذي ينمطه النسق على أنه بيداغوجي على معنى أن يصيره أن يقرأه أثراً متقدّراً على منطقه
الهوامش:
(76)Bourdieu et Passeron, Ibid., p. 124.
(77) المصدر نفسه، ص 227 و236.
(78) المصدر نفسه، ص114.
(79) المصدر نفسه، ص170-169.
(80) انظر بالخصوص الإحالات في المصدر نفسه، ص 137 138 و 183.
الصفحة 42
الجواني. ذاك أمر من شأنه خالصاً فإنه ليس يستطيع أن يتأثر بعوارض التغيرات المورفولوجية وبعوارض التغيرات الاجتماعية كلها التي تكسوه، إلا إذا تشكلت تلك العوارض معضلات بيداغوجية، حتى لو كان يحرم على الأعوان أن يطرحوا على أنفسهم في صيغة بيداغوجية المعضلات البيداغوجية التي تطرح موضوعياً عليه (81).
إذا كانت صلاحية الأنساق المفتوحة تكسبها من تراكمات الصواب والخطأ عبر التجربة، فإن النسق ذاتي الإنشاء يصطنع الحدث لنفسه، يفك منه منطقه ويبتلعه في منطقه فقط. النمط صياغة يتملك بها نسق التعليم ناصية محيطه ويؤمن بها تجانس اشتغاله. ويتملك به أيضاً أسباب حلول استردادية لمعاني الممارسة الحالية من تاريخه المخص به (82) من ذلك إعادة الترجمة (83) وإعادة التأويل (84) و «القلب) (85). كلها إواليات تقضي على الاختلافات في تمشياتها إلى نسقنة العوارض بالتاريخ الذي تَنَسْقَن من جراء ما أفرغ على الإكراهات والتجديدات من نسقنة طبقاً للمعايير التي تحدد نسق التعليم بما هوَ نسق (86). فتصير التفاوت من مستوى اجتماعي إلى تفاوت من مستوى مدرسي (87).
هكذا للحقل سطوة على محيطه جراء تحصنه بسور منيع وليس السور على الرغم من صلادته وغيرته على حقله متكلساً منغلقاً بحيث
الهوامش:
(81) المصدر نفسه، ص127.
(82) المصدر نفسه، ص174.
(83) المصدر نفسه، ص176.
(84) المصدر نفسه، ص124.
(85) المصدر نفسه، ص124.
(86) المصدر نفسه، ص185.
(87) المصدر نفسه، ص192.
الصفحة 43
يضرب خناقاً على كل تغير قد يصيب الحقل من داخله. فالحدود مثلما رسمها بورديو ليست منطقة لفظ وطرد البراني في أي صورة كان عوناً أم رمزاً أم سلعة أم معلومة بقدر ما هي منطقة تبادل واصطفاء. الاستقلالية لا تُعدم التبعية على أن تفهم على أنها انفتاحعلى حقل السلطة بمعنى الحقل الاجتماعي العام (Macrocosme). هي تبعية أسماها بورديو تبعية الوظائف الخارجية» للوظائف الداخلية». ومهما كان من أمر التبعية هنا فإنّ الوظائف الخارجية هي مخصة بالنسق وليست من المحيط في شيء تحديداً وتنفيذاً، ثم إنه بحسب النسق طاعة قواعده المخصّة به حتى يطيع بالمناسبة ذاتها وزيادة على ذلك الضرورات الخارجية التي تحدّد وظيفته التي تقضي بشرعنة النظام القائم، أي حتى يؤدي بالتوازي وظيفته الاجتماعية التي تقضي بإعادة إنتاج العلاقات الطبقية أن يؤمن توريث رأس المال الثقافي توريثاً وراثياً، ووظيفته الأيديولوجية التي تقضي بتورية تلك الوظيفة أن يثبت وهم استقلاله المطلق» (88).
تقوم الشكلنة الامتحان الأعداد، نمط التلقين، نمط الاصطفاء، ونحوه، عبر الرموز التي يفرزها الحقل، بلعب دور في مراقبة حدود الحقل وتغيراته فتحفظه من الانكماش حد التصلب أو من التعاظم حد الانحلال، إذ للحقل بنية مورفولوجية لها وقع على بنيته الرمزية. ذلك أن هذا الترميز يسمح بمراقبة تحولات الحقل مورفولوجياً، أي في البنية المادية الذي يمثل وسيطاً من خلاله تؤثر
التغيرات الخارجية في علاقات القوى داخل الحقل مثل ارتفاع كثافة المنتمين للحقل. فالتوترات الكبرى تحدث فقط من طوفان القادمين الجدد، إذ بتأثير عددهم ونوعهم الاجتماعي يحملون أنماطاً من
الهوامش:
(88) المصدر نفسه، ص237
الصفحة 44
التجديد والابتكارات في السلع (89).
يبدو هنا حضور دوركايم بينا في تصوير آليات اشتغال الحقل، إلا أن بورديو يضيف أن مورفولوجية الحقل لا أثر لها إلا من خلال وسائط هي بمثابة أشكال خصوصية للحقل، أي بعد أن تكون قد تعرضت لإعادة هيكلة وصياغة ذات أهمية (90). ومعنى ذلك أن للحقل - باعتباره نسقاً - طاقة إدماجية لما يراه متجانساً مع خصوصياته الداخلية ولفظه لما يلقى فيه خطراً يهدد اشتغاله وتوازنه. هو توازن يلقاه في تطابق بين الحجم المادي المورفولوجي والكثافة الرمزية. وكلما كان الحقل مستقلاً قادراً على فرض منطقه المخص به والذي هو ليس سوى موضعة تاريخية في مؤسسات وإواليات (91) كلما أمن بقاءه وحفظ استمراره على هذا النحو نفهم الأثر المعدل» الذي للاصطفاء الأقصى صلب نسق التعليم لما تربو نسب التمدرس التي لشتى الطبقات الاجتماعية (92).
بمستطاعنا هنا تشبيه الحقل - النسق بحقل مغناطيسي أو حقل جاذبية، وكذلك فعل بورديو في تفسيره نسق التخصصات، يشتغل باعتباره مستوى وسيطاً لاستقرار النسق فيه نقطته الثابتة بها يمتص المعلومة اللازمة ومن حملها (الهابتوس) وفيها يخزنها، أو هو ينبذها نبذ البعير المعبد (93).
الهوامش:
(89)Bourdieu, Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, p370.
(90) المصدر نفسه، ص381.
(91) المصدر نفسه، ص381.
(92) Bourdieu et Passeron, Ibid., p. 114.
(93) المصدر نفسه، ص118.
الصفحة 45
ب - التجانس النسقي بدلاً من التوليد البنيوي
للتجانس - بحسب بورديو - مستويان، أحدهما داخل الحقل أي النسق بين فضاء الممارسات وفضاء المنازل؛ وثانيهما بين الحقول. وتتمثل خصوصية التجانسين هنا في أنهما يلتقيان ولا يلغي أحدهما الآخر. ذلك أن تجانس الحقل داخلياً ضمن حدوده هو علامة على استقلاله، وبالتالي مؤشر على قوة إدماجه لعناصره وضبطه لحدوده ومن ثمة اندماجه. إن حال علاقات الصراع والقوى رهينة استقلالية الحقل بصورة إجمالية أي بدرجة القيمة والعقوبات التي تفرض بها نفسها على مجمل المنتجين (94). محصلة ذلك أن استقلالية الحقل ترتبط بمدى ضعف تجانس الحقل مع الحقول الأخرى عامة.
لا تعني الاستقلالية أن ثمة هوة بين الحقول. فما كان من أمر الاستقلالية وهي في كل الحالات نسبية - مثلما يؤكد ذلك بورديو -هو أنها تمثل شرطاً لنشأة الحقل في الفضاء الاجتماعي وبقائه باعتباره حقلاً متميزاً بسلعه وأعوانه ورهاناته من دون أن يلغي ذلك حميمية انتقائية (95) (Affinite elective) بين الحقول والمنازل، وبين الها بتوسات وبين المنازل.
التجانس غير التطابق، وإن عنى هذا الأخير تجانساً حقيقياً (96). يعرف التجانس بأنه شرط وجود سمات متعادلة بنيوياً - ولا يعني ذاك
الهوامش:
(94)Bourdieu, Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, p355.
(95)Bourdieu, et Passeron, Ibid., p. 236.
(96)Bourdieu, Choses dites, p. 205.
الصفحة 46
أن تكون متماثلة - في مجموعات مختلفة (97). إنه حال علاقة اجتماعية تربط بين منازل لها الشروط الاجتماعية نفسها وأعوان يستوطنون هذه المنازل موسومين بالاستعدادات المتطابقة ذاتها مع منازلهم. نحصل في آخر الرسم على أعوان ينتمون إلى غير الحقل الذي ينتمون إليه بالفعل، عبر منزلتهم في الفضاء الاجتماعي العام وهو فضاء يقدمه بورديو على أنه مستقطب بين مهيمن ومهيمن عليه.
للتجانس مستويات متداخلة تفضي إلى تجانس عام يغلف كامل النسق الاجتماعي. فكل حقل يدلو بمنطقه الجواني الحمال الرهاناته وقواعده وتناقضاته لينتهي في آخر المطاف إلى الانصياع إلى منطق الحقل الاجتماعي العام أي حقل السلطة.
أول مستويات التجانس داخلي هو صلب حدود الحقل الواحد بين العون ومنزلته بمعنى بين الهابتوس والشروط الاجتماعية. بهذا المعنى نفهم التراتب المدرسي طبقاً لتراتب الها بتوسات أو بالأحرى تطابق التراتبية المدرسية مع تلك الاجتماعية كمال التجانس بين الها بتوس المدرسي والهابتوس العائلي.
المستوى الثاني للتجانس رأس في الحقل أيضاً، وهو يرتق الأعوان بعضهم ببعض بحسب منازلهم في بنية الحقل أو في البنية الاجتماعية. هكذا نفهم أيضاً توزيع الطلاب بين التخصصات وفق جملة المتغيرات التي تجعل لهم سمات ومنهم، شريحة متجانسة.
المستوى الثالث، وهو التجانس الذي يؤمنه تقاطع العرض والطلب في ذات الممارسة. هذا التناسق والتجاوق (Orchestration) الموضوعي على حد تعبير بورديو بين العرض والطلب، يسمح
الهوامش:
(97) المصدر نفسه، ص168.
الصفحة 47
لأكثر من محايثة بين منطقين لأفعال اجتماعية. فأما ما كان من إنتاج، فإن مشروعيته يمنحها إياه فضاء الأذواق المختلفة والتي تعزّر وجود سوق للإنتاج على اختلافه. وأما حقل الطلب، فإنه يجد تحققه في فضاء الإمكانات لما يعرضه كل حقل إنتاج من سلع، حقل الطلب، فيها راغب.
يكمن مبدأ التجانس وظيفياً في أن يستدعي كل حقل الآخر وتستبدل الحقول بعضها بعضاً، ويحدّد بعضها بعضاً أيضاً في شبه حقل تشكل من فرط تجانسها. هذا التجانس الذي يجعل منطقي حقلي الإنتاج والاستهلاك موضوعياً متناغمين لا شائبة بينهما. ثم يتمثل التجانس بنيوياً، بشكل خاص في أن كل الحقول تسعى إلى التنظم طبقاً لمنطق مشترك قوامه المفاضلة بحسب حجم رأس المال المملوك وبنيته حتى لكأن كل التناقضات التي تتأسس في كل حقل بين مالكي رؤوس الأموال ومعدميها، أو بين السائد والمسود، أو بين قدماء الحقل ومنتسبيه الجدد، أو بين الأصولية والبدعة، أو بين النظام والحراك، هي متجانسة في ما بينها ومتجانسة منازلها في كل حقل لكونها يشقها استقطاب أساسي بين مهيمن ومهيمن عليه. استقطاب يمتد ويسحب حتى داخل الطبقة المهيمنة حيث الشريحة المهيمنة والشريحة المهيمن عليها (98).
بهذه الشاكلة نقرأ أيضاً تجانس الحقلين التعليمي والسياسي وإن كان كل منهما للآخر نقيضاً. أو حقل اللغة وحقل المدرسة أو حقل المدرسة وحقل السلطة في عموميته في مستوى الاستهلاك يعتبر السلوك الاستهلاكي داخل الحقل هو نتاج لقاء بين تاريخين تاریخ حقول الإنتاج التي لها قوانينها الخاصة بالتغير، وتاريخ الفضاء
الهوامش:
(98)Pierre Bourdieu, La Distinction: Critique sociale du jugement, p. 257.
الصفحة 48
الاجتماعي في عموميته والذي يحدّد الأذواق بواسطة خصائص مسجلة في منزلة، وخصوصاً من خلال مشروطيات اجتماعية مرتبطة بشروط مادية للوجود الخاص في رتبة خاصة في البنية الاجتماعية. كذلك في مستوى الإنتاج، فإن ممارسات المؤلفين، بداية بمؤلفاتهم هي نتاج لقاء تاريخين: تاريخ إنتاج المنزلة المحتلة، وتاريخ إنتاج الاستعدادات التي للمحتلين وعلى الرغم من أن المنزلة تسهم في تحديد الاستعدادات، فإن هذه الأحياز - وفي حدود أنها بالتحديد نتاج شروط مستقلة خارجة عن الحقل ذاته - لها وجود وجدوى مستقلة وتقدر على المساهمة في صنع المواقع (99).
رابع مستويات التجانس هو ذاك الذي يجسر الحقل بحقل السلطة. وليس حقل السلطة بحقل السياسة. ذلك أنه إذا كان حقل السياسة من نمط الحقول المميزة، فإن حقل السلطة أكثر تخفياً لكونه مبثوثاً في كامل الحقول يخترقها في ذات الوقت الذي يجمعها. فلأنه مختلف عن الحقول الأخرى، يعتبر حقل السلطة فضاء علاقات القوة بين مختلف رؤوس الأموال، أو بشكل أكثر دقة بين مختلف الأعوان الذين تمكنوا في حقولهم وأصبحوا ظاهرين لما كسبوه من رساميل تثمنها وتعليها الحقول التي إليها ينتمون إن حقل السلطة بهذا المعنى ليس بنية مستقلة عن حقل التعليم كما دأب عليه الفهم، إنما هو فضاء علاقات القوة بين الأعوان أو المؤسسات التي لها ملكية مشتركة لرأس المال الضروري لاحتلال منازل مهيمنة في مختلف الحقول رأس مال اقتصادي أو ثقافي بالخصوص). إنه مكان الصراعات بين مالكي السلط أو أنواع
الهوامش:
(99) Bourdieu, Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, pp. 417-418.
الصفحة 49
من رأس المال المختلفة التي لها رهانا تحويل القيمة النسبية لمختلف أنواع الرأسمال أو الحفاظ عليها فيحدد في كل وقت القوى الممكن الزج بها في هذه الصراعات (100).
إن علاقة التجانس التي تقوم مثلاً بين حقل المدرسة وحقل السلطة والحقل الاجتماعي في كليته تجعل من الآثار المنتجة -وبالرجوع إلى غايات داخلية صرفة - قابلة بأن تقوم بوظائف خارجية، ويكون ذلك بشكل مجد إذا كان تعديلها بحسب الطلب ليس نتاج بحث واع، إنما محصلة تطابق بنيوي (101)
إن ركون بورديو إلى مفهوم الحقل - كما يذكر - وخصوصاً لحقل السلطة كان سعياً وراء فهم علائقي لممارسات الإنتاج الثقافي والفكري عموماً. إذ لا يمكن فهم حقيقة أثر ما إلا إذا أعدنا وضعه في نسق العلاقات الاجتماعية الموضوعية لئلا ينتزع من مشروطيته مثلما فعلت الوظيفية (102)، أو يقرأ من الخارج بمنطق الانعكاس مثلما فعلت الماركسية (103).
فوكو(104) بقدر ما يقترب بورديو من التجانس داخل البنية الذي أتى به، فيثني عليه سداد مبدأ التناص Intertextualité)، وبالكاد
الهوامش:
(100) المصدر نفسه، ص253
(101) المصدر نفسه، ص276
(102)Bourdieu et Passeron, La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, pp. 231-232 et 235.
(103) المصدر نفسه، ص 226 و230
(104) فضل فوكو هنا أن انتصر للعلاقة على العنصر، فزج بالأثر في حشد الآثار. بينها كلها علاقات تبعية متبادلة هي نسق مقعد ومعقد أيضاً من الاختلافات والانتشارات (Dispersions) سماه حقل الإمكانات الاستراتيجية. بيد أن خطأ فوكو أن ظل حبيس هذا الحقل في قراءته للأثر. فعزا منطق كل خطاب ينتج إلى نظام الخطاب الذي هو الحقل. لقد شيأ فوكو الفكرة ويتمها الشروط الاجتماعية ورفع التناقضات والتضادات المتجذرة في العلاقات بين منتجي الآثار ومستعمليها إلى عالم المثل.
Pierre Bourdieu, Rulsons pratiques: Sur la théorie de l'action (Paris: Seuil, 1994), = p. 65.
الصفحة 50
يحيد عليه، يناوئ التجانس البنيوي لـ لوسيان غولدمان Lucien) (Goldmann ويزدريه بأن حشره دونما تمحيص مع مقاربات تفصل بينها خطوط بينة، بوناً متسعاً كماركس ولوكاش وأنتال وأدرنو (105). هذا الموقف قائم على كون غولدمان لا يسعف مقاربته بقراءة اجتماعية للأثر. لقد عن لـ «غولدمان ربط الأثر برؤية العالم الجماعة ما تتوسل الكاتب وسيطاً يصدع بحقائق ومعايير لا تعيها ضرورة الجماعة المعبر عنها.
مثل هذا النهج في قراءة الأثر وإن قدم صيغة ملطفة لنظرية الانعكاس، يلقى بورديو لأيا، باتباعه في فهم المنطق الداخلي للآثار الثقافية (106) وبنيتها، وخصوصاً في تعرية المشهد الخلفي للانتماءات الاجتماعية لمنتجي هذه الآثار، وهي انتماءات تغذي الصراعات وتنشط على وقعها التناقضات.
في هذا المستوى نرصد الفجوة بين التجانس البنيوي لغولدمان والتجانس البنيوي البورديو. فإذا كان لدى الأول حال علاقة بين بنيتين، فإنه لدى الثاني آلية وجود للنسق أو هو المنطق الذي به يكون. إنه يعلو نوايا الأعوان واستراتيجياتهم ومشاريعهم التي وإن صاغوها طبقاً لإدراكهم الإمكانات المتاحة التي يؤمنها الإدراك - الذي هو في آخر الأمر ترسيمات إدراك مسجلة في ها بتوساتهم - يذهب التجانس بها لكونها استراتيجيات متجانسة مع المنازل في الحقل وهو حقل ذاته متجانس مع حقل آخر صلب تجانس أعم في حقل السلطة.
الهوامش:
(105) المصدر نفسه، ص67.
(106) المصدر نفسه، ص67.
الصفحة 51
أما تفسير بورديو لذلك فيتوقف في علنه عند تناسب (Correspondance) شبه إعجازي» (107) أو هو يستوقفه.
التأثر والتأثير المتبادلان بين الحقول لا يشتغلان بشكل ميكانيكي، يخبرنا عن ذلك بورديو. كذلك أمر العلاقة بين المنازل والمواقف داخل الحقل الواحد أو خارجه أيضاً. إذ هي موسطة دوماً بفضاء الإمكانات أي حقل السلطة باعتباره الفضاء الذي يخترقه «التناقض الرئيس (108) في المجتمع بين رأس المال الاقتصادي ورأس المال الثقافي. ويعدل أو هو يرسم صدع الهيمنة بين سائد ومسود ومنزلة كل منهما في الحقول الأخرى.
ثمة قدرية إذا تحكمها التجانسات فتحكم تصفيد الممارسات وهي التي مسعاها التناقض والغلبة فلا اللامبالاة الصرف، ولا الحساب العقلاني قادران على خرق حدود التجانس أو الوعي به. فبينهما أمد هو الرباط بين الحقول التي فيها تنتج الآثار وتلك التي فيها تستهلك، مسطرة بإتقان بحسب أنهج للإتباع رسمها حقل السلطة ووضع لها الميزان. لقد أسر حقل السلطة كل الحقول في منطقه بحيث بدت في قوانين اشتغالها وكأنها تفريخات القانون استقطابه، تعضده حين يعضدها.
في آخر المشهد النسقي هنا، يصبح كل حقل استنساخاً لبقية الحقول، أو كما يقول بورديو شكلاً مبدلاً لجميع الآخرين (109) لكون تعدد المحددات تفضي ليس إلى اللاتحدّد، إنما على العكس، إلى التحدد الأقصىSurdétermination (110).
الهوامش:
(107)Bourdieu, La Distinction: Critique sociale du jugement, p. 257.
(108)Bourdieu, Raisons pratiques: Sur la théorie de l'action, p. 73.
(109)Bourdicu, La Distinction: Critique sociale du jugement, p. 127.
(110) المصدر نفسه، ص119.
الصفحة 52
يستكمل مبدأ العكس (Inversion) المشهد، فيخيط دلالة الأثر ووزن رمزيته بما هوَ خارج حدود حقل انتمائه أيضاً، مما يعرضه إلى عملية قلب (Conversion) فيصير المهيمن في حقله مهيمنا عليه في حقل آخر على الرغم من أنه أقرب إلى المهيمن في الحقل الاجتماعي العام. كذلك حال الطالب البورجوازي الذي يدرس السوسيولوجيا.
ما كان للتناقض داخل الحقل ليتناقض مع توازن الحقل وإعادة إنتاجه بل إن كل تناقض داخل حقل ما هنا مشروط بتناقض آخر داخل حقل آخر وبتناقضات أخرى طافية في حقول أخرى. هذا ما يجعل القول إن التناقض ليس تدخلاً خارجياً، إنما هو داخلي. فالآثار التي تولدها البنية المعقدة للنسق ليست غريبة عنه. إنما هي بنية معقدة متأصلة وثاوية في إنتاجاتها. وهذا إنما يعني أن بنية الحقل وبنية الحقول مع بعضها البعض مكونة الحقل الاجتماعي الكبير، لا تسوى شيئاً خارج تعقدها وآثارها التي ينتجها.
يجب النظر إلى التعقد هنا على أنه ليس بمقدورنا تحديد مركز تناقض له لأنه ساكن كل شيء. فالتناقض هنا محدد بمختلف المستويات والطبقات التي تنشط على وقعه، بهذا المعنى هو محدد قصويًإ (Surdetermine)، وهو ما يعبر عنه بورديو هنا بالتأبيد(11). الذاتي
مقولة التحدد الأقصى لها مثيلتها لدى التوسير، أو هي استعارها بورديو منه يعرفها التوسير كما يلي إن مشروطية وجود
الهوامش:
(111)Bourdieu et Passeron, La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, p. 122.
(112) المصدر نفسه، ص184
الصفحة 53
تناقضات بعضها لبعض، لا يلغي بنية الهيمنة التي تحكم التناقضات وتسكنها. . هذه المشروطية لا تؤدّي في شكلها الدائري الظاهر إلى تهديم بنية الهيمنة التي تمثل تعقد الكل ووحدته، على العكس تماماً، إنها داخل حقيقة شروط وجود التناقضات ذاتها. إن هذه المشروطية تمظهر لبنية الهيمنة التي تجعل وحدة الكل. هذا التفكير في شروط وجود تناقض التناقض صلب ذاته هذا التفكير في البنية ذات الهيمنة المتمفصلة، تمثل وحدة الكل المعقد داخل كل تناقض. هذه هي السمة الأكثر عمقاً للديالكتيكية الماركسية التي حاولت منذ عهد، مسكها تحت اسم التحدد الأقصى (113).
يبدو التجانس هنا أقرب إلى أن يكون شرط إمكان المجتمع، المحرك الذي به يشتغل من أن يكون حالة له. إنه يحكم به السيرورات النسقية باعتباره برنامجاً داخلياً للتعديل. بحيث لا ينتج منتج إلا كان له مستهلك حميم على معنى الحميمية (Affinite). ولا يستهلك عون إلا كان له منتج وفي لذوقه واستعداداته وموقعه دونما وعي ولا نية مبيتة. ولا يحول دونه جهله به.
بهذا المنطق تكون الممارسات والتواصلات حتى البيداغوجية مفهومة بعضها البعض، ومعدلة في حينها للبني، وموضوعياً متفقة بعضها مع بعض، وتمتلك معنى موضوعياً في الوقت نفسه، موحداً وشاملاً متعالياً على نوايا الأفراد الذاتية ومشاريعهم الواعية (114).
6 - سلطة ليست كالسلط
يذهب بورديو إلى أن السوسيولوجيا علم لا يختزل البحث
الهوامش:
(113)Louis Althusser, Pour Marx (Paris: F. Maspero, 1974), pp. 211-212. Bourdieu, Le Sens pratique, p. 97.
الصفحة 54
فيه عن سلطة واحدة، فالسلطة سلط وكل واحدة مرتبطة بالفضاء الذي تمارس فيه. فإن تطرح السوسيولوجيا سؤال كينونتها رهين البحث عن هذه الأشكال للسلط يعني أن تدرس هذه الأشكال منزلة في فضائها الاجتماعي، أو كما يقول بورديو إن ندرس الشروط الاجتماعية لإمكانية ممارسة السلطة.
لا تحيا السلطة مثلما رآها بورديو إلا في غفلة عن مسلماتها المخفية وقوانينها المستترة وخلفياتها الصامتة التي تقوم منها مقام الضامن لتحقيقها وشرط إمكان معايشتها فعلى غرار فوكو لا يختزل بورديو السلطة في العنف، وهو ما يعتبر نقداً للتصور الماركسي للسلطة.
لذا وجبت تعرية أس شرعيتها وتجريح آلياتها حتى يسقط قناعها القدسي ونَعِي الحتمية التي تسودنا. فإذا كانت السلطة بممارساتها العنيفة «جوهراً» كامنا في ثنايا علاقاتنا الاجتماعية مبثوثاً فيها، تقدم نفسها على أنها هيئة القدرة التي تجعلنا نرى ونفهم ونعرف ونؤمن، فإنها غير الشيء المستوطن مكاناً ما، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة تؤدي في نهاية المطاف إلى تشكيل نسيج كثيف وسميك يخترق كل الأجهزة والمؤسسات وأيضاً الأفعال والعلاقات من دون أن تسكن واحداً منها، فهي مثل الزئبق متحركة لا تقف لها على وقفة قط.
الهيمنة لدى بورديو خفية تمارس في الجسد وبالجسد أو امتداداته على معنى الرمز والمعنى. لذلك كثيراً ما يحيل بورديو في حديثه عن
شرعية الهيمنة إلى فيبر (115). . بيد أن ما يبدو إضافة تحسب لبورديو هو كشفه لآليات الهيمنة الرمزية عبر الرأسمال
الهوامش:
(115)Bourdieu, Raisons pratiques: Sur la théorie de l'action, p. 187.
الصفحة 55
الرمزي وقد سماها بالخيمياء الرمزية (116)، هي قوة سحرية» (117). الفكرة هنا دوركايمية استعارها من مفهوم المانا» (Mana)، تجعل من كل خاصية أياً كانت قوة جسدية أو ثروة أو قوة حربية أو موهبة أو معرفة رأسمال رمزي.
لا يدخر بورديو جهداً في العودة إلى فيبر لتعريف الرأسمال الرمزي. لقد وجد في مفهوم الكاريزما قرابة تجعله يتقرب في أحيان كثيرة منه ثم يتباين عنه القرابة تكمن في أن الرأسمال الرمزي ليس سوى صورة أخرى لما أسماه فيبر الكاريزما» (118). أما التباين فإن سببه أن فيبر جعل من مفهوم الكاريزما شكلاً خصوصياً للسلطة بدلاً من أن يجعله بعداً لكل سلطة (119) لذلك يقترب الرأسمال الرمزي من مفهوم الشرعية أكثر منه من أي مفهوم فيبري آخر لكونه حالاً في كل السلط أو هو ذات السلطة التي تمارس بها الهيمنة.
إن السلطة الرمزية باعتبارها أرقى التعبيرات السلطوية، تمثل أفق معنى عام يوجه نشاطات الأفراد والجماعات التي يشق عليها السعي حتى تشرعن هذه الشرعية من خلال أفعال ما بعدية تبريرية لعلاقة هيمنة. هذه العلاقة ترتكز على ناموس مصيري صوره بورديو في عصمة الوثاق الرابط بين شرعية السيادة الاعتباطية والتواطؤ معها.
يمر توليد السلطة الرمزية عبر تحويل اجتماعي بالاستثمارات، رساميل هي عبارة عن طاقات اجتماعية تولد مزايا اجتماعية
الهوامش:
(116) Bourdicu, Les Règles de l'art: Genèse et structure du champ littéraire, p. 284.
(117)Bourdieu, Raisons pratiques: Sur la théorie de l'action, p. 187.
(118)Bourdien, Le Sens pratique, p. 243.
(119) المصدر نفسه، ص243.
الصفحة 56
ورمزية عملية التحويل هذه تقع في رحم العلاقات الاجتماعية الصراعية لفرض أنماط الرؤية والأحكام الثقافية بما هي حقل التوجهات الرمزية، تخلص إلى إصطفاء بعضها ونبذ بعضها الآخر.
فنجاعة السلطة تكمن في قدرتها على فرض سلمي وهادئ لتعريفات ثقافية شرعية ورؤى تكرس بها اختلافات حقيقية في الفضاء الاجتماعي ذات الاختلافات تعيد إنتاج هذه الأحكام وتوالدها عبر تكريس أفعال وممارسات تعسفية اعتباطية ولكنها تقدم حقيقة عالمية وبديهية.
لقد تاهت المقاربات البنيوية التي حاولت كشف آليات إعادة الإنتاج الاجتماعي عن المسلك القويم لكونها اتخذت أيسره وأبسطه والحال أن الهيمنة التي بها يعاد المجتمع من جديد، معقدة. لقد تحدت هذه الآليات كما يقول بورديو الاستعمالات المبسطة التي تميز بين بنية تحتية أو بنية فوقية أو تلك التي تفكر بمقولة المرجعيات (Instances) التي لقيت رواجاً لأنها - لغايات تبويبية وظاهرياً تفسيرية - تمكن من تجنيد رمزية الهندسة المطمئنة أي البنية ليفي ستراوس) والبنية التحتية أيضاً والفوقية (ماركس)، ثم أيضاً العمق والأسس والقواعد من دون نسيان الطبقات في العمق طبعاً. (120) غور فيتش يبني بورديو على أنقاض هذا المشهد المفتت تحليلاً معقداً تتشابك فيه الأدوار، ذلك أن آليات الهيمنة هي جزء لا يتجزأ من شروط إعادة إنتاج النظام الاجتماعي السائد ومن جهاز الإنتاج ذاته لهذا النظام بحيث تبدو الهيمنة تنتج ذاتها وتحفظ إعادة إنتاجها في حركة دائرية غير مفكر بها.
الهوامش:
(120) المصدر نفسه، ص224.
الصفحة 57
إن السلطة الرمزية، من حيث هي قدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات اللفظية، ومن حيث هي قدرة على الإبانة والإقناع وإقرار رؤية عن العالم أو تحويلها، ومن ثمة قدرة على تحويل التأثير في العالم وبالتالي تحويل العالم ذاته هي من حيث ذلك كله قدرة شبه سحرية تمكن من بلوغ ما يعادل ما تُمكّن منه القوة الطبيعية أو الاقتصادية) بفضل قدرتها على التعبئة. إن هذه السلطة لا تعمل عملها إلا إذا اعترف بها، أي إذا لم يؤبه بها باعتبارها قوة اعتباطية. هذا أمر إنما يعني أن السلطة الرمزية لا تتجلى في المنظومات الرمزية في شكل قوة بيانية وإنما في كونها تتحدّد بفضل علاقة معينة تربط من يمارس السلطة بمن يخضع لها، أي أنها تتحدد ببنية الحقل - النسق التي يؤكد فيها الاعتقاد ويعاد إنتاجه.
إن ما يعطي لكلمات الأستاذ والقول المرجعي (ex cathedra) قوتها وسحرها (121)، وما يجعلها قادرة على حفظ النظام أو خرقه إنما هو الإيمان بمشروعية الكلمات ومن ينطق بها، وهو إيمان ليس في إمكان الكلمات أن تنتجه وأن تولده. ولن يكون بالاستطاعة تفادى الاختيار الضيق الذي يجعلنا نتبنى إما نموذج الطاقة فنصف العلاقات الاجتماعية كما لو كانت علاقات قوة وتغلب أو النموذج السيبر نطيقي الذي يجعل منها علاقات تواصل، إلا شريطة وصف قوانين التحول التي تتحكم في قلب مختلف أنواع الرأسمال وردها إلى رأس مال رمزي، وبخاصة في عملية المواراة والقلب التي تحقق تحوّلاً جوهرياً لعلاقات القوة والتغلب عاملة على تجاهل ما تنطوي عليه من عنف وعلى الاعتراف به في الوقت نفسه محولة إياها إلى سلطة
الهوامش:
(121)Bourdieu et Passeron, La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, p. 135.
الصفحة 58
رمزية قادرة على التأثير الفعلي من دون بذل للطاقة (122).
إن استخلاص عصارة السلطة الرمزية وتحويل الرساميل الثقافي واللغوي إلى رأسمال رمزي يرتهن بتمفصل جملة من الشروط المترابطة باكتمالها تحقق ما أسماه بورديو دائرة الشرعية حضورها -أي هذه الشروط - يثمن بل يؤمن اشتغالها وغيابها يصدع الشرعية ويعري فظاظة الاعتباطية. هذه الحلقات الثلاث المكونة لهذه الدائرة حددها بورديو في مأسسة الطقوس الرمزية وشرعية المتنفذ وتواطؤ المسودين (123). تكمن خصوصية الخطاب السلطوي (مثل درس الأستاذ وخطبة الواعظ في أنه لا يكتفي بأن يكون مفهوماً، مستوعباً بل إنه يمكن ألا يكون كذلك في بعض الأحيان من دون أن يفقد نفوذه. وهو لا يفعل فعله الخاص إلا شريطة أن يعترف به باعتباره خطاب نفوذ وسلطان. وهذا الاعتراف الذي قد يصاحب بالفهم أولا -لا يتم بيسر وسهولة إلا بشروط خاصة، وهي التي تحدد الاستعمال المشروع : فالخطاب يجب أن يصدر عن الشخص الذي سمح له بأن يلقيه، أي عن هذا الذي عرف واعترف له بأنه أهل لأنه ينتج فئة معينة من الخطابات وأنه كفؤ جدير بذلك كالقس والأستاذ والشاعر). كما يجب أن يلقى في مقام مشروع أي أمام المتلقي الشرعي فلا يمكننا أن نلقي قصيدة سريالية أمام مجلس حكومي)، وأخيراً يجب للخطاب أن يتخذ الشكل الشرعي القانوني أي أن
الهوامش:
Pierre Bourdieu, Leçon sur la leçon (Paris: Editions de Minuit, 1982). (122)
(123) قسم هونغ سانغ مين (Hong sung-Min) ديناميكية الهيمنة إلى أربع آليات كالآتي : النسق الأسطوري الطقوسي، والدور الاجتماعي الذي يملي السلوكات طبقاً للانتماء الطبقي أو الشرائحي والاعتراف والجهل بالاعتراف. وهو النتيجة القصوى لأثر الهيمنة.
Hong Sung-min, Habitus, corps, domination: Sur certains présupposés: انظر philosophiques de la sociologie de Pierre Bourdieu, logiques sociales (Paris: 'Harmattan, 1999), p. 199.
الصفحة 59
يخضع لقواعد النحو والصرف (124).
أ - شكلنة النسق الأسطوري الرمزي
مزايا الشكلنة Codification أو التشفير Formalisation جمة، ويستعمل بورديو كلتا المفردتين لذات الميكانيزم. فهي تكتسح كل الفضاءات الاجتماعية ومستوياتها بل إنها تتغلغل حتى في الوعي فيعرض الشكل، مشروعاً وكأنه الخيط الفاروق الذي يفصل عالمي العدم والوجود. إن نفوذه يترعرع لا في حضوره الثقيل في كل شيء، إنما في إعطاء الوجود قدرته على أن يكون ما لم يكن. إنه بوابة الوعي الذي ندرك به العالم. إذ نحن لا نسكن العالم إلا بقدر ما نسكن تصوراً له مُشكلناً (Formalisé) ومرمزاً، فنظام العالم لا يبني الأشكال بل على النقيض تماماً، هي الأشكال تبني هذا النظام وتؤسسه.
تسعف الأشكال المصطبة، فضاء القاعة، تراتبية الأصناف الإدارية والعلمية. . الأستاذ بالوجود صلب فضاء تصنعه له من الدلالات يهتدي بها في ممارساته. ولكنها والأهم من ذلك لها سلطة شرعنة السلطة. لأجل ذلك تشيد حولها الصراعات لكونها السلطة الحقيقية التي تضمن الهيمنة الرمزية (125).
الرموز والأشكال مبثوثة في كل تفاصيل الفضاء المدرسي وهي تكون أيضاً نسيج العلاقات المتشابكة بين الأعوان، إذ لكل موضع ما يستحق من الرموز، ولكل عون عدة من الأشكال يقدم نفسه
الهوامش:
(124)Bourdieu, Ce que parler veut dire: L'Economie des échanges linguistiques, p. 111.
(125) Bourdieu et Passeron La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, p. 135.
الصفحة 60
للمجتمع خلالها. وهذا التمثل الذي يجعله الأعوان لأنفسهم وعن منازلهم وذواتهم وعن الآخرين، ومنازلهم أيضاً في الفضاء المدرسي ليس محصلة اتفاق سياقي بين أعوان مثلما ذهب إلى ذلك غوفمان. فبورديو يرى في ذلك كله نتاجاً ليس لاستراتيجيات واعية دنيوية بقدر ما هي تكريس لنسق أسطوري رمزي قوامه التراتب.
للشكلنة دور ثان ملتصق بما سبق، حدده بورديو في جعل اعتباطية الشكل واستبداده شرعيين. فإذا كان العنف الرمزي هو عنف يمارس في الأشكال وعبر وضع الأشكال، فإن نجاعتها لا تقاس فقط بوقع عنفها إنما أيضاً بمقدار شرعنة هذا العنف فيزداد وقعه وتتجذر آثاره في الوعي واللاوعي وفي الممارسة والشيء.
يبرز ذلك لما تتحوّل علاقات اعتباطية هي علاقات هيمنة إلى علاقات شرعية، وتتحوّل اختلافات الوقائع إلى تمايزات معترف بها رسمياً، منها يستخرج التفاضل وترسم الحدود والفواصل بين الأعوان طبقاً لما يملكون وما لا يملكون ذلك أننا نملك كي نعطي ولكننا أيضاً نملك حين نعطي (126).
تجد اعتباطية الأشكال الرمزية مسوغاتها في أنها تبني العالم البراني في عوالمنا الذهنية ومن ثمة الاجتماعية وتجسر علاقاتنا به فيخترقنا انخراطنا نحن فيه، ثم إنها تبنيه بتصميم تريده شرعياً، أو بالأحرى يريده من يتخفى وراءها.
إن علاقات المعنى التي تنتجها الأشكال وتؤسسها تتجاوز فعل الفرد وضيق استراتيجيته فمنطق الشكلنة أن يعلو السياق والوضعية وبالتالي المصلحة الآنية، لتحتضن الكونية (Universalite) المعنى.
الهوامش:
(126)Bourdieu, Le Sens pratique, p. 216.
الصفحة 61
الاعتباطية ها هنا هي تدقيقاً أن تكون للشكل لاشخصنة وقهر يجعلانها خارجية عن المنطق الفردي تماماً كما خاصيات الظاهرة الاجتماعية في سوسيولوجيا دوركايم.
يقول بورديو في هذا الصدد معدداً مناقب التشفير إنه يسمحأيضاً أو تسمح الشكلنة بالمعنى الرياضي أو الحسابي والمنطقي وأيضاً بالمعنى القانوني بالمرور من منطق غارق في الحالة الفردية إلى منطق مستقل عن الحالة الفردية (127).
خطوط التماس بين الأعوان تتوسطها السلطة فالعلاقة بالهيمنة ليست مباشرة أو بالأحرى لا تصاغ علاقات الهيمنة بشكل مباشر بين الأفراد (128)، إذ تنتصب بينهم موضوعية الشكل، وتستبدل العلاقة الاجتماعية بما هي علاقة عون بعون آخر إلى علاقة العون بالشكل. يعرج بنا تحليل بورديو إلى ماركس في تحليله لاغتراب العامل الذي تضحى السلعة هي المقابل المباشر له تتوسط علاقته بالإنسان الآخر. الموضعة هنا نقطة تقاطع أساسية بين ماركس وبورديو.
أما بورديو فقد ذهب إلى أن الموضعة تسبغ على الأشكال صفة مفارقة وكأنها لا حالية لحدثيتها التي نشأت فيها والملغمة بالتناقضات فتمحي الفوارق والاختلافات بين الخصوصيات وتحجب مشروطيتها الاجتماعية وتبني نظرية الإنسجام لكنه انسجام قسري، حين تقدم معيارية جهرية توحد بها المتخالفات وتدغم فيها المتناقضات.
الموضعة، على معنى جعل الشيء موضوعي الوجود، ليست موضوعية على معنى وعي الذات بحدودها قبالة شروط موضوعية. إن
الهوامش:
(127)Bourdieu, Choses dites, p. 102.
(128)Bourdieu, Le Sens pratique, p. 223.
الصفحة 62
الدلالة المقصودة منها هي الحياد وهي مقولة تحتمل نفي الذات سواء أكانت ذاتاً فاعلة، أم ذاتاً متقبلة فكلتاهما تنكر على نفسها الهيمنة والمصلحة منها. عندئذ يكسو الشكل العنف قوته الرمزية بأن تمارس لما تجعل نفسها نكرة باعتبارها قوة وأن تجعل نفسها معروفة ومعترفاً بها وموافقاً عليها (129) بمجرد ظهورها في مظهر العالمية، تبشر بالعقل والأخلاق وبذلك تؤيد الهيمنة فلا يعترضها سؤال مربك ولا محاججة مقوّضة لاستقرارها ولا احتجاج يفسد عليها هدوءها.
لأجل ذلك كانت لبورديو دوماً علاقة متوترة مع العقلانية بما هي مبادئ تحريرية إنسانية قوامها الكوجيتو، ومع الكونية أيضاً لأنها تغمط الشروط التي تجعلها ممكنة والمصلحة من ورائها ومن وراء مدعيها. لقد كانت دوما مقومات النسق الأسطوري الرمزي سواء في المجتمعات المتغايرة (130) (Sociétés differencies)، أو في المجتمعات الحديثة هي أيديولوجيا محرم الحساب. لقد قامت الهبة والهبة المقابلة على هذه الرمزية. وكذلك ترعى الدولة رمزية المصلحة العامة (131) لإخفاء التناقضات والهيمنات عبر القانون باعتباره شكلاً مركزياً في التنظيمات الحديثة للمجتمعات.
للشكل دور مركزي في إخفاء الهيمنة حفظه مرتهن بحذقه تحويل السلوكات والأفعال إنكاراً عملياً لحقيقة الفعل وللعنف بالقوة الذي تحويه. فالهيمنة لا يمكن أن تمارس إلا من وراء حجب وأشكال بدائية، أي من شخص إلى شخص. إنها لا تتحقق جهراً
الهوامش:
(129)Bourdieu, Choses dites, p. 103.
(130)Bourdieu, Raisons pratiques: Sur la théorie de l'action, p. 189.
(131)Bourdieu et passeron, La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, pp. 217-219.
الصفحة 63
لذلك يتعين عليها التخفي وراء حجاب علاقات الافتتان (132).
إن التشفير فعل عنف رمزي للسائد يُعلن كي يُنكر فيتستر جهراً ويُصطنع جبلة. هذا الكيان بين الوجود واللا وجود هو الذي يمنحمعنى للممارسة، ممارسة السائد كما المسود. ولأنها كذلك، فإن المسود لا يجد بداً وحرجاً أيضاً من الانخراط فيها وتبنيها وعياً بذاك أو من دون وعي.
تملك الأشكال كل شيء حين تتحلل في الشيء ذاته تصبحواجهته نستأنس بها وتُحدّد مجالاتنا تسطر السبل وتنيرها وتشرّع رؤانا المشروعة ورؤانا المحظورة. وغالباً ما يكون تحديد المحللات تعيينا للمحرمات. هكذا يحايثنا الشكل في معيشنا العيني فيحفظ النظام وتؤيد الفروقات يستوطن مجالات صلوحية فيها يمنحالاستقرار ويغلف بموضوعية زائفة تسوغها بداهة الاستعمال.
إن علاقات الهيمنة لا يمكن أن ترتكز وتدعم وتصان إلا باستراتيجيات عليها أن تُبدل وتمسخ أن تلطف» حتى لا تكون متعجرفة تتجلى علنا في لبوس اقتصادي صلف وتشهر مصالحها أمام الجميع. إذ المصالح لا تلبى والاستراتيجيات لا تتحقق إلا بشرط التستر على خبث الطوية الذي يسكنها.
صلة الحجب بالريبية وثيقة. فما من شك أن الشكل يتغذى من اعتباطية الربط بين رمزية الشكل ودلالته الاجتماعية التي تتحقق ممارسة في المجتمع، ولعل ما كان من دوام هذه الاعتباطية إنتاج متواصل للأشكال تجدّد بها الهيمنة نفسها، بأن يترك سقط المتاع من ترسانة الأشكال، تلك التي فضحت سوء سريرتها أو لم يعد لها
الهوامش:
(132)Bourdieu, Le Sens pratique, p. 217.
الصفحة 64
مقام، وتنتج أشكال جديدة لترميم شقوق الهيمنة وصدوعها من فرط الصراع. فـ بقدر ما لا يتكون نسق الآليات التي تضمن عبر اشتغالها الخاص إعادة إنتاج النظام السائد لا يكفي للمهيمنين أن يتركوا النسق المهيمن عليه ويدعوه يعمل بمفرده، إذ لكي يمارسوا الهيمنة بشكل دائم عليهم العمل يومياً وشخصياً لإنتاج وإعادة إنتاج الشروط الريبية دوماً للهيمنة (133).
وإذا كان للشكل دور وباع في حفظ الهيمنة لما ثبت من تجدده فيسترها ويرعى الغموض فيها، فإن لوظيفة الاستقرار عبر درء الخطر وزناً أعظم. لا يرى بورديو تناقضاً بين القول إن العنف هو في الوقت نفسه أكثر حضوراً وأكثر تخفياً (134).
فضل التشفير على الاستراتيجيا في أنه يعبد لها الطريق كي تتحقق. ثمة حد مطلوب لإمكان الفعل لولاه لما كانت ثمة ممارسة. إن الشكل حين يرسم حدود الحقل مثلما رأينا يملي على الأفعال ثناياها وإخراجاتها أيضاً. وليس في ذلك حرج أخلاقي على الهيمنة أو نقصان يحسب عليها. فإذا كان المهيمن يحتاج إلى العلن ليتخفى فإن المهيمن عليه أيضاً ينشد جهرية الشكل للانتماء إلى الحقل ولعب اللعبة بحسب قواعدها، أي بحسب أشكالها. لأجل ذلك كلاهما يحتاج إلى التقليل من الغامض والمشبوه (135).
الموضعة في أحد وجوهها إشهار للهيمنة على أنها غير ذلك، حين يخرج للناس نهاراً ما كان مخفياً، يجعله مرئياً بارزاً معروفاً من
الهوامش:
(133) المصدر نفسه، ص223.
(134) المصدر نفسه، ص217.
(135) المصدر نفسه، ص98.
الصفحة 65
قبل الكل (136) فينهي الغموض والعام والحدود غير المسطرة والتقسيمات التقريبية حين ينتج القطائع والفواصل والطبقات وحدوداً مسطرة» (137) فيبقى الذكر ذكراً والأنثى أنثى والليل ليلاً والنهار نهاراً والسائد سائداً والمسود مسوداً.
أما اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول الشكل والمعنى وحتى إن كان مصادقاً عليها، فتحول دون الجدل والمعارضة والتفاوض (138)، فالأشكال متعددة والمعنى واحد مستقطب بين نقیضین دوماً، وهو ما يقضي بالاختلاف حول الأشكال.
تبلغ رسالة الشكل لدى بورديو إلى ما هو أبعد من تيسير التواصل والتعاون (139) في الفضاء الاجتماعي لما تضمن الاستقرار والاضطراد. إنها ضالعة في تغذية القابلية للحساب (Calculabilité) والتوقع فيما فوق وما أبعد من التغيرات الفردية والتبدلات الزمنية (140) وهو ما يفسد على عون بورديو لاعقلانيته واستراتيجيته الاقتصادية التي تبجح بها في حديثه عن الفعل الاجتماعي.
يتبرم الشكل من اللامنطق ويفلت العون الاجتماعي من اللا تحدد والانفتاح والريبية. لذلك يتحاشى العون المواقف الحرجة والخطيرة ويجنح إلى الشكل لأنه يسمح بجعل الأسماء بسيطة وواضحة يمكن التواصل من خلالها وبها. إنه يسمح بالاتفاق المراقب، على المعنى (141) فيستظل بظله حتى يكون للفعل إمكان تحقق.
الهوامش:
(136) المصدر نفسه، ص101.
(137) المصدر نفسه، ص101.
(138) المصدر نفسه، ص101.
(139) المصدر نفسه، ص102.
(140) المصدر نفسه، ص102.
(141) المصدر نفسه، ص102.
الصفحة 66
ينسحب مثل هذا القول أيضاً على المجتمعات ضعيفة الترميز (142). فلئن كان التواصل فيها واللعب متروكين للارتجال بحكم اتساع هامش الريبة فيها، فإنها لا تصمد أمام خطر اللامعنى حتى أنه يمكن أن نضع قانوناً عاماً هو أنه كلما كانت الوضعية خطرة، اتجهت الممارسة إلى أن تكون مشفرة. إن درجة التشفير تختلف بحسب درجة الخطر (143).
وأياً كان هذا التشفير (شكلنة (144) (Mettre en formes) أو وضع أشكال (145) (Mettre des formes) فإنها تؤدي إلى يقينية وانغلاق نسق الممارسة.
ب - سحر التفويض وشرعية المفوض
يوصي بورديو بأن الاستغراق في صروف الشكل من العوائق التي تجعل إنبجاس الشروط الاجتماعية المنتجة لإرهاب الشكل أمراً مستعصياً. أي، نعم إن الشكل يتشيأ بالاستعمال الاجتماعي صلب هذه الشروط، ولكنه ينشأ بها، فيها.
إذا كان الشكل يفرّخ سلطته لا من ذاته وكأنه معلق في السماء فذلك قول يشيئ الظاهرة ويفرغها من محمولها السلطوي بل هو ينزل في علاقة اجتماعية هي علاقة صراع بين سائد ومسود. في هذه العلاقة ينتهي الصراع دائماً بتزكية السائد ومنحه الشرعية واصطفائه المؤتمن عليها.
الهوامش:
(142) المصدر نفسه، ص98.
(143) المصدر نفسه، ص96.
(144) المصدر نفسه، ص96.
(145) المصدر نفسه، ص96.
الصفحة 67
إن فعل الاصطفاء يجعل منه وكيلاً مفوّضاً على الجماعة ينطق باسمها، لسانه حال لسانها فيضحى قوله الحق ورؤاه المشروعة وممارساته الحقيقة. يُمأسس الطقوس التي تمأسسه ويملي تصوره على العالم والمجتمع من دون كبير عناء، ويسحب قراءته على الجميع فيجتافونها ويتماهون معها لأنه الشرعي على قول الشرعي، إذ لا ينطق عن الهوى، فجدارته وكفاءته تعصمانه من الروغ عن الحيادية والموضوعية والصالح العام.
لا يدخر السائد جهداً في الجهر بسيادته لكونه بحاجة مستمرة إلى الاعتراف الرسمي وهو ما يستتبع الحق والواجب في تجل رسمي وعلني للتميز في علامات مميزة رسمياً (146).
في هذا السياق تكتسب الأشكال قيمة مضاعفة لأنها تؤسس للعلاقة بمعنى تجعل الشيء رسمياً (147). والرسمي هنا هو ما توجب أن نجعله عمومياً. فتكسب علاقة الهيمنة شرعيتها فتستحيل طقوساً لها من القداسة والرهبنة بحيث تتعالى عن كل تجريح وتكذيب، بها تمارس سلطته ومن خلالها تتأسس.
أن تُؤسس هو أن تشر عن هذه الأشكال عبر احتفالية تكثف فيها طقوس معرفة الأشكال والاعتراف بها على أنها الشرعية. فيُغذى الإيمان بها إيمان العجائز حيث يغلب الجهل المعرفة والتبني السؤال. وتتكاثر الممارسات العقائدية والتي فيها تطهر الأشكال وتنسك لنؤيدها في المعيش اليومي التأسيس، في هذه الحال تكريس بمعنى مصادقة وتقديس حالة أشياء باعتباره نظاماً قائماً. مثل ما يقوم به بالضبط الدستور بالمعنى القانوني - السياسي للكلمة
الهوامش:
(146) المصدر نفسه، ص239.
(147) Bourdieu, Choses dites, p. 101.
الصفحة 68
فالتأسيس فعل سحر اجتماعي قادر على خلق الاختلافات انطلاقاً من العدم أو مثلما هو الحال في أغلب الحالات انطلاقاً من استغلال اختلافات في بعض وجوهها سابقة الوجود كالاختلافات البيولوجية بين الجنسين والاختلافات بين الأعمار (148).
أما سلطة هذه المأسسة فهي تكمن في قدرتها على التحكم في الواقع عبر استبدال تمثلات الواقع فتمسخ الاختلافات الاجتماعية إلى اختلافات طبيعية تشيئها وتعدم اجتماعيتها في أشكال وعبر أشكال ضاغطة فالطقس ينتج الاختلافات إذ يؤسسها، مؤسساً في ذات الفعل، الرجل رجلاً. . والمرأة إمرأة. . (149).
العلاقة بالشكل علاقة عاطفية تنسج في حميمية تغذي اغتراب الأعوان لذلك فإنه لا يمكنهم تملك العمل والخدمات والمتاع والاحترامات والتشريفات وربحها شخصياً، من دون ربط الأشخاص لهم وبهم، أي من دون خلق علاقة شخصية حميمية من شخص الشخص. غياب ذلك سوف يضطرهم إلى ممارسة العنف المادي المباشر. هذه عملية أساسية للخيمياء الاجتماعية يتحول بمقتضاها الرأسمال إلى رأسمال رمزي (150).
ويمتد هذا الاغتراب ويسند بكامل البنية الاجتماعية فيتسلل إلى البني الذهنية والاستعدادات المنتجة من قبل البنية الاجتماعية (151).
إن ربط علاقة حميمة مع الشكل لا يتم إلا إذا أحس العون
الهوامش:
(148)Bourdieu, Ce que parler veut dire: L'Economie des échanges linguistiques, p. 122.
(149) المصدر نفسه، ص122
(150)Bourdieu, Le Sens pratique, p. 223.
(151)Bourdieu, Raisons pratiques: Sur la théorie de l'action, p. 186.
الصفحة 69
الاجتماعي أنه يمثل أكثر من منبع لإدراك العالم والتواصل معه، إذ هو علاوة على ذلك يجسد قيمة هي احتواء هذا الوجود الاجتماعي ورعايته. فالنفوذ السحري الذي يتوفر عليه الطقس لن يقدر له التحقق إلا إذا مثل نمط رؤية للمجتمع يهيكله ينظم تراتبيته، باختصار تعريفاً ونمطاً لإدارته.
يمكن أن ينير مفهوم الأشكال الأولية للهيمنة فكرة الشكلنة أو -وضع الأشكال. صحيح أنها أي الشكلنة، وردت في سياق الحديث عن المأسسة، غير أنه يمكن سحبها على الشروط الاجتماعية التي تعطي مسبقاً لتشكيلة اجتماعية، أشكالها الأولية للهيمنة.
صحيح أن هذه الأشكال البدائية» هي ذاتها التي تحتل مواقعها في تراتبية ما، غير أنه يجب القول إنها تسبق التراتبية الاجتماعية المجسدة في الرتبة واللقب. بمعنى أن الأشكال الأولية للهيمنة يجب أن تفهم على أنها أيضاً ممارسات طقوسية مكونة لرؤية العالم فتصوغها مثلاً في أشكال العمل والتقسيم الجنسي (152).
تبقى المؤسسة التعليمية في نظر بورديو المؤسسة المثلى التي تستثمر بكثافة ترسانة من الأشكال التقعيدية، فتؤنث اشتغالها بهالة من القواعد المعقدة والتي تعمل عبر طقوس مأسستها على إنتاج التفاوت الاجتماعي وإعادة إنتاجه. فالحقل المدرسي أكثر الحقول إبداعاً. للتفاوت الاجتماعي بل يعتبر هو سنده الممأسس له والمنظم. إن الطقوس تفرزه لتتمعّش منه وتضمن ديمومتها من شرعية هذا التفاوت. فتقيم توزيعاً لا متكافئاً للجزاءات الثقافية وتمنح رأس المال الثقافي للبعض بما أنهم الشرعيون لاكتسابه، وتحرم البعض الآخر
الهوامش:
(152) Hong Sung-min, Habitus, corps, domination: Sur certains présupposés philosophiques de la sociologie de Pierre Bourdieu, p. 152.
الصفحة 70
المهانة جدارتهم. إنها تستند إلى فعل تهجين تحول به اللامساواة الاجتماعية وأسسها الثقافية القائمة على الشهائد العلمية إلى الامساواة طبيعية.
إن المؤسسة المدرسية هي التي تسند هذه الجدارة حين ترمزها في الشهادات العلمية وتشيئها حين تعتبرها استحقاقاً عادلاً وطبيعياً القدرات ومواهب فطرية بذلك تكون المدرسة ضامنة لامتيازات رأس المال الثقافي ومعيدة إنتاجه عبر اصطفاء صفوتها لتكون الناطقة بمنطقها والمترجمة لمعقوليتها، ثم عبر تبني خطاب «علموي» تكنوقراطي محايد واحتكاره يجد أسسه في اعتبار المؤسسة المدرسية هي المجسدة للعلم والباثة له والساهرة عليه مهمتها هذه تقدمها رهاناً لموضوعية اشتغالها وتوالدها وضماناً لها.
هكذا تعيد المدرسة إعادة إنتاج شرعيتها عبر إنتاج المميزين اجتماعياً، أولئك الذين يرثون مزاياها كما لو أنهم يستحقونها وتسبغ عليهم شرعية ثقافية يقع استثمارها في علاقة سلطة.
تمكن طقوس الاختبارات بما تتضمنه من قواعد شكلية مشحونة بتطلعات المتنفذين ومصالحهم الرقي من مكانة إلى أخرى تلك المكانة التي تحدد موقعه في سلم التراتبية الاجتماعية على أنه الجدير والشرعي بالجدارة، أو الفاشل المطرود من فضاءات النجاحوالصعود فترسم من ثمة حدودها، تؤسس كيان كليهما، هويته الاجتماعية وتؤبد المسافة بينهما، بين الشرعي واللاشرعي وتوزع الأدوار بينهما متكئة على يوتوبيا التميز الطبيعي باعتباره مولّداً للتمايز الاجتماعي والتي ترتكز عليها الأحكام المدرسية. لا شيء أصلح من الامتحان، جعل لاستلهام الاعتراف للكل بشرعية الأحكام المدرسية والتراتبيات الاجتماعية التي تشرعنها، إذ يقاد من يقصون للتماثل بالفاشلين، مع السماح للذين انتخبوا من بين عدد صغير من
الصفحة 71
المؤهلين لذلك، بالنظر لانتخابهم باعتبارها شهادة استحقاق أو موهبة جعلتهم يفضلون على الآخرين. فقط عبر إفشاء وظيفة كتم الإقصاء من دون امتحان في أثناء الامتحان نقدر أن نفهم تماماً، لم لا يزال العديد من خطوط الاشتغال، يخضع للمنطق المتحكم في الإقصاء الذي تخفيه، علماً أنه حتى أحكام الممتحنين مدينة المعايير ضمنية تترجم وتميز في المنطق المدرسي الخالص قيم الطبقات المهيمنة. بهذه الخدعة تضمن المدرسة تحقق منطقها الخاص» منطق الهيمنة، وتؤسس الوهم الذي يؤسسها ويمنحها الشرعية.
إن التفويض الذي تؤسسه المدرسة ليس هبة عشوائية، إنما هو اختيار «معقلن» يفرضه منطق الشرعية، قائم على مكانة المفوض في تراتبية السباق نحو التميز بمعنى مرتبته التي تخوّل له القول الشرعي والقدرة على القول الشرعي. هذه القدرة ممثلة في الرساميل التي هي في حوزته ولعل أهمها رأس المال الثقافي. إن أسس الاختيار والاصطفاء والدعامة التي تسوّغ للعون احتكار الشرعية وشرعنة الاحتكار هي الكفاءة والأهلية التي تسبغ على صاحبها المحترمية والتشريف، الشيء الذي يعمق موقعه ويلقح مكانته ضد كل انتقاد وتجريح.
إن تفويض رؤية المفوّض وسحبها باعتبارها مشروع رؤية شرعي، لن يقدر لها ذلك، إلا إذا احتل منتجها منزلة سلطة داخل منظومة العلاقات الاجتماعية، بحيث يصدر الخطاب المشروع الحامل لهذه الرؤية عمن له الحق في ذلك أي المصطفى، والذي يفرض من خلال مشروع رؤيته برنامج فعل فيه وتواجد. إن من يحاول أن يفهم عن طريق اللسانيات سلطة الظواهر اللغوية ونفوذها ومن يبحث في اللغة عن علة تفسير فاعلية لغة المؤسسة والمنطق المتحكم فيها ينسى أن اللسان يستمد سلطته من الخارج. . وأقصى
الصفحة 72
ما يفعله اللسان هو أنه يمثل هذه السلطة ويُظهرها ويرمز إليها. ولا شك في أن قواعد بلاغية معينة تميز كل أشكال الخطاب الذي يصدر له أن عن المؤسسة، وأعني الكلام الرسمي الذي ينطق به من سمحيكون ناطقاً بلسان ومن عهدت إليه سلطة التكلم علانية، وهي سلطة تتحدد بحدود التفويض الذي تسنده المؤسسة. إن الخصائص اللسانية التي تميز أسلوب القساوسة والأساتذة وكل المؤسسات عموماً مثل التقليد والتكرار وترديد القوالب الجاهزة وانعدام المعاناة، تتأتى من المقام الذي تحتله في ميدان تنافس وسباق، هؤلاء الذي أسندت إليهم بعض السلط.
تتعزز الهيمنة بطقوس الترسيم في دورات شعائرية تقديسية يستدعى فيها الشعور واللاعقل وتموضع فيها الهيمنة وتؤمن كي تظهر طبيعية ومن ثمة شرعية وكي يعاد إنتاجها ترسم الطقوس في اللقب الاجتماعي وهو أحد ضروب المأسسة بالمعنى الفلسفي والسياسي (153)، تبنى به الأمكنة والمراتب الاجتماعية. قد يكون ذلك عبر القانون الذي لا يفعل سوى تكريس رمزي غير تسجيل يؤبد ويعولم حال علاقة القوة بين المجموعات والطبقات (154)، أو عبر تحويل رأسمال «خام إلى رأسمال رمزي متوسلاً الخيمياء الرمزية.
اللقب الاجتماعي غير النفوذ الشخصي. ذلك أن الأول يفرخ الثاني ويسبغ عليه شرعية رمزية. إن اللقب مرتبط في نجاعته برتبة اجتماعية أي تراتب في نظام اجتماعي سمح بنسج علاقات قابلية قيس متبادلة (155) (Commensurabilite) بحسب ما يغنمه
الهوامش:
(153)Bourdicu, Choses dites, p. 190.
(154)Bourdieu, Le Sens pratique, p. 229.
(155) المصدر نفسه، ص228.
الصفحة 73
الأعوان والطبقات من متاع مرتب ومرتب.
ولما كان اللقب رفعة اجتماعية تجعل العون من عليي قومه فإن تميزه يتضاعف رمزياً لأنه فوض إلى ما يفتقده الآخرون بل إنه يكرس اصطفاءه فيبني استراتيجيات تميز واعية (156) تجهر عمداً بوعي العون بذاته أي بموقعه المهيمن في البناء الاجتماعي لكونه الأحق والأجدر بالتفويض.
التفويض تشيبي بين (157) هكذا عرفه بورديو وقد استشهد بـ نيتشه للبرهنة على ذلك في مقارنة بين الكهنوتي والمفوض في كتابه (L'Antechrist). بين الممثلين السياسي والديني أوجه شبه لعل أثر الوحي أكثرها دلالة وتفسيراً. إنه السلطة التي تجعل الناطق باسم الجماعة ينطق باسمها فيقولها ما يقول ويعدم الجماعة حين يدعي أنه السان حالها ويضع يده على نفوذ هذا الغائب. وإذا تفرسنا في الأمر وجدنا أن لعبة التفويض مزدوجة قوامها ازداوجية في الشخصية (158). يتضاعف التفويض بفعل خديعة إلغاء المفوض ذاته لأجل الإله أو الشعب أو باسمهما أيضاً. إنه بكسوف الممثل فقط، يكون وحين يكون، يطمس من يكون لأجله، لأنه باسمه يكون.
ثمة في التفويض تشيؤ يتسلّل إلى نفوس الموكل والموكل إليه على حد سواء، يخرج في السلوكات والمعتقدات انفصاماً في الشخصية(159).
الهوامش:
(156) المصدر نفسه، ص239.
(157)Bourdieu, Choses dites, pp. 185-202.
(158) المصدر نفسه، ص193.
(159) يربط جوزيف غابل (Joseph Gabel) في كتابه التشيؤ بين ظاهرتي التشيؤ وانفصام الشخصية. انظر:
Joseph Gabel, La Réification (Paris: Editions de Minuit, 1962).
الصفحة 74
هكذا تسلب الذات ذاتها ويتقزم العون حد الأقول وراء شخصية أخلاقية متعالية. فأما المفوض فإنه يحيل ذاته مقدساً بأن يتبنى استراتيجية نكران الذات ويعين نفسه خادماً لا شخصياً لكذبة مقدسة فيها من سوء السريرة بحيث يدعو الله إرادته الشخصية (160)، كما قال نيتشه بخصوص المؤسسة الكنسية، أو يستعيض الشعب بذاته في التنظيمات الحديثة (161).
تنطلي حيلة القيم المعولمة على المفوض ويتهافت على وأد ذاته من دون كبير تحفظ، ينزع عنها سلطة الوجود بوصفها ذاتاً وتصبح الأنا، آخر (162). الآخر هنا مستويان للوجود لما يوجد المفوض الجماعة باعتبارها مجموع أفراد حين ينطق باسمها، ولما يصطف وراء المفوض ويحجب.
يبدو التفويض هنا كأثر استحواذ (163) (Détournement) أو خطف يمضي فيه المفوض للمفوض صكاً أبيض (164) من فرط افتتانه بكفاءته» مقابل ازدرائه لقدراته هو. ومن دون كبير لأي يخفي التفويض هنات العلاقة المختلة بين السائد والمسود لأنه يقلب جدول القيم (165) رأساً على عقب غدا بمقتضاه الاغتراب تشيؤاً، فمن مصادقة المريد على رؤية الممثل لكونه يصدقه في نعته إياه بالفقير معرفياً وعديم الكفاءة اجتماعياً مكانه مع المشاهدين ودوره الفرجة، إلى أن يستقل وجود الممثل عن شروط إنتاجه ويضحي كما قال
الهوامش:
(160)Bourdicu, Ibid., p. 192.
(161) المصدر نفسه، ص196.
(162) المصدر نفسه، ص194.
) المصدر نفسه، ص 188، و 163(
Bourdieu, La Distinction: Critique sociale du jugement, p. 505
(164)Bourdieu, Choses dites, p. 188.
(165) المصدر نفسه، ص201.
الصفحة 75
ماركس في التشيؤ نتاجاً لذهن البشر، يبدو كأنه فائز بحياة خاصة منبتة عن الذين اصطنعوه لأنفسهم. هنا ينقلب المشهد فيصطنع الممثل المجموعة لنفسه ويخلقهم حين يريد لكونهم غير أهل للوجود من دونه، ويتحولون إلى ضحية أثر تعريف مغلوط لذواتهم (166)
(Effet de fausse identification)
ج - تواطؤ المسودين
تمنح السلطة الرمزية الشرعية للشخص الشرعي بفعل هذا المنح، والشخص الذي يشرعنها مستثمراً في ذلك منزلته في علاقات القوى ورؤوس أمواله المتأتية من هذا الموقع. فيستأثر بحظوظ التمكن والهيمنة على أولئك الذي أقصوا من فضاءات الشرعية وحرموا منها. هذا الاستئثار ليس انتزاعاً منكوراً ومجهولاً على أنه انتزاع وحسب، بل إنه معروف ومعترف به على أنه غير ذلك، إذ هو استحقاق وليد تباين في مستويات الكفاءة نافذة المعدمين لولوج حظائر الشرفاء والمتميزين.
إن الجهل بميكانيزمات التراتب الاجتماعي يدفع بالمسودين إلى مسلك تواطؤ ينعدم فيه الوعي بالتواطؤ والإذعان، لأن الوعي بالذات الممثلة، يتضمن الوعي بالسلطة المستبطنة. فالتواطؤ وزيادة عن كونه معرفة وإيماناً بقدرة المهيمن هو تمثل واجتياف لمنطق هذا البخس الاجتماعي والذي جعل منهم لقطاء لا نسب لهم ولا انتماء، منبوذين عن الشرعية. هذا الوعي البائس هو أقرب إلى فلسفة البؤس التي عالجها ماركس، لأن المسود فيها ينكر على نفسه خنوعه من حيث يعترف بشرعية التوزيع المجحف للأدوار المميزة والمميزة داخل الحقل الاجتماعي.
الهوامش:
(166) المصدر نفسه، ص 536.
الصفحة 76
هذا الوعي المشيأ النافذ لقاع المسودين والمؤمن لجهل بأس الهيمنة، يجعل من معنى وجودهم الاجتماعي الإيمان بالسلطة الشرعية على أنها شرعية لاكتساب شرعية الانتماء لفضاء الحقل، وكأن شرعية وجودهم تستقى بحسب بورديو من التماهي مع شرعية السائد عبر استبطان شرعته فيرتدون إلى ذواتهم في حضور مشهدي حيث يقزم دورهم في دور المتفرج وينحسر وجودهم في فعل تكريس الهيمنة، يصادقون عليها ويطهرونها بمناسك الخضوع لها، وينزع عنهم وعيهم وتصادر إرادتهم.
لا يشتغل التواطؤ إلا في علاقة قوى غير متناظرة، لذلك هي شبيهة بمفهوم الأيديولوجيا الماركسي. ثم إنه لا يمارس إلا جماعياً وعليه اجتماعياً لأن أثر الخيمياء الاجتماعية وأن تأسس على علاقة عاطفية بالشكل فإن ممارسة طقوسه تفقد كل دلالاتها الاجتماعية خارج الإطار الجماعي للفعل والوجود.
بيد أنه يجب التأكيد هنا على أن الاعتقاد قوام التواطؤ. هو أثر للخيمياء الرمزية، وهو ليس اعتقاداً واعياً بذاته إنما هو انخراط آني بفعل الانتماء إلى الحقل. فالحقل ممسك بهندسة منازله الاجتماعية المتناسبة مع الاستعدادات وبخيوط الوهم والتحكم به إنه في العلاقة بين «الها بتوسات» والحقول والتي هي مناسبة تقريباً لها ومعدلة عليها على نحو واف، ينجم أساس كل مقاييس المنفعة أي الانخراط الجوهري في اللعب الوهم بما هوَ اعتراف باللعب وبجدوى اللعب واعتناق القيمة اللعب ولرهانه. ويؤسس هذا اللعب كل هبات المعنى والقيم الخصوصية (167).
الهوامش:
(167) Bourdieu, Les Règles de l'arı: Genèse et structure du champ littéraire, p. 288.
الصفحة 77
ليس أمر التواطؤ غواية سلطة أو افتتان بالغالب وولع بالاقتداء به. إن الاعتراف بالسلطة وجهل الاعتراف هو قانون عام للانتماء للحقل ولاشتغاله في آن. فهو متضمن منطق الحقل يعلو الأفراد. كذلك هو مفهوم التواطؤ أقرب إلى مفهوم اللاوعي الاجتماعي أو الأنا الأعلى للحضارة كما ذكره فرويد من مفهوم الأيديولوجيا لماركس. إن خاصية المنطق الاجتماعي هو أنه قادر على مأسسة ليبيدو اجتماعي صرف يتغير مثل العوالم الاجتماعية حيث يتوالد هذا الليبيدو ويدعم تلك العوالم وذلك في شكل حقول وها بتوسات (168).
إن التواطؤ وإن تعمقنا في محموله مع بورديو، نلقاه يتخطى كونه اعترافاً بشرعية المتنفذ وشرعية الأشكال الطقوسية التي يستثمرها الممارسة العنف الرمزي وتأبيد سلطته إلى كونه تواطؤاً مع آلية شرعية السلطة القائمة على التشيؤ. هذه الآلية هي القدرة على تصور مبدأ ما مخالف للواقع يترتب عليه حكم معترف به من دون افتراض المعرفة بهذا الافتراض، إنها تقنية الحيلة والتي بها تتشيأ السلطة ويزكي السائد وتطهره رموزه من رجس العنف الممارس.
يثني بورديو في مواطن كثيرة على اللاوعي، غير أنه يخصه أيضاً بقيمة تحليلية أرفع لكونه يتلاقى مع لا وعي العون ولا وعي الاستراتيجيا وخصوصاً رفاعة (Finesse) السلطة اللاوعي هنا هو أكثر من حليف للهيمنة مثلما هو ليس نتاجاً لها. إن لاوعي الإنسان هو أحد تجليات الهيمنة. لذلك كيلت البورديو تهم تنعته بالقتامة والقدرية. وبما أنه لا وعي للإنسان إلا اللاوعي الذي يحركه، فإن كل ممارساته هي إنتاج وإعادة إنتاج لهذه الهيمنة، وإن قصد العون منها
الهوامش:
(168) المصدر نفسه، ص288.
الصفحة 78
غير ذلك، إن لم نقل نقضها. لذلك هو متواطئ بالقوة معها وبالفعل في ممارساته، رمت واعية» العتق منها أم لم ترم. هنا نعود إلى مربع اللاقصدية حيث تخون الممارسة عونها وتستقل عنه فيغترب.
ميل بورديو إلى ماركس في صياغة نظرية الهيمنة توقف على أعتاب مقولة أن ليس وعي الناس ما يحدّد وجودهم، إنما على العكس وجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم. القرابة بين الرجلين هنا لا نبحث عنها في مستوى التحديد المادي للوجود لكأن المنزلة في بنية الحقل هي ذاتها المنزلة في علاقات الإنتاج، فهذا تشبيه فج يمسخ كلتا المقاربتين نقطة التقاطع التي نرى لها ثقلاً في ما يخص سياقنا هي أن الوجود الاجتماعي للأفراد لا يحدد وعيهم إلا بشرط أن تكون العلاقات الاجتماعية مستقلة عن إرادتهم وهو أمر يبين أن الهيمنة تمارس عبر التشيؤ أو هي التشيؤ ذاته.
أما شرط تجاوز التشيؤ فهو انقراض هذا الشكل المستقل بيد أن هذه العلاقات الاجتماعية - بما هي المجال الحيوي الذي تتشكل فيه وبه الصراعات - هي الشروط التي ينتج الناس فيها ويعيدون إنتاج شروط وجودهم وهو وجود حقيقته مفارقة الحقيقة الممارسات.
إن اعتناق بورديو مقولة التشيؤ الماركسية بصفتها قاعدة إنتاج المجتمع والتاريخ، لم يتبعه في مستوى التحليل تبن للتحليل الاقتصادي. علمنا خرج بورديو من أن يركن إلى ضيق المقاربة الاقتصادية وحساسيته منها، حتى أنه انزاح إلى تقزيم الاقتصاد فضاء محدوداً ومحدداً يخضع هو ذاته لاقتصاد سياسي للممارسات. ولعل ما اعتبره بورديو انفتاحاً تحليلياً أمام شخ اقتصادوية ماركس، هو في واقع الأمر ما جعل هذا ماركس أكثر انفتاحاً في مستوى الموقف السياسي والأخلاقي من بورديو.
الصفحة 79
فإذا كان تواطؤ العون مع الهيمنة تواطؤ وجود، على معنى أنها مسألة ترتبط ليس بشرعية الوجود بل بالوجود الاجتماعي ذاته ما جعل بورديو يقصي كل إمكان وعي بالاغتراب لكون حقل الإمكانات لا يسمح بأن يرتاب في أمره وأن يعوق المتوقع الممكن، فإن اغتراب الإنسان عند ماركس ظل مخترقاً دوماً بإمكان وعي ذاتي يسترجع به الإنسان الكامل» «سمته النوعية والنشاط الحر. (169) الواعي
بين البروليتاري الجزائري وبين الإنسان الكامل في مخطوطات 1844 بون شاسع ممتد. فالأول (فاقد للحد الأدنى من الأمن والثقافة اللازمين) (170) للانتشال من الفاقة والثورة على النظام الاجتماعي المهيمن لكونه معدم إمكانات الخروج منها أن كان في سفح الهرم الاجتماعي، ما يضطره إلى أن يعزو هوانه إلى ذاته وليس إلى الشروط الموضوعية، فيغترب ضعفين ذلك أن الاغتراب المطلق يمحو الوعي حتى بهذا الاغتراب (171). أو كما اختتم كتابه هذا بأن
الهوامش:
(169) المفردات التي اعتمدها ماركس (حاجات رغبات تطلعات تجعلنا نتبع بشغف من خلال ثراء الكفاءات للوعي الذاتي، ما يخلق الإنسان الكامل ويبقي بصيص أمل - والمعنى هنا نظري - لتغير ما. إننا نرى كيف أن الإنسان الثري والحاجة البشرية الثرية يأخذان مكان الثروة والفاقة للاقتصاد السياسي. إن الإنسان الثري هو في ذات الوقت ذلك الإنسان الذي يحتاج إلى كلية تمظهرات حياتية إنسانية (Totalité de manifestation vitale humaine) الإنسان الذي يوجد تحققه الذاتي باعتبارها ضرورة داخلية حاجة فليس فقط الثروة إنما أيضاً هو فقر الإنسان ما يتلقى أيضاً تحت الاشتراكية دلالة إنسانية وتبعاً اجتماعية. إنها الرابطة السلبية التي تجعل الناس يشعرون كحاجة الثروة الكبرى، الإنسان الآخر. إن تسمية الجوهر الموضوعي في الأنا والانفجار الحساس لنشاطي الأساسي هو العاطفة والتي تصبح من ثمة نشاط كينونتي. انظر :
Karl Marx, Manuscrits de 1844 (Paris: Editions sociales, 1969), p. 97.
(170)Pierre Bourdieu, Algérie 60: Structures économiques et structures temporelles, grands documents (Paris: Editions de Minuit, 1977), p. 79.
(171)المصدر نفسه، ص 81 انظر أيضاً فيما أن المدرسة الأداة المفضلة للتبرير البورجوازي للنظام الاجتماعي أن تمنح المحظوظين الامتياز الأعلى ألا يبدوا محظوظين، فإنها بقدر ما تتوصل بيسر إلى إقناع الذين حرموا الإرث أنهم يدينون بمصيرهم المدرسي والاجتماعي لعوزهم الهبات أو الجدارات يستبعد في مجال الثقافة السلب المطلق، الوعي بالسلب في:
Bourdieu et Passeron, La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, p. 253.
الصفحة 80
الانتزاع المطلق ينبذ الوعي بالانتزاع ) (172). أما الثاني فهو أفق وعي الإنسان المغترب باغترابه
كي يعي الإنسان اغترابه ليس شرطاً، أن يستحيل مختصاً أو خبيراً أو منظراً، إنه فقط ذلك الذي تكون له كفاءات متعددة تمكنه وبالتساوي والتوازي والتزامن مع الواقع الاقتصادي وعبر الوعي الذاتي - شرط التغيير - أن يتحرر الإنسان.
لقد أنكر بورديو تماماً ما أقره ماركس من أن معاناة الذات من الاغتراب تولّد أيضاً أو هي أساس بناء الذاتية، إن جدلية ماركس فاقت حتمية بورديو. قد يكون ذلك من باب التنبؤ والتبشير بالاشتراكية، بيد أنه آمن بالذات باعتبارها عامل تغيير مجسدة في الإنسان الكامل. أما ما كان من هيمنة بورديو، فقد وقفت عند حدود إعادة الإنتاج الذاتي واستوقفت كل تطلع للنزوع عنها.
لقد ظلت الهيمنة مبدأ ذاتها (173) مشيأة تنتج في علاقة دائرية مغلقة ومغلقة فجوج التسرب منها لأن الممثل موجود، ولأنه يمثل (فعل رمزي) توجد الجماعة الممثلة مرمزة وتوجد بالمقابل ممثلها كممثل جماعة. إننا نرى في هذه العلاقة الدائرية جذر الوهم الذي يجعل على الأقل، الناطق باسم (Porte-parole) قادراً على الظهور، والظهور لذاته (SApparaitre كسبب لذاته Causa sui) بما أنه سبب ما ينتج سلطته (174). إذا كان التشيؤ ظاهرة تاريخية
الهوامش:
(172) المصدر نفسه، ص253.
(173)Bourdieu, Choses dites, p. 187.
(174) المصدر نفسه، ص186.
الصفحة 81
تحكمها قوانين الجدلية، فإنه لدى بورديو جوهر» لكل التاريخ.
يستعيض بورديو عن الجدلية بالتجانس بصفتها آلية مفسرة السرمدية الهيمنة وانتصار الاغتراب مخالفاً في ذلك ماركس.
فما يجعل التواطؤ ممكناً هو تجانس مصالح المهيمن والمهيمن عليهم أو ما يسميه بورديو بالتناغم المنشؤ ما قبلياً (175) إلى حد يجعل المهيمن تنطلي عليه وعلى المهيمن عليهم - على حد سواء -أكذوبة أنه براء من مصلحة أو منفعة خارج تلك التي للمهيمن. )176( عليهم
لاستيضاح تجانس المصالح على الرغم من اختلاف المنازل ينهل بورديو من نظرية اللعب يشفع بها لنفسه تبرير الهيمنة بالتواطؤ. المشهد الذي يرويه بورديو يراه متشعباً (177) لكنه في نظرية اللعب بسيط فقير لكونها معقدة رواياتها متعددة، تطبيقاتها ممتدة (178). يقول بورديو مدللاً على هذا التجانس ثمة حقل سياسي مثلما هناك فضاء ديني وفني. . إلخ) بمعنى عالم مستقل، فضاء لعب صلبه تلعب لعبة لها قواعدها الخاصة. وللناس المنخرطين في هذه اللعبة وبفعل هذا الانخراط، مصالح خاصة هي مصالح محددة بمنطق اللعب وليس بموكليهم. هذا الفضاء السياسي له يسار ويمين مع ناطقين باسم السائدين وناطقين باسم المسودين، الفضاء الاجتماعي أيضاً له سائدوه ومسودوه. وهذان الفضاء ان يتناسبان أن يكون ثمة
الهوامش:
(175)Bourdieu et Passeron, Ibid., p. 124.
(176)Bourdieu, Ibid., p. 197.
(177) المصدر نفسه، ص197.
(178)Christian Schmidt, La Théorie des jeux: Essai d'interprétation,collection premier cycle (Paris: Presses universitaires de France, 2001).
الصفحة 82
تجانس، يعني إجمالاً، أن من يحتل في اللعبة السياسية موقع يسار «أ» هو بالنسبة إلى من يحتل موقع يمين «ب»، كمن يحتل موقع يسار «ج» بالنسبة إلى من يحتل موقع يمين (د) في اللعبة الاجتماعية. عندما يرغب «أ» في مهاجمة «ب» قصد تصفية حسابات خاصة، فإنه يخدم مصالحه الخصوصية محددة بالمنطق الخصوصي للمنافسة في الحقل السياسي، ولكنه أيضاً وبالحركة ذاتها، يخدم «ج». هذه المصادفة البنيوية لمصالح الموكل الخصوصية ومصالح الموكل، هي في الأساس معجزة الكاهن الصادق والناجح.
ما يبدو تواطؤاً ليست الممارسة فيه من شيء، ذلك أن الاتفاق بين العونين لا يخضع سوى لمبدأ موضوعي بعيد عن كل حساب أو تدخل لإرادة أو حضور لرغبة. فالتوازن مأمون والاشتغال حاصل في مجتمع يبدو الحل لتناقضاته على معنى التغيير من قبيل اليوتوبيا. يمحق التجانس النقض والتناقض ويغذي التواطؤ فَيُرْبي الهيمنة. إنها تتسلّل إلى العلاقات الاجتماعية وتسكن الأشياء كلها والجسد أحدها.
يقترح بورديو مفهوم الجسدنة (179) (Somatisation) آلية ثانية تضمن الهيمنة عبر الرمز. فليس أقرب إلى العون من جسده. والمفارق أنه أكثر ما يملك - إن كان حقيقة ملكاً له اجتماعياً -لا وعياً به.
ففي مسرحة الجسد (180) وتجميده في طرق قول وسلوك
الهوامش:
(179)Pierre Bourdieu, «La Domination masculine,» Actes de la recherche en sciences sociales, no. 84 (1990), p. 8.
(180)Bourdieu et Passeron, La Reproduction; éléments pour une théorie du système d'enseignement, pp. 147-150.
الصفحة 83
وحركات محددة ما تجد الهيمنة مسرح نشاطها. وما يستدمجه الجسد وعليه ينشأ من هيئة وطرق تفكير وإدراك وإحساس، ليس إلا ذلك النسق الأسطوري الرمزي حضن الهيمنة الذي فيه تختبئ وبه تعاش ممارسة في مختلف الوضعيات الاجتماعية. هكذا تنحت الهيمنة وتصبح مادة جسداً، فتكون أقرب من النفس إلى النفس وهي في الآن نفسه كثر المعيش تجاهلاً. وهو توسل الأكثر فطرية للتمايزات، حيث يطبع السائد علاقته بالمسود يقدمها على سوية البديهي من الوجود، أو كما قال عنها بورديو شبه الطبيعة». عندئذ ليس أيسر من التواطؤ لكونه قبولاً للذات على أنها كذلك، وليس على أنها «اختراع» بمعنى علاقة غير متكافئة في الفضاء الاجتماعي.
إن نظام المجتمع هو نظام الجسد فيه تحقن التمثلات الاجتماعية الشرعية فينتج النظام ويعاد إنتاجه (181). هذه التمثلات هي نسق الترسيمات المموضعة المشكلة للهابتوس. يعود التحليل كرة أخرى (182) إلى اها بتوس. إنه ذلك النسق الذي تمارس به الهيمنة أو نتواطأ معها بحسب المنزلة في التراتبية الاجتماعية. وهي تراتبية مموضعة في الهاتوس على نحو لا يراها خارجاً عنه حتى يغيرها.
شرط إمكان الهيمنة هو أن يكون تمثلها واحداً، أي قائماً على تعريف واحد بين المهيمن والمهيمن عليه محصلة ذلك أن ينغلق النسق وتكتمل دائرته حول مكونيه فيضمن حينها التعديل الذاتي والبقاء لأنه في واقع الأمر ليست هناك هيمنة بحسب تمشي بورديو. فأي اختلاف يكون والتعريف واحد والحقيقة مشتركة.
الهوامش:
(181)Bourdieu, Ibid.
(182) هكذا اسنتاج ما كان تفقها في النص بقدر ما هو نتيجة طبيعية» لما نتتبع بنية النص لكونه مصوغ نقياً، أي أنه ذو بنية مغلقة مثل النسق الدائري يحيل إلى بعضه بعضاً في مرجعية ذاتية.
الصفحة 84
بهذه الحلقة تكتمل دائرة الشرعية ويحكم إغلاقها. ذلك أنه لا مندوحة للهيمنة عن الاستغناء عن الوعي الخنوعي والممارسة المتواطئة، فهذان شرطان مكونان لحقل الممكن لكل هيمنة ومجال اشتغالها. فلا تسند لها شرعية بها تنفذ تجاويف المجتمع وطبقاته لولا هذا الإيمان الأعشى، وكأنه استدعاء للهيمنة كي تمارس في حضن مجتمع أمين بار.
إن اعتباطية الهيمنة وممارساتها التعسفية التي تتبدى في العنف الرمزي، تفرز شروخاً في جسد الشرعية وضغوطات في نسق اشتغالها بفعل الانشراطات التي تفرضها والسجالات حول هذه الانشراطات بين الأعوان بهدف احتكار السلطة الرمزية. هذه الصدوع والتشققات تدفع دوماً بالمهيمنين إلى ترميم صرح سلطهم وتحصين شرعيتهم، وذلك بتكثيف ممارسات عنفية رمزية وضخ زخم من الأشكال الطقوسية ومأسستها لفرض السيادة الشيء الذي يخلص إلى تطعيم علاقات القوة والغلبة وترويض المسودين بمادة استهلاكية رمزية جديدة بنيات ذهنية تخضع العالم لها فيستأنسون بها فتسود الألفة والانسجام. هنا تقصى كل إرهاصات التقويض المرتسمة في أفق علاقات الصراع داخل الحقل الاجتماعي وتعود دورة الهيمنة من جدید.
في هذا الخطاب السوسيولوجي يقدم بورديو لوحة عن دائرة الشرعية، لكنها دائرة موصدة مفرغة يغيب فيها معنى الصراع ويطرد مضمونه الاجتماعي من علاقات القوة والغلبة. فالهيمنة تشترط التواطؤ مع شرعيتها واجتياف أدواتها التي بها تمارس وتشحن وظائفياً الدخول حلبة الحقل أين يدار التنافس حول حظوظ التمكن فيه إلا أن اعتباطية الهيمنة وتعسفها يجعلانها وتحت وقع قعقعة الصراع مرغمة على تعميق هيمنتها وتكثيف رموزها وتجسيرها بزرع أشكال
الصفحة 85
جديدة مرمزة مقعدة مقننة ومأسسة طقوسها، حتى لا تنفلت مسلمات الهيمنة الهشة وتدكها قوى النقض، فتطفو إلى السطح، وينحل ما كان معقوداً وينفك ما كان مترابطاً، فإذا السلطة حطام والنظام فوضى والهيمنة عبث. هذا الإخصاب المتواصل للهيمنة يخلص إلى تفتق وعي مشياً يحصد ذهنية مسودية تتعرى في سلوك ومواقف امتثالية تصبغ الشرعية على الهمينة وتحول دون فكها.
لئن ارتكزت الهيمنة على جهل بالشروط الاجتماعية واعتراف بشرعيتها حيث تولد في رحمها السلطة الرمزية بها تمارس عنفها، فإنها تتأسس على التشيؤ وامتداد منطقه لمسخ الوعي بها، فالتشيؤ هنا هو مصدر الهيمنة الذي به تنطلي عبر خدعة حيلة السلطة الرمزية فلا تحكم لغة السلطة ولا تأمر إلا بمساعدة من تحكمهم أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهل والذي هو مصدر كل سلطة.
أما التغير، فإنه لا يستحيل واقعاً إلا بفك رابط هذا التشيؤ وتعرية فظاعة الرموز وبشاعتها المزركشة بالكونية والحياد. إلا أن لعبة النفوذ والتسلط التي تحوم في فلكها العلاقات الاجتماعية تقوم على احتكار العنف الرمزي الشرعي والاعتراف بالتشيؤ باعتباره قانوناً أعلى يعلو ولا يعلى عليه، يؤطر كامل منطق الشرعية يحكم اكتمال دائرتها. إنه تغير عديم الأفق عقيم، إذ لا يكون إلا لتوكيد هذا القانون والحكم لحلقة الهيمنة المفرغة في فضائها يتحرك الأعوان وينتجون شرعياتهم كل بحسب منزلته في بناء الحقل، شرعية القطب السيد، شرعية الأشكال الرمزية، شرعية المسودين المريدين. يذكر بورديو هنا أن نجاعة السلطة الرمزية تكمن في قدرتها على فرض سلمي وهادئ لتعريفات شرعية لطقوس بها تكرس المؤسسات اختلافات حقيقية أو مفترضة وتبني تراتبيات اجتماعية. إن ما يجعل
الصفحة 86
هذه الطقوس ناجعة إضافة إلى الشروط الشكلية لتحققها، هو وجود معنى لدى من تتجه إليهم استعدادات للاعتراف بالطقوس (183).
هكذا تكتمل دائرة الشرعية والتي تمكن المهيمنين من استثمار انخراط المهيمن عليهم للحصول على السلطة التي يمارسها عليهم باسم الموهبة والكاريزما والتي لا قيمة لها من دون الاعتراف والقبول الذي تحظى به عندها تعيد إنتاج الانخراط من خلال ممارسة السلطة تلك.
نجد أنفسنا أمام قتامة صور فيها الشرعية مفارقة، علوية، تتحكم في خيوط اللعبة فلا نكتنه بدايات السلطة ولا نهاياتها، تمنع عنا المسك بها وفهمها. ففي دائرة الشرعية يحيل كل عنصر إلى الآخر وتفضي كل شرعية إلى أخرى في تسلسل وثيق.
فالتواطؤ في نظر بورديو يضفي الشرعية على السلطة الرمزية لكنها شرعية هشة ومهزوزة دوماً بفعل ترسبات العنف الرمزي الذي تمارسه الهيمنة والذي يصنع صراعات وتوترات. هذه الصراعات تستدعي بدورها إنتاج آليات ضبط جديدة ورقابة أشد حتى تتقن الهيمنة القبض على النظام وتقمط أجزاءه فيتوازن المختل. بذلك تتحاشى أفعال النقض والجلد للسلط، وتتوارى اعتباطيتها عن أعين المتصارعين المغشية برموز وأشكال مبتدعة تغذي الامتثال وتواري الهيمنة وتثريها بدفق من التواطؤ،جديد، يلف المسودين حولها وتدان لهم بالشرعية فنرجع إلى نقطة البداية من حيث انطلقنا لنغلق دورة الهيمنة والتواطؤ فلا نمسك ببداية الخيط كذلك هي الهيمنة مائعة. إنها كائن بلا كيان.
الهوامش:
(183) Pierre Bourdieu, «Sur le pouvoir symbolique,» Annales (Paris), vol. 32, no. 3 (mai juin 1977), pp. 40-41.
الصفحة 87
لئن وطن بورديو السلطة في جيوب المجتمع بكونها تتحقق في علاقات اجتماعية هي علاقات قوة فإنه عوم السلطة من حيث قدم تحليلاً مشوشاً عن الكتلة السببية التي تسندها. فبقدر ما أرسى تحليله على دواليب اشتغال السلطة وممارساتها الهيمنية، فإنه خالف الخوض في صلب السلطة، وفي كنهها، والحال أن قوله عن التشيؤ باعتباره قاعاً للسلطة لم يكن بالغ الحضور إلا بالقدر الذي وظفه في سياق بحثه عن اشتغال الحقل.
لقد بقيت أسئلة مصيرية يتيمة تفتقد إلى الأجوبة، فما الذي يدفع بالمسود أن يكون متواطئاً؟ فاعترافه وجهله بالاعتراف ليس سبباً مفسراً بقدر ما هو آلية مفسرة لسلوك العبد أمام سيده ثم ما الذي يجعله يجهل ويؤمن أهي السلطة ذاتها ؟ لكنها لا معنى لها من دون هذا التواطؤ من يمنح الشرعية أهو السائد أم المسود أم هو الدائرة المغلقة والحاضنة لهما، حيث تنزع المسؤولية الأخلاقية عن المهيمن ويصطف في ذات الرتبة مع المريد كل يغذي الآخر ويمنحه علة الوجود في النسق ؟
د. ماهر تریمش
تونس آب أغسطس 2007
الصفحة 88
القبطان جوناثان
وهو في الثامنة عشرة من عمره، اصطاد يوماً أبا جراب في جزيرة في الشرق الأقصى.
أبو جراب جوناثان هذا باض صباحاً بيضة ناصعة البياض خرج منها أبو جراب آخر يشبهه بإعجاب.
وأبو الجراب الثاني هذا باض بدوره، بيضة ناصعة البياض خرج منها لا محالة فرخ آخر يبيض مثله.
قد يطول الأمر كثيراً لولا جعلنا من البيضة الأولى عجة.
روبرت ديسنوس
شدو الأزهار، شدو الحكايات
الصفحة 89
ما كان هذا الكتاب ليكون لولا العمل الجماعي لجميع باحثي مركز السوسيولوجيا الأوروبية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. نشكر بوجه خاص من بين من ساعدنا أولئك الذين ساعدونا باقتراحاتهم أو بانتقاداتهم : ل. بولتنسكي ور. كاستل، وج. - ك. شمبوردون وب شامباني، وج. - م. شابولي، وك. غرينيون، ود. مارليي، وم. دو سان مارتان وب مالديديي. ونشكر أيضاً م. م. ج. برونشفيك وج. ليندون وج. - ك. باريانت، وم. فرري، على الإشارات الثمينة التي نقلوها إلينا بخصوص هذا النص. ونشكر أخيراً م. - ك. هينوك الذي رقن بصبر أيوب روايات هذا العمل العديدة والمتتالية
الصفحة 90
توطئة
إن تشكل هذا العمل من كتابين يبدوان للوهلة الأولى متباينين تبايناً شديداً من حيث نمط عرضهما، يجب ألا يستدعي التمثل الشائع لتقسيم العمل الفكري بين المهام الإمبيريقية المجزأة وبين عمل نظري هو بالنسبة إلى ذاته بدايته ونهايته. وعلى خلاف الفهرس البسيط عن الروابط بين الوقائع أو عن جملة من القضايا النظرية، فإن متن القضايا التي قدمت في الكتاب الأول هو محصلة جهد يصبو إلى انشاء في شكل نسق رقابة منطقية قابل للمقاضاة، من ناحية رقابة للقضايا التي بنتها عمليات البحث ذاتها ولأجل ذاتها، أو للقضايا التي بدت كأنها ملزمة منطقياً على البرهنة على نتائجها ؛ ومن ناحية أخرى رقابة للقضايا النظرية التي أتاحت بناء قضايا رقابة إمبيريقية قابلة للمقاضاة على نحو مباشر إن أستنباطاً أو تخصيصاً (1).
في منتهى سيرورة التصويب المتبادل تلك يمكن اعتبار تحاليل الكتاب الثاني بمثابة تطبيق على حالة تاريخية محددة لمبادئ تجيز
الهوامش:
(1) مع أن لنظرية الفعل البيداغوجي استقلاليتها، فإنها تتأسس على نظرية عن الروابط بين الاعتباط الثقافي والهابتوس والممارسة، سوف تلقى سيرتها الكاملة في عمل لبيير بورديو قيد الإعداد. [الهوامش الموجودة في الكتاب هي من وضع المؤلف باستثناء المشار إليها بـ (*) فهي من وضع المترجم].
الصفحة 91
بفضل عموميتها تطبيقات أخرى، على الرغم من أن تلك التحاليل كانت قد استخدمت نقطة انطلاق لبناء مبادئ صيغت في الكتاب الأول. ولما كان الكتاب الأول يعطي لبحوث تتناول نسق التعليم من جهة في كل مرة مختلفة، تجانسها بمعنى تباعاً، على جهة وظائف التواصل والتلقين الثقافة شرعية، ووظائف الاصطفاء والشرعنة التي له)، فإن كل فصل من الفصول يخلص دوماً، عبر مسالك مختلفة، إلى مبدأ المعقولية ذاته؛ أي يخلص إلى نسق الربط بين نسق التعليم وبنية العلاقات بين الطبقات نسق هو النواة المركزية لنظرية عن نسق التعليم تشكلت باعتبارها كذلك كلما كانت قدرتها على بناء الوقائع تتأكد في الاشتغال على الوقائع.
إن تذكر التحولات المتتالية التي أصابت متن القضايا التي قدمت في الكتاب الأول، يكفي للحيلولة دون أن نعتبر حتمياً الحال الراهن من صياغة نسق القضايا ذاك - مع أنها قضايا توحدها علاقات حتمية - خصوصاً إن كنا نعلم أن الأمر كذلك بالنسبة إلى كل متن من القضايا - وحتى بالنسبة إلى المصادرات - منظوراً إليه في لحظة من تاريخه كانت تلك التحولات كلهاها تنزع إلى استبدال قضايا بأخرى أكثر وجاهة تفرز بدورها قضايا جديدة تربطها بالمبادئ علاقات هي أكثر عدداً وأكثر متانة. ثم إن التوجهات التي قادت اختيار الذهاب بالبحث تقريباً، مذهباً بعيداً كانت مدرجة في مشروع هذا الكتاب ذاته : لا يكون لتطوّر مختلف اللحظات تطوراً متفاوتاً أن يسوع نفسه فعلياً إلا بالنظر إلى نية القيام بالارتداد بعيداً نحو المبادئ أو نحو تخصيص المحصلات إلى بعد ما كان ضرورياً لربط التحاليل المقدمة في الكتاب الثاني بأسها النظري.
وما إن نصرف عنا الحل غير اللائق الذي يقضي بأن نختلق لساناً مصطنعاً، فإنه ليس بالإمكان أن نقصي إقصاء تاماً التجاوبات
الصفحة 92
والتناغمات الأيديولوجية التي يوقظها لا محالة في القارئ كل معجم سوسيولوجي حتى ولو ضاعفنا من التحذيرات. ومن بين الطرق الممكنة كلها لقراءة هذا النص، فإن أسوأها، ولا ريب هي القراءة الأخلاقية التي لما تستند إلى المعاني الحافة الإيتيقية المرتبطة بفعل الاستعمال الدارج، بمصطلحات تقنية من قبيل مصطلحات الشرعية أو السلطان، تغير المعاينات إلى تبريرات أو إلى تنديدات، أو أنها لما تتخذ آثاراً موضوعية نتاجات للفعل القصدي والواعي والإرادي للأفراد أو الزمر، ترى مخاتلة مسيئة أو سذاجة مذنبة هناك حيث ذكر فقط تورية أو جهل. ثم إنه لسوء فهم من نمط آخر مختلف كلياً ذاك الذي قد يثيره استعمال مصطلحات كمصطلحي العنف» أو الاعتباط»، وهي التي تهب نفسها تقريباً أكثر من المفاهيم الأخرى المستعملة في هذا النص القراءات متعددة، إن كانت تلك المصطلحات تحتل موقعاً ملتبساً وعلياً معاً في الحقل الأيديولوجي بسبب تضاعف استعمالاتها الراهنة والسالفة وبسبب - وهذا هو الأسلم - تنوع المواقع التي يحتلها في الحقل الفكري والحقل السياسي مستعملو تلك المصطلحات الراهنون أو السالفون. قد يقتضي الأمر أن يكون لنا الحق في اللجوء إلى مصطلح الاعتباط» كي نعني ما ننذره لأنفسنا بالتعريف الذي نعطيه للمصطلح وننذره له فقط من دون أن نضطر إلى الكتابة في كل المعضلات التي أثارها هذا المفهوم على نحو مباشر أو غير مباشر، وأن نضطر بدرجة أقل، إلى الدخول في جدالات غوغائية فيها يظن الفلاسفة أنفسهم علماء، ويظن جميع العلماء أنفسهم فلاسفة، وفي نقاشات نيو -سوسيرية (*) أو شبه تشومسكية (**) حول الاعتباط و / أو حول حتمية
الهوامش:
(*) نسبة إلى سوسير (Saussure).
(**) نسبة إلى تشومسكي (Chomsky).
الصفحة 93
العلامة و/ أو حول نسق العلامات أو حول الحدود الطبيعية للتغيرات الثقافية؛ هي نقاشات وجدالات تدين بالجوهري من نجاحها إلى كونها ترجع مسايراً للحاضر أتعس الموضوعات المشتركة عن التقليد المدرسي بدءاً من الطبيعة (phusei) والقانون (nomi) وصولاً إلى الطبيعة والثقافة أن نعرف الاعتباط الثقافي أنه أمر لا يمكن استنباطه من أي مبدأ كان لا يعني أكثر من أننا ننذر لأنفسنا بفضل ذاك البناء المنطقي المفتقر إلى مرجع دلالة سوسيولوجي، وبالأحرى إلى مرجع دلالة بسيكولوجي وسيلة تشكيل الفعل البيداغوجي في حقيقته الموضوعية، وبالمناسبة ذاتها ننذر لأنفسنا وسيلة طرح المسألة السوسيولوجية ذات الصلة بالشروط الاجتماعية القادرة على إقصاء السؤال المنطقي عن إمكان فعل لا يتأتى له بلوغ أثره المخص به إلا إذا ألفت حقيقته الموضوعية نفسها مجهولة، تلك الحقيقة التي تقضي بفرض اعتباط ثقافي. تلك مسألة تستطيع بدورها أن تختص صلب مسألة الشروط المؤسسية والاجتماعية التي تجعل من مؤسسة ما قادرة على الإعلان جهرة عن ممارستها البيداغوجية باعتبارها كذلك من غير أن تخون الحقيقة الموضوعية لتلك الممارسة. ولأن مصطلحالاعتباط» يتقدر، في أحد معانيه الأخرى، على سلطة صرفة للواقع، أي يتقدر على بناء آخر يفتقر أيضاً افتقاراً كاملاً إلى مرجع دلالة سوسيولوجي بفضله يمكن أن نطرح مسألة الشروط الاجتماعية والمؤسسية القادرة على أن تجعل مجهولة سلطة الواقع تلك باعتبارها كذلك، وأن تجعلها من ثمة معترفاً بها باعتبارها نفوذاً شرعياً، فإنه المصطلح مناسب للتذكير باستمرار بالرابطة الأصيلة التي توحد اعتباط الفرض باعتباط المضمون المفروض. لذلك نفهم كيف فرض مصطلح العنف الرمزي الذي يقول جهرة بالقطيعة مع كل التمثلات العفوية والتصورات العفاوية للفعل البيداغوجي بصفته فعلاً غير عنيف، للدلالة على الوحدة النظرية لكل الأفعال التي يسمها الاعتباط
الصفحة 94
المزدوج للفرض الرمزي، وفي الوقت نفسه للدلالة على انتماء النظرية العامة لأفعال العنف الرمزي تلك سواء مارسها المطبب أم الساحر، أم الراهب أم النبي أم الدعائي، أم الأستاذ، أم الطبيب النفسي، أم المحلل النفسي إلى نظرية عامة عن العنف والعنف الشرعي. هو انتماء تشهد عليه بشكل مباشر استبدالية مختلف أشكال العنف الاجتماعي، وبشكل غير مباشر التجانس بين احتكار المدرسة للعنف الرمزي الشرعي واحتكار الدولة للممارسة الشرعية للعنف المادي.
إن أولئك الذين لا يرغبون في أن يروا في مشروع كهذا إلا أثراً لموقف سياسي أو المنزع الانضمامي (*) مميز، لن يفوتهم أن يقترحوا أنه يتعين علينا أن نغشي أبصارنا عن بداهات الرشاد حتى نشرع في تملك ناصية الوظائف الاجتماعية للعنف البيداغوجي، وحتى نصوغ العنف الرمزي شكلاً للعنف الاجتماعي في الوقت ذاته الذي يبدو فيه أن أفول نمط الفرض الأكثر استبدادية والتخلي عن تقنيات الإكراه الأكثر فظاظة، يسوغان أكثر من أي وقت مضى الاعتقاد المتفائل في تهذيب التاريخ بفضائل التقدم التقني والنمو الاقتصادي دون سواها. ويعني ذلك أيضاً نكران السؤال السوسيولوجي عن الشروط الاجتماعية التي يجب أن يُوفى بها حتى يصير ممكناً التفسير العلمي للوظائف الاجتماعية لمؤسسة ما ليس مصادفة إذا ما كانت لحظة الانتقال من تقنيات فرض فظة إلى تقنيات أكثر لطفاً، هي أكثر اللحظات ملاءمة من دون شك لإماطة اللثام عن الحقيقة الموضوعية
الهوامش:
(*) صحيح أن أصلها Irredentisme نزعة وطنية إيطالية، ولكنها سميت بمعنى إنضمامية، أي الدعوة للانضمام أو التوحيد (الإيطالي). والأصح استعمالها هنا بمعنى توحيد أو انضمام وليس قومية وحدوية.
الصفحة 95
لذاك الفرض إن الشروط الاجتماعية التي تجعل أن على توارث السلطة والامتيازات أن تسلك في هذا المجتمع أكثر من أي مجتمع آخر، المسالك الملتوية للتصديق المدرسي أو المسالك التي تحول دون أن يتمكن العنف الرمزي من أن يتمظهر في حقيقته التي هي حقيقة عنف اجتماعي، هي أيضاً الشروط التي تجعل ممكناً تفسير حقيقة الفعل البيداغوجي أياً كانت الشاكلات التي وفقها يُمارس وهي على وجه التقريب شاكلات فظة. وإذا ما كان علماً إلا ما خفي»، نفهم أن السوسيولوجيا، وهي جزء لا يتجزأ من القوى التاريخية التي في كل عهد، تجبر حقيقة علاقات القوة على أن تتعرى، حتى لو كان الأمر لا يتعدى إرغامها دوماً على التحجب أكثر.
الصفحة 96
الكتاب الأول : أسس نظرية في العنف الرمزي
بوسعنا كي نشذب قليلاً الدوران والإبهام، إجبار كل خطيب واعظ على أن يذكر في استهلال خطابه القضية التي يريد طرحها.
ج. ج. روسو
حكومة بولونيا
والحال أن المشرع لم يكن بمقدوره أن يستخدم لا القوة ولا التفكير. إنها ضرورة أن يلتجئ إلى سلطان من طبيعة أخرى يمكن أن يسوس بلا عنف، ويُفحم بلا إقناع ذاك ما يدفع منذ القدم، زعماء الأمم، للالتجاء إلى تدخل السماء.
ج. ج. روسو
العقد الاجتماعي
الصفحة 98
مختصرات مستعملة في الكتاب الأول (*)
ف.ب: فعل بيداغوجي.
س.ب.: سلطان بيداغوجي.
ع. ب : عمل بيداغوجي.
س.م. : سلطان مدرسي.
ن.ت. نسق تعليمي.
ع. م. عمل مدرسي.
لهذه الاتفاقات البيانية وظيفة تذكير القراء أن المفاهيم التي تشير إليها تمثل في حد ذاتها اختزالاً لأنساق الروابط المنطقية ما كان بالإمكان ذكرها بتمامها وكمالها في القضايا كلها مع أنها كانت ضرورية لبناء تلك القضايا، وأنها شرط لقراءة ملائمة. وإن لم يمتد هذا التمشي إلى كل المفاهيم النسقية التي استعملت هنا (مثل: اعتباط ثقافي، عنف رمزي، علاقة تواصل بيداغوجية، نمط فرض نمط تلقين شرعية، خلق، رأس مالي ثقافي، ها بتوس، إعادة إنتاج اجتماعي، إعادة إنتاج ثقافي) فلكي نتقي أن نجعل القراءة عصية، عبثاً.
الهوامش:
(*) تذكر هنا المختصرات من دون ترجمتها في متن النص أمانة للنص الأصلي وتجنباً للثقل الذي يكسوه استعمالها الترجمة.
الصفحة 99
(أنظر الشكل، الموجود في الصفحة 100- ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
فهرس بياني للكتاب الأول :
لهذا الرسم وظيفة إعانة القارئ على تعقل تنظيم جملة القضايا المبسوط في الكتاب الأول أن يبين الربط المنطقية الأكثر أهمية والتناسبات بين القضايا من الدرجة عينها
الصفحة 100
(أنظر الشكل، الموجود في الصفحة 101- ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
تطبيقات للكتاب الثاني
الصفحة 101
.0 إن كل سلطة عنف رمزي، أي كل سلطة تطال فرض دلالات وتطال فرضها على أنها شرعية أن تواري علاقات القوة التي هي منها مقام الأس لقوتها، إنما تزيد إلى علاقات القوة تلك، قوتها المخصة بها، أي تحديداً قوتها الرمزية.
حاشية 1. أن نرفض هذه المسلمة التي تصوغ في آن واحد استقلالية العلاقات الرمزية وتبعيتها النسبيتين إزاء علاقات القوة، يعني أن نتنكر لإمكان علم سوسيولوجي : وبالفعل، فبالنظر إلى أن النظريات كلها التي بنيت سراً أم علانية، على أساس مسلمات مختلفة، تفضي إما إلى أن تنصب الحرية الخلاقة للأفراد أو الزمر مبدأ للفعل الرمزي منظوراً إليه كأنما هو فعل مستقل عن شروط تحققه الموضوعية، وإما إلى أن تبطل الفعل الرمزي بما هوَ كذلك بأن تأبى عليه كل استقلالية عن شروط وجوده المادية، فإنه حقيق علينا أن نعتبر تلك المسلمة مبدأ لنظرية المعرفة السوسيولوجية.
حاشية 2. حسبنا أن نقارب النظريات الكلاسيكية لأسس السلطة، بمعنى نظريات ماركس و دوركايم وفيبر، حتى يتضح لنا أن الشروط التي تجعل ممكناً تشكيل كل منها تقصي إمكان بناء الموضوع الذي تبنيه الأخريات. كذلك هو يناقض ماركس دوركايم من حيث يرى السلطة نتاج هيمنة طبقية، في حين أن دوركايم (الذي لا يسفر بجلاء شديد أبداً عن فلسفته الاجتماعية إلا في ما تعلق من أمر سوسيولوجيا التربية، المكان المفضل لوهم التوافق لا يراها إلا أثراً لإكراه اجتماعي مشترك. وعلى جهة أخرى، يناقض ماركس و دوركايم فيبر من حيث إنهما يعارضان بسبب منهجيتهما الموضوعانية، إغواء أن يُرى في علاقات السلطة علاقات تأثير أو هيمنة ما بين فردية، وأن تُمثل مختلف أشكال السلطة (سياسية، اقتصادية دينية، إلى آخره شاكلات جمة لرابطة قوة عون على آخر
الصفحة 102
(ماخت (Macht))، هي رابطة سوسيولوجيا لا متميزة. أخيراً، بسبب من أن رد الفعل ضد التمثلات الاصطناعية للنظام الاجتماعي يحمل دوركايم على أن يشدد على خارجية الإكراه، في حين كان مارکس، وقد صبا إلى أن يكشف تحت أيديولوجيا الشرعية علاقات العنف التي تؤسسها ينزع في تحليله العوارض الأيديولوجيا المهيمنة إلى التقليل من النجاعة الحقيقية للدعم الرمزي العلاقات القوة الذي يلزم عن اعتراف المهيمنين عليهم بشرعية الهيمنة، فإن فيبر يناقض دوركايم مثلما يناقض ماركس من حيث إنه الوحيد الذي حدد لنفسه جهرة موضوعا، المساهمة النوعية التي يدلي بها تمثلات الشرعية إلى ممارسة السلطة وإدامتها، حتى وإن كان محجوراً في تصور نفسي اجتماعي لتلك التمثلات، لا يقدر على التساؤل، مثلما يفعل ماركس، عن الوظائف التي يؤديها صلب العلاقات الاجتماعية الجهل بالحقيقة الموضوعية لتلك العلاقات باعتبارها علاقات قوى.
1. في ازدواجية اعتباط الفعل البيداغوجي
1. إن كل فعل بيداغوجي إنما هو موضوعياً، عنف رمزي على اعتبار أنه فرض بواسطة سلطة اعتباطية، لاعتباط ثقافي.
حاشية. القضايا (*) التي ستعرض تالياً إلى حد قضايا الدرجة 3 ضمناً) هي مما يفهم من كل فعل بيداغوجي، أمارسه جميع الأعضاء المتعلمين من تشكلية اجتماعية أم من زمرة (وهي التربية المنتشرة)، أم أعضاء زمرة عائلية توليها تلك المهمة ثقافة زمرة أو ثقافة طبقة (وهي التربية العائلية)، أم جهاز أعوان فوضتهم جهرة لذاك الغرض مؤسسة ذات وظيفة تربوية على نحو مباشر أم غير مباشر، حصرياً أم
الهوامش:
(*) هنا قضية بالمعنى الذي يقصده المناطقة.
الصفحة 103
جزئياً، (التربية المؤسسية)، أم كان ذاك الفعل البيداغوجي، ما لم يخصص علناً، يبتغي إعادة إنتاج الاعتباط الثقافي للطبقات المهيمنة أو الطبقات المهيمن عليها. وبتعبير آخر نقول إن مدى تلك الافتراضات إنما يلفي نفسه محدّداً بفعل أنها تتناسب مع كل تشكيلة اجتماعية، منظوراً إليها نسق علاقات قوة وعلاقات معنى بين الزمر والطبقات. لذلك امتنعنا في المسائل الثلاث الأولى عن تعداد الأمثلة المستعارة من حال لفعل بيداغوجي مهيمن ذي نمط مدرسي لكي نتقي الإيحاء ولو ضمنياً، بتقييد صلوحية الافتراضات المتعلقة بكل فعل بيداغوجي. لقد ادخرنا لحين أجله المنطقي (افتراضات الدرجة (4) تخصيص الأشكال والآثار التي لفعل بيداغوجي يمارس داخل إطار مؤسسة مدرسية. إنّه في آخر افتراض فقط (3,4) يتم تخصيص الفعل البيداغوجي المدرسي علناً، ذاك الذي يعيد إنتاج الثقافة المهيمنة، فيسهم من ثمة في إعادة إنتاج بنية علاقات القوة في تشكيلة اجتماعية ينزع فيها نسق التعليم المهيمن إلى أن يضمن لنفسه احتكار العنف الرمزي الشرعي.
1.1. الفعل البيداغوجي، موضوعياً، عنف رمزي. في معنى أول على اعتبار أن علاقات القوة بين الزمر أو الطبقات المكونة لتشكيلة اجتماعية هي من السلطة الاعتباطية أسا. والسلطة تلك هي شرط إنشاء علاقة تواصل بيداغوجي أي، شرط فرض اعتباط
ثقافي وتلقينه وفق نمط اعتباطي للفرض والتلقين (التربية).
حاشية. هكذا تظهر علاقات القوة التي تتكون منها التشكيلات الاجتماعية ذات النسب الأبوي والتشكيلات الاجتماعية ذات النسب الأمومي، بشكل مباشر في نماذج من الفعل البيداغوجي التي تتناسب مع كل من نظامي التوريث. في نسق ذي نسب أمومي، حيث لا يملك الأب فيه سلطاناً قانونياً على الابن بينما ليس للابن أدنى حق
الصفحة 104
على متاع الأب وامتيازاته، فإنه لا يمكن للأب أن يسند فعله البيداغوجي إلا إلى جزاءات وجدانية أو أخلاقية (على الرغم من أن الزمرة تمنحه عضدها في آخر المطاف في حال كانت سلطاته مهددة)؛ مثلما أنه ليس بين لديه سند قانوني أمن إياه لما يزمع مثلاً إثبات حقه في إتيان زوجته. وعلى خلاف ذلك، ففي نسق ذي نسب أبوي وهب الابن فيه حقوقاً أقرت قانونياً في متاع الأب وامتيازاته، وفيه ينشئ معه رابطة تنافسية، لا بل صراعية (مثل رابطة ابن الأخت بخاله في نظام أمومي، يمثل الأب سلطة المجتمع على اعتبار أنه قوة صلب زمرة العائلة، وهو قادر على سبيل ذلك على أن يسن جزاءات قانونية خدمة لفرض فعله البيداغوجي (انظر فورتيس وغودي). وإن لم يكن من سبيل للتنكر للبعد البيولوجي تحديداً من علاقة الفرض البيداغوجي، أي للتبعية المشروطة بيولوجياً، تلك المرتبطة بالعجز الطفولي، سيبقى أنه ليس يتأتى لنا القيام بتجريد للمحددات الاجتماعية التي تعين في الحالات كلها الرابطة بين الراشدين والأطفال، ومن ضمنها حين لا يكون المدرسون إلا الآباء البيولوجيين مثل المحددات الراجعة إلى بنية العائلة أو إلى منزلة العائلة من البنية الاجتماعية).
1.1.1. على اعتبار أن الفعل البيداغوجي سلطة رمزية لا تختزل أبداً بما هي به معرفة في فرض القوة، فإنه لا يقدر على إنتاج أثره المخص به أي الرمزي تحديداً، إلا قدر ما يمارس في علاقة تواصل.
2.1.1 على اعتبار أن الفعل البيداغوجي عنف رمزي، لا يتأتى له إنتاج أثره المخص به أي أثره البيداغوجي تحديداً، إلا عندما تكون شروط الفرض والتلقين الاجتماعية مسماة، أي علاقات القوة غير الملزمة في تعريف شكلي للتواصل.
الصفحة 105
.3.1.1. صلب تشكيلة اجتماعية محددة، فإن الفعل البيداغوجي الذي تبوئه علاقات القوة بين الزمر أو بين الطبقات المكونة لتلك التشكيلة الاجتماعية موقعاً مهيمناً في نسق الأفعال البيداغوجية، هو ذاك الفعل الذي سواء بنمط فرضه أم بتحديد ما يفرضه ومن يفرض عليهم ما يفرضه، يتناسب أكثر التناسب اكتمالاً، وإن بطريقة غير مباشرة دوماً مع المصالح الموضوعية مادية ورمزية، وعلى الجهة المعنية هنا ديموغرافية للزمر أو للطبقات المهيمنة.
حاشية. تتحدد القوة الرمزية لسلطة بيداغوجية بثقلها في بنية علاقات القوة والعلاقات الرمزية التي تعبر دوماً عن علاقات القوة تلك التي تنشأ بين السلطات الممارسة لفعل عنف رمزي، وهي بنية تعبر بدورها عن علاقات القوة بين الزمر أو بين الطبقات المكونة للتشكيلة الاجتماعية المعتبرة. ذلك أنه عبر توسط هذا الأثر لهيمنة الفعل البيداغوجي المهيمن، إنما تسهم مختلف الأفعال البيداغوجية التي تمارس في مختلف الزمر أو الطبقات موضوعياً وبشكل غير مباشر في هيمنة الطبقات المهيمنة مثل تلقين الأفعال البيداغوجية المعارف أو المعاملات، التي يحدد الفعل البيداغوجي المهيمن قيمتها في الحقل الاقتصادي أو الرمزي).
2.1. موضوعياً، الفعل البيداغوجي عنف رمزي بمعنى ثان. على اعتبار أن التتخيم الذي يلزم موضوعياً عن أمر أن فرض بعض الدلالات وتلقينها، وقد عالجها الاصطفاء والإقصاء، الذي هو به معتصم على أنها دلالات أهل لأن يعيد فعل بيداغوجي ما إنتاجها، فإنه يعيد - إنتاج (على معنيي المفردة) (*) الاصطفاء الاعتباطي الذي
الهوامش:
(*) القصد بالمعنيين هنا أن الإنتاج فعل مبتدع، لكنه لا يكون له ذلك إلا داخل حدود =
الصفحة 106
تقترفه زمرة أو طبقة موضوعياً داخل اعتباطها الثقافي وبه.
1.2.1. إن اصطفاء الدلالات، وهو الذي يحدد موضوعياً ثقافة زمرة أو ثقافة طبقة باعتبارها نسقاً رمزياً، هو اصطفاء اعتباطي على اعتبار أن ليس بالإمكان لبنية تلك الثقافة ووظائفها أن تستنبط من أي مبدأ كوني أو فيزيائي أو بيولوجي أو روحي، ذلك أنها لا توحدها بـ «طبيعة الأشياء»، أو بـ «طبيعة بشرية» ما رابطة داخلية أياً كان جنسها.
1.2.2. إن اصطفاء الدلالات، إن هو الذي يحدد موضوعياً ثقافة زمرة أو ثقافة طبقة باعتبارها نسقاً رمزياً، هو اصطفاء ضروري سوسيو - منطقي على اعتبار أن تلك الثقافة تدين بوجودها لشروط اجتماعية هي منها نتاج وتدين بمعقوليتها للتناسق ولوظائف بنية الروابط ذات الدلالة التي تشكلها.
حاشية. إن كانت الخيارات المكونة لثقافة ما هي خيارات» لا يصنعها إنس) اعتباطية أيان نعزوها بواسطة المنهج المقارن إلى مجموع الثقافات الراهنة أو الخالية، أو نعزوها بواسطة تنوع خيالي إلى فضاء الثقافات الممكنة، فإنها تفصح عن حتميتها حالما نعزوها إلى شروط ظهورها وتأبيدها الاجتماعية. إن سوء الفهم من أمر مقولة الاعتباط وبصورة خاصة الخلط بين الاعتباط والمجانية) إنما يستند في أفضل الحالات إلى أن تملك ناصية الوقائع الثقافية إحاطة تملكاً تزامنياً لا غير كتلك التي غالباً ما يقضى إليها الإتنلوجيون) إنما يرغب في إنكار كل ما تدين به تلك الوقائع لشروط وجودها
الهوامش:
إعادة الإنتاج، لذلك هو إنتاج متكرر، إن بدا مجدداً، فهو كذلك في حدود إعادة الإنتاج
الصفحة 107
الاجتماعية، أي لشروط إنتاجها وإعادة إنتاجها الاجتماعية، ولأفعال إعادة البنينة كلها وإعادة التأويل تلك المرتبطة بتأبيدها في شروط اجتماعية محولة مثل كل الدرجات التي بمستطاعنا أن نميزها بين إعادة الإنتاج للثقافة في مجتمع تقليدي إعادة شبه متقنة، وإعادة الإنتاج التي تعيد تأويل الثقافة الإنسية لمعاهد اليسوعية إن كانت ثقافة متكيفة مع حاجات ارستقراطية المجلس صلب الثقافة المدرسية للمعاهد البرجوازية للقرن التاسع عشر، وبها). هكذا إذن بإمكان نسيان النشأة الذي يعبر عن نفسه في الوهم الساذج في قولة لقد وجدنا عليه آباءنا، بقدر ما يظهر في الاستعمالات الماهوية المقولة اللاوعي الثقافي أن يفضي إلى سرمدة ربطاً دالة هي نتاج للتاريخ، ومن ثمة يفضي إلى أن يطبعها».
1.2.3. إن الاعتباط الثقافي في تشكيلة اجتماعية محددة، الذي تبوئه علاقات القوة بين الزمر أو الطبقات المكونة لتلك التشكيلة الاجتماعية المنزلة المهيمنة من نسق الاعتباطيات الثقافية هو ذاك الذي يعبر تعبيراً أكثر اكتمالاً على الرغم من كونه تعابير بأسلوب غير مباشر دوماً عن المصالح الموضوعية (المادية والرمزية للجماعات أو الطبقات المهيمنة.
1.3. إن الدرجة الموضوعية لاعتباط سلطة فرض فعل بيداغوجي ما على معنى القضية (1.1) هي أكثر ارتفاعاً بقدر ما تكون درجة اعتباط الثقافة المفروضة على معنى القضية (1.2) بدورها أكثر ارتفاعاً.
حاشية. لا تقيم النظرية الاجتماعية للفعل البيداغوجي تمييزاً بين اعتباط الفرض والاعتباط المفروض إلا ابتغاء تجلية التبعات السوسيولوجية كلها للعلاقة بين تينك الحيلتين المنطقيتين اللتين هما حقيقة الفرض الموضوعية باعتبارها علاقة قوة صرف، والحقيقة
الصفحة 108
الموضوعية للدلالات المفروضة باعتبارها ثقافة اعتباطية، جملة وتفصيلاً. وليس للبناء المنطقي لعلاقة قوة تتجلى عارية، بناء منطقياً، وجود سوسيولوجي أكثر من البناء المنطقي للدلالات بناء منطقياً، هي دلالات ليست إلا اعتباطاً ثقافياً : ذلك أن نتخذ ذاك البناء النظري المزدوج حقيقة ملاحظة إمبيريقياً، يعني أن نصبو إلى الإيمان الساذج إما بالقوة المادية للقوة على نحو حصري، وفي ذلك مجرد عكس للإيمان المثالي بقوة القانون المستقلة كلياً، وإما الإيمان بالاعتباط الجذري للدلالات كلها، وفي ذلك مجرد عكس للإيمان المثالي بـ «القوة الباطنية للفكرة الحق. وما من فعل بيداغوجي يلقن دلالات لا تستنبط من مبدأ كوني (حجة منطقية أو طبيعة بيولوجية) ليس للسلطان منه نصيب بكل ما للبيداغوجيا من معنى، حتى لو تعلق الأمر بتلقين الدلالات الأكثر كونية وما من علاقة قوة أيضاً، مهما بلغت درجة آليتها وشدة فظاظتها، لا تمارس زيادة على ذلك أثراً رمزياً. ما نريد قوله هو أن على الفعل البيداغوجي الذي يُحلّ موضوعياً، ودائماً ما بين قطبي القوة الصرف والعقل الصرف، وهما قطبان لا يُدركان، أن يلجأ أكثر إلى وسائل إكراه مباشرة بقدر ما يتدنى فرض الدلالات التي يفرضها، بقوتها المخصة بها، أي بقوة الطبيعة البيولوجية أو الحجة المنطقية.
1.3.1. إن الفعل البيداغوجي الذي تستند سلطته الاعتباطية إلى فرض اعتباط ثقافي في آخر المطاف على علاقات القوة بين الزمر أو الطبقات المكونة للتشكيلة الاجتماعية حيث يتحقق (بحسب القضية 1.1 والقضية (2.1) إنما يسهم حين يعيد إنتاج الاعتباط الثقافي الذي يلقنه، في إعادة إنتاج علاقات القوة، علاقات تؤسس سلطته على الفرض الاعتباطي وظيفة إعادة الإنتاج الاجتماعي لإعادة الإنتاج الثقافي).
الصفحة 109
1.3.2. في تشكيلة اجتماعية محددة تنزع مختلف الأفعال البيداغوجية التي لا يمكن أبداً تحديدها بمعزل عن انتمائها إلى نسق أفعال بيداغوجية خاضع لأثر هيمنة الفعل البيداغوجي المهيمن، إلى إعادة إنتاج نسق الاعتباطيات الثقافية - نسق هو سمة تلك التشكيلة الاجتماعية - أي ينزع إلى إعادة إنتاج هيمنة الاعتباط الثقافي المهيمن، فيسهم بذاك في إعادة إنتاج علاقات القوة التي تحل ذاك الاعتباط الثقافي المنزلة المهيمنة.
حاشية. لما تعرف النظريات الكلاسيكية على نحو تقليدي نسق التربية» على أنه مجموع أواليات مؤسسية أو أواليات عرفية، بها يلفي توريث الثقافة بين الأجيال نفسه مؤمناً تلك الثقافة التي ورثت عن الماضي (أي الخبر المتراكم)، فإنها تنزع إلى فصل إعادة الإنتاج الثقافي عن وظيفتها التي تقضي بإعادة الإنتاج الاجتماعي، أي تنزع إلى تجاهل أثر العلاقات الرمزية المخص بها في إعادة إنتاج علاقات القوة. إن تلك النظريات، مثلما يتضح عند دوركايم، والتي لا تفعل غير سحب أكثر تمثلات الثقافة والتوريث الثقافي شيوعاً عند الإثنولوجيين على حالة مجتمعات مقسمة طبقات، تقف على المسلمة الضمنية بأن مختلف الأفعال البيداغوجية التي تمارس في تشكيلة اجتماعية ما تتعاون في تناغم على إعادة إنتاج رأس مال ثقافي منظوراً إليه خاصية مشتركة لـ «المجتمع بأكمله. وفي الحقيقة، أنه بفعل أن تلك الأفعال البيداغوجية تناسب المصالح المادية والرمزية الزمر أو طبقات هي من علاقات القوة في مواقع مختلفة تنزع هذه دوماً إلى إعادة إنتاج بنية توزيع رأس المال الثقافي بين الزمر أو الطبقات، فتسهم بالمناسبة ذاتها في إعادة إنتاج البنية الاجتماعية: وفي الحقيقة إن قوانين السوق حيث تتكون القيمة الاقتصادية أو الرمزية، أي القيمة بما هي رأس مال ثقافي لاعتباطات
الصفحة 110
ثقافية، أعادت إنتاجها مختلف الأفعال البيداغوجية، وبالتالي قيمة نتاجات تلك الأفعال البيداغوجية (الأفراد المتعلمون)، تشكل أحد الأواليات المحددة، على وجه التقريب وذلك بحسب أنماط التشكيلات الاجتماعية التي بها تلفي إعادة الإنتاج الاجتماعية نفسها مؤمنة ؛ إعادة إنتاج حددت باعتبارها إعادة إنتاج لبنية علاقات القوة بين الطبقات.
2 في السلطان البيداغوجي
2 يلزم عن الفعل البيداغوجي، ضرورة السلطان البيداغوجي مثلما تلزم عنه الاستقلالية النسبية للسلطة المكلفة بممارسته باعتبارهما شرطين اجتماعيين لممارسته. وذلك على اعتبار أن الفعل البيداغوجي سلطة عنف رمزي تمارس ضمن علاقة تواصل لا يقدر على إنتاج أثره المخص به أي أثره الرمزي تحديداً، إلا متى كانت السلطة الرمزية التي تجعل الفرض ممكناً لا تبدو على حقيقتها برمتها على معنى القضية (1.1) وعلى اعتبار أيضاً أنه تلقين لاعتباط ثقافي ينجز في صلب علاقة تواصل بيداغوجي لا تقدر على إنتاج أثرها المخص بها، أي أثرها البيداغوجي تحديداً إلا بقدر ما لا يبدو اعتباط المحتوى الملقن على حقيقته برمتها (على) معنى القضية (1.2).
حاشية 1. تنتج نظرية الفعل البيداغوجي مفهوم السلطان البيداغوجي في العملية ذاتها التي بها حين ترجع بالفعل البيداغوجي إلى حقيقته الموضوعية إن كان فعل عنف تخرج التناقض بين تلك الحقيقة الموضوعية وممارسة الأعوان ممارسة تظهر موضوعياً الجهل بتلك الحقيقة مهما كانت التجارب أو الأيديولوجيات المصاحبة لتلك الممارسات). هكذا تلفي مسألة الشروط الاجتماعية
الصفحة 111
الإنشاء علاقة تواصل بيداغوجي ما نفسها مطروحة. هي شروط تواري علاقات القوة التي تجعلها ممكنة، فتزيد من ثمة القوة الخصوصية السلطانها الشرعي إلى القوة التي عليها يحصل من تلك العلاقات. إن الفكرة التي تقول إن الفعل البيداغوجي الذي يمارس من غير سلطان بيداغوجي فكرة مستحيلة سوسيولوجياً لكونها متناقضة منطقياً. ذلك أن فعلاً بيداغوجياً يبتغي السفور حين عين تحققه، عن حقيقته الموضوعية إن كان فعل عنف، ويبتغي بالمناسبة ذاتها تحطيم أس السلطان البيداغوجي للعون هو فعل مهدم لذاته. سوف نلقي عندئذ شكلاً جديداً لمفارقة إبيمنيد (*) (Epimenide) الكذاب : إما أن تعتقد أني لست بكاذب متى أقول لك إن التربية عنيفة، وإن تعليمي ليس شرعياً، فلا تستطيع إذن أن تصدقني ؛ وإما أن تعتقد أني لكاذب وأن تعليمي شرعي، فلا تستطيع إذن أن تعتقد في ما أقول، أكثر مما اعتقدت، متى أقول إن التربية عنيفة. ولكي نستخرج كل تبعات تلك المفارقة، حسبنا أن ننظر إلى الإحراجات، يقاد إليها كل من أراد أن يؤسس ممارسة بيداغوجية على الحقيقة النظرية لكل ممارسة بيداغوجية : إن تعليم النسبية الثقافية، أي تعليم السمة الاعتباطية لكل ثقافة لأفراد كانوا قد تربوا طبقاً لمبادئ اعتباط ثقافي لزمرة أو الطبقة، فهذا أمر. أما أن نزعم تقديم تربية ذات منزع نسبي، أي أن نزعم حقيقة إنتاج إنسان مثقف هو أصيل الثقافات كلها، فهذا أمر آخر. إن المعضلات التي تطرحها وضعيات الازدواج اللغوي أو الازدواج الثقافي المبكرة لا تقدم غير فكرة هزيلة عن تناقض لا غالب له يصطدم بها فعل بيداغوجي يزعم اتخاذ القول النظري
الهوامش:
(*) إبيمنيد (Epimenide) الكذاب، في جزيرة كريت اليونانية (توفي عام 600 قبل الميلاد).
الصفحة 112
باعتباطية الشفرات اللغوية أو الثقافية، مبدأ عملياً للتعليم. ذاك دليل بالخلف على أن لكل فعل بيداغوجي موضوعياً شرطاً للتحقق، هو الجهل الاجتماعي بحقيقة الفعل البيداغوجي الموضوعية.
حاشية 2 ينجم عن الفعل البيداغوجي، ضرورة، في أثناء ممارسته وبها تجارب قد تظل غير مصاغة تعبر عن نفسها في الممارسات فحسب، أو تجارب قد تظهر علناً في أيديولوجيات تسهم كلها في تنكير حقيقته الموضوعية : إن أيديولوجيات الفعل البيداغوجي التي تقول إن الفعل البيداغوجي فعل غير عنيف - أتعلق الأمر بالأساطير السقراطية أو الأساطير السقراطية - الجديدة عن تعليم غير موجه، أو بأساطير روسوية عن تربية طبيعية، أو بأساطير شبه فرويدية عن تربية غير زجرية - تفضح الوظيفة التوليدية للأيديولوجيات البيداغوجية في أكثر أشكالها جلاء أن تتملص حيث تنكر إنكاراً باتاً أحد مراميها من التناقض بين حقيقة الفعل البيداغوجي الموضوعية والتمثل الضروري الذي لا عاصم منه) لذاك الفعل الاعتباطي على أنه فعل ضروري («فطري)).
2.1. على اعتبار أن النفوذ البيداغوجي سلطة فرض اعتباطية تلفي نفسها موضوعياً، بفعل أنها مجهولة كذلك، معترفاً بها على أنها سلطان شرعي، فإنّه يوطد السلطة الشرعية التي تؤسسه مثلما يواريه إن كان سلطة عنف رمزي تتمظهر في شكل حق فرض شرعي.
حاشية 1. أن نتحدث عن الاعتراف بشرعية النفوذ البيداغوجي ليس معناه أن نتناول إشكالية النشأة النفسية للتمثلات عن الشرعية التي قد تجنح إليها التحاليل الفيبرية وليس معناه، أكثر من ذلك، الانخراط في مسعى لتأسيس السيادة مبدأ ما أكان مادياً أم بيولوجياً أم روحياً. باختصار، ليس معناه أن نشر عن الشرعية : إن ما نصبو إليه
الصفحة 113
هو فقط استخراج التبعات من أمر أن الفعل البيداغوجي يلزم عنه السلطان البيداغوجي، أي التبعات من أمر أن للنفوذ البيداغوجي رواجاً» على معنى ما يكون للعملة رواج، وبصورة أعم على معنى ما يكون لنسق رمزي ما، وللغة ما ولأسلوب فني ما، أو حتى لنمط لباسي ما بهذا المعنى فإنّه من العسير اختزال الاعتراف بالسلطان البيداغوجي اختزالاً كلياً في فعل نفسي، بل أكثر من ذلك من العسير اختزاله في رضا واع مثلما يشهد على ذلك أمر أن الاعتراف لا يكون أبداً في منتهى التمام إلا عندما يكون غير واع كلياً. إن توصيف الاعتراف بالنفوذ البيداغوجي على أنه قرار حر يصبو إلى التثقف أو على خلاف ذلك أنه استغلال للسلطة يمارس في حق الطبيعة، أي أن نجعل من الاعتراف بشرعية ما، فعل اعتراف حر أو منتزع ليس أقل سذاجة من تتبع نظريات العقد أو ميتافيزيقيات الثقافة منظوراً إليها نسقاً منطقياً من الاختيار، إذ تحل الاصطفاء الاعتباطي للعلاقات الدالة محلاً أصيلاً، ومن ثمة أسطورياً، وهو الاصطفاء الذي يكون ثقافة ما. على هذا النحو، أن نقول إن أعواناً ما يعترفون بشرعية سلطة بيداغوجية كأنما نقول أن يمنع الأعوان تعقل أس تلك العلاقة إنما هو جزء لا يتجزأ من تعريف علاقة القوة التي يحل فيها الأعوان موضوعياً تعريفاً كاملاً. ذاك أمر يكون بالحصول منهم على ممارسات تأخذ في الحسبان موضوعياً، حتى ولو كذبتها عقلانيات الخطاب أو يقينيات التجربة، حتميات علاقات القوة (أنظر الصعلوك الذي يمنح موضوعياً القانون، قوة القانون الذي يتعداه، بفعل أنه إن يتخفى لتعديه، يعدل تصرفه بحسب الجزاءات التي للقانون عليه قوة فرضها).
حاشية 2 إن ثقل تمثلات الشرعية، وبخاصة شرعية الفعل البيداغوجي في جهاز الأدوات التي تضمن هيمنة زمرة أو طبقة على
الصفحة 114
زمر أو طبقات أخريات وتأبدها، هو ثقل متغير تاريخياً. ذلك أنه تزداد قوة التعزيز النسبية التي تؤمنها لعلاقة القوة بين الزمر والطبقات العلاقات الرمزية التي تعبر عن علاقات القوة تلك، كبَرًإ، أي أن ثقل تمثلات الشرعية في تحديد علاقة القوة بين الطبقات تحديداً كاملاً يزداد كبراً بقدر (أولاً) ما يتيح حال علاقة القوى للطبقات المهيمنة أن تلتمس على نحو أدنى من حقيقة الهيمنة الفظة والغليظة، مبدأ شرعنة لهيمنتهم. و(ثانياً) بقدر ما تكون السوق التي فيها تتكون قيمة المنتجات الرمزية والاقتصادية لمختلف الأفعال البيداغوجية موحدة على نحو نام مثل التباينات التي تفصل على تينك الجهتين هيمنة مجتمع على آخر، وهيمنة طبقة على أخرى في التشكيلة الاجتماعية نفسها، أو أيضاً، بالنسبة إلى الحال الآنفة مثل الاقطاعية والديمقراطية البرجوازية على الرغم من الازدياد المتواصل لثقل المدرسة في نسق الأواليات التي تُؤمن إعادة الإنتاج الاجتماعي). إن الاعتراف بشرعية الهيمنة يشكل دائماً قوة (متغيرة تاريخياً تأتي تعزيزاً لعلاقة القوة القائمة. ذلك أنه عندما يحول دون إدراك علاقات القوة على أنها كذلك، ينزع إلى منع الزمر أو الطبقات المهيمن عليها من أن تؤمن لنفسها كل القوة التي يعطيها إياها الوعي بقوتها.
2.1.1. تقوم علاقات القوة مقام المبدأ ليس من الفعل البيداغوجي فحسب، إنما أيضاً من الجهل بحقيقة الفعل البيداغوجي الموضوعية، وهو جهل يحدد الاعتراف بشرعية الفعل البيداغوجي والجهل الذي بفعل ذاك يمثل شرط ممارسته.
حاشية 1. هكذا، وعلى اعتبار أن الفعل البيداغوجي هو أداة رئيسة لتمادي علاقات القوة إلى سلطان شرعي، فإنه يمد تحليل الأس الاجتماعي لمفارقات الهيمنة والشرعية بموضوع مفضل (مثل الدور
الصفحة 115
الذي تؤديه في التقليد الهندو - أوروبي الواقع الفظ للقوة المخصبة أو القوة الحربية أو القوة السحرية باعتبارها شهادة للسلطان الشرعي تشهد عليه سواء بنية أساطير النشأة أو ازدواجيات مصطلح السيادة).
حاشية 2. ليسمح لنا بأن نعهد إلى الآخرين التساؤل بكلمات، هي من دون شك أقل استخفافاً، عما إذا كانت العلاقات بين علاقات القوة وعلاقات المعنى هي في آخر المطاف علاقات معنى أو علاقات قوة.
2.1.1.1. تحدد علاقات القوة نمط الفرض إن كان سمة فعل بيداغوجي ما باعتبار أن ذاك النمط نسق الوسائل الضرورية لفرض اعتباط ثقافي والتورية الاعتباط المضاعف لذلك الفرض، أي باعتباره تركيبة تاريخية لأدوات العنف الرمزي ولأدوات تورية ذلك العنف.
حاشية 1. إن الصلة بين معنيي الاعتباط الحال في الفعل البيداغوجي على معنى القضيتين 1.1 و 1.2) إنما تتضح في جملة ما تتضح فيه، في أن لاعتباط نمط محدد من فرض الاعتباط الثقافي حظوظاً أكثر إلى أن يسفر عن نفسه على أنه كذلك، على الأقل جزئياً، بقدر (أولاً) ما يمارس الفعل البيداغوجي على زمرة أو طبقة اعتباطها الثقافي أبعد عن الاعتباط الثقافي الذي يلقنه ذاك الفعل البيداغوجي، وبقدر (ثانياً) ما يُقصي التعريف الاجتماعي لنمط الفرض الشرعي إقصاء كامل اللجوء إلى بحث عن أشكال الإكراه المباشرة أكثر من دونها. أما التجربة التي لفئة أعوان من اعتباطية الفعل البيداغوجي، فهي تجربة مرتهنة ليس بتميزها فحسب على جهة تلك العلاقة المزدوجة، إنما بتسائل تلك المميزات مثل موقف الديوانيين الكنفوشيوسيين في وجه هيمنة ثقافية قائمة على القوة العسكرية للمستعمرين) أو بتباينها مثل التجرد الذي يبديه اليوم في
الصفحة 116
فرنسا أبناء الطبقات الشعبية حيال العقوبات إن كان، معاً، بعدهم من الثقافة الملقنة ينزع إلى أن يُشعرهم أن لا مهرب من اعتباط التلقين، وعلى جهة أخرى إن لم يعد الاعتباط الثقافي لطبقتهم يفسح بكبير مجال للتشهير الأخلاقي ضد أشكال ردع تستبق أكثر الجزاءات احتمالاً لطبقتهم). ويلزم بالفعل عن كل اعتباط ثقافي تعريف اجتماعي للنمط الشرعي لفرض الاعتباط الثقافي، وبصورة خاصة تعريف لأي درجة بإمكان السلطة الاعتباطية التي تجعل ممكناً الفعل البيداغوجي أن تسفر عن نفسها، كذلك من غير أن يُبطل الأثر المخص بالفعل البيداغوجي. هكذا بينما يكفي في بعض المجتمعات اللجوء إلى تقنيات الإكراه الصفع أو حتى العقاب الكتابي لتجريد العون البيداغوجي من هيمنته تبدو العقوبات الجسدية بكل بساطة السوط للمعاهد الإنجليزية، أو عصا المعلم للمدرسة أو «الفلقة (*) المعلمي القرآن بمثابة صفات للشرعية العلامية في ثقافة تقليدية حيث لا خوف على تلك العقوبات من أن تخون الحقيقة الموضوعية لفعل بيداغوجي فيها تحديداً يكمن نمط فرضه الشرعي.
حاشية 2. لا يلزم عن الوعي باعتباط نمط فرض معين أو باعتباط ثقافي محدّد إدراك الاعتباط المضاعف للفعل البيداغوجي :
على العكس من ذلك، إذ تستلهم دوماً الاعتراضات الأكثر جذرية السلطة بيداغوجية ما من يوتوبيا ذاتية التدمير البيداغوجيا من غير اعتباط أو من يوتوبيا العفاوية التي تمنح الفرد سلطة أن يعثر في ذاته عن مبدأ انبساطه المخص به. إن تلك اليوتوبيات كلها إنما تشكل أداة صراع أيديولوجي لزمر تبتغي من خلال التشهير بشرعية بيداغوجية ما أن تؤمن لنفسها احتكار نمط الفرض الشرعي (مثل دور الخطاب عن التسامح في القرن الثامن عشر في النقد الذي خلاله كانت تجهد
الهوامش:
(*) هو عقاب جسدي يقضي بضرب أسفل الرجلين بالعصا.
الصفحة 117
شرائح المثقفين الجدد لهدم شرعية سلطة الفرض الرمزي للكنيسة).
إن الفكرة التي تقول بفعل بيداغوجي حر ثقافياً» يفلت من الاعتباطية سواء في ما يفرضه أم في طريقة فرضه، تفترض جهلاً بحقيقة الفعل البيداغوجي الموضوعية حيث ما زالت تعبر عن نفسها الحقيقة الموضوعية عن عنف تكمن خصوصيته في أنه يتوصل إلى أن يتناسى على أنه كذلك. لذلك هو، جفاء أن نجعل لتعريف الفعل البيداغوجي مقابلاً التجربة التي يمكن للمدرسين والمدرسين أن تكون الهم من الفعل البيداغوجي وبصورة خاصة من أنماط الفرض الأفضل صنعاً في برهة مسماة من الزمن كي يحجب اعتباط الفعل البيداغوجي البيداغوجيا غير الموجهة : إن في ذلك لسهو عن «أنه ليس ثمة من تربية ليبرالية (دوركايم)، وأنه يتعين ألا يُؤخذ الشكل الذي يلبسه الفعل البيداغوجي مثلاً حين لجوئه إلى الطرق «الليبرالية» التلقين استعدادات ليبرالية إلغاء لازدواجية اعتباطية الفعل البيداغوجي. ذلك أنه قد تكون الطريقة السلسة» المسلك الوحيد الناجع لممارسة سلطة العنف الرمزي في حال معين من علاقات القوة وفي حال من استعدادات هي تقريباً متسامحة إزاء المظهر العلني والغليظ للاعتباطية. وإن اتفق ان كان بالمستطاع اليوم الاعتقاد في إمكان فعل بيداغوجي من غير التزام ولا عقاب، فإن ذلك من أثر الإثنية المركزية التي تحمل على ألا ندرك باعتبارها كذلك، جزاءات نمط تلقين الفعل البيداغوجي، إن كان سمة مجتمعاتنا : أن نسبغ على التلامذة المحبة كداب المعلمات الأمريكيات، باستعمال الكني والنعوت الودودة وبالدعوة الملحة إلى الفهم الوجداني ونحو ذلك، يعني أن نلفي أنفسنا وقد وهبنا تلك الأداة للزجر الدقيق ذاك الذي يمثله التجرد العاطفي، إذ كان تقنية بيداغوجية ليست أقل اعتباطية على معنى القضية (1.1) من العقوبات الجسدية أو التوبيخ المهين. واذا كانت الحقيقة الموضوعية لذاك النمط من الفعل البيداغوجي
الصفحة 118
أعسر على الإدراك، ومن جهة، لأن التقنيات المستخدمة تواري الدلالة الاجتماعية للرابطة البيداغوجية وراء ظاهر علاقة نفسي محضاً. ومن جهة أخرى لأن انتماء تلك التقنيات إلى منظومة تقنيات السلطان التي تحدد نمط الفرض المهيمن، يسهم في الحيلولة دون أن يتبين الأعوان الذين أصطنعوا وفق نمط الفرض ذاك، سمته الاعتباطية. إن تزامن تحولات روابط السلطان، وهي روابط متلازمة التحول في علاقات القوة، لقادر على أن يجر إلى ارتفاع في عتبة التسامح إزاء المظهر العلني والغليظ لاعتباط ينزع في عوالم اجتماعية شديدة الاختلاف اختلاف الكنيسة والمدرسة والعائلة ومستشفى الأمراض النفسية أو حتى المؤسسة والجيش، إلى أن يستبدل الطريقة السلسة» بـ «الطريقة الخشنة مناهج غير موجهة، حوار مشاركة علاقات إنسانية (Human Relations)، ونحوه يفصحبالفعل عن رابطة التبعية المتبادلة التي تكون في صيغة نسق، تقنيات فرض العنف الرمزي، إن كانت سمات نمط الفرض التقليدي مثلما هي سمات نمط الفرض الذي ينزع إلى أن يستبدله في الوظيفة عينها.
2.1.1.2. في تشكيلة اجتماعية محدّدة، ينخرط، ضرورة، النفوذ الذي يزعم موضوعياً ممارسة سلطة الفرض الرمزي ممارسة شرعية والتي تنزع بفعل ذلك إلى المطالبة باحتكار الشرعية، في روابط تنافس، أي في علاقات قوة وعلاقات رمزية، تعبر بنيتها وفق منطقها عن حال علاقة القوة بين الزمر أو الطبقات.
حاشية 1. إن تلك المنافسة حتمية سوسيولوجياً بفعل أن الشرعية لا تتجزأ ليس ثمة من سلطة لشرعنة سلط الشرعية إن كانت دعاوى الشرعية تستقي قوتها النسبية في آخر التحليل من قوة الزمر أو الطبقات هي التي تعبر على نحو مباشر، أو عبر واسطة عن مصالحها المادية والرمزية.
الصفحة 119
حاشية 2 تخضع علاقات التنافس بين السلط المنطق الخصوصي لحقل الشرعية المعتبر (مثل الشرعية السياسية أو الدينية أو الثقافية ومن غير أن تنبذ أبداً استقلالية الحقل النسبي، بشكل تام التبعية لعلاقات القوة. إن الشكل الخصوصي الذي تتخذه الصراعات بين سلط تطمح إلى الشرعية في حقل مسمى، هو دوماً تعبيرة رمزية، محرفة على وجه التقريب العلاقات القوة التي تنشأ في ذاك الحقل بين تلك السلط. إنها سلط ليست بمستقلة أبداً عن علاقات القوة الخارجية عن النسق مثل جدلية التواصل السالف والبدعة والاحتجاج ضد الأرثوذكسية في التاريخ الأدبي أو الديني أو السياسي).
2.1.2. على اعتبار أن علاقة التواصل البيداغوجي التي فيها ينجز الفعل البيداغوجي، تفترض السلطان البيداغوجي حتى تنشأ، فإنها لا تختزل إلى علاقة تواصل من دون قيد أو شرط.
حاشية 1. خلافاً للحس المشترك ولعدد من النظريات العليمة التي تجعل من الإنصات على معنى الفهم شرط الاستماع (على معنى إعارة الانتباه ومنح قيمة في وضعيات التعلم الحقيقية (ومن ضمنها تعلم اللغة يُشرط الاعتراف بشرعية الإرسال، أي بشرعية السلطان المدرسي الذي للرسول، تلقي الإخبارية، بل أيضاً، يشرط انجاز الفعل المحول القادر على تحويل تلك الإخبارية تكويناً.
حاشية 2 يطبع السلطان البيداغوجي بمنتهى الشدة كل أوجه رابطة التواصل البيداغوجي إلى حد تعاش فيه تلك العلاقة أو تتصور على منوال علاقة التواصل البيداغوجي الرئيسة، أي الرابطة بين الآباء والأبناء، أو بصورة أعم الرابطة بين الأجيال. إن نزوع كل شخص ولي سلطاناً بيداغوجياً إلى إعادة إقامة العلاقة النموذجية بالأب، هو نزوع في منتهى القوة إلى حد أن الذي يدرس، حتى حديث السن
الصفحة 120
كان، ينزع إلى أن يُعامل بمثابة الأب مثل ما قال مانو (Manu) «إن البرهمي الذي يمنح الولادة الروحية ويعلم الواجب، حتى ولو كان طفلاً، هو بأمر من القانون أب للراشدين. ومثل ما قال فرويد : إننا نفهم الآن علاقاتنا بأساتذتنا أولئك الرجال الذين لم يكونوا هم أنفسهم آباء، أضحوا بالنسبة إلينا قائمين مقام الآباء. من أجل ذلك، كانوا يبدون لنا ذوي نضج كبير وذوي رشاد منيع، حتى لما كانوا لا يزالون ذوي من حديث كنا نحوّل إليهم التقدير والآمال، كان أب طفولتنا العليم يوحي بها إلينا. وأنشأنا نعاملهم مثلما نعامل أبانا في البيت.
2.1.2.1. على اعتبار أن كل فعل بيداغوجي قيد الممارسة يتهيأ منذ الوهلة الأولى على سلطان بيداغوجي، تدين علاقة التواصل البيداغوجي بسماها المخصة بها إلى أنها تلفي نفسها معفاة كلياً من إنتاج شروط قيامها وتأبيدها.
حاشية. تماماً على نقيض ما تنادي به أيديولوجيا الذائعة الصيت بين أساتذة يصبون إلى أن يحولوا علاقة التواصل البيداغوجي لقاء منتخباً بين «الأستاذ والتلميذ»، أي يصبون إلى الجهل في ممارساتهم المهنية بالشروط الموضوعية لتلك الممارسة أو إنكارها في خطابهم، إنهم ينزعون إلى التصرف موضوعياً مثلما قال فيبر كأنبياء صغار، أجرتهم الدولة من أجل ذلك، تتميز علاقة التواصل البيداغوجي عن مختلف أشكال علاقة التواصل التي ينشئها الأعوان أو السلط ابتغاء ممارسة سلطة عنف رمزي في غياب لكل سلطان مسبق ودائم إنهم يرغمون بذلك على أخذ الاعتراف الاجتماعي غلاباً وإعادة افتكاكه بلا هوادة. هو اعتراف يمنحه السلطان البيداغوجي للفور ولمرة واحدة انطلاقاً من هنا يُفسر أني تنزع السلط التي تطمح إلى ممارسة سلطة العنف الرمزي (دعائيون أو
الصفحة 121
إشهاريون أو مدرسون أو مطببون إلى آخر ذلك)، في اغتصابها مظاهر الممارسة الشرعية، أكانت مظاهر مباشرة أم معكوسة، من دون أن تكون قد امتلكت منذ الفور سلطاناً بيداغوجياً (أكانت أعواناً أم مؤسسات، إلى البحث عن كفالة اجتماعية على طريقة الساحر الذي ينشئ فعله مع الفعل البيداغوجي للقس رابطة مجاسة (مثل الكفالات العلمية» أو «البيداغوجية» التي يلتمسها الإشهار أو حتى التبسيط العلمي).
2.1.2.2. بسبب أن كل فعل بيداغوجي قيد الممارسة يتهيأ أصلاً على سلطان بيداغوجي، ولي على الفور الرسل البيداغوجيون بصفتهم أهلاً إبلاغ ما هم مبلغون على معنى أنهم أجيزوا فرض تلقيه ورقابة تلقينه بجزاءات مصادق عليها اجتماعياً أو هي مضمونة اجتماعياً.
حاشية 1. يتضح أن مفهوم السلطان البيداغوجي فقير من كل محتوى قيمي أن نقول إن علاقة التواصل البيداغوجي تفترض السلطان البيداغوجي للسلطة البيداغوجية أكان عوناً أم مؤسسة) لا يعني ذلك في شيء حكماً مسبقاً على القيمة المرتبطة جوهرياً بتلك السلطة، ذلك أن للنفوذ البيداغوجي تحديداً أثراً أن يؤمن قيمة الفعل البيداغوجي بمعزل عن القيمة الجوهرية للسلطة التي تمارسه، وأياً كانت مثلاً درجة تأهيل الرسول التقنية أو الكارزمية. إن مفهوم السلطان البيداغوجي يتيح الإفلات من وهم الماقبل السوسيولوجي الذي يقضي بأن يؤتمن الشخص الرسول الكفاءة التقنية أو النفوذ الشخصي. وهو سلطان حين الوقائع تمنحه المنزلة المضمونة تقليدياً أو مؤسسياً كل رسول بيداغوجي وهو فيها محل في رابطة تواصل بيداغوجي. إن الفصل ذا النزع الشخصاني بين الشخص والموقع إنما يُفضي إلى تقديم ما يبدو عليه الشخص، بموجب
الصفحة 122
موقعه على أنه كينونة الشخص الذي يحل بالمنزلة أو على أنه واجب وجود كل شخص حقيق أن يحل في الموقع)، فلا يُري أن للسلطان، الذي هو عليه من منزلته أثراً أن ينبذ إن بدا الشخص ما ليس هو عليه باد بموجب موقعه.
حاشية 2. لأن إرسالاً ما يجري في رابطة تواصل بيداغوجي يبلغ على الأقل بصفة دائمة تأكيداً لقيمة الفعل البيداغوجي، فإن السلطان البيداغوجي الذي يضمن التواصل ينزع دوماً إلى نبذ سؤال المردود الإخباري للتواصل. وكدليل على أن علاقة التواصل البيداغوجي علاقة لا اختزالية في علاقة تواصل محددة على نحو شكلي، وأن المحتوى الإخباري للرسالة لا يستنفذ محتوى التواصل، هو أن رابطة التواصل البيداغوجي قادرة على أن تبقي نفسها كذلك حتى لو نزعت الإخبارية المرسلة إلى أن تلغي نفسها»، مثلما يتضحفي الحالة القصوى للتعليم التدريبي أو على نحو أقرب في حال بعض ضروب التعليم الأدبي.
2.1.2.3. من جراء أن كل فعل بيداغوجي قيد الممارسة يتهيأ بطبيعته على سلطان بيداغوجي، فإن المتلقين البيداغوجيين مهيأون منذ الوهلة الأولى للاعتراف بشرعية الإخبارية المرسلة وبسلطان المرسلين البيداغوجيين، إذن هم مهيأون لتقبل الرسالة واستبطانها.
2.1.2.4. في تشكيلة اجتماعية محددة تزداد القوة، الرمزية تحديداً التي للجزاءات قوة، بقدر ما تنزل بزمر أو طبقات أكثر تهياً للاعتراف بالسلطان البيداغوجي الذي هو عليهم مفرضاً. أكانت الجزاءات جسدية أم رمزية إيجابية أم سلبية مضمونة قانوناً أم غير ذلك، تؤمن وتعزّز وتصدق على الدوام أثر فعل بيداغوجي ما.
2.1.3 في تشكيلة اجتماعية محددة ليس الفعل البيداغوجي
الصفحة 123
الشرعي، أي الذي وهب الشرعية المهيمنة شيئاً آخر غير الفرض الاعتباطي للاعتباط الثقافي المهيمن باعتباره مجهولاً في حقيقته الموضوعية إن كان فعلاً بيداغوجياً مهيمناً وفرضاً للاعتباط الثقافي المهيمن على معنى الفضية 1.1.3 والقضية (2.1).
حاشية. إن احتكار الشرعية الثقافية المهيمنة هو دوماً رهان تنافس بين سلط أو أعوان يستتبع ذلك أن فرض أرثوذكسية ثقافية يتناسب مع شكل مخصوص لبنية حقل التنافس، الذي هو حقل لا تظهر فرادته كلياً إلا إن نحن عزوناها إلى أشكال أخرى ممكنة مثل الانتقائية والتلفيقية كحل مدرسي للمعضلات التي يطرحها التنافس ابتغاء الشرعية في الحقل الفكري أو الفني والتي يطرحها التنافس بين قيم مختلف شرائح الطبقات المهيمنة وأيديولوجياتها.
2.2. على اعتبار أن الفعل البيداغوجي ولي سلطاناً بيداغوجياً، فإنه ينزع إلى إنتاج الجهل بالحقيقة الموضوعية للاعتباط الثقافي بفعل أنه كلما كان معترفاً به سلطة فرض شرعية ينزع إلى إنتاج الاعتراف بالاعتباط الثقافي، وهو اعتباط يلقنه على أنه ثقافة شرعية.
2.2.1. على اعتبار أن كل فعل بيداغوجي قيد الممارسة يتهيا للفور على سلطان بيداغوجي، تنزع علاقة التواصل البيداغوجي التي فيها ينجز الفعل البيداغوجي إلى إنتاج شرعية ما تبلغه أن يُعين ما هو مبلغ من جراء إبلاغه فحسب على نحو شرعي على معنى إرساله بمثابة أهل أن يبلغ في مقابل كل ما ليس مبلغاً.
حاشية 1. هكذا تتم مأسسة الإمكان السوسيولوجي للفعل البيداغوجي. هو إمكان يفضي التساؤل عن البدء المطلق للفعل البيداغوجي إلى اعتباره مستحيلاً منطقياً - وهذا تساؤل هو في حل
الصفحة 124
ذاته مختلق اختلاق التساؤل الذي يفضي إلى إحراجات العقد الاجتماعي أو إلى إحراجات الوضعية ما قبل لسانية التي تقوم على المسلمة الخفية، مثلما يتضح في مفارقة أو تيدام (*) (Euthydeme) لفعل بيداغوجي من غير سلطان بيداغوجي : إن ما تعلمه لست في حاجة إلى أن تتعلمه. وإن ما لا تعلمه لست بقادر على أن تتعلمه، ذلك أنك لا تعلم ما يتعين تعلمه.
حاشية 2. إن نختزل علاقة التواصل البيداغوجي في علاقة تواصل بلا قيد ولا شرط، يعني أن نمتنع عن فهم الشروط الاجتماعية لنجاعتها الرمزية تحديداً، والبيداغوجية تحديداً، وهي شروط تكمن بالضبط في تورية حقيقة أنها ليست مجرد علاقة تواصل. كما يعني بالمناسبة ذاتها أن نكره أنفسنا على أن نفترض وجود حاجة إخبارية لدى المتلقين هي حاجة، علاوة على ذلك، على علم بالإخباريات الجديرة بأن ترضيها، ووجودها سابق على وجود شروط إنتاجها الاجتماعية والبيداغوجية.
2.2.2. في تشكيلة اجتماعية محددة ليست الثقافة الشرعية أي الثقافة التي خصت الشرعية المهيمنة، شيئاً آخر إلا الاعتباط الثقافي المهيمن على اعتبار أنه مجهول من حقيقته الموضوعية إن كان حقيقة اعتباط ثقافي واعتباط ثقافي مهيمن (على معنى القضية 1.2.3 والقضية 2.2)
حاشية. إن الجهل بأمر أن الاعتباطيات الثقافية التي تعيد إنتاجها مختلف الأفعال البيداغوجية ليس باستطاعتها أبداً أن تحدد بمعزل عن
الهوامش:
(*) أو تيدام (Euthydeme) شخصية سفسطائية في محاورات أفلاطون حيث يكشف سقراط من خلاله ضلالات ومغالطات المنطق السفسطائي.
الصفحة 125
انتمائها إلى نسق اعتباطيات ثقافية هو تقريباً مندمج طبقاً للتشكيلات الاجتماعية، لكنه خاضع باستمرار الهيمنة الاعتباط الثقافي المهيمن يقوم مبداً لتناقضات سواء للأيديولوجيا في ما تعلق من أمر ثقافة الطبقات أم الأمم المهيمن عليها، أم من أمر الخطاب ذي المعرفة المتواضعة عن الاغتراب الثقافي أم نزع الاغتراب الثقافي. إن الجهل بما تدين به الثقافة الشرعية والثقافية المهيمن عليها إلى بنية روابطها الرمزية، أي إلى بنية علاقة الهيمنة بين الطبقات، يلهم العزم الشعبوي الثقافوي على تحرير الطبقات المهيمن عليها أن يعطيها وسائل أن تمتلك الثقافة الشرعية على ما هي عليه مع كل ما تدين به لوظائفها إن كانت وظائف تميز وشرعية (مثل برنامج الجامعات الشعبية أو دفاع اليعقوبيين عن تعليم اللاتينية)، بقدر ما يلهم المشروع الشعبوي الذي يقضي بإقرار شرعية الاعتباط الثقافي للطبقات المهيمنة مثلما صاغه أمر منزلته المهيمن عليها وصلبها أن تقدسه ثقافة شعبية». مفارقة الأيديولوجيا المهيمن عليها تلك والتي تعبر عن نفسها مباشرة في ممارسة الطبقات المهيمن عليها أو في خطابها (مثلاً في شكل تناوب بين الشعور باللاأهلية الثقافية وبالاحتقار العنيف للثقافة المهيمنة والتي يعيد إنتاجها ويضخمها الناطقون بلسان تلك الطبقات، سواء فوضوهم لذلك أم لم يفوضوهم، أو هم يفيضون فيها أن يضفوا على تلك المفارقة تعقداً من تناقضات رابطتهم بالطبقات المهيمن عليها ولأجل تناقضاتهم، مثل الثقافة البروليتارية (Proletkul) القادرة على أن تصمد أمام الشروط الاجتماعية التي تنتجها مثلما تشهد على ذلك الأيديولوجيا، بل حتى السياسة الثقافية للطبقات أو للأمم، التي كانت قديماً مهيمناً عليها والتي تتردد بين العزم على استرداد الإرث الثقافي الذي أورثتها إياه الطبقات والأمم المهيمنة والعزم على رد الاعتبار لبقايا الثقافة المهيمن عليها.
الصفحة 126
2.3. إن كل سلطة عوناً كانت أم مؤسسة تمارس فعلاً بيداغوجياً لا تتهيأ على سلطان بيداغوجي إلا على سبيل أنها مفوضة على الزمر والطبقات التي عليها تفرض الاعتباط الثقافي وفق نمط فرض حدده ذاك الاعتباط، أي على سبيل أنها صاحبة بالتفويض، حق العنف الرمزي
حاشية. أن نتطرق إلى تفويض السلطان ليس معناه أن نفترض وجود اتفاق صريح، بل الأكثر من ذلك ليس معناه أن نفترض وجود عقد مشفر بين زمرة أو طبقة ما وسلطة بيداغوجية ما، على الرغم من أنه حتى في حال الفعل البيداغوجي العائلي لمجتمع تقليدي، باستطاعة السلطان البيداغوجي للسلطة البيداغوجية أن يكون سلطاناً معترفاً به قانوناً ومصادقاً عليه قانوناً (أنظر حاشية القضية 1.1): في حقيقة الأمر، حتى اذا شفرت صراحة بعض أوجه السلطان البيداغوجي مثل تشفير حق العنف الذي يُنشىء سلطة الوطن» (Patria potestas) أو التحديدات القانونية للسلطان البيداغوجي الأبوي في مجتمعاتنا، أو أيضاً مثل حصر برامج التعليم والشروط القانونية لبلوغ السلطة المعنوية في مؤسسة مدرسية ما ليس كل ما في عقد التفويض، تعاقدي. وأن نتطرق إلى تفويض السلطان، فإن ذلك يعني فقط الإشارة إلى الشروط الاجتماعية لممارسة فعل بيداغوجي ما، أي الإشارة إلى المقربة الثقافية بين الاعتباط الثقافي الذي يفرضه ذاك الفعل البيداغوجي والاعتباط الثقافي للزمر أو الطبقات التي يصيبها بهذا المعنى، فإن كل فعل عنف رمزي يتأتى له أن يفرض نفسه أي أن يفرض الجهل بحقيقة عنفه الموضوعية) إنما يفترض موضوعياً تفويضاً للسلطان والحال أنه على عكس التمثلات الشعبية أو التي تدعي المعرفة التي تنسب إلى الإشهار أو إلى الدعاية، وبصورة أعم إلى الرسالات التي تحملها وسائل البث
الصفحة 127
الحديث من مذياع وتلفاز، سلطة التحكم في الآراء إن لم نقل ابتداعها، فإنه ليس لتلك الأفعال الرمزية أن تتحقق إلا على سبيل» أن تعترض استعدادات قبلية وتعززها، وعلى سبيل ذلك فقط (مثل العلاقات بين صحيفة وملأها). إنه ليس ثمة من قوة جوهرية للفكرة الحق». ثم إنه لا نرى موجباً لأن يكون للفكرة الخاطئة قوة حتى لو تكررت إنها علاقات القوة هي من يحدد دوماً الحدود. فيها يمكن القوة الردع التي لسلطة رمزية ما أن تفعل فعلها (مثل حدود النجاعة التي لكل تبشير أو دعاية ثورية تمارس على الطبقات المحظوظة). وكما أن الفعل النبوئي، أي الفعل الذي هو كفعل النبي الديني»، فإن «المؤلف» (Auctors) الذي لما يزعم أنه لقي مبدأ سلطانه» (Auctoritas) في نفسه عليه تظاهراً، أن يشكل من لا شيء السلطان البيداغوجي للرسول والاستحواذ تدريجياً على انخراط الملأ، لا يفلح إلا على سبيل أن يستند إلى تفويض للسلطان مسبق حتى لو كان خيالياً وضمنياً). وفي حقيقة الأمر فتحت طائلة أن ننذر الأنفسنا معجزة البدء المطلق مثلما كانت النظرية الكارزمية لماكس فيبر تحث على إتيانه يتعين أن نقر أن النبي الذي يفلح هو ذاك الذي يصوغ لاستعمال الزمر أو الطبقات التي إليها يتحدث رسالة، كانت الشروط الموضوعية التي تحدد المصالح المادية والرمزية لتلكم الزمر أو الطبقات تهيئهم مسبقاً لسماعها ووعيها. بتعبير آخر نقول إنه يتعين عكس الرابطة الظاهرة بين النبوءة وجمهورها: النبي الديني أو السياسي يعظ دوماً مهتدين ويتبع أنصاره على الأقل قدر ما أنصاره يتبعونه، ذلك أن من يستمع إلى مواعظه ويعيها إنما هم أولئك الذين دون سواهم بما أوتوا أعطوه موضوعياً تفويض وعظهم. وإن يتعين ألا ننكر الأثر الخالص لصياغة رسالة النبوءة صياغة نبوئية على نحو شبه منهجي والذي حسن صنع تلميحاتها واختزالاتها حتى تؤثر التفاهم ضمن سوء التفاهم والمضمر، يظل أن ليس بالوسع استنباط
الصفحة 128
حظوظ نجاح الرسالة النبوية من سمات الرسالة الجوهرية (مثل الانتشار المقارن للمسيحية والإسلام). إن التلفظ الذي يصدق أي يثبت ويقدس الانتظارات التي يأتي لإرضائها بمجرد النطق بها ليس بقادر على أن يضيف قوته المخصة به أي الرمزية تحديداً إلى علاقات القوة الموجودة مسبقاً لولا أنه يستقي قوته من التفويض الضمني إياه تمنح الزمر أو الطبقات المنخرطة في علاقات القوة تلك.
2.3.1. لا تتهيأ سلطة بيداغوجية على السلطان البيداغوجي الذي يمنحها سلطتها على شرعنة الاعتباط الثقافي الذي تلقنه إلا في الحدود التي سطرها ذاك الاعتباط الثقافي، أي من حيث إنها، سواء في نمط فرضها نمط الفرض الشرعي أم في حصر ما تفرضه وحصر أولئك الذين لهم سلطة فرضه المدرسون الشرعيون) وأولئك الذين عليهم تفرضه المرسل إليهم الشرعيون)، تعيد إنتاج مبادئ الاعتباط الثقافي الرئيسة التي تنتجها زمرة أم طبقة على أنها حقيقة جديرة بأن يعاد إنتاجها سواء بوجودها ذاته أم بواقع تفويض سلطة ما السلطان الضروري اللازم لإعادة إنتاجه.
حاشية. إن كان تبين الحدود الملزمة عن التفويض أمراً في منتهى اليسر عندما تكون محددة جهرة، مثلما عليه الحال كل مرة تمارس فيه مؤسسة مدرسية الفعل البيداغوجي، فإنها تلاحظ أيضاً في حال الفعل البيداغوجي الذي تمارسه الزمرة العائلية (سواء صلب الزمر أو الطبقات المهيمنة أو صلب الزمر أو الطبقات المهيمن عليها). ذلك أن تعريف المربين الشرعيين ودائرة الاختصاص الشرعية لفعلهم البيداغوجي ونمط الفرض الشرعي يلبس على سبيل المثال أشكالاً جد مختلفة وفق بنية القرابة والنمط الميراثي باعتباره نمط وراثة المتاع الاقتصادي والسلطة (مثل الأشكال المختلفة لتقسيم
الصفحة 129
العمل البيداغوجي بين الأقارب في التشكيلات الاجتماعية ذات النسب الأبوي أو الأمومي أو في مختلف الطبقات من التشكيلة الاجتماعية نفسها أيضاً). ثم إنه ليس مصادفة إن كانت تربية الأبناء موضوع تمثلات شقاقية، بل حتى مناسبة لتوترات أو نزاعات في كل مرة تتعايش فيها عائلات أو تتعايش داخل العائلة عينها سلالات أو أجيال تنتمي إلى طبقات مختلفة (مثل على الأقل، النزاعات في شأن حق الكهول من عائلة ما في ممارسة فعل بيداغوجي ما، وبخاصة في ممارسة زجر جسدي على أطفال من عائلة أخرى. ذاك الشقاق حول الحدود الشرعية للفعل البيداغوجي العائلي، يدين دائماً بشكله الخصوصي للموقع النسبي في بنية العلاقة الطبقية للزمر العائلية التي تجندها).
2.3.1.1. إن تفويض حق العنف الرمزي الذي يؤسس السلطان البيداغوجي لسلطة بيداغوجية ما، إنما هو أبداً تفويض محدود، أي أن تفويض سلطة بيداغوجية ما القدر المتيقن من السلطان لتلقين اعتباط ثقافي تلقيناً شرعياً وفق نمط الفرض الذي حدده ذاك الاعتباط، إنما هو تفويض له مقابل أنه يستحيل على تلك السلطة تحديد نمط الفرض والمحتوى المفروض والجمهور الذي عليه تفرض تحديداً حراً مبدأ الحد من استقلالية السلط البيداغوجية).
2.3.1.2. في تشكيلة اجتماعية محددة، فإن للجزاءات المادية أو الرمزية، الإيجابية أو السلبية، المكفولة قانوناً أم لا، والتي فيها يعبر النفوذ البيداغوجي عن نفسه، والتي تؤمن وتعزز وتصدق على الدوام أثر فعل بيداغوجي ما، حظوظاً أكثر أن يعترف بها شرعية، أي أن تكون لها قوة رمزية أكبر على معنى القضية 4,2,1,2) بقدر ما تنطبق على زمر أو طبقات، لتلك الجزاءات بالنسبة إليها حظوظ أكبر أن تؤيدها جزاءات سوق فيه تتكون القيمة الاقتصادية
الصفحة 130
والرمزية لمنتجات مختلف الأفعال البيداغوجية (مبدأ حقيقة السوق أو قانون السوق).
حاشية 1. إن الاعتراف الذي تمنحه موضوعياً زمرة ما أو طبقة ما سلطة بيداغوجية ما، إنما هو اعتراف مرتهن دوماً (أياً ما تكون التقلبات النفسية أو الأيديولوجية للتجربة المناسبة) الدرجة التي عندها تتبع القيمة التجارية والقيمة الرمزية لاعضائها لما يفعل فيهما الفعل البيداغوجي لتلك السلطة تحولاً وتصديقاً. إننا نفهم على سبيل المثال أن النبالة القروسطية لم تكن تولي إلا اهتماماً لماماً للتربية المدرسية. أو خلافاً لذلك نفهم أن الطبقات الحاكمة للمدن الإغريقية كانت تلتجئ إلى خدمات السفسطائيين أو مدرسي البلاغة. أو نفهم أيضاً في مجتمعاتنا أن الطبقات المهيمنة وعلى نحو أدق أن شرائح من الطبقات المتوسطة التي يتبع ارتقاؤها الاجتماعي الحالي والآتي المدرسة رأساً، تتميز عن الطبقات الشعبية بانقياد مدرسي يعبر عن نفسه، من جملة ما يعبر به في حساسيته الخصوصية إزاء الأثر الرمزي للعقوبات أو المكافآت أو على نحو أدق إزاء أثر الإشهاد الاجتماعي للألقاب المدرسية.
حاشية 2 كلما كانت السوق التي فيها تتكون قيمة منتجات مختلف الأفعال البيداغوجية موحدة أكثر، كان للزمر أو الطبقات التي خضعت لفعل بيداغوجي يلقن اعتباطاً ثقافياً مهيمناً عليه فرصا أكثر أن يذكروا بلا قيمة مكتسبهم الثقافي سواء من قبل جزاءات سوق الشغل المجهولة» أم من قبل جزاءات سوق الشغل الرمزية (مثل سوق الزوجية). ومن دون الحديث عن الأحكام المدرسية (*)، وهي دائماً أحكام مشحونة باستتباعات اقتصادية ورمزية، لأن تلك
الهوامش:
(*) على معنى نتائج الامتحانات Verdicts scolaires
الصفحة 131
الإنذارات تنزع إلى أن تنتج فيهم إن لم يكن الاعتراف الصريحالجهري بالثقافة المهيمنة باعتبارها ثقافة شرعية، فعلى الأقل، الوعي المقنع باللا أهلية الثقافية لمكتسباتهم على هذا النحو، فإنه عندما يوحد المجتمع البرجوازي السوق حيث تتكون قيمة منتجات مختلف الأفعال البيداغوجية، إنما ضاعف بالمقارنة مثلاً بمجتمع ذي نمط إقطاعي) فرص إخضاع منتجات الأفعال البيداغوجية المهيمن عليها المعايير التقدير للثقافة الشرعية، معلناً بذلك هيمنته ومقر إياها في صلب النظام الرمزي : يمكن إذن للعلاقة بين الأفعال البيداغوجية المهيمن عليها والفعل البيداغوجي المهيمن في تشكيلة اجتماعية كتلك التشكيلة أن تفهم مماثلة بالرابطة التي تنشأ في اقتصاد مزدوج بين نمط الإنتاج المهيمن وأنماط الإنتاج المهيمن عليها (مثل الفلاحة والحرف التقليدية والتي تخضع منتجاتها لقوانين سوق تهيمن عليها منتجات نمط إنتاج رأسمالي. إلا أن توحيد السوق الرمزية حتى لو كان توحيداً ذا بأس شديد لا يستبعد عنه بأي وجه من الوجوه أن تتوصل الأفعال البيداغوجية المهيمن عليها في أن تفرض على أولئك الذين تصيبهم على الأقل طيلة فترة ما، وفي بعض مجالات الممارسة الاعتراف بشرعيتها : إذ ليس يتأتى للعنف البيداغوجي العائلي أن يمارس في الزمر والطبقات المهيمن عليها إلا على سبيل أن يعترف به على أنه شرعي سواء أولئك الذين يمارسونه أم أولئك الذين يصيبهم حتى لو كتب على هؤلاء اكتشاف أن الاعتباط الثقافي الذي كان عليهم الاعتراف بقيمته ابتغاء اكتسابه هو اعتباط فقير إلى القيمة في سوق اقتصادية أو رمزية يهيمن عليها الاعتباط الثقافي للطبقات المهيمنة (مثل النزاعات التي تصاحب التثاقف بالثقافة المهيمنة سواء بالنسبة إلى المثقف المستعمر - الذي يسميه الجزائريون مطورن) (mturni) - أم بالنسبة إلى المثقف سليل الطبقات المهيمن عليها، وهو المثقف المقضي له إعادة تقييم السلطان الأبوي بما له
الصفحة 132
في ذلك من تبرؤ وحصر وتواؤم، وهو كثير).
2.3.1.3. إن السلطة بيداغوجية ما ألا تثبت شرعيتها المخصة بها، وألا تبررها بقدر ما يعيد الاعتباط الذي تلقنه، وعلى نحو مباشر أكثر إنتاج الاعتباط الثقافي للزمرة أو الطبقة الذي إليها تفوض سلطانها البيداغوجي.
حاشية. بهذا الاعتبار، يمثل الفعل البيداغوجي الذي يُمارس في مجتمع تقليدي حالة حدية، ذلك أنه لما كان يناوب سلطاناً اجتماعياً قليل التميز، ومن ثمة لا جدال فيه ومسلم به، فإنه لا يصاحبه لا تبرير أيديولوجي للسلطان البيداغوجي بما هوَ كذلك، ولا تخمين تقني في أدوات الفعل البيداغوجي. وكذلك الأمر حين يكون لسلطة بيداغوجية ما وظيفة رئيسة إن لم تكن وحيدة، أن تعيد إنتاج نمط عيش طبقة مهيمنة أو شريحة من الطبقة المهيمنة (مثل تكوين النبيل الصغير الشاب بإيداعه منزلاً نبيلاً - تبني إلى أجل (Fosterage) أو بدرجة أقل مثل تكوين السيد المهذب في جامعة أكسفورد التقليدية).
2.3.2. على اعتبار أن نجاح كل فعل بيداغوجي رهين الدرجة التي عندها يعترف المتلقون بالسلطان البيداغوجي للسلطة البيداغوجية والدرجة التي عندها يحذقون شفرة التواصل البيداغوجي الثقافية، فإن نجاح فعل بيداغوجي ما محدد في تشكيلة اجتماعية محددة رهين نسق الروابط بين الاعتباط الثقافي الذي يفرضه ذلك الفعل البيداغوجي والاعتباط الثقافي المهيمن في التشكيلة الاجتماعية المعتبرة، والاعتباط الثقافي الذي لقنته التربية الأولية صلب الزمر أو الطبقات حيث يُجنّد أولئك الذين يصيبهم ذاك الفعل البيداغوجي على معنى القضايا 2.1.2 و 2.1.3 و 2.2.2 و 2.3).
الصفحة 133
حاشية. حسبنا ان نحل مختلف أشكال الفعل البيداغوجي التاريخية، أو مختلف الأفعال البيداغوجية التي تمارس تزامنياً في تشكيلة اجتماعية بالنظر إلى مبادئ التغير الثلاثة تلك، حتى نفسر ما لتلك الأفعال البيداغوجية والثقافة التي تفرضها، من حظوظ على أن تتلقاها وتعترف بها زمر وطبقات لها من السلط البيداغوجية ومن الزمر والطبقات المهيمنة مواقع مختلفة. وبديهي أن وسم فعل بيداغوجي ما بالنظر إلى تلك الأبعاد الثلاثية، يعطينا فهماً أفضل لسمات ذاك الفعل البيداغوجي بقدر ما يكون اندماج مختلف الأفعال البيداغوجية للتشكيلة الاجتماعية نفسها في نسق متراتب موضوعياً أكثر شمولاً، أي بقدر ما تكون السوق التي فيها تتكون قيمة مختلف المنتجات الاقتصادية والرمزية للأفعال البيداغوجية موحدة على نحو أكثر كمالاً بحيث إن نتاج فعل بيداغوجي مهيمن عليه له حظوظ أكبر أن يخضع لمبادئ التقدير التي يعيد إنتاجها الفعل البيداغوجي المهيمن.
2.3.2.1. في تشكيلة اجتماعية محددة، يرتهن النجاح التفاضلي للفعل البيداغوجي المهيمن بحسب الزمر أو الطبقات، (أولاً) بالخلق البيداغوجي المخص بزمرة أو بطبقة، أي بنسق الاستعدادات حيال ذاك الفعل البيداغوجي وبالسلطة التي تمارسه باعتباره نتاجاً لاستبطان (أ) القيمة التي يمنحها الفعل البيداغوجي المهيمن عبر جزاءاته لنتاجات مختلف الأفعال البيداغوجية العائلية، و(ب) القيمة التي تمنحها مختلف الأسواق الاجتماعية عبر جزاءاتها الموضوعية لنتاجات الفعل البيداغوجي المهيمن وفق الزمرة أو الطبقة التي منها ينسلون. و(ثانياً) بالرأس المال الثقافي، أي بالنعم الثقافية التي تورثها مختلف الأفعال البيداغوجية العائلية، والتي قيمتها باعتبارها رأس مال ثقافياً مرتهنة بالمسافة بين الاعتباط
الصفحة 134
الثقافي الذي يفرضه الفعل البيداغوجي المهيمن والاعتباط الثقافي الذي يلقنه الفعل البيداغوجي العائلي في شتى الزمر أو الطبقات 2.3.2 و 2.3.1.2 على معنى القضايا 2.2.2.
2.3.3. على اعتبار أن الفعل البيداغوجي له سلطانه البيداغوجي من تفويض لسلطان ينزع إلى أن يعيد إنتاج لدى أولئك الذي يصيبهم العلاقة التي ينشئها أعضاء زمرة أو طبقة ما بثقافتهم، أي يعيد إنتاج الجهل بالحقيقة الموضوعية لتلك الثقافة باعتبارها اعتباطاً ثقافياً (مركزية إثنية).
2.3.3.1. في تشكيلة اجتماعية محددة، ينزع نسق الأفعال البيداغوجية، باعتباره خاضعاً لأثر هيمنة الفعل البيداغوجي المهيمن، إلى إعادة إنتاج في (صلب) الطبقات المهيمنة مثلما في الطبقات المهيمن عليها الجهل بالحقيقة الموضوعية للثقافة الشرعية باعتبارها اعتباطاً ثقافياً مهيمناً تسهم إعادة إنتاجه في إعادة إنتاج علاقات القوة على معنى القضية 1.3.1).
3. في العمل البيداغوجي
.3 على اعتبار أن الفعل البيداغوجي فرض اعتباطي لاعتباط ثقافي يفترض السلطان البيداغوجي، أي يفترض تفويض سلطان على معنى العنصر الأول والعنصر الثاني يلزم عنه أن تعيد السلطة البيداغوجية إنتاج مبادئ الاعتباط الثقافي الذي تفرضه زمرة ما أو طبقة ما أهلاً بأن يعيد إنتاجه سواء بمعيشتها، أم بأن تفوّض سلطة ما السلطان الضروري لإعادة إنتاجه على معنى القضية 2.3 والقضية 2.3.1)، فإنه يلزم عنه العمل البيداغوجي باعتباره عمل تلقين عليه أن يطول قدراً كي ينتج تكويناً مستديماً، أي ينتج ها بتوساً باعتباره نتاجاً لاستبطان مبادئ اعتباط ثقافي قادر على أن
الصفحة 135
يتأبد بعدما يفرغ الفعل البيداغوجي، ومن ثمة قادر على أن يؤبد في الممارسات مبادئ الاعتباط المستنبطة.
حاشية 1. على اعتبار أن الفعل البيداغوجي فعل يتعين عليه أن يدوم حتى ينتج ها بتوساً دائماً، أي على اعتبار أنه فعل فرض وتلقين لاعتباط ليس له أن يتحقق كلياً إلا بالعمل البيداغوجي، فإنه يتميز عن أفعال العنف الرمزي المتقطعة والخارجة عن المألوف مثل أفعال النبي أو المثقف المبدع أو الساحر. ولا يتأتى للأفعال كتلك الأفعال أن تحدث تحولاً عميقاً ودائماً في أولئك الذين تصيبهم إلا متى تدوم في فعل تلقين مستمر، أي في عمل بيداغوجي مثل الوعظ والدروس الدينية المسيحية للقساوسة أو الشرح الأستاذي لـ «النصوص القديمة). وبالنظر إلى الشروط التي يتعين الوفاء بها حتى يتحقق عمل بيداغوجي ما (المربي، يقول ماركس، في حاجة بدوره إلى أن يربي)، فإن كل سلطة بيداغوجية تميزها ديمومة بنيوية أكثر طولاً إذا ساوينا في ما عدا ذلك)، من سلط أخرى تمارس سلطة عنف رمزي لأنها تنزع إلى أن تعيد قدر ما تتيح لها استقلاليتها النسبية الشروط التي فيها أنتج معيدو الإنتاج، أي شروط إعادة إنتاجها : مثل إيقاع تحول الفعل البيداغوجي ايقاعاً في منتهى البطء الذي لتحوّل الفعل البيداغوجي، أتعلق الأمر بالنزع المحافظ للفعل البيداغوجي الذي تمارسه العائلة التي وليت التربية الأولية، تنزع إلى تحقيق توجهات كل فعل بيداغوجي تحقيقاً أكثر اكتمالاً، فتستطيع بالتالي حتى في المجتمعات الحديثة أن تؤدي دور حفاظة للتقاليد الموروثة أو العطالة مؤسسات تعليم تصبو وظيفتها المخصة بها دائماً إلى أن تعيد إنتاج ذاتها بأدنى تغيير ممكن يصيبها على شاكلة المجتمعات التقليدية.
حاشية 2 إن التربية، بصفتها أداة رئيسية للاستمرارية التاريخية والتي تعتبر سيرورة، تتم من خلالها عبر الزمن إعادة إنتاج الاعتباط
الصفحة 136
الثقافي بوساطة إنتاج الهابتوس المنتج لممارسات مطابقة للاعتباط الثقافي (أي بواسطة توريث التكوين على أنه إخبارية قادرة على إخبار» المتلقين على الدوام، هي من منزلة الثقافة نظير توريث رأس المال الجيني من منزلة البيولوجيا لما كان الهابتوس للرأس مال البيولوجي مثيلاً، فإن التلقين الذي يحدد إنجاز الفعل البيداغوجي مثيل للجيل على اعتبار أن التلقين يورث اخبارية مولدة الإخبارية مماثلة.
3.1. على اعتبار أن العمل البيداغوجي عمل تلقين مديد ينتج تكويناً دائماً، أي ينتج منتجين لممارسات مطابقة لمبادئ الاعتباط. الثقافي لزمر أو طبقات تُفوّض الفعل البيداغوجي، السلطان البيداغوجي، فإنه ينزع إلى إعادة إنتاج الشروط الاجتماعية لإنتاج ذاك الاعتباط الثقافي، أي إعادة إنتاج البنى الموضوعية، وهو منها نتاج، عبر وساطة الهابتوس باعتباره مبدأ مولداً لممارسات تعيد إنتاج البني الموضوعية.
3.1.1. تقاس موضوعياً إنتاجية العمل البيداغوجي الخصوصية بالدرجة التي عندها ينتج أثر التلقين المخص به، أي ينتج أثر إعادة الإنتاج.
3.1.1.1. تقاس إنتاجية العمل البيداغوجي الخصوصية، أي الدرجة التي عندها يتوصل إلى تلقين المرسل إليهم الشرعيين الاعتباط الثقافي، وقد أوتي فيه تفويض إعادة إنتاجه، بالدرجة التي عندها يكون الها بتوس الذي ينتجه دائماً، أي قادراً على إفراز على نحو أدوم الممارسات المطابقة لمبادئ الاعتباط الملقن.
حاشية. نستطيع أن نقابل أثر الفعل البيداغوجي المخص به لأثر السلطة السياسية بواسطة مداهما الزمني حيث تعبر عن نفسها
الصفحة 137
الديمومة البنيوية لسلطات الفرض المناسبة للأثرين : إن العمل البيداغوجي قادر على تأبيد على نحو أدوم من الإكراه السياسي، الاعتباط الذي يلقنه اللهم إلا إذا لم تلتجئ السلطة السياسية بدورها إلى عمل بيداغوجي، أي إلى تعليمية خصوصية). إنه على سبيل أن السلطة الدينية تتجسد في كنيسة تمارس عملاً بيداغوجياً مباشراً أو موسطاً، أي عبر وساطة الأسر (مثل التربية المسيحية)، تخبر عن الممارسات على نحو دائم بتعبير آخر نقول إن سلطة العنف الرمزي للفعل البيداغوجي، وهي تلتجئ إلى العمل البيداغوجي، إنما تنخرط في الزمن الطويل على نقيض سلطان سلطة سياسية تكابد باستمرار معضلة تأبيدها (توارثها).
3.1.1.2. تقاس إنتاجية العمل البيداغوجي الخصوصية، أي الدرجة التي عندها يدرك تلقين المرسل إليهم الشرعيين الاعتباط الثقافي الذي أوتي تفويض إعادة إنتاجه بالدرجة التي عندها يكون الهابتوس الذي ينتجه قابلاً للنقل، أي قادراً على إفراز ممارسات مطابقة لمبادئ الاعتباط الثقافي الملقن في أكثر عدد من الحقول المختلفة.
حاشية. على هذا النحو يقاس نفوذ سلطة دينية بالدرجة التي عندها يفرز الهابتوس عبر العمل البيداغوجي للسلط البيداغوجية المناسبة ممارسات مطابقة لمبادئ الاعتباط الملقن في مجالات أبعد عن تلك التي يضبطها المذهب جهرة كالتصرفات الاقتصادية أو الخيارات السياسية. كذلك هي القوة المشكلة للتقاليد (بانوفسكي) (*) الخاصة بالتربية السكولاستيكية (المدرسية)، تعرف
الهوامش:
(*) إروين بانوفسكي (1892-1986)، أمريكي من أصل ألماني، اشتهر بدراسته للرموز في الأيقونات.
الصفحة 138
بآثارها التي تنتجها في بنية الكاتدرائية القوطية أو في هيئة الرسوم المنقوشة.
3.1.1.3. تقاس إنتاجية العمل البيداغوجي الخصوصية، أي الدرجة التي عندها يدرك تلقين المرسل إليهم الشرعيين الاعتباط الثقافي، وقد أوتي تفويض إعادة إنتاجه بالدرجة التي عندها يكون الها بتوس الذي ينتجه شمالاً، أي يعيد إنتاج، على نحو أكمل في الممارسات التي يفرزها، مبادئ الاعتباط الثقافي الزمرة ما أو لطبقة ما.
حاشية. على الرغم من أن تناسب مقاسات أثر إعادة الإنتاج الثلاثة ليس تناسباً حتمياً منطقياً، فإن نظرية الهابتوس باعتباره مبدأ موحداً ومولداً للممارسات إنما تتيح فهم كيف أن ديمومة ها بتوس ما وقابليته على النقل وشموليته هي مسائل مترابطة بقوة في الوقائع.
3.1.2. يلزم عن التفويض الذي يؤسس فعلاً بيداغوجياً، علاوة على تتخيم المحتوى الملقن تعريفاً لنمط التلقين (نمط التلقين الشرعي ولمدة التلقين زمن التكوين الشرعي). وهما اللذان يحددان درجة انجاز العمل البيداغوجي منظوراً إليه ضرورياً وكافياً لإنتاج شكل الهابتوس المكتمل، أي درجة الاكتمال الثقافي (درجة الكفاءة الشرعية، درجة حدّها تعترف زمرة ما أو طبقة ما بالإنسان المكتمل.
3.1.2.1. في تشكيلة اجتماعية محددة، يلزم عن التفويض الذي يؤسس الفعل البيداغوجي المهيمن علاوة على تتخيم المحتوى الملقن، تعريفاً مهيمناً لنمط التلقين ولمدة التلقين، وهما اللذان يحددان درجة اكتمال العمل البيداغوجي منظوراً إليه ضرورياً وكافياً لإنتاج شكل الها بتوس المكتمل، أي درجة الاكتمال الثقافي (درجة الكفاءة الشرعية في موضوع الثقافة الشرعية). عندها تنزع ليس
الصفحة 139
الطبقة المهيمنة فحسب إنما الطبقات المهيمن عليها أيضاً إلى الاعتراف بـ «الإنسان المثقف، وعندها أيضاً يتم موضوعياً نتاجات الأفعال البيداغوجية المهيمن عليها، أي مختلف أشكال الإنسان المكتمل، مثلما يعرفه نفسه الاعتباط الثقافي للزمر والطبقات المهيمن عليها.
3.1.3. على اعتبار أن العمل البيداغوجي، عمل تلقين مديد ينتج ها بتوساً دائماً وقابلاً للنقل، أي عملاً يلقن مجموع المرسل اليهم الشرعيين نسق ترسيمات إدراك وتفكير وتقدير وفعل (متماثلة جزئياً أو كلياً، فإنّه يُسهم في إنتاج وإعادة إنتاج الاندماج الفكري والاندماج الأخلاقي للزمرة أو للطبقة التي باسمهما يُمارس.
حاشية. لن نستطيع الإفلات من سذاجة فلسفات الوفاق الاجتماعية إلا شريطة أن يتضح لنا أن اندماج زمرة ما قائم على الهوية كلية أو جزئية ها بتوسات التي لقنها العمل البيداغوجي ليس إلا، أي شرط أن نعثر على مبدأ تجانس الممارسات في الهوية الكلية أو الجزئية للقواعد المولدة للممارسات حتى يتأتى لنا الإفلات من سذاجات فلسفات الوفاق الاجتماعية التي أيان تختزل اندماج زمرة ما في امتلاكها سجل تمثلات مشترك تمتنع مثلاً عن تعقل وحدة الممارسات أو الآراء أو وظيفتها الإدماجية هي ممارسات وآراء في ظاهرها مختلفة، بل حتى متناقضة، لكنها في باطنها أنتجها الها بتوس المولد (مثل نمط المنتجات الفنية لعهد ما ولطبقة ما محددين). ثم إن الهابتوس عينه قادر على إفراز ممارسة بقدر ما هو قادر على إفراز نقيضها، إذ له مبدأ منطق المباينة مثل أمر الهابتوس عند مثقفين مبتدئين نزاعون بوجه خاص إلى اللعب بطريقة مباشرة لعبة رسم الحدود فكرياً، فإن ها بتوس الطبقات المحظوظة لقادر على إفراز آراء سياسية أو جمالية متناقضة جذرياً تكشف وحدتها العميقة عن نفسها
الصفحة 140
فقط في ضروب الجهر بالعقيدة أو في الممارسات).
3.1.3.1. على اعتبار أن العمل البيداغوجي عمل تلقين مديد ينتج استبطان مبادئ اعتباط ثقافي في شكل ها بتوس دائم وقابل للنقل، وبالتالي قادر على إفراز ممارسات مطابقة لتلك المبادئ خارج كل تقعيد وتذكير علنيين بالقاعدة، وبعيداً عنهما، فإنه يتيحللزمرة أو للطبقة التي تفوّض الفعل البيداغوجي سلطانها على إنتاج اندماجها الفكري والأخلاقي وإعادة إنتاجهما من غير أن تلجأ إلى القمع الخارجي، وعلى الأخص إلى الإكراه الجسدي.
حاشية. إن العمل البيداغوجي بديل من القسر الجسدي. ذلك أن القمع الجسدي مثل الحجر في سجن أو في منفى يأتي بالفعل ليجازي خيبات استبطان اعتباط ثقافي ما. وهو أيضاً بديل مغل : مع أن العمل البيداغوجي منكر أكثر ولعله بسبب ذلك إلا أنه على الأقل على قدر من النجاعة على المدى الطويل أكثر من القسر الجسدي. هو قسر لا يقدر على إنتاج أثر في ما هو أبعد من الانتهاء من ممارسته المباشرة، اللهم إذا كان ينزع باستمرار إلى ممارسة علاوة على ذلك أثر رمزي نقصد من ذلك مروراً من الكرام أن الملك لم يكن يوماً عارياً، وأنه فقط تصوّر مثالي ببراءة عن القوة الجوهرية للعدالة، وهو تصوّر يتأسس على الفصل الضمني بين القوة وتمثلات الشرعية التي تفرزها ضرورة، ويمكن أن يفضي إلى الكلام مع برتراند راسل (B. Russel) وآخرين من بعده عن القوة العارية (Naked Power)). هكذا، ينزع العمل البيداغوجي، على اعتبار أنه يؤمن تأبيد آثار العنف الرمزي ينزع إلى إنتاج استعداد دائم على أن يقدم في الحالات كلها مثل ما هو في شأن الخصوبة أو الخيارات الاقتصادية أو الالتزامات السياسية الإجابة المناسبة (أي الإجابة التي يتوقعها الاعتباط الثقافي من دون غيرها من الإجابات) للحواث
الصفحة 141
الرمزية التي تصدر عن السلط التي وليت السلطان البيداغوجي الذي جعل العمل البيداغوجي منتج الهابتوس ممكناً (مثل آثار الوعظ الكهنوتي، أو آثار الفتاوى البابوية باعتبارها تجديداً للفاعلية الرمزية للتربية المسيحية).
3.2. على اعتبار أن العمل البيداغوجي الذي له السلطان البيداغوجي شرط ممارسة مسبق، فعل مبدل نزاع إلى تلقين تكوين ما على أنه نسق استعدادات دائمة وقابلة للنقل، فإن له محصلة أن يؤيد لا إعكاسياً السلطان البيداغوجي ويصدقه، أي شرعية الفعل البيداغوجي والاعتباط الثقافي الذي يلقنه أن ينكر أكثر فأكثر على نحو كامل بواسطة التوفق بين تلقين الاعتباط، اعتباط التلقين واعتباط الثقافة الملقنة.
حاشية. أن نرى في حضور السلطان البيداغوجي مبدأ للفعل البيداغوجي ونهاية له، حلقة مفرغة، يعني أن نجهل أنه، وفق ترتيب النشأة السيرة وتتالي الأجيان)، لا يحطمن السلطان البيداغوجي الذي يتهيأ عليه كل فعل بيداغوجي قيد الممارسة، الحلقة البيداغوجية التي إليها نذر فعل بيداغوجي ما من غير سلطان بيداغوجي، إلا ليسجن أكثر فأكثر على نحو كامل من يصيبه العمل البيداغوجي الذي صار بذلك ممكناً، في حلقة الإثنية المركزية للزمرة أو الطبقة). سوف نعثر على تمثل نموذجي لتلك المفارقة في حلقة التعميد والتأييد: ذلك أنه يفترض بإتمام الجهر بالعقيدة» (*)، وقد تمت في سن الرشد أن يصادق استردادياً على العهد الذي أخذ المناسبة التعميد تعميد كان يُنذر إلى تربية تسوق ضرورة إلى ذاك
الهوامش:
(*) Profession de foi على معنى التعميد ثانية لما يبلغ المرء أشده ويسكنه النضج.
الصفحة 142
الجهر بالعقيدة. هكذا، على قدر ما يكتمل العمل البيداغوجي، ينتج أكثر فأكثر على نحو مكتمل الشروط الموضوعية للجهل بالاعتباط الثقافي، أي بشروط تجربة الاعتباط الثقافي الذاتية باعتباره ضرورياً على معنى أنه طبيعي. فمن ذا الذي يتداول في ثقافته هو بعد مثقف، وإن أسئلة ذاك الذي يظن أنه يضع موضع تساؤل مبادئ تربيته، هي أسئلة لها أيضاً تربيته مبدأ. إن الأسطورة الديكارتية التي تقول بعقل فطري، أي بثقافة طبيعية أو بطبيعة مثقفة وجودها سابق لوجود التربية، إن كانت وهماً استردادياً مسجلاً بالضرورة في التربية باعتبارها فرضاً اعتباطياً قادراً على فرض نسيان الاعتباط، ليست إلا حلا سحرياً آخر لدائرة السلطان البيداغوجي: بسبب أننا كنا جميعاً أطفالاً من قبل أن نبلغ أشدنا، وأنه تعين علينا أن تملك علينا طويلاً شهواتنا، ويحكمنا مربونا الذين غالباً ما كان بعضهم لبعض مناقضاً، ولعله ما كان لا هؤلاء ولا هؤلاء ينصحوننا دوماً بأفضل الأشياء، كان من شبه المستحيل أن تكون أحكامنا في منتهى النقاء ومنتهى الرسوخ مثلما كان يفترض بها أن تكون عليه لو استعملنا استعمالا كاملاً عقلنا منذ لحظة ولادتنا، ولولا كنا منقادين أبداً إلا به». على هذا النحو لا نفلت من حلقة التعميد إن كان تعميداً مؤكداً لا محالة، إلا لنتقرب إلى استعارة الولادة الثانية التي يمكننا أن نرى نسختها الفلسفية في الهوام التراتسندنتالي لإعادة اكتساب فكر لا مفكر به له، بخصال الفكر دون سواها.
.3.2.1. باعتبار أن العمل البيداغوجي عمل تلقين مديد ينتج على نحو مكتمل أكثر فاكثر الجهل بالاعتباط المضاعف للفعل البيداغوجي، أي الاعتراف بالسلطان البيداغوجي للسلطة البيداغوجية وبشرعية المنتوج الذي تعرضه، فإنه ينتج بشكل لا انفصام له شرعية المنتوج والحاجة الشرعية إلى ذاك المنتوج باعتباره منتوجاً شرعياً إن ينتج المستهلك الشرعي، أي الذي خص بالتعريف
الصفحة 143
الاجتماعي للمنتوج الشرعي وبالاستعداد على استهلاكه وفق الأشكال الشرعية.
حاشية. 1. إن العمل البيداغوجي قادر دون سواه على تحطيم الحلقة التي فيها نتقوقع، إذ نغفل عن أن الحاجة الثقافية» حاجة مثقفة، أي إذ نفصلها عن شروط إنتاجها الاجتماعية : هكذا، هو البر الديني أو الثقافي الذي يفرز ممارسات دينية أو جمالية كممارسات الارتياد المواظب للكنيسة أو المتحف هي نتاج سلطان العائلة البيداغوجي وبدرجة ثانية نتاج للمؤسسة أو الكنيسة أو المدرسة) والذي في مجرى السيرة الذاتية يحطم دائرة «الحاجة الثقافية» إن يكرس متاع الخلاص الديني أو الثقافي متاعاً يستحق أن يُسعى إليه، وأن ينتج الحاجة إلى ذاك المتاع بمجرد أن يفرض استهلاكه. ومتى علمنا أن الحاجة إلى ارتياد المسرح أو الكنيسة لها ارتياد المسرح أو الكنسية شرطاً، وأن الارتياد المواظب يفترض الحاجة إلى الارتياد، يتضح أنه لكي تكسر حلقة الدخول الأول للكنيسة أو المتحف، توجب أن يكون ثمة استعداد ما ماقبلي على الارتياد، هو استعداد لن يكون شيئاً آخر، اللهم إلا إذا اعتقد في معجزة القضاء والقدر، سوى استعداد الأسرة على إتيان الارتياد بالارتياد في انتظار أن ينتج ذلك الارتياد استعداداً دائماً على الارتياد. وفي حال الدين أو الفن يسوق نسيان النشأة إلى شكل خصوصي لوهم ديكارت : إن أسطورة الميل الفطري الذي لا يدين بشيء إلى إكراهات التعلم، إن كان ميلاً معطى برمته منذ المهد، تحوّل الحتميات القادرة على إنتاج، سواء الاختيارات الحتمية أم نسيان تلك الحتمية، خيارات حرة لحكم حر أصيل.
حاشية. 2. إلا أنه عندما يتضح أن العمل البيداغوجي ينتج بلا انفصال المنتوج الشرعي على أنه أي باعتباره شيئاً جديراً بأن
الصفحة 144
يستهلك مادياً أو رمزياً (أي مُجلّ ومولع به وموقر ومُعجب به إلى غير ذلك، والميل إلى استهلاك ذلك الشيء مادياً أو رمزياً، فإننا ننذر أنفسنا إلى التساؤل إلى ما لا نهاية عن أولوية الإجلال أم المجل، وعن الولع أم المولع به، وعن التوفير أم الموقر، وعن الإعجاب أم المعجب به إلى غير ذلك، أي ننذر أنفسنا إلى التأرجحبين الجهد لاستنباط الاستعدادات حيال الشيء من خاصيات جوهرية للشيء، والجهد لاختزال خاصيات الشيء إلى خاصيات تمنحها اياها استعدادات الفاعل. وفي واقع الأمر ينتج العمل البيداغوجي أعواناً، إن تهيأوا على الاستعداد المناسب لا يستطيعون لها تطبيقاً إلا على بعض أشياء وعلى أشياء تبدو للأعوان الذين أنتجهم العمل البيداغوجي كأنها تستدعي الاستعداد المناسب أو هي تلزمه.
3.2.2. على اعتبار أن العمل البيداغوجي عمل تلقين مديد ينتج على نحو مكتمل أكثر فأكثر الجهل بالاعتباط المضاعف للفعل البيداغوجي، ينزع إلى تورية على نحو أكثر اكتمالاً حقيقة الهابتوس الموضوعية بقدر ما يكون أكثر اكتمالاً باعتبار أن الها بتوس استبطان لمبادئ اعتباط ثقافي وهو استبطان يكون أكثر اكتمالاً بقدر ما يكون عمل التلقين أكثر اكتمالاً.
حاشية. لذلك نفهم أن التعريف الاجتماعي للامتياز ينزع دوماً إلى أن يرجع إلى الطبيعي»، أي إلى شاكلة للممارسة تفترض درجة إنجاز للعمل البيداغوجي القادر على أن يُنسي ليس الاعتباط المضاعف للفعل البيداغوجي فحسب، وهو له نتاجاً، إنما كل ما تدين الممارسة المنجزة به للعمل البيداغوجي (مثل الفضيلة» (L'Arete) الإغريقية، أو يسر «الأمين أو اسار (Sarr) للرجل الشريف القبائلي، أو الاتباعية المضادة لمنزع الاتباعية للديواني).
3.2.2.1. على اعتبار أن العمل البيداغوجي عمل تلقين مديد
الصفحة 145
ينتج على نحو مكتمل أكثر فأكثر الجهل بالاعتباط المضاعف للفعل البيداغوجي، أي ينتج من جملة ما ينتجه الجهل بالتتخيم الذي يكون الاعتباط الثقافي الذي يلقنه، فإنه ينتج على نحو مكتمل أكثر فأكثر، الجهل بالحدود الإتيقية والفكرية، وهي حدود مرتبطة باستبطان ذلك التتخيم إثنية مركزية إتيقية ومنطقية).
حاشية. القصد هنا أن العمل البيداغوجي الذي ينتج الهابتوس باعتباره نسق ترسیمات تفكير وإدراك وتقدير وفعل، ينتج الجهل بالحدود التي تلزم عن ذاك النسق، بحيث إن نجاعة البرمجة الإيتيقية والمنطقية التي ينتجها تلفي نفسها وقد ضاعفها الجهل بالحدود الملازمة المتضمنة لتلك البرمجة. وهو جهل مرتهن لدرجة إنجاز العمل البيداغوجي : ما كان الأعوان الذين ينتجهم العمل البيداغوجي أسرى بالكامل للتحديدات التي يفرضها الاعتباط الثقافي على فكرهم وعلى ممارستهم لو أنهم وقد غلق عليهم الإنضباط الذاتي والرقابة الذاتية تلك الحدود وهي حدود على قدر لاواعي الأعوان بها يستبطنون مبادئها استبطاناً)، لم يكونوا يحيون فكرهم وممارساتهم في وهم الحرية والكونية.
3.2.2.1.1. في تشكيلة اجتماعية محددة يدرك العمل البيداغوجي الذي من خلاله يتم الفعل البيداغوجي المهيمن فرض شرعية الثقافة السائدة فرضاً أفضل بقدر ما يكون أكثر اكتمالاً، أي بقدر ما يدرك على نحو أكثر اكتمالاً فرض الجهل بالاعتباط المهيمن على أنه كذلك. وليس فرضه فقط على متلقي الفعل البيداغوجي الشرعيين، إنما على أعضاء الزمر أو الطبقات المهيمن عليها أيضاً الأيديولوجيا المهيمنة للثقافة الشرعية باعتبارها ثقافة أصلية وحيدة، أي باعتبارها ثقافة كونية).
3.2.2.1.2. في تشكيلة اجتماعية محددة للعمل البيداغوجي
الصفحة 146
الذي من خلاله ينجز الفعل البيداغوجي المهيمن وظيفة حفظ النظام دوماً، أي وظيفة إعادة إنتاج بنية علاقات القوة بين الزمر أو الطبقات على اعتبار أن العمل البيداغوجي ينزع إما عبر التلقين أو عبر النبذ إلى فرض الاعتراف بشرعية الثقافة المهيمنة على أعضاء الزمر أو الطبقات المهيمن عليها، وإلى أن إجبارهم على استبطان بدرجات متغيرة انضباطات ورقابات لا تخدم جيداً المصالح المادية أو الرمزية للزمر أو الطبقات المهيمنة، إلا لما تأخذ شكل انضباط ذاتي ورقابة ذاتية.
3.2.2.1.3. في تشكيلة اجتماعية محددة، ينزع العمل البيداغوجي الذي من خلاله ينجز الفعل البيداغوجي المهيمن الذي ينزع إلى فرض الاعتراف بشرعية الثقافة المهيمنة على أعضاء الزمر أو الطبقات المهيمن عليها، إلى أن يفرض عليهم، في المناسبة نفسها، عبر التلقين أو النبذ الاعتراف بلا شرعية اعتباطهم الثقافي.
حاشية. على نقيض تمثل مفقر للعنف الرمزي، تمارس طبقة ما على أخرى عبر وساطة التربية هو تمثل مشترك، بشكل مفارق، بين أولئك الذين يشهرون بهيمنة أيديولوجية مختزلة في رسم كأنه أكل عن غصب وعند أولئك الذين يتظاهرون بالأسف على أن يفرض على أطفال من أوساط متواضعة، ثقافة لم تخلق لهم)، فعلاً بيداغوجياً مهيمناً لا ينزع إلى تلقين الإخبارية المشكلة للثقافة المهيمنة حتى ولو كان بسبب أن للعمل البيداغوجي إنتاجية مخصوصة أدنى ومدة أقصر بقدر ما يمارس على زمر وطبقات هي من السلم الاجتماعي أسفله بقدر ما ينزع إلى تلقين شرعية الثقافة المهيمنة أمراً واقعياً، مثل أن يجعل أولئك المنبوذين من مجموع المتلقين الشرعيين يستبطنون إما قبل كل تربية مدرسية، وذلك في أغلب المجتمعات، وإما في أثناء الدراسة شرعية إقصائهم، أو أن يجعل
الصفحة 147
أولئك الذين تدنئهم في ضروب التعليم من الدرجة الثانية يعترفون بدونية تلك الضروب من التعليم وبدونية متلقيه، أو أن يلقن أيضاً من خلال الخضوع إلى اختصاصات مدرسية والانتساب إلى تراتبيات ثقافية، استعداداً قابلاً للنقل ومعمماً لتقدير اختصاصات علمية وتراتبيات اجتماعية باختصار، نقول في الحالات كلها إن أهم قوة الفرض الاعتراف بالثقافة المهيمنة باعتبارها ثقافة شرعية، والاعتراف المرتبط بلاشرعية الاعتباط الثقافي للزمر والطبقات المهيمن عليها، يكمن في النبذ هو نبذ لعله لا يتأتى له ذلك القدر من القوة الرمزية إلا متى يلبس عليه مظاهر النبذ الذاتي. وما من شيء إلا يجري كما لو كانت مدة العمل البيداغوجي الشرعية الذي وهبت الطبقات المهيمن عليها محددة موضوعياً مثلما حدد الزمن الضروري والكافي حتى يتخذ حدث النبذ كل قوته الرمزية، أي حتى يظهر لأولئك الذين يصيبهم جزاء لعدم أهليتهم الثقافية، وحتى لا يعذر الجاهل بجهله لقانون الثقافة الشرعية : إن أحد آثار التمدرس الإجباري الأقل ظهوراً، يتمثل في أنه يدرك الحصول من الطبقات المهيمن عليها على اعتراف بالمعرفة والكياسة الشرعيتين مثل ما هو الأمر في شأن القانون أو الطب أو الثقافة أو الترفيه أو الفن، ما يتأتى منه بخس المعرفة والكياسة التي تحذقها حقيقة مثل العرف أو الطب المنزلي أو التقنية الحرفية أو اللغة والفن الشعبيين أو أيضاً كل ما يحمله الهروب عن الدرس بحسب تعبیر میشلیه (*) (Michelet)، وتوفّر من ثمة سوقاً لإنتاجات مادية، وخاصة رمزية، وسائل إنتاجها (بدءاً بالدراسات العليا هي حكر تقريباً على الطبقات المهيمنة (مثل
الهوامش:
(*) جول ميشليه (1798-1874)، مؤرخ وكاتب وأديب فرنسي من أنصار الجمهورية والفكر الحر والرومانطيقية، اشتهر بتأليف الكتب المدرسية.
الصفحة 148
التشخيص الطبي الاستشارة القانونية الصناعة الثقافية إلى غير ذلك).
.3.3. على اعتبار أن العمل البيداغوجي سيرورة لا إعكاسية تنتج في الزمن الضروري لتلقين استعداد لا إعكاسي، أي استعداد في حد ذاته ليس بالإمكان قمعه أو تغييره إلا بسيرورة لا إعكاسية تنتج بدروها استعداداً جديداً لا إعكاسياً، فإن ينتج الفعل البيداغوجي الأولي التربية الأولى الذي ينجز في عمل بيداغوجي لا سابق له عمل بيداغوجي أولي ينتج ها بتوساً أولياً، سمة زمرة ما أو طبقة ما، وهو مبدأ تشكل لاحق لكل ها بتوس آخر.
حاشية. بشيء من السخرية نذكر هنا هوسرل (*) (Husserl)، وهو يكتشف بداهة جينيا الوجيا الوعي الإمبيريقية : لقد تلقيت تربية الألماني وليس تربية الصيني. لكنها أيضاً تربية حضري في مدينة صغيرة، وفي إطار عائلي ومدرسة برجوازي صغير. وهي ليست بتربية نبيل ريفي ملاك للعقار كبير نشأ في مدرسة حربية. ثم يلاحظ أنه لو تأتى لنا دوماً أن تندر لأنفسنا معرفة عالمة لثقافة أخرى أو حتى إتيان تربية كرة أخرى مطابقة لمبادئ تلك الثقافة (مثلاً عبر محاولة الاطلاع على مسلسلة الدروس المقدمة في المدرسة الحربية، أو عبر إعادة تربيته على الطريقة الصينية») فان التلاؤم مع الصين ليس ممكناً بكل معنى الكلمة مثلما هو غير ممكن التلاؤم بكل معنى الكلمة مع نموذج ينكر (Junker) بكامل وجوده العيني. (**)
الهوامش:
(*) إدموند هوسرل (1859-1938) فيلسوف الفينومينولوجيا.
(**) الينكر (Junker) الأرستقراطية العقارية في بروسيا وألمانيا الشرقية وترجع بأصولها إلى النبلاء الإقطاعيين من الأورادل الذين قاموا باستعمار وتنصير شمال شرق أوروبا في القرنين الحادي عشر والثاني عشرة
الصفحة 149
3.3.1. إن درجة الإنتاجية الخصوصية لكل عمل بيداغوجي آخر غير العمل البيداغوجي الأولي عمل بيداغوجي ثانوي) رهينة المسافة التي تفصل الهابتوس الذي ينزع إلى تلقينه (أي الاعتباط الثقافي المفروض)، عن الهابتوس الذي لقنته الأعمال البيداغوجية الخالية ولقنه، رجوعاً إلى أول المطاف العمل البيداغوجي الأولي أي الاعتباط الثقافي الأصلي).
حاشية 1. يتبع نجاح كل تربية مدرسية، وعلى نحو أعم، كل عمل بيداغوجي ثانوي، بشكل أساسي التربية الأولى التي سلفتها، حتى إذ تأبى المدرسة تلك الأولوية في أيديولوجيتها وفي ممارستها حين تجعل التاريخ المدرسي تاريخاً لا تاريخ له، وبخاصة إذ تأبى ذلك: إننا نعلم أنه من خلال عموم التعاليم المرتبطة بالتصرف في المعيش اليومي، وبخاصة من خلال اكتساب اللغة الأم أو استعمال مفردات القرابة وصلاتها، فإن ما يحذق تحديداً هو استعدادات منطقية في الحال العملي. وتهيىء ما قبلياً تلك الاستعدادات على نحو متفاوت، إن كانت استعدادات معقدة تقريباً صيغت رمزياً تقريباً بحسب الزمر والطبقات للحذق الرمزي في العمليات التي تلزم عن استنباط رياضي بقدر ما هي تلزم عن فك رموز أثر فني.
حاشية 2. تتضح لنا أيضاً السذاجة الكامنة في طرح معضلة النجاعة التفاضلية لمختلف سلطات العنف الرمزي (مثل الأسرة المدرسة، وسائل الاتصال الحديثة، إلى غير ذلك)، هي سذاجة تقضي أن تأتي تجريداً كسدنة تعبد جبروت المدرسة، أو كأنبياء القدرة المطلقة لـ وسائل الاتصال، للا إعكاسية سيرورة التعليم، هي لا إعكاسية تقضي بأن يكون الهابتوس المكتسب داخل الأسرة مبدأ لتلقي الرسالة المدرسية واستيعابها، وأن الهابتوس المكتسب بالمدرسة مبدأ لدرجة التلقي ولدرجة استيعاب الرسائل التي تنتجها
الصفحة 150
الصناعة الثقافية وتوزعها، وبصورة أعم لكل رسالة عليمة أو نصف عليمة.
3.3.1.1. إن نمط تلقين محدد يتسم على جهة القضية المعتبرة (3.3.1 بالمنزلة الذي يحلّ فيه بين (أولاً) نمط التلقين الذي يبتغي القيام باستبدال ها بتوس بآخر استبدالاً كاملاً (القلب)، و(ثانياً) نمط التلقين الذي يبتغي تأكيد بلا قيد ولا شرط الهابتوس الأولي (أي صوناً له أو تعزيزاً).
حاشية. يتيسر استنباط الأساسي من سمات الأعمال البيداغوجية الثانوية التي تبتغي تحديداً قلباً جذرياً (Metanoia) من الضرورة التي فيها تلفي الأعمال البيداغوجية نفسها مدعوة إلى أن تنظم شروط ممارستها الاجتماعية بغية إماتة الرجل المسن وإلى أن تفرز من عدم الها بتوس الجديد. أفلا ننظر مثلاً إلى النزع إلى الشكلنة البيداغوجية، أي إلى تجلي اعتباط التلقين اعتباطاً لأجل الاعتباط، وعلى نحو أعم، إلى فرض القاعدة لأجل القاعدة؟ الذي يمثل الخاصية الرئيسة لنمط التلقين الخاص بأفعال القلب البيداغوجية : مثل ممارسات لتقوى وجلد الذات ( تحمقوا ) والتدريب العسكري، إلى غير ذلك. في شأن هذا تتيح المؤسسات الكلية (الثكنة والدير والسجن والمنافي والداخلية أن نتبين بكل وضوح تقنيات الانبتات الثقافي وإعادة المثاقفة على عمل بيداغوجي يبتغي إنتاج ها بتوس شبيه قدر الإمكان بذاك الذي تنتجه التربية الأولى أن يلجأ إليها أخذاً في الحسبان ها بتوساً موجوداً ما قبلياً. في الطرف الآخر، تمثل المؤسسات التقليدية لفتيات العائلات الميسورة الشكل النموذجي للمؤسسات البيداغوجية كلها التي ليس لها مرسل إليهم بموجب إواليات الاصطفاء والاصطفاء الذاتي، إلا أعوان خصوا من قبل ها بتوساً قليل الاختلاف ما أمكن عن ذاك الذي يتعلق الأمر بإنتاجه.
الصفحة 151
مثلما تستطيع أن تكتفي بتنظيم مظاهر تعليم ناجعة حقيقة، ذاك أمر لا يكون من غير تفاخر ومغالاة مثل المدرسة القومية للإدارة). وإذا كان في الأزمنة التي فيها تعهد الطبقات المهيمنة التربية الأولية للأبناء إلى أعوان ينتمون إلى طبقات دنيا تمثل مؤسسات التعليم التي ادخرت لهم خاصيات المؤسسة الكلانية كلها، فلأنه يتعين عليها في تلك الحالة القيام بإعادة تأهيل حقيقي مثل داخلية المعاهد اليسوعية أو المدارس الثانوية الألمانية والروسية للقرن التاسع عشر).
3.3.1.2. بالنظر إلى أن الهابتوس الأولي الذي لقنه العمل البيداغوجي الأولي هو من البناء الما بعدي لكل ها بتوس مبدأ، فإن درجة الإنتاجية المخصة بعمل بيداغوجي ثانوي ما تقاس على تلك الجهة بالدرجة التي عندها يكون جهاز الوسائل الضرورية لإنجاز العمل البيداغوجي نمط التلقين موضوعياً منظماً بالنظر إلى المسافة التي تفصل الها بتوس الذي يبتغي تلقينه والها بتوس الذي انتجته الأعمال البيداغوجية السابقة.
حاشية. بقدر ما يكون عمل بيداغوجي ثانوي ما أكثر إنتاجية شرط أن نأخذ في الحسبان الدرجة التي عندها يتهيأ على من يُرسل إليهم الرسالة البيداغوجية شفرة تلك الرسالة، ينتج على نحو أكثر اكتمالاً شروط التواصل البيداغوجية بواسطة التنظيم المنهجي لتمارين تبتغي تأمين استيعاب شفرة الإرسال على عجل، ومن ثمة تأمين تلقين الهابتوس على عجل.
3.3.1.3. تقاس درجة تقليدية نمط تلقين ما بالدرجة التي عندها يتم تنظيم نمط التلقين نفسه موضوعياً بالإحالة إلى ملأ محدد من المرسل إليهم الشرعيين، أي بالدرجة التي عندها يفترض توفق العمل البيداغوجي الثانوي أن يكون المرسل إليهم قد خصوا بالها بتوس المناسب (أي الخُلق البيداغوجي ورأس المال الثقافي
الصفحة 152
المخصين بالزمر أو الطبقات التي يعيد العمل البيداغوجي إنتاج اعتباطهم الثقافي).
3.3.1.3.1. من جراء أن نمط التلقين المهيمن ينزع في تشكيلة اجتماعية محددة إلى أن يستجيب لمصالح الطبقات المهيمنة، أي المرسل إليهم الشرعيين تنزع الإنتاجية التفاضلية للعمل البيداغوجي المهيمن بحسب الزمر أو الطبقات التي عليها يمارس إلى أن تكون مرتهنة للمسافة بين الهابتوس الأولي الذي لقنه العمل البيداغوجي الأولي في شتى الزمر أو الطبقات والهابتوس الذي لقنه العمل البيداغوجي المهيمن (أي رهن الدرجة التي عندها تكون التربية أو التثاقف إعادة تأهيل أو انبتات بحسب الزمر أو الطبقات).
3.3.2. بالنظر (أولاً) إلى أن الجهر بالمبادئ التي هي قيد التنفيذ في الممارسة وشكلنتها، أي الحذق الرمزي لتلك الممارسة يتبعان ضرورة وفق الترتيب المنطقي والتعاقبي الحذق العملي لتلك المبادئ، أي أن الحذق الرمزي ليس لنفسه أس مُخصاً به أبداً. وبالنظر (ثانياً) إلى أن الحذق الرمزي حذق لا إختزالي في الحذق العملي الذي منه يفعل فعله، وإليه يضيف مع ذلك أثره الخاص فإن تبعة ذلك (أولاً) أن كل عمل بيداغوجي ثانوي ينتج ممارسات ثانوية لا إختزالية للممارسات الأولية التي يمنحها الحذق الرمزي. و(ثانياً) أن الحذق الثانوي الذي ينتجه يفترض حذقاً ما قبلياً أكثر قرباً من الحذق العملي البسيط للممارسات بقدر ما يمارس في وقت مبكر أكثر وفق الترتيب البيوغرافي.
حاشية. لا يلقن التعليم المدرسي لقواعد اللغة قواعد جديدة بحصر المعنى مولدة للممارسات اللسانية. ذلك أن على الطفل أن يمتلك في الحال العملي المبادئ التي يتعلم إخضاعها للرقابة المنطقية مثل التصريف والإعراب والتراكيب النحوية، وغير ذلك.
الصفحة 153
إلا أنه متى يكتسب التشفير العالم لما يصنعه، يكتسب إمكان فعله بأكثر وعي وبأكثر نظامية (أنظر بياجي (*) وفيغوتسكي (**). إن هذا التحول مماثل وفق الترتيب البيوغرافي للسيرورة التاريخية التي بها يتحوّل عُرف ما أو قضاء تقليدي (Kadi Justiz) ما إلى قانون عقلاني، أي إلى قانون مشفّر انطلاقاً من مبادئ جهرية (أنظر على نحو أعم التحاليل الفيبرية للسمات العامة لسيرورة العقلنة من أمر الدين والفن والنظرية السياسية، وغير ذلك. وكنا قد رأينا ضمن المنطق عينه أن نجاح فعل الرسول في الفرض الرمزي رهن بالدرجة التي عندها يدرك تفسير المبادئ التي تمتلكها الزمرة من قبل في الحال العملي التي إليها يتكلم ويردها نظامية.
3.3.2.1. يتسم نمط تلقين محدد أي منظومة الوسائل التي بها ينتج استبطان اعتباط ثقافي ما على جهة القضية المعتبرة (3.3.2) بالموقع الذي يحلّ فيه بين (أولاً) نمط التلقين الذي ينتج ها بتوساً بالتلقين اللاواعي لمبادئ لا تتجلى إلا في الحال العملي في الممارسة المفروضة بيداغوجيا مضمرة) و(ثانياً) نمط التلقين الذي ينتج الهابتوس بتلقين منظم منهجياً على أنه كذلك لمبادئ شكلت أو هي تشكلت (بيداغوجيا جهرية).
حاشية. من العبث أن نعتقد في إمكان تراتب نمطي التلقين المتناقضين هذين وفق إنتاجيتهم الخصوصية طالما أن تلك النجاعة، متى قيست بديمومة الهابتوس المنتج وقابليته على النقل، يتعذر
الهوامش:
(*) جان بياجي (1980) - 1896) (Piaget فيلسوف وعالم نفساني سويسري، أشهر من درس علم النفس والابيستمولوجيا ونظرية المعرفة خصوصاً عند الأطفال.
(**) ليف فيغوتسكي (1934-1896) (Lev Vygotsky) سوفياتي مؤسس علم النفس الثقافي التاريخي.
الصفحة 154
تعريفها بمعزل عن المحتوى الملقن وعن الوظائف الاجتماعية التي يوفي بها، في تشكيلة اجتماعية محددة العمل البيداغوجي المعتبر : كذلك هي البيداغوجيا المضمرة هي البيداغوجيا الأنجع بلا ريب، إذا تعلق الأمر بتوريث معارف تقليدية ولا متميزة وكلية التدرب على معاملات أو على مهارات يدوية على سبيل أنها تلزم المريد أو المتدرب التماهي مع كلية شخص القطب» أو «المصاحب» إن كان أكثر حنكة لقاء حط حقيقي للذات يُقصي تحليل مبادئ التصرف المثالي. ومن جهة أخرى، يمكن لبيداغوجيا مضمرة، متى تفترض اكتساباً ما قبلياً، تظل في ذاتها قليلة النجاعة حين تنطبق على أعوان يفتقرون لذاك المكتسب أن تكون مثمرة جداً للطبقات المهيمنة، إذ يمارس الفعل البيداغوجي المناسب لتلك البيداغوجيا المضمرة صلب نسق أفعال بيداغوجية يهيمن عليها الفعل البيداغوجي المهيمن، ويُسهم بالتالي في إعادة الإنتاج الثقافي، ومن ثمة في إعادة الإنتاج الاجتماعي بأن يؤمن لمالكي المكتسب الماقبلي احتكار ذاك المكتسب.
3.3.2.2. بالنظر إلى أن لكل عمل بيداغوجي ثانوي أثراً مخصاً به إنتاج ممارسات لا اختزالية في ممارسات يمنحها الحذق الرمزي، تقاس درجة الإنتاجية الخصوصية لعمل بيداغوجي على تلك الجهة بالدرجة التي عندها يكون نسق الوسائل الضرورية الإنجاز العمل البيداغوجي نمط التلقين موضوعياً منظماً ابتغاء تأمين بالتلقين العلني لمبادئ مشفرة وشكلية قابلية الهابتوس الشكلية على التحويل.
.3.3.2.3. تقاس درجة تقليدية نمط تلقين ما بالدرجة التي عندها تختزل الوسائل الضرورية لإنجاز العمل البيداغوجي في الممارسات التي تعبر عن الهابتوس المفترض إعادة إنتاجه والتي
الصفحة 155
تنزع بمجرد أن ينجزها بشكل مكرر أعوان ولوا النفوذ البيداغوجي، إلى إعادة إنتاج على نحو مباشر ها بتوس حددته قابليته العملية على التحويل.
حاشية. يكون عمل بيداغوجي ما أكثر تقليدية بقدر (أولاً) ما تكون تخومه باعتباره ممارسة مميزة ومستقلة أقل وضوحاً، و(ثانياً) بقدر ما تمارسه سلطات ذات وظائف كلية أكثر ولا متميزة أكثر، أي بقدر ما يختزل اختزالاً في سيرورة استئناس صلبها يرسل الأستاذ الاواعياً متوسلاً التصرف المثالي مبادئ لا يحذقها واعياً البتة، إلى متلق يستبطنها لاواعياً. على الأقل مثلما يتضح ذلك في المجتمعات التقليدية، فإن كامل الزمرة وكامل البيئة باعتبارهما نسقاً لشروط الوجود المادية يمارسان من غير أعوان متخصصين ولا أوقات مخصوصة فعلاً بيداغوجياً لا إسمياً وذائعاً على اعتبار أنهما خصا بالدلالة الرمزية التي تمنحهما إياها سلطة فرض ما مثل تشكل الهابتوس المسيحي في العصر الوسيط عبر روزنامة الأعياد باعتبارها مدونة التعاليم الدينية، وعبر تنظيم الفضاء اليومي أو الأشياء الرمزية باعتبارها كتاباً في التقوى).
3.3.2.3.1. في تشكيلة اجتماعية محددة يستند العمل البيداغوجي الأولي الذي يصيب أعضاء شتى الزمر والطبقات على نحو مكتمل إلى القابلية العملية على النقل التي تخضعهم شروط وجودهم الاجتماعي بصرامة أكبر لاستعجال الممارسة، فينزع بذلك إلى الحيلولة دون تكوّن المهارة في حذق الممارسة حذقاً رمزياً وتطويرها.
حاشية. لو سلمنا بأن عملاً بيداغوجياً ما، بقدر ما يكون قريباً من البيداغوجيا العلنية، يلتجئ أكثر إلى التلفظ وإلى التصور التصنيفي، لاتضح لنا أن العمل البيداغوجي الأولي يعد الأعمال
الصفحة 156
البيداغوجية الثانوية المستندة إلى بيداغوجيا جهرية إعداداً أفضل بقدر ما يمارس في زمرة أو في طبقة، تمكنها شروط وجودها الاجتماعية من أن تتخذ مسافاتها إزاء الممارسة، أي من تحييد» في مقام الخيال أو في مقام التفكير، الطوارئ الحياتية تلك التي تفرض على الطبقات المهيمن عليها استعداداً تداولياً. ذاك أمر يكون بقدر ما يكون الأعوان المكلفين بممارسة العمل البيداغوجي الأولي قد أعدهم بدورهم على نحو متفاوت جداً للحذق الرمزي عمل بيداغوجي ثانوي، ويكونون بفعل ذاك مؤهلين على نحو متفاوت جداً لتوجيه العمل البيداغوجي الأولي نحو التلفظ والتفسير والصياغة النظرية للحذق العملي التي تلزمها الأعمال البيداغوجية الثانوية (مثل على الأقل الاستمرارية بين العمل البيداغوجي العائلي والعمل البيداغوجي المدرسي داخل عائلات المدرسين أو المثقفين).
3.3.3. بالنظر إلى التفويض الذي يؤسسه، ينزع العمل البيداغوجي المهيمن، فأن ذاك العمل ينزع إلى أن يعفي نفسه إعفاء من تلقين المقدمات التي هي شرط إنتاجيته الخصوصية تلقيناً جهراً بقدر ما يحذق المرسل إليهم الشرعيون حذقاً الاعتباط الثقافي المهيمن، أي بقدر ما يكون قسط أكبر مما للعمل البيداغوجي تفويض تلقينه (رأس المال والخلق) قد لقنه من قبل العمل البيداغوجي الأولي للزمر أو للطبقات المهيمنة.
3.3.3.1. في تشكيلة اجتماعية حيث سواء في الممارسة البيداغوجية أم في مجموع الممارسات الاجتماعية، يُنيط الاعتباط الثقافي المهيمن الحذق العملي بالحذق الرمزي للممارسات، ينزع العمل البيداغوجي إلى أن يعفي نفسه على نحو أكثر اكتمالاً من تلقين المبادئ التي تجيز الحذق الرمزي تلقيناً جهرياً بقدر ما يكون الحذق في الحال العملي للمبادئ التي تجيز الحذق الرمزي
الصفحة 157
للممارسات قد لقنه على نحو أكثر اكتمالاً العمل البيداغوجي الأولي للزمر والطبقات المهيمنة المرسل إليهم الشرعيين.
حاشية. على نقيض ما تقترحه بعض النظريات التي تأخذ بمذهب المنشأ النفسي المورث التي تصف نمو الذكاء كسيرورة كونية لتحوّل الحذق الحسي الحركي تحوّلاً خطياً إلى حذق رمزي، تنتج الأعمال البيداغوجية لشتى الزمر أو الطبقات أنساق استعدادات أولية لا يتباين بعضها عن بعض فقط تباین درجات تفسیر مختلفة للممارسة نفسها، إنما تتباين تباين نماذج حذق عملي عميمة تعد مسبقاً على نحو متفاوت لاكتساب النمط الخصوصي للحذق الرمزي الذي يؤثره الاعتباط الثقافي المهيمن على هذا النحو، فإن حذقاً عملياً مضروفاً تلقاء التحكم بالأشياء والتحكم بالعلاقة بالكلمات وهي له قرين، لا يعد مسبقاً للحذق العالم لقواعد التلفظ المثقف أكثر مما يُعد حذق عملي ولي وجهه صوب التحكم في الكلمات وصوب العلاقة بالكلمات وبالأشياء التي تجيزها أولية التحكم بالكلمات. ذلك أنه متى يكون للعمل البيداغوجي الثانوي مرسلاً إليهم شرعيين، أفراداً خصهم العمل البيداغوجي الأولي بالحذق العملي التلفظ منه غالب، فإن العمل البيداغوجي الأولي وهو الذي له تفويض تلقين، أساساً، حذق لسان ما وعلاقة ما باللسان لقادر بشكل مفارق على أن يكتفي ببيداغوجيا مضمرة، بخاصة إذا تعلق الأمر باللغة لكونه قادراً على أن يتوكل على ها بتوس يحمل في الحال العملي الاستعداد المسبق لاستعمال اللغة وفق علاقة مثقفة باللغة ( مثل الحميمة البنيوية بين تعليم الإنسانيات والتربية البرجوازية الأولية). وعلى عكس ذلك، ففي عمل بيداغوجي ثانوي له وظيفة معلنة هي تلقين الحذق العملي للتقنيات اليدوية (مثل تعليم التقانة في منشآت التعليم التقني) يكفي مجرد تفسير في خطاب عالم مبادئ التقنيات التي يمتلك الأطفال
الصفحة 158
سليلي الطبقات الشعبية من قبل حذقها العملي، حتى تقذف الوصفات والمهارات اليدوية بلا شرعية «الترفيع البسيط، على غرار التعليم العام الذي يختزل لغتهم إلى رطانة أو إلى لغة اصطلاحية أو إلى بربرة هنالك يكمن أحد أقوى الآثار الاجتماعية للخطاب العليم؛ خطاب يفصل مالك المبادئ مثل المهندس) عن الممارس البسيط (مثل التقني) بسد لا يستطاع له خرقاً.
3.3.3.2. بالنظر إلى أن العمل البيداغوجي الثانوي المهيمن في نموذج التشكيلة الاجتماعية المحددة في القضية 3.3.3.1 والذي يلجأ إلى نمط تلقين تقليدي على معنى القضية 3.3.1.3 والقضية 3.3.2.3)، له إنتاجية خصوصية ضعيفة بقدر ما يمارس على زمر أو على طبقات تمارس عملاً بيداغوجياً أولياً أكثر بعداً عن العمل البيداغوجي الأولي المهيمن الذي يلقن من جملة ما يلقنه حذقاً عملياً التلفظ منه غالب، إن عملاً بيداغوجياً كذاك العمل ينزع إلى إنتاج صلب ممارسته ذاتها، وبها تتخيماً للمرسل إليهم الممكن وجودهم واقعياً بأن يُقصي بسرعة كبيرة مختلف الزمر أو الطبقات بقدر ما يفتقرون على نحو أكثر اكتمالاً إلى رأس المال والخلق اللذين يفترضهما موضوعياً نمط تلقينه.
3.3.3.3. بالنظر إلى أن العمل البيداغوجي الثانوي المهيمن في نموذج التشكيلة الاجتماعية المحددة في القضية 3.3.3.1 والذي متى يلجأ إلى نمط تلقين تقليدي يُعرف نفسه باعتباره لا ينتج تماماً شروط إنتاجيته، لقادر على تأدية وظيفة الإقصاء، من دون أن يفعل غير الإحجام، فإن عملاً بيداغوجياً كذاك العمل ينزع إلى إنتاج ليس تتخيماً للمرسل إليهم الذين بالإمكان وجودهم واقعياً فحسب، إنما أيضاً الجهل بأواليات ذاك التتخيم، أي ينزع إلى أن يجعل المرسل إليهم بالفعل كمرسل إليهم شرعيين، وأن يجعل مدة التلقين التي
الصفحة 159
إليها أخضعت بالفعل شتى الزمر أو الطبقات كمدة تلقين شرعية.
حاشية. إن كان كل فعل بيداغوجي مهيمن يفترض تتخيماً للمرسل إليهم الشرعيين، فغالباً ما يؤتى الإقصاء (النبذ) بأواليات برانية عن السلطة الممارسة للعمل البيداغوجي، أتعلق الأمر بأثر الأواليات الاقتصادية المباشر تقريباً، أو بالأنظمة العرفية أو القانونية (مثل العدد المغلق) (*) (Numerus clausus) باعتبارها تحديداً قسرياً للمرسل إليهم بالنظر إلى معايير إثنية أو معايير أخرى). ثم إن فعلاً بيداغوجياً يقصي بعضاً من فئات المرسل إليهم فقط بعمل نمط التلقين، إن كان سمة عمله البيداغوجي، يواري على نحو أفضل وأكمل من أي عمل بيداغوجي آخر اعتباط تتخيم لملئه فعلياً. إنه يفرض عندئذ بأكثر سلاسة شرعية منتجاته وشرعية تراتبياته (وظيفة العدالة الاجتماعي). بوسعنا أن نبصر في المتحف الذي يتخم ملأه ويُشرعن ميزته الاجتماعية بتأثير مستواه الإرسالي فقط، أي بمجرد أنه يفترض مسبقاً حيازة الشفرة الثقافية الضرورية لفك شفرة الأعمال المعروضة الحد الذي تلقاءه ينزع عمل بيداغوجي ما أسس على المقدمة الضمنية إلى حيازته على شروط إنتاجيته، وبوسع فعل الأواليات التي تنزع إلى تأمين بطريقة شبه آلية، أي طبقاً للقوانين التي تسوس علاقة مختلف الزمر أو الطبقات بالسلطة البيداغوجية المهيمنة، نبذ بعض من فئات المتلقين إقصاء ذاتياً، إقصاء مؤجلاً، ونحو ذلك، قد يلفي نفسه إضافة إلى ذلك وقد نكر بفعل أن وظيفة الإقصاء الاجتماعية تتوارى وراء وظيفة الإقصاء المبرأة، إنما هي الوظيفة التي تمارسها السلطة البيداغوجية صلب جملة المرسل إليهم
الهوامش:
(*) العدد المغلق (Closed Number) تستعمل في جامعات أوروبا لتحديد عدد الطلاب المقبولين للدخول إلى الجامعة.
الصفحة 160
الشرعيين ( مثل الوظيفة الأيديولوجية للامتحان).
3.3.3.4. بالنظر إلى أن العمل البيداغوجي الثانوي المهيمن الذي يلجأ في نمط التشكيلة الاجتماعية المحددة في القضية 3.3.3.1. إلى نمط تلقين تقليدي لا يلقن جهرة المقدمات التي هي شرط لإنتاجيته الخصوصية، فإنّ عملاً بيداغوجياً كذاك العمل ينزع إلى أن ينتج بواسطة ممارستة ذاتها، شرعية نمط حيازة مكتسبات ما قبلية تحتكرها الزمر والطبقات المهيمنة لإنه كان لها احتكار نمط الاكتساب الشرعي، أي نمط التلقين بواسطة عمل بيداغوجي أولي المبادئ الثقافة الشرعية في الحال العملي (العلاقة المتعلمة بالثقافة الشرعية باعتبارها علاقة استئناس).
3.3.3.5. بالنظر إلى أن العمل البيداغوجي الثانوي المهيمن الذي يلجأ في نمط التشكيلة الاجتماعية المحددة في القضية 3.3.3.1 إلى نمط تلقين تقليدي لا يلقن جهرة المقدمات التي هي شرط لإنتاجيته الخصوصية، فإن عملاً بيداغوجياً كذاك العمل يفترض وينتج ويلقن خلال ممارسته ذاتها، وبها، أيديولوجيات تنزع إلى تبرير الحيلة المنطقية التي هي لممارسته شرطاً (أيديولوجيا الهبة باعتبارها نفياً للشروط الاجتماعية لإنتاج الاستعدادت المتعلمة).
حاشية 1. يمكن أن نبصر صورة نموذجية لأحد الآثار الأكثر نموذجية لأيديولوجيا الهبة في تجربة روزنتال (Rosenthal) : زمرتان من المجربين عهد إليهما كميتين من الفئران من الجذم ذاتها (جمع جذمة أو أرومة أشير لهما أن بعضها اصطفي لذكائه والآخر لغبائه، تحصلا تباعاً، كل من موضوع تجربته على تقدم مختلف اختلافاً ذا دلالة (مثل الآثار التي يمارسها سواء على الأساتذة أم على التلامذة توزيع الجمهور المدرسي إلى جمهور جزئي متراتب مدرسياً واجتماعياً بحسب نماذج المنشآت - ثانويات تقليدية، معاهد تعليم
الصفحة 161
ثانوي معاهد تعليم تقني، أو مدارس كبرى وكليات - وبحسب الشعب - كلاسيكية وحديثة - وحتى بحسب الاختصاصات).
حاشية 2 بالنظر إلى أن العمل البيداغوجي الثانوي المهيمن الذي يتسم بنمط تلقين تقليدي سواء على معنى القضية 3.3.3.1 أم
على معنى القضية (3.3.2.3 ينزع دوماً في نمط التشكيلة الاجتماعية المحددة في القضية 3.3.3.1، بحكم أن إنتاجيته الخصوصية تتغير على نحو معاكس للمسافة بين الاعتباط الثقافي المهيمن والاعتباط الثقافي للزمر أو الطبقات التي عليها يمارس، إلى حرمان أعضاء الطبقات المهيمن عليها من الأرباح المادية والرمزية للتربية التي تنجزها، فإنه يمكن أن نتساءل ألا يكون لعمل بيداغوجي ثانوي يأخذ في الحسبان على العكس المسافة بين الها بتوسات الموجودة ما قبلياً والها بتوس المفترض تلقينه، وينتظم منهجياً وفق مبادئ بيداغوجيا جهرية له أثر محو الحدود التي يعترف بها العمل البيداغوجي التقليدي ويثبتها بين المرسل إليهم الشرعيين والبقية جمعاء أو
بعبارات أخرى نقول ألا يُلقن جهراً عمل بيداغوجي عقلاني غاية العقلانية أي عمل بيداغوجي يمارس منذ المهد (ab ovo) وفي
المجالات كلها على كل من له قابلية للتربية من دون أن يتبع شيئاً منذ البدء، وبالإحالة إلى الغاية المعلنة كل المبادئ العملية للحذق
الرمزي للممارسات وهي ممارسات لا يلقنها الفعل البيداغوجي الأولي إلا في بعض الزمر أو الطبقات باختصار، ألا يناسب عمل
بيداغوجي يستبدل حيثما كان التوريث المخطط للثقافة الشرعية بنمط تلقين تقليدي المصلحة البيداغوجية للزمر والطبقات المهيمن عليها
فرضية دمقرطة التعليم بعقلنة البيداغوجيا). لكن حسبنا حتى نقتنع بالسمة اليوتوبية السياسة تربوية أسست على تلك النظرية أن نلاحظ
أنه، حتى من دون أن نتطرق إلى العطالة المخصة بكل مؤسسة تربوية، فإن بنية علاقات القوى تنبذ أن يكون فعل بيداغوجي مهيمن
الصفحة 162
قادراً على اللجوء إلى عمل بيداغوجي مضاد لمصالح الطبقات المهيمنة التي إليه تفوض سلطانها البيداغوجي. زد على ذلك أنه لا يمكن أن نعتبر سياسة كتلك السياسة على أنها سياسة مطابقة للمصلحة البيداغوجية للطبقات المهيمن عليها، اللهم إلا شرط مماثلة المصلحة الموضوعية لتلك الطبقات بمجموع المصالح الفردية الأعضائها على سبيل المثال ما كان في شأن الحراك الاجتماعي أو الارتقاء الثقافي، وهو أمر ينتهي بأن نغفل عن أن الحراك المراقب العدد محدد من الأفراد يمكن أن يخدم تأبيد بنية العلاقات الطبقية، أو بكلمات أخرى نقول : اللهم إلا شرط أن نفترض ممكناً تعميم على مجموع الطبقة خاصيات لا يتأتى لها سيوسيولوجيا الانتماء إلى بعض أعضاء الطبقة إلا على اعتبار أنها تظل حجراً على بعضهم، وبالتالي محرَّمة على مجموع الطبقة باعتبارها كذلك.
4. في نسق التعليم
4. يدين كل نسق تعليم ممأسس بالسمات المميزة لبنيته واشتغاله إلى أمر أن عليه أن ينتج ويعيد إنتاج بوسائل المؤسسة الخاصة الشروط المؤسسية التي يعتبر وجودها واستمرارها إعادة إنتاج ذاتي للمؤسسة) ضروريين سواء لممارسة وظيفته التلقينية المخصة به أم لإنجاز وظيفة إعادة إنتاج اعتباط ثقافي ليس نسق التعليم له منتجاً (إعادة الإنتاج الثقافي)، وتسهم إعادة إنتاجه في إعادة إنتاج العلاقات بين الزمر أو الطبقات (إعادة الإنتاج الاجتماعي).
حاشية 1. يتعلق الأمر هنا بإنشاء الشكل المخصص الذي على القضايا التي تصوغ بكل عموميتها شروط الفعل البيداغوجي وآثاره أن تأتي عليها القضايا 1 و 2 و 3) إذ يمارس الفعل البيداغوجي ذاك، مؤسسة ما نسق التعليم، أي يتعلق الأمر بانشاء ما على مؤسسة ما
الصفحة 163
أن تكون عليه حتى تكون قادرة على إنتاج الشروط المؤسسية لإنتاج ها بتوس، وفي الوقت ذاته إنتاج الجهل بتلك الشروط. ولا يختزل هذا التساؤل في البحث التاريخي تحديداً عن الشروط الاجتماعية الظهور نسق تعليم فريد أو حتى لظهور مؤسسة التعليم في عموميتها:
على هذا النحو لم يكن سعي دوركايم كي يفهم سمات بنية نسق التعليم الفرنسي ووظيفته انطلاقاً من أنه كان عليه منذ البدء أن ينتظم بغية إنتاج ها بتوس مسيحي يبتغي إدماج كيفما كان الإرث الإغريقي الروماني والعقيدة المسيحية، هو مسعى لا يفضي مباشرة إلى نظرية شاملة عن نسق التعليم بقدر ما يفضي إليها مسعى ماكس فيبر ابتغاء استنتاج السمات العابرة للتاريخ لأي كنيسة من اللزوميات الوظيفية التي تحدد بنية كل مؤسسة وأشغالها تبتغي إنتاج ها بتوس ديني. إن صياغة الشروط النوعية لإمكان فعل بيداغوجي ممأسس يتيح وحده أن يعطي البحث عن الشروط الاجتماعية الضرورية لتحقيق تلك الشروط النوعية كامل معناه أي يتيح فهم في وضعيات تاريخية مختلفة أني تتخذ سيرورات اجتماعية مثل الكثافة الحضرية، وتطور تقسيم العمل الذي تلزم عنه استقلالية سلطات ما، أو ممارسات فكرية ما، وتشكل سوق للمتاع الرمزي، ونحو ذلك، معنى نظامياً باعتبارها نسق الشروط الاجتماعية لظهور نسق تعليم ما (أنظر التمشي الإرتدادي الذي به يأتي ماركس بناء ظواهر اجتماعية مرتبطة بانحلال المجتمع الإقطاعي باعتبارها نسق الشروط الاجتماعية لظهور نمط الإنتاج الرأسمالي).
حاشية 2. يحق لنا اعتبار، بشرط ألا نغفل عن أن على تاريخ المؤسسات التربوية، وهو تاريخ مستقل نسبياً، أن يعاد إحلاله في تاريخ التشكيلات الاجتماعية المناسبة، أن بعض سمات المؤسسة التي ظهورها مرتبط بالتحولات النظامية للمؤسسة (مثل التعليم
الصفحة 164
المأجور، وإنشاء مدارس قادرة على تنظيم تكوين الأساتذة الجدد، وتجانس التنظيم المدرسي على مساحة رقعة كبيرة، والامتحان والاستيضاف، والإجارة تطبع درجات ذات دلالة من سيرورة مأسسة العمل البيداغوجي. هكذا على الرغم من أن تاريخ التربية في العصور القديمة يتيح أن نتبين مراحل سيرورة مسترسلة تقودنا من التعليم المنزلي إلى المدارس الفلسفية والبلاغية للإمبراطورية الرومانية مروراً بالتربية التلقينية للرهبان أو لأساتذة الحكمة وبالتعليم الحرفي للخطباء الرحل كان أغلبهم السوفسطائيون، فإن لدوركايم من الأسباب وجيهها كي يعتبر أنه لا نعثر بالغرب على نسق تعليم قبل الجامعة في العهد الوسيط. ذلك أن ظهور رقابة لنتائج التلقين مجازاة قانونياً (الشهادة) والذي يعتبره معياراً محدداً، أتى لينضاف إلى تخصص الأعوان واستمراراية التلقين وتجانس نمط التلقين. وبالإمكان أيضاً من منظور فيبري أن نعتبر أن السمات المحددة للمؤسسة المدرسية هي سمات مكتسبة منذ أن ظهرت هيئة مختصين دائمين يدير تكوينهم وانتدابهم ودربهم تنظيم مختص، ويلقون في المؤسسة وسائل تأكيد ادعائهم تأكيداً موفقاً، احتكار التلقين الشرعي للثقافة الشرعية. وإن كنا نستطيع بلا تمييز فهم السمات البنيوية المرتبطة بمأسسة ممارسة اجتماعية أن نعزوها إلى مصالح هيئة مختصين يسعون إلى احتكار تلك الممارسة أو العكس، فلأن تلك السيرورات تمثل ظاهرتين لا تنفصلان عن استقلالية ممارسة ما، أي عن تكونها باعتبارها كذلك : على غرار ما لاحظ ذلك إنجلز الذي رأى أن ظهور القانون باعتباره قانوناً، أي باعتباره مجالاً مستقلاً مرتبط بتقدم تقسيم العمل الذي يفضي إلى تكون هيئة حقوقيين مختصين، وعلى غرار أيضاً، مثلما بين ذلك فيبر، أن «عقلنة الدين مرتبطة بتكون هيئة القساوسة وعلى غرار أيضاً أن السيرورة التي تفضي إلى تكون الفن باعتباره فنا مرتبطة بتكون حقل فكري وفني مستقل نسبياً، فإن تكون العمل
الصفحة 165
البيداغوجي باعتباره كذلك مرتبط بتكون نسق التعليم.
4.1. بالنظر (أولاً) إلى أن نسق تعليم ما لا يستطيع أن يوفي بوظيفة التلقين المخصة به إلا شرط أن ينتج بوسائل المؤسسة المخصة بها شروط عمل بيداغوجي ويعيد إنتاجها، هو عمل بيداغوجي قادر على إعادة إنتاج في حدود وسائل المؤسسة، أي باستمرار وبأقل التكاليف وبشكل متماثل ها بتوساً متجانساً ودائماً قدر ما أمكن التجانس لدى أكبر عدد ممكن من المتلقين الشرعيين ومن جملتهم معيدو إنتاج المؤسسة). وبالنظر (ثانياً) إلى أن على نسق تعليم ما كي يوفي بوظيفته الخارجية التي تقضي بإعادة الإنتاج الثقافي والاجتماعي أن ينتج ها بتوساً مطابقاً قدر ما أمكن التطابق المبادئ الاعتباط الثقافي الذي له تفويض إعادة إنتاجه، فإن شروط ممارسة عمل بيداغوجي ممأسس وشروط إعادة الإنتاج الممأسسة العمل بيداغوجي كذاك العمل، تنزع إلى أن تتوافق مع شروط إنجاز وظيفة إعادة الإنتاج. ذلك أن هيئة دائمة من أعوان مختصين يعوض بعضهم بعضاً حداً يجعل بالإمكان انتدابهم باستمرار وبعدد واف خصوا بالتكوين المتجانس والأدوات المتجانسة والمجانسة إن كانت شرط ممارسة عمل بيداغوجي مخصوص ومقعد، أي ممارسة عمل مدرسي إن كان شكلاً ممأسساً للعمل البيداغوجي الثانوي هي هيئة أعدتها ما قبلياً الشروط المؤسسية لإعادة إنتاجها المخصة بها إلى رسم حدود ممارستها بالحدود التي سطرتها مؤسسة فوض إليها إعادة إنتاج الاعتباط الثقافي وليس قضائه.
4.1.1. بالنظر إلى أن على نسق التعليم إنتاج الشروط المؤسسية التي تتيح لأعوان يعوّض بعضهم بعضاً ممارسة باستمرار، أي يومياً وفي نطاق دائرة إقليمية شاسعة قدر الإمكان، عملاً مدرسياً يعيد إنتاج الاعتباط الثقافي الذي له تفويض إعادة إنتاجه،
الصفحة 166
فإنه ينزع إلى ضمان لهيئة الأعوان الذين جُندوا وكونوا حتى يؤمنوا التلقين، شروطاً مؤسسية قادرة معاً على إعفائهم من ممارسة أعمال مدرسية متنافرة وهرطقية والحيلولة دونهم ودون ذلك، أي إنتاج الشروط الأفضل صنعاً لأجل إقصاء دونما منع جهري كل ممارسة لا تتوافق مع وظيفتها أن تعيد إنتاج الاندماج الفكري والأخلاقي للمرسل إليهم الشرعيين.
حاشية. إن التمييز القروسطي بين المؤلف» (Auctor) الذي ينتج أو يدرس خارج العمل اليومي مؤلفات أصيلة، والقارئ» (Lector) الذي اقتصر على الشرح المكرر والقابل للتكرار للسلطات والذي يدرس يومياً» رسالة هو نفسه لم ينتجها، يعبر عن الحقيقة الموضوعية للممارسة الأستاذية. هي حقيقة لعلها لا تكون البتة أكثر جلاء إلا في أيديولوجيا الحذق الأستاذية إن كانت نفياً جاهداً لحقيقة الوظيفة الأستاذية، أو في شبه الإبداع العلامي الذي يُسخر كل مكونات المدرسة في خدمة تجاوز مدرسي للشرح المدرسي.
4.1.1.1. بالنظر إلى أن على نسق التعليم أن يضمن الشروط المؤسسية لتجانس العمل المدرسي وأرثوذكسيته، فإنه ينزع إلى أن يخص الأعوان المكلفين بالتلقين بتكوين متجانس وبأدوات متجانسة ومجانسة.
حاشية. يتعين أن نرى في الأدوات البيداغوجية التي يضعها نسق التعليم على ذمة أعوانه مثل الأدلة المنهجية، والشروحوالتلاخيص، وكتب الأستاذ البيداغوجية والبرامج البيداغوجية والتعليمات البيداغوجة إلى غير ذلك، ليس فقط عدة معينة على التلقين إنما أدوات رقابة تنزع إلى ضمان أرثوذكسية العمل المدرسي ضد البدع الفردية.
الصفحة 167
4.1.1.2. على اعتبار أن على نسق التعليم أن يضمن الشروط المؤسسية لتجانس العمل البيداغوجي وأرثوذكسيته، فإنه ينزع إلى أن يصيب المعلومة والتكوين الذي يلقنه بمعاملة، مبدأها يكمن معاً في مستلزمات العمل المدرسي وفي التوجهات الملازمة لهيئة أعوان أحلوا في تلك الشروط المؤسسية، أي ينزع إلى تشفير ومجانسة ومنهجة الرسالة المدرسية الثقافة المدرسية باعتبارها ثقافة رتيبة»).
حاشية 1. إن تنديد الأنبياء أو المبدعين ومعهم جميع المبدعين والأنبياء بالتطلع، قد وجه في كل الأزمان ضد التطقيس الأستاذي أو الكهنوتي للنبوة الأصلية أو للأثر الأصلي التي مثل اللعنات التي نذرت أن تستحيل بدورها كلاسيكية مقابل تحجر الكلاسيكيين أو تحنيطهم) تستوحى من وهم ذي نزع اصطناعي يقضي بأن العمل المدرسي قد لا يحمل علامة الشروط المؤسسية لممارسته : كل ثقافة مدرسية هي بالضرورة ثقافة قد أعمل فيها التجانس والتطقيس، أي أعملت فيها الرتابة بواسطة رتابة العمل المدرسي ولأجله، أي بواسطة تمارين تكرار ولأجلها وتمارين استعادية عليها أن تكون في غاية التنميط حتى يستطيع معيدون يستعاض عنهم بيسر كبير تكرارها إلى ما لا نهاية (مثل الأدلة المنهجية والملخصات، وكتب الملخصات والمذكرات وكتب التعليم الديني أو السياسي، والحواشي والشروح، والموسوعات والمدونات، والمختارات وحوليات الامتحانات والفروض النموذجية وتقميشات الحكم والأقوال المأثورة، والأشعار النحوية والشواهد إلى غير ذلك. وأيا كان الهابتوس المفروض تلقينه، امتثالياً كان أم مجدداً، محافظاً أم ثورياً، سواء كان ذلك في النظام الديني أم في النظام الفني أم السياسي أم العلمي، فإن كل عمل مدرسي يفرز خطاباً ينزع إلى الجهر بمبادئ ذاك الهابتوس ومنهجتها وفق منطق يطيع أولاً وقبل كل
الصفحة 168
شيء مستلزمات مأسسة التعليم (مثل المنزع الأكاديمي أو تقديس» الكتاب الثوريين بحسب لينين). وإذا كانت التأليفية والانتقائية وهما القادرتان أحياناً على أن يتأسسا صراحة في أيديولوجيا التأمل والمصالحة الكونية للمذاهب والأفكار (مع الفلسفة المرتبطة بالفلسفة باعتبارها تفلسفاً دائماً» (Philosophia perennis) إن كانت شرط إمكان المحاورات عن الأموات يشكلان أحد الأوجه الأكثر وسماً لأثر التنميط» الذي يمارسه كل تعليم، لأن تحييد» الرسالات ولا تحقيقها، ومن ثمة النزاعات بين القيم والأيديولوجيات المتنافسة من أجل الشرعية الثقافية، تشكل حلاً مدرسياً على نحو نموذجي للمعضلة المدرسية تحديداً التي تتعلق بالتوافق حول البرنامج باعتباره شرطاً ضرورياً لبرمجة الأذهان.
حاشية 2. يطيع نسق تعليمي ما أو سلطة محددة لنسق التعليم) قانون «التنميط» طاعة أكثر اكتمالاً بقدر ما ينتظم فعله البيداغوجي انتظاماً أكمل بالنظر إلى وظيفة إعادة الإنتاج الثقافي : إن كان نسق التعليم الفرنسي مثلاً يقدم على نحو أكمل حتى في أعلى سلطاته، أكثر من أنساق أخرى سمات الأشغال التي هي وظيفياً مرتبطة بمأسسة العمل البيداغوجي مثل أولية إعادة الإنتاج الذاتي، وقصور تعليم البحث والبرمجة المدرسية لمعايير البحث وموضوعات الاستقصاء، ونحو ذلك)، وإن كان التعليم الأدبي يقدم في ذاك النسق سماته في درجة أعلى من درجة التعليم العلمي، فلأنها من دون شك قلة هي أنساق التعليم التي تلزمه الطبقات المهيمنة أن يأتي شيئاً آخر خلا إنتاج الثقافة الشرعية مثلما هي عليه وإنتاج أعوان قادرين على التحكم بها شرعياً أي أساتذة ومسيرين وإداريين أو محامين وأطباء، وعلى الأقل معنيين بالأدب بدلاً من باحثين وعلماء أو حتى تقنيين). من جهة أخرى، تخضع الممارسات البيداغوجية
الصفحة 169
وبالأحرى الفكرية (مثل النشاطات البحثية لفئة ما من الأعوان خضوعاً أكثر اكتمالاً لقانون التنميط»، بقدر ما تتحدد تلك الفئة تحديداً كاملاً بموقعها في نسق التعليم، أي بقدر ما تسهم على نحو أدنى في حقول أخرى من الممارسة مثل الحقل العلمي أو الحقل الفكري).
4.1.2. بالنظر إلى أن على كل نسق تعليم إعادة إنتاج في الوقت المناسب الشروط المؤسسية لممارسة العمل المدرسي، أي عليه أن يعيد إنتاج ذاته باعتباره مؤسسة إعادة إنتاج ذاتي) لكي يعيد إنتاج الاعتباط الثقافي الذي له تفويض إعادة إنتاجه (إعادة الإنتاج الثقافي والاجتماعي)، فإنّه يمتلك ضرورة احتكار إنتاج أعوان ولوا إعادة إنتاجه، أي أعوان خُصّوا بالتكوين الدائم الذي يتيح لهم ممارسة عمل مدرسي ينزع إلى إعادة ذاك التكوين ذاته لدى معيدي إنتاج جدد، فيخفي بفعل ذلك منزعاً إلى إعادة الإنتاج الذاتي إعادة مطلقة عطالة أو مقاومة سلبية (Inertie) تمارس في حدود استقلاليته النسبية.
حاشية 1. يتعين ألا نبصر في منزع كل هيئة أساتذة إلى أن تعيد توريث ما اكتسبته وفق بيداغوجيا مماثلة قدر الإمكان لتلك التي هي منها نتاج، أثر تخلفية (Hysteresis) مرتبط فحسب بالمدة البنيوية الدورة إعادة الإنتاج البيداغوجي. بالفعل، إذ يجهد أعوان نسق تعليم ما بممارستهم البيداغوجية في إعادة إنتاج التكوين الذي هم منه نتاج والذين تتبع قيمتهم الاقتصادية والرمزية تقريباً بشكل كلي الجزاء المدرسي، فإنهم ينزعون إلى تأمين إعادة إنتاج قيمتهم الخاصة بتأمين إعادة إنتاج السوق التي لهم فيها قيمتهم كلها. وعلى نحو أعم ما كانت المحافظة البيداغوجية للمدافعين عن ندرة الألقاب المدرسية لتلقى سنداً أكثر حسماً لدى الزمر أو الطبقات الأكثر تعلقاً بحفظ
الصفحة 170
النظام الاجتماعي، إن لم يكونوا تظاهروا بالدفاع عن قيمتهم في السوق ليس إلا أن يذودوا عن قيمة ألقابهم الجامعية، لا يذودون بصنيعهم هذا وجود ضرب من سوق رمزية، إضافة إلى الوظائف المحافظة التي يؤمنها. يتضح أن بإمكان التبعية أن تلبس شكلاً مفارقاً كلياً، إذ تنجز عبر وساطة نسق تعليم ما، أي إذ يمكن لتوجهات المؤسسة ومصالح الهيئة أن يذهبا في اتجاه الاستقلالية النسبية للمؤسسة وفي حدود استقلاليتها النسبية.
حاشية 2. لا يُنجز التوجه نحو إعادة الإنتاج الذاتي أبداً انجازاً تاماً إلا في نسق تعليم فيه تظل البيداغوجيا مضمرة على معنى القضية (3.3.1)، أي في نسق تعليم فيه الأعوان الذين ولوا التلقين لا يملكون لهم مبادئ بيداغوجية إلا في الحال العملي، ذلك أنهم اكتسبوها دونما وعي منهم عبر المعاشرة المطولة لأساتذة ما كانوا هم أنفسهم لها حاذقون إلا في الحال العملي : يقال إن الأستاذ الشاب يقتدي بذكريات حياته في المعهد وحياته الطالبية؟ أفلا نرى أن في ذلك قضاء بتأبيد الرتابة. ذلك أنه لن يستطيع أستاذ الغد إلا تكرار حركات أستاذه بالأمس، وبما أن هذا الأستاذ لم يكن يفعل بدوره غير تقليد أستاذه المخص به، فإننا لا نرى أنّي في تلك المسلسلة المسترسلة من منوالات بعضها يعيد إنتاج بعض، يستطيع بعض التجديد إليها أن يتسلل» (دوركايم).
4.1.2.1. بالنظر إلى أن نسق التعليم يحتوي على توجه نحو إعادة الإنتاج الذاتي، فإنه ينزع إلى ألا يعيد إنتاج التغيرات التي طرأت على الاعتباط الثقافي الذي له تفويض إعادة إنتاجه إلا بتأخر يتقدر على استقلاليته النسبية أجل ثقافي للثقافة المدرسية).
4.2. بالنظر إلى أن كل نسق تعليم يطرح جهرة مسألة شرعيته المخصة به بفعل أنه يعلن نفسه مؤسسة بيداغوجية تحديداً أن يشكل
الصفحة 171
بالفعل البيداغوجي على أنه كذلك، أي على أنه فعل مخصوص يُمارس علناً ويُجسّم باعتباره كذلك فعل مدرسي)، فإنه يتعين عليه إنتاج وإعادة إنتاج بواسطة وسائل المؤسسة المخصة بها الشروط المؤسسية للجهل بالعنف الرمزي الذي يمارسه، أي الشروط المؤسسية للاعتراف بشرعيته على أنه مؤسسة بيداغوجية.
حاشية. ينبثق عن نظرية الفعل البيداغوجي مفارقة نسق التعليم عبر تقريب الحقيقة الموضوعية لكل فعل بيداغوجي من الدلالة الموضوعية لمأسسة الفعل البيداغوجي لما يلغي نسق التعليم اللاواعي السعيد لضروب للتربية الأولية أو البدائية إن كانت أفعال إقناع سري، تفرض أفضل مما يفرضه أي شكل تربية آخر، الجهل بحقيقتها الموضوعية لكونها على الأقل بوسعها ألا تظهر كتربية حتى)، فإن نسق التعليم قد يتعرض إلى أن يُسأل عن حقه في إنشاء رابطة تواصل بيداغوجي وعن حقه في فرض تتخيم لما يجدر به أن يلقن، إن لم يكن يلقى في أمر المأسسة ذاتها الوسائل الخصوصية السحق إمكان ذاك السؤال. باختصار نقول إن بقاء نسق تعليم يدلل على أنه يفك بوجوده ذاته الأسئلة التي تنجم عن وجوده. وإن يبدو تفكير كهذا التفكير مجرداً ومصطنعاً، إذ نعتبر نسق تعليم ما قيد الممارسة، فإنه يأخذ كامل معناه، إذ نتفحص ردهات من سيرورة المأسسة هناك حيث التساؤل عن شرعية الفعل البيداغوجي وحجب تلك المسألة ليسا متزامنين على هذا النحو ما كان السفسطائيون أولئك الأساتذة الذين كانوا يعلنون كأستاذه عن ممارستهم على أنها ممارسات أساتذة (مثل بروتاغوراس (*) ( Protagoras)، وهو يقول
الهوامش:
(*) بروتاغوراس : سفسطائي يوناني من القرن الخامس قبل الميلاد كان معلماً لفن الخطاب، واشتهر بعبارته : الإنسان هو معيار كل شيء.
الصفحة 172
أعترف أني أستاذ محترف (*) (Sophistes) ومرب للناس ما كانوا يستطيعون الإفلات كلياً من السؤال من غير أن يكون باستطاعتهم التوكل على نفوذ مؤسسة ؛ سؤال كان يطرح باستمرار خلال تعليمهم حتى، وكانوا يثيرونه في ممارساتهم مهنة التعليم. لقد كان من ثمة تعليماً مضمونه وإشكاليته يتمثلان في محصلتهما في تخمين تبريري للتعليم والحال أنه هو في لحظات الأزمة، التي فيها يلفي العقد الضمني الذي يقضي بالتفويض الذي يمنح شرعيته نسق التعليم، نفسه مهدداً، يرغم الأساتذة وقد أحلوا وضعية تذكر كثيراً بوضعية السفسطائيين، على أن يحلوا جماعة وفرادى الأسئلة التي كانت المؤسسة تنزع إلى إقصائها بواسطة اشتغالها ذاته : إن الحقيقة الموضوعية لممارسة مهنة الأستاذ، أي الشروط الاجتماعية والمؤسسية التي تجعله ممكناً السلطان البيداغوجي) لعلها لا تتجلى أبداً تجلياً جيداً إلا حين تجعل أزمة المؤسسة، ممارسة المهنة أمراً عسيراً أو مستحيلاً مثل ما صرح به أستاذ في كتاب إلى جريدة يومية: بعض الآباء يجهلون أن العاهرة المحترمة (**) Putain) respectueuse تعالج مشكل السود. ويحسبون أن الأستاذ به اضطراب أو هو متخدّر أو أشياء أخرى، ويبغي جر صفه إلى المواخير. وآخرون يحتجون لأن الأستاذ قبل الخوض في حبوب منع الحمل، ذلك أن التربية الجنسية أمر من شأن العائلة فقط. .
وأخيراً سوف يعلم هذا الأستاذ أنه سيلمز بأنه شيوعي إن بسط في الصف النهائي ما هي الماركسية. سوف يعلم أستاذ آخر أنه سيظن به بأنه يريد السخرية من العلمانية إن أعتقد ضرورياً تفسير معنى
الهوامش:
(*) Sophistes» : المقصود الإشارة إلى أساتذة الخطابة السفسطائيين الذين كانوا
يعتقدون أنهم يقومون بتربية الناس.
(**) العاهرة المحترمة مسرحية لجان بول سارتر.
الصفحة 173
الإنجيل أو أعمال كلودال (*) (Claudel). . .
4.2.1. على اعتبار أن نسق التعليم يهب كل أعوانه سلطاناً مفوضاً، أي سلطاناً مدرسياً أن كان شكلاً مؤسسياً للسلطان البيداغوجي عبر تفويض ذي درجتين يعيد إنتاج تفويض السلطان الذي تنعم به المؤسسة صلب المؤسسة، فإنه ينتج ويعيد إنتاج الشروط الضرورية سواء لممارسة فعل بيداغوجي ممأسس أم لإنجاز وظيفة إعادة الإنتاج الخارجية. سيما أن شرعية المؤسسة تعفي أعوان المؤسسة من السعي وراء سلطانهم البيداغوجي وتأكيده باستمرار.
حاشية 1. على اعتبار أن السلطان المدرسي، إن كان سلطان عون ما من نسق التعليم يستند إلى تفويض ذي درجتين، فإنه يتميز معاً عن السلطان البيداغوجي للأعوان أو السلطات التي تمارس تربية بطريقة خفية وغير مخصوصة، وعن سلطان النبي البيداغوجي للنبي. وبالقدر نفسه الذي للقديس باعتباره موظف كنيسة تحصلت على احتكار التحكم الشرعي في متاع الخلاص، فإن الأستاذ باعتباره موظف نسق تعليم ليس له أن يؤسس السلطان البيداغوجي لحسابه الخاص في كل فرصة وفي كل لحظة، ذلك أنه على خلاف النبي أو المبدع المثقف إن كان المؤلف» (auctores) الذي يبقى «سلطانه» ( auctoritas معلقاً بتقلبات الرابطة وبصروفها بين الرسالة وانتظارات الملأ، يعظ ملاً من التبع مؤيدين بمقتضى السلطان المدرسي هي شرعية الوظيفة التي تضمنها له المؤسسة شرعية مموضعة اجتماعياً ومرمزة في الإجراءات والقواعد المؤسسية التي تحدد التكوين،
الهوامش:
(*) بول كلودال (1868-1955) شاعر ومؤلف مسرحي فرنسي أشتهر بتفسيراته الخاصة للتوراة والإنجيل.
الصفحة 174
والألقاب التي يجازي بها والممارسة الشرعية للمهنة (أنظر ماكس فيبر حيث يذكر : على نقيض النبي يوزّع الكاهن نعم الخلاص بمقتضى وظيفته. وإن كانت وظيفة الكاهن لا تستبعد كاريزما شخصية، فإن الكاهن يظل حتى في تلك الحالة مشرعناً بوظيفته باعتباره عضواً من جمعية خلاص. ويذكر دوركايم للمعلم كالكاهن سلطان معترف به إن كان عضواً من شخصية معنوية تعلو عليه). ويعثر المرء كرة أخرى في التقليد الكاثوليكي على تعبيرة نموذجية للرابطة بين الموظف والوظيفة البيداغوجية في مذهب العصمة أن هي بركة المؤسسة، وأنها ليست سوی شکل مبدل لسلطان المؤسسة البيداغوجي والذي يصفه المفسرون صراحة على أنه شرط إمكان تعليم العقيدة : حتى تكون الكنيسة قادرة على الوفاء بدورها الذي وليت إياه إن كان دور حراسة الوديعة وتأويلها، كان ضرورياً أن تنعم بالعصمة على معنى أن تكون مؤمنة برعاية إلهية مخصوصة تصان بمقتضاها من كل الزلل، إذ تبسط رسمياً للتبع حقيقة للإيمان. كذلك هو البابا، معصوم حين يعلم كـ مرجع للعقيدة(*)، كـ «دكتور الكنيسة (شانوان باردي (**) (Chanoine) Bardy
حاشية 2. مع أن المؤسسة المدرسية بحسب التقريب دوماً سليلة علمنة المؤسسات الكنسية أو دنيوة العادات المقدسة (باستثناء مدارس العصور القديمة الكلاسيكية مثلما لاحظ فيبر)، فإن جماعة الأصل تترك المتشابهات البينية بين شخص الكاهن وشخص الأستاذ من غير تفسير طالما لا يُؤخذ في الحسبان المماثلة في البنية والوظيفة
الهوامش:
(*) أستاذية مرجعية تطلق على الكرسي الذي يحتله أسقف أو أستاذ كبير فهو إذن لا يعلم خطبياً بل كمرجع أستاذية كنيسة، وحين يتحدث البابا (Excathedra) فذلك كأسقف وأستاذ للمسيحيين جميعهم فيحدد عقيدة إيمانية أو أخلاقية ملزمة للكنيسة الجامعة.
(**) شانوان باردي : الكاهن القانوني لمنطقة باردي من محافظة بارما في إيطاليا).
الصفحة 175
بين الكنيسة والمدرسة. وكما يتضح عند دوركايم الذي صاغ مع ذلك التجانس بين الوظيفة الأستاذية والوظيفة الكهنوتية، تنزع بداهة النسل التاريخي إلى أن تغني عن كل تفسير آخر : لقد جعلت الجامعة في جزء منها من علمانيين أبقوا على هيئة رجل الدين، ومن رجال دين تعلمنوا قبالة الهيئة الكنسية توجد من الآن فصاعداً، هيئة مختلفة، لكنها تشكلت جزئياً على صورة من معها تتناقض.
4.2.1.1. تتسم سلطة بيداغوجية محددة بحسب درجة مأسسة الفعل البيداغوجي الذي تمارسه، أي بحسب درجة استقلاليتها بفعل الموقع الذي تحل فيه بين (أولاً) نسق تربية فيه لم يتشكل الفعل البيداغوجي ممارسة مخصوصة وفرض تقريباً على كامل الأعضاء المتعلمين من زمرة ما أو طبقة ما أما التخصصات فهي عشوائية أو جزئية لا غير). و(ثانياً) نسق تعليم فيه فوض السلطان البيداغوجي الضروري لممارسة الفعل البيداغوجي جهرة وضمن قانونياً لهيئة مختصين، انتدبوا خصيصاً، فكونوا ففوضوا لإنجاز العمل المدرسي وفق إجراءات تراقبها المؤسسة وتقعدها في أمكنة وأزمنة محددة بأن تستعمل أدوات معيرة ومراقبة.
4.2.2. باعتبار أن نسق التعليم ينتج سلطاناً مدرسياً هو سلطان مؤسسة يبدو أن ليس له أس آخر خلا النفوذ الشخصي للعون لأنه يستند إلى تفويض ذي درجتين، إنه ينتج شروط ممارسة عمل بيداغوجي ما ويعيد إنتاجها، ولا سيما أن أمر المأسسة قد يشكل العمل البيداغوجي على أنه كذلك من غير أن ينتهي أولئك الذين يمارسونه كأولئك الذين يصيبهم عن الجهل بحقيقته الموضوعية، أي عن نكران الأس الأخير للسلطان المفوض الذي يجعل ممكناً العمل المدرسي.
حاشية 1. إن كل التمثلات الأيديولوجية لاستقلالية العمل
الصفحة 176
البيداغوجي حيال علاقات القوة المكوّنة للتشكيلة الاجتماعية حيث يمارس شكلاً وقوة مخصوصتين، مع التفويض ذي الدرجتين، تمنع المؤسسة عبر تدخلها من إدراك علاقات القوة التي تؤسس في آخر المطاف سلطان الأعوان المكلفين بممارسة العمل البيداغوجي : يقف السلطان المدرسي مبداً - وهو الذي يضيف قوته على الفرض إلى علاقات القوة التي يعبر عنها - من الوهم الذي يقضي بأن العنف الرمزي الذي يمارسه نسق تعليم ما لا يُنشىء أي رابطة بعلاقات القوة بين الزمر أو الطبقات مثل الأيديولوجيا اليعقوبية التي تقول بـ «حيادية» المدرسة في الصراعات الطبقية أو مثل الأيديولوجيات الهمبولدتية (Humboldtienne) والنيوهمبولدتية (*) عن الجامعة كملجاً للعلم، أو أيضاً مثل أيديولوجيا الذكاء السابح حراً (**) أو أخيراً كحد أدنى مثل يوتوبيا،)Freischwebende Intelligenz( جامعة نقدية قادرة على عرض مبادئ الاعتباط الثقافي الذي تأتيه أمام محكمة الشرعية البيداغوجية يوتوبيا هي أقل بعداً مما يبدو من وهم مخص ببعض الإثنولوجيين يقول بأن التعليم الممأسس يشكل خلافاً للتربية التقليدية أوالية تغيير قادرة على تحديد «قطائع» وعلى إبداع عالم جدید م. مید) (***) (M. Mead)، وبالنظر إلى أن
الهوامش:
(*) همبولدتية : نسبة إلى فيلهلم فون همبولدت (1767 1836) ألسني ولغوي ودبلوماسي وفيلسوف ألماني أشتهر باختراعه المفاهيم في العلوم الإنسانية، وكان سباقاً لحق به الكثيرون من هايدغر إلى هابرماس وتشومسكي. أسس جامعة همبولدت في برلين على قاعدة البحث الحر والتعاون بين الأساتذة والطلاب.
(**) مصطلح اخترعه كارل مانهايم ومعناه الانتلجنسيا السابحة في حرية. كارل مانهایم (1893-1947) عالم اجتماع هنغاري المولد، كان له تأثير كبير في النصف الأول من القرن العشرين ومن الآباء المؤسسين للسوسيولوجيا الكلاسيكية ومن آباء مدرسة علم اجتماع المعرفة.
(***) مرغريت ميد (1901- 1978) عالمة أنتروبولوجيا ثقافية أمريكية اشتهرت بدراساتها الانتروبولوجية عند قبائل وشعوب جزر غينيا الجديدة وبابوا وغيرها.
الصفحة 177
الجامعة الليبرالية لر على أحسن وجه الأسس الأخيرة لنفوذها البيداغوجي، ومن أتنكر النفوذ المدرسي لأعوانها، فإنها تواري أن ما من جامعة ليبر على نحو أنجع إلا نسق تعليم تكنوقراطي أو كلاني فيه يظهر تفل النفوذ موضوعياً في أمر أن المبادئ ذاتها تؤسس على نحو مر النفوذ السياسي والنفوذ الديني والنفوذ البيداغوجي.
حاشية 2. ما توهم الاستقلالية المطلقة لنسق التعليم على غاية من الشدة إلا مرظيف هيئة الأساتذة توظيفاً إدارياً كاملاً. ذلك أن الأستاذ لم يعد ون من يكافئه على غرار بقية بائعي المتاع الرمزي كمثل المهرحرة)، ولا بالإحالة إلى الخدمات التي يؤديها للزبون إنما بالراتبي تدفعه له الدولة أو المؤسسة الجامعية فيلفي بالتالي نفسه أكثر الشروط ملاءمة حتى يجهل الحقيقة الموضوعية لمهمته ) أيديولوجيا «اللامبالاة»).
4.2.2.1. على عتبار أن نسق التعليم يجيز تحويل وجهة سلطان وظيفة (السان المدرسي ) لفائدة شخص الموظف أي على اعتبار أنه ين شروط تورية الأس المؤسسي للسلطان المدرسي والجهل فإنه ينتج الشروط الملائمة لممارسة عمل بيداغوجي ممأسس الما أنه يحوّل لفائدة المؤسسة والزمر أو الطبقات التي يخدمثر التعزيز الذي ينتجه وهم استقلالية ممارسة العمل المدرسي - شروطه المؤسسية والاجتماعية (مفارقة الكاريزم الأستاذي).
حاشية. لا تسع الكاريزما الكهنوتية يوماً أن تستند استناداً كاملاً إلى التقنية الطبية لنزع الطقس عن الطقس باعتبارها لعباً مع البرنامج مدرجاً بلامج، استناد كاريزما الأستاذية، بفعل أن الممارسة الكهنوتية تستطيع أبداً الإفلات بشكل كامل من التنميط
الصفحة 178
إفلات الممارسة البيداغوجية باعتبارها تحكماً في المتاع المدنين ما من شيء أفضل صنعاً لخدمة سلطان المؤسسة وسلطان الاعتباط الثقافي الذي تخدمه المؤسسة من الانتماء المفتون للأستاذ والتلميذ إلى وهم سلطان ورسالة لا أس آخر لهما ولا أصل إلا شخص أستاذ قادر على أن يمرر سلطته المفوضة إلى تلقين الاعتباط الثقافي على أنها سلطة إفتائه (مثل الارتجال المخطط مقارنة بالبيداغوجيا التي لما تستند إلى حجة السلطان وليجة، تفسح للسلطان الذي منه يمسك الأستاذ سلطانه أن يظهر دوماً).
4.3. يستطيع نسق التعليم في تشكيله اجتماعية محددة أن يكون العمل البيداغوجي المهيمن كعمل مدرسي من غير أن ينتهي أولئك الذين يمارسونه، كما أولئك الذين يصيبهم أن يجهلوا تبعيته إزاء علاقات القوة التي تكون التشكيلة الاجتماعية التي فيها يُمارس، لأنه (أولاً) ينتج ويعيد إنتاج بالوسائل الخاصة للمؤسسة الشروط الضرورية لممارسة وظيفته الداخلية التلقينية التي هي في الوقت نفسه الشروط الكافية لإنجاز وظيفته الخارجية لإعادة إنتاج الثقافة الشرعية ولإنجاز مساهمته المرتبطة بإعادة إنتاج علاقات القوة؛ ولأنه (ثانياً) بفعل أن نسق التعليم كائن وباق باعتباره مؤسسة ليس إلا، فإنه تلزم عنه الشروط المؤسسية للجهل بالعنف الرمزي الذي يمارسه، أي لأن الوسائل المؤسسية التي يتوفر عليها باعتباره مؤسسة مستقلة نسبياً وحائزة على احتكار الممارسة الشرعية للعنف الرمزي، هي مهيأة سلفاً لأن تخدم زيادة على ذلك، أي تحت مظهر الحياد الزمر أو الطبقات التي يعيد نسق التعليم إنتاج اعتباطها الثقافي (التبعية بالاستقلالية).
الصفحة 179
الكتاب الثاني: إبقاء النظام
الفصل الأول: الرأسمالي الثقافي والتواصل البيداغوجي
لوظيفة التعليم إذا مهمة أن تبقي ذاك النظام في الأذهان وترعاه، ضرورة النظام في الشوارع وفي الأقاليم.
ج. غوستورف
لماذا الأساتذة؟
الصفحة 182
الفصل الأول الرأسمال الثقافي والتواصل البيداغوجي
الصفحة 183
سربنتان : لما أصرف فكري نحوك فإنّه يرتد في ذهنك بمقدار
عثوره فيه على أفكار مناسبة وكلمات مواتية فيتشكل فيه كلمات، كلمات يخيّل إليك سماعها. ويلبس فيه من لغتك الخالصة ومن جملك المعتادة والأرجح أن من يصطحبك من الأشخاص يستمعون إلى ما أقوله لك، كل بطرائق مختلفة اختلاف مقدرتهم الفردية على التعبير والتلفظ.
برتستايبييل : ولأجل ذلك، أحياناً، (.) فإنكم عندما ترتفعون إلى أفكار ليس لأذهاننا أدنى ريب فيها حتى لا نصغي شيئاً.
هـ. ج. ولز
السيد برتستايبييل عند الرجال - الآلهة
الصفحة 184
نشأ هذا البحث من نية مقاربة العلاقة البيداغوجية باعتبارها رابطة تواصل ليس إلا، ومن نية قياس مردودها، أي بأكثر دقة، نشأ من نية تحديد العوامل الاجتماعية والمدرسية لنجاح التواصل البيداغوجي عبر تحلیل تغيّرات مردود التواصل بالنظر إلى سمات المتلقين الاجتماعية والمدرسية (1). وعلى نقيض المؤشرات الشائعة الاستعمال بغية قياس المردود الذي لنسق تعليمي ما يشكل المردود الإخباري للتواصل البيداغوجي، بلا ريب، أحد أيقن مؤشرات الإنتاجية الخصوصية للعمل البيداغوجي، خصوصاً إذ ينزع ذاك المردود إلى أن يختزل نفسه، كما في كليات الآداب، في التحكم بالكلمات. إن تحليل تغيرات نجاعة فعل
الهوامش:
(1) سوف نعثر على عرض لأدوات البحث ولنتائجه الأساسية الذي يؤسس التحليلات
Pierre Bourdieu, Jean-Claude Passeron and Monique de Saint- : المقترحة أسفله في Martin, Rapport pédagogique et communication, cahiers de centre de sociologie européenne. Sociologie de l'éducation; 2 (Paris; La Haye: Mouton; Cie, 1965). وابتغاء معرفة تقلبات مهارات مختلف فئات طلاب الآداب في فهم اللسان واستعماله، كان يتعين علينا أن نلتجئ إلى تمارين من نماذج مختلفة كي نستكشف في الوقت ذاته، مختلف مجالات الكفاءة اللغوية بدءاً بالمجالات الأكثر مدرسية، وصولاً إلى المجالات الأكثر حرية». ونستكشف مختلف مستويات السلوك اللغوي، بدءاً بفهم كلمات مدرجة في سياق ما، وصولاً إلى الشكل الأكثر حركية لاستعمال الكلمات، ذاك الذي تلزمه صياغة التعريفات.
الصفحة 185
التلقين الذي ينجز أساساً صلب علاقة التواصل وبها، إنما يهدي إلى أول مبدأ لتفاوت نجاح الأبناء سليلي مختلف الطبقات الاجتماعية. إنه بمستطاعنا فعلاً، أن نبسط، فَرَضاً، أن درجة الإنتاجية الخصوصية لكل عمل بيداغوجي آخر غير العمل البيداغوجي الذي تحققه العائلة، رهن المسافة التي تفصل الهابتوس الذي ينزع إلى تلقينه على جهة العلاقة المعتبرة هنا، أي حذق اللسان العليم (*) حذقاً عليماً). .، عن الها بتوس الذي لقنته أشكال العمل البيداغوجي السالفة كلها، ارتداداً إلى العائلة على معنى هاهنا الحذق العملي للسان الأم).
التفاوت أمام الاصطفاء وتفاوت الاصطفاء
أن نجهل، مثلما يُؤتى غالباً، أن الفئات وقد قدت من جمهور طلاب، وفق معايير ما مثل الأصل الاجتماعي والجنس، أو أي سمة أخرى من الماضي المدرسي، هي فئات اصطفيت اصطفاء متفاوتاً في أثناء التمدرس السالف، إنما يعني أن نحرم على أنفسنا جملة وتفصيلاً من أن نمتلك أسباب التقلبات كلها التي تجليها تلك المعايير (2). على
الهوامش:
(*) هو اللسان الذي تتميز كلماته بجذور لاتينية أو إغريقية أو الذي يحتوي على كلمات من اللاتينية أو الإغريقية وسمي عالماً لرفعة اللغتين في الثقافة الفرنسية ولارتباطهما بالتكوين الجيد والاطلاع الواسع، وبالتالي علوهما في تراتبية المعارف في نسق التعليم الفرنسي وعلو من يتكلم إحداهما أو كلاهما مدرسياً واجتماعياً ورمزياً.
(2) ما كانت النقيضة التي تقضي بالجهل به خاصيات جمهور أنتجته مسلسلة انتقاءات هو مدين لتلك السيرورة، ليكون على غاية من التواتر، لو لم يكن يعبر عن أحد النزوعات الأكثر غوراً للإبيستمولوجيا العفوية إن كان الجنوح إلى تمثل فئات التحليل تمثلاً واقعياً وسكونياً، وإن لم يكن يلقى، فضلاً عن ذلك، حضاً على استخدام التحليل المتعدد المتغيرات» استخداما آلياً يشل حالة مسماة لنسق ما من الروابط وكفالة لذلك، ولكي ننتهي من بعض الاعتراضات التي أثارتها اعتراضات تحاليلنا، والتي قوامها أن تأخذ في الحسبان أثر الاصطفاء النسبي أخذاً نظامياً، لعله يجدر الشروع في تفكيك وفق المقتضيات التحليلية للشرعة المنهجية، علات ذاك الوهم، المنطقية؛ وهم يستحق أن يورد في كتاب الأخطاء المنهجية تحت عنوان : المغالطة المتعددة المتغيرات (Multivariate Fallacy). وإن عدلنا عن إغراءات ذاك التمرين المدرسي الآثمة لذلك التمرين المدرسي، فلأن دحضاً يتبنى، وإن على سبيل المحاكاة، العلامات الخارجية للأبهة المنهجية، لعله بسهم أيضاً في كفالة الفصل الذي يحدد الغواية المنهجية بين الممارسة والتخمين في الممارسة، خصوصاً لأن السوسيولوجيا تقترح مهام أقل عقماً من التشهير الممنهج بأخطاء أقل مقاومة للدحض المنطقي إن هي كانت سوسيولوجيا أدنى ضرورة.
الصفحة 186
هذا النحو مثلاً، ليست النتائج المتحصل عليها في اختبار اللغة، صنيع طلاب يسمهم تكوينهم السالف أو أصلهم الاجتماعي، أو جنسهم، أو كل هذه المعايير معتبرة تزامنياً فحسب، إنما صنيع الفئة، التي تحديداً لكونها وهبت جملة تلك السمات، لم يصبها الإقصاء الذي أصاب بالدرجة ذاتها فئة، حددتها سمات أخرى.
بتعبير آخر نقول إن في اعتقادنا أنا نمتلك تملكاً مباشراً وحصرياً ناصية تأثير عوامل مثل الأصل الاجتماعي أو الجنس صلب روابط تزامنية، حتى لو كان تأثيراً متقاطعاً، لاقتراف نقيضة (أو استدلال زائف من الشكل التي تقضي باعتبار الجزء كلا» (pars) pro toto. إن هذه الروابط، لو تعلق الأمر بمجتمع حدده ماض معين، هو عينه حدده فعل تلك العوامل المستمر في الزمن، لا تأخذ تمام معناها إلا أن تردّ مكانها في سيرورة «الدرب»(*). وإذا اخترنا هنا تبني منهج العرض الاستنباطي، فلأن منوالاً نظرياً كالذي يربط نسقي الربط وقد أدرجا في مفهومي رأس المال اللساني ودرجة الاصطفاء»، لقادر بمفرده على إظهار نسق الوقائع التي يبينها على أنها كذلك أن ينشئ بينها علاقة نظامية. وعلى نقيض المراجعة التفصيلية التي تخضع مسلسلة متقطعة من فرضيات مجزأة، لتجارب جزئية، تزمع المراجعة النظامية المقترحة في ما سيأتي ذكره، أن تمكن التجربة من كامل سلطة الدحض التي لها أن تضاهي نتائج الحساب النظري بمعاينات القياس الإمبيريقي.
ولما كان لزاماً على طلاب الطبقات الشعبية والمتوسطة الذين
الهوامش:
(*) (Carriere» هي المهنة أو الحرفة ولكن باعتبار أنها سلك أو درب.
الصفحة 187
يبلغون التعليم العالي النجاح في مشروع المثاقفة إرضاء لحد أدنى من الشروط أو المقتضيات المدرسية لا ينضغط على تلك التي تتعلق بلزوميات مدرسية من أمر باللغة، فقد أصيبوا حتماً باصطفاء أشد طبقاً المعيار الكفاءة اللسانية عينه، إذ كان المصلحون في أغلب الأحيان مرغمين، سواء في شهادة التبريز أم في البكالوريا (*)، على الحط من بعض من لزومياتهم من أمر المعارف والمهارات لكي يكتفوا منها بلزوميات الشكل (3). حتى لو كان جلياً بوجه خاص في سنوات التمدرس الأولى، إذ إن فهم اللغة واستعمالها إنما يمثلان نقطة ارتكاز رئيسة لحكم الأساتذة، فإن رأس المال اللغوي لا يكف يوماً عن مزاولة تأثيره : إن الأسلوب دوماً مأخوذ بالحسبان في كل مستويات المسيرة، وفي الدروب الجامعية كلها، وحتى العلمية، وإن بدرجات شتى. ثم أيضاً، ليس اللسان أداة تواصل فحسب، إنما يوفر علاوة عن كونه معجماً ثرياً نسقاً من الفئات معقداً في بعض وجوهه. وعلى نحو تكون مهارة فك رموز بنى معقدة، أكانت منطقية أم جمالية، والتحكم بها، إنما تتبع في جزء منها، تعقد اللغة التي تورثها العائلة. وما يستتبع ذلك، منطقياً، أن ليس للوفيات المدرسية إلا الارتفاع كلما صرفنا النظر تلقاء
الهوامش:
(*) السنة السابعة من مرحلة التعليم الثانوي تتوج بامتحان على مستوى قومي مشترك للتلاميذ جميعهم.
(3) مثلما يرغب المصححون في قوله : ما هو أساسي هو أن يكون التعبير جيداً». ولقد كتب سيلاستان بو غليه (Celestin Bougle) متحدثاً عن مسابقة الدخول إلى دار المعلمين: «من المتفق عليه صراحة، حتى بالنسبة إلى المقالة في التاريخ، والتي تفترض عدداً معيناً من المعارف بالوقائع، أن على المصححين أن يقدروا بالخصوص ميزات التركيب Célestin Camille A. Bouglė, Humanisme, sociologie, philosophie والعرض Remarques sur la conception française de la culture générale, actualités scientifiques et industrielles; no. 640 (Paris: Hermann; Cie, 1938), p. 21.
إن تقارير التبريز ومسابقة الكفاءة المهنية للتعليم الثانوي C.A.PES مليئة تصريحات من النموذج نفسه.
الصفحة 188
الطبقات الأنأى عن اللسان المدرسي، وإنما أيضاً كلما نزع تفاوت الاصطفاء في جمهور هو نتاج للاصطفاء إلى خفض آثار التفاوت خفضاً تدريجياً أمام الاصطفاء، وأحياناً إلى إبطال لها : في واقع الأمر يتيحالاصطفاء التفاضلي وفق الأصل الاجتماعي، وبالخصوص الاصطفاء المفرط للطلاب ذوي الأصل الشعبي، دون سواه، تفسير كافة تغيرات الكفاءة اللسانية في علاقتها بطبقة الأصل الاجتماعية تفسيراً نظامياً، وبالخصوص يتيح تفسير إبطال الرابطة المباشرة، بين امتلاك رأس مال ثقافي يستدل عليه بمهنة الأب ودرجة النجاح أو عكسها رابطة قابلة للملاحظة في مستويات أقل تقدماً من المسيرة).
وإذ نعلم أن امتياز الطلاب أصيلي الطبقات العليا يتضحأكثر فأكثر، كلما ابتعدنا عن مجالات الثقافة التي تدرسها مباشرة وتراقبها كلياً المدرسة، وكلما مررنا، على سبيل المثال، من المسرح الكلاسيكي إلى المسرح الطليعي، أو أيضاً، مررنا من الأدب المدرسي إلى الجاز (Jazz)، نفهم أن في حال سلوك ما كما الاستعمال المدرسي للغة المدرسية تنزع الفوارق إلى أن تخبو إلى أقصاها، بل إنها تنزع إلى أن تنقلب، حتى في واقع الأمر يحصل طلاب الطبقات الشعبية الذين اشتد عليهم الاصطفاء في ذاك المجال على نتائج على الأقل تضاهي نتائج طلاب الطبقات العليا الذين يكون الاصطفاء أقل شدة عليهم، وأعلى من نتائج طلاب الطبقات المتوسطة وإن كانوا فقراء فقر طلاب الطبقات الشعبية إلى رأس المال اللغوي أو الثقافي، ولكن الاصطفاء كان أدنى شدة عليهم (الجدول رقم (1))(4).
الهوامش:
(4) خلافاً للطبقات الشعبية التي لا يزال الاصطفاء الأقصى لها قاعدة، انتفع الحرفيون والتجار أكثر من توسعة القاعدة الاجتماعية لاستيعاب الجامعات مروراً من 3,8 % إلى 12,5 بين سنتي 1939 و (1959) ولا ريب في أن ذلك إنما كان بفعل ارتفاع نسبي في مستوى العيش وأنه مرتبط بتمدد موقف الطبقات المتوسطة من المدرسة إلى تلك الفئة. لا غرو إذن، أن يحصل الطلاب أصيلو تلك الفئات، إن كان الاصطفاء أدنى صرامة بهم في أوساط على غاية من الحرمان ثقافياً، على أهزل النتائج في كل التمارين : 40,5 منهم يحصلون على عدد أكثر من 12 في تمرين التعريف، مقابل 57 من أبناء الأطر العليا، و 54% من طلاب الطبقات الشعبية. من جهة أخرى، خلافاً لأبناء الأطر العليا الذين لهم نتائج أفضل من طلاب الفئات الأخرى جميعاً حين يقدمون من الثانويات، وأهزل النتائج حين يقدمون من المعاهد، يستمسك أبناء الحرفيين والتجار بآخر الرتبة، سواء درسوا في منشأة عمومية أو خاصة.
الصفحة 189
قس على ذلك، فإنه إذا تحصل الطلاب الباريسيون أياً كان الوسط الذي إليه ينتمون على نتائج أعلى من نتائج طلاب الأقاليم، فإنه بين الطلاب الأصيلي الطبقات الشعبية يكون الفارق المتعلق بالإقامة أكثر ملاحظة (91% مقابل 46 متحصلون على عدد 12، بدلاً من 65 و 59% للطبقات العليا)، فالطلاب أصيلو الطبقات الشعبية، المتحصلون في باريس على أفضل النتائج، ثم يتبعهم طلاب الطبقات المتوسطة، فطلاب الطبقات العليا (الجدول رقم (1)). وكي نفهم جملة الروابط تلك يقتضي الأمر أن نعتبر أن الإقامة في باريس مقرونة من جهة بامتيازات لغوية وثقافية، ومن جهة أخرى أن درجة الاصطفاء المرتبطة بالإقامة في باريس يتعذر تحديدها بمعزل عن الانتماء الطبقي، لسبب بسيط ليس إلا البنية المتراتبة والممركزة للنسق الجامعي، وبصورة أعم، لأجهزة السلطة (5). وإن نحن حددنا بالقيمة النسبية (+ 0 أو - ) أهمية رأس المال اللغوي،
الهوامش:
(5) يُظهر التحليل المتعدد المتغيرات أنه إذا حيدنا فعل المتغيرات المرجحة الأخرى، نظل دوماً نتائج الباريسيين مرتفعة عن نتائج قاطني الأقاليم، وذلك في الزمر الفرعية جمعاء. بالفعل، ففي باريس 79 % من الطلاب الذين تلقوا تكويناً الأكثر كلاسيكية، و 67 % من أولئك الذين تلقوا تكويناً حديثاً، و 65% من أولئك الذين درسوا اللاتينية، حصلوا على أكثر من 12 في تمرين التعريف، مقابل %54 و 45,5 و 42% من طلاب الأقاليم. سوف نرى أيضاً أن الفتيان كالفتيات الفلاسفة كالسوسيولوجيين، الطلاب الذين يقدمون من المعاهد كالذين يقدمون من منشآت خاصة، جميعهم يحصلون في باريس على نتائج أفضل مما يحصلون عليها في الإقليم.
الصفحة 190
(أنظر الشكل 1، الموجود في الصفحة 191 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 191
(أنظر الجدول 1، الموجود في الصفحة 192 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 192
الذي ورثته شتى الأوساط العائلية، ودرجة الاصطفاء التي تلزم عند دخول الجامعة في باريس أو في الأقاليم بالنسبة إلى شتى الفئات الاجتماعية، يتضح أنه يكفي تركيب تلك المعايير حتى نتبين تراتب النتائج في تمرين اللغة (أنظر الشكل رقم (1) والجدول رقم (1)). يفسر ذاك المنوال نظامياً إذن التغيرات الملاحظة إمبيريقياً، أي على سبيل المثال، يفسر موقع الطلاب الباريسيين المتحدرين من الطبقات الشعبية (+) بالنسبة إلى طلاب الطبقات العليا الباريسيين (0)، وبالنسبة إلى طلاب الطبقات الشعبية قاطني الأقاليم ( - )، أو أيضاً يفسر الموقع النسبي لطلاب الطبقات المتوسطة الذين في باريس (0) كما في الإقليم ( - - )، يحصلون على نتائج أدنى من نتائج طلاب الطبقات الشعبية.
ما يرشح أيضاً من تلك التحاليل أنه لئن كان قسط طلاب الطبقات الشعبية الذين يبلغون الجامعة يربو بشكل ملموس، فإن درجة الاصطفاء النسبي لهؤلاء الطلاب سوف تعوّض أقل فأقل، نزولاً، الإجحافات المدرسية ذات الصلة بتفاوت توزيع رأسي المال اللساني والثقافي بين الطبقات الاجتماعية، حينئذ يتضح ظهور الرابطة المستترة بين النتائج المدرسية وطبقة الأصل الاجتماعي، كرة أخرى. هي رابطة لا تلاحظ تماماً إلا في ميادين للدولة عليها أقل رقابة مباشرة، بينما تتجلى في التعليم الثانوي بعد حتى في النتائج الأكثر مدرسية.
كذلك، لأجل أن نفهم أنى يكشف اختبار كان يقيس أشكالاً مختلفة جداً من استعمال اللغة غلبة ثابتة للفتيان على الفتيات توجب أن نتجنب أن نغفل عن أن وضعية الطالبات تتميز عن وضعية
الصفحة 193
الفتيان على نحو نظامي، أي بمفارقة بينة، تتميز بكيفية مختلفة في مجمل الجامعة، أو في كليات الآداب، أو في أي نموذج دراسات وأي سلك مدرسي. وإذا علمنا أن الطالبات نذرن إلى دراسات أدبية أكثر من الطلاب، ضعفين في أغلب الأحيان في سنة 1962، 52,8 مقابل (23)، وأن طالبات الآداب، على نقيض الفتيان الذين فتحت لهم الكليات الأخرى، الاصطفاء بهم أدنى من اصطفاء فتيان الكلية عينها من جراء هذا التدني نفسه، نفهم أن لهن أهزل النتائج. هنالك أيضاً يمكن للمنوال المفسر ذاك الذي يربط تباعاً نتائج الفئتين بدرجات الاصطفاء أن يحيط علماً شرط أن نطبقه بشكل نظامي، بكافة الوقائع التي يتركها التحليل المتعدد المتغيرات مبهمة، اللهم لولا أن نلجأ إلى التفسير الاعتباري، وتفسير تحصيل الحاصل الذي يقضي بالتفاوت الطبيعي بين الجنسين.
وبالنظر إلى أن الزمرة الطالبات تركيبة مختلفة عن زمرة الطلاب على جهة الأصل الاجتماعي، أو نموذج الدراسات أو التاريخ المدرسي (36) على سبيل المثال من الفتيان، تلقوا التكوين الأكثر كلاسيكية مقابل 19,5 للفتيات)، وأن تلك السمات كلها مرتبطة على نحو متفاوت بدرجات نجاح متفاوتة، فإنه لنا أن نتوقع من التحليل المتعدد المتغيرات دون سواه أن يفكك على جهة الرابطة الظاهرة بين الجنسين ونتائج التمارين روابط أخرى فعلية بتحييده أثر مختلف المتغيرات الواحد تلو الآخر، بمعنى أن يدرس أثر المتغير الرئيس منفصلاً في مختلف الزمر الجزئية، وقد قدتها متغيرات أخرى صلب الزمرة الرئيسة. لكن أنى لنا حينئذ أن نفسر تفوق الفتيان طالما أنه يتعذر عزو الفارق إلى التباينات التي تفصل الفئتين على جهة المعرفة بالألسنة القديمة، أو المنشأة المرتادة في أثناء التمدرس الثانوي، أو نموذج الدراسات أو الأصل الاجتماعي؟
على هذا النحو تظل الاختلافات بين الفتيان والفتيات
الصفحة 194
ذات معنى واحد في شتى فئات الأصل الاجتماعي، وإجمالاً ذات سعة واحدة صلب تلك الفئات الجدول رقم (3)). ثم إنها اختلافات قائمة أياً كان نموذج المنشأة المرتادة في أثناء التمدرس الثانوي. أما الاختلاف فهو اختلاف أشد قليلاً ليس إلا من بين تلامذة المعاهد السلاف حيث 62% من الفتيان و 35% من الفتيات علاماتهم تفوق 12، مقابل 70% و 54% بالنسبة إلى حالة قدماء تلامذة الثانويات.
لكي نفسر في آن، الفارق الملاحظ باستمرار بين الفتيان والفتيات في كليات الآداب، وغيابه في الزمرة «الدليلة» لتلامذة المعاهد حسبنا أن نعلم أن درجة الاصطفاء وهي سمة الفتيان والفتيات ليست عينها في الحالتين : بما أن معدل الجنوسة في التعليم الثانوي مجاور جداً لـ معدل الجنوسة للطبقات العمرية المناسبة، فإنه بمستطاعنا أن نفترض أن الفتيان والفتيات هم فيه مصطفون تقريباً بالتساوي. ذاك حال ليس بحال كليات الآداب. وإذا كانت الطالبات نادراً ما تظهرن مقارنة بالطلبة، مهارة استعمال لسان الأفكار (مهارة ملزمة بدرجات متفاوتة جداً في مختلف الاختصاصات)، فلأن الأوليات الموضوعية التي تصرف تفاضلياً الفتيات تلقاء كليات الآداب وفي داخل تلك الكليات، تلقاء بعض الاختصاصات (مثل اللغات الحية، أو تاريخ الفن أو الآداب تدين بجزء من نجاعتها، قبل كل شيء، لتعريف اجتماعي لميزات نسوية تسهم تلك الآليات في تسويتها. وبتعبير آخر تدين لاستبطان الضرورة الخارجية التي تفرض تعريف الدراسات النسوية ذاك : حتى يلفي قدر ما نفسه وقد انقلب دعوة، أن كان نتاجاً موضوعياً لعلاقات
الصفحة 195
اجتماعية تحدد الشرط النسوي في لحظة ما من الزمن، على الفتيات، وحسبهن ذلك وكل وسطهن، بدءاً بعائلتهن أن يهتدين لا واعيات إلى حكم مسبق نشط ومتجذر بالأخص بفرنسا من جراء التواصل بين ثقافة المجلس والثقافة الجامعية، حكم يقضي بوجود حميمية انتقائية بين ميزات يقال لها نسوية وميزات أدبية مثل رهافة الحس إزاء فويرقات شعور لا موزونة، أو الميل إلى التكلف الملتبس في الأسلوب. هكذا تأخذ الخيارات التي هي في ظاهرها أكثر الخيارات إرادية أو أكثرها إلهاماً في الحسبان (ولو بطريقة غير مباشرة نسق الحظوظ الموضوعية الذي ينذر النسوة إلى مهن تستدعي استعداداً نسوياً» (على سبيل المثال المهن الاجتماعية)، أو يعدهن سلفاً لقبول الوظائف أو قبول أوجه الوظيفة، إن لم يكن للمطالبة دونما وعي بها والتي تسمي المهنة علاقة نسوية».
وما من شيء، حتى الاستثناء الظاهر، إلا ويفهم صلب منطق المنوال بينما ينجح الفتيان الذين لم يدرسوا اللاتينية ولا الإغريقية أو درسوا اللاتينية لا غير، أفضل مما تنجح الفتيات ذوات التكوين عينه، فإن الفتيات من زمرة طلاب الهيلينية من اللاتي يحصلن على أفضل النتائج : ذلك أن %64 منهن مقابل 58,5 من الفتيان حصلن على علامة أكبر من العلامة الأوسط (أنظر الجدول رقم (2)). ويفسر عكس العلامة ذاك الفارق المألوف بين الجنسين، لأن للفتيات حظوظاً في الحصول على ذاك التكوين أقل من حظوظ الفتيان. أما اللاتي يتلقونه فالاصطفاء أشد عليهن مما كان على الفتيان ذوي التكوين ذاته. كذلك، لكون دلالة كل
الصفحة 196
رابطة رهن بالبنية التي فيها تندرج، فإن التكوين الأكثر كلاسيكية (لاتيني أو إغريقي لا يرتبط آلياً بنجاح أفضل : بينما للفتيات اللاتي درسن اللاتينية واليونانية نتائج أعلى من نتائج الفتيات اللاتي درسن اللاتينية فقط، أو اللاتي لهن تكوين حديث، فإن عكس ذلك يلاحظ عند الفتيان ما من شيء إلا ويدعو إلى الظن أن الأمر يتعلق هنا أيضاً، بأثر اصطفاء تفاضلي : إن كان دخول كلية الآداب يفرض نفسه بالضرورة على الفتيان فرضه على وجه التقريب على الفتيات، إذا هم درسوا اللاتينية والإغريقية، فإن الفتيان الذين تلقوا تكويناً حديثاً، والذين تمثل دراسات الآداب لهم منحدراً مديراً (Contre-pente)، هم أكثر اصطفاء من زملاء الدراسة من ذوي الجنس ذاته.
وإن نحدد هنا أيضاً بالقيمة النسبية، ما عليه رأس المال اللغوي المرتبط بأصل اجتماعي مسمى، ودرجة الاصطفاء التي يلزم عنها إلى فاعلي كل طبقة اجتماعية وكل جنس دخول الجامعة، في الدرجة الثانية، دخول كلية الآداب، لاتضح لنا أنه يكفي تركيب تلك المعايير حتى نفسر تراتبية ما تحصلت عليه كل زمرة جزئية من نتائج في تمرين تعريف (أنظر الشكل رقم (2) والجدول رقم (3)). هكذا على سبيل المثال يستنبط من المنوال المجسّد بالشكل رقم (2)) أن على طالبات الطبقات الوسطى أن يكون لديهن أسفل درجات الكفاءة اللغوية ) - - ( إن كن، مثلهن مثل فتيان الطبقات ذاتها، مبخوسات على جهة رأس المال اللساني على قدر بخس طلاب الطبقات الشعبية وطالباتها، لكنهن مصطفيات بصرامة أدنى عند دخول التعليم العالي. وإنهن، فوق ذلك، أقل اصطفاء من فتيان طبقتهن في كليات الآداب. وفي واقع الأمر إن الفئة التي نسبة 39,5% فقط من أفرادها
الصفحة 197
(أنظر الجدول 2، الموجود في الصفحة 198 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 198
يحلون فوق متوسط توزيع مجموع الجمهور إنما هي الفئة صاحبة أهزل النتائج في تمرين التعريف. وعلى الطريقة ذاتها، فإن على طلاب الطبقات العليا إدراك أعلى درجات النجاح (++)، أولئك الذين ما يميزهم شيء عن الفتيات من الأصل الاجتماعي عينه على جهة رأس المال اللغوي ودرجة الاصطفاء عند دخول الجامعة، والذين هم الاصطفاء أشد عليهن منهن في كليات الآداب جراء تدنيهن في تلك الكليات : هذا ما يصدقه الجدول رقم (3)، إذ إن 67% من الأفراد لهم علامات أعلى من متوسط المجموع. ثم إننا نتحقق من المصادفة عينها بالنسبة إلى الزمر الجزئية كلها بين المنزلة التي بها خصها المنوال النظري والمنزلة التي أسندها إياه القياس الإمبيريقي.
إن المنوال النظري عينه إنما يتيح فهم أن أكثر العلاقات ثباتاً وأكثرها قوة معاً، هي العلاقات في مستوى التعليم العالي التي توحد درجات الكفاءة اللغوية بسمات التاريخ المدرسي. وحيث إن الأصل الاجتماعي يعين مسبقاً، بواسطة التوجهات الأساسية رأساً (المنشأة والشعبة في السنة السادسة القدر المدرسي، أي يعين تسلسل خيارات الدرب المتتابعة مثلما يعين حظوظ النجاح أو الإقصاء المتفاضلة تلك التي تنجم عنها. محصلة ذلك أولاً أن بنية مجموع المفلحين (*) تتبدل باستمرار على جهة المعيار عينه الذي يتحكم في الاصطفاء. ذاك أمر له أثر إضعاف الرابطة المباشرة بين الأصل الاجتماعي والكفاءة اللغوية رويداً رويداً أو كل مؤشر آخر على النجاح المدرسي)، ثم ثانياً أن أفراد الطبقة الاجتماعية المفلحين في النسق إنما هم أقل تمثلاً في كل مرحلة من مراحل الدرب السمات الدرب التي كلفت أفراد الفئة الآخرين الإقصاء.
الهوامش:
(*) Survivants على معنى البقاء في نسق التعليم والفوز بذاك البقاء.
الصفحة 199
(أنظر الشكل 2، الموجود في الصفحة 200 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 200
(أنظر الجدول 3، الموجود في الصفحة 201 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 201
بقدر ما ينتمون إلى طبقة أذعنت لإقصاء أكثر قسوة، وبقدر ما نعمل في مرحلة أكثر تقدماً من المسيرة (Cursus) القطاعة التزامنية (6)، ثم إننا نفهم أن إعمال قياس للكفاءات اللغوية على جمهور الطلاب في مستوى التعليم العالي، لن يقدر بعد على إدراك الرابطة بين الأصل الاجتماعي والنجاح المدرسي إلا من جهة الرابطة بين النجاح والسمات المدرسية. هي سمات ليست سوى إعادة ترجمة» تحديداً صلب المنطق المدرسي، لحظوظ منذ البدء معتصمة بوضعية اجتماعية محددة وفي واقع الأمر بينما لا نعثر على رابطة بين متغيرات ذات دلالة مثل الأصل الاجتماعي أو الجنس، ومثل النجاح في اختبار اللغة إلا في أقرب التمارين إلى التقنيات التقليدية للرقابة المدرسية، فإن سمات الدرب المدرسي (مثل الشعبة المتبعة في التعليم الثانوي)، أو مؤشرات النجاح السالف (مثل الدرجات المتحصل عليها في الامتحانات السالفة)، أشد ارتباطاً من المقاييس الأخرى بدرجة النجاح في اختبار اللغة، وذلك أياً كان نموذج التمرين.
وحتى نفسر العلاقة المعاينة بين الشعبة المتبعة في التعليم الثانوي ومهارة استعمال اللسان، من غير أن نعزو إلى تعلم اللغات القديمة فضائل معجزية يخصه بها حماة
الهوامش:
(6) لا تتوزع السمات ذات الصلة بالإقصاء أو الفلاح في النسق بين أفراد الطبقة نفسها جزافاً، إنما تحتمل أن تكون هي عينها مرتبطة بمعايير اجتماعيه أو ثقافية تفاصل بين الزمر الجزئية داخل طبقة ما على سبيل المثال يختلف الطلاب أبناء العمال بالعديد من السمات الثانوية (اجتماعية، مثل مستوى تعليم الأم أو مهنة الجد، ومدرسية مثل الشعبة الأولى عند دخول المرحلة الثانوية عن سمات أعضاء طبقتهم العمرية الذين ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية عينها. بأكثر دقة نقول إنهم يمثلون عدداً يزداد كبراً من السمات التعويضية حتى إنهم بلغوا عتبة أكثر تقدماً من المسيرة، أو هم في المستوى ذاته من المسيرة، أعلى موقعاً في تراتبية التخصصات أو المنشآت، ونفهم داخل المنطق عينه أن في مستويات نجاح سواسية تمثل الفتيات دوماً عدداً من تلك السمات التعويضية أكبر من عدد خاصيات فتيان الطبقة الاجتماعية نفسها.
الصفحة 202
«الإنسانيات»، حسبنا أن نشير إلى أن تلك العلاقة تواري کامل نسق الروابط.
بين الاصطفاء التفاضلي والعوامل الاجتماعية والمدرسية لذاك الاصطفاء. وفي حقيقة الأمر، فبالنظر إلى الأواليات التي تسوس» في الوقت الراهن الانتداب (Recrutement) في مختلف الشعب، فإن اختيار الإغريقية هو صنيع التلامذة الأكثر امتثالاً للمقتضيات المدرسية (متى درسوا اللاتينية في السنة السادسة سواء انتدبوا من بين ممثلي الطبقات الشعبية وهم قلة، وقد كان الاصطفاء المفرط عليهم شديداً (باعتبارهم تلامذة معاهد، وبدرجة ثانية، باعتبارهم تلامذة اللاتينية)، أم من بين أبناء العائلات الميسورة التي تعزز امتيازها نهائياً أن تستثمر رأس مالها الثقافي في الشعب الأقدر على أن تضمن لذاك الرأس مال أرفع مردود مدرسي وأدومه.
ثمة أسباب أخرى تجعلنا نشكك في السلطات التي يمنحها المنزع المحافظ البيداغوجي التكوين الكلاسيكي ذلك أنه أنى لنا أن نفسر مثلاً اقتران التكوين الكلاسيكي فقط اللاتينية والإغريقية بأفضل النتائج، أياً كان التمرين، بينما لا توفر على ما يبدو معرفة اللاتينية دون سواها أي امتياز مقارنة بالتكوين الحديث؟ إن أفضل التمارين صنعاً لقياس مهارة المقدرة الذهنية، يُفترض بتعلم اللغة اللاتينية تطويرها، لا تفصح فعلاً عن أي تفاوت ذي دلالة بين تلامذة اللاتينية وبقية التلامذة (7). وإذ يتميز الطلاب الذين درسوا اللاتينية والإغريقية
الهوامش:
(7) ثمة مؤشر آخر على أن معرفة الاتينية والإغريقية لا توفر من تلقاء نفسها امتيازاً مدرسياً. ذلك أن الطلاب القادمين من المدارس الرسمية، وهم أقل عدداً تناسبياً من الطلاب -
الصفحة 203
بيسر كلامهم، فلأنهم اصطفوا أنفسهم (أو هم اصطفوا) بالإحالة إلى صورة عن تراتبية شعب التعلم الثانوي، ترفع أعلى الدرجات الدراسات الكلاسيكية. ثم لأنه وجب عليهم أن يكونوا شهداء على نجاح فريد خلال سنوات مزاولة التعليم الثانوي الأولى حتى يطمحوا دخول شعبة تستبقيها المدرسة لنخبتها، وإليها يمضي أمهر الأساتذة وأقدرهم على اصطناع من أولئك التلامذة، أفضل التلامذة (8).
وبما أن للطلاب الذين درسوا اللاتينية والإغريقية أفضل نسبة نجاح في كل تمارين الاختبار المقدم، وأن تلك النسبة هي عينها مرتبطة بنسبة أعلى من نجاح مدرسي سابق، ثم إن الطلاب الذين أتوا دراسات كلاسيكية حصلوا في الامتحانات السابقة على أفضل نسبة نجاح بوسعنا أن نخلص إلى أن السلاف من تلامذة الشعب الكلاسيكية، والذين اصطفاهم يسر بلاغتهم ولأجله، هم أقرب التلامذة من أمثولة» الطالب الممتثل، ذاك الذي يفترضه المدرس بمستوى خطابه وتلزمه الامتحانات وتوجده بذاك الإلزام ذاته.
وإذا كان حقاً أن النزوعات المدرسية تناوب بشكل
القادمين من المؤسسات الخاصة في دراسة الإغريقية واللاتينية (258) مقابل 31,1%) يحصلون مع ذلك على نتائج أفضل. والأدهى أن زمرة السلف من تلامذة المدارس الرسمية على الرغم من أنهم لم يدرسوا اللاتينية ولا الإغريقية تحصل على نتائج أعلى من نتائج طلاب درسوا اللاتينية والإغريقية، لكنهم قدموا من مؤسسات خاصة.
الهوامش:
(8) كانت الشعب الكلاسيكية أيضاً، منذ مدة ليست ببعيدة على قدر من الامتياز بحيث بالكاد يتأتى لنا الحديث عن التوجيه، ذلك أن الخيارات المتابعة عند مختلف مفترقات الدرب كانت تحددها بشكل شبه آلي درجة نجاح تقاس بسلم معايير فريد من نوعه ولا جدال فيه، ثم لأن الجميع كان يرى، حتى أصحاب الشأن أنفسهم دخول الشعبة الحديثة، إقصاء
وانحطاطاً.
الصفحة 204
أساسي الإجحاف المرتبط بالأصل الاجتماعي مع ما تستتبعه تلك النزوعات المدرسية بالنسبة إلى مختلف شرائح الطلاب من درجات اصطفاء تفاضلي نفهم لماذا يكون أبناء الأطر العليا هم الغالبين في زمرة الطلاب الجزئية الذين تلقوا تكويناً حديثاً، بينما يكون الطلاب أصيلو الطبقات الشعبية هم الغالبين في الزمرة الجزئية لطلاب اللاتينية، ذلك بما يدينون به من دون شك، إن درسوا اللغة اللاتينية، إلى خصيصة عليها وسطهم العائلي، ثم بما كان عليهم من إظهار ميزات فريدة للحصول على هذا التوجيه والدأب عليه (9) (الجدول رقم (4) بسبب كونهم سليلي طبقات، ذاك التوجيه بالنسبة إليها أكثر من مستبعد. بقيت معضلة أخيرة يتيح المنوال حلّها أيضاً : إذ يحصل الطلاب سليلو الطبقات الشعبية على نتائج أدنى من نتائج طلاب الطبقات العليا (%61,5 مقابل 73,5 وذلك في الزمرة الجزئية التي يحدها التكوين الموغل في الكلاسيكية.
وفي واقع الأمر بالنسبة إلى تلك الزمر الجزئية، تضاهي شريحة الطلاب الميسورين الذين جنوا من رأسي مالهم اللغوي والثقافي أفضل ربح مدرسي، الطلاب سليلي الطبقات الشعبية، على الرغم من أنهم اصطفوا اصطفاء مفرطاً في تلك الزمر الجزئية اصطفاء يبلغ درجة أكبر بكثير من اصطفائهم في الزمرة الجزئية لدارسي اللاتينية (فارق ينعكس فضلاً عن ذلك في نتائجهم : 61,5% مقابل 52%).
الهوامش:
(9) يحصل طلاب الطبقات المتوسطة باضطراد أياً كان تكوينهم، في التعليم الثانوي على أدنى النتائج حيث إن أكثر من النصف يحصلون في الحالات كلها على علامات أقل 12
الصفحة 205
(أنظر الجدول 4، الموجود في الصفحة 206 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 206
قس على ذلك، فإن وجود تغيرات شديدة في درجة الكفاءة اللغوية بالنظر إلى التخصص لا يمكن أن يسوق إلى أن منح هذا التكوين الفكري أو ذاك، أو الجمهور الذي يغنم منه، نجاعة ضمنية ولا اختزالية، إلا شرط أن نجهل أن الملأ الذي لتخصص ما إنما هو حاصل مسلسلة من الاصطفاءات تتبدل صرامتها وفق الربط بين العوامل الاجتماعية المحددة لمختلف المسارات المدرسية ونسق مختلف نماذج الدراسات الممكنة موضوعياً في نسق تعليم مسمى وفي فترة مسماة من الزمن : لمن سولت له نفسه رد غلبة تلامذة الصفوف الإعدادية في المدارس الكبرى على تلامذة المدارس التحضيرية، أو غلبة طلاب الفلسفة على طلاب السوسيولوجيا، إلى بعض خصال مخصة بالتعليم أو مخصة بأولئك الذين يتلقونه، حسبنا أن نشير إلى أن أبناء الأطر العليا، الذين هم لبقية الطلاب جميعاً غالبون غلبة جلية في زمرة طلاب الفلسفة - إن كان تخصصنا مثمناً أيما تثمين في منظومة الدراسات الأدبية التقليدية - إنما يحصلون على النقيض من ذلك، على أهزل النتائج في زمرة طلاب السوسيولوجيا -إن كان تخصصاً معد سلفاً للعب دور الملجأ ذات الحظوة لأعوز الطلاب المحظوظين تمدرساً، فيلفون أنفسهم فيه - بفعل ذاك -
مصطفون اصطفاء أدنى مقارنة بزملائهم في التخصص أصيلي أوساط اجتماعية أخرى وكي نمتلك أسباب كل الربط بين التخصص والأصل الاجتماعي والنجاح (الجدول رقم (5)) نرى كافياً أن نطرحفكرة تقضي بأن الاصطفاء الأدنى النسبي (بالنسبة هاهنا الفلسفة) إنما يشتد كلما أدركناه في طبقة اجتماعية أكثر حظوة (10). هو اصطفاء
الهوامش:
(10) إن النظريات التي يتذرع بها علماء الاجتماع لتملك أسباب تغيرات موقف الطلاب السياسي بحسب التخصص، إنما تجهل لا محالة جهلاً في مناسبات أقل، نسق الروابط التعاقبي والتزامني الذي يواريه الانتماء إلى التخصص لولا كانت الصلة بين التكوين الفكري والممارسة السياسية تنزع إلى الظهور مباشرة بمثابة الرابطة المفسرة بامتياز بخاصة بالنسبة إلى مثقفين وأساتذة لهم كامل المصلحة في أن يعتقدوا بجبروت الأفكار ويبشروا به. قلة هم محللو الحركات الطلابية - مع أنهم كانوا علماء اجتماع، وغالباً أساتذة علم الاجتماع - من لم يعزوا استعدادات طلاب ذلك التخصص، الثورية»، إلى خصال تعليم السوسيولوجيا أو إلى شروره.
الصفحة 207
سمة تخصص مثل السوسيولوجيا، لأنه يعد بكبير حظوة فكرية بأبخس الأثمان المدرسية، ويحل بفعل ذلك بمنزلة مفارقة في نسق التكوين.
وإن أسلمت التغيرات الملاحظة للتأويل كلها انطلاقاً من مبدأ فريد، له آثار شتى بحسب بنية النسق التام الذي للربط، صلبها وبها يتحقق، فلأنها لا تعبر بالمرة عن حاصل علاقات جزئية بقدر ما تعبر عن بنية فيها يسوس نسق الربط التام معنى أي منها. على هذا النحو، وفي تلك الحالة على الأقل، فإن التحليل المتعدد المتغيرات على شفا أن يسوقنا إلى الإحراج بمعنى وضع رأيين متعارضين لكل منهما حجته في الجواب على مسألة معينة (Aporie)، أو إلى تشيؤ الروابط المجردة لولا أن يرجع التمشي البنيوي إلى الطبقات المنطقية التي تقدها المعايير، وجودها كاملاً من جهة أنها زمر اجتماعية تتحدّد بجملة الربط التي توحدها وبمجموع الروابط الربط) التي ترعاها مع ماضيها وبواسطتها وبوضعيتها الحاضرة.
الصفحة 208
(أنظر الجدول 4، الموجود في الصفحة 209 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 209
ولن يتأتى لنا الإفلات من تفسيرات خيالية لا تتضمن غير الروابط عينها التي تزعم تفسيرها لا أكثر ولا أقل كالتفسير بتوزيع المهارات الفطرية توزيعاً متفاوتاً بين الجنسين أو التفسير بخصال تكوين ما مضمرة هي عند البعض اللاتينية، وعند البعض الآخر السوسيولوجيا) إلا أن نتجنب مقاربة تغيّرات يتعيّن فهمها باعتبارها عناصر» من بنية وباعتبارها أزمنة من سيرورة ما، كما لو أنها خاصيات ماهوية قابلة للعزل. إن ذاك الربط المزدوج إنما يفرض نفسه هنا، من جهة، لكون السيرورة المدرسية للإقصاء التفاضلي بحسب الطبقات الاجتماعية سيرورة تسوق في كل فترة إلى توزيع محدّد للكفاءات صلب مختلف فئات المفلحين) إنما هي نتاج فعل متواصل لعوامل، تحدد منزلة مختلف الطبقات من النسق المدرسي عنينا بها رأس المال الثقافي والخلق الطبقي. ومن جهة أخرى، لكون تلك العوامل تتبدل وتصرف في كل مرحلة من مراحل الدرب المدرسي إلى كوكبة فريدة من عوامل تناوب تمثل بالنسبة إلى كل فئة معتبرة ( طبقة اجتماعية أو جنس) بنية مختلفة (أنظر الشكل رقم (3)). إن نسق العوامل إنما هو الذي يمارس باعتباره كذلك على التصرفات والمواقف، ومن ثمة على النجاح كما الإقصاء، فعل السببية البنيوية» الذي لا يُجزأ، حتى إذا سولت لنا أنفسنا عزل تأثير هذا العامل أو ذاك، بل أكثر من ذاك، إذا سولت لنا منحه تأثيراً متشاكلاً وذا معنى واحد في مختلف فترات السيرورة وصلب مختلف بني العوامل، لن يكون ذلك إلا عبثاً. لذلك إنما يتعين بناء المنوال النظري لمختلف التنظيمات الممكنة لكافة العوامل القادرة على الفعل، وإن غياباً، في مختلف أزمنة الدرب المدرسي لأبناء مختلف الفئات، كي يتأتى لنا أن نسائل في انتظام ما نلحظه أو نقيسه بدقة من آثار للفعل النظامي، التي تلاحظ وتقاس بدقة لكوكبة فريدة من العوامل. مثال على ذلك، أنه حتى نفهم توزيع نتائج حصل عليها تلامذة من الجنسين ومن أوساط اجتماعية مختلفة في مادة ما من شعبة ما من
الصفحة 210
امتحان البكالوريا، أو بصفة أعم، حتى نحيط علماً في مستوى ما من المسيرة بالشكل الخصوصي للعوامل مثل رأس المال اللغوي أو الخلق، ونحيط علماً بنجاعتها، يتعيّن أن نردّ كل عنصر من تلك العناصر إلى نسق هو منه جزء، يمثل في الزمن المعتبر إعادة ترجمة للمحددات الأولية ذات الصلة بالأصل الاجتماعي وتناوباً لها. لذلك يتعين أن نحترس من أن نعتبر الأصل الاجتماعي، إضافة إلى التربية الأولى والتجربة الأولى، وهما مع الأصل الاجتماعي متكافلان، عاملاً قادراً على تحديد الممارسات والمواقف والآراء مباشرة في كل فترات السيرة الذاتية. ذلك أن الإكراهات المرتبطة بالأصل الاجتماعي الطبقي لا تمارس إلا من خلال أنساق خصوصية من عوامل تتحين فيها وفق بنية هي في كل مرة بشأن هكذا إذن نعزل حالة ما عليها البنية (أي كوكبة معينة من عوامل فاعلة في وقت معين في الممارسات)، فنفصلها عن کامل نسق تحولاتها على معنى نفصلها عن الشكل المكون لنشأة الدروب) إنما نمتنع عن اكتشاف السمات التي تعزى إلى الأصل الاجتماعي والانتماء الطبقي، تلك التي هي من كل إعادة الترجمة وإعادة البنينة تلك، أساً.
ولئن كانت ثمة حاجة في التحذير جهرة من فصل كذاك الفصل، فلأن التقنيات التي تستعملها السوسيولوجيا لإنشاء العلاقات وقياسها تضمر فلسفة هي في آن معاً تحليلية وأنوية : عندما نبصر أن ما ينذره التحليل المتعدد المتغيرات لنفسه عبر قطاعة تزامنية هو نسق ربط حدده توازن آني، أو أن التحليل المعاملي يقصي كل إحالة إلى نشأة جملة الروابط التزامنية التي يعالجها، فقد نوشك أن نغفل عن أمر أنه خلافاً للبنى المنطقية الصرف، فإن البنى التي تعرفها السوسيولوجيا هي نتاج تحولات، لأنها تجري مجرى الزمن، وليس بالإمكان أن نعتبرها إعكاسية، اللهم الا عبر استعمال تجريد منطقي عبثي من وجهة نظر المنطق السوسيولوجي، ذلك بما تعبر عنه تلك
الصفحة 211
التحولات من حالات متتابعة لسيرورة لا إعكاسية، وفق نظام العلل. من أجل ذلك يتعين أن نأخذ في الحسبان مجموع السمات الاجتماعية لأبناء مختلف الطبقات التي تحدّد وضعية بداية التمدرس لكي نفهم الاحتمالات المختلفة التي تحملها لهم أقدارهم المدرسية المختلفة، ولكي نفهم أيضاً ماذا يعني بالنسبة إلى أفراد شريحة مسماة أن يلفي المرء نفسه في وضعية محتملة نسبياً بالنسبة إلى شريحته مثل ذلك، ما كان من أمر ابن عامل له احتمال دراسة اللاتينية وهو احتمال ضعيف جداً، أو احتمال أن يعمل حتى يتمكن من مواصلة دراسات عليا، وهو احتمال عال جداً). من غير الوارد إذن أن يكون لنا أن نتخذ أي سمة كانت من بين السمات كلها، يعرف الفرد بها أو تعرف الفئة بها في مرحلة ما من دربه، مبدأ علوياً مفسراً لكل السمات. وإذا كان من أمر تفسير العلاقة التي تنشأ مثلاً في مستوى التعليم العالي بين النجاح المدرسي، وممارسة نشاط مأجور الذي يمكننا التسليم بشأنها له أثر محط سواسية أياً كانت الفئة الاجتماعية، على الرغم من تواترها المتفاوت بين شتى الطبقات الاجتماعية، لا يحق لنا استخلاص أن يكون الأصل الاجتماعي قد كف عن ممارسة أي تأثير في ذاك المستوى من المسيرة، ذلك أنه ليس سيان سوسيولوجياً أن نتخذ للتفسير نقطة بداية، أما الاحتمال فاحتمال متفاوت بين مختلف فئات الطلاب يقضي بالعمل خارج المدرسة، وأما الاحتمال المتفاوت فأن نعثر على طلاب من أوساط مختلفة من بين أولئك الذين كتب عليهم العمل بالأحرى لن يتأتى لنا إعادة تركيب مختلف التجارب المناسبة لوضعيات حددها تقاطع معايير مختلفة مثل ذلك، تجربة ابن الريفي الذي أدخل المدرسة الثانوية الكاثوليكية بدلاً من دخوله دار المعلمين، أو تجربة أن يصبحأستاذ فلسفة بدلاً من خبير جغرافي أن تتخذ من تجربة الوضعية كما حددها أي من تلك المقاييس، نقطة بداية لإعادة التركيب : إن
الصفحة 212
التجارب التي لا يتأتى للتحليل تمييزها وتخصيصها إلا عبر تقاطع مقاييس منطقية يناقل بعضها بعضاً لا تتيسر للإدماج في وحدة سيرة نظامية إلا أن نعيد بناءها انطلاقاً من الوضعية الأصلية التي للطبقة أن كانت المحل الذي منه تُصرف كل رؤية ممكنة وتستحيل كل رؤية له.
من منطق النسق إلى منطق تحولاته
مثلما تطلب بناء المنوال التعاقبي للدروب والسير الفردية صرف النظر عن تملك ناصية الربط تملكاً تزامنياً تلك التي تنشأ في مرحلة ما من المسيرة بين سمات مختلف الزمر الاجتماعية والمدرسية و درجات النجاح التي لها ابتغاء بناء المنوال التعاقبي للدروب والسير، يقتضي الأمر أيضاً الإفلات من الوهم الملازم لتحليل نسق التعليم تحليلاً وظيفياً خالصاً، أن نحل حالة النسق التي يكشفها البحث سيرتها الأولى في تاريخ تحولاته ويتيح تحليل تلقي الرسالة البيداغوجية تفاضلياً، المبسوطها هنا تفسير التأثيرات التي تمارسها تحولات ملأ المتلقين على التواصل البيداغوجي، مثلما يتيح تعريف عبر التعميم السمات الاجتماعية للملأ المناسب للحالتين الحديثين للنسق التقليدي: حال ما يمكننا تسميته بالحال العضوي»، فيها للنسق شأن مع ملاً مطابق تماماً للزومياته المضمرة. وحال ما يمكن أن نسميه بـ «الحرجة، فيها ينتهي بسوء الفهم إلى أن يصبح لا يطاق، بسبب تطور التركيبة الاجتماعية للملأ المدرسي. أما ما كان من أمر المرحلة الملاحظة، فإنها تناسب طوراً وسيطاً.
وإذا ما عرفنا من جهة العلاقات (الربط) التي توحد سمات مختلف شرائح المتلقين الاجتماعية والمدرسية بمختلف درجات الكفاءة اللغوية، ومن جهة أخرى تطوّر الثقل النسبي لشرائح تسمها مستويات تلقي متباينة، نستطيع بناء منوال يمكن من تفسير تحولات
الصفحة 213
العلاقة البيداغوجية، وإلى حد ما، توقعها. إن الذي يتضح تواً هو أن تحولات نسق الروابط التي توحد النسق المدرسي مع بنية العلاقات الطبقية، تحولات تعبر عن نفسها مثلاً في تطور نسبة تمدرس مختلف الطبقات الاجتماعية، إنما تجرّ إلى تحول مطابق للمبادئ عينها التي تسوسه في نسق الروابط بين مستويات التلقي وفئات المتلقين على معنى نجر إلى تحول في نسق تعليم عُد نسق تواصل : وفي حقيقة الأمر إن مهارة التلقي، إن كانت سمة متلقي فئة مسماة، إنما هي رهن معاً، رأس المال اللغوي Capital) (linguistique) الذي تنهيأ تلك الفئة عليه والذي يمكننا افتراض أنه ثابت (Constant) طيلة الفترة المعتبرة وبـ درجة اصطفاء Degré) (de Sélection المفلحين من تلك الفئة مثلما تقيسه موضوعياً نسبة الإقصاء المدرسي للفئة هكذا يتيح تحليل تقلبات الثقل النسبي لفئات المتلقين في الزمن من أن يكشف ويفسر سوسيولوجياً نزوع ميل توزيع كفاءات المتلقين اللغوية إلى الانحدار المتواصل، في الوقت نفسه الذي يفضح فيه ويفسر نزوع انتشار ذاك التوزيع إلى الربود. وبالفعل بسبب ازدياد نسبة تمدرس الطبقات الاجتماعية كافة يمارس الأثر المعدل للاصطفاء الأقصى أقل فأقل على مستوى تلقى شرائح خصت بأضعف إرث لغوي مثلما صرنا نبصره في حال الطلاب سليلي الطبقات المتوسطة، بينما تدرك الفئات الأكثر حظوة على جهة الرابطة ذات الشأن نسبة اصطفاء في منتهى الهزال، حد نزوع مقام تلك الفئات إلى الانحدار باستمرار في الوقت الذي فيه یزداد «انتشار» مستويات التلقي.
ولن نقدر، عينياً، أن نفهم على نحو ملائم، الوجه البيداغوجي للأزمة التي يشهدها اليوم نسق التعليم على معنى التسيب والنشاز اللذين يعملان فيه باعتباره نسق تواصل إلا شرط أن نأخذ في
الصفحة 214
الحسبان، من جهة نسق الربط التي توحد الكفاءات أو مواقف مختلف فئات الطلاب مع السمات الاجتماعية والمدرسية، ومن جهة أخرى تطور نسق الربط بين المدرسة والطبقات الاجتماعية مثلما يمتلك ناصيته موضوعياً إحصاء الاحتمالات لدخول الجامعة وإحصاء الاحتمالات الشرطية لدخول مختلف الكليات فخلال الفترة بين (1961) - 1962) و (1965) - (1966) شهد التعليم العالي نمواً سريعاً جداً، غالباً ما عُزي إلى دمقرطة الانتداب، وقد تزحزحت بنية توزيع الحظوظ المدرسية بحسب الطبقات الاجتماعية فعلاً، إلى الأعلى، لكن من دون أن تتحرف تقريباً (أنظر الشكل رقم (4) والملحق). وبتعبير آخر نقول إن ازدياد نسبة تمدرس الطبقة العمرية المتراوحة بين 18 و 20 سنة قد توزع بين مختلف الطبقات الاجتماعية في أقساط تضاهي على نحو ملموس تلك التي كانت تحدد التوزيع القديم للحظوظ (11). وحتى نفسر تبدلات توزيع الكفاءات والمواقف المرتبطة بمثل تلك الإزاحة حسبنا أن نشير مثلاً، إلى أن أبناء الصناعيين الذين كان لهم بين سنتي 1961 - 1962، 52,8 من حظوظ دخول الكلية صار لهم منها 74 بين سنتي 1965 - 1966 حتى إن نسبة حظوظ تلك الفئة، الممثلة نسبياً أكثر في الصفوف التحضيرية والمدارس الكبرى، مما هي ممثلة في الكليات على متابعة دراسات عليا، تقع الحظوظ في أن تأتي دراسات عليا في حوالى
الهوامش:
(11) يمكن ملاحظة نموذج تطور الحظوظ المدرسية ذاك الذي يقرن ارتفاع نسب تمدرس كل الطبقات الاجتماعية بثبات بنية الفروقات بين الطبقات في جل البلدان الأوروبية الدانمارك انجلترا، هولندا، السويد، بل حتى في الولايات المتحدة أيضاً. انظر : Organisation de coopération et de développement économiques (O.C.D.E.), L'Enseignement secondaire, évolution et tendances (Paris: O.C.D.E., 1969), pp. 86-87.
الصفحة 215
(أنظر الشكل، الموجود في الصفحة 216 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 216
80(12) وإن نحن سلطنا على هذه السيرورة المبادئ المستخلصة من تحليل العلاقات التزامنية لاتضح لنا أن تلك الفئة على قدر ما تتقدم من تمدرس شبه كامل تنزع إلى أن تكتسب السمات كلها، وبخاصة الكفاءات والمواقف وهي سمات وكفاءات مرتبطة باصطفاء الأدنى لفئة ما اصطفاء مدرسياً.
وبصورة أعم، يتيح الربط بين رأسي المال اللغوي والثقافي لفئة ما أو رأس المال المدرسي الذي هو لرأسي المال ذاك شكلاً مبدلاً، في فترة مسماة من المسيرة بدرجة الاصطفاء النسبي المرتبطة بالنسبة إلى تلك الفئة بأمر أن تكون ممثلة بنسبة مسماة وفي مستوى مسمّى من المسيرة، وفي نموذج مسمّى من الدراسات، إنما يتيحتملك أسباب التباينات التي تطفو في كل فترة من تاريخ النسق، من كلية إلى أخرى وداخل الكلية عينها، ومن تخصص إلى آخر وبين درجات سوء الفهم اللغوي أو الثقافي وأنماطه. ولن نتمكن من إعطاء قيمة التخصصات المتناقصة معناها السوسيولوجي الحق إلا بالرجوع ليس إلا، إلى نسق الروابط الدائرية بين التمثل المهيمن لتراتبية التخصصات والسمات الاجتماعية والمدرسية لملأها، هي عينها التي تحددها الرابطة بين قيمة موقع مختلف التخصصات واحتمال المسارات المتباينة لمختلف الفئات تلك التخصصات التي مثل الكيمياء أو العلوم الطبيعية في كليات العلوم أو الجغرافيا في كليات الآداب، تستقبل أقوى نسبة من الطلاب سليلي الطبقات الشعبية، وأكبر نسبة من طلاب أتوا دراساتهم الثانوية في الشعب الحديثة أو في مؤسسات من الدرجة الثانية. ومهما يكن من أمر تلك المسالك،
الهوامش:
(12) سوف نلقى آتياً (الفصل 3، ص 291 - 303 من هذا كتاب) توصيفاً لأواليات الإقصاء المرجأ. هي أواليات تنزع إلى تأبيد الفروقات (التباينات) بين الطبقات في مستوى التعليم العالي على الرغم من ارتفاع نسب تمدرس الطبقات الشعبية في التعليم الثانوي.
الصفحة 217
فإنها أرجحها بالنسبة إلى الطلاب سليلي الطبقات الشعبية. ويتيح هذا المنوال أيضاً الإلمام أياً كانت المعايير الاجتماعية أو المدرسية التي نعتبرها تحتل السوسيولوجيا دوماً منزلة منحرفة عن المركز. ولئن كان بالمستطاع وسم كل تخصص، وبشكل أعم كل مؤسسة تعليم بمنزلتها في التراتبية المدرسية تشكل نسبة النجاح المدرسي المنصرمة أو العمر المشروط للجمهور المناسب لها، يمثل مؤشراً بالمرتبة نفسها لما تشكله مثلاً مكانة الأساتذة الجامعية)، وبمنزلتها أيضاً في تراتبية اجتماعية ما هي منزلة الانتماء الاجتماعي أو نسبة تأنيث الملأ المناسبين يشكل لها مؤشراً بالمرتبة نفسها لما تشكله القيمة الاجتماعية لمنافذ العمل، يتضح أن التخصصات التي خضت بـ «مؤشرات المنازل ذات درجة عالية من التبلور» في التراتبيتين، تجعل تراتبها يسيراً، بدءاً بأكثر التخصصات تصديقاً» مثل الآداب الكلاسيكية في كليات الآداب التي تظهر نسبة عالية للطلاب أصيلي الطبقات المحظوظة والتي خصت بنسبة نجاح مرتفعة في السابق وصولاً إلى تخصصات مثل الجغرافيا التي نفهم فهماً أفضل وضعيتها المبخوسة عندما نرى أنها تراكم مؤشرات هزيلة في البعدين هكذا يتيح المنوال المقترح من وسم الاختصاصات المعنية كلها. ذلك أن المعيار المدرسي والمعيار الاجتماعي يكفيان كي تميز تخصصات غير متبلورة من تخصصات متبلورة، مثلما يتيح في الوقت نفسه صياغة تراتبية صلب كل تلك التخصصات. ثم إنه يكفي إدراج مقياس أخير هو معامل الجنس، حتى نرى تخصصات مثل السوسيولوجيا وتاريخ الفن والجغرافيا والإسبانية أو أيضاً الفلسفة والألمانية، التي تحتل المنزلة الاجتماعية نفسها في البعدين المدرسي والاجتماعي تظهر كـ «تشكليات فريدة كثيرة فرقتها كلها تميزات ملائمة سوسيولوجياً (باستثناء الإنجليزية وعلم النفس). ثم إنه بالإمكان أن تعثر فعلاً على مبدأ التناقضات المتجانسة، التي تنشأ بين تلك
الصفحة 218
التخصصات في تقسيم للعمل بين الجنسين، ينذر النساء لمهام الربط الاجتماعية (اللغات الحية) أو للمهام العلية (تاريخ الفن).
وابتغاء فهم الظاهرة برمتها، يتعيّن أن نتمثل نسق التخصصات ( وبصورة أعم نسق التعليم كحقل فيه تمارس قوة نابذة متناسبة عكساً مع درجة النجاح المدرسي، وقوة جاذبة متناسبة مع الثبات الذي يستطيع أي فرد أو بصورة أدق فئة من الأفراد الوقوف به في وجه الفشل والإقصاء، وهو أمر متوقف على طموحات محددة اجتماعياً باعتبارها متقدرة على جنسه وطبقته بمعنى متوقف على الشاكلة المخصة بجنسه وبخلقه الطبقي.
الصفحة 219
(أنظر الشكل، الموجود في الصفحة 220 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 220
(أنظر الشكل، الموجود في الصفحة 221 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 221
(أنظر الجدول، الموجود في الصفحة 222 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 222
بالوضع الذي هو في ظاهره مفارق لما هو عليه تخصص ما، يتميز مثل السوسيولوجيا، عن التخصصات الأبخس في كليات الآداب بسمات ملأه الاجتماعية، على الرغم من قربه من تلك التخصصات بسماته المدرسية (أنظر الشكل رقم (5)، ص 220 من هذا الكتاب). وإذا كانت السوسيولوجيا في باريس تستقبل أكبر نسبة من الطلاب سليلي الطبقات العليا (68) مقابل 55 لمجموع الدراسات الأدبية، بينما تحصد تخصصات أخرى مثل الآداب الحديثة أو الجغرافيا التي هي تخصصات مع ذلك قريبة جداً من السوسيولوجيا على جهة المقتضيات المدرسية عندما تقاس بالنجاحالسابق، أعلى نسب الطلاب سليلي الطبقات الشعبية أو المتوسطة هي تباعاً 48 و 65% مقابل 45 بالنسبة إلى مجموع التخصصات)، ولأن الطلاب الأدنى اصطفاء من الطبقات العليا بإمكانهم العثور على بديل لطموحاتهم الطبقية في تخصص يمنحهم معاً يسر الوليجة وحظوة الدرجة، ثم لا يجعل على خلاف الإجازات في التعليم الصورة المبتذلة لمهنة ما للمشروع الفكري لأولئك الطلاب نقيضاً (13).
الهوامش:
(13) إن كان اختبار اللغة والذي يتحصل فيه السوسيولوجيون على نتائج أدنى من نتائج الفلاسفة بشكل نظامي لا يكفي للحمل على أن السوسيولوجيا توفر أرضية انتخابها، على الأقل في باريس، لأيسر شكل من هواية الطلاب سليلي الطبقات العليا، فإن قراءة المؤشرات الإحصائية تفحم بالمنزلة المفارقة لهذا الاختصاص في كليات الآداب : هكذا بينما تقابل السوسيولوجيا الفلسفة على جهة رأس المال المدرسي المفروض مثلما يقابل الأدب الحديث الآداب الكلاسيكية، فإن لها انتداب اجتماعي أرفع من انتداب الفلسفة (68% من طلاب السوسيولوجيا سليلي الطبقات العليا مقابل 55% للفلسفة). أما الآداب الكلاسيكية، فإن لها انتداباً اجتماعياً أرفع من انتداب الآداب الحديثة التي تكون مع الجغرافيا أكثر المنافذ احتمالاً بالنسبة إلى طلاب الطبقات الشعبية سليلي الشعب الحديثة من التعليم الثانوي (67% مقابل %52).
الصفحة 223
بيد أنه لن نهتدي سبيلاً إلى نحيط علماً إحاطة كاملة بتقلبات درجة التوافق اللغوي بين الرسل والمتلقين من دون أن ندمج في منوال تحولات العلاقة البيداغوجية، علاوة على ذلك، تقلبات مستوى الإرسال وهي تقلبات مرتبطة بسمات المرسل الاجتماعية والمدرسية، أي مرتبطة في آن معاً بعوارض الازدياد السريع في هيئة الأساتذة والتحولات التي تصيب الرسالة البيداغوجية التي تخون مع ظهور تخصصات مثل علم النفس أو السوسيولوجيا، ذلك الطلاق بين لزوميات الخطاب العلمي بالشرائع التي تسوس العلاقة التقليدية باللغة، أو زواجهما القسري. إن ضرورة انتداب، على عجل، أساتذة لا غنى عنهم من طبقات عمرية أقل عدداً وأدنى تمدرساً معاً، قصد تأطير ملأ كيفما كان، نتج ازدياده المباغت بعد سنة 1965 من اقتران النمو العام لنسب التمدرس والارتفاع في نسبة الخصوبة خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لم يكن بوسعها إلا أن ترشح انزلاقاً منتظماً نحو الأعلى لمدرسين كونوا لمهمة أخرى في المرحلة السابقة من تاريخ النسق. قد يكون بوسعنا في تلك الشروط الاقتناع للوهلة الأولى بأن هبوط مستوى التلقي وجد في هبوط مستوى الإرسال معدلا آلياً، ذلك أن احتمال بلوغ منازل أكثر علواً في تراتبية الرتب لم يكف عن الازدياد (الربو) على درجة متساوية لازدياد التصديق الجامعي. وفي واقع الأمر، علاوة على أن الأمر كله كان يجنح بالمدرسين المنتدبين وفق المعايير التقليدية إلى أن يجدوا في التلاعب بسوء الفهم اللغوي وسيلة لتجنب المعضلات البيداغوجية التي طرحها التحول الكمي والكيفي لملأهم، كان المدرسون الحديثو الانتداب أولئك الحريصون على الظهور أهلا لترقية حثيثة» والمهمومون بذلك، يلفون أنفسهم، ولا ريب أكثر جنوحاً إلى تبني العلامات الخارجية للحذق التقليدي على الرضا بجهد ضروري ابتغاء ضبط تعليمهم على الكفاءات الحقيقية لملأهم.
الصفحة 224
وفي مؤسسة تظل الزمرة المرجعية فيها زمرة مدرسين أذن لهم أكثر من غيرهم التكلم على نحو علامي فيها تراتبية ممحصة بغلو تذكر كثيراً، تراتبية من تسميات وعلامات للمكان دقيقة، ودرجات للسلطة، كُتب على المساعدين أو الأساتذة المساعدين توسل المجازفة أكثر ابتغاء إرضاء حاجة الطلاب إرضاء تقنياً، على الرغم من أنهم أكثر المدرسين مجابهة لتلك الحاجة مباشرة واستمراراً. وفي حقيقة الأمر، إن مساعيهم للتخلي عن العلاقة التقليدية باللغة إنما هي عرضة بخاصة إلى أن تبدو كأنما هي بدائية» إن كان كامل منطق النسق ينزع إلى إظهار تلك المساعي كعلامات عميمة عن عجزهم عن التطابق مع التعريف الشرعي للدور.
على هذا النحو يثبت تحليل تحولات العلاقة البيداغوجية القول بأن كل تحوّل في النسق المدرسي إنما يجري مجرى منطق فيه تتجلى بعد بنية ذاك النسق ووظيفته المخصّتين به. ويتوجب على تحليل فيض التصرفات والأقوال المحير الذي يسم الطور الحرج من أزمة الجامعة ألا يصبو إلى وهم انبعاث الفاعلين أو الأفعال الخلاقة من عدم». ذلك أنه في الوقفات من الأمور التي في ظاهرها الأكثر حرية، إنما تتجلى أيضاً النجاعة البنيوية لنسق العوامل الذي يعين الحتميات الطبقية لفئة من أعوان أو طلاب أو أساتذة محددة بمنزلتها في نسق التعليم. وعلى العكس من ذلك، أن نتذرع بالنجاعة المباشرة والآلية للعوامل الظاهرة، مثل الازدياد الفجائي في عدد الطلاب، يعني أن نغفل عن أن الأحداث الاقتصادية أو الديموغرافية أو السياسية التي تطرح على النسق المدرسي مسائل غريبة عن منطقه، لا تستطيع له تأثيراً إلا بما يتطابق ومنطقه. (14). وفي الوقت الذي يهدم
الهوامش:
(14) بالتأكيد ما يدين تفسير الأزمة بالآثار الآلية للمحددات المورفولوجية أن تكون في منتهى التواتر إلا لكونه يستحضر الترسيمات الاستعارية للسوسيولوجيا التلقائية، مثل تلك التي ترى الرابطة بين مؤسسة ما وملأها رابطة بين حاو ومحتوى، فيجعل ضغط الحشد» البني تنهار، بوجه خاص لما تكون «نخرة».
الصفحة 225
النسق فيه بنيته أو يعيد تبنينه بفعل تأثير تلك المسائل، يصيبها بقلب يكسب نجاعتها شكلاً وثقلاً نوعيين. ذلك أن حالة الأزمة الناشئة مناسبة للتبين من الأوليات القادرة على تأبيده، إذ تصبح مقدمات اشتغاله غير موفى بها تماماً. إنه متى ينشأ الاتفاق المحكم بين النسق المدرسي وملأه المنتخب يُنقض، يسفر فعلياً الانسجام المعد قبلياً» عن نفسه، وقد كان يسند إسناداً ذاك النسق حد كان يستبعد كل تساؤل عن أسها. ولا يزال سوء الفهم الذي يستسكن التواصل البيداغوجي محتملاً إلا ما دامت المدرسة قادرة على إقصاء أولئك الذين لا يوفون بلزومياتها الضمنية، وما استطاعت الحصول من الآخرين على التواطؤ الضروري لاشتغالها. وإن تعلق الأمر بمؤسسة لا تستطيع أداء وظيفتها التلقينية المخصة بها إلا ما أبقت على حد أدنى من الملاءمة بين الرسالة البيداغوجية ومهارة المتلقين على فكها، فإنه يتعين أن نتعقل أن من صلب عوارضها البيداغوجية تحديداً ازدياد الملأ وازدياد حجم المنظمة، حتى نكتشف بمناسبة الأزمة الناشئة عن انخرام ذاك التوازن، أن المضامين المرسلة وأنماط الإرسال الممأسسة كانتا متكيفتين موضوعياً مع ملأ حدده على الأقل انتدابه الاجتماعي بقدر ما حدده صغر حجمه : ذلك أنه ليس لنسق تعليم يتأسس على بيداغوجيا ذات نمط تقليدي أن يؤدي وظيفته التلقينية ما دام يتوجه إلى طلاب لهم رأس المال اللغوي والثقافي -والمهارة في جعله مثمراً - الذي يفترضه ويصدقه، ثم لا يلزمه أبداً جهراً ولا يرسله منهجياً. ما يستتبع ذلك بالنسبة إلى نسق كذاك النسق أن ليس عدد ملأه هو الاختبار الحقيقي بقدر ما هو ميزته
الصفحة 226
الاجتماعية (15). وعلى سبيل أن النسق المدرسي يخيب الانتظارات الطارئة والمباغتة لفئات من طلاب لن يجلبوا بعد إلى المؤسسة وسائل الوفاء لانتظاراتها، فإنه يختال تلك الفئات أن كان يلزم ضمناً ملاً بوسعه أن يقضى وطره من المؤسسة لكونه أرضى، صبرة لزومياتها. لعله ما كان لجامعة السوربون أن تكون أبداً مرضية كلياً إلا لمن تأتى لهم الاستغناء عن خدماتها مثل طلاب دار المعلمين العليا في مطلع القرن العشرين كانوا يطيعون ناموسها السري، إذ ينذرون لأنفسهم لباقة أن يأبوا عليها شهادة رضاهم. وحين يخاطب المدرسون ملاً حددته على نحو مثالي مهارة تلقي ما له يقدمون هم -وهي مهارة لا يعطونه إياها - فإنهم لا يأتون غير التعبير عن الحقيقة الموضوعية بغير وعي منهم. هي حقيقة نسق كان في عصره الذهبي بوسعه أن ينذر لنفسه ملا تقدر عليه، وكان يوفر أيضاً للأساتذة خلال مرحلة الاختلال الناشئ الوسائل التقنية والأيديولوجية ليتواروا المسافة المتزايدة بين ملأهم الحقيقي وملأهم المزعوم. ولما يفترض المدرسون بمستوى خطابهم ملاً تتوزع مهاراته على التلقي وفق منحن على شكل 1، أي حيث كان أكبر عدد من الأفراد يستجيب للزوميات القصوى التي للرسول، فإنهم يختالون حنينهم إلى الجنة البيداغوجية التي للتعليم التقليدي، فيها كان باستطاعتهم أن يعفوا أنفسهم من أي وعي بيداغوجي (16).
الهوامش:
(15) إن تعين مقاربة نسق التعليم بمثابة نسق تواصل لتملك ناصية المنطق النوعي للعلاقة البيداغوجية التقليدية، ومن ثمة لتملك ناصية تسيبها، توجب الحذر من أن نسند المنوال المبني، مقابل الاستقلالية المنهجية لاشتغال نسق التعليم اشتغالاً تقنياً، القدرة على تفسير جملة الأوجه الاجتماعية من أزمة النسق، وبالخصوص تفسير كل ما يصيبه في وظيفته التي تقضي بإعادة إنتاج بنية العلاقات بين الطبقات الاجتماعية.
(16) من أن نأخذ في الحسبان تقلبات بنية توزيع الكفاءات، لن نتمكن بعد من فك معضلة استعمال أمثل للرابطة البيداغوجية. فإذا ما كان من أمر ملاً ما تتوزع كفاءاته وفق -
الصفحة 227
وأن نمتنع عن أن ننسب لازدياد الملأ فعلاً يمارس آلياً ومباشرة، أي بمعزل عن بنية النسق المدرسي، فإنه ليس أن ننعم على ذاك النسق امتياز استقلالية مطلقة تتيح له ألا يعترض غير المعضلات التي يفرزها منطق اشتغاله وتحولاته بتعبير آخر، إنه بسبب قدرة النسق المدرسي على إعادة الترجمة المعتصمة باستقلاليته النسبية)، فإنه ليس يستطيع أن يتأثر بعوارض التغيرات المورفولوجية وبعوارض التغيرات الاجتماعية كلها التي تكسوه إلا إذا تشكلت تلك العوارض معضلات بيداغوجية، حتى لو كان يحرم على الأعوان أن يطرحوا على أنفسهم في صيغة بيداغوجية المعضلات البيداغوجية التي تُطرح موضوعياً عليه. إن التحليل السوسيولوجي إنما هو الذي يشكل في حقيقة الأمر الصعوبات الناجمة عن ربو العدد كمعضلات بيداغوجية ليس إلا أن يقارب العلاقة البيداغوجية علاقة تواصل، شكلها ومردودها متعلقان بتلاؤم مستويات الإرسال مع مستويات التلقي المنشرطة اجتماعياً. هكذا فصلب البون بين اللزوميات المضمرة لنسق التعليم وحقيقة ملأها، إنما تقرأ الوظيفة المحافظة للبيداغوجيا التقليدية كأنها لا بيداغوجيا، بقدر ما تقرأ مبادئ البيداغوجيا جهرية لها أن يلزمها النسق موضوعياً من غير أن تُفرض مع ذلك آلياً في ممارسة المدرسين، لكونها تعبر
منحن على شكل جرس، فإنه يستدعي خيارات بيداغوجية من نمط مختلف تبعاً لما تظهره التحولات التي تصيبه في مجرى الزمن. فإما إزاحة في النمط وإما تغير في التناثر : ذلك أن الحط من النمط لا يلزم من الرسول غير الحط من مستوى إرساله، أكان بزيادة مراقبة للتكرار، أم كان بجهد منهجي يفشي في الرسالة شفرة الرسالة برمتها، تفسيراً أم ضرباً للأمثال. وعلى نقيض ذلك ينزع الازدياد في تناثر الكفاءات في ما وراء عتبة معينة، إلى طرح معضلات يستحيل فكها بالإعمال فقط في الإرسال، مثلما تشهد على ذلك حال بعض الاختصاصات العلمية، إذ يتعذر تنكير التناثر المتزايد المستويات التلقي بالتفاهم صلب سوء التفاهم تنكيراً ميتراً إلا في كليات الآداب.
الصفحة 228
عن تناقض ذاك النسق، ولكونها تناقض مبادئه الأساسية (17).
هكذا يأبى التأويل الإمبيريقي للعلاقات الملاحظة على نفسه تملك أسباب التقلبات الإمبيريقية آلياً، إن اقتصر، تظاهراً بالأمانة للواقع، على ظاهر الموضوع، أي على جمهور مدرسي معين بمعزل عن رابطته بالجمهور المقصي وابتغاء الإفلات من شرك ينصبه النسق المدرسي، فلا يقدم للملاحظة غير بعض جمهور الناجين، كان الأمر يقضي حصحصة موضوع البحث الحق، من ذاك الموضوع المبني قبلياً، على معنی حصحصة المبادئ التي بمقتضاها يصطفي النسق المدرسي جمهوراً، خاصياته الثاقبة أثر لفعل التكوين والتوجيه والإقصاء الذي له على نحو مكتمل، بقدر ما نزداد في المسيرة ارتفاعاً. عندئذ ليس لتحليل السمات الاجتماعية والمدرسية لملأ المتلقين الرسالة بيداغوجية ما من معنى، إلا أن يسوق إلى بناء نسق الربط بين من ناحية المدرسة منظوراً إليها كمؤسسة لإعادة إنتاج الثقافة الشرعية، فتحدد في ما تحدد نمط فرض الثقافة المدرسية وتلقينها، ومن ناحية أخرى الطبقات الاجتماعية التي تسمها على جهة نجاعة التواصل البيداغوجي، مسافات متفاوتة من
الهوامش:
(17) لا تدين تلك البيداغوجيا التي هي نتاج تحليل للنسق المدرسي، تطور النسق عينه ممكناً، والتي تبتغي علناً ضمان استواء أمثل بين مستوى الإرسال ومستوى التلقي، بشيء كما يتضح لنا (سواء حدد كلاهما النمط أم التناثر) إلى انتماء إيتيقي المثال عن العدالة المدرسية عابر للتاريخ وعابر للثقافة، ولا إلى الإيمان بفكرة كونية عن العقلانية. وإن لم يكن تطبيق مبادئ تلك البيداغوجيا من تحصيل الحاصل، فلكونه يفترض مأسسة رقابة مستمرة للمتلقي،
رقابة يأتيها سواء المدرسون أم المتعلمون، وبصورة أعم لكونه يلزم أن تأخذ في الحسبان سمات التواصل الاجتماعية كلها، وبخاصة أن تأخذ افتراضات لاواعية يدين بها المدرسون والمتعلمون إلى وسطهم وإلى تكوينهم الاجتماعيين. ثم إنه ما من أمر أعظم خطأ من أن تمنحعلى سبيل المثال هذه التقنية أو تلك من تقنيات الإرسال أو الرقابة (أكانت محاضرة أم تعليماً غير موجه، مقالة أو استمارة مغلقة) فضائل أو عيوب تسكنها. ذلك أن الإنتاجية البيداغوجية تحديداً التي لتقنية ما تتحدد فقط صلب النسق التام الروابط بين محتوى الرسالة وتوقيتها في سيرورة التعلم، ووظائف التكوين، واللزوميات الخارجية المثقلة على التواصل (تعجلاً أو ترفها) والسمات المورفولوجية والاجتماعية والمدرسية للملأ أو لهيئة التدريس.
الصفحة 229
الثقافة المدرسية واستعدادات مختلفة للاعتراف بها واكتسابها. وإن لا نعد الأخطاء التي لا تشوبها شائبة والسهو الذي لا مأخذ عليه، إليها تصبو سوسيولوجيا التربية، إذ تدرس منفصلاً الجمهور المدرسي وتنظيم المؤسسة أو نسقها المعياري كما لو كان الأمر يتعلق بحقيقتين جوهريتين، تتواجد سماتهما ما قبلياً لترابطهما. تنذر سوسيولوجيا التربية نفسها بسبب أفعال الاستقلال اللاواعية تلك إلى الالتجاء في آخر المطاف إلى التفسير بالفطرة الساذجة مثل التطلعات الثقافية للتلامذة أو المنزع المحافظ» للأساتذة، أو محفزات الأولياء. إن بناء نسق الربط بين نسق التعليم وبنية العلاقات بين الطبقات الاجتماعية هو الذي قد يتيح من دون سواه الإفلات حقاً من تلك التجريدات المشيئة، وإنتاج مفاهيم ترابطية، مثل مفاهيم الحظ المدرسي أو الاستعداد حيال المدرسة، أو المسافة من الثقافة المدرسية أو درجة الاصطفاء. هي مفاهيم تدمج في وحدة نظرية مفسرة، خاصيات معتصمة بالانتماء الطبقي مثل الخلق أو رأس المال الثقافي، وخاصيات ثاقبة للتنظيم المدرسي، مثل تراتبية المعايير التي تلزم عن تراتبية إما المنشآت، وإما الشعب، وإما الاختصاصات، وإما الدرجات، وإما الممارسات. وما من شك في أن ذاك الربط إنما يظل حتى الآن جزئياً : فعلى سبيل أن ذاك البناء النظري لا يُبقي غير الملامح الثاقبة للانتماء الطبقي معرفة في علاقاتها التزامنية والتعاقبية بالنسق المدرسي، نسق منظوراً إليه بمثابة نسق تواصل ليس إلا، فإنه ينزع إلى مقاربة العلاقات بين نسق التعليم والطبقات الاجتماعية، مجرد علاقات تواصل بيد أن هذا التجريد المنهجي إنما هو شرط تعقل أيضاً لأكثر أوجه تلك العلاقات تميزاً وأفضلها اختفاء : لا ينجز نسق مدرسي محدد وظيفته الاجتماعية التي تقضي بالحفظ ووظيفته الأيديولوجية التي تقضي بالشرعنة، إلا بالطريقة الفريدة التي وفقها ينجز ناهيك عن ذلك وظيفته التقنية، وظيفة التواصل.
الصفحة 230
الفصل الثاني : التقليد الثقف والمحافظة الاجتماعية
لقد شهد قضاتنا تلك الأحجية جيداً، فأثوابهم الحمراء، وفرو القائم الذي به يتشحون كقطط مفراة، والقصور التي فيها يقاضون كل تلك العدة المهيبة كانت ضرورية جداً. ولولا أن كان للمطببين جبائب وأخفاف، وللدكاترة قبعات مربعة وأثواب فضفاضة من جهاتها الأربع، ما كان لهم أبداً أن يخاتلوا الناس الذين كانوا لا يستطيعون لذاك المشهد صداً. هم المحاربون لا شريك لهم، من لم يتنكروا نحوهم، إن كان دورهم في حقيقة الأمر أكثر أهمية : إنهم يظهرون غلابا، أما الآخرون فتصنعاً.
باسكال
خواطر
إنا نعطي الخطيب «الصولجان من قبل أن يشرع في خطبته وحتى نتيح له التكلم بسلطان (.). إنه ينصب الشخص المتعهد بالكلام شخصاً مقدساً، تقضي مهمته أن ينقل رسالة السلطان.
أ. بنفنيست
معجم المؤسسات الهندية - الأوروبية
الصفحة 232
لما نبرز جسامة المعلومات التي تذهب في التواصل بين المدرسين والطلاب، سدى تبعث نية مقاربة العلاقة البيداغوجية على أنها علاقة تواصل ليس إلا، ابتغاء قياس مردودها الإخباري تناقض يدفع بنا إلى التساؤل عن السؤال الذي أفرزه(1) : أفكان للمردود الإخباري للتواصل البيداغوجي أن يكون على غاية من الانخفاض لو اختزلت العلاقة البيداغوجية إلى علاقة تواصل محض ؟ نقول بعبارة أخرى، ما هي الشروط الخصوصية التي تجعل علاقة التواصل البيداغوجي قادرة على أن تتأبد على أنها كذلك، حتى لو
الهوامش:
(1) يستعيد الجزء الأول من هذا الفصل بعض تحليلات نشرت في عمل آخر. انظر :
Pierre Bourdicu, Jean-Claude Passeron and Monique de Saint-Martin, Rapport pédagogique et communication, cahiers de centre de sociologie européenne. Sociologie de l'éducation; 2 (Paris; La Haye: Mouton; Cie, 1965).
لكنها لا تستند إلى نظرية بيئة عن السلطان البيداغوجي بصفته شرطاً اجتماعياً لإمكان علاقة تواصل بيداغوجية، عساها كانت ترتضي قراءات مغالطة : وإن نزمع هنا إلى التشديد إلى الرفض الأكثر قطعية لتفسير الفعل البيداغوجي تفسيراً نفسياً اجتماعياً صرفاً، وتزمع بالمناسبة نفسها الطعن في سذاجة الأحكام الإيتيقية القاضية بخبث طوية الأعوان أو بطيبتها، فلأن السعي إلى تفسير يوحي - وإن سهواً - بأنه بالإستطاعة العثور على مبدأ الممارسات في أيديولوجيا الأعوان، إنما يطيع أيضاً الضرورة الداخلية التي للنسق. نسق ينتج في اشتغاله وباشتغاله، تمثلات تنزع إلى تورية الشروط الاجتماعية لإمكان اشتغاله.
الصفحة 233
كان الخبر المبلغ ينزع إلى أن يبطل نفسه؟ إن التناقض المنطقي الذي يبعثه البحث إنما يدعو إلى التساؤل عما إذا ليست نية البحث ذاتها.
على معنى نية إخضاع التواصل البيداغوجي لرقابة القياس، هي نية يقصيها كامل منطق النسق الذي بخصوصه تعتمل بكلمات أخرى نقول إنما يدعو ذاك التناقض إلى التساؤل عن الوسائل المؤسسية وعن الشروط الاجتماعية التي تمكن العلاقة البيداغوجية من أن تتأبد في اللاوعي السعيد لأولئك الذين يلفون أنفسهم فيه منخرطين، حتى لو أخطأت تماماً مرماها، الأكثر خصوصية على ما يبدو، نقول باختصار، إنما يدعو إلى تعيين ما يعرف سوسيولوجياً علاقة تواصل بيداغوجية، قبالة علاقة تواصل عينت بطريقة شكلية.
السلطان البيداغوجي وسلطان اللغة
إن استعمال الأساتذة اللغة الإصطلاحية الجامعية استعمالاً جازماً، ليس أكثر مصادفة من احتمال الطلاب الضبابة السيميائية، فالشروط التي تجعل سوء الفهم اللساني ممكناً ومحتملاً إنما هي شروط مكتوبة في المؤسسة ذاتها : إضافة إلى أن الكلمات التي أساء العلم بها، أو النكرة، إنما تظهر دوماً في تشكليات منقطة قادرة على أن تمنح الإحساس بأن من عداد المعلوم، تحصل اللغة العلامية دلالتها كاملة من الوضعية التي فيها تنجز علاقة التواصل البيداغوجية،
من فضائها الاجتماعي ومن طقسها، ومن إيقاعاتها الزمنية. باختصار، من كامل نسق الإكراه المرئي أو غير المرئي الذي يشكل الفعل البيداغوجي فعل فرض لثقافة شرعية وتلقين لها. ومتى تعين
الهوامش:
(2) لا تظهر أبداً رابطة التبعية المتبادلة النسقية التي توحد التقنيات سمة نمط فرض مهيمن، والتي تنزع إلى خلع عن تلك التقنيات سمتها الاعتباطية في أعين الأعوان، أفضل مما تتجلى في وضعيات الأزمة حيث تكون تلك التقنيات جمعاء موضوع ريب معمم. لذلك يتضح من غير وساطة المماثلة بين وجهة الإصلاحات التي تصيب جل المؤسسات المدرسية والإصلاح (Aggiornamento) الكنسي (تبسيط الطقس التعبدي، حذف الممارسات الطقوسية، قراءة النصوص أمام الشعب استعمال اللسان العامي، وإجراءات أخرى كثيرة رصدت لتيسير مشاركة أكثر فاعلية للتبع).
الصفحة 234
المؤسسة كل عون موكول له التلقين وتصدقه، عوناً أهلاً بتبليغ ما يبلغه، وتبعاً أذن له فرض تلقيه ورقابة تلقينه بجزاءات مضمونة اجتماعياً، تمنح خطبة الأستاذي سلطاناً تأسيسياً ينزع إلى نبذ مسألة المردود الإخباري للتواصل.
وأن نختزل العلاقة البيداغوجية إلى علاقة تواصل صرف، إنما معناه أن نمتنع عن الإحاطة علماً بالسمات النوعية التي يدين السلطان المؤسسة البيداغوجية بها مجرد إرسال رسالة صلب علاقة تواصل بيداغوجية، يلزم عنه تعريف اجتماعي، ويفرضه أيضاً (تعريف بقدر ما يكون أكثر جهراً وتشفيراً، تكون تلك العلاقة أكثر مأسسة) لما هو أهل أن يُبلغ ولشفرة فيها يتعين على الرسالة أن تبلغ، ولأولئك الذين لهم حق تبليغها أو بالأحرى، لمن لهم حق فرض تلقيها، ولأولئك الذين هم أهل لتلقيها وبفعل ذاك، هم مكرهون على ذلك، وأخيراً، لتعريف لنمط فرض الرسالة وتلقينها، نمط يسبغ شرعيته، ومن ثمة يسبغ معناه على المعلومة المبلغة، من دون نقصان. ويلقى الأستاذ في خصيصات الفضاء، هيأته له المؤسسة التقليدية (المصطبة، والمنبر وموقعه عند بؤرة تلاقي الأنظار الشروط المادية والرمزية التي تتيح له إبقاء الطلاب في منأى عنه، له مجلين، مثلما يتيح له إكراههم على ذلك، حتى إن هم أبوا عليه ذلك. ولئن رفع الأستاذ مقاماً علياً، وغلق عليه الفضاء الذي قدسه خطيباً، معزولاً عن مستمعيه ببضعة صفوف شاغرة، بقدر ما يسمح الحشد به تعلم المسافة مادياً، مسافة
الصفحة 235
يصونها المريد» خاشعاً أمام «مانا» (*) (mana) الكلمة. وفي الأحوال كلها لا يشغل تلك الصفوف غير أكثر المتحمسين تهذيباً، أولئك البررة السدنة للقول العلامي، ثم كان في مكان منتهى ومحاطاً بـ «القيل والقال المبهم والمخوف، فإنه محكوم إلى القيام بمونولوغ مسرحي وإلى استعراض براعة، بحكم ضرورة موقعه، ضرورة إكراهها أشد من أكثر القوانين جبرية. ثم إن المنبر يمسك غلاباً بالنبرة والإلقاء والصبيب والفعل البيداغوجي لمن هو له شاغل على الرغم من أن له من كل ذلك: هكذا نرى الطالب الذي يأتي عرضاً أستاذياً مرجعياً ex cathedra)، يرث آداب الأستاذ الخطابية، ثم إن سياقاً كذاك السياق، إنما يسوس بدقة متناهية سلوك الأساتذة والطلاب بحيث تنقلب جهودهم لإرساء الحوار، في الحال أوهاماً أو هراء. وقد يستدعي الأستاذ مشاركة الطلاب أو اعتراضهم ولكن من دون أن يجازف يوماً فتنشأ واقعياً : فغالباً ما لا تكون تساؤلات المستمعين غير تساؤلات خطابية نذرت قبل كل شيء التعبير عن مشاركة التبع في القداس، أما الردود فليست في أغلب الأحيان غير تأمين (3).
إن من بين تقنيات رسم المسافات كلها التي تهب المؤسسة أعوانها، فإن اللغة العلامية أنجعها وأرفعها : إذ على نقيض المسافات
الهوامش:
(*) روح الشيء المعطى في إطار عملية تبادل الهبات كما عرفها مارسيل موس
(3) إن أملى الفضاء الجامعي ناموسه على الممارسات إملاء قوياً، فلأنه يعبر رمزياً عن ناموس المؤسسة الجامعية. هكذا بوسع شكل العلاقة البيداغوجية التقليدي أن يظهر ثانية في نماذج أخرى من تنظيم الفضاء، ذلك أن المؤسسة تحدث بشكل من الأشكال فضاء رمزياً أكثر عيانية من الفضاء العيني في جامعة أبقيت مماثلة لذاتها على الجهات الأخرى كافة، لا يحول تنظيم ندوة في شكل حلقة نقاش الانتظارات والاهتمامات من دون التسائل نحو الذي أبقى علامات مكانة الأستاذية كلها، بدءاً بامتياز التكلم الذي تلزم عنه رقابة كلام الآخرين. من ترداد قول آمين في الدعاء (المترجم)].
الصفحة 236
التي رسمت في فضاء القاعة أو التي ضمنها التشريع، تبدو المسافة التي تبتدعها الكلمات لا تدين للمؤسسة في شيء. وبمستطاع الكلمة العلامية أن تظهر، إن كانت خاصية مكانية مدينة للمؤسسة بأغلب تأثيراتها، ذلك أنه يستحيل فصلها يوماً ما عن رابطة السلطان المدرسي حيث تظهر بمثابة ميزة مخصة بالشخص، بينما لا تفعل غير الاستحواذ على امتياز وظيفي لفائدة الموظف. وإن استطاع الأستاذ التقليدي هجر القائم والقفطان، وآثر أيضاً النزول من على مصطبته ليختلط بالناس، فإنه لا يستطيع التنازل عن محميته الأخيرة إن هي الاستعمال الأستاذي للغة أستاذية. وإن من شيء إلا كان للأستاذ باع فيه، أكان صراع الطبقات أم ارتكاب المحرم، فلأن وضعيته وشخصه وصفته كل يلزم عنه تحييد أقواله، ولأنه يمكن أيضاً، أن لن تصبح اللغة بعد على الأقل أداة تواصل، إنما أداة تعزيم، وظيفتها الأساسية أن تشهد السلطان البيداغوجي للتواصل والمضمون المرسل، وفرضهما.
هكذا استعمال للغة إنما يفترض أن يثبط قياس المردود الإخباري للتواصل محصلة ذلك أن يجري الأمر كله كما لو كانت للعروض والمقالات الأدوات الوحيدة للتواصل التي توفرها المؤسسة مبادلة للطلاب وللأساتذة وظيفة مستترة أن تحول دون قياس الفهم قياساً دقيقاً، ومن ثمة تحول دون الترداد الذي يستتر على سوء الفهم.
على هذا النحو يشكل الدرس الخطبة (ex cathedra) والمقالة زوجاً وظيفياً، مثلما يشكل العرض الأستاذي المنفرد والمأثرة الفردية حين الامتحان، أو الخطبة التي تدعي المعرفة كلها omni re) scibili التي تشهد بالحذق وبالعموميات المهذارة للمقالة، زوجاً وظيفياً أيضاً. وإذ تمنح البلاغة التحريرية الأستاذ انطباعاً ملتبساً أن
الصفحة 237
لغته لم يسأ فهمها كثيراً، فلأن المقالة تجيز خطاباً وعلاقة بالخطاب أحسن صنعهما حتى تحول دون الخيارات الحاسمة، وحتى تحت المصحح، من ثمة، إلى حكم حذر، حذر موضوعه. ولا يكل الأساتذة أبداً من تكرار كم يشق عليهم إسناد أعداد لـ «ركام» الفروض الرديئة» التي لا تهدي إلى الحكم الحاسم سبيلاً، والتي هي موضوع أضنى المداولات لاقتلاع في آخر الأمر وبعد استنفاد الوسائل كلها، حكماً بالرأفة يشوبه الاحتقار من قبيل: «النعطه له المعدل»، أو «لندعه يمر». وتنعى تقارير لجان التبريز من غير كلل الأثر الذي ينتجه، ضرورة مبدأ الاختبارات عينه ومعايير الإصلاحالتقليدية، نعيها نكبة طبيعية : قليلة هي الفروض الرديئة جداً، ولكن أقلها الجيدة. أما البقية وتساوي 76 في المئة، ففي لجج بين العلامة 6 والعلامة (11)(4). ولا ينضب لسان تلك التقارير عن تسمية، باستهجانها، تلك الرداءة» الخلقية لحشد المترشحين، وذاك الاكفهرار الفروض باهتة رتيبة أو تافهة منها تطفو لحسن الحظ الفروض «المتميزة على ندرتها أو المتألقة»، تلك التي تسوغ وجود المناظرة» (5). ويتيح تحليل البلاغة التحريرية، تعقل الأشكال
الهوامش:
(4)Rapport d'agrégation masculine de grammaire,» (1957), р. 9.
(5) ربما نرى أن الأساتذة يلاحظون بضرب من الانبهار كيف يأتي المرشحون يصطفون بكل تلقائية» بحسب الفئات التي تنتجها فئات الإدراك الأستاذي : إذا كانت العلامة المسندة دون 5 من 20، لا يساوي الفرض شيئاً»، وغالباً ما يكون مجلبة للاستهزاء والسخط، وإذا كان العدد من 6 إلى 8 يكون الفرض رديئاً» أو «محزناً». وإذا كانت العلامة بين 9 و 11، أو مثلما يقال حوالي المعدل»، فهو البرطمة المستسلمة التي ترضى بقدر ما يستهجن. وإذا كانت العلامة من 12 إلى 15 يغدق الأساتذة عليه شهادات الرضاء أو التي تليها. أما إذا كانت العلامة فوق 15، يجزيه الأساتذة محتفلين سعفة المتألق». بمثل نموذج إسناد الأعداد هذا، يعبر المصحح عن تلفيقي وبات معاً، بحيث إنه لما يظن أنه يسند نقاطاً أو أنصاف نقاط أو حتى أرباع نقاط، يرتضي نهائياً بقد الجمهور حشوداً ضخمة، تظل التراتبيات داخلها متأرجحة. وطبقاً للترسيمة النخبوية الأبدية التي نذرت إلى تثبيت نفسها لكونها تنتج ما يثبتها، لا يطفو من مجموع القسط أبداً خلا بضعة طلاب متألقين هم السباحون القلائل في دوامة كبيرة (rari nantes in gurgite vasto) مثلما هو ما بوسع تقارير البتريز قوله : لقد كان الاختبار مرضياً إن كان كشافاً إن للموهبة أو لغيابها
Agrégation féminine des lettres classiques,» (1959), p. 23.
ومع ذلك، ليس نمط التفكير ذلك بحكر على تعليم الآداب التقليدي : ما عدا بعض المترشحين الاستثنائيين، وهبوا شخصية مثيرة وأحياناً متألقة، يخلف الاختبار انطباعاً بالاكفهرار. انظر :
E.N.A., Epreuves et statistiques des concours (Paris: Imprimeric nationale, 1968), p. 9
الصفحة 238
اللامعيارية لخطاب على هيئة صدى، ولأنه يجري على جهة التبسيط واللاسياقية وإعادة التأويل هو أقرب إلى المثاقفة منه من منطق التعلم الثقافي، مثل ما يتعقله الألسنيون عند تحليل الألسنة التي تطبعت بلسان الكرييول». ويفترض الخطاب المنشأ إيحاء وإيجازاً، الذي يسم المقالة النموذجية، التواطؤ مع سوء الفهم وبه؛ سوء فهم يحدد العلاقة البيداغوجية التقليدية : ذلك أنه يفترض بالأستاذ منطقياً، فهم ما يرده الطلاب إليه إن كان يرسل بلسان غير مفهوم أو هو فهمه قليل. بيد أنه كما لاحظ ماكس فيبر، مثلما لا تلقي شرعية الكاهن المؤسسية مسؤولية الإخفاق على الرب ولا على الكاهن إنما تلقيها على تصرف المتشيعين دون سواهم، يستطيع الأستاذ الذي يرتاب من أنه لم يفهم جيداً، ومن دون أن يعترف بذلك، ومن دون أن يعتبر منه تمام العبر، أن يُحمل الطلاب المسؤولية، إذ لا يفهم لهم قولاً، ما دام نفوذه المؤسسي غير مطعون فيه.
إن كامل منطق مؤسسة مدرسية تأسست على عمل بيداغوجي من نمط تقليدي، ويضمن على الأقل (عصمة» «الأستاذ»، وهو الذي يعبر عن نفسه في أيديولوجيا الأستاذية التي تقضى بأن الطلاب ليسوا من التعلم في شيء». إنه ذاك الخليط من اللزوم المتعالي والرأفة المتقززة هو الذي يجنح بالأستاذ إلى أن يرى في إخفاقات التواصل، على فجائيتها، ما يشكل علاقة يلزم عنها بطبيعتها تلقى
الصفحة 239
أسوأ المتلقين، أفضل الرسائل، تلقياً رديئاً (6). وإذا ما يطال الطالب تحقيق واجب وجود هو ليس سوى وجوده - من أجل - الأستاذ، تعزى العيوب برمتها دوماً إليه، أكانت خطأ أم لؤماً : بأفواه المترشحين، كذلك تقول تقارير التبريز، تختزل ألمع النظريات فظاعات منطقية، وكأنما الطلاب العاجزون عن فهم ما هم يعلمون، ليس لهم من دور آخر غير إبانة باطل المساعي التي يغدق بها المدرس ولا يزال على الرغم من كل شيء، بضمير مهني وبصيرة من حديد، تضاعف زيادة إلى ذلك جدارته). وعلى غرار الشر في عدالة الآلهة، فإن وجود طلاب رديئين، وهو أمر يذكر دورياً، يحول دون الإحساس بكون المرء في أفضل العوالم المدرسية الممكنة، فيمنح بذلك تبريراً لأخلاق بيداغوجية يرغب فيها أن تكون أفضل الأخلاق الممكنة، لكونها توفّر العذر الوحيد غير المردود للإخفاق البيداغوجي، أن تظهره كأنه لا مرد له.
الهوامش:
(6) إن المدرسين قديماً كانوا تلامذة نجباء، وكانوا يرغبون في أن يكون لهم تلامذة غير أساتذة المستقبل، وهم مهيأون سلفاً بواسطة كامل تكوينهم وكامل تجربتهم المدرسية الدخول لعبة المؤسسة. ولما يخاطب الأستاذ الطالب مثلما يتعين عليه أن يكون، يثبط في كل مرة في الطالب الحقيقي الرغبة في المطالبة بحق ألا يكون غير ما هو عليه. حينئذ ألا يحترم الأستاذ بما عهده لدى الطالب الخيالي من قيمة، خلا بضعة تلامذة موهوبين هم موضوع رعايته الكاملة، والذين يجيزون له صدق اعتقاده؟
(7) الكل سنة درجتها، فيها تلفي الصورة المشوهة عن نصائح أو عن دروس قدمها أستاذ من الأساتذة نفسها، كأنها كاريكاتور أخرق. انظر:
Agregation masculine de» lettres,» (1950), p. 10.
نشير، دون ما تبصر للفروض باستسلام أكثر مما هو بسخط. .، وحتى يحيط الخطاب الأستاذي علماً بمعاملة الطالب المخربة لكل ما يقع بين يديه، يتأرجح بين استعارات البربرية وبين استعارات الكارثة الطبيعية: هكذا هو الطالب يخرب» ينهب»، «ینگل»، «يفسد»، يدمر» اللسان أو الأفكار. ثم كم مرة تتم إساءة معاملة هذا النص الرشيق نفسه مهاناً بشناعة ومعنفاً ؟». انظر :
«Agrégation masculine de lettres modernes,» (1965), p. 22.
الصفحة 240
هكذا يمكن لوهم الأستاذ أن يكون قد فهم، ووهم الطالب أن يكون قد فهم، أن يعضد أحدهما الآخر، فيجعل أحدهما للآخر
حجة، لكون أسهما صلب المؤسسة. لذلك تجعل كل مشروطيات التعلم السابقة والشروط الاجتماعية كلها لرابطة التواصل البيداغوجي إلى أن يكون الطلاب منذورين موضوعياً لدخول لعبة التواصل الخيالي من أجل ذلك، كتب عليهم الاعتقاد في رؤية العالم الجامعي الذي يرميهم باللا أهلية. كذلك الأمر في دورة كولا» (Kula) حيث لا يدور يوماً حزام الساعد إلا في اتجاه، والقلائد في اتجاه آخر، يذهب الكلم الطيب أو الكلمات الطيبة من الأستاذ إلى الطلاب، وتذهب اللغة الخبيثة أو الدعابات الثقيلة من الطلاب إلى الأساتذة. وليس الطلاب محمولين إلى مقاطعة العرض الفردي الأستاذي، إذ لا يفهموه بقدر ما هم محمولون إلى الاستسلام بحكم مكانتهم لفهم تقريبي هو نتاج للتكيف مع النسق المدرسي وشرط له : ولما كان يفترض بهم أن يفهموا، وتوجب عليهم أن يكونوا قد فهموا لن تحدثهم أنفسهم بأن لهم حق الفهم. لذلك توجب عليهم أن يكتفوا بخفض مستوى لزومياتهم من أمر الفهم. وفي واقع الأمر، مثلما يخدم الراهب باعتباره حائزاً لسلطة القرارات، المؤسسة إذ يتوفق إلى حفظ تمثلات عِصْمَته أن يُفرغ على التبع مسؤولية خسران ممارسات الخلاص، كذلك يقي الأستاذ المؤسسة التي تقيه، إذ ينزع إلى الإفلات من معاينة فشل ما وإلى الحيلولة دونه والذي هو فشل المؤسسة مما هو منه والذي لا يستطيع له تعزيماً بالبلاغة المنقطة التي للتوبيخ الجماعي إلا أن يغذي قلق الخلاص.
في نهاية الأمر، لا يدين الطلاب والأساتذة (تباعاً وتبادلياً) الإفراط في تقدير كمية الأخبار التي تجول واقعياً صلب التواصل البيداغوجي، إلا لأنهم مدينون بذلك إلى المؤسسة : فلما تعترف
الصفحة 241
المدرسة بالطلاب والأساتذة باعتبارهم رسلاً شرعيين للرسالة البيداغوجية ومرسلاً إليهم شرعيين، إنما تفرض عليهم الالتزامات إزاء المؤسسة التي تمثل المقابل الدقيق لأهليتهم المؤسسية، يشهد حضورهم في المؤسسة عليها (8). ولما يختار الأساتذة والطلاب (من دون أن يتعلق الأمر على الأغلب بحساب واع التصرف الأكثر اقتصاداً أو الأكثر مردوداً جامعياً (الأكثر ربحية كما تقول اللهجة الاصطلاحية المدرسية)، فإنهم لا يأتون غير طاعة نواميس الفضاء المدرسي باعتباره نسق جزاءات: علاوة على أن الأستاذ لا يستطيع تبني لغة جديدة وعلاقة باللغة جديدة سبيلاً ما لم يأت فصلاً بين المضمون المبلغ وطريقة تبليغها، وهو فصل لا يخطر على باله أن كانا مترابطين لا ينفصلان صلب الطريقة التي بها هو عينه تلقاهما وتمثلهما، فإنه لا يستطيع لفهم الطلاب لغته قياساً دقيقاً ما لم يجعل الحيلة التي تجيز له التدريس بأقل التكاليف تتقوّض، على معنى، نحو ما علم هو ذلك. ولو أراد أن يستخلص من معاينته، العبر البيداغوجية كلها عرض نفسه إلى أن يبدو حتى في أعين طلابه معلماً تائهاً في التعليم العالي (9). أما ما كان من أمر الطالب فعليه،
الهوامش:
(8) إن لا تعبر أبدأ العلاقات الرمزية بين الرسل والمتلقين في آخر المطاف، إلا عن بنية العلاقات الموضوعية التي تحدد الوضعية البيداغوجية، فإنه يبقى أنه يمكنهم إضافة قوتهم الخاصة بها إلى تلك الروابط مثلما يتضح في الحالات الحرجة من النسق حيث فيه تسهم داخل حدود معينة، في تأبيد، توهماً، مظاهر تواصل، لم تعد شروطه البنيوية مسماة بعد : هكذا إن انتساب الأساتذة والطلاب إلى الرؤية النفسية عينها، وبالتالي الإيتيقية للرابطة البيداغوجية، وبصورة أدق إن التواطؤ في سوء الفهم وفي توهم غياب سوء الفهم، إنما يشهدان على أن التمثلات التي يصطنعها الأعوان لأنفسهم عن روابطهم الموضوعية تلك المعاشة بمثابة روابط ما بينيه، تمتلك استقلالاً نسبياً إزاء تلك الروابط الموضوعية ذلك أنها تطال تورية، إلى حد معين، تحولات بنية العلاقات الموضوعية التي كانت تردها ممكنة. (9) إلا إذا جلب له ذاك المسعى المستهجن والفظ، حظوة لا امتثالية كاذبة، بها تكون المؤسسة عليه ظهيرة، زيادة.
الصفحة 242
وحسبه ذلك، أن يركن إلى استعمال لغة يهيئه لها سلفاً كامل تكوينه، عند تحرير المقالة مثلاً، حتى يتمتع بالحماية كلها وبالضمانات كلها التي يوفرها تحييد الأستاذ باللجوء إلى التعميمات الخاطئة وإلى التخمينات الحذرة من قبيل بالكاد خاطئ، والتي تكلفه مثلما يقال عدداً بين 9 و 11، وباختصار حتى يقي نفسه تعرية المستوى الدقيق لفهمه ولمعارفه، وفق شفرة بينة قدر ما أمكن الأمر الذي ينذره إلى دفع ثمن البيان (10). وقد يستطيع الطلاب دوماً إعادة كتابة ظاهر خطاب متبع على الأقل لأجل استعمال الأستاذ، فيه لا ينشب بالمرة أي قول مميز لا معنى له، سيما وأن جنس التحرير الذي يضعه النسق على ذمتهم يجيز ممارسة فن التركيب Ars) (combinatorial من الطراز الثاني والمستعمل سابقاً. هو فن إذا مورس على قسط متناه من الذرات السيميائية لن يقدر على إنتاج إلا سلاسل من كلمات مترابطة آلياً. ولكون الطلاب مرغمين على الذود عن أنفسهم بكلمات في معركة ليست كل الكلمات فيها مباحة، فإنه لا وليجة لهم في الغالب، إلا بلاغة القنوط إن كانت نكوصاً إلى السحر الوقائي أو الاستعطافي للغة فيها لم تعد الكلمات الكبرى التي
الهوامش:
(10) يصادف أن تفصح القواعد التي تحدد العلاقة التقليدية باللغة، عن نفسها مثلاً في الصفوف التحضيرية بالمدارس الكبرى في حكم الحذر المدرسي. هي حكم تشهد على أن البلاغة الرفيعة» وبلاغة القنوط تفترضان في نهاية الأمر العلاقة باللغة نفسها. إننا نعلم على سبيل المثال - أن سذاجة السذاجات تقضي بأن لا نكتب شيئاً بتعلة أننا لا نعرف شيئاً، وأنه ما من حاجة إلى معرفة شيء كبير للحصول على المعدل في مادة التاريخ، اللهم شرط أن نعلم استخدام التعاقب من دون إظهار الثغر الكبرى. ويتضمن طبعاً هذا الحذر الماكر مخاطره أيضاً، مثلما تشهد على ذلك مغامرة ذاك الأصدف الذي لما قرأ تعاقب انهيار سوق الأوراق المالية في فيينا كتب عن المصفقي المنهار، وإذ يسخر الأساتذة من هذه التفاهات ينسون أن محبطي النسق أولئك هم حمالون الحقيقته. وإن ننظر إلى أن النخبة الجامعية قد تكونت في تلك المدرسة، ونبصر التبعات الإيتيقية كلها لتلك التمارين، لنفهم جانباً، بتمامه وكماله من الإنسان الأكاديمي ومن إنتاجه الفكري.
الصفحة 243
للخطاب العلامي سوى كلمات تعارف مبتذلة أو أقوال تقديسية لهرير طقوسي. إن النزع التنسيبي للفقير، وضرب الأمثال الخيالية، والمقولات التي هي لا مجردة ولا واقعية، لا متحقق منها ولا غير متحقق منه، ملتبسة بين ذلك، كلها تصرفات تجنب كثيرة تتيحتقليص المخاطر لما تبطل إمكان الحقيقة أو الخطأ من فرط اللادقة. ويسوق التقليد القانط لليسر العلامي، إذ تنتهي شروط اكتسابها من أن تكون مسماة، إلى تلك الأشكال الكاريكاتورية للحذق، حيث كما في الحركات الأصولية (Nativistic Mouvements)، أخلت التغيرات المنتظمة المكان للتحريفات الآلية أو الفوضوية.
اللغة والعلاقة باللغة
لكن هل لنا أن نفهم من ذلك أن نسق تعليم كذاك النسق ما كان ليستطيع البقاء لو لم يزل يخدم - بما ينشئه من شكل تواصل تقليدي - الطبقات أو الزمر التي يأخذ عنها سلطانه، حتى لو بدا يخلف تماماً اللزوميات المرتبطة بإنجاز وظيفته التلقينية المخصة به؟ ثم هل كانت الحرية التي تخلى عنها النسق للأعوان المكلفين بالتلقين، لتكون على هذا الكبر لو لم تكن الوظائف الطبقية لهذه الحرية مقابلاً، وظائف لا تتوانى المدرسة عن الإيفاء بها حتى لو اتجه مردودها البيداغوجي إلى الانبطال؟ كثيراً ما لوحظ من رينان (Renan) إلى دوركايم (Durkheim) ما يدين به تعليم متعلق بشدة بتبليغ أسلوب ما، أي بتبليغ نموذج لعلاقة باللسان والثقافة، إلى التقليد الإنسي الموروث عن المعاهد اليسوعية، أن كان هذا إعادة تأويل مدرسي ومسيحي للطلبات العلية (Mondaines) لإرستقراطية تحث على جعل الترفع المتميز عن الوظيفة المهنية الشكل المكتمل لإنجاز كل مهنة متميزة : لكننا لن نفهم القيمة العالية التي يهبها نسق التعليم الفرنسي المهارة الأدبية، وبصورة أدق مهارة تحويل إلى
الصفحة 244
خطاب أدبي كل تجربة، بدءاً بالتجربة الأدبية. باختصار، نقول إنه لن نفهم ما يحدد الطريقة الفرنسية في معايشة الحياة الأدبية - وحتى العلمية أحياناً - على أنها حياة باريسية لولا أننا نبصر أن ذاك التقليد الفكري يؤدي أيضاً إلى يومنا هذا وظيفة اجتماعية في اشتغال نسق التعليم وفي توازن علاقاته بالحقل الفكري وبمختلف الطبقات الاجتماعية.
ومن دون أن يكون اللسان الجامعي، إن كان خليطاً قديماً من حالات خالية من تاريخ اللسان لساناً أماً لأي كان حتى لأبناء الطبقات المحظوظة، فإنه بعيد عن الألسنة التي بها تتكلم فعلياً مختلف الطبقات الاجتماعية بعداً شديد التفاوت بشدة. لعل بعض الاعتباط كائن من دون مثلما لوحظ ذلك في تمييز عدد محدد من اللكنات الفرنسية، ذلك أن مختلف مراتب المجتمع تتداخل هنا. بيد أنه ثمة عند طرفي السلم لكنتان في التكلم محددتان جيداً : أولاهما اللكنة البرجوازية، وثانيهما اللكنة العامية (11). ولما كان اللسان البرجوازي يتضمن نصيباً لا يستهان به من اقتباسات معجمية، وحتى نحوية من اللاتينية جلبتها واستعملتها وفرضتها الزمرة الثقفة دون سواها من الزمر، وهي اقتباسات أفلتت بفعل ذاك، من أفعال إعادة البنينة وإعادة التأويل المتمثلة لتلك الاقتباسات، ولما كان تدخل السلطات الشرعية تدخلاً معايراً ومثبتاً، أكانت سلطات العلماء أم سلطات العليين، يراقب تطور هذا اللسان ويكبحه باستمرار، فإنه ما من أحد يستعمله استعمالاً مناسباً، اللهم أولئك الذين استطاعوا بفضل المدرسة قلب الحذق العملي حذق اكتسب استئناساً في
الهوامش:
(11) Jacques Damourette et Edouard Pichon, Des mois à la pensée; essai de grammaire de la langue française (Paris: Collection des linguistes contemporains, [1930-1931]). t. I, p. 50.
الصفحة 245
الزمرة العائلية، مهارة من الدرجة الثانية في استعمال اللسان استعمالاً شبه عليم. وبما أن المردود الإخباري للتواصل البيداغوجي هو دوماً رهين كفاءة المتلقين ( حددت على أنها حذق لشفرة اللغة الجامعية ؛ في بعض وجوهه مكتمل وفي بعض وجوهه عليم)، يمثل التوزيع المتفاوت بين مختلف الطبقات الاجتماعية لـ «رأس المال اللساني» المغل مدرسياً، أحد أفضل الوسائط تخفياً، والتي بها تنشأ الرابطة التي يمتلك البحث ناصيتها بين الأصل الاجتماعي والنجاح المدرسي، حتى إن لم يكن لذاك العامل الثقل عينه بحسب كوكبة العوامل التي إليها يندرج تبعاً وفق مختلف نماذج التعليم و مختلف مراحل المسيرة. وتتبع القيمة الاجتماعية لمختلف الشفرات الألسنية المتوافرة في مجتمع مسمّى وفي ردهة من الزمن مسماة (أي مردودها الاقتصادي والرمزي دوماً المسافة التي تفصل تلك الشفرات عن المعيار اللغوي الذي تدرك المدرسة فرضه في تعريف معايير الإصلاح اللغوي المعترف بها اجتماعياً بصورة أدق، إن قيمة رأس المال اللغوي الذي يتهيأ عليه كل فرد في السوق المدرسية هي رهن بالمسافة بين نمط الحذق الرمزي الذي تلزمه المدرسة، ونمط النجاح العملي في اللغة الذي يدين الفرد به إلى تربيته الطبقية. )12( الأولى
لكن لن يتأتى للمرء اكتساب لغة من غير أن يكتسب بالمناسبة ذاتها علاقة باللغة : في الشأن الثقافي تتأبد طريقة الاكتساب في ما
الهوامش:
(12) يتضح لنا، على سبيل المثال، أن التعقد النحوي للسان لا يؤخذ في الحسبان فقط خلال التقييم العلني الخصال الشكل التي يفترض بتمارين اللغة أو التحرير أو المقالة قياسها، وإنما أيضاً في كل تقييم العمليات فكرية الاستنباط الرياضي، وأيضاً فك رموز أثر فني ما ) تفترض استعمال ترسيمات معقدة تهيأ لها بشكل غير متساو أفراد وهبوا حذقاً عملياً في اللسان» يهيئهم ما قبلياً، وبشكل غير متساو للحذق الرمزي في صورته الأتم.
الصفحة 246
اكتسب على شكل طريقة استعمال معينة لذاك المكتسب. ويعبر نمط الاكتساب ذاته عن العلاقات الموضوعية بين سمات المكتسب الاجتماعية، والقيمة الاجتماعية للمكتسب. ثم، ألا نلقى في العلاقة باللغة، مبدأ التباينات الأبرز بين اللسان البرجوازي واللسان الشعبي :
ذلك أنه يتعين أن نرى بادي الرأي في ما وصف كثيراً على أنه نزع اللغة البرجوازية إلى التجريد و الشكلية، وإلى «التعقلية» وإلى الاعتدال التلميحي، تعبيراً عن استعداد مشكلاً اجتماعياً، حيال اللسان، أي حيال المحادثين وحيال موضوع المحادثة ذاته : إن المسافة المميزة، واليسر المحفوظ، والفطري المتكلف، التي هي لكل شفرة من شفرات الطرق العلية مبدأ، تتعارض مع التعبير المشق(*)، أو مع التعبيرية (**) التي للسان الشعبي الذي يظهر في النزع الذي يقضي بالمرور مباشرة من حالة خاصة إلى حالة خاصة أخرى، أو من الإبانة إلى الرسم البياني، أو تظهر في تحاشي التشدق الخطب العصماء أو تورم المشاعر الجياشة، عبر التهكم والمرح والبذاءة، وطرائق قول ووجود كثيرة هي سمات طبقات، أبداً منعت دونها شروط الفصل الاجتماعية كلها بين المعنى الحرفي الموضوعي والمعنى الحاف الذاتي بين الأشياء المرئية، وكل ما تلك الأشياء مدينة به إلى وجهة النظر، منظوراً منها إليها (13).
الهوامش:
(*) Expressivite سعي المرء إلى أن يكون معبراً وما هو ببالغه.
(**) Expressionnisme مذهب تعبيري يقول بتصوير المشاعر التي تثيرها الأشياء والأحداث في نفس الفنان. ولعل استحواذ الإحساس بدلاً من الفكر على التعبير هو ما عناه بوردیو
(13) بوسعنا كي تدقق توصيف التناقض بين اللسان البرجوازي واللسان الشعبي، أن نستعين بتحاليل قيمة كرسها بازیل برنشتاین (Basil Bernstein) و مدرسته، للاختلافات بين اللغة الشكلية (Formal Language للطبقات الوسطى (Middle Classes) واللغة الشعبية (Public Language) للطبقة الشغيلة. إلا أن برنشتاين لما يغفل عن استخراج افتراضات التقليد النظري المضمرة الذي صلبه تتنزل تحاليله سواء تعلق الأمر بالتقليد الأنثروبولوجي السابير (Sapir) وورف (Whorf) أو تعلق بالتقليد الفلسفي بدءاً من كانط (Kant) وانتهاء إلى كاسرير (Cassirer) مروراً بهمبولدت (Humboldt) ينزع إلى اختزال اختلافات يكمن مبدأها الموحد والمولد في أنماط مختلفة للعلاقة باللغة، أنماط مدرجة بدورها داخل أنساق مختلفة من المواقف حيال العالم والآخرين إلى سمات لغوية ضمنية مثل درجة التعقد النحوي، وإن يمتنع نمط الفعل (Modus operandis) دوماً عن أن تتملك ناصيته في غاية من الموضوعية إلا في الأثر المنتج (L'opus operatum) يتعين أن نتجنب اختزال الها بتوس المنتج (أي العلاقة باللغة في تلك الحال في إنتاجه القصد هنا بنية لغة معينة لئلا يقضى علينا بالعثور في اللسان على المبدأ المحدد للمواقف، وباختصار لئلا نتخذ المنتوج اللغوي منتجاً للمواقف التي تنتجه أن ينزع القول بـ واقعية البنية المرتبطة بسوسيولوجيا اللغة كتلك السوسيولوجيا، إنما ينزع إلى إقصاء مسألة الشروط الاجتماعية لإنتاج نسق المواقف من حقل البحث، وهو نسق يتحكم في جملة ما يتحكم به ببنينة اللسان. وإن أردنا أن نضرب مثلاً واحداً، نقول إن السمات المميزة للسان الطبقات المتوسطة من قبيل الاشتقاقات الخطاءة، وانتشار علامات الرقابة النحوية، هي مؤشرات من بين مؤشرات أخرى عن علاقة باللسان تتسم بالإحالة القلقة إلى القيمة الشرعية للإصلاح الأكاديمي : وإن الانشغال بالطريقة الحسنة أو بطرائق الأكل أو بطرق الكلام التي تخونها لغة البرجوازيين الصغار، يعبر عن نفسه بأكثر جلاء في البحث المتلهف عن وسائل اكتساب تقنيات تنشئة طبقات التطلع أو اكتساب الكتب المنهجية عن الطرق الحسنة أو أدلة التصرف الحسن. يتضح لنا أن تلك العلاقة باللغة جزء لا يتجزأ من نسق من المواقف حيال الثقافة، يستند إلى محض مشيئة احترام قاعدة ثقافية معترف بها أكثر مما هي معروفة، وإلى صرامة الاعتناء بالقاعدة. إن ذلك الميل الثقافي هو الذي يعبر في آخر التحليل عن السمات الموضوعية لشرط الشرائح المتوسطة والمنزلتها في بنية العلاقات الطبقية.
الصفحة 247
إنما في المسافة من الحذق العملي في اللغة الذي نقلته التربية الأولى، إلى التحكم الرمزي الذي ألزمته المدرسة، وفي الشروط الاجتماعية لاكتساب الحذق الشفهي اكتساباً مكتملاً تقريباً، يكمن إذن مبدأ تغيرات العلاقة باللغة المدرسية، علاقة أكانت خاشعة أم متحررة، متوترة أم مريحة، مفترضة أم مألوفة، مفخمة أم حسنة الاعتدال، تفاخرية أم متزنة هي إحدى أيقن علامات منزلة المتحدث الاجتماعية تميزاً. وما الاستعداد للتعبير شفهياً عن المشاعر والأحكام، وهو استعداد يربو إذ يرتفع المرء في التراتب الاجتماعي،
الصفحة 248
إلا بعداً من أبعاد الاستعداد استعداد هو أكثر فأكثر لازماً على قدر ما يرتفع المرء في التراتبية المدرسية وفي تراتبية المهن، يقضي بأن يظهر في الممارسة عينها مهارة أن يتخذ عن ممارسته المخصة به والقاعدة التي تحكم تلك الممارسة مسافاته : وعلى الرغم من ظواهر الأمر، فإنه ما من شيء يتناقض بعد مع الاختزال أو مع الاستعارة الأدبية التي تفترض تقريباً على وجه الدوام سياق تقليد ثقف، أكثر من الاستعارات العملية ومن الاختزالات بالإشارة ellipses par) (Deixis حتى نقول ما يقوله باليي (Bally) استعارات تتيح للكلام الشعبي استبدال كل الإخبارية الشفهية أو جزء منها بالإحالة المضمرة أو الحركية إلى الوضعية أو إلى الحيثيات) (على المعنى الذي قصده بارييتو (Prieto). وبدلاً من أن تكون أساليب البلاغة أو العوارض التعبيرية، أو فويوقات النطق أو لحن النبرة أو السجلات المعجمية أو صيغ تركيب تعبّر فقط عن الاختيارات الواعية لمتحدث مهموم بأصالة تعبيره - مثلما يقترح ذلك تأويل سطحي للتناقض بين اللغة والكلام اعتبارهما تنفيذاً - فإن سمات الأسلوب تلك كلها، تختال دائماً في اللغة عينها علاقة باللغة بين كافة أفراد فئة متحدثين مشتركة إن كانت نتاج الشروط الاجتماعية لاكتساب اللغة واستعمالها. هكذا ليس اتقاء التعبير الشائع والبحث عن العرض النادر، إن كانت سمات العلاقة باللغة التي ينشئها محترفو الكتابة والاختلاف بالكتابة باللغة، خلا الشكل الحدي للاستعداد الأدبي إزاء اللغة المُخصّة بطبقات محظوظة ميالة إلى جعل اللغة المستعملة
وطريقة استعمالها أداة نبذ للعامي حيث يتأكد تميزهم.
ومع أن العلاقة باللغة تنزع على غرار كل ما يؤوب إلى منوال السلوك، إلى الإفلات من القياس التجريبي مثلما يُمارس بحث إمبيريقي غالباً ما يكون رتيباً حين صياغة استبياناته، رتابة تأويل
الصفحة 249
نتائجه، فإن العثور على مؤشرات على منوال السلوك اللساني في السمات الموضوعية للكفاءة اللسانية التي قيست برائز لغوي ما ليس أمراً مستحيلاً (14): هكذا على سبيل المثال بوسعنا أن نقرأ مؤشراً العلاقات مختلفة باللغة، في ما كان من أمر طلاب السوربون - أو الطلاب سليلي الطبقات المحظوظة، وبالأحرى طلاب السوربون سليلو الطبقات المحظوظة - الذين هم تناسبياً أكثر عدداً من الطلاب الآخرين أن يجازفوا بتعريف كلمة لا وجود لها أدرجت عمداً في رائز في اللغة (جيروفاجي) (Gerophagie). وإذا أضفنا إلى ذلك أن الطلاب أولي الماضي المدرسي الأكثر ألقاً» الذين تابعوا دراسات كلاسيكية وحصلوا على معدلات مرتفعة في امتحان الباكالوريا، إلى غير ذلك عادة ما يترددون أقل مما يتردّد الطلاب الآخرون، في تعريف الكلمة - الشرك، وأن الفئة المحظوظة على جهة كل علاقة من العلاقات المعتمدة آنفاً، هي التي تنتج أكثر التعريفات لتلك الكلمة ذات الوقع الإثنولوجي، تعريفات لا يمسك إطنابها شيء، أمكننا استنتاج أنه قد يبلغ بيسر استعمال اللغة حد الوقاحة، إذ يُشرك
الهوامش:
(14) أن نتجاهل التمييز بين السلوك وشاكلة السلوك معناه أن نذهب إلى تعريف ممارسات أو آراء لا يفصل بينها غير شاكلتها لا أكثر ولا أقل. مثل ذلك من أمر السياسة مثل مختلف طرق أن يكون المرء يسارياً أو يدعي ذلك، وهي طرق مرتبطة بالأصل الاجتماعي تفرق تفرقة كاملة بين اليساريين واليمينيين المعارضين؛ أو أيضاً مثل ذلك من أمر الفن مثل مختلف طرق الإعجاب بالأثر نفسه أو استحسانه هي طرق تنكشف في كوكبة الآثار المستحسنة جماعياً أو في هيئة الخطاب الذي به يُعلن عن الاستحسان: إن كل ما يدرج تحت اسم ثقافة مستخدم في التفاصيل التي تفصل التلميح المثقف عن الشرح المدرسي، أو بأكثر دفة، التي تفصل مختلف دلالات الرضا بالتعجب وبالإيمائية ولأولئك الذين لا يرغبون في أن يروا هنالك غير حصحصة من دون تبعات، يتعين التذكير بأن المنوال الذي التزام ما يكشف بثبات أكثر مما يكشف ذلك المضمون المعلن للآراء، احتمالات المرور إلى الفعل لكونها تعبر من دون وسيط، عن الها بتوس باعتباره مبدأ مولداً للتصرفات، فيوفر من ثمة أساً أمتن للتوقع بخاصة على المدى الطويل.
الصفحة 250
بها الاعتداد بالذات الذي يمنحه إياهم الانتماء إلى فئة محظوظة (15).
كذلك، تتيح الملاحظة المنهجية لسلوك المترشحين اللساني والحركي بمناسبة امتحان شفهي ما أن نميط اللثام عن بعض من العلامات الاجتماعية، التي بها يهتدي - من غير وعي - الحكم الأستاذي، ومن بينها يتعين اعتماد مؤشرات عن منوال استعمال اللسان التصويب النبرة رنة الصوت الصبيب، إلى آخره وترتبط تلك المؤشرات عينها بمنوال العلاقة بالأستاذ وبوضعية الامتحان التي تعبر عن نفسها في الهيئة والحركات، واللباس، والتجمل، والإيماء (16). إن التحليل الذي فرضته ضرورات التجربة
الهوامش:
(15) من اليسير أن نميز من بين الخطابات عن كلمة جيروفاجي» (Gerophagie) صيغتين للتركيب يكشفان عن علاقتين باللغة : يعبر عن الأولى بـ أجهل تعريفها» (ف. !. شعب) - إنها لا توحي لي بشيء (فة. إ. متو) - جيرو (Gero) (لعلها تعني عجوزاً؟) -فاجي (Phagie) تعني فعل أكل وبالتالي تعني من يأكل العجائز؟ (باحتراز) - (ف. إ. متو). لعل اشتقاق الكلمة يشير إلى أكل العجائز فة. إ. متو). ويقابل تلك التصريحات حيث يفصح إما عن الفطنة أو عن الحذر المدرسي، أو بصورة أدق عن هاجس أن يبذل الطالب ما بوسعه للإفادة من معارفه من دون أن يتعدى حدود الحذر المدرسي، أسلوب تعبيري حاسم ومتكبر وطليق أو هو متصنع كما يلي : اشتقاق الكلمة هو ذا (.). إذا، فإن «جيروفاجي» عادة ما تعني أكل العجائز عند بعض الأقوام البروميثية (فة. ب. علي). إذا كان أصل كلمة «جيرو» هو جيراس (Geras) أي العجوز، فإن «جيروفاجي تعني شكل ممارسة أنثروبوفاجية» (Anthropophagie) يوجهه ايثار الأفراد المسنين في مجتمع ما» (فة. ب. علي) -القد تشكلت عبر ماض مبهم من. . أن نتغذى : تعني أكل العجائز، وهي أعراف نلتقيها عند بعض القبائل البدائية (فة. ب. متو) - أن نأكل «جيرو كأن نأكل الإنسان Amthropo) (ف. ب. علي). فة - فتى فة - فتاة ب - باريس، إ = إقليم، شعب = طبقات شعبية، منو = طبقات متوسطة، علي = طبقات عليا).
(16) يتضح من ملاحظة منهجية أولى - مثلاً - أن العلامات الإيجابية أو السلبية ليسر التعبير أو التوضع فعل المخاطبة، والتمظهرات الجسدية للحرج أو القلق من قبيل ارتعاش اليدين أو احمرار الوجه، وطريقة التكلم، ارتجالاً أو قراءة للمدونات، والطرائق التي تسم العلاقة بالممتحن من قبيل التماس الرضا أو التجرد عن الصحبة، إلى آخره تبدو شديدة الارتباط بعضها ببعض، وفي الوقت نفسه بالأصل الاجتماعي. وأياً كانت حدود تلك التجربة، فإن لها على الأقل لكونها تفترض موقفاً غير مألوف للملاحظة التحليلية، أن تميط اللثام عن بعض عوامل اجتماعية خاصة بالعلامة، وفي الوقت نفسه عن المسالك الملتوية التي على تلك العوامل اتباعها كي تفعل على رغم الرقابة التي تمنع أخذها في الحسبان جهراً. لا يرد حرج طلاب الطبقات الشعبية أو حرقهم، أو الإرادة الطيبة الملحة لطلاب الطبقات المتوسطة في المداولات العلنية للمصححين إلا متنكراً في لبوس مزايا نفسية من قبيل الخجل» أو تهيج الأعصاب. إن قياساً تجريبياً لتلك المؤشرات عليها يتعدل دون ما وعي تقدير قيمة المترشحين لقادر دون سواه على تمييز التبعات الاجتماعية لفئات الإدراك الجامعي، وهي تبعات تعبر عن نفسها في مصطلحات فقه القضاء الأستاذي أو في تقارير جان الامتحان أو الملاحظات المدونة على هوامش الفروض وفي كشوف الأعداد المدرسية.
الصفحة 251
يبين أن ما من شيء، وبخاصة تقدير المعارف والكياسة حتى تلك التي هي أكثرها تقنية، إلا وكأنما أصيب بعدوى من منظومة الانطباعات المتسائلة، أو بصورة أدق المتكررة. هي انطباعات في شأن عين الاستعداد العام، أي في شأن نسق الطرق التي تسم موقعاً اجتماعياً ما (17). على هذا النحو، وعلى نقيض اليسر الذي يُقال له يسر متصنع»، متواتر بشكل خاص عند طرق طلاب طبقات متوسطة وشعبية تجهد بواسطة سيولة صبيب لا يخلو من نشازات عديدة في النبرة لكي تتطابق مع معايير التعبير الجامعي، يؤكد اليسر يقال له يسر «فطري، حذق اللغة حذقاً جيداً في طلاقة الصبيب واستواء النبرة وعذوبة الأسلوب كلها شهادات عميمة على فن إخفاء الفن إن كانت الطريقة التي تعلو كل الطرق التي توحي عبر أمزجة حمالة
الهوامش:
(17) إن الرؤية الاجتماعية لـ الروح الخاص بهذا التكوين أو ذاك إنما تهتدي بمنظومة الطرق تلك بكونها جملة مؤشرات متناهية في الصغر من خصال ذهنية وأخلاقية لا تنفصلان : في المدرسة الإكليريكية، كان يقول ستاندال (Stendhal): ثمة طريقة في أكل بيضة برشت (Ocuf a la coque) تخبر عن التقدم الذي تحقق في حياة التنسك. وما الأمر الذي يجهد الأدب المثقف الجمعيات قدماء التلامذة لاستحضاره إلا ذاك الأمر، بتعزيم تارة وبشدة تارة أخرى: إن روح المدرسة العليا للتجارة (H.E.C) طريقة في التفكير وطريقة في تصور الأشياء (.) وطريقة في التصرف في الوجود. وإن نعد المقالات المختالة أو المحاضرات عن الأمثال من سلوك طلاب دار المعلمين العليا أو سجايا طلاب علوم التقنية، لا نحصيها.
الصفحة 252
على زخرف القول غروراً، بالامتياز بالقوة في قوله. وإذا كانت العلاقة الكادحة باللغة وقد اخترقها قلق الفرض وفرض النفس قد صنفت من دون وعي على أنها يسر الفقير أو تفاخر الثري الجديد، والأمران سيان، فلأنها تُبدي في جلاء كبير، وظيفتها التي تقضي بالبروز كي لا تتهم بنفعية مبتذلة في أعين مدرسين تعلقوا بوهم فاتن عن تبادل يظل لذاته غايته، حتى في الامتحان.
إن التناقض بين ذينك النموذجين للعلاقة باللغة إنما يحيل إلى التناقض بين نمطين لاكتساب الحذق الشفهي : أحدهما نمط الاكتساب المدرسي حصرياً يرصد المرء لعلاقة مدرسية» باللسان المدرسي؛ وثانيهما نمط اكتساب بالاستئناس غير المحسوس، قادر بمفرده على إنتاج بالتمام والكمال الحذق العملي في اللسان وفي الثقافة، فيجيز من ثمة الايحاءات والمشاركات المثقفة (18). إن كل الأمر يحمل على أن تجربة الفضاء المدرسي التي تعدها طفولة قضيت في فضاء عائلي تحدد الكلمات فيه حقيقة الأشياء تتعارض مع تجربة اللاحقيقة التي يمنحها أطفال الطبقات الشعبية الاكتساب المدرسي للغة أحكمت صنعاً حتى تحجب الحقيقة عن كل ما تقوله لأنها تجعل منه تمام الحقيقة :
اللغة «المهذبة» و«السليمة»، أي اللغة المصححة» في قاعة الدرس تتعارض مع لغة تنعتها الملاحظات على هامش الفروض بـ «البسيطة» أو المبتذلة»، وتتعارض أيضاً مع اللغة المضادة التي للداخلية (*) ليس للأبناء فيها أصيلي المناطق الريفية الذين يواجهون تجربة المثاقفة عنوة
الهوامش:
(18) أنه لأمر ذي دلالة أن يجيز بعض اللسانيين لأنفسهم اللجوء كي يميزوا الازدواج اللغوي الأصيل من الازدواج اللغوي العليم، أي المدرسي على مقاييس اليسر أو التحكم "شبه الطبيعي في لسانين" The Native-like Contol of Two Languages، مثلما يقول بلومفيلد انظر:
Leonard Bloomfield, Language (New York: H. Holt and Company, 1933), p. 56.
(*) هي لغة التلامذة المقيمين في داخلية المعاهد أو الثانويات.
الصفحة 253
وتجربة المثاقفة المضادة السرية في آن واحد خيار إلا بين الخيارين : الازدواج أو الإخلاد إلى الإقصاء.
لا ريب أنه ما من مؤشر على الوظائف الموضوعية لنسق التعليم الفرنسي أفضل من الرجحان المطلق تقريباً ذاك الذي يسديه التبليغ الشفوي والتحكم بالكلمات على حساب تقنيات تلقين أو استيعاب أخرى. إن التباين بين المكانة المخصصة للمدارج وتلك التي جعلت لقاعات الأشغال التطبيقية والمطالعة، أو أيضاً المشقة القصوى في بلوغ أدوات التعلم الذاتي، كتباً أكانت أم أجهزة، يخون التباين بين التعلم سماعاً والتعلم بالقرطاس وبالتحاور المنظم أو التمرين أو التجربة أو المطالعة أو إنتاج البحوث (19). المقصود على نحو أدق أن على أولية التبليغ الشفهي تلك، ألا تحجب أمر أن التواصل يتم من خلال كلام اللسان المكتوب عليه ظهيراً، مثلما تشهد على ذلك القيمة الرفيعة التي أضفيت على قواعد التعبير الكتابي وقواعد الأسلوبية الثقفة، وهي قواعد تنزع إلى أن تفرض نفسها على كل خطاب قعدته المؤسسة الجامعية وصدقته، أتعلق الأمر بالمحاضرة أم بالإنتاجات الشفهية للمترشحين في فضاء مدرسي المثال فيه أن نتكلم مثلما يتكلم الكتاب، فإن الخطاب الشرعي تمام الشرعية هو ذاك الذي يفترض في كل لحظة من لحظاته
السياق الثقافي الشرعي برمته، ولا شيء دونه (20).
الهوامش:
(19) بوسعنا أن نتبين مؤشراً لتأثير التبليغ الشفهي على التعليم المدرسي في أن الدرس ينزع بشكل متفاوت وفق فئات الطلاب طبقاً للقانون العام لتقلبات المواقف بحسب الجنس والإقامة، والأصل الاجتماعي إلى أن يستعيض عن كل طريقة أخرى في الاكتساب، بدءاً بالمطالعة، مثلما تشهد على ذلك القيمة المسندة لشروح الدرس، إن كانت موضوع قراءات وقراءات متكررة ومقايضات وسلف.
(20) من اليسير أن نبين أن اللسان الجامعي الفرنسي يستجيب استجابة تامة لقواعد المكتوب الضمنية أكثر مما يستجيب لها اللسان العليم مشتركاً مع تقاليد تعليم أخرى : من دون الحديث عن تحريم استعمال الألسن الأجنبية على طلاب التربية الفرنسية الذين يفضلون عدم تكلمها أكثر من تكلمها على نحو ما يستوجب أن تخط عليه، فإن إنشاء الخطاب في نقاط ثلاث وتنظيم كل جزء منه وخصوصاً خطاب المحاضرة الذي غالباً ما يُسلم للنشر) وفق مخطط يفترض من كل جزء منه الإحالة على الكل له منوال ولعله غالباً، شرط مسبق، الخطاب الذي خط بالتعديلات والمراجعات (المسودات) التي يجيزها.
الصفحة 254
وليست تراتبية المهام البيداغوجية على ما تظهر فيه موضوعياً في تنظيم المؤسسة وفي أيديولوجيا الأعوان بأدنى بياناً. ومن بين الالتزامات الأستاذية كلها يعد واجب التبليغ بالكلام الثقف الفرض الذي لا قيد ولا شرط فيه، فيظهر من ثمة على مهام التأطير ورقابة عمل الطلاب، من قبيل تصحيح الفروض الذي يعتبره الكل من دون استثناء الوجه المظلم لفعل التدريس، فيحثل به المساعدون إلا أن يكون مناسبة تمارس فيها لجنة مناظرة كبرى السلطة العليا. وتشهد التسميات التي تعين مختلف الرتب الجامعية على أن المرء يصير شرعياً أكثر فأكثر على تكلم اللغة الشرعية للمؤسسة، كلما ارتفع في التراتبية على هذا النحو يرعى المساعد دوماً حصص الأشغال التطبيقية حتى إلا يأتي فيها بالكلام، ويقدم من كلف إليه التعليم تعليماً. أما الأستاذ المحاضر، فمع أنه لا يأتي شيئاً غير الذي يأتيه سالفه، يقوم مع ذلك بمحاضرات، بينما الأستاذ لا شريك له هو الذي يقدم دروساً يُزعم أنها محاضرات (21). إن ذاك النسق المتراتب من اللإصطلاحات المرجعية إنما يُغشي وراء مظاهر تقسيم للمهام تقسيماً تقنياً، تراتبية في درجات الامتياز في شأن إنجاز الوظيفة
الهوامش:
(21) أما المعلم فيأتي صفه بابتذال، أي يأتي عمله كذلك. ولا غرو في ذلك ما دام الطلاب كان قد هيأهم سلفاً أصلهم الاجتماعي إلى الطلاقة المتميزة، يفشي في غير ما تصرف من تصرفاتهم الازدراء الأرستقراطي للأشغال الثانوية (وهو انعكاس للتناقض الجامعي بين الفعل الذهني الذي بلغ غاية تمامه والمساعي المكدة للعمل البيداغوجي)، سيما أن المؤسسة المدرسية تدنى موضوعياً في الدرك الأسفل من تراتبيتها التلقين المنهجي لتقنيات مادية وذهنية للعمل الذهني والعلاقة التقنية بتلك التقنيات.
الصفحة 255
الواحدة بعينها، هي وظيفة أبقيت على نحو مثالي موحدة، حتى إن حملت الضراء ومآرب العمل أصحاب اللقب من غير سواهم، على توزيعها على فرقة وكلاء هي دوماً أكثر عدداً (22).
إن العلاقة باللغة وبالمعرفة، وهي علاقة متضمنة الأولوية التي منحت الكلمات والتحكم الثقف في الكلمات تمثل بالنسبة إلى هيئة الأساتذة، أقصد الوسائل، إن كانت أكثر تطابقاً لتكوينها السالف، للتكيف مع الشروط المؤسسية لممارسة المهنة، وبالأخص مع مورفولوجية الفضاء البيداغوجي ومع البنية الاجتماعية للملأ. هكذا : مرتان في الأسبوع وطيلة ساعة تعين على الأستاذ المثول أمام حضور تشكل، صدفة، من أشخاص لا شبه بينهم، وتؤلف غالباً في درسين متتابعين وكان يتعين عليه التكلم، فلا يبالي الحاجات التلامذة الخصوصية، ولا يعبأ بما يعلمون وما لا يعلمون (.). وكان يتعين على الاستنباطات الطويلة التي تلزم المرء أن يكون قد اتبع مسلسلة من التمشيات الذهنية، أن تُزاح (.). عن أي دروس عليا بعد ذلك نتحدث، وهي المفتوحة للقاصي والداني، وقد استحالت مسرحاً
الهوامش:
(22) ما كان سياسة الانتداب التي أدت إلى تكاثر المدرسين الثانويين والمعوضين في الكليات منذ حوالى سنة 1960، والحال أن القواعد التي كانت تحدد بلوغ درجة الأستاذ القار ظلت ثابتة، أن تفرض نفسها بمثل ذاك اليسر لولا أن كانت المؤسسة التقليدية تنتج شروط تلك السياسة والأعوان المهيئين أكثر من سواهم إلى أن يهتدوا إلى أنفسهم فيها. لقد كان أصحاب السلطة الجامعية يلقون نفعاً في تكاثر يصيب الرتب الدنيا كان يبسط مجال سلطانهم من غير أن يعرضها للخطر. أما أولئك الذين كانوا يدفعون تكاليف اقتصاد جعل على ذاك النحو، كانوا يجدون في المنوال التقليدي للترقية بالأقدمية أعذاراً للتماهي مسبقاً على سبيل خلقاء مفترضين مع أستاذ لا يطال به مثلما يشهد على ذلك خضوعهم المستسلم، وأحياناً المكافح في إفناء النفس إنجازا للأطروحة التي لا تبلى). وعلى نحو أعمق، كان هؤلاء وأولئك يلقى في تنظيم جامعي لا يعرف كدأب التجمع القروسطي، مبدأ آخر لتقسيم العمل إلا التمييز المتراتب بين درجات سلم (Gradus) حثاً على الظن أن الإطالة غير المحددة في درب مراحلها مضاعفة إلى ما لا نهاية، أمر طبيعي أو هم يعتبرونها أمراً مقضياً.
الصفحة 256
الضرب من تنافس يبتغي جلب الملأ واستبقائه ؟ تلك العروض المتألقة، وتلك التراتيل على سوية خطباء عهد الانحطاط الروماني (.)، وذاك الباب الصفاق، الذي ما ينفك طيلة الدرس ينفرج وينغلق، وذاك الرواح والغدو المستمر، وسمت المستمعين المتعطل ذاك، ونبرة الأستاذ التي ما كانت يوماً على وجه التقريب تعليمية إنما كانت أحياناً ترتيلية، وتلك البراعة على البحث عن الأفكار العامة الرنانة التي كانت لا تحمل جديداً، إنما كانت تنشب بمهارة أمارات التصديق، كل ذلك كان يبدو غريباً وخارقاً (23). وعلى نحو أعم، لعلنا نمتنع عن فهم الأسلوب المخص بالحياة الجامعية والفكرية في فرنسا إن نحن أنكرنا عليه أنه نمط تلقين ينزع إلى اختزال الفعل البيداغوجي في تعزيم لفظي أو في استعراض نموذجي، هو نمط مطابق بصورة خاصة لمصالح هيئة أساتذة مذعنين إذعاناً مباشراً،
الهوامش:
(23)Ernest Renan, Questions contemporaines (Paris: Calmann-lévy, 1968), pp. 90-91.
إضافة إلى ما يلاحظ بشكل عام جداً أنه بقدر ما يعلو المرء في تراتبية المهن، يلزم عن تعريف صادق عليه المجتمع يقضي بممارسة المهنة ممارسة تامة مسافة مترفعة إزاء المهمة، أي إزاء تعريف أدنى (و) (ثانوي) للمهمة، يتعين على الأساتذة التعامل أن بالاعتبار مع صورة عن الإنجاز التام لمهنتهم، وذلك بشكل خاص في التعليم العالي هي صورة لها موضوعية المؤسسة ولا يتأتى اعتبارها بصفة كلية إلا بالتاريخ الاجتماعي المنزلة شريحة المثقفين داخل الطبقات المهيمنة ولمنزلة الجامعيين داخل تلك الشريحة ذاتها أي صلب الحقل الفكري). مع ذلك، قد يكون على تحليل كامل لوظائف تلك الممارسات وتلك الأيديولوجيات، على وجه الخصوص، أن يأخذ في الحسبان الخدمات الملموسة التي تؤديها في حال مسمى من نسق التعليم لهذه الفئة أو تلك من فئات المدرسين. كذلك هو أمر ضروب من السلوك، كأن يأبي المدرسون علناً مراقبة حضور الطلاب أو إلزام إرجاع الفروض بانتظام، مثلما يمنح بأقل الأثمان وسيلة تحقيق صورة المدرس المميز المتعلمين مميزين، يتيح أيضاً المدرسين كتب عليهم، بالخصوص في المواقع الثانوية، اللعب المزدوج باستمرار بين أنشطة التعليم وأنشطة البحث أن يخفضوا من عبثهم من العمل، وأن يعثروا من ثمة على حل عملي للوضعية التي جعلت لهم في أكثر الكليات والاختصاصات غزارة.
الصفحة 257
بخاصة في أيامنا هذه، لأنماط الحقل الفكري، وقد أمروا ليؤكدوا أنفسهم حتى في ممارساتهم البيداغوجية كمثقفين. لا ريب في أن ما من شيء يستبعد أن بإمكان المحاضرة أن تؤدي وظائف مختلفة عن وظائف أسندتها إليها بيداغوجيا تقليدية أو حتى مناقضة لها، لما يتيحمثلاً، في مرحلة تدرّب ما تبليغ مقدمات التواصل والعمل البيداغوجي بأقصر الطرق أو تبليغ تأليفة نظرية أو إشكالية في درس في منهجية البحث أو أيضاً لما يصير، وقد سجل، مجرد سند تقني التمارين مكررة. مع ذلك، فبسبب الثقل الذي للمحاضرة على الطريقة الفرنسية في منظومة وسائل التلقين، وبسبب العلاقة باللغة وبالمعرفة التي تطلبها، ولكونها توازناً لا إفراط فيه ولا تفريط بين التلفيق الذي لا ثقل به والابتكار الذي لا إسراف فيه، تجيز حتى الأكثر أشباهها قنوطاً منها، وتنتج أيضاً، تلاعباً بالمعايير التي تتصنع التقيس بها، ولزميات البيان المدرسي التي تغنيها عن دقة المراجع العلمية، ومظاهر العلمية التي تغنيها عن البحث الأصيل وظاهر الارتجال المبدع ذاك القادر حيث ما كان الحال على أن يغني عن الوضوح والعلمية. إن الذي يتضح هو أن الشروط المؤسسية للتواصل البيداغوجي تجيز كارزما أستاذية وتؤثرها (إن جاز الجمع بين الكلمتين قادرة على فرض جوامع معارفها المدرسية، هي معارف عهد حكم الجامعيين أو حكم سلالة من الجامعيين تحل محل كافة الأعمال التي تزعم حفظها وتجاوزها (24).
الهوامش:
(24) يصف كانط توصيفاً جيداً عوارض كارزما المؤسسة التي تجيزها أيديولوجيا الإلهام والنبوغ الخلاق. وهو الذي كان موقعه التاريخي يؤهله سلفاً إلى التطلع على أول تباشير الثورة الرومانطيقية على المنزع العقلاني للأنوار، وبصورة خاصة على ثقتها بقدرات التربية، فيقول : لكن باسم النبوغ فرض جنس من البشر نفسه يقال لهم نوابغ (هم بالأحرى علامات على النبوغ)، هو جنس يتكلم لغة العقول التي حبتها الطبيعة أكثر مما يتكلم اللغة المعتادة. وهو جنس يرى هباء منثوراً كلالة التدرب وكلالة البحث، ويزعم أنه اكتسب في لمح البصر روح العلوم، ثم لا تمنحها إلا مركزة في شكل جريعات فاعلة. إن ذاك العرق، شأنه شأن عرق الدجالين والبهلوانيين، يحمل ضرراً خطيراً على تقدم الثقافة العلمية والأخلاقية، لما، من أعلى كراسي الحكمة، يُفتي في الدين، وفي السياسة وفي الأخلاق، فيمهر عندها في مواراة بؤس فكره. وما عسى المرء أن يفعله إزاءه إلا أن يضحك منه وأن يتبع صراطه محتسباً في انكباب ونظام وبيان، فلا يلتقت إلى أولئك المتكلفين؟». انظر :
Immanuel Kant, Emmanuel Kant. Anthropologie du point de vue pragmatique, traduction par Michel Foucault (Paris: J. Vrin, 1964), pp. 89-90.
الصفحة 258
ثم إننا نفهم كيف أن مثقفين كُثراً، انتماء أو تطلعاً، يُظهرون حتى في سلوكهم الأقل تطبعاً ظاهرياً في المدرسة، تطابقهم مع النمط المهيمن للعلاقة باللغة وبالثقافة. وإن كانت الثقافة المسماة حرة تكتنف حقيقة الثقافة المدرسية، أو بتعبير أدق إن كانت العلاقة المجاملة بالثقافة تعبر عن نفسها أفضل تعبير في الخطابات الأدنى تمدرساً لأكثر المثقفين تحرراً من لزميات المدرسة، فليس الأمر إلا مفارقة وهمية. وهي علاقة تشحذها وتعترف بها مدرسة نذرت بمقتضى عقد التفويض لاسترجاع لحسابها ازدراء كل من يشتم منه رائحة المدرسة : وإذا كانت الثقافة على النمط الباريسي تتبدد منذ أن يسعى المرء إلى إخضاعها لقياس الاختبار المعرفي، فلأنها تدين الشروط اكتسابها بنيتها الجوفاء، أتعلق الأمر بلقاءات عابرة بالكتاب والكتب وبمن يتحدث عن أولئك وعن تلك، أم تعلق بالتردد عبر الإطلاع أسبوعياً على صحف بالكاد علية. ثم أيضاً، وبوجه خاص، لأن العلاقة بالثقافة التي تكتسب في شروط كتلك الشروط هي علاقة حسنت صنعاً حتى تتم في مجالات تركت إلى المحاورة المتميزة أو للجدال البوهيمي، ونذرت لبرطمات مراتبة المحاورة المجلس، كما نذرت للصنافات الكونية التي تلبس في طرفة عين اليسار واليمين في الفن أو في الفلسفة باليمين واليسار في السياسة.
الصفحة 259
لكن لعله من السذاجة الظن أن وظيفة العلاقة المثقفة بالثقافة التي تقضي بالتميز الاجتماعي هي علاقة مرتبطة بـ «الثقافة العامة» في شكلها «الإنسي» حصراً لها وإلى الأبد. ذلك أن الوجاهات التي للاقتصاد الرياضي أو للإعلامية أو للبحث الإجرائي أو آخر النظريات البنيوية القادرة بيسر يسر معرفة الآداب الكلاسيكية أو يسر الألسنة القديمة لزمن غير زماننا على أن تستخدم زينة على وجه الترفع أو أن تكون أداة نجاح اجتماعي. أفلا ننظر إلى التكنوقراطيين الذين يُشيعون من ملتقى إلى آخر معارف اكتسبوها في الملتقيات؟ أو ننظر إلى المقالين الذين يستخرجون من قراءة على عجل لأكثر الصفحات عمومية من أقل الكتب تخصصاً للمختصين، مادة خطب عامة عن الحدود الملازمة لاختصاص المختصين؟ أو ننظر إلى مختالي العلموية وقد اعتبروا أساتذة في فن التلميح «الأنيق»، والذي يكفي أن نحل صاحبه في أيامنا هذه المواقع الأمامية للعلوم الطليعية، حتى تطهر، بذلك دون سواه، من خطيئة الوضعية لدى العوام؟
المحاورة والمحافظة
لكن أن نفسر ممارسات أو أيديولوجيات إمكانها واحتمالها مكتوبان موضوعياً في بنية رابطة التواصل البيداغوجي، وفي الشروط الاجتماعية والمؤسسية لممارسته بمصالح هيئة الأساتذة فقط، أو أيضاً على نحو أكثر سذاجة أن نفسر بالسعي وراء وجاهة أو وراء إرضاء للكبرياء، يعني أن نغفل عن أنه يتعين على نسق تعليم ما كي يؤدي وظيفته الاجتماعية التي تقضي بشرعنة الثقافة المهيمنة، الحصول على الاعتراف بشرعية فعله، حتى إن كان في شكل اعتراف بسلطان الأساتذة الذين عُهد إليهم تلقين تلك الثقافة. وإذا كانت الإحالة إلى الحالة الحدية لنسق تعليم ما ليس له من الوظائف التقنية الأخرى إلا وظيفته الاجتماعية أن يشرعن ثقافة الطبقات
الصفحة 260
المهيمنة ويشر عن رابطتها بالثقافة تتيح إماطة اللثام عن بعض من نزوعات النسق الفرنسي، فلأنه لا يتأتى لهذا النسق أن يتواصل قليلاً وقد أسند مكانة على أهميتها للكلام إلا لكونه ينزع دوماً إلى أن يمنح الأولية الوظيفة الاجتماعية للثقافة العلمية والأدبية كذلك على الوظيفة التقنية التي للكفاءة. ثم أفما كان للخطاب العلامي أن يُسمع، لا بل أن يقبل، لولا أن يفرض على الأقل إضافة إلى سلطان المؤسسة سلطان المؤسسة التي ترده ممكناً وتفرض من ثمة شرعية المرسل إليهم في الواقع؟ إن ما يمكث لما يكون المرء قد نسي كل شيء هو علاقة بالثقافة عينها حق النسيان. حق يلزم عن أمر أن يكون المرء قد أوتي علماً، أو بالأحرى أن يكون المرء معترفاً به اجتماعياً بمنزلة من تعلم. وفي حقيقة الأمر أي شيء يمكث من المعاشرة المديدة للكتب العتيقة، أو من العلاقة المطولة مع المؤلفين الكلاسيكيين إن لم يكن حق الرضا بلا حياء بصفحات القاموس الوردية(*)، وإن لم يكن في درجة عليا من التصديق المدرسي اليسر والاستئناس أن كانا سمتين لـ علاقات الأب المشهور بابنه أو
بابن شقيقه، ذلك شأن خص به جيرودو (Giraudoux) مجاملاً، طلاب دار المعلمين، أولئك المستأنسين بالأخلاق العالية
والجماليات الرفيعة والمؤلفين المشهورين؟
ولما يمنح النسق المدرسي المدرس حق الاستحواذ على سلطان المؤسسة لفائدة شخصه وسلطة ذلك أيضاً، إنما يضمن لنفسه أيقن السبل للحصول من الموظف أن يضع موارده كلها وكامل حميته في خدمة المؤسسة، ومن ثم في خدمة الوظيفة الاجتماعية للمؤسسة.
الهوامش:
(*) هي صفحات من القاموس عادة ما تكون أوسطها تخصص لتعاريف مختصرة عن بعض مشاهير العلماء والفلاسفة والأدباء ونحوهم، وعن بعض المؤلفات ذات الصيت.
الصفحة 261
وعلى الأستاذ أن يتعين، رغب في ذلك أم لم يرغب، علم بذلك أم لم يعلم بالنظر إلى التعريف الاجتماعي لممارسة ما، هي في شكلها التقليدي لا يتأتى لها أن تجري إلا مجرى بعض الأفعال الدرامية : مع أن الفعل البيداغوجي يفترض السلطان البيداغوجي حتى يتحقق، فإنّه عليه أن يحصل عبر دائرة وهمية على اعتراف بسلطانه في إنجاز العمل التلقيني وبه. ولما كان الأستاذ مدعواً إلى أن يبين ميزة وظيفته وميزة الثقافة التي يبلغها بميزة أسلوبه الشخصي حين تبليغها، يتعين عليه أن تكون المؤسسة قد خصّته بالخصائص الرمزية للسلطان ذي العلاقة بكلفته بدءاً بحلة الكلمة التي هي من الأستاذ ما البدلة أو السترة البيضاء من الطاهي أو الحلاق أو نادل المقهى أو الممرضة) حتى يتأتى له أن يذر لنفسه أناقة العدول، وهو فخور عن أكثر حمايات المؤسسة عيانية، أن يفخم خصائص مهمة هي مثل حركات الجراح، أو العازف المتفرد أو البهلوان، مهيأة مسبقاً لإظهار الميزة الفريدة للمنفذ وللتنفيذ تجلياً رمزياً : إن أكثر المآثر كارزمية على وجه نموذجي كالشطحات اللغوية أو التلميح المبهم أو الإحالات المبلبلة أو الغموض المفحم، وكذلك أمر الوصفات التقنية التي لها سند أو بديل من قبيل التستر على المصادر، أو إدراج الدعابات المتفق عليها أو تحاشي الصياغات المشبوهة، وكلها تدين بنجاعتها الرمزية لوضعية السلطان التي تعدها المؤسسة لها. وإن كانت المؤسسة تبيح اللعب بالمعزّزات أو بالقوانين المؤسسية وتحض على ذلك حضاً كثيراً، فلأن على الفعل البيداغوجي أن يُبلغ باستمرار، إضافة إلى مضمون ما تأكيداً لقيمة ذاك المضمون، وأنه ليس أفضل سبيلاً لإدراك ذاك الأمر غير الاستحواذ لفائدة الشيء المبلغ، على الوجاهة التي تمنحها طريقة تبليغه الفريدة لمؤلفي التواصل، وهم مؤلفون يعوّض بعضهم بعضاً.
لكن في نهاية الأمر، أن نجيز اللعب بالقاعدة المؤسسية، لعب
الصفحة 262
على طريقة الاستئناس بالبرنامج إن كان استئناساً مدرجاً ضمناً في البرنامج، يُسهم في فرض الاعتراف اللاواعي بالقاعدة أفضل مما يسهم به فرض جازم و دائم معناه أن نلقن من خلال علاقة بالمدرس، علاقة باللغة وبالثقافة هي ليست إلا علاقة الطبقات المهيمنة على هذا النحو، فإن خدعة العقل الجامعي التي تدفع المؤسسة بمقتضاها المدرس إلى خدمة المؤسسة حيث تهيئه للانتفاع بالمؤسسة، إنما تخدم في نهاية الأمر وظيفة المحافظة الاجتماعية التي ليس للعقل الجامعي معرفة بها، وهو ليس بقادر بأي حال من الأحوال أن يعترف بها : إذا كانت الحرية التي يتركها نسق التعليم للمدرس أفضل طريقة ينال بها منه أن يخدم النسق، فإن الحرية التي تركت لنسق التعليم أفضل طريقة ينال بها منه أن يخدم تأبيد العلاقات القائمة بين الطبقات، ذلك أن إمكان الاستحواذ على المرامي ذاك، إنما هو إمكان مدرج في المنطق عينه الذي للنسق، لا يؤدي على أفضل وجه وظيفته الاجتماعية إلا لما يبدو يتبع حصرياً مراميه الخاصة به.
وحتى نثبت بطريقة أخرى أن العلاقة باللغة وبالثقافة، ذلك الحاصل اللامتناهي من الاختلافات المتناهية الصغر من طرق التصرف أو القول، والذي تبدو أبلغ تعبير عن استقلالية نسق التعليم والتقليد المدرسي، إنما تلخص على جهة معينة جملة الروابط التي توحد ذاك النسق ببنية العلاقات بين الطبقات، حسبنا أن نتخيل المقدمات كلها التي يفترضها موضوعياً إنشاء علاقة أخرى باللغة، صلب جملة الممارسات المدرسية لية. (25) هكذا لا يتأتى لنا أن نتخيل أستاذاً يرعى مع خطابه ومع
الهوامش:
(25) يفترض ذاك التغير الخيالي، في سياق تاريخي آخر، أن بوسع الثقافة أن تكون منفصلة عن العلاقة بالثقافة، أي عن نمط الاكتساب بـ «الاستئناس الذي تطرحه الأيديولوجية البرجوازية على أنه نمط مكون لـ طبيعة الثقافة لما تأبى الاعتراف بكل علاقة بالثقافة على أنها ثقافة خلا العلاقة الطبيعية. وبعيداً عن تبرير الإغراء الشعبوي الذي يقضي بتقديس الثقافة الشعبية بلا قيد ولا شرط بواسطة الاعتراف المدرسي، فإن معاينة التناغم المهيأ سلفاً بين العلاقة بالثقافة، التي تعترف بها المدرسة والعلاقة بالثقافة التي تحتكرها الطبقات المهيمنة، تضطرنا، إذ نستخلص كل العبر، إلى إعادة صياغة مسألة العلاقات بين الثقافة العليمة وثقافة الطبقات المهيمنة صياغة كلية، سيما أن المدرسة تصدق الثقافة المهيمنة على الأقل إن بواسطة العلاقة بالثقافة التي تفترضها وتصدقها أو بواسطة مضمون الثقافة الذي تبلغه.
الصفحة 263
خطاب تلامذته ومع علاقة تلامذته بخطابه المخص به، علاقة منقاة نقاوة الثوب الأبيض من كل المجاملات ومتحررة من كل أشكال التواطؤ التقليدية من غير أن نمنحه بالمناسبة نفسها مهارة أن يجعل كامل ممارسته البيداغوجية تبعاً لفروض بيداغوجية الجهر منها حسن، وقادرة عملياً على تطبيق المبادئ المدرجة في تكريس استقلالية نمط الاكتساب المدرسي تحديداً. وفي حقيقة الأمر ما من شيء إلا ويشير إلى تعارض بين تعليم توجهه النية العلنية التي تقضي بتقليل سوء الفهم حول الشفرة إلى أدناه، عبر الجهر المتواصل والمنهجي، وبين دروس تستطيع أن تغني نفسها عن تعليم شفرة الإرسال تعليماً صريحاً لكونه يخاطب، عبر ضرب من سوء فهم جوهري، ملأ أعده استئناس أصم عن سماع سوء فهمه العميم. لذلك ينزع عمل بيداغوجي ما يوجهه صراحة بحث منهجي تلقاء إنتاجية له أكبر قدراً، إلى أن اختصار على نحو واع البون بين مستوى الإرسال ومستوى التلقي، إما أن يرفع مستوى التلقي أن تفشى شفرة تفكيك الرسالة في الوقت الذي تفشى فيه الرسالة في تعبيرة شفهية أو بيانية أو حركية) يحذق المتلقي من قبل شفرتها، وإما أن يخفض موقتاً مستوى الإرسال طبقاً لمخطط تدرّج مراقب لكل رسالة فيه وظيفة إعداد تلقي رسالة من مستوى الإرسال الأعلى، ومن ثمة وظيفة إحداث ترفيع مستمر في مستوى التلقي أن يُعطى المتلقون وسائل ملكية الشفرة ملكية تامة (26) بتكرار الإرسال وبالممارسة.
الهوامش:
(26) إن فعلاً مصروفاً نحو السعي الحثيث لترفيع مستوى التلقي يتميز عن خفض مستوى الإرسال بلا قيد أو شرط، وهو حفظ يسم، إلا ما ندر، مسعى التبسيط. ويتميز =
الصفحة 264
وفي نهاية الأمر، لا تفترض الزيادة في إنتاجية العمل البيداغوجي إلى أقصاه الاعتراف بالفارق بين كفاءات المرسل اللسانية وكفاءات المتلقي اللسانية فقط، إنما أيضاً تفترض معرفة بالشروط الاجتماعية لإنتاج ذلك البون وإعادة إنتاجه، أي تفترض معرفة سواء بأنماط اكتساب لغات طبقية أم بأوليات التصديق المدرسية، ومن ثمة بأوليات تأبيد الفروقات اللغوية بين الطبقات. يتضح بجلاء أنه لولا تفويضنا الأمر إلى الصدف أو إلى معجزات الانقلابات الفردية، ليس بوسعنا أن نتحسب ممارسة كتلك الممارسة إلا من أساتذة أكرهوا موضوعياً على إرضاء طلب بيداغوجي على نحو دقيق وحصري بتعبير آخر، نقول أنه يتعين أن ينذر المرء لنفسه فعلاً بيداغوجياً مصروفاً تلقاء تلقين علاقة أخرى باللغة وبالثقافة، أي فعلاً تبعاً للمصالح الموضوعية لملأ غير ذاك الملأ، ولمصالح مدرسين انتدبوا وكونوا لإرضاء الزوميات مراكز مهنية متفاضلة تقنياً، وليس فقط تراتبياً، وهم جديرون بالتالي بأن يحولوا دون لعبة
الهوامش:
= زيادة عن ذلك، عن التنازلات الديماغوجية لتعليم أو لأي شكل آخر للذيوع الثقافي يزمع إتيان اقتصاد العمل البيداغوجي أن يعدل نهائياً مستوى الإرسال وفق حال مسمى المستوى التلقي. وإذا ما سلمنا بالفعل، أن على نسق التعليم أن يأخذ دوماً في الحسبان تعريفاً اجتماعياً للكفاءة الملزم بها تقنياً، على أن يؤمن على أي حال تلقين حد أدنى لا ينضغط من الإخبارية ومن التكوين، يتضح أنه من المستحيل خفض كمية الإخبارية المرسلة إلى ما لا نهاية ابتغاء التقليل من التلف الذي يصيبها كدأب بعض ضروب من التعليم غير الموجه، له أن يعتز بنسبة استيعاب مرتفعة، لكنها لقاء خفض هائل في كمية الإخبارية المستوعية. عندئذ يكون عملاً بيداغوجياً أكثر إنتاجاً على جهة المطلق وعلى جهة النسبي، بقدر ما يرضي على نحو أكثر اكتمالاً لزامين متناقضين تتعذر التضحية كلياً بأي منهما : أولهما، الإكثار إلى أقصاها من الكمية المطلقة للإخبارية المرسلة، وهو أمر قد يفضي إلى التقليل من الإطناب إلى أدناه وإلى السعي إلى الإيجاز والكثافة على ألا يلبس ذلك بالإضمار عبر النسيان والتضمين الذي للتعليم التقليدي). وثانيهما التقليل من التلف إلى أدناه. وهو أمر قد يفرض من جمله ما يفرضه من التقنيات الربو في الإطناب باعتباره تكراراً واعياً ومحسوباً على ألا يلبس بالإطناب التقليدي كتنوع موسيقي يصيب بعض الألحان).
الصفحة 265
الأعذار الدائرية التي يجيزها اللاتمييز التقليدي لمهام التدريس والبحث وحتى التدبير (27). باختصار القصد هنا أن نسقاً مدرسياً ما يخدم نسقاً آخر من وظائف خارجية على نحو ملازم قائم يخدم حالة أخرى من علاقة القوة بين الطبقات لقادر دون سواه أن يجعل ممكناً فعلاً بيداغوجياً كذلك الفعل.
إذا كان نسق التعليم الفرنسي يؤبد امتيازاً ثقافياً ويصدقه، امتيازاً قائماً على احتكار شروط اكتساب العلاقة بالثقافة، تنزع الطبقات المحظوظة إلى الاعتراف بها وفرضها على أنها شرعية على سبيل أن لهم بالذات، احتكارها، فلأنه يتعذر حذق العلاقة بالثقافة التي يعترف بها النسق حذقاً كاملاً إلا لما تكون الثقافة التي تلقنها قد اكتسبت بالاستئناس ثم لأن نمط التلقين الذي يقيمه يظل على الرغم من خصوصيته النسبية على صلة بنمط تلقين الثقافة الشرعية.
الهوامش:
(27) تنزع تحولات التقانة البيداغوجية أدوات سمعية بصرية، تعليم مبرمج، إلى غير ذلك، إلى أن تثير صلب نسق التعليم مجموعة نظامية من التحولات، من دون أن تبلغ حد تحديد إعادة بنينة جذرية على قدر كبير. لا ريب في أنه يتعين الحذر من أن نمنح التغيرات التي تصيب القاعدة الثقافية للتواصل البيداغوجي دور سلطة محددة آلياً، وهو أمر يفضي إلى تجاهل تبعية الوسائل التقنية لنسن الوظائف التقنية والاجتماعية لنسق التعليم قد لا يكون للتلفاز في دارة مقفلة من أثر آخر خلا مفاقمة حد العبث السمات التقليدية للمحاضرة). غير أنه على اعتبار أن تحول تقانة الفعل البيداغوجي يؤثر في ما هو أكثر خصوصية من العلاقة البيداغوجية على معنى يؤثر في أدوات التواصل، فإن لذاك التحول فرصة التأثير في التعريف الاجتماعي للعلاقة البيداغوجية، وبصورة خاصة التاثير في الثقل النسبي ما بين الإرسال وفعل الاستيعاب، سيما أن مع إمكان تسجيل رسالة مسبقاً يمكن إعادة إرسالها إلى ما لا نهاية، يلفي التعليم نفسه محرراً من إكراهات الزمن والمكان، ثم ينزع إلى ألا يركز بعد على الرسل إنما على المتلقين الذين يتهيأون عليها راضين مرضيين. هكذا، فإن الأثر الخصوصي للتسجيل هو ذو طبيعة تسبب تصليباً للرقابة على الإرسال وتحويل النسق اللزوميات المتبادلة، فيسعى الطلاب مثلاً إلى الصدح بأن الآثار الأكثر قيمة للأستاذ التقليدي دون جدوى، مثل الدعابات أو الطرائف، بينما يكون الأساتذة مكرهين على رقابة ذاتية يدعمها اختفاء حماية كان يمنحها إيهام زوال الأقوال اللا اعتكاسي.
الصفحة 266
هو نمط شروطه غير مسمّاة إلا لأسر ثقافتها من ثقافة الطبقات المهيمنة. يتضح لنا بادئ ذي بدء أن نسق التعليم الفرنسي، لما لا يعطي علناً ما يفرضه، يفرض تشاكلياً من كل من يستقبلهم أن يكون لديهم مالاً يمنحه، أي العلاقة باللغة والعلاقة بالثقافة اللتين ينتجهما نمط تلقين فريد ولا أحد سواه. ويتضح لنا في مستوى ثان أن نسق التعليم الفرنسي لما يؤبّد نمط تلقين مختلف اختلافاً طفيفاً قدر ما أمكن عن نمط التلقين الأسري، يلقى تكويناً وإخبارية لا يتلقاهما على نحو كامل إلا أولئك أصحاب التكوين الذي هو لهم لا يلقيه.
هكذا تقرأ تبعية النسق التقليدي للطبقات المهيمنة مباشرة في الأولية التي يمنحها العلاقة بالثقافة على الثقافة وإلى النموذج الذي لا يقدر أبداً له إنتاجاً على نحو كامل من بين النماذج الممكنة للعلاقة بالثقافة: إن ما يخون نسق التعليم إذ يبخس الطرق الموغلة في التمدرس لأولئك الذين يدينون له بمعاملاتهم إنما هو الحقيقة الأخيرة عن تبعيته للعلاقات الطبقية، فيشجب من ثمة طريقته المخصة به في إنتاج الطرق، ويقر في المناسبة ذاتها عجزه عن تأكيد استقلالية نمط إنتاج مدرسي بحصر المعنى.
ومثلما أن التصرف الاقتصادي ذي النمط التقليدي يتحدد بصفته ممارسة اقتصادية موضوعياً لا تستطيع أبداً أن تعلن نفسها كذلك، ولا تستطيع بالتالي أن تبسط جهرة عن مسألة توافقها المحكم مع أهدافها الموضوعية، فإنه بوسع العمل البيداغوجي ذي النمط التقليدي أن يعرف نفسه على أنه بيداغوجيا في ذاتها، أي على أنه ممارسة بيداغوجية تجهل الحساب العقلاني للوسائل الأفضل صنعاً أو هي تنبذها حتى تؤدي الوظائف التي يؤكدها موضوعياً وجودها ذاته. إن التحقير المدرسي للطريقة المدرسية الذي يوفر التقليد الجامعي الفرنسي أمثلة عميمة عنه، والذي سوف نلقاه كرة أخرى سواء في
الصفحة 267
الجدال حول إمكان تدريس الامتياز، وهو نقاش مأسسته المدارس الإغريقية، أم في الإجلال الكونفوشيوسي للإهمال، لم يكن ليذيع كونياً ذيوعاً كبيراً إلا لأنه يظهر التناقض الملازم لمؤسسات مدرسية لا يتأتى لها البرء من وظيفتها البيداغوجية من غير أن تنكر ذاتها باعتبارها مدارس ولا الاعتراف بها كلياً من غير أن تنكر نفسها باعتبارها مدارس تقليدية. كانت الاتباعية المضادة للمنزع الاتباعي لعهدي شينغ ومينغ (Ming and Ching)، تنشئ مع الاتفاقات الشكلية والوصفات والقيود والإملاءات التي تحدد تقليد الرسم الثقف العلاقة نفسها التي تنشئها الحماسة الأستاذي للإلهام الخلاق مع التعليمية الروتينية لأساتذة الآداب أولئك. أولئك هم سدنة النبوغ الذين هم بعيدون عن فعل ما إليه يعظون بقدر ما يعظون إلى ما هم يفعلون (28). غير أن على التناقض الظاهر بين حقيقة التقاليد الثقفة أو حقيقة المدارس التقليدية وأيديولوجيا الهبة، وهو تناقض لعله لا يتأكد أبداً بذاك القدر من الحرص في الأنساق المدرسية الأكثر روتينية، ألا يخفي أن تعبد المدرسة العلاقة غير المدرسية بالثقافة، حتى لو كانت ثقافة مدرسية، هو تعبد مهيأة مسبقاً لحمل وظيفة محافظة، ذلك أن الفعل المدرسي ذي النمط التقليدي، حتى حين غفلاته إنما يخدم آلياً المصالح البيداغوجية لطبقات لها في المدرسة مأرب لأن تشرعن مدرسياً احتكار علاقة بالثقافة لا تدين بها دوماً إليها كلياً ؟
عندما نبرز الروابط التي توحد في أكثر الوضعيات التاريخية
الهوامش:
(28) Joseph Richmond Levenson, Modern China and its Confucian Past: The Problem of Intellectual Continuity (New York: Anchor Books, 1964), passim, esp. p. 31, and E. Balazs, «Les Aspects significatifs de la société chinoise,» Asiatische Studien, vol. 6 (1952), pp. 79-87.
الصفحة 268
تبايناً، ثقافة الطبقات المهيمنة والبيداغوجيا التقليدية، أو لنقل بأكثر دقة عندما نبرز علاقات التوافق البنيوي والوظيفي، تلك العلاقات التي تصل نسق المعايير لكل طبقة محظوظة ( بوسعها تنميط ثقافة مختزلة في شفرة للطرق بأنساق مدرسية تقليدية نذرت إعادة إنتاج الطريقة الشرعية لاستخدام الثقافة الشرعية، فإن المقارنة التاريخية تتيح فهم أوجه النسق الفرنسي فيه يعبر ذاك التركيب المتواتر من العلاقات عن نفسه وحتى نفسر الشكل الفريد الذي اكتساه ذلك التركيب في التقليد المدرسي والفكري الفرنسي، يتعين من أدنى ريب الرجوع إلى نشاط رهبانية اليسوعيين التي في مشروعها لدنيوة الأخلاق المسيحية، نجحت في تصريف ثيولوجيا البركة بأيديولوجيا الرعاية العلية. غير أنه لا يتأتى لثبات ذاك الشكل التاريخي قيمة مفسرة إلا شرط أن يفسر بدوره بثبات وظائفه : لقد أمكن لاستمرارية الخدمات التي تسديها المدرسة مدرسة على الرغم من تغيرات البنية الاجتماعية ألفت نفسها دوماً تحل بمنازل متجانسة في نسق العلاقات التي توحدها بالطبقات المهيمنة (29)، أن يجعل استمرار الأخلاق
الهوامش:
(29) ليس بوسعنا مطلقاً الفصل فصلاً كاملاً نمطي التلقين والفرض أن كانا سمتي نسق تعليم محدد، عن سمات نوعية تدين بها الثقافة التي لنسق التعليم تفويض إعادة إنتاجها، لوظائفه الاجتماعية صلب نموذج محدد لبنية من العلاقات الطبقية. هكذا مثلما لاحظ ذلك كالفترون (Calvetron) فبينما في فرنسا منحت برجوازية كبيرة ظلت جزئياً وفية إلى المثال الثقافي للأرستقراطين الثقافة المهيمنة والمؤسسات التي أوكل إليها إعادة إنتاجها شكلها المخص بها، فإن البرجوازية الصغيرة هي التي طبعت بالولايات المتحدة منذ البدء التقاليد الثقافية والمدرسية. انظر:
Victor Francis Calverton, The Liberation of American Literature : (New York: Charles Scribner's Sons, 1932), p. XV.
كذلك، في مقارنة المنازل النسبية التي تحل فيها البرجوازية والأرستقراطية خلال عهود مختلفة في فرنسا وفي ألمانيا مقارنة ممنهجة نعثر دونما ريب على مبدأ التباينات التي تفصل أنساق التعليم من بلد إلى آخر، وبوجه خاص ما تعلق منها بالرابطة التي تنشئها بالتمثل المهيمن للإنسان المثقف.
الصفحة 269
البيداغوجية أمراً ممكناً استمرارية كانت تؤمنها استمرارية تاريخ النسق المدرسي على هذا النحو تدين كوكبة المواقف وقد أضحت مشفرة بحسب ما تقتضيه إيتيقا النبيل» في القرن الثامن عشر أن تأبدت بيسر كبير - وما تلك الإيتيقا عن إيتيقا الشريف الثقف للتقليد الكونفوشيوسي ببعيد - إلى دوام وظيفتها على مر التاريخ، وإن كلفها ذلك بعض المراجعات على الرغم من تغير مضمون البرامج المدرسية وتغير طبقات، كانت في موقع الطبقة المهيمنة : أفلا ننظر مثلاً إلى أولية «الطرق»، أو لنقل كي نعيد لها سيرتها الأولى واسمها في القرن السابع عشر المعاملات»، وإلى تثمين الفطري والخفة منظوراً إليها نقيضاً للتظاهر بالعلم، وإلى التحذلق أو المكابدة، وإلى عبادة الهبة» وبخس التعلم إن كان إعادة تشكيل حديث لأيديولوجيا «الفطرة» وازدراء الدراسة، وإلى الاستخفاف بالتخصص أو بالحرفة أو بالأعمال التقنية كترجمة برجوازية لازدراء التجارة، وإلى الامتياز الذي منح فن الإغراء، أي فن الكيف مع تنوع المحادثات واللقاءات الراقية، وإلى الاهتمام الذي منح إلى دقائق الأمور وفويرقاتها، فيها يتأبد التقليد العلي من أمر الرفاعة والذي يعبر عن نفسه في تبعية الثقافة العلمية للثقافة الأدبية، وفي تبعية الثقافة الأدبية للثقافة الفنية أن كانت الثقافة الأفضل صنعاً حتى تجيز تكرار لعب التميز إلى ما لا نهاية له، باختصار إلى كل الطرق - أكانت معلنة أم مضمرة -الاختزال الثقافة في العلاقة بالثقافة، أي إلى مقابلة طريقة حيازة مكتسب ما، مأتى قيمته الكاملة أنه ليس له غير طريقة وحيدة لاكتسابه، لابتذال ما بالإمكان اكتسابه أو أخذه غلاباً.
الهوامش:
الصفحة 270
الفصل الثالث: الإقصاء والاصطفاء
ما الامتحان إلا تعميد بيروقراطي للمعرفة، واعتراف رسمي باستحالة المعرفة المدنسة معرفة مقدسة.
کارل مارکس
Kritik des Hegelschen staatsrechts
الصفحة 272
كي نفسر الثقل الذي يسبغه نسق التعليم في فرنسا على الامتحان، يتعين في زمن أول أن نقطع مع تفسيرات السوسيولوجيا التلقائية التي تعزو أكثر معالم النسق نتوءاً إلى وصية لا مبرر لها من تقليد قومي، أو إلى فعل إلى المحافظية (Conservatisme) الوراثية للجامعيين، وهو فعل في عسر من تفسيره بيد أننا لم نكن لنفرغ إلى تفسير، إذ نحن أحطنا علماً عبر اللجوء إلى المنهج المقارن وإلى التاريخ بسمات الامتحان ووظائفه الداخلية في نسق تعليم مخصوص.
إنه لن يكون بوسعنا مساءلة التساؤل عن الامتحان كي نميط اللثام عما يخفيه الامتحان، وعما يسهم أيضاً التساؤل عن الامتحان في إخفائه نتبرم من التساؤل عن الاقصاء من دون امتحان، إلا شرط التزحزح ليس إلا، بواسطة قطيعة ثانية عن الوهم الذي يقضي بحياد النسق المدرسي واستقلاليته ازاء بنية العلاقات الطبقية.
الامتحان في بنية نسق التعليم وتاريخه
أن يهيمن الامتحان على الأقل في فرنسا في أيامنا هذه، على الحياة الجامعية، أي يهيمن ليس على تمثلات الأعوان وممارساتهم فحسب، بل أيضاً على تنظيم المؤسسة واشتغالها، فإن ذاك أمر في
الصفحة 273
منتهى البداهة. إذ كثيراً ما وصف الحصر أمام أحكام الاختبارات التقليدية إن كانت أحكاماً كلية وفظة وغير متوقعة نسبياً، أو وصف الاختلال الملازم لنسق تنظيم العمل المدرسي الذي ينزع في أشكاله الأكثر أنومية إلى ألا يتعرف إلى إثارة غير إثارة الامتحان. وفي الحقيقة الأمر ليس الامتحان فقط أكثر تعابير القيم المدرسية وضوحاً وأكثر اختيارات نسق التعليم المضمرة جدارة بالقراءة.
على اعتبار أن الامتحان يفرض تعريفاً اجتماعياً للمعرفة ولطريقة إظهارها على أنه التعريف الأهل للجزاء الجامعي، فإنه يهب عملية تلقين الثقافة المهيمنة وقيمة تلك الثقافة أحد أنجع أدواته. إن العرف الذي يتكوّن في فقه الامتحانات والذي يدين بالجوهري من سماته إلى الوضعية التي فيها يتشكل يقعد اكتساب الثقافة الشرعية والعلاقة الشرعية بالثقافة قدر ما يقعد إكراه البرامج، إن لم نقل أكثر منها (1).
هكذا على سبيل المثال يتعين التحرير على الطريقة الفرنسية قواعد كتابة ونظم يذيع شأنها إلى أكثر المجالات تنوعاً، ذلك أننا نهتدي إلى إمارة أنهج (طرق) الصناعة المدرسية تلك في منتوج تختلف ألوانها باختلاف التقرير الإداري أو أطروحة الدكتوراه أو المقالة الأدبية. وحتى نتملك ناصية سمات نمط التواصل المكتوب ذاك، والذي يفترض المصحح قارئاً وحيداً، حسبنا مقارنته بـ «النقاش» (Disputatio) بصفته حواراً يدار بين أتراب يدار في حضرة أساتذة والملأ أجمعين، كانت الجامعة في القرون الوسطى تلقن من خلاله منهجاً في التفكير قادراً على أن ينطبق على كل
الهوامش:
(1) تشكل أيضاً تقارير لجان مناظرات التبريز أو مناظرات المدارس الكبرى وثائق مثلى لمن يرغب تملك ناصية مقاييس حسبها تكون هيئة الأساتذة وتصطفي من تخالهم أهلاً الإدامتها: فمواعظ الندوات الكبرى التي تجمع حيثيات الأحكام إنما تختال في إبهام دقتها المعايير التي توجه اختيارات اللجان والتي على تعليم المرشحين أن يقتدي بها.
الصفحة 274
أشكال الإنتاج الفكري وحتى الفني، أو مقارنته بـ (pa-ku-wen)، تلك المقالة ذات السيقان الثمانية، والتي كانت تمثل اختبار المناظرات الرئيس لعهد مينغ (Ming) وبداية عهد «تشينغ» (Ching) والتي كانت للشاعر كما للرسام المثقف مدرسة التهذيب الشكلي، أو مقارنته أيضاً بمقالة (Essay) الجامعات الإنجليزية والتي ليست قواعدها ببعيدة عن قواعد الجنس الأدبي من الاسم نفسه وحيث يتعين مقاربة الموضوع برشاقة وظرف على خلاف المقالة على الطريقة الفرنسية التي عليها أن تفتتح بمقدمة تبسط الإشكالية ب براعة وتألق، لكن بأسلوب مجرد من كل ما جرى علمه ومن كل التأثيرات الشخصية. لعله يتضح أن مختلف نماذج الاختبارات المدرسية، التي هي دوماً منوالات تواصل مقعدة وممأسسة في وقت واحد، تقدم طرازاً نموذجياً للرسالة البيداغوجية، وبصورة أعم لكل رسالة ذات طموح فكري معين (محاضرة كانت أم عرضاً أم خطبة سياسية أم ندوة صحفية) (2). هكذا بوسع ترسيمات التعبير والتفكير تلك الترسيمات التي تنسب على عجل إلى سمة قومية» أو إلى مدارس فكرية أن تحيل في نهاية الأمر إلى المنوالات التي تنظم
الهوامش:
(2) بالإمكان أن نكشف عن آثار البرمجة المدرسية في أقل المجالات توقعاً لما يسأل المعهد الفرنسي للرأي العام (I.F.O.P) الفرنسيين إبداء آرائهم في مسألة تتعلق بمعرفة ما إذا كان تقدم العلم الحديث في مجال الطاقة الذرية سوف يجلب للإنسانية خيراً أكثر من شر أم شراً أكثر من خير، أفليس سبر الآراء شيئاً آخر خلا ضرب من ضروب امتحان وطني يستعيد سؤال القيمة الأخلاقية للتقدم العلمي، وهو سؤال طرح على مرشحي شهادة الدروس التكميلية أو مرشحي البكالوريا أو مرشحي المناظرة العامة ألف مرة بألف صيغة، بالكاد يختلف بعضها عن بعض ؟ ثم أفلا تثير الاختيارات المقترحة للترميز الماقبلي للإجابات (خيره أكثر من شره، أو شره أكثر من خيره، أو على قدر خيره شره الجدلية العديمة القيمة للمقالات ذات المسائل الثلاث. وهي مقالات تتوج عرض أطروحات متشائمة إلى أبعد حد، ثم متفائلة إلى أبعده، لتنتهي بتوليفة هي كالأمهق الزنجي؟
الصفحة 275
تعليماً منصرفاً وجهة نموذج اختبار مدرسي مخصوص (3) : على سبيل المثال بالإمكان ربط الصيغ الذهينة التي تقرن بالمدارس الكبرى الفرنسية، بشكل مناظرات القبول وبصورة أدق بمنوالات النظم أو الأسلوب وحتى النطق أو الصبيب أو الأداء، وهي منوالات تحدد في كل حالة شكل العرض أو الكلام المكتمل. وبصورة أعم من البديهي أن يعزز نهج اصطفاء مثل المباراة، كما بين ذلك، رينان (Renan)، الامتياز الذي يفرغه تقليد الجامعة الفرنسية برمته على مزايا الشكل : «إنه لمؤسف جداً أن تكون المناظرة السبيل الوحيد لبلوغ مهنة التدريس في المعاهد وألا يتأتى للمهارة العملية مقرونة بمعارف كافية لا تفضي إليها. ولسوف يصفف على الدوام أكثر الناس حنكة في التربية، أولئك الذين يأتون وظيفتهم الشاقة ليس بملكات متألقة إنما بذهن وقاظ وقليل من التوان والاحتشام في الاختبارات العمومية، بعد الشباب الذين يجيدون تسلية مستمعيهم وحكامهم، والذين وقد وهبوا سلاسة الكلام للإفلات من الصعوبات، لا يملكون كفاية لأنفسهم لا صبراً ولا جدية للتدريس تدريساً جيداً (4). وإذا كان صحيحاً في كل الحالات أن الامتحان يلقن ويجازي ويصدق ويعبر عن المعايير الملازمة لتنظيم معين للنسق المدرسي ولبنية معينة للحقل الفكري، ومن خلال تلك الوسائط، للثقافة المهيمنة، نفهم أني لمسائل تبدو لا أهمية لها للوهلة الأولى مثل
الهوامش:
(3) سوف نلقى تحليلاً أعمق عن وظيفة الإدماج الفكري والمنطقي التي يؤديها كل نسق تعليم أن يلقن أشكال تعبير مشتركة هي في الوقت نفسه مبادئ تنظيم الفكر المشتركة في:
Pierre Bourdieu, «Systèmes d'enseignement et systèmes de pensée, Revue : internationale des sciences sociales (Paris), vol. 19, no. 3 (1967).
(4) Ernest Renan, «L'Instruction publique en France jugée par les Allemands,» dans: Ernest Renan, Questions contemporaines (Paris: Calmann-lévy, 1968), p. 266.
الصفحة 276
عدد دورات البكالوريا أو اتساع البرامج أو اجراءات التصحيح، تثير مجادلات متحمسة، وذلك من دون أن نتحدث عن المقاومة المغتاظة التي يلقاها كل تساؤل عن مؤسسات تبلور قيماً على قدر القيم التي تبلورها مناظرة التبريز أو المقالة أو تعليم اللاتينية أو المدارس الكبرى.
وبخصوص توصيف أكثر الآثار بروزاً لرجحان الامتحان في الممارسات الفكرية وفي تنظيم المؤسسة، يقترح النسق الفرنسي الأمثلة الأكمل، ويبسط بشدة لا مثيل لها، على سبيل الحالة الحدية، مسألة العوامل الداخلية والخارجية والتي يمكن أن تفسر التغيرات التاريخية أو القومية للثقل الوظيفي للامتحان في نسق التعليم. محصلة ذلك ألا ملجأ إلا المنهج المقارن، إذ تزمع فصل ما كان من أمر الطلبات الخارجية عما كان من أمر طريقة إجابة تلك الطلبات، أو في حالة نسق محدد، فصل ما يعود إلى التوجهات النوعية التي يدين بها كل نسق تعليم إلى وظيفته التلقينية المخصة به عما يعود إلى التقاليد الفريدة لتاريخ جامعي والتي لوظائف اجتماعية لا تختزل كلياً في الوظيفة التقنية للتواصل وإنتاج الأهليات.
إذا كان حقاً، مثلما لاحظ ذلك دوركايم أن ظهور الامتحان الذي كانت العصور القديمة تلك تجهله التي لم تكن تشهد غير مدارس مستقلة ومدرسين مستقلين بل متنافسين حتى، يفترض وجود مؤسسة جامعية، أي هيئة منظمة من مدرسين محترفين تقوم بنفسها على تأبيد نفسها (5)، وإذا كان حقاً أيضاً، وفق تحليل ماكس فيبر أن ما كان لنسق امتحانات متراتبة يصدق أهلية خصوصية ويمنحمنفذاً لدروب خصوصية، ليظهر في أوروبا الحديثة إلا مرتبطاً بتطور
الهوامش:
(5)Emile Durkheim, L'Evolution pédagogique en France, 2 vols. (Paris: Alcan, 1938), vol. 1: Des Origines à la renaissance, p. 161.
الصفحة 277
طلب التنظيمات البيروقراطية التي كانت تزمع جعل أفراد متراتبين يبدل بعضهم بعضاً، مناسبين لتراتبية المواقع الممنوحة (6)؛ وإذا كان حقاً، أخيراً، في الأخير، أن نسق امتحانات يؤمن للجميع التكافؤ الشكلي أمام اختبارات متماثلة تمثل المناظرة القومية شكلها النقي) ويضمن للفاعلين الذين وهبوا ألقاباً متماثلة تكافؤ فرص النفاذ إلى المهنة، كان يرضي مثال البرجوازي الصغير عن الانصاف الشكلي، فإن ثمة أسباباً وجيهة تجعلنا لا نرى في تضاعف الامتحانات، وفي اتساع مداها الاجتماعي، وفي ربو ثقلها الوظيفي صلب نسق التعليم غير تظاهرة فريدة لنزع عام للمجتمعات الحديثة. بيد أن ذلك التحليل لا يحيط علماً إلا بأكثر أوجه التاريخ المدرسي عمومية يفسر مثلاً أن الارتقاء الاجتماعي المستقل عن مستوى التعليم ينزع إلى أن ينصغر كلما تصنع المجتمع وتبقرط (7) ويفرط في ما يدين به اشتغال
الهوامش:
(6)Max Weber, Wirtschaft und Gesellschaft, 2 vols., nouvelle éd. (Köln, Berlin: Kiepenheuer and Witsch, 1956), vol. 2, pp. 735 sq.
(7) في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تشهد الإحصاءات على ارتفاع مستمر لنسبة أعضاء الفئات المسيرة خريجة الجامعات، وخريجة أفضل الجامعات. هو توجه لم يكف عن التفاقم منذ سنوات عديدة : لقد بين وارنر (W. L. Warner) وأبيغلن (J. C. Abegglen) أن 57% من مسيري الصناعة كانوا سنة 1952 أصحاب شهادات من المعاهد» مقابل 37% سنة W. Lloyd Warner and James C. Abegglen, Big Business Leaders in : 1928 انظر America (New York: Harper, [1955]), pp. 62-67.
في فرنسا يبين بحث أجري على عينة ممثلة من وجوه بلغت شأواً في الأنشطة الأكثر تنوعاً، أن 85% منها أكملوا دراسات عليا، وأن %10% من البقية أكملوا دراساتهم الثانوية. انظر:
Alain Girard, La Réussite sociale en France, ses caractères, ses lois, ses effets ([Paris]: Presses universitaires de France, 1961), pp. 233-259.
ويبرهن بحث حديث عن مسيري التنظيمات الصناعية الكبرى، أن 89% من الرؤساء المديرين العامين الفرنسيين (P.D.G) مروا بالتعليم العالي مقابل 85 بالنسبة إلى نظراتهم البلجيكيين، ومقابل 78 بالنسبة إلى نظائرهم الألمانيين والإيطاليين، ومقابل 55 بالنسبة إلى نظراتهم الهولنديين، ومقابل 40 بالنسبة إلى نظرائهم الإنجليز. انظر:
Portrait robot du P.D.G» = européen,>» L'Expansion, no. 24 (novembre 1969), pp. 133-143.
الصفحة 278
الامتحانات ووظيفتها في شكلهما المميز الخاص بنسق التعليم : بسبب العطالة الخصوصية التي تسم المدرسة على وجه الخصوص، إذ تُوَلَّى الوظيفة التقليدية أن تحفظ ثقافة ورثتها من الماضي وتورثها، وإذ تتهيأ على وسائل خصوصية للتأبيد الذاتي، فإنها تكون قادرة على أن تصيب الطلبات الخارجية بإعادة ترجمة ممنهجة إن كانت إعادة الترجمة تلك مطابقة للمبادئ التي تحدد المدرسة باعتبارها نسقاً.
هنالك تكتسب الضرورة التدليلية الماقبلية التي صاغها دوركايم كامل معناها : فيبر (Weber) لما كان يمنح توجهات هيئة الكهنوت المخصة بها مكانتها، في ما كتب في علم اجتماع الدين، يغفل عن أن يأخذ في الحسبان لا ريب لأنه كان يسائل نسق التعليم من زاوية نظر خارجية، أي من زاوية نظر مستلزمات تنظيم بيروقراطي ما يدين به نسق تعليم ما لسمات هيئة من محترفي التعليم هي سمات عابرة للتاريخ وتاريخية أيضاً. وإن من شيء، مثلما كان دوركايم يلاحظ ذلك، إلا ويهدي بالفعل إلى افتراض أن التقليد تثقل موازينه بصورة خاصة على مؤسسة، بحكم الشكل الفريد لاستقلالها النسبي هي مرتهنة أكثر لتاريخها المخص بها على نحو مباشر.
كي يقتنع المرء أن النسق الفرنسي الذي من بين أنساق التعليم الأوروبية كلها يمنح الامتحان الثقل الأكبر، لا يحدد نفسه مثلما يبدو قبالة طلبات الاقتصاد التقنية، حسبه أن يلاحظ أنه يعثر في نسق يبتغي قبل كل شيء، مثل نسق التعليم الصيني في العهد الكلاسيكي، تكوين
الهوامش:
لعله يتعين البحث في جل الدروب الفرنسية، وعلى وجه الخصوص في الدروب الإدارية، عما إذا لم يستتبع تزايد امتيازات متصلة بالألقاب والشهادات وتشفيرها انخفاضاً في الارتقاء الداخلي، أي لم تستتبع ندرة الأطر العليا كانوا قد أخرجوا من الطابور وتكونوا بالممارسة». قد يلفي التناقض بين العمل الصغير والمقام العلي والذي يغشي تقريباً في تنظيم إداري التناقض بين البرجوازية الصغيرة والبرجوازية، نفسه معززاً.
الصفحة 279
موظفي بيروقراطية ريعية، على جل معالم نسق الاصطفاء الفرنسي (8). وإذا كان التقليد الكونفوشيوسي قد أدرك أمثولة مثاله الثقف فرضاً تاماً، فلأنه لم يحصل يوماً أن تماثل نسق مدرسي مع وظيفته الاصطفائية تماثلاً تاماً مثلما تماثل النسق الديواني، ذلك أنه كان يولي تنظيم المناظرات وتشفيرها عناية أكبر من عنايتة لإنشاء المدارس وتكوين الأساتذة. ولعله أيضاً لأن تراتبية النجاحات المدرسية لم تحدد قط التراتبيات الاجتماعية الأخرى تحديداً صارماً إلا في مجتمع كان الموظف فيه جائماً طيلة حياته تحت رقابة المدرسة (9) : إضافة إلى درجات السيرة الأساسية الثلاث حيث مثلما لاحظ ذلك فيبر، كان للمترجمين الفرنسيين معادلة مباشرة مع البكالوريا، والإجازة و الدكتوراه) كان يضاف عدد هائل من الامتحانات الوسطية أو المتكررة أو الأولية (.)، وكانت الدرجة الأولى بمفردها تتضمن عشرة نماذج من الامتحانات. وكان أول ما يُسأل عنه البراني الذي كنا نجهل رتبته عن كم امتحان أجرى ؟ هكذا على الرغم من أهمية تعبد الأسلاف لم يكن عدد الأسلاف ليقرر الرتبة الاجتماعية. وعلى العكس تماماً، إنما الرتبة المحل في التراتبية الإدارية هي التي تخوّل حق الحصول على معبد
الهوامش:
(8) إنها أمثولة الثقف» التقليدية، الذي تنزع التربية الكونفوشيوسية إلى فرضه بالرغم من أنه مثلما يلاحظ ذلك فيبر قد يبدو لنا غريباً كيف أمكن الثقافة مجلس - Salon») (Bildung إن كانت ثقافة على غاية من النقاء، تستند إلى معرفة بكلاسيكيات الأدب أن تتوصل إلى مناصب إداريين مسؤولين عن أقاليم شاسعة. ذلك أنه في الواقع، لم نكن نسوس بالشعر حتى في الصين (.). لقد كانت الجناسات والتضمينات والتلميحات إلى مراجع كلاسيكية وكان ذهن التمحيص الأدبي الصرف يمثل مثالاً لمحادثة القوم المتميزين محادثة كان كل تلميح فيها على الوقائع السياسية منفي، وكان الموظف الصيني يشهد عن ميزته المكانية، بمعنى عن كارزمية بواسطة تصويب أسلوبه الأدبي تصويباً شرعياً : هكذا كانت الميزات Max Weber, Gesammelte aufsätze : التعبيرية تمنح أكبر الأهمية حتى في المذكرات الإدارية zur religionssoziologie, 3 vols., 2nd ed. (Tübingen: Mohr, 1922-1923), pp. 420-421.
(9) المصدر نفسه، ص417
الصفحة 280
للأسلاف بدلاً من الحصول على لويح على غرار الأميين : ذلك أن عدد الأسلاف الذين كان يُسمح التذرع بهم يتبع رتبة الموظف. ثم إن الرتبة ذاتها التي كانت تحتلها آلهة سمي مجمع الأرباب باسمها كانت تتبع رتبة الديواني والي المدينة (10). هكذا تدين أنساق مختلفة كثيراً اختلاف نسق التعليم لفرنسا الحديثة ونسق التعليم للصين الكلاسيكية، بتوجهاتها المشتركة إلى أمر أن لهما أن يجعلا من حاجة الاصطفاء الاجتماعي أتعلق الأمر بحاجة بيروقراطية تقليدية في إحدى الحالتين أو تعلق بحاجة اقتصاد رأسمالي في الحالة الأخرى مناسبة للتعبير كلياً عن الجنوح الأستاذي تحديداً إلى الترفيع إلى أقصاها في القيمة الاجتماعية للميزات الأنسانية وفي الأهليات المهنية التي تنتجها تلك الأنساق وتراقبها وتصدقها (11).
بيد أنه حتى نفسر بشكل كامل أن النسق الفرنسي استطاع، إن جاز لنا القول الإفادة على نحو أفضل من الأنساق الأخرى من الحظوظ التي كان توافرها له حاجة الاصطفاء الاجتماعي والتقني بما هي سمة المجتمعات الحديثة ابتغاء أن يبلغ منتهى منطقها الخاص يتعين أن نأخذ في الحسبان أيضاً الماضي المفرد للمؤسسة المدرسية التي تتجلى استقلاليتها موضوعياً في المهارة على إعادة ترجمة وعلى إعادة تأويل، في لحظات التاريخ كلها الطلبات الخارجية على
الهوامش:
(10) المصدر نفسه، ص404 -405.
(11) يشكل النسق الديواني حالة مفضلة إن كانت الدولة تمنحه وسائل تغليب تراتبياته الخصوصية علناً هنا تظهر المدرسة في لبوس قانون مشفر وفي لبوس أيديولوجيا معلنة نزوعاً إلى استقلالية معايير مدرسية لا تعبر عن نفسها في موضع آخر إلا في لبوس عرف وغير إعادة تأويل وعقلنة عميمتين وما من شيء، حتى وظيفة الشرعنة المدرسية للامتيازات الثقافية الموروثة، لم يلبس في تلك الحالة شكلاً قانونياً. ذاك النسق الذي كان يطمح إلى أن يجعل القانون تبعا لصلوات الاستحقاق الشخصي فقط، يشهد الامتحان لها بذلك، كان يستبقي جهرة لأبناء الموظفين من ذوي الرتب العليا حقاً مأثوراً بأن يكون مرشحاً.
الصفحة 281
مقتضى القيم الموروثة من تاريخ هو نسبياً مستقل، وإن ليس بوسع النسق الفرنسي، على خلاف النسق الديواني، فرض الاعتراف بتراتبية القيم المدرسية على أنها مبدأ رسمي لكل التراتبيات الاجتماعية ولكل تراتبية للقيم، فإنه ينجح في منافسة مبادئ التراتب الأخرى، وذلك كلما يمارس فعله الذي يقضي بتلقين قيمة التراتبيات المدرسية على فئات مهيأة اجتماعياً للاعتراف بسلطان المؤسسة البيداغوجي. وعلى الرغم من أن الإيمان الذي يمنحه الأفراد التراتبيات المدرسية والتعبد المدرسي للتراتب، ليسا في حل من كل صلة بالرتبة في تراتبيات تمنحهم إياها المدرسة، فإن ذاك الإيمان يتبع بصورة خاصة، من جهة نسق القيم الذي يدينون به إلى طبقتهم الاجتماعية الأصلية (إن القيمة المعترف بها للمدرسة في ذاك النسق هي عينها رهن درجة ارتباط مصالح تلك الطبقة بالمدرسة)، ومن جهة أخرى يتبع درجة تبعية قيمتهم في السوق ومنزلتهم الاجتماعية الضمانة المدرسية. عندئذ نفهم أن النسق المدرسي لا ينجح نجاحاً باهراً في فرض الاعتراف بقيمته وبقيمة ترتيباته إلا في حالة يمارس فيها فعله على طبقات اجتماعية أو شرائح طبقية لا تستطيع بأي مبدأ تراتب منافس له صداً : هاهنا تكمن إحدى الأواليات التي تمكن المؤسسة المدرسية من جلب الطلاب سليلي الطبقات المتوسطة أو سليلي الشريحة المثقفة البرجوازية الكبرى إلى درب التعليم أن تصرفهم عن التطلع إلى الارتقاء في تراتبيات أخرى مثل تراتبية المال أو السلطة، وعن الاستفادة في المناسبة ذاتها من الغنيمة الاقتصادية والاجتماعية من ألقابهم المدرسية. تلك الاستفادة التي يغنم بها الطلاب أبناء البرجوازية الكبيرة، إن كانوا أفضل منزلة حتى يُنسبوا الأحكام المدرسية (12). ما من شك عندئذ أن يكون الاحتجاج على الشرط المادي
الهوامش:
(12) بهذا المنطق يتعين قراءة إحصاءات الدخول إلى مدارس مثل دار المعلمين العليا أو المدرسة القومية للإدارة وفق الفئة الاجتماعية الأصلية ونجاحات المترشحين المدرسية السالفة. ويرشح من بين ما يرشح من البحث قيد التحليل حالياً حول تلامذة جملة المدارس الكبرى الفرنسية، هو إن كان لكل من دار المعلمين العليا وللمدرسة القومية للإدارة تقريباً بالدرجة نفسها، انتداب أقل ديمقراطية بكثير من انتداب الكليات، ولا سيما أننا لا نعثر تباعاً إلا على 5,8 و 2,9 من الطلاب سليلي الطبقات الشعبية مقابل مثلا 22,7 في كلية الآداب و 17.1% في كلية الحقوق فإن فئة الطلاب سليلي الطبقات المحظوظة، وهي فئة أغلبية بسعة (66,8% في دار المعلمين العليا، 72,8 في المدرسة القومية للإدارة تكشف عن تباينات في مستوى تحليل أكثر دقة : يمثل أبناء الأساتذة %18.4% من تلامذة دار المعلمين العليا مقابل 9 في المدرسة القومية للإدارة، ويمثل أبناء كبار الموظفين 10,9% من تلامذة المدرسة القومية للإدارة مقابل 4,5% من تلامذة دار المعلمين العليا. من جهة أخرى، يشهد التاريخ المدرسي لتلامذة المدرستين أن الجامعة تنجح أكثر في توجيه التلامذة وجهة الدراسات التي فيها يهتدون إلى أنفسهم (مثلا دار المعلمين العليا بقدر ما يكون نجاحهم المنصرم (مقاساً بعدد الدرجات المشرفة التي تحصلوا عليها في البكالوريا) أوضح للاطلاع على تحليل أعمق انظر :
Pierre Bourdieu [et all le Système des grandes écoles et la reproduction des classes dominantes.
وهو قيد النشر.
الصفحة 282
والاجتماعي الذي جعل للأساتذة، أو التشهير» المر والمجامل بما يأتيه السياسيون والمتمخلون فساداً وارتشاء يعبر، في مقام الاستنكار الأخلاقي عن تمرد الأطر الثانوية، أو هو تمرد وسائل التعليم على مجتمع عاجز عن أن يوفي بديونه كلياً للمدرسة، أي لأولئك الذين يدينون بكل شيء إلى المدرسة بما في ذلك اليقين بأن على المدرسة أن تكون مبدأ كل تراتب اقتصادي واجتماعي. أما لدى الأطر العليا للجامعة، فإن يوتوبيا اليعقوبية التي تقضي بنظام اجتماعي فيه يجازى كل امرئ جدارته، أي وفق رتبته المدرسية، تتعايش دوماً مع زعم الارستقراطية بألا يعترف بقيم أخرى إلا قيم المؤسسة التي هي الوحيدة المؤهلة للاعتراف اعترافاً تاماً بقيمهم، مثلما تتعايش مع الطموح السداغوجي الأوتوقراطي الذي يقضي باخضاع كل أفعال الحياة المدنية والسياسية للسلطة المعنوية للجامعة، باعتبارها شكلاً استعاضياً لحكومة رجال الدين (13).
الهوامش:
(13) مع أن هذا التحليل لا يبسط ألا بعضاً من الربط التي توحد سمات الممارسة وأيديولوجيا الأساتذة بأصلهم الطبقي وبانتمائهم الطبقي وبمنزلتهم داخل المؤسسة المدرسية وداخل الحقل الفكري، فإنه من المفترض على غرار التحليل الذي سوف نلقاه لاحقاً أن يفي بغرض التحذير (الفصل 4، ص 351-357 من هذا الكتاب من إغواء أن تتخذ التوصيفات الآنفة للممارسة المهنية لأساتذة الفرنسية الفصل (2) تحليلات ماهوية.
Durkheim, L'Evolution pédagogique en France, vol. 2. De la 14) نظر( renaissance à nos jours, pp. 69-117, et Georges Snyders, La Pédagogie en France aux XVIIe et XVIIIe siècles, bibliothèque scientifique internationale. Section pédagogie (Paris: Presses universitaires de France, 1965. (
الصفحة 283
يتضح إنى استطاع النسق الفرنسي العثور في الطلب الخارجي لـ «نتاجات متماثلة ومضمونة ولها قابلية أن يبدل بعضها بعضاً، مناسبة لتأبيد تقليد المنافسة من أجل المنافسة أن يردها تقوم على خدمة وظيفة اجتماعية أخرى بالإحالة إلى مصالح طبقات اجتماعية أخرى وإلى مثلها، وهو تقليد موروث من المعاهد اليسوعية في القرن الثامن عشر التي كانت تجعل من الامتحان الأداة المفضلة لتعليم منذور إلى الشباب الأرستقراطي (14). وما زالت الجامعة الفرنسية تنزع إلى تعدي الوظيفة التقنية للمناظرة لتنشئ في رصانة داخل قسط المتقدمين الذين يطلب منها انتخابهم، تراتبيات أقيمت على أرباع نقاط زهيدة لاوزونة، لكنها مع ذلك مصيرية: أفلا ننظر إلى الثقل الذي تمنحه دنيا الجامعة في تقديراتها التي غالباً ما تكون مثقلة بتبعات مهنية، إلى الرتبة المتحصل عليها في مناظرات قبول أجريت في نهاية المراهقة أو حتى إلى ميزة «المجل» أو الأول»، إن كان رأس تراتبية هي ذاتها أحلت في تراتبية التراتبيات هي تراتبية المدارس الكبرى والمناظرات الكبرى. لقد كان ماكس فيبر يلاحظ أن التعريف التقني للمراكز البيرقراطية التي للإدارة لم يكن يتيح فهم كيف استطاعت المناظرات الديوانية التي تجعل للشعر مكانة كتلك المكانة، بغض النظر عن التقليد الكونفوشيوسي بخصوص النبيل الثقف. كذلك، إذا أريد فهم أنى استطاع مجرد طلب لاصطفاء مهني فرضته
الصفحة 284
ضرورة اختيار الأمهر كي يحلوا في مراكز متخصصة عددها محدود، أن يُبرّر ديانة التراتب الفرنسية على نحو نموذجي، يقتضي الأمر إحالة الثقافة المدرسية إلى الفضاء الاجتماعي حيث تشكلت، أي إلى ذاك الحقل المحمي والمنغلق بوساطة تنظيم منهجي للمنافسة يقمطها، وبوساطة انشاء تراتبيات مدرسية كانت رائجة في اللعب كما في العمل ؛ حقل كان اليسوعيون فيه ينحتون الإنسان المتراتب Homo) (hierarchicus ناقلين بذلك إلى مقام النجاح العلي والمأثرة الأدبية والزهو المدرسي، تعبد العزة» الأرستقراطية.
غير أن التفسير بالفلاح لا يفسر شيئاً إن لم نفسر لماذا يبقى الفلاح ينشئ الوظائف التي تؤديها في الاشتغال الراهن لنسق التعليم وأن يرى الشروط التاريخية التي تجيز ظهور توجهات نوعية وتشجعها، يدين بها النسق إلى وظيفته المخصة به في ما يتعلق بتفسير الأهلية الخصوصية بالكامل التي للنسق الفرنسي أن يقضي تراتبيات ويفرضها حتى في ما وراء أحيزة نشاط مدرسية تحديداً، وأحياناً ضد الطلبات المبرأة أكثر من بقية الطلبات التي يفترض به أن يجيبها، لا يسعنا ألا أن نلاحظ أنه يمنح زيادة إلى حد الآن في بيداغوجيته وامتحاناته، وظيفة رئيسة إلى التأييد الذاتي والحماية الذاتية لهيئة كانت امتحانات الجامعة القروسطية تخدمها بشكل أكثر علنية؛ وهي امتحانات حددت كلها بالإحالة للانتساب إلى الهيئة أو إلى الدرب الذي يفضي إليها، بدءاً بالبكالوريا (الشكل الأدنى للبداية (Inception)) وانتهاء إلى إجازة التدريس docendi بما Inceptio التي تطبعها البداية Maîtrise والأستاذية Licentia هو حفل انتساب إلى الطائفة بصفة أستاذ (15). ولكي نتملك ناصية
الهوامش:
(15) تفيض المقاومة في وجه كل محاولة فصل اللقب الذي يجازي الانتهاء من مرحلة دراسات معينة عن حق الدخول إلى المرحلة العليا، مثلما يتضح ذلك في الخصومة حول البكالوريا، عن تمثل لـ «السيرة» منظوراً إليها مساراً ذا اتجاه خطي ينتهي في شكله المكتمل إلى التبريز، ويمكن للإباء المغتاظ أن يمنح الألقاب الرخيصة، وهو إباء ينزع حديثاً إلى اقتراض الخطاب الذي يقول بتكيف الجامعة مع منافذ الشغل، أن يتحالف من دون عناء مع أيديولوجيا تقليدانية تزعم سحب مقاييس الضمانة الجامعية تحديداً على كل شهادة مهارة بغية صون وسائل ابتداع الندرة الجامعية ومراقبة شروطها. إن غلبة أيسر الطرق هي غلبة شديدة إلى حد تعجز الدروب الجامعية كلها وعدد من الدروب التي لا تتبعه إلى آخر المطاف، بمقتضى هذا المنطق، على أن تعرف نفسها إلا بـ تعبيرات الحرمان. لذلك، فإن نسقاً كذاك النسق، ماهر بصورة خاصة على إنتاج محبطين»، لفظتهم جامعة قضت عليهم بأن يصونوا علاقة بها مزدوجة.
الصفحة 285
بالدور الذي لعبته معاهد القرن الثامن عشر، حسبنا أن نلاحظ أن جل الأنساق الجامعية قطعت كلياً مع التقليد القروسطي أكثر مما قطع النسق الفرنسي معه، أو أي من الأنساق الأخرى مثل النسق النمساوي أو النسق الإسباني أو النسق الإيطالي؛ وهي أنساق عرفت التأثير البيداغوجي لليسوعيين مثلما عرفه النسق الفرنسي : ولئن استطاع نسق التعليم الفرنسي إنجاز نزوعه النوعي إلى الاستقلالية إلى حد إناطة كامل اشتغاله بمستلزمات التأبيد الذاتي، فلأن اليسوعيين وهبوه وسائل ناجعة عله يفرض بها تعبد المدرسية للتراتبية ولتلقين ثقافة استكفائية قدَّت عن الحياة (16). ولقد لقي ذاك النزوع إلى
الهوامش:
(16) لا ريب في أن جل الفروقات النظامية وبين المزاج الفكري للبلدان الكاثوليكية التي وسمها بتأثيره، والمزاج الفكري للبلدان البروتستانتية إنما تتصل بتعليم اليسوعيين، كما لاحظ ذلك (F. Renan): لقد قلدت جامعة فرنسا بإفراط اليسوعيين مثلما قلدت خطبهم الباهتة وشعرهم اللاتيني. إنها تذكر كثيراً بخطباء البلاغة لعهد الانحطاط. أما أن البلية الفرنسية التي هي بحاجة إلى التشدق والنزوع إلى تنكيس كل شيء إلى إنشاد، فإن جزءاً من الجامعة يصونه بإصرارها على ازدراء جوهر المعارف وبألا تقدر خلا الأسلوب والموهبة. انظر :
Renan, «L'Instruction publique en France jugée par les Allemands,» pр. 79.
إن أولئك الذين يلحقون من دون وساطة، السمات السائدة للإنتاج الفكري لأمة ما بالقيم الدينية المهيمنة مثل الانتصار للعلوم التجريبية أو للتبخر في فقه اللغة بالديانة البروتستانتية أو إلحاق الميل إلى علم الأدب بالديانة الكاثوليكية، ينسون تحليل الأثر البيداغوجي تحديداً لإعادة: الترجمة يأتيه نموذج تنظيم مدرسي محدد. و إذ يرى رينان في التعليم المدعي الإنسانوي لليسوعيين وفي الروح الأدبية التي يحض عليها، أحد أوجه نمط التفكير والتعبير الجوهرية للمثقفين الفرنسيين، يبين التبعات التي أعقبها في الحياة الفكرية الفرنسية القطيعة التي أحدثها نقض مرسوم نانت (Nantes). لقد حطم ذاك المرسوم الحركة العلمية التي كانت قد انطلقت في النصف الأول من القرن السابع عشر وقتل دراسات النقد التاريخي : ولما كان الفكر الأدبي محضًإ عليه دون سواه، فلقد نتج من ذلك ضرب من العبث. لقد كان لهولندا ولألمانيا تقريباً احتكار الدراسات العلمية احتكار هو في جزء منه بفضل مغتربينا، وقد تقرر مذ ذاك أن تكون فرنسا قبل كل شيء أمة رجال فكر، أمة تكتب جيداً وتتحدث أحسن حديث لكنها أدنى معرفة بالأشياء ومعرضة لكل أنواع الخفة التي لا تجتنبها إلا باتساع التعليم ورشد الحكم. انظر : المصدر المذكور، ص 79.
الصفحة 286
الاستقلالية الشروط الاجتماعية لملء تحققه على سبيل أنه التقى مصالح البرجوازية الصغيرة ومصالح شرائح مثقفة من البرجوازية كانت قد وجدت في أيديولوجيا اليعقوبية التي تقول بالمساواة الشكلية بين الحظوظ، تعزيزاً لتلهفهم المفرط لكل ضروب المحسوبية» أو ضروب المحاباة»، وعلى سبيل أيضاً أنه تأتى له التوكل على البنية الممركزة لبيروقراطية الدولة التي لما نادت بذيوع الامتحانات والمناظرات القومية الخاضعة لتصحيح براني ولا اسمي إنما كان يهدي المؤسسة المدرسية أفضل فرصة لأن يعترف لها باحتكار انتاج تراتبية موحدة وفرضها، أو على الأقل تراتبيات يمكن اختزالها في المبدأ نفسه (17).
الهوامش:
(17) في مجال التعليم أيضاً كان الفعل الممركز للثورة وللإمبراطورية يطيل توجهاً كان قد بدأ في ظل الملكية وينهيه : زيادة عن المناظرة العامة التي أنشئت منذ القرن الثامن عشر، والتي مدت على المستوى القومي المسابقة التي كانت تجرى في كل معهد يسوعي وكانت تصدق أمثولتهم الإنسية عن الدراسات الأدبية، كان التبريز الذي أعاد إقراره أمر 1808، قد أقر منذ سنة 1766 في شكل وبدلالة قريبين جداً من شكلها ودلالتها الحاليين. وإذا كانت وقائع كتلك الوقائع وعلى نحو أعم، إذا كان كل ما هو من أمر التاريخ المخص بنسق التعليم مجهولة تقريباً باستمرار، فلكونها كانت تكذب التمثل المشترك الذي إن يختزل المركزة الجامعية في وجه من وجوه المركزة البيرقراطية يرغب في أن يدين النسق الفرنسي بأكثر سماته دلالة إلى المركزة البونابارتية : لما نغفل عما يدين به نسق التعليم لوظيفة التلقين المخصة به، نجهل أسس معايرة الرسالة وأدوات إبلاغها ووظائفها البيداغوجية تحديداً (مجانسة بيداغوجية يمكن كشفها حتى في أكثر الأنساق لا مركزية إدارياً مثل النسق الإنجليزي)، وبشكل أدق، نقول إننا نمتنع عن تملم ناصية وظيفة المسافة المرعية عن علم حيال البيروقراطية الجامعية وأثرها البيداغوجيين تحديداً، وهما جزء لا يتجزأ من كل ممارسة بيداغوجية وبوجه خاص من البيداغوجيا التقليدية على الطريقة الفرنسية : هكذا على سبيل المثال لم تجز المؤسسة وتؤثر الحريات البادية والمختلفة إزاء البرامج الرسمية أو التبرم المتفاخر من الإدارة ومن اختصاصاتها، وبوجه أعم كل الطرق التي قوامها جني غنائم كارزمية من ازدراء الإدارة، إلا لكونها تسهم في إثبات السلطان البيداغوجي الضروري لإنجاز التلقين وفرضه، ولكونها في الوقت نفسه تجيز للمدرسين استعراض بأقل التكاليف العلاقة المثقفة بالثقافة.
الصفحة 287
إن المناظرة في المنظومة الفرنسية هي الشكل المكتمل للامتحان الذي تنزع الممارسة الجامعية دوماً إلى مقاربته على أنه مناظرة)، وتمثل مناظرة انتداب أساتذة الثانوي، ومناظرة التبريز إضافة إلى امتحانات الاختيار المستبقة تلك المتمثلة في المناظرة العامة (*) ومناظرة الدخول إلى دار المعلمين العليا، الثالوث النموذجي حيث تهتدي الجامعة على ذاتها كلياً، وحيث ليست كل مناظراتها وكل امتحاناتها سوى إفاضات إلى حد ما غير مباشرة أو نسخ إلى حد ما ممسوخة (18) تقريباً. إن طموح الهيئة الجامعية إلى فرض الاعتراف الكوني بقيمة الألقاب الجامعية، وبوجه خاص فرض الغلبة المطلقة لذاك اللقب الأعلى ألا وهو التبريز، لا يرى البتة أفضل مما نرى الا في فعل جماعات (زمر ) ضغط، ليس مجتمع المبرزين إلا التعبيرة الأقل خلسة لها، قد أفلحوا في تأمين لذاك اللقب المدرسي أن كان لقباً مدرسياً صرفاً، اعترافاً له، لا يقارن
الهوامش:
(*) هي مباراة معدة لأفضل تلامذة المعاهد تنظم بعد النجاح في السنة السابعة ويبتغي منها التلامذة الحصول على أفضل ترتيب بحسب الشعب على مستوى فرنسا من بين أفضل التلامذة.
(18) اتذكر أني قلت إلى الجنرال المستقبلي لشاري (Charry) وقد كنت أرجع له فرضاً، هاك نسخة جديرة بالتبريز انظر:
Raoul Blanchard, Je découvre l’université ; Douai, Lille, Grenoble (Paris: A. Fayard, [1963]), p. 135.
الصفحة 288
بتعريفه القانوني وتتأكد المردودية المهنية لألقاب المبرز وللتلاميذ السلاف لدار المعلمين العليا في الحالات كلها، وهي كثيرة، حيث تتخذ تلك الألقاب معايير غير رسمية للتزامل : من بين أولي أو الإجازات في المحاضرة من كليات الآداب، هناك ما يناهز 15% (من دون الحديث عن المساعدين والأساتذة المساعدين، المقدرين بـ 48 من هيئة المدرسين لم يتحصلوا على الدكتوراه، وهي رتبة لازمة نظرياً، بينما عملياً هم جميعهم مبرزون، من بينهم 23% من خريجي دار المعلمين العليا. وإذا كان الإنسان الأكاديمي Homo) (academicus بامتياز خريج دار المعلمين العليا، المبرز، الدكتور أي أستاذ السوربون بالفعل أو بالقوة، فلكونه يراكم كل الألقاب التي تعرف الندرة التي تنتجها الجامعة وتعد بها وتصون. ثم إنه ليس من قبيل المصادفة، أن تكون المؤسسة الجامعة بمناسبة امتحانات التبريز، كما لو أنه استولى عليها نزعها إلى إعادة تأويل الطلب الخارجي، قادرة على الوصول إلى حد نكران محتوى ذاك الطلب : ليس من النادر بغية اتقاء التهديد الأبدي بتدني المستوى» أن تواجه لجنة التبريز ضرورة تزويد كافة المراكز المعروضة، ضرورة أحس منها تدخلاً مدنساً، بلزوم الجودة اتقاء التهديد الأبدي بتدني المستوى أن تنشئ، إذا صح القول، مقارنة بالسنوات السالفة، مناظرة المناظرات هي مناظرة قادرة على تقديم نموذج المبرز، أو بتعبير أفضل قادرة على تقديم جوهر المبرز، حتى لو أدى الأمر إضافة إلى ذلك إلى الامتناع عن الوسائل المطالب بها، لتأبيد الجامعة الحقيقية باسم مستلزمات التأبيد الذاتي للجامعة المثالية (19).
الهوامش:
(19) يعبر هاجس حفظ الاستقلالية المطلقة للتراتبيات المدرسية وإظهارها بألف مؤشر ومؤشر سواء تعلق الأمر بالمنزع إلى منح الإعداد المسندة قيمة مطلقة ( مع استعمال للأعشار مدفوع إلى حد العبث)، أو تعلق بالمنزع الثابت إلى مقارنة الأعداد والمعدلات وأفضل الفروض وأسوأها =
الصفحة 289
ولكي نفهم الدلالة الوظيفية للتبريز فهماً تاماً، يتعين إرجاع تلك المؤسسة إلى موقع صلب نسق تحولات أصابت الامتحانات، أو على نحو أدق، صلب نسق تشكله تلك الامتحانات : فإذا كان حقاً أن في نسق مدرسي تهيمن عليه وظيفة التأبيد الذاتي، تناسب الدرجة المثلى التي للامتحان الذي يمنح أكثرهم تمثيلاً للمهنة، دخول نظام التعليم بصفة أستاذ، أي دخول التعليم الثانوي، فإن تبعة ذلك أن القيمة الموقعية للامتحان تؤوب بامتياز في أي ظرفية تاريخية كانت، في الوقائع كما في الأيديولوجيا إلى الامتحان الذي يحل بالمنزلة التي ترمز أفضل من سواه إلى تلك الوظيفة أن كانت على التوالي الدكتوراه، ثم الإجازة، وأخيراً التبريز الذي على غلبة الدكتوراه ظاهرياً يدين ليس فقط بشحنته الأيديولوجية، إنما أيضاً بثقله داخل تنظيم الدروب، وعلى نحو أسم داخل أشغال الجامعة (20)، إلى
الهوامش:
=من سنة إلى أخرى. ليكن مثلاً هذا الكلام الذي يقفي في تقرير لمناظرة تبريز نحو الإناث، والذي يلي جدولاً عن المراكز المعروضة، وعن المرشحات والمقبولات منذ سنة 1955 إلى سنة 1959 (حيث يتضح أن عدد المقبولات أدنى دوماً بالنصف من عدد المراكز المتناظر عليها)، وعن معدلات محسوبة بالعشر الثاني لأولى المرشحات ولآخر المرشحات ولأولى المبرزات ولآخر
المبرزات : «لا يمكننا القول إن اختبارات تلك المباراة تترك انطباعاً متحمساً (.)، فمناظرة سنة 1959 لم تخلف منحنا نصوصاً في المعرفة أو في الثقافة، لذيذة. وترسم تلك الأرقام عينها مع ذلك انحداراً لا يثير في النفس شيئاً (.). ولم تشهد معدلات آخر المرشحات، ومعدلات آخر المقبولات منذ سنة 1955 نقاطاً أدنى مما هي عليه (.). ولم تتبين لنا إطالة القائمات (قائمات المقبولات)، فرضها سوء الأزمان إطالة شرعية إلا بسبب أزمة انتداب لا تصيب فقط العاصمة الفرنسية. إنه لمثير للخشية أن يجر قانون العرض والطلب في لعبته القاسية ضرباً من انحطاط في المستوى، له قابلية إفساد حتى الذهن من الدرجة الثانية. من اليسير مضاعفة الاستشهادات من نصوص مماثلة لهذه، كل كلمة من كلماتها إجمال للأيديولوجيا الجامعية كلها.
(20) نقد سبق أن صرف دوركايم الانتباه إلى فرادة بلدنا هذه: «لقد امتص التعليم الثانوي تقريباً في داخله درجات التعليم الأخرى وشغل تقريباً المكان كله سواء بوساطة أشكال التنظيم التي كان يفرضها أو بوساطة الفكر الذي كان يشيعه انظر :
,Durkheim L'Evolution pédagogique en France, vol. 1: Des Origines à la renaissance, pp. 23-24, 137 et passim.
الصفحة 290
روابطه بالتعليم الثانوي، وإلى خاصيته إن كان مناظرة انتداب. وما من شيء إلا ويجري كما لو أن النسق كان قد استخدم الإمكانات الجديدة التي تمنحها إياه كل حالة جديدة من نسق الامتحانات هي حالة ولدت من تضعيف امتحان قائم ابتغاء التعبير فيه عن الدلالة الموضوعية عينها.
أن نعتبر حال الجامعة الراهن عاقبة حدثية لتتابع أحداث متنافرة ومتقطعة، فيه يوري الوهم الاستردادي دون سواه أثر تناغم معد سلفاً بين النسق ووصية التاريخ، معناه أن نجهل ما يلزم عن الاستقلالية النسبية التي لنسق التعليم : ذلك أن تطور المدرسة لا يتبع قوة الإكراهات الخارجية فقط، إنما أيضاً تناسق بناه، أي يتبع سواء قوة المقاومة التي يقدر النسق مواجهة الحدث بها، أو تع سلطته على اصطفاء الصدف والتأثيرات وإعادة تأويلها طبقاً لمنطق مبادئه العامة مسماة منذ أن تتكفل مؤسسة مختصة تسهر عليها هيئة من المختصين بوظيفة تلقين ثقافة ورثت من الماضي على هذا النحو يبدو تاريخ نسق مستقل نسبياً باعتباره تاريخ أفعال نسقنة يصيب بها النسق الإكراهات والتجديدات التي تعترضه طبقاً للمعايير التي تحدده باعتباره نسقاً (21).
الامتحان والإقصاء من دون امتحان
كان يتعين الاعتراف لنسق التعليم باستقلالية يطلبها وينجح في الإبقاء عليها قبالة الطلبات الخارجية ابتغاء فهم سمات اشتغال هي له
الهوامش:
(21) لا يطمح هذا التحليل للنسق الفرنسي إلى شيء آخر إلا ان يُنير بنية فريدة لعوامل داخلية وخارجية تتيح أن تفسر في الحالة الخاصة، ثقل الامتحان ومنوالاته، يقتضي الأمر أن ندرس آنى في سياقات تاريخية قومية للنسق الجامعي، تحدد تشكلات عوامل مختلفة نزوعات أو توازنات مختلفة.
الصفحة 291
من وظيفته المخصة به. غير أنه لولا أن نأخذ تلك تصريحاته على محمل الجد، نعرض أنفسنا إلى أن نُفرّط في الوظائف الخارجية، وعلى وجه الخصوص نفرط في الوظائف الاجتماعية التي يوفيها دوماً، علاوة على ذلك، الاصطفاء والتراتب الاجتماعيان، حتى إذ تبدو خاضعة حصرياً إلى المنطق إن لم نقل إلى وصامة (Pathologic) نسق التعليم المخصين بنسق التعليم هكذا على سبيل المثال تسهم باستمرار تعبد التراتبية، الذي هو في ظاهره تعبد مدرسية محض، في الدفاع عن التراتبيات الاجتماعية وشرعنتها، على سبيل أن التراتبيات المدرسية، أتعلق الأمر بتراتبية الدرجات والألقاب أو بتراتبية المنشآت والاختصاصات تدين دوماً بشيء ما إلى التراتبيات الاجتماعية التي تنزع إلى إعادة - إنتاجها (بمعنيي الكلمة). يتعين عندند المساؤل إذا ما كانب الحرية التي ترتب لسق التعليم أن تجعل راجحة مستلزماته المخصة به وتراتبياته المخصة به ظهيرة على أكثر حاجات النسق الاقتصادي مبرأة مثلاً، ليست المقابل، لخدمات معتم عليها يقدمها لبعض الطبقات أن يواري الاصطفاء الاجتماعي تحت مظاهر الاصطفاء التقني، وشرعنة إعادة إنتاج التراتبيات الاجتماعية عبر تحويل التراتبيات الاجتماعية، تراتبيات مدرسية.
وفي واقع الأمر، لكي نرتاب في أن وظائف الامتحان لا تختزل في الخدمات التي يقدمها للمؤسسة، وأيضاً في التشجيعات التي يمنحها للهيئة الجامعية، حسبنا أن نلاحظ أن أولئك الذين هم، في مختلف مراحل المسيرة المدرسية مقصيين من الدراسات، يقصون أنفسهم حتى قبل امتحانهم، وأن نسبة أولئك الذين نكر إقصاءهم كذلك الاصطفاء الجاري رأي العين، إنما تختلف بحسب الطبقات الاجتماعية. إن التفاوتات بين الطبقات لا يضاهيها شدة تفاوت، في البلدان جمعاء، إذ نقيسه بـ احتمالات العبور (محسوبة انطلاقاً من نسبة الأطفال الذين يبلغون بدرجات نجاح متعادلة في كل طبقة
الصفحة 292
اجتماعية، مستوى مسمى من التعليم) (22) إلا إذا قسناها باحتمالات النجاح.
وهكذا، لتلامذة ذوي درجات نجاح متساوية، أصيلي طبقات شعبية، حظوظ أن يُقصوا أنفسهم من التعليم الثانوي أن يعدلوا عن دخوله أكثر من حظوظهم أن يُقصوا منه بعد أن يكونوا قد دخلوه وبالأحرى أكثر من حظوظهم أن يقصيهم جزاء عاجل المتمثل بما فشلوا في الامتحان (23). زد على ذلك، أن لأولئك الذين لا يقصون
الهوامش:
(22) مع أن نسبة النجاح المدرسي ونسبة الدخول إلى السنة السادسة يتبعان بشكل الصيق بالطبقة الاجتماعية، يُعزى التفاوت الإجمالي لنسب الدخول إلى السنة السادسة إلى دار له نزل إلى الي السادية بنسب قبل مصارية أكثر مما يرى إلى تشارت الدباع Alain Girard et Paul Clerc, «Nouvelles données sur l'orientation : المدرسي. انظر scolaire au moment de l'entrée en sixième,» Population, vol. 19, no. 5 (october-décember 1964), p. 871.
كذلك تبين احصاءات المرور من مرحلة إلى أخرى بحسب الأصل الاجتماعي والنجاح المدرسي أن الإقصاء بالمعنى الحرفي للكلمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وبالنسبة إلى Robert J. Havighurst and Bernice L. Neugarten :إنجلترا ليس صنيع المدرسة انظر
Society and Education (Boston: Allyn and Bacon, 1962), pp. 230-235.
(23) انظر:
R. Ruiter, «The Past and Future Inflow of Student into the Upper Levels of Education in the Netherlands,» (Organisation de coopération et de développement économiques, DAS/EIP/63), and J. Floud, «Rôle de la classe sociale dans l'accomplissement des études, et T. Husén, «La Structure de l'enseignement et le développement des aptitudes,» p. 132, Papers Presented at: Aptitude intellectuelle et éducation, exposés de J. Ferrez [et al.]; textes réunis par A. H. Halsey, rapport sur la conférence organisée par le bureau du personnel scientifique et technique, en collaboration avec le ministère suédois de l'éducation nationale, à Kungälv, Suède, du 11 au 16 juin 1961 (Paris: Organisation de coopération et de développement économiques, 1962).
انظر الأخير حيث يضم الجدول الذي يستعرض نسبة التلامذة في السويد غير المرشحين للتعليم الثانوي بحسب اللأصل الاجتماعي والنجاح المنصرم.
الصفحة 293
أنفسهم عند عبورهم من مرحلة إلى أخرى حظوظاً أكثر لدخول تخصصات منشآت أكانت أم شُعباً بها تربط أهزل الحظوظ لبلوغ المستوى العالي من المسيرة، بحيث يبدو الامتحان لهم مقصياً، لا يأتي في جل الأحيان غير المصادقة على ذاك الضرب الآخر من الإقصاء الذاتي الاستباقي الذي يشكل التدني في اختصاص من الدرجة الثانية بالنسبة إليه، إقصاء مؤجلاً.
إن التناقض بين المقبولين» و «الراسبين يمثل مبدأ لوهم في المنظور حول نسق التعليم باعتباره سلطة اصطفاء : إن ذاك التناقض بين المجموعتين الجزئيتين وقد اقتطعهما اصطفاء الامتحان داخل مجموع المترشحين، الذي أسس على تجربة مترشح راهنة أو محتملة مباشرة أو موسطة حاضرة أو سالفة، ويخفي الرابطة بين تلك المجموعة ومتممتها أي مجموعة غير المترشحين)، فيستبعد من ثمة كل تساؤل عن المقاييس المخفية لانتخاب أولئك الذين من بينهم يأتي الامتحان جاهراً اصطفاءه. إن عدداً من البحوث عن نسق التعليم منظوراً إليه كسلطة اصطفاء مستمرة لا تقوم (المتسربون Drop) (out) إلا باستعادة تناقض السوسيولوجيا التلقائية ذاك لحسابهم، إذ ينذرون لأنفسهم موضوعاً، الرابطة بين أولئك الذين يدخلون مرحلة ما، وأولئك الذين يخرجون منها ناجحين، إنما يغفلون عن فحص العلاقة بين أولئك الذين يخرجون من مرحلة وأولئك الذين يدخلون التي تليها : حتى نتعقل تلك الرابطة التي ذكرت آنفاً، حسبنا أن نتناول بخصوص عموم سيرورة الاصطفاء وجهة النظر التي إن لم يكن النسق يفرض وجهة نظره، تكون وجهة نظر الطبقات الاجتماعية التي كتب عليها الإقصاء الذاتي عاجله أم آجله. إن ما يجعل هذا القلب للإشكالية عصياً أنه يستدعي أكثر من أي شيء آخر مجرد قلب منطقي : فلئن كانت مسألة نسبة الرسوب بالامتحانات تترأس
الصفحة 294
الأحداث أفلا ننظر إلى الدوي الذي لتبدل في نسبة المقبولين في امتحان البكالوريا؟)، ولأن أولئك الذين لهم وسائل بسطها ينتمون إلى طبقات اجتماعية، لا يستطيع خطر الإقصاء أن يقدم إليهم إلا من الامتحان. وفي حقيقة الأمر، فإن ثمة طرقاً عديدة للتفريط في الدلالة السوسيولوجية للوفيات المدرسية التفاضلية التي لمختلف الطبقات الاجتماعية : إن البحوث التي من وحي تكنوقراطي والتي لا تعير اهتماماً للمعضلة إلا على سبيل يكون لتخلي قسم من التلامذة قبل الأجل كانوا دخلوا مرحلة ما تكلفة اقتصادية بارزة يختزلونها الساعته إلى معضلة باطلة تقضي باستغلال ذخائر الذكاء مدراراً». وبالإمكان أيضاً أن نتملك ناصية العلاقة العددية بين الخارجين من كل مرحلة من المراحل والداخلين إلى المرحلة التي تليها، وأن تبين
ثقل الإقصاء الذاتي للطبقات المحرومة ومغزاه الاجتماعي من دون الذهاب إلى ما أبعد من التفسير السلبي بـ نقصان الحافزية». وإذا لم نحلل ما تدين به الاستقالة المستسلمة لأفراد الطبقات الشعبية أمام المدرسة إلى اشتغال نسق التعليم ووظائفه باعتباره سلطة اصطفاء وإقصاء وتورية الإقصاء وراء الاصطفاء، فإنه لا يتأتى لنا أن نرى في الاحصاءات عن الحظوظ المدرسية التي تبين التمثيل المتفاوت المختلف الطبقات الاجتماعية في مختلف الدرجات وفي مختلف أنماط التعليم إلا تمظهراً لعلاقة معزولة بين الكفاءة المدرسية منظوراً إليها في قيمتها الوجهية ومسلسلة الامتيازات أو «المساوئ التي تعزى إلى الأصل الاجتماعي باختصار نقول إلا إذا نتخذ نسق الربط بين بنية العلاقات الطبقية ونسق التعليم مبدأ مفسراً، فإننا نحكم على أنفسنا بالخيارات الأيديولوجية التي تتضمن أكثر الخيارات العلمية في ظاهرها حياداً على هذا النحو إذن يتأتى للبعض اختزال التفاوت المدرسي تفاوتاً اجتماعياً عُرّف بغض النظر عن الشكل الخصوصي الذي يلبسه في منطق نسق التعليم، بينما ينزع البقية إلى
الهوامش:
معاملة المدرسة كإمبراطورية داخل إمبراطورية، إما، كدأب علماء التباري، أن يحيلوا معضلة المساواة أمام الامتحان إلى معضلة تعيير توزيع الأعداد، أو إلى معضلة المساوات بين شروط تعييرها، وإما، كداب بعض علماء علم النفس الاجتماعي الذين يماهون «دمقرطة» التعليم بـ «دمقرطة» العلاقة البيداغوجية، وإما أخيراً على غرار انتقادات عميمة متعجلة تختزل الوظيفة المحافظة للجامعة في المنزع المحافظ للجامعيين.
وإن تعلق الأمر بتفسير أن شريحة الجمهور المدرسي التي تقصي نفسها قبل دخول المرحلة الثانوية أو خلاله، لا تتوزع جزافاً بين مختلف الطبقات الاجتماعية، نقضي لأنفسنا بتفسير بسمات تظل فردية حتى إن نسبناها على نحو متساوٍ إلى جميع أفراد فئة ما، ما دمنا لا نتبين أنها لا تجري من الطبقة الاجتماعية بما هي كذلك إلا عبر علاقتها بنسق التعليم وفيها، حتى وإن كان كل فعل اختيار فردي يقصي كل طفل به نفسه من بلوغ مرحلة تعليم ما أو يخلد إلى التدني إلى نمط دراسات بخس يتراءى كما لو أن قوة الدعوة» أو معاينة اللامهارة قد فرضته، إلا أنه يأخذ في حسبانه جملة الروابط الموضوعية التي كان وجودها يسبق ذاك الاختيار وكما تبقى هي من دونه بين طبقته الاجتماعية ونسق التعليم. ذلك أنه ما كان المستقبل مدرسي ما أن يكون على وجه التقريب محتملاً بالنسبة إلى فرد مسمى إلا على سبيل أنه يشكل المستقبل الموضوعي والجماعي لطبقته أو لشريحته من أجل ذلك تشرط بنية الحظوظ الموضوعية للارتقاء الاجتماعي المرتبطة بطبقة الأصل، وبشكل أدق ببنية حظوظ الارتقاء بالمدرسة الاستعدادات إزاء المدرسة وإزاء الارتقاء بالمدرسة. وتسهم تلك الاستعدادات بدورها بشكل حاسم في تحديد حظوظ بلوغ المدرسة والانتساب إلى قيمها والنجاح فيها، وبالتالي
الصفحة 295
معاملة المدرسة كإمبراطورية داخل إمبراطورية، إما، كدأب علماء التباري، أن يحيلوا معضلة المساواة أمام الامتحان إلى معضلة تعيير توزيع الأعداد، أو إلى معضلة المساوات بين شروط تعييرها، وإما، كداب بعض علماء علم النفس الاجتماعي الذين يماهون «دمقرطة» التعليم بـ «دمقرطة» العلاقة البيداغوجية، وإما أخيراً على غرار انتقادات عميمة متعجلة تختزل الوظيفة المحافظة للجامعة في المنزع المحافظ للجامعيين.
وإن تعلق الأمر بتفسير أن شريحة الجمهور المدرسي التي تقصي نفسها قبل دخول المرحلة الثانوية أو خلاله، لا تتوزع جزافاً بين مختلف الطبقات الاجتماعية، نقضي لأنفسنا بتفسير بسمات تظل فردية حتى إن نسبناها على نحو متساوٍ إلى جميع أفراد فئة ما، ما دمنا لا نتبين أنها لا تجري من الطبقة الاجتماعية بما هي كذلك إلا عبر علاقتها بنسق التعليم وفيها، حتى وإن كان كل فعل اختيار فردي يقصي كل طفل به نفسه من بلوغ مرحلة تعليم ما أو يخلد إلى التدني إلى نمط دراسات بخس يتراءى كما لو أن قوة الدعوة» أو معاينة اللامهارة قد فرضته، إلا أنه يأخذ في حسبانه جملة الروابط الموضوعية التي كان وجودها يسبق ذاك الاختيار وكما تبقى هي من دونه بين طبقته الاجتماعية ونسق التعليم. ذلك أنه ما كان المستقبل مدرسي ما أن يكون على وجه التقريب محتملاً بالنسبة إلى فرد مسمى إلا على سبيل أنه يشكل المستقبل الموضوعي والجماعي لطبقته أو لشريحته من أجل ذلك تشرط بنية الحظوظ الموضوعية للارتقاء الاجتماعي المرتبطة بطبقة الأصل، وبشكل أدق ببنية حظوظ الارتقاء بالمدرسة الاستعدادات إزاء المدرسة وإزاء الارتقاء بالمدرسة. وتسهم تلك الاستعدادات بدورها بشكل حاسم في تحديد حظوظ بلوغ المدرسة والانتساب إلى قيمها والنجاح فيها، وبالتالي
الصفحة 296
تسهم في تحديد حظوظ الارتقاء الاجتماعي (24). هكذا يمثل الاحتمال الموضوعي بلوغ هذا النظام التعليمي أو ذاك، وهو احتمال موصول بطبقة ما، أكثر من مجرد تعبيرة عن تمثيل مختلف الطبقات في نظام التعليم المعتبر تمثيلاً متفاوتاً. إنه مجرد خدعة رياضية تمكن فقط أن نقيم بشكل أدق أو بشكل أبلغ نظام مقادير التفاوت. وهو بناء نظري يوفر أحد المبادئ الأقوى لتفسير ذاك التفاوت : الترجي الموضوعي الذي يسوق فاعلاً ما إلى أن يقصي نفسه يتبع على نحو مباشر الشروط التي تحدد الحظوظ الموضوعية للنجاح تلك المخصة بشريحته، بحيث تحصى بعدد الأواليات التي تسهم في تحقيق الاحتمالات الموضوعية (25).
إن لمفهوم الترجي الذاتي، منظوراً إليه باعتباره نتاجاً لاستبطان الشروط الموضوعية يجري وفق سيرورة يتحكم فيها نسق الربط الموضوعية برمته صلبها يحدث الاستبطان له وظيفة نظرية أن يعين
الهوامش:
(24) يتميز في اللغة المستخدمة هنا الترجي الذاتي والاحتمال الموضوعي بعضهم عن بعض تميز وجهة نظر العون ووجهة نظر العلم الذي يبني الانتظامات الموضوعية عبر ملاحظة مدعمة، بعضهم عن بعض. ولما نلجأ إلى ذلك التمييز السوسيولوجي الذي ليس التمييز الذي يصوغه بعض علماء الاحصاءات بين احتمالات ما بعدية واحتمالات ما قبلية شريكاً له في شيء ترغب في الاشارة هنا إلى أن الانتظامات الموضوعية تستبطن في شكل ترجيات ذاتية، وأن الترجيات الذاتية هذه تظهر في تصرفات موضوعية تسهم في تحقيق الاحتمالات الموضوعية. تبعة ذلك أنه بحسب ما نتبناه من وجهة نظر تفسير الممارسات، انطلاقاً من البني أو وجهة نظر توقع إعادة إنتاج البنى انطلاقاً من الممارسات ننساق إلى تفضيل في هذه الجدلية الرابطة الأولى أو الثانية.
(25) ابتغاء تحليل المنطق سيرورة الاستبطان التي تحوّل في منتهاه تبدل الحظوظ المسجلة موضوعياً في شروط الوجود ترجيات أو قنوطات ذاتية، وبصورة أعم، ابتغاء تحليل Pierre Bourdieu, "L'Ecole conservatrice: Les للأ واليات المذكورة أعلاه، انظر
Inegalites devant l'ecole et devant la culture,» Revue française de sociologie (Paris), vol. 7, no. 3 (juillet septembre 1966), pp. 333-335.
الصفحة 297
تقاطع مختلف أنساق الربط، تلك التي توحد منظومة التعليم ببنية العلاقات الطبقية وتلك التي في الوقت نفسه، تنشأ بين نسق تلك الربط الموضوعية ونسق الاستعدادات (الخُلق) الذي يسم كل عون اجتماعي (فرداً أكان أم زمرة، على سبيل أن نسق الاستعدادات ذاك يحيل دوماً، على جهل منه حتى إذ يعين نفسه، إلى نسق الربط الموضوعية الذي يعينه. ويستطيع تفسير الرابطة بين الترجي الذاتي والاحتمال الموضوعي، أي التفسير بنسق الربط بين نسقي ربط، أن يبرهن انطلاقاً من المبدأ عينه على الوفيات المدرسية للطبقات الشعبية، أو بقاء شريحة من شرائح تلك الطبقات، إضافة إلى الشاكلة المخصوصة لموقف المفلحين حيال النسق بقدر ما يبرهن على تقلب مواقف تلامذة مختلف الطبقات الاجتماعية حيال العمل أو النجاح، بحسب درجة احتمالية تأبيدهم في مرحلة دراسية مسماة ولا احتماليته كذلك، إذا تقلبت نسبة تمدرس الطبقات الشعبية بحسب الجهات كتقلب نسبة تمدرس بقية الطبقات، وإذا ربطت الإقامة الحضرية إضافة إلى التباين الاجتماعي لـ الزمر التعارف وهي لها تابعة، بنسبة تمدرس أرفع للطبقات الشعبية، لأنه لا يستقل الترجي الذاتي لتلك الطبقات البتة عن الاحتمال الموضوعي الذي كان سمة زمرة التعارف مع الأخذ بالاعتبار الزمر المرجعية أو زمر التطلع التي تحويها)، الأمر الذي يسهم في رفع الحظوظ المدرسية لتلك الطبقات، أقله على سبيل أن الفارق بين الاحتمالات الموضوعية المتصلة بالزمرة المرجعية أو بزمرة التطلع، واحتمالات الطبقة الموضوعية، ليس على شيء حتى يستطيع تثبيط كل تمثل أو حتى تعزيز الإخلاد إلى النبذ (لم يجعل لنا ) (26).
الهوامش:
(26) لأجل أن نقتنع أن ذاك الرسم ذي المظهر المجرد يغطي أكثر التجارب عينية، بالإمكان أن نقرأ في Elmstown 's Youth ببيوغرافيا مدرسية، فيها يتضح أني يستطيع الانتماء -
الصفحة 298
هكذا لأجل أن ندرك كلياً سيرورة الانتقاء الذي يجري، سواء في نسق التعليم أو بالإحالة إليه، يقتضي الأمر أن نأخذ في الحسبان، زيادة عن القرارات العاجلة للامتحان، أو الأحكام بالغياب، أو الأحكام المرجأة التي تتكبدها الطبقات الشعبية، أن تقصي نفسها جملة وتفصيلاً، أو أن تنذر نفسها لإقصاء إلى أجل مسمى، إذ تنخرط في شعب ترتبط بها أضعف الحظوظ للإفلات من الحكم السلبي للامتحان. ثم إنه لمفارقة ظاهرة ألا يكون للدراسات العليا العلمية حيث يبدو النجاح للوهلة الأولى أقل تبعية على نحو مباشر لحيازة رأس مال ثقافي موروث، وحيث تشكل تلك الدراسات العاقبة المحتومة للشعب المستقبلة عند دخول الثانوي لقسط الأكبر من أطفال الطبقات الشعبية انتداب أكثر ديمقراطية بشكل ملموس من أنماط الدراسات الأخرى (27). في واقع الأمر، علاوة على أن العلاقة باللسان وبالثقافة مأخوذة في الحسبان باستمرار طيلة التعليم الثانوي، بل حتى في التعليم العالي بدرجة أقل من دون شك وفي كل الأحوال بعلانية أقل، وعلاوة أيضاً على أن الحذق المنطقي والرمزي للعمليات المجردة، وعلى نحو أدق حذق قوانين تحول البنى المعقدة، هو رهينة نمط الحذق العملي في اللسان ونمط اللسان المكتسب في الوسط العائلي، فإن تنظيم النسق المدرسي واشتغاله يعيدان ترجمة باستمرار، وطبقاً لشفرات متعددة، ترجمة التفاوت على المستوى الاجتماعي إلى تفاوت على المستوى
الهوامش:
= إلى زمرة أتراب، في حدود معينة على الأقل، تحريف تقدير الحظوظ المتعلقة بالانتماء الطبقي انظر:
A. B. Hollingshead, Elmstown's Youth (New York: John Wiley and Sons, انظر 1949), pp. 169-171
(27) انظر:
Monique de Saint Martin, «Les Facteurs de l'élimination et de lasélection différentielles dans les études de sciences,» Revue française de sociologie, vol. 9, no. 2 (numéro special: Sociologie de l'éducation) (1968), pp. 167-184.
الصفحة 299
المدرسي وبالنظر إلى أن النسق المدرسي ينشئ، بين الاختصاصات، أو بين المواد عند كل مراحل المسيرة تراتبية هي من واقع الأمر، تبدأ مثلاً في كليات العلوم من الرياضيات الصرف التنتهي إلى العلوم الطبيعية أو في كليات الآداب حيث تبدأ من الآداب والفلسفة وانتهاء بالجغرافيا)، أي تبدأ من الأنشطة الفكرية منظوراً إليها على أنها الأكثر تجريداً، لتنتهي إلى أكثرها عينية ؛ وبالنظر إلى أن تلك التراتبية تعيد ترجمة ذاتها في مستوى التنظيم المدرسي، وفي تراتبية منشآت التعليم الثانوي (بدءاً بالثانوية ووصولاً إلى معهد التعليم التقني (C.E.T)، مروراً بمعهد التعليم العام (C.E.G) ومعهد التعليم الثانوي (.C.E.S)، وفي الشعب (بدءاً بالكلاسيكية وانتهاء بالتقنية)؛ وبالنظر إلى أن تراتبية المنشآت والشعب هذه وثيقة الصلة عبر وساطة التناسب بين تراتبية الدرجات وتراتبية المنشآت بتراتبية أصول المدرسين الاجتماعية؛ وبالنظر أخيراً إلى أن مختلف التخصصات ومختلف المنشآت تجلب على نحو متفاوت جداً تلامذة مختلف الطبقات الاجتماعية تبعاً لنجاحهم المدرسي السالف وللتعريفات الاجتماعية المتفاضلة بحسب الطبقات النموذج الدراسات ونماذج المنشآت نفهم أن مختلف ضروب السيرة لا تضمن إلا حظوظاً لبلوغ التعليم العالي متفاوتة تفاوتاً كبيراً. تبعه ذلك أن تلامذة الطبقات الشعبية يدفعون ثمن دخولهم الثانوي نفياً لهم في مؤسسات ودروب مدرسية لما تقوم بوظيفة شبكات صيد تستميلهم بحيل من تجانس واجهي تحجر عليهم في قدر مدرسي مبتور (28) على هذا النحو، يحوّر مزيج من حظوظ الطبقات
الهوامش:
(28) خلال سنة 1961 - 1962 كان قسط أبناء العمال في فرنسا، يقدر بـ 20.3% في الصف السادس من الثانويات وهي تسمية تغطي منشآت ذات مستويات مختلفة جداً). ويقدر بـ 38.5% في معاهد التعليم العام (CE.G) بينما كان قسط أبناء الإطارات العليا وعدد من =
الصفحة 300
المدرسية باعتبارها أوالية إقصاء مرجأة وحظوظ التوفيق اللاحق المرتبطة بشتى الشعب ومختلف المنشآت تفاوتاً اجتماعياً، تفاوتاً مدرسياً تحديداً، أي تفاوتاً في المستوى أو في النجاح، فيخفي ويصدق مدرسياً تفاوتاً في حظوظ دخول الدرجات العليا من التعليم (29).
وبخصوص الاعتراض الذي وفقه تنزع دمقرطة الانتداب في التعليم الثانوي إلى خفض حصة الإقصاء الذاتي، طالما أن احتمال بلوغ الطبقات الشعبية التعليم الثانوي قد ارتفع بشكل ملموس خلال السنين الأخيرة، بوسعنا أن نرد بواسطة نسبة بلوغ التعليم العالي بالنظر إلى المنشأة أو الشعبة الأصلية، وهي نسبة تبرز تناقضاً
الهوامش:
=الأعمال الحرة الذين هم ممثلون بقوة فضلاً عن ذلك في المنشآت الخاصة) يقدر بـ 14,9% في الثانويات و21% فقط في معاهد التعليم العام ( C.E.G) انظر :
Informations statistiques (Paris: Ministère de l'éducation nationale, 1964.
من جهة أخرى، يفاقم الإقصاء في أثناء الدراسات سواء في الثانوية أو في معهد التعليم العام (.C.E.G) سوء تمثيلية الطبقات الشعبية (المرجع المذكور). علاوة على ذلك، فإن اختلاف المستوى بين نمطي المنشأتين على قدر، بالنسبة إلى أولئك الذين يختارون مواصلة دراساتهم في ما بعد شهادة الدروس التكميلية، إلى حد أن بلوغ صف المرحلة الثانية في الثانويات والتكيف معها، إن كانت مؤسسة مختلفة في هيئة مدرسيها وروحها وانتدابها الاجتماعي هما أمران احتماليان (بالصدفة) وصعبان.
(29) بإمكاننا أن ندرك في الأثر المثبط الذي ينتجه دخول شعبة أو نمط منشأة مبخوسة، التأثير المخص بالترجي الذاتي المرتبط باحتمال النجاح الموضوعي، وهو احتمال متصل بشعبة ما أو بنموذج منشأة ما : لقد لوحظ أنه في مستوى نجاح متساو في الاختبارات يفوز الأبناء الذين يبلغون الثانوية بنقاط أياً كان أصلهم الاجتماعي، بينما أولئك الذين يدخلون مدرسة حديثة يشهدون نتائجهم تضعف انظر:
Great Britain. Committee on Higher Education, Higher Education; Report of the Committee Appointed by the Prime Minister, under the Chairmanship of Lord Robbins, 1961-63, Great Britain. Parliament. Papers by Command Cmnd.; 2154 (London: H. M. Stationery Off, 1963).
الصفحة 301
اجتماعياً ومدرسياً بين الشعب النبيلة من منشآت نبيلة والتعليم الثانوي من الدرجة الثانية، ما يؤبّد التناقض في شكل حسنت توريته، الصدع القديم بين الثانوية والتعليم العالي الابتدائي (30). والأدهى أنه لما يخفض نسق التعليم حصة الإقصاء الذاتي عند نهاية الدراسات الابتدائية لأجل الاقصاء بالامتحان دون سواه، فإنه لا يفعل غير تأدية وظيفته المحافظة بصورة أفضل، إن كان حقاً، أنه ابتغاء أن يوفي بما لتلك الوظيفة، عليه أن ينكر حظوظ البلوغ بحظوظ النجاح : أولئك الذين يلتمسون مصلحة المجتمع كي يأسفوا أسفاً شديداً على التبذير الاقتصادي الذي تمثله حثالة المدرسة، يغفلون على نحو متناقض عن أن يأخذوا في الحسبان ما في ذاك التبذير فدية عنه، على معنى الربح الذي يلقاه النظام الاجتماعي أن يواري إقصاء الطبقات الشعبية أن يبسطه في الزمن.
إننا نفهم أنه لكي يوفي النسق المدرسي بوظيفة المحافظة الاجتماعية وفاء كاملاً، تعين عليه تقديم الحظة الحقيقة» للامتحان على أنها حقيقته : إن الإقصاء الخاضع إلى معايير الإنصاف المدرسي
الهوامش:
(30) كثيراً ما وصف كيف يتوصل النسق المدرسي الأمريكي بفضل تنوع مؤسسات التعليم العالي إلى أن يقصي بلين (Cooling Out Function) أولئك الذين أن كانوا لا يستجيبون المعايير التمدرس الحق»، يدفعون بصمت نحو ثنايا المرآب، تتوصل المؤسسة وأعوانها إلى تقديمها على أنها تفضي إلى دروب متعادلة Alternative Achievement انظر:
) Burton R. Clark, «The 'Cooling Out' Function in Higher Education,» in: H. Halsey, Jean Floud, and C. Arnold Anderson, eds., Education, Economy, and Society. A Reader in the Sociology of Education (New York: Free Press of Glencoe, 1961).
كذلك، تنزع الجامعة الفرنسية أكثر فأكثر إلى استعمال تراتبيات ضمنية ومغلفة تضمر نسق التعليم برمته ابتغاء الحصول على الاستقالة التدريجية للطلاب الذين تنفيهم في شعب المهملين، على الرغم من واجهة التجانس المؤسساتي لتنظيمها (التوازي بين الثانويات والكليات والجامعات الجهوية أو المعادلة القانونية لامتحانات البكالوريا التي تجري في شعب مختلفة).
الصفحة 302
دون سواها، هو إنصاف لا يؤخذ عليه شيء، شكلاً، والذي يجريه ويحمله الامتحان يواري إنجاز وظيفة النسق المدرسي أن يغشي عبر التناقض بين المقبولين والمرفوضين الرابطة بين المرشحين وجميع أولئك الذين أستبعدهم النسق عموماً من عموم المرشحين، وأن يواري من ثمة الصلات بين النسق المدرسي وبنية العلاقات الطبقية.
وعلى شاكلة السوسيولوجيا التلقائية التي تفهم النسق مثلما يدعو إلى أن يفهم، فإن عدداً من التحليلات العالمة التي تخلد إلى ضروب استقلالية النسق نفسها وتسترجع لحسابها منطق الامتحان عينه، لا يعتبر إلا أولئك الذين هم داخل النسق في لحظة مسماة مقابل نبذ أولئك الذين نبذوا والحال أن الرابطة التي ينشئها أي من أولئك الذين استبقوا أنفسهم في النسق أقله موضوعياً، مع عموم طبقته الاجتماعية الأصلية، تهيمن على الرابطة التي يرتقها بالنسق وتخبر عنها: إن تصرفاته ومهاراته واستعداداته إزاء المدرسة كلها تحمل علامة تاريخه المدرسي بأجمعه. ذلك أنها تدين بسماتها إلى درجة احتمالية أو لا احتمالية أن يلفي أيهم نفسه لا يزال داخل النسق، في ذاك الطور من التعليم وفي تلك الشعبة من التعليم. هكذا قد يسوق استعمال آلي للتحليل المتعدد المتغيرات إلى أن نتنكر لتأثير الأصل الاجتماعي على النجاح المدرسي، أقله في مستوى التعليم العالي بحجة مثلاً أن الرابطة الأولية بين الأصل الاجتماعي والنجاح تتبدد، إذ نعتبر على نحو منفصل كل فئة من فئتي الطلاب وقد حددهما تكوين كلاسيكي أو تكوين حديث (31). إن في ذلك لجهالة بالمنطق الخصوصي، وفقه تعاد ترجمة الحسنات والسيئات الاجتماعية تدريجياً في أثناء إصطفاءات متتالية، إلى حسنات أو إلى سيئات
الهوامش:
(31) بخصوص مغالط المنهج متعدد المتغيرات (Multivariate Fallacy) انظر : الفصل 1، ص 189، الهامش 2 من هذا الكتاب.
الصفحة 303
مدرسية. وعلى نحو أكثر واقعية إن في ذلك لإهمال للسمات المدرسية التي تناوب تأثير الأصل الاجتماعي تحديداً مثل المنشأة أو الشعبة في السنة السادسة ونحوه: ذلك أنه كفى بنا مقارنة نسبة نجاحالطلاب حين الامتحان الذين يراكمون أكثر السمات لا احتمالية بالنسبة إلى طبقتهم الأصلية مثل مقارنة نسبة نجاح طلاب أبناء عمال قدموا من ثانوية كبرى في باريس، كانوا قد درسوا اللاتينية والإغريقية، وكانوا أولي خير نجاح سابق خلا (شرط ألا تكون الفئة، والتي حددت بهذا الشكل طبقة معدمة) بنسبة نجاح الطلاب الذين خصوا بالسمات المدرسية نفسها، لكنهم ينتمون إلى طبقة اجتماعية، تلك السمات منها هي أكثر السمات احتمالية (مثل الطلاب سليلي البرجوازية الباريسية، حتى نلاحظ أقول أو حتى عكس الرابطة التي تنشأ في مبل ال حالات بين المرقع في التراتبية الاجتماعية والنجاح المدرسي (92). مع ذلك، تظل المعاينة معدومة
الهوامش:
(32) يمنح تحليل السمات الاجتماعية والمدرسية لأوائل المناظرة العامة إبانة نموذجية لتلك التحليلات. يتميز ذاك الجمهور بمجموعة نظامية من حسنات اجتماعية، عن جمهور صفوف السنة النهائية، الذي في داخلها اجتبي باصطفاء من درجتين، إحداهما ذاك الذي تأتيه منشآت التعليم الثانوي أن تعين أفضل تلامذتها للمناظرة، والأخرى ذاك الذي تأتيه اللجنة من بين المرشحين ينتمي الأولون، الذين هم الأصغر سناً، والذين هم يقدمون في أغلب الأحيان من ثانويات في المنطقة الباريسية، والذين هم في أغلب الأحيان مسجلين في ثانوية منذ السنة السادسة، إلى أوساط أكثر حظوة سواء على جهة المكانة الاجتماعية أو على جهة رأس المال الثقافي. وعلى نحو أدق، يقدم الأولون من فئة مسماة (طبقة اجتماعية أو فئة إحصائية مثل الجنس أو الفئة العمرية على نحو أدنى الخاصيات الديموغرافية والاجتماعية والمدرسية الجمهور تلك الفئة منظوراً إليها في عمومها وعكسياً، يقدمون أكثر السمات ندرة بالنسبة إلى تلك الفئة على قدر ما يكون لتلك الفئة حظوظاً أدنى أن تكون ممثلة، وذاك بقدر ما يكونوا قد سموا في مادة هي من مستوى أكثر علواً في تراتبية الاختصاصات. أي على سبيل المثال في الفرنسية بدلاً من الجغرافيا (انظر ابتغاء تحليل أكثر عمقاً في :
Pierre Bourdieu et Monique de Saint-Martin, «L'Excellence scolaire et les valeurs du système d'enseignement français,» Annales, vol. 25, no. 1 (janvier février 1970).
الصفحة 304
الدلالة، بل حتى مولدة للعبث طالما لا نحل الرابطة المعاينة في النسق التام للروابط ولتحولاتها في أثناء اصطفاءات متتالية تشكل في منتهاها ذاك الضرب من تركيب اللا احتمالات الذي يمنح زمرة ما ميزها تراكم اصطفاءات قصوى متتالية نجاحها الاستثنائي. إن تحليل الربط الملاحظة في برهة مسماة من الزمن حتى ذلك التحليل المتعدد المتغيرات بين سمات شرائح من جمهور مدرسي هو نتاج المسلسلات اصطفاءات تأخذ في الحسبان تلك السمات عينها، أو هو، إن رغبنا في قول ذلك نتاج سلسلة اقتراعات منحرفة على جهة المتغيرات المعتمدة أكانت قبل كل شيء متغيرات الأصل الاجتماعي أم الجنس، أم محل الإقامة جغرافياً). إن هكذا تحليل لن يدرك غير علاقات مغالطة إن لم نحرص على أن استرجاع، إضافة إلى التفاوت في الاصطفاء وهو القادر على إخفاء التفاوت أمام الاصطفاء الاستعدادات التفاضلية التي تحددها اصطفاءات تفاضلية عند الفاعلين المصطفين. وفي حقيقة الأمر، لما نتقوقع داخل التزامنية، نقضي لأنفسنا بمقاربة على أنها مجموع احتمالات مطلقة، يعاد تحديدها في كل فترة من المسيرة من عدم، مسلسلة متعدية من احتمالات شرطية هي مسلسلة على مداها تعين تدريجياً الاحتمال الأولي وتحدد، وهو احتمال أفضل مؤشراته في الحال الراهن احتمال بلوغ التعليم الثانوي في هذه الشعبة أو تلك طبقاً الطبقة المنشأ الاجتماعية. وتمتنع بالمناسبة ذاتها عن الإحاطة علماً كلياً بالاستعدادات التي هي سمات مختلف فئات التلامذة : ذلك أن مواقف مثل اللاحماسة والجرأة ويسر الطلاب أصيلي البرجوازية المبطل للقداسة أو السعي الحثيث والمتشنج، والواقعية المدرسية للتلامذة من أبناء الطبقات الشعبية؛ لا يتأتى فهمها إلا بالنظر إلى احتمال أو لا احتمال الإحلال بالمنزلة المحل بها الذي يحدد البنية الموضوعية للتجربة الذاتية إن للمعجز» أو «للوريث». وباختصار،
الصفحة 305
فإن ما يتيسر تملك ناصيته إنما هو انحدار المنحنى في كل نقطة من المنحنى، كل المنحنى (33). إن كان حقاً أن العلاقة التي ينشئها فرد مع المدرسة ومع الثقافة التي تورثها هي علاقة على وجه التقريب ميسورة» أو «ألقة» أو «فطرية» أو «مكدة» أو «حرجة» أو «درامية» وفق احتمال بقائه في النسق، وإن كنا نعلم، من جهة أخرى، أن نسق التعليم والمجتمع يأخذان في الحسبان في أحكامهما العلاقة بالثقافة على قدر أخذهما الثقافة، يتضح أن كل ما نمتنع عن فهمه، إذ نحرم على أنفسنا اللجوء إلى مبدأ إنتاج الاختلافات المدرسية والاجتماعية الأكثر ديمومة، أي الهابتوس - ذاك المبدأ المولد للتصرفات وللآراء والموحد لها والذي هو منها أيضاً المبدأ المفسر، سيما أنه ينزع إلى إعادة انتاج في كل برهة من أي سيرة فردية مدرسة أو فكرية، نسق التصرفات الموضوعية الذي هو منه نتاج.
هكذا يفضي تحليل وظائف الامتحان الذي يزمع القطع مع السوسيولوجيا التلقائية، أي القطع مع الصور المخادعة التي ينزع نسق التعليم إلى تقديمها عن اشتغاله وعن وظائفه، إلى استبدال دراسة أواليات الإقصاء دراسة نظامية يستخدم النص هنا كلمة (Docimologie)، وهي تعني كمحل مفضل لإدراك الربط بين اشتغال نسق التعليم وتأبيد بنية العلاقات الطبقية بفحص علمية قواعد التباري التي للامتحان فقط، وهو فحص لا يزال يخدم وظائف الامتحان
الهوامش:
(33) إن الأمر يقتضي بالتأكيد الحذر من إعارة الفاعلين نفاذ بصيرة مطلق عن حقيقة تجربتهم : لقد تكون ممارساتهم محكمة وفق موقعهم في النسق من دون اقتداء على نحو مباشر بأمر آخر إلا أن يكون إعادة تأويل يعرضها النسق لشروط حضورهم الموضوعية في النسق. على هذا النحو بينما تبدو المواقف المدرسية لـ المعجز» كما لو أنها تقدّرت موضوعياً لكن على نحو غير مباشر على حظوظه الطبقية الموضوعية، قد تكون لتمثلاته الواعية وخطبه مبدأ موجها الصورة المفتونة عن المعجزة المطردة المستحقة بالجهد والعزيمة.
الصفحة 306
المخفية. وليس من شيء أفضل صنعاً من الامتحان كي يوحي إلى الجميع الاعتراف بشرعية الأحكام المدرسية وبشرعية التراتبيات الاجتماعية التي يشرعنها، ذلك بأنه يسوق أولئك الذين يقصون أنفسهم إلى أن يتمثلوا مع أولئك الذين هم يرسبون، فيتيح بذلك للذين هم منتخبين من بين عدد قليل من المؤهلين لأن ينتخبوا، أن يروا في انتخابهم شهادة استحقاق أو شهادة «هبة جعلت منهم في الافتراضات كلها المأثورين عن الباقين أجمعين.
ولن يتأتى لنا أن نفهم لماذا لا تزال أوجه جمة لاشتغال الامتحان باعتبارها إجراء اصطفاء مبرأ، تطيع المنطق الذي يسوس الإقصاء الذي يواريه الامتحان، إلا شريطة أن نكشف في الامتحان وظيفة تورية الإقصاء بغير امتحان. وإذا اطلعنا على كل ما تدين به أحكام الممتحنين إلى معايير مظهرة ما في الضمان الماني تحديداً ترجمة قيم الطبقات المهيمنة وتعينها، يتضح أن على المترشحين أن ينأوا بإعاقة تزداد ثقلاً بقدر ما تكون تلك المعايير أبعد عن معايير طبقتهم الأصلية (34). وما كان للانحراف الطبقي أن يكون أكثر بروزاً مثل ما هو عليه في الاختبارات التي تنذر المصحح إلى مقاييس ضمنية ومتفشية للفن التقليدي لإسناد العدد مثل اختبار المقالة أو الاختبار الشفوي، إن كان مناسبة لحمل أحكام كلية مدججة بمقاييس لاواعية للإدراك الاجتماعي على أشخاص كليين
الهوامش:
(34) تكشف المناظرات الطبية بكل وضوح على سبيل الحد، قسمات لوحظت في مواضع أخرى، أتعلق الأمر بالأولوية الممنوحة لوظيفة الاصطفاء منظوراً إليها كتزامل طبقي، أو تعلق بدور البلاغة والتي ليست هي بلاغة كلامية فقط، إنما حركية أيضاً، وإن استطعنا القول وضعوية أو تعلق أيضاً بخلق خلقاً مصطنعاً، طوائف قد بعضها عن بعض لا إعكاسياً تواريخ مدرسية مختلفة. انظر:
H. Jamous, Contribution à une sociologie de la décision: La Réforme des études médicales et des structures hospitalières (Paris: Editions du CNRS, 1967), pp. 86-103.
الصفحة 307
نتملك ناصية ميزاتهم الأخلاقية والفكرية من خلال صغائر الأسلوب أو السلوك، والنبرة أو الأداء، وضعة الجسم أو الإيماء، أو حتى اللباس والتزويق من دون الحديث عن الاختبارات الشفوية التي مثل مناظرة المدرسة القومية للإدارة أو مناظرة التبريز في الآداب، تطالب على نحو يكاد يكون جهراً بالحق في المقاييس الضمنية، سواء تعلقت تلك المقاييس باليسر وبالتميز البرجوازي، أم بالأدب وبحسن سمات الجامعيين (35). وكما لاحظ ذلك مارسيل بروست (Marcel) (Proust نكتشف في الهاتف إمالات صوت لا نميزه طالما لم نفصله عن وجه فيه نموضع تعبيره، كذلك لا يتأتى إلا لتحليل حكم الممتحنين التلفيقي بالتجربة، إفشاء كل ما يدين به حكم صيغ في وضعية امتحان لنسق الوصمات الاجتماعية، الذي يشكل الأس الموضوعي للإحساس بـ «حضور المرشح أو بـ «تفاهته». غير أنه يتعين الاحتراس من أن نظن أن عقلنة المقاييس وتقنيات الحكم عقلنة
الهوامش:
(35) لن تلقى غير حرج الاختيار حتى نتبين كيف يبدل الممتحنون أكثر الاختيارات تقنية حساباً إيتيقياً: يبدو في الامتحان خاصة الشفوي كأنه يستند إلى ميزات على غاية من التعقد. لو كنا نثمن معاً الذوق والاستقامة والتواضع، وفي الوقت نفسه الذكاء تحديداً، لكانت شخصية تسعى إلى فهم شخصية
)IIIrd Conference on Examinations, Edited. by C. Bouglé, pp. 32-44.(
إن مناظرة كمناظرتنا لا تمثل اختباراً تقنياً فحسب. إنها أيضاً رائز في الأخلاق، والاستقامة الفكرية
Rapport d'agrégation masculine de grammaire, (1957) p. 14.
ولما كان النص قد استوعب والترجمة وقد أحضرت بالتحليل، يبقى أن تستخدم حتى تبدل إلى الإغريقية، ميزات أخلاقية ومعارف تقنية في آن معاً. أما الميزات الأخلاقية، والتي يدخل في عدادها الشجاعة والحمية. إلخ، أن تتجسد فإنها تتكثف في ميزات الاستقامة. ذلك أنه لنا واجبات إزاء النص، يجب الخضوع إليه وألا نغش.
» Agregation de grammaire masculine,» (1963), pp. 20-21
وإن عددنا النعوت التي تعرض الأخطاء التقنية في لغة ذنوب أخلاقية، لا نحصيها : مجاملة جبانة»، أو «لوم»، أو الباقة فاسدة، أو استهتار مذنب، أو جبن، أو كسل ذهني، أو حذر ماكر، أو صفاقة لا تغتفر، أو عجز بلا حياء».
الصفحة 308
شكلية تكفي لأن تعتق الامتحان من وظائفه الاجتماعية : ذاك أمر يبدو أن علماء التباري جاهلون به، إذ هم مفتونون بالتقلب المزدوج لممتحنين عجزوا عن أن يتفقوا في ما بينهم إن كانوا عاجزين عن أن يتفقوا مع أنفسهم على مقاييس الحكم ينسون أن قضاة آخرين يستطيعون على الأقل، أن يتفقوا على أحكام منحرفة على نحو مماثل إن كانت أحكاماً قائمة على المقاييس المضمرة نفسها لولا كان بينهم مشتركاً كل السمات الاجتماعية والمدرسية التي تحدد إسنادهم الإعداد. ولما ينبه علماء التباري إلى ملجأ اللاعقلانية ذاك الذي يمثله الامتحان، إنما يبرزون التنافر بين أيديولوجيا الإنصاف وحقيقة عمليات الاصطفاء. لكن ألا يتساءلون عن الوظائف الاجتماعية الإجراءات على قدر كبير من اللاعقلانية، قد يسهمون أيضاً في تحقق تلك الوظائف بأن يقنع أن عقلنة إسناد الأعداد تكفى أن تجعل الامتحانات في خدمة الوظائف المعلنة للمدرسة والامتحان(36).
عندئذ، حتى يوفي الامتحان بوظيفته في شرعنة الإرث الثقافي إلى حد الإتقان، ومن ثمة شرعنة النظام القائم، حسبه أن يتهيأ للثقة اليعقوبية التي يمنحها جامعيون عميمون المناظرة القومية أن تحيل إلى تقنيات قيس لها امتياز مظاهر العلموية والحيادية كافة. ما من شيء يخدم وظيفة تبرير العدالة الاجتماعية أفضل مما تخدمها روائز، شكلاً لا حرج عليها، تزعم قياس في برهة مسماة من الزمن مهارة الفاعلين في أن يحلوا في مراكز مهنية، غافلة عن أن تلك المهارة مهما كان إدراكها
الهوامش:
(36) كذلك هو، ألا يأخذ علماء التباري في الحسبان سمات الممتحنين والممتحنين الاجتماعية، فقد كرهوا أن ينظروا يوماً إلى أن يختبروا الرابطة بين توافق إسناد الأعداد مع التجانس الاجتماعي والمدرسي الزمرة الممتحنين. كذلك ألا يروا أن تعلم التباري التلقائي للأساتذة منطقه ووظائفه الاجتماعية، فإنه لا حيلة لهم أخرى غير سخط وجم إزاء ضعف الصدى الذي يلقاه وعظهم العقلاني لدى هيئة الأساتذة.
الصفحة 309
مبكراً هي نتاج تعلم مؤهل اجتماعياً، وأن المقاسات الأكثر توقعية هي تحديداً الأقل حيادية اجتماعياً. بالفعل إن ما يمكن قراءته بين الأسطر في بعض التوصيفات التي تقدم الروائز على أنها أداة الديمقراطية الأمريكية وضمانتها المفضلتين بما هي ديمقراطية قائمة على الجدارة، هي يوتوبيا الخذلية الجديدة لمجتمع هو في مأمن من «جولان النخب ومن انتفاضة الحشود : « لعل أحد العواقب المعقولة للثقة المتزايدة في روائز المهارة كمقياس إسناد المكانة الثقافية والمهنية إنما تكون بنية طبقية ما قائمة على المهارات، لكنها بنية أكثر تكلساً. إن الخاصية الوراثية للمهارات مختلطة مع الاستعمال المعمم الروائز الاصطفاء الصارمة سوف تثبت الفرد في وضعيته إذا كان من أبوين موهوبين قليلاً. لما نأخذ بالاعتبار الزواج اللحمي للطبقة لنا أن نتوقع على مر الأيام أن يصير الارتقاء ما بين الجيلي أكثر عسراً (37). وإذ يصف هؤلاء الطوباويون الأثر المثبط الذي لا يستطيع نسق اصطفاء كهذا النسق إلا أن يُحدث له وقعاً على أعضاء ( الطبقات السفلى، وإذا هم أكرهوا على أن يقتنعوا فرحين بما أوتوا بأنهم آخر الآخرين كـ موضع تجمع طمی خیر العالمين، لعلهم لا يفرطون تقديراً لأهلية روائز لتملك ناصية الأهليات الفطرية إلا لكونهم لا يقدرون أهلية المدرسة على الإيهام بخاصية الأهليات أو اللا أهليات حق قدرها.
الاصطفاء التقني والاصطفاء الاجتماعي
هكذا قد يحدث أن يكون نسق تعليم ما قادراً أكثر على تورية وظيفته الاجتماعية التي تقضي بشرعنة التباينات الطبقية وراء وظيفته التقنية التي تقضي بإنتاج أهليات بقدر ما لا يستطيع إلى
الهوامش:
(37)David A. Goslin, The Search for Ability; Standardized Testing in Social Perspective (New York: Wiley, 1966).
الصفحة 310
تجاهل مستلزمات سوق الشغل غير القابل للانضغاط سبيلاً : لا مراء أن المجتمعات الحديثة تنجح أفضل فأفضل في الحصول من المدرسة على أن تنتج أكثر فأكثر أفراداً مؤهلين وتضمنهم على أنهم كذلك، أي متكيفين أفضل فأفضل مع حاجات طلبات الاقتصاد، بيد أن حصر الاستقلالية التي ولي نسق التعليم إياها، هي بالتأكيد ظاهرية أكثر مما هي واقعية على سبيل أن الرفع في الحد الأدنى من الأهلية التقنية الذي ألزمته ممارسة المهن لا يستتبع من تلقاء نفسه اختزال البون بين الأهلية التقنية التي يضمنها الامتحان والميزة الاجتماعية التي يكافأ بها عبر ما يمكن أن نسميه أثر الإشهاد الذي بين يديه. إن نسق تعليم مطابق لقيم الأيديولوجيا التكنوقراطية قادر، على الأقل، على قدر استطاعة نسق تقليدي، أن يُكسب الندرة المدرسية التي ينتجها أو يفتي بها عبر الشهادة ندرة اجتماعية مستقلة نسبياً عن الندرة التقنية للقدرات التي يلزمها المركز الذي تفضي إليه الشهادة شرعياً : وبغير ذلك فإننا لن نفهم كيف استطاع أفراد احتلال مراكز مهنية جمة بألقاب مختلفة وأجور متفاوتة على افتراض أكثر الفرضيات تأييداً لصدقية الشهادة، لا يتباينون إلا بالدرجة التي أعطتهم إياها المدرسة. إن التنظيمات كلها تعد من تلك البطانات» التي كتب عليها غياب الألقاب المدرسية موقعاً ثانوياً مع أن نجاعتها المدرسية تجعل منها بطانات لا غنى عنها. ثم إننا لنعلم التنافس الذي يقابل فئات فصلت بعضها عن بعض في التراتبية الإدارية على الرغم من أنها تؤدي المهام التقنية عينها (مثل المهندسين سليلي مدارس مختلفة، أو من بين أساتذة التعليم الثانوي، مثل المبرزين والمقبولين مرتين والمجازين والمعيدين والمكلفين بالتعليم والأساتذة المساعدين إلى غير ذلك. إذا كان بإمكان المبدأ الذي يقول على قدر تساوي العمل يتساوى الأجر، أن يفيد في تبرير تراتبيات يبدو أنه يناقضها إن أخذ بحذافيره، فلأنه دوماً ينظر اجتماعياً
الصفحة 311
إلى قيمة منتوج مهني ما باعتبارها معتصمة بقيمة المنتج، وأن قيمة المنتج بدورها باعتبارها رهن بالقيمة المدرسية التي لألقابه. باختصار، باختصار نقول إن الشهادة تنزع إلى أن تحول دون أن يجعل رتق الرابطة الواضحة بين الشهادة والمكانة المهنية، بالرابطة الأكثر ريبة بين القدرة والمكانة، يثير مسألة الرابطة بين القدرة والشهادة، فيفضي حينئذ إلى تساؤل عن صدقية الشهادة أي عن كل ما يشرعنه الاعتراف بشرعية الشهادات: تلك هي المبادئ عينها التي عليها يتوكل تنظيم الشهادات وتراتبيتها، والتي تدافع عنها البيروقراطيات الحديثة، إذ تبدو تناقض لأجل أكثر مصالح الشهادات براءة أن تمتنع عن اختبار المضمون التقني للألقاب المدرسية لأعوانها لكونها لا تستطيع إخضاع أفراد صدقتهم الشهادة لاختبارات قادرة على المجازفة بهم من غير أن تجازف أيضاً بشرعية الشهادة وكل التراتبيات التي تشرعنها. ثم إن أيديولوجيا الثقافة العامة» تستجيب الضرورة تنكير البون الذي يفصل الأهلية التقنية التي تضمنها عملياً الشهادة عن المردودية الاجتماعية وقد أمنها أثرها الإشهادي.
هي ثقافة لعل وظيفتها الأولى أن تمنع في الواقع وفي القانون أن يُرغم الإنسان المثقف على أن يأتي البرهنة، تقنياً، على ثقافته. هنا نفهم أن الطبقات التي تملك موضوعياً احتكار علاقة ما بالثقافة، حددت على أنها غير قابلة للتحديد لكونها لا يمكن أن يحددها موضوعياً سوى ذاك الاحتكار بحكم الواقع)، تكون مهيأة ما قبلياً للانتفاع أيما انتفاع من أثر الإشهاد، وأن لها كامل المصلحة في الدفاع عن أيديولوجيا الثقافة اللامبالية التي تشرعن ذاك الأثر من خلال تواريه (38). ونفهم بالمنطق نفسه الوظائف الاجتماعية للتبذير
الهوامش:
(38) أن يحصل المرء على الإجازة يعني عسى أن يعرف أو أن يكون قد عرف، =
الصفحة 312
التفاخري حين التعلم، وهو تبذير يحدد نمط اكتساب الأهليات كلها الجديرة بأن تنتمي إلى الثقافة العامة أتعلق الأمر باكتساب اللغات القديمة منظوراً إليها على أنها تدرب بالضرورة بطيء، على خصال إيتيقية ومنطقية للإنسية، أو تعلّق بالتدرب المجامل على النزعات الشكلية، الأدبية أو الجمالية المنطقية أو الرياضية كلها.
وإذا كانت لكل عملية اصطفاء أثر لا ينفصم أبداً أن تراقب أهليات تقنية بالرجوع إلى مستلزمات سوق الشغل، وأن تخلق ميزات اجتماعية بالرجوع إلى بنية العلاقات الطبقية التي يسهم نسق التعليم في تأبيدها، باختصار : إذا كانت المدرسة تمتلك في آن معاً وظيفة إنتاج تقنية للقدرات وإشهادها، ووظيفة اجتماعية تقضي بحفظ السلطة والامتيازات وتصديقها، نفهم أن المجتمعات الحديثة تمد نسق التعليم بفرص مضاعفة لممارسة سلطته على تبديل الامتيازات الاجتماعية إلى امتيازات مدرسية هي ذاتها قابلة على أن تعاد سيرتها الأولى إلى امتيازات اجتماعية. ذلك لأن المجتمعات الحديثة تتيحلنسق التعليم تقديم مقدمات مدرسية هي اجتماعية ضمنياً، على أنها ضرورات ما قبلية تقنية لممارسة مهنة ما (39). هكذا، فإنه حين يشرك
الهوامش:
= بعض عناصر بدائية من التاريخ الروماني أو من علم حساب المثلثات ما هم ذلك. ما يهم هو أن اللقب يتيح الحصول على وضعية مريحة أكثر من وضعية أخرى ليست الشهادة بالنسبة إليها ملزمة. وما من شيء إلا ويجري كما لو كان المجتمع يستشعر ظنوناً بوظيفة بعض أوجه التربية وأن عليه الحد من الاختلافات رمزياً عبر خلق مقولات مثل مقولة «الثقافة العامة. انظر:
Edward Sapir, Anthropologie, traduction de Christian Baudelot et Pierre Clinquart. Paris: Editions de Minuit, 1967), tome II, p. 55.
(39) تلك النزعة المرتبطة بكل نسق مدرسي هي التي كان دوركايم يحيط بها علماً في الحالة المفضلة للمعهد من النظام القديم : "بالتأكيد لم يكن النظام القديم يكون أطباء، ولا قساوسة، ولا رجال دولة، ولا قضاة، ولا محامين، ولا أساتذة، لكن كان يقدر أنه كي يستطيع المرء أن يصبح استاذاً، محامياً، قاضياً، إلى غير ذلك، كان لزاماً أن يكون المرء قد مر بالمعهد".
الصفحة 313
ماكس فيبر مع تطور البيروقراطيات الكبيرة الحديثة، عقلنة إجراءات الاصطفاء والانتداب، وقد كان تطوراً مولداً لحاجيات متزايدة دون توقف، إلى خبراء أعدوا خصيصاً إلى مهام خصوصية، كان يفرط في تقدير استقلالية الوظائف التقنية حيال الوظائف الاجتماعية سواء النسق التعليم أم للنسق البيروقراطي وفي الحقيقة لعل رأس الإدارة الفرنسية لم يعترف أبداً على وجه التقريب بالاستعدادات الأكثر عمومية، وحتى تلك الأكثر ذيوعاً والأكثر عصياناً في كل الأحوال على التعبير والتشفير العقلاني أكثر مما اعترفت بها وصدقتها اليوم، ولم تتبع أبداً بذاك القدر من الكمال المتخصصين والخبراء والتقنيين المتخصصي الثقافة العامة القادمين سليلي المدارس الكبرى أكثر مما تتبعتهم اليوم (40).
ولما نفوض المؤسسة المدرسية سلطة الاصطفاء دوماً على نحو أكمل، قد تبدو أنها تتنازل لفائدة سلطة محايدة تماماً عن سلطة توريث السلطة من جيل إلى آخر، وأنها تتنازل بالتالي عن الامتياز الاعتباطي أن تورث الامتيازات وراثياً. لكن المدرسة بأحكامها التي لا عيب فيها شكلاً، والتي تخدم دوماً موضوعياً الطبقات المهيمنة من حيث إن تلك الأحكام لا تضحي أبداً بالمصالح التقنية لتلك الطبقات إلا لفائدة مصالحها الاجتماعية، فإنها قادرة أكثر من أي وقت مضى على كل حال، بالطريقة الوحيدة المستساغة في مجتمع
الهوامش:
(40) إن هذا التطور الذي شرع فيه في نهاية القرن الأخير مع خلق مباريات انتداب للإدارات الكبرى التي كانت حين تلتمس مستلزمات الثقافة العامة تطبع تراجع المختصين والتقنيين الذين كونوا بالممارسة، كان يجد بطريقة ما تحققه واكتماله في مباراة المدرسة القومية للإدارة التي عمرت الإدارات والدواوين الوزارية من السادة الشبان الذين كانوا راكموا امتيازات تربية برجوازية والتكوين المدرسي الأكثر عمومية والأكثر تقليدية على نحو نموذجي.
الصفحة 314
يدعي أنه يستند إلى أيديولوجيات ديمقراطية، على المساهمة في إعادة إنتاج النظام القائم إن كانت تنجح أفضل من أي وقت مضى في تورية الوظيفة التي توفي بها. وبعيداً عن أن يكون حراك الأفراد غير متناسب مع إعادة إنتاج بنية العلاقات الطبقية، فإنه يمكن أن يؤازر في حفظ تلك العلاقات بأن يضمن الاستقرار الاجتماعي عبر اصطفاء عدد محدود من الأفراد، اصطفاء مراقباً، ناهيك عن كونهم حوروا بالارتقاء الاجتماعي ولأجله، وأن يعطي من ثمة مصداقية لأيديولوجيا الحراك الاجتماعي، تلك التي تلقى شكلها المكتمل في الأيديولوجيا المدرسية للمدرسة المحررة (41).
الهوامش:
(41) أن نعتنق ضمناً تلك الأيديولوجيا على غرار بحوث عميمة تختزل مسألة إعادة إنتاج العلاقات الطبقية في مسألة الحراك ما بين الجيلين نكون نمتنع عن فهم كل ما تدين به الممارسات الفردية وعلى وجه الخصوص الممارسات التي تسهم في الحراك أو التي تنتج منه،
البنية العلاقات الطبقية الموضوعية حيث تتحقق. هكذا على سبيل المثال تنزع اليوم المصلحة الجماعية التي للطبقات المهيمنة بفعل تمدرسها الأقصى في البنية الموضوعية للعلاقات الطبقية، ومن ثمة في تطور نسق التعليم في اتجاه تبعية أوثق دوماً للزوميات الاقتصادي والحساب الاقتصادي، وهو أمر يلزم عنه من بين ما يلزم التضحية بشريحة من طلاب تلك الطبقات، إلى الدخول في نزاع مع المصلحة الفردية لأعضاء تلك الطبقات يحملهم إلى ترقب
من نسق التعليم التصديق الآلي للادعاءات الاجتماعية لأعضاء الطبقة جميعهم.
الصفحة 315
الفصل الرابع: التبعية بالاستقلال
"ثم في البدء صفّفها كاهن بالترتيب، ثم أخذ من على ركبتي لاكيزيس (Lachesis) أنصبة ومنوالات حياة اعتلى مصطبة مرتفعة ونادي : إعلان العذراء لاكيزيس بنت الضرورة. أيتها النفوس الزائلة، ستبدأون درباً جديداً وستُبعثون إلى المنزلة الفانية. وليس أمر مصيركم موكولاً إلى عبقرية ما. إنكم أنتم من سيختار عبقريته، وأول من ستنتدبه المشيئة سيختار الحياة التي سيرتبط بها وفق الضرورة (.)، فكل مسؤول عن اختياره ليست الألوهية من ذلك في شيء".
أفلاطون
الجمهورية
الصفحة 317
إن كنا نبتغي تحليل تواصل الرسالة أو تنظيم التمرين أو مراقبة آثار التواصل والتمرين وجزائهما، أي تحليل العمل البيداغوجي كفعل تلقين ممدود تتحقق به الوظيفة المخصة بكل نسق مدرسي، أو كنا نزمع تعقل الأواليات التي بها يصطفي النسق جهراً أم سراً، المرسل إليهم الشرعيين لرسالته بأن يفرض مستلزمات تقنية هي دوماً، بدرجات مختلفة، لزوميات اجتماعية، لا يتأتى لنا مثلما رأينا ذلك فهم الحقيقة المزدوجة لنسق عُين بقدرته على جعل منطق اشتغاله الداخلي يقوم في خدمة وظيفته الخارجية، وظيفة الحفظ الاجتماعي، إن نحن غفلنا عن إيعاز السمات كلها حاضرها وماضيها، التي لتنظيمه ولملأه إلى نسق الربط برمته التي تنشأ في تشكيلة اجتماعية محددة بين نسق التعليم وبنية العلاقات الطبقية أن نمنح نسق التعليم الاستقلالية (اللاتبعية المطلقة التي إليها يطمح، أو على النقيض أن لا نرى فيه إلا انعكاساً لحالة ما للنسق الاقتصادي أو تعبيرة مباشرة لنسق قيم المجتمع الكلي»، يعني أن نمتنع عن رؤية أن «استقلاليته النسبية تتيح له خدمة الطلبات الخارجية متظاهراً بالاتبعية والحيادية، أي أن يواري الوظائف الاجتماعية التي يوفي بها، ومن ثمة يؤديها على نحو أنجع.
الصفحة 319
إن السعي إلى تبويب وظائف النسق المدرسي الخارجية، أي العلاقات الموضوعية بين هذا النسق والأنساق الفرعية الأخرى مثل النسق الاقتصادي أو نسق المعايير، يظل سعياً وهمياً في كل مرة لا تربط هذه العلاقات نفسها، والمنشأة هكذا مع بنية علاقات القوة التي تنشأ بين الطبقات الاجتماعية في برهة مسماة. هكذا كان الأمر يقتضي ربط التنظيم الجامعي (مثلا، شروط التواصل البيداغوجي المؤسسية أو تراتبية الرتب والاختصاصات بخاصيات الجمهور الاجتماعية حتى نقي أنفسنا التقوقع في البديل ذي النزع الإمبيريقي الذي ينذر الحس المشترك وعدداً من التحليلات الأنصاف عالمة إلى التأرجح بين إدانة نسق مدرسي مفترض أنه يحمل وحده أوزار كل التفاوت الذي ينتجه، وبين التنديد بنسق اجتماعي حمل وحده مسؤولية تفاوت أوصى بها نسق مدرسي هو في حد ذاته نسق لا تشوبه شائبة. كذلك يتعين تحديد الشكل التفاضلي الذي تلبسه الربط بين نسق التعليم وبهذا النسق الجزئي أو ذاك، بالنسبة إلى كل طبقة اجتماعية من مجتمع تسمه بنية علاقات طبقية ما، إن نحن رغبنا في أن ندرأ عن أنفسنا الوهم المتواتر عند علماء الاقتصاد، أنه إن تك المدرسة التي ولاها المجتمع وظيفة لا شريك لها وتقنية لا غير، فإنها تنشئ رابطة وحيدة وذات معنى واحد مع اقتصاد ذاك المجتمع، أو ندرأ الوهم المخص ببعض الأنثروبولوجيين ذوي النزع الثقافي، أنه إن تك المدرسة قد ولاها المجتمع» وظيفة لا شريك لها، وثقافية لا غير تقضي بـ الترسيخ الثقافي» (Enculturation)، فإنها لا تأتي بغير التعبير في تنظيمها وفي اشتغالها عن تراتبية قيم الثقافة القومية التي تنقلها من جيل إلى آخر.
أن نختزل وظائف نسق التعليم في وظيفته التقنية على معنى أن نختزل عموم الربط بين النسق المدرسي والنسق الاقتصادي في مردودية» المدرسة مقاسة بحاجات سوق العمل، يعني أن نمتنع عن
الصفحة 320
استعمال المنهج المقارن استعمالاً دقيقاً بأن نقضي لأنفسنا بالمقارنة الصورية لمسلسلات إحصائية أفرغت من الدلالة التي للوقائع المقاسة من موقعها في بنية مخصوصة تخدم نسق وظائف مخصوص ولن توفي شروط استعمال المنهج المقارن استعمالاً مخصباً إن لم نربط إحصائياً تغيرات بنية نسق التعليم المتراتبة أي تقلبات الثقل الوظيفي لأي من الوظائف في نسق الوظائف برمته بتقلبات تنظيم النسق المدرسي المتوافقة. ولما تخضع للمساءلة نموذجين من المناهج يتفقان للتغافل عن تلك اللزوميات أكان باسم ضرب من فتوى تقضي بقابلية المقارنة كونياً، أو كان باسم الاعتقاد في لا اختزالية الثقافات القومية، فإنه بوسعنا أن نطمح على الأقل في تدقيق شروط بناء منوال يمكن من فهم أي من الحالات، وقد تحققت تاريخياً، كحالة مخصوصة لتحولات قد تصيب نسق الروابط بين بنية الوظائف وبنية التنظيم. وفي حقيقة الأمر، لا تتخذ مختلف نماذج بنية نسق التعليم معناها، أي مختلف التخصيصات التاريخية للوظيفة المخصة بإنتاج الاستعدادات الدائمة والمنقولة (ها بتوس)، والتي كتبت على كل نسق، إلا إذا ربطناها بمختلف نماذج البنى لنسق الوظائف؛ بنى هي ذاتها لا انفصال لها عن حالات علاقة القوى بين الزمر أو الطبقات التي بها ولأجلها تتحقق تلك الوظائف.
الوظائف الخصوصية لـ «المصلحة العامة»
ما عرفت أبداً مسألة غايات التربية تعريفاً كاملاً بالتساؤل حول المساهمة التي تدلي بها الجامعة في النمو القومي، أكثر من تعريفها اليوم. حتى أكثر الاهتمامات غرابة ظاهرياً عن ذاك المنطق مثل الانشغال المعلن بدمقرطة بلوغ المدرسة والثقافة، تقترض أكثر فأكثر لغة العقلانية الاقتصادية، فتلبس مثلاً شكل التشهير بـ «تبذير» ذوي القريحة. لكن هل أن العقلنة» الاقتصادية والدمقرطة» مرتبطتان
الصفحة 321
ارتباطاً آلياً على قدر ما يرغب التكنوقراطيون ذوي السريرة الطيبة في أن يعتقدوا؟ ما كان للسوسيولوجيا ولعلم اقتصاد التربية أن يهنا بيسر كبير، فيسجنا في إشكالية مثيلة لتلك الإشكالية لو لم يكونا يفترضان أن المسألة التي تطرحها موضوعياً التساؤلات كلها ذات النزع المصطنع عن «مرامي التربية هي مسألة مفروغ منها، من قبيل المسألة النظرية في شأن وظائف نسق التعليم، تلك الوظائف التي هي ممكنة موضوعياً (أي ممكنة ليس منطقياً فحسب إنما سوسيولوجياً)، وبشكل متلازم المسألة المنهجية في شأن قابلية أنساق التعليم ومنتجاتها للمقارنة.
إن الفكر التكنوقراطي وقد استعاد فلسفة التاريخ للتطورية الاجتماعية في أكثر أشكالها تبسيطاً، إذ يزعم إجلاء، من الواقع نفسه منوال خطي وذي بعد واحد، عن أطوار التغيرات التاريخية، إنما ينذر لنفسه بلا مقابل معيار مقارنة كونية يجيز له تراتب مختلف المجتمعات، أو مختلف أنساق التعليم وفق درجة تطورهم أو عقلانيتهم» بطريقة وحيدة يحفظ فيها المعنى ذاته. وفي الحقيقة، وبفعل أن مؤشرات عقلانية نسق التعليم تتلاءم بعسر أكبر مع التأويل المقارن بقدر ما تعبر على نحو أكثر اكتمالاً عن الخصوصية التاريخية والاجتماعية لمؤسسات وممارسات مدرسية، فإن هذا المنهج يقوض موضوع المقارنة ذاته أن يُجرّد العناصر المقارنة من كل ما تدين به إلى انتمائها إلى أنساق ربط من جراء ذلك، إذا ما استمسكنا بمؤشرات مجرّدة تجريد نسب الأمية والتمدرس والتأطير أو إذا ما أخذنا في الحسبان مؤشرات أكثر خصوصية عن مردود نسق التعليم أو عن درجات عندها يستعمل الموارد الفكرية المتوافرة افتراضياً مثل نصيب التعليم التقني، أو نسبة أصحاب الشهادات مقارنة بدفق الداخلين أو التمثيلية التفاضلية للجنسين أو الطبقات الاجتماعية عند مختلف درجات التعليم، فإنه يتعين إحلال تلك
الصفحة 322
العلاقات (الربط) كرة أخرى داخل أنساق الربط التي هي إليها تابعة، إن نحن رغبنا في درء مقارنة أشياء لا تقارن، أو بصورة أدق، درء نسيان مقارنة أشياء تقارن حقاً.
وعلى نحو أعمق، نقول إن تلك المؤشرات كلها تقف على تعريف مضمر لـ «إنتاجية النسق المدرسي الذي لما يحيل حصرياً إلى معقوليته الشكلية والخارجية، يختزل نسق وظائفه إلى إحداها، هي ذاتها تخضع إلى تجريد مختزل : ذلك أن القياس التكنوقراطي للمردود المدرسي يفترض المنوال المفقر النسق، ولإنه لا يعلم غايات أخرى خلا تلك التي له من النسق الاقتصادي، يستجيب بأفضل ما أمكنت الاستجابة، كما ونوعاً وبأبخس الأثمان للطلب التقني من التربية، أي يستجيب لحاجات سوق العمل. ولمن ينتسب إلى تعريف للعقلانية كهذا التعريف، فإن نسق التعليم الأكثر عقلانية (شكلا) هو ذاك الذي ولأنه يتبع كلياً لزوميات الحسابية والتوقعية، فإنه ينتج بأبخس الأثمان تكويناً خصوصياً معدلاً مباشرة على مهام مختصة، ويضمن لأجل مسمى نماذج الكفاءات الواجبة ودرجاتها التي يوجبها النسق الاقتصادي، أن يستخدم ابتغاء ذلك الغاية مستخدمين تكونوا خصيصاً على التحكم في أكثر التقنيات البيداغوجية تلاؤماً، وأن يتجاهل الحواجز الطبقية والجنسية كي يغترف بسعة ما أمكن ذلك ( من دون تعد مع ذلك حدود المردودية) من الاحتياطات الفكرية، وأن ينبذ أطلال المنزع التقليدي كلها، حتى يستبدل تعليماً قادراً على إنتاج، عند الطلب وفي الوقت المطلوب، اختصاصيين بحسب المقاس (1)، تعليماً ثقافياً نذر لتكوين النبلاء.
الهوامش:
(1) بالإمكان أن نرد على هذا التعريف العقلانية التعليم الشكلية بأنه لم تعد مطالب النسق الاقتصادي مصاغة اليوم بمعاني التخصص الضيق، وأن التشديد على العكس من ذلك هو تشديد على مهارة إعادة التأهيل المهني. وفي واقع الأمر يتعلق الأمر هنا بنموذج جديد =
الصفحة 323
ولكي نتعقل ما يفرغه تعريف كهذا التعريف على نسق الوظائف من تبسيط، حسبنا أن نشير إلى أن العلاقات الإحصائية التي عادة ما يلتمس بها أكثر من بقية العلاقات بغية البرهنة على وجود تناسب إجمالي بين درجة العقلانية الشكلية لنسق التعليم ودرجة تطور النسق الاقتصادي، لا تكتسب معناها الخصوصي إلا إذا أحللناها مكانها في بنية العلاقات الطبقية ولا يتأتى المؤشر ذي معنى واحد ظاهرياً كمؤشر نسبة أصحاب الشهادات من كل مستوى من كل اختصاص أن يؤوّل صلب المنطق الشكلي لمنظومة معادلات قانونية : إن المردودية الاقتصادية والاجتماعية الشهادة محددة هي رهن ندرته في الأسواق الاقتصادية والرمزية، أي رهن القيمة التي تمنحها جزاءات تلك الأسواق لمختلف الشهادات ولمختلف فئات أصحاب الشهادات. وهكذا، فإن مجرد أن يكون المرء عارفاً بالقراءة والكتابة في البلدان التي بنية الأمية فيها مرتفعة جداً، أو بالأحرى مجرد أن يكون حائزاً على شهادة ابتدائية، يكفيان لكي يؤمن امتيازاً دامغاً في السباق المهني. إضافة إلى
الهوامش:
= للاختصاص المهني فرضته حالة جديدة لطلب النسق الاقتصادي. وعلى الرغم من هذا التوسع في التعريف تظل المهارة على إنتاج قدرات قابلة للاستخدام مهنياً مقياساً لعقلانية نسق التعليم.
(2) بسبب المعادلة الشكلية للأنساق وللشهادات الجامعية، تبدو المقارنة بين الجزائر
وفرنسا على تلك الجهة ذات دلالة خاصة في مجتمع %57% من الأفراد فيه لا شهادة تعليم عام لديهم و 98% من الأفراد لا شهادة تعليم تقني لديهم، فإن امتلاك شهادة الأهلية الابتدائية (.C.A) أو شهادة التعليم الابتدائي (C.R.P). يمنح امتيازاً طائلاً في السباق الاقتصادي. إن فارقاً من مستوى طفيف مثل ذلك الذي يفصل فرداً يعلم القراءة من آخر يعلم القراءة والكتابة، هو ما يحدد تبايناً غير متكافئ من حظوظ النجاح الاجتماعي.
Alain Darbel et Pierre Bourdieu, Travail et travailleurs en Algérie, recherches méditerranéennes. Documents; I (Paris; La Haye: Mouton, 1963), pp. 272-273.
كذلك، فإن الحيازة فتاة شهادة ما مردوداً مختلفاً جداً بحسب نسبة تمدرس جمهور الإناث : هكذا على سبيل المثال، فإن %70% من الفتيات في الجزائر اللاتي تحصلن على شهادة التعليم.
الصفحة 324
ذلك، ولأن المجتمعات التقلدية غالباً ما تقصي المرأة عن التمدرس، ولأن استعمال القدرات الذهنية الفكرية كلها قد أوجبها تطور الاقتصاد، ولأن دخول المرأة مهن الذكور هو أحد التحولات الاجتماعية الأساسية التي تصحب التصنيع، فقد تسوّل لنا أنفسنا أن نرى في نسبة تأنيث التعليم الثانوي والعالي مؤشراً على درجة عقلنة» نسق التعلي ودمقرطته. وفي حقيقة الأمر، يدعونا المثالان الإيطالي والفرنسي ألا تخدعنا نسبة تأنيث مرتفعة، وأن الدرب المدرسي الذي تهبه أكثر الأمم غنى الفتيات، ليس في أغلب الأحيان إلا صيغة مختلفة عن التربية التقليدية، أكثر تكلفة وأكثر ترفاً، أو إن أردنا القول ليس إلا إعادة تأويل لأحدث دراسات الإناث وفق المنوال التقليدي لتقسيم العمل بين الجنسين مثلما يشهد على ذلك موقف الطالبات برمته من دراستهن، وعلى نحو أجلى أيضاً، اختيار الاختصاص أو نسبة الاستخدام المهني للشهادة، وكل ذلك سوية سبب ونتيجة لذاك الموقف. وعلى عكس ذلك، فقد تعبر نسب تأنيث ولو كانت ضعيفة عن قطيعة أكثر حسماً مع التعريف التقليدي لتربية الإناث في بلد مسلم كان ينزع كل تقليده إلى استبعاد الفتيات من التعليم العالي استبعاداً كلياً. وعلى نحو أدق نقول إن ليس للنسبة الإجمالية لتأنيث التعليم العالي ذات المعنى تبعاً لانتداب الطلاب الاجتماعي وفق توزيع نسب تأنيث مختلف الكليات ومختلف الاختصاصات. كذلك هي حظوظ بلوغ الجامعة في فرنسا اليوم متساوية بشكل ملموس للفتيان وللفتيات ذوي الأصل الاجتماعي عينه. ولا يمكننا ذلك أن نخلص إلى خبو نمط توزيع العمل التقليدي وأيديولوجيا توزيع الهبات»
الهوامش:
= الابتدائي (.C.E) أو على شهادة أعلى كن يشغلن سنة 1960 عملاً غير يدوي، أما نسبة غير النشيطات فهي عديمة الدلالة (المصدر المذكور، ص 208).
الصفحة 325
بين الجنسين ذلك أن الفتيات تظل منذورات أكثر من الفتيان إلى بعض نماذج من الدراسات الآداب أساساً، ويزداد ذاك الأمر جلاء بقدر ما يكن من أسفل السافلين أصولاً. وحتى المؤشرات، فإنها تبدو للوهلة الأولى قليلة الالتباس على قدر ما تكون نسبة الطالبات اللاتي يستخدمن مؤهلاتهن في ممارسة مهنة ما، تخضع لأثر النسق كي يقاس على نحو واف المردود الاجتماعي الشهادة تحصلت عليها إمرأة ما يقتضي الأمر على الأقل أن نأخذ في الحسبان أنه كلما تأنثت مهنة ما ساءت قيمتها» (مثل مهنة التعليم في الدرجتين الأولى والثانية في فرنسا).
ثمة مثال آخر عن ذلك، أن مؤشر مردودية نسق التعليم أن كان مؤشر نسبة سقط المتاع) ( حدّدت بنسبة الطلاب الذين من دفق الداخلين لا يدركون الحصول على الشهادة التي يجاز بها انتهاء الدراسات)، وهو الذي لا يرد له أمر ظاهرياً أكثر من المؤشرات الأخرى، يظل فقيراً للمعنى طالما لم نهتد إلى أن فيه أثر تركيب خصوصي من الاصطفاء الاجتماعي والاصطفاء التقني، يأتيهما نسق التعليم دوماً على نحو هما فيه لا ينفصلان : «سقط المتاع» في تلك الحالة إنما نتاج أصابه التحويل بما نفسه أصاب النتاج المكتمل. أفلا ننظر إلى نسق الاستعدادات إزاء المؤسسة المدرسية والمهنة وكامل المعيشة التي تميز الفاشل في الوقت نفسه الذي تنظر فيه إلى الربحالثانوية والتقني، وبخاصة الاجتماعية التي يمنحها على نحو متفاوت بحسب المجتمعات والطبقات، أمر أن يكون المرء قد قام بدراسات ولو كانت على نحو متناوب أو متقطع ؟ ثم ما نفع المقارنة بين نسب سقط متاع الجامعات الإنجليزية (14) أو الأمريكية أو الفرنسية (40) إن نحن أغفلنا اعتبار زيادة على درجة الاصطفاء عند الدخول الذي يميز إنجلترا عن فرنسا أو عن الولايات المتحدة، تنوع
الصفحة 326
الإجراءات التي تستخدمها مختلف الأنساق حتى تأتي الإصطفاء وتجعل آثاره مستبطنة منذ النبذ الذي لا رجعة فيه، والذي يأتيه الامتحان، وبخاصة تأتيه المناظرة على الطريقة الفرنسية، انتهاء بـ «الإقصاء اللين (Cooling out الذي تجيزه تراتبية المنشآت الجامعية في الولايات المتحدة (3)؟ وإذا كان حقاً أن نسق تعليم ما ينجح دوماً في الحصول من أولئك الذين يصدقهم، أو حتى من أولئك الذين يستبعدهم بعض من درجة الظنّ في شرعية التصديق أو شرعية الاستبعاد ومن ثمة الظن في شرعية التراتبيات الاجتماعية، لاتضح لنا أن بإمكان مردودية تقنية ضعيفة أن يكون مقابلاً لمردودية عالية لنسق التعليم حين إنجازه وظيفته التي تقضي بشرعنة النظام الاجتماعي، وذلك حتى ولو كان التنكوقراطيون بفضل امتياز اللاوعي الطبقي ينسبون إلى أنفسهم أحياناً التشهير بتبذير لا يستطيعون أن يقدروه عدداً إلا أن يخفوا الأرباح المرتبطة بذاك التبذير عبر ضرب من التزوير في المحاسبة القومية.
الهوامش:
(3) ما يصلح للمنشورات الإحصائية يصلح أيضاً لأكثر مؤشرات تنظيم النسق المدرسي واشتغاله خصوصية في ظاهرها: إن تحليلاً لمضمون البرامج والكتب المدرسية يتغافل عن الشروط الحقيقية لاستخدامها، أو أن دراسة عن مراقبة الدولة الجامعات أو عن اللامركزية الجامعية أو عن انتداب الإداريين والأساتذة تستند إلى النصوص القانونية لا غير سيكون مضللاً خلال دراسة السلوكيات الدينية التي تزعم الاستدلال من خلال نصوص كنسية، على ممارسة المؤمنين الحقيقية حتى حين تكون محددة بنصوص شكلياً متماثلة. وفي الحقيقة فإن الحرية الجامعية هي رهن العلاقات التي يرتقها النسق المدرسي مع السلطة السياسية أو الدينية. فتسمية الاستاذ بالكلية هو من شأن الوزارة، نظرياً، إلا لكونه أمراً مكتسباً آليا للمرشح الذي رشحه مجلس الجامعة، فإنه يتوقف على انتخاب الزملاء لزميلهم، بعد حملة انتخابية حقيقية لدى الزملاء. وعلى العكس من ذلك فإن عدداً من الانتخابات في بلدان أخرى، ليست إلا إجراءات شكلية تثبت خيارات أخذت آنفاً. ففي إيطاليا يجري الانتداب رسمياً متوسلاً المباراة، إلا أن ذاك التمشي بالكاد يخفي لعب العصب والتأثيرات داخل الجامعة وخارجها.
الصفحة 327
ما نبتغي قوله هو أن للمقولة التكنوقراطية التي تقول بـ «المردودية»، وظيفة أن تستبعد تحليلاً لنسق وظائف نسق التعليم : إذا ما أنجز ذلك التحليل إلى منتهاه، سوف يحول دون اللجوء إلى مسلمة «المصلحة العامة»، أكانت مسلمة مضمرة أم جهرية، أن تُري أن ليس لأي وظيفة من وظائف نسق التعليم أن تحدد بمعزل عن حالة مسماة لبنية العلاقات الطبقية. مثلاً إذا كان الطلاب سليلو الطبقات الاجتماعية المختلفة ميالين على نحو متفاوت للاعتراف بأحكام النسق المدرسي، وبوجه خاص إذا كانوا مهيأين على نحو متفاوت لقبول، من دون أن تصيبهم فاجعة، ومن دون أن ينتفضوا، الدراسات والدروب من الدرجة الثانية أي مراكز الأساتذة أو مراكز الموظفين المتوسطين التي تنذرهم إليها الكليات والاختصاصات فتوفر لبعضهم وليجة أخيرة، أما الآخرون فيلفون أنفسهم فيها وقد نبذتهم أواليات التوجيه)، فلأن الربط بين النسق المدرسي والنسق الاقتصادي، أي سوق العمل هنا تظل مرتبطة حتى عند المثقفين المبتدئين، بوضعية طبقتهم الاجتماعية الأصلية ومنزلتها عبر وساطة الخلق الطبقي باعتباره مبدأ لمستوى التطلع المهني. وإلا نأتي ربطاً كهذا الربط، فقد نختزل كل نسق الربط الذي يسوس علاقة فئة ما من الأفراد بمستقبلها المهني، إلى أثر آلي يقضي بتناسب عرض العمل وطلبه أو لا تناسبهما. إن ما يأتيه شومبيتر (Schumpeter) هو اختزال من ذاك النمط، إذ يزعم إقامة رابطة بسيطة ومباشرة بين الإفراط نسبياً في إنتاج أصحاب الشهادات بالنظر إلى منافذ الشغل وظهور الموقف الثوري عند المثقفين (4). كذلك هو أمر م. فرمو
الهوامش:
(4) Joseph Alois Schumpeter. Capitalisme, socialisme et démocratie: La Doctrine marxiste; le capitalisme peut-il survivré Le Socialisme peut-il fonctionner? Socialisme et démocratie, traduit de l'anglais par Gaël Fain, petite bibliothèque Payot; 55 (Paris: Payot, 1961). pp. 254-259.
الصفحة 328
غوشي (M. Vermot-Gauchy) لما طفقت تصوغ سياسة تربوية»، اختزلت جملة وتفصيلاً ذاك الطموح إلى تحديد الطبيعة منافذ الشغل وأهميتها، هي منافذ يُفترض بها أن تنفتح للأجيال الصاعدة ولــ النشيطين (5) : كي نحصي حاجات التأهيل تلك، حسبنا أن نمر من آفاق الإنتاج إلى الحاجات المتوقعة من اليد العاملة من مختلف القطاعات، ومن توقع اليد العاملة المستخدمة في قطاع ما إلى حاجاته من التأهيل»، ومن حاجات التأهيل تلك إلى حاجات التكوين، وأخيراً من حاجات التكوين إلى مستوى ومضمون المؤهلات المستوجبة مدرسياً لإرضائها. ثمة استنباط آخر لا حرج فيه ظاهرياً (بالنظر إلى التخمينات وفرضيات الثبات التي ينتدبها كل إسقاط) يستند إلى تعريف لـ «الحاجات لا تقوم مصداقيته إلا على مماثلة سطحية : إما أن لا نعترف بها حاجات إلا تلك التي تقدر أهلاً أن ترضى بالإحالة إلى مثال تكنوقراطي عن عزة الأمم الاقتصادية، وإما أن نعترف بها حاجات كل مطالب التربية وقد عبر عنها فعليا (6). لا شيء يحول دون اختيار أول معنيي البديل ومن
الهوامش:
(5)Michel Vermot-Gauchy, L'Education nationale dans la France de 1975, futuribles; 2 (Monaco: Editions du Rocher, 1965), p. 75.
(6) يظهر الطلب على التربية في مناسبتين، حين دخول نسق التعليم كطلب تمدرس أما مطالب سوق العمل التي تجازي فائض أصحاب الشهادات بالبطالة أو التشغيل الجزئي فإنها لا تبرز إلا لاحقاً. إن مطلب التمدرس الذي يترجم في اتساع الانتداب الاجتماعي للتعليم، وفي إطالة التمدرس يطبع انتظامات مستقلة جزئياً عن ضرورات العدد، وعن ضرورات الأهلية يزمع التخطيط المدرسي إرضاءها. إن ذاك الطلب بالذات (وهو طلب مرتبط ارتباطاً لصيقاً بارتفاع مستوى المعيشة وتطور المواقف حيال المدرسة من مختلف الطبقات الاجتماعية) هو ما يتخذه تقرير روبنز (Robbins) أساً لتوقع قوام المدرسة. وهو تقرير أدنى يقينية من تقرير م. فرمو غوشي (M.Vemot-Gauchy) في شأن توقع الطلب التقني لسوق العمل (وهو توقع تبع مصادفات النمو والتجديدات التقنية غير المتوقعة في ما وراء أجل قصير جداً.
Great Britain. Committee on Higher Education, Higher Education.
الصفحة 329
دون أن يعزى حال محدد من المدرسة إلى منوال خالص لنسق تعليم حددته مهارته على إرضاء لزوميات التنمية الاقتصادية على نحو حصري وعلى معنى واحد أحد. لكن بالنظر إلى أن ما من مجتمع فيه يلفى نسق التعليم نفسه مختزلاً في دور مؤسسة صناعية خاضعة لغايات اقتصادية حصرياً، وبالنظر إلى أن الإنتاج لأجل حاجات الاقتصاد لا يملك حيث كان الثقل عينه في نسق الوظائف، وعلى نحو أعمق بالنظر إلى أن خصوصية النسق المدرسي وتقنياته من «الإنتاج تلفى نفسها وقد أعيد انتاجها في خصوصية نتاجاتها، فإنه ليس إلا عبر عملية ترهيب أيديولوجية، يتأتى للمرء تقديم حاجات الاقتصاد» أو «حاجات المجتمع بمثابة الأس العقلاني والمعقول للتوافق على تراتبية الوظائف، وهي حاجات تفرض نفسها من دون نقاش على نسق التعليم. ولما تقضي الأيديولوجيا التكنوقراطية على المحفزات» أو «الدعوات أنها لاعقلانية، تلك التي تحمل في أيامنا هذه قسطاً من الطلاب إلى دراسات وسير غير منتجة، من غير أن ترى أن تلك التوجهات محصلة فعل مزدوج للمدرسة وللقيم الطبقية، يوجههما موضوعياً، هما بعينهما، فعل المدرسة، فإنما بذلك تخون أمر أنها لا علم لها بأهداف أخرى عقلية» إلا تلك الغايات المكتوبة في البنى التي لنموذج معين للاقتصاد. هلا يتأتى لنا أن نجاهر بفكرة هي سوسيولوجياً - منطقياً من قبيل المحال
الهوامش:
=Report of the Committee Appointed by the Prime Minister, under the Chairmanship of Lord Robbins, 1961-63, Great Britain. Parliament. Papers by Command cmnd; 2154 (London: H. M. Stationery Off. 1963.
(7) القصد هنا أن معرفة اشتغال النسق المدرسي والمواقف من التعليم، المخصة بمختلف الطبقات الاجتماعية، يوفر الأرضية الوحيدة للتوقع، إذ نبغي ليس معرفة ما يكون عليه التوزيع المنشود لقوام المدرسة بين شتى أنظمة التعليم وشتى نماذجه، بل معرفة حظ ما يكون عليه في أجل مسمى.
الصفحة 330
عن نسق تعليم مختزل في وظيفته الاقتصادية دون سواها لولا تدرج كرة أخرى بكل براءة تحت غطاء الوظيفة التقنية الوظائف الاجتماعية لنسق التعليم، وعلى وجه الخصوص وظائف إعادة إنتاج بنية العلاقات الطبقية وشرعنتها أن تغفل عن نعزو النسق الاقتصادي الذي يتبع به نسق التعليم إلى بنية علاقات طبقية محددة، ونظن أنه من باب تحصيل الحاصل أن يرى طلب اقتصادي على أنه طلب مستقل عن علاقات القوة بين الطبقات؟
ولا غرو في إن كان ذاك المنزع المثالي الذي يقول ب المصلحة العامة يفرط في خاصيات البنية وسمات الاشتغال التي يدين كل نسق التعليم بها لجملة ربطه مع بقية الأنساق الجزئية، أي إلى نسق الوظائف الذي تكون بنيته الخاصة في وضعية تاريخية محددة هي من بنية الروابط الطبقية ولا غرو في ذلك بالأحرى إن كان النزع الأحادي لوحدة الاقتصاد القياسي يجهل الخاصيات المميزة التي تدين بها بنية نسق التعليم واشتغاله إلى الوظيفة التي توجبت خالصة لذاك النسق باعتباره صاحب سلطة مفوضة أن تلقن اعتباطاً ثقافياً. ولا غرو في ذلك أخيراً إن قضى الحلف الساذج بين النزع التطوري للمحصي والنزع الإرادي للمصلح، بسوسيولوجيا سلبية لا تقدر على معرفة شيء آخر إلا نقصان عن عقلانية مثالية أو تقصير دونها عتاقة» أو «بقيا» أو «تأخر» أو «عقبة» أو «ممانعة»)، فلا تقدر بالتالي أن تعين الخصوصية البيداغوجية لنسق تعليم ما وفرادته التاريخية إلا بمفردات الغياب.
اللاتفاضل في الوظائف واللامبالاة إزاء التباينات
إن الذين ينذرون لأنفسهم مشروعاً، إدراك أصالة ثقافة ما في الوحدة الدالة لعناصرها، والذين كالمدرسة ذات المنزع التشكلي يشهدون بواسطة الاهتمام الذي يولونه مختلف أشكال التربية، بأنهم
الصفحة 331
يزمعون اجتناب فصل التحليل الذي لثقافة ما عن دراسة التوريث الثقافي، قد يبدون للوهلة الأولى، أنهم أفلتوا من التجريدات التي تنسل عن الجهل بـ «التشكليات». لكن هل لنا أن ننذر لأنفسنا الثقافة ككلية عيانية مسؤولة بطمها وطميمها عن علتها المخصة بها، فنحل لأنفسنا عندئذ إرجاع مختلف الأوجه التي لثقافة ما إلى ضرب من. تركيب مولد من قبيل روح العصر أو الطبع القومي»، من دون أن نجازف، فنغفل خصوصية مختلف الأنساق الجزئية أن نتناول كل منها كما لو أنها لا تظهر إلا الديناميكية الواحدة نفسها، هي ديناميكية أساسية حاضرة بأسرها من غير وساطة في كل من تمظهراتها ؟ وإذا يختزل لزوم تجميع الروابط الخصوصية إلى فلسفة للكلية التي تبغي أن يكون الكل في الكل يسوق بعصمة كعصمة الأيديولوجيا التكنوقراطية إلى الجهل، زيادة على الجهل بخصوصية نسق التعليم واستقلاليته النسبية، بأثر النسق الذي يمنح دلالته وثقله الوظيفيين إما لوظيفة صلب نسق الوظائف، وإما لعنصر صلب البنية تنظيماً أكان أم جمهوراً، ونحو ذلك صلب البنية أو مستقبلها : فبينما كان البعض يختزل تاريخ نسق التعليم، وهو تاريخ مستقل نسبياً، إلى رسم مجرد لتطور وحيد وخطي وكوني، لا يعرف إلا الأطوار من نمو مورفولوجي أو المراحل من سيرورة عقلنة شكلية وخارجية، كان الآخرون يختزلون الخصوصية التي لنسق التعليم من استقلاليته النسبية «الأصالة» التي لـ«ثقافة قومية، حتى إنهم لقادرون مثلاً على العثور على السواء، على آخر القيم التي لمجتمع ما في نسقه التعليمي، أو العثور على أثر التعليم في أكثر قسمات ثقافته خصوصية وأكثرها تنوعاً. على هذا النحو يعتبر جيسي ر. بيتس (Jessie R. Pitts) (زمرة الرفاق في المدرسة وقد وصفها بأنها جماعة منحرفة»، «طرازاً نموذجياً لزمر التضامن التي تتواجد في فرنسا، في ما وراء النواة العائلية والعائلة الممتدة». هكذا يرى مثلاً العدوانية تجاه الآباء
الصفحة 332
والأساتذة» في «مكيدة الصمت حيال السلطات العليا ). غير أن بوسعه أن يرى أيضاً في الرابطة البيداغوجية انعكاساً خالصاً لـ «المباحث الثقافية لفرنسا الخالدة : صلب تلك الروابط مع الأستاذ، يوضع الطفل في حضرة أحد أكثر التجسدات نمطية لقيم عقيدية - تراتبية فرنسية (9). وسيُبعث مرة أخرى بالمدرسة كما بالعائلة، بالتنظيمات البيروقراطية، كما بالجماعة العلمية، مثل السمة الثابتة للمجتمع الفرنسي، أو لـ النسق الثقافي الفرنسي، نموذج للعلاقة بالآخر وبالعالم يميزه على نحو دوغمائي نصيب من كلمات مجردة من قبيل : استبدادية»، «دوغمائية»، «تجريد». ألا نحلل الأواليات البيداغوجية تحديداً، والتي بها تسهم المدرسة في إعادة إنتاج بنية العلاقات الطبقية أن تعيد إنتاج توزيع رأس المال الثقافي توزيعاً متفاوتاً بين الطبقات؟ إذ قد يجازف عالم الاجتماع ذو النزع الثقافي، فيخلد إلى متجانسات غير مفسرة، وإلى توافقات لا تفسر، وإلى متوازيات هي إلى ذاتها تفسيرها المخص بها. وما كان أبداً ادعاء بلوغ، صبرة المبدأ عينه الذي للنسق الثقافي بقوة الحدس، ادعاء محجوجاً بمثل ما هو محجوج في حالة مجتمع منقسم طبقات حيث لا يكلف نفسه تحليلاً أولياً لشتى نماذج الممارسة أو المستوياتها، وللعلاقات التفاضلية لشتى الطبقات بتلك الممارسات (10).
الهوامش:
(8)J. R. Pitts, «Continuité et changement au sein de la France bourgeoise » dans: Stanley Hoffmann [et al.], La Recherche de la France, collections esprit. La Cité prochaine (Paris: Seuil, 1963).
(9) المصدر نفسه، ص288
(10) كذلك كان الاختصاصيون اليابانيون الذين انتقدوا عمل روث بندكت (Ruth أخذوا عليه أساساً التبسيطات The Chrysanthemum and the Sword : في Benedict( والتخمينات التي يجيزها استعمال مثيل لاستعمال المقاربة الكلانية. إنهم يتساءلون عمن هو =
الصفحة 333
إن كل نسق تعليم يدين فعلاً ببنيته الفريدة إلى اللزوميات العابرة للتاريخ التي تحدد وظيفته المخصة به أن يلقن اعتباطاً ثقافياً، بقدر ما يدين بها إلى حال نسق الوظائف، وهو الذي يعين تاريخياً الشروط التي فيها تتحقق تلك الوظيفة. عندئذ، أن نرى في الأيديولوجيا الكارزمية لـ «الهبة» ولـ «البراعة» اللتين نجدهما في فرنسا على درجة في منتهى الارتفاع، سواء عند الطلاب أم عند الأساتذة، مجرد بقيا أو مخلفات) من تعبد الأرستقراطية المأثرة، يعني أن نمتنع عن أن نتبين أن تلك الأيديولوجيا في شكلها المدرسي (معية الممارسات التي تدعمها أو تدعو إليها أحد الطرق الممكنة - الأكثر تناسباً ولا ريب مع شكل تاريخي لطلب إعادة الإنتاج وشرعنة بنية الروابط الطبقية - للحصول في الفعل البيداغوجي عينه وبه على الاعتراف بشرعية الفعل البيداغورجي. فوق ذلك، عندما نحلل تغيرات تلك الأيديولوجيا وفق المنازل التي تحل فيها صلب بنية النسق المدرسي مختلف فئات الأعوان أساتذة أم طلاب أساتذة تعليم عال أم أساتذة تعليم ثانوي طلاب الآداب أم طلاب العلوم)، ووفق العلاقة التي يقيمها أولئك الأعوان مع منازلهم بحسب انتمائهم أو بحسب أصلهم الاجتماعي، فقد نقضي لأنفسنا تفسير تجريد «سوسيولوجي» بتجريد «تاريخي»، وربط على سبيل المثال تعبد الأستاذ المآثر
الهوامش:
= ذاك الياباني الذي يقال له نارة العامي Proverbial Man in the Street) وطوراً «الناس جميعهم (Everyone) أو أياً كان Anybody) لقد لاحظ ميناني (Minani) أن أغلب ترسيماته تتقدر على العصب العسكرية والفاشية للحرب العالمية الثانية. ويعتبر والتسويي (Waltsuyi) أن ترسيماته التي له دون العالمين لا تتقدر على أي زمرة معاينة من الأمة. . ويتساءل أغلب المعلقين أنى لتلك التعميمات الآنفة أن تكون متناسبة مع التنافر الجلي جداً John W. Bennett and Nagai Michio, «The Japanese : للمجتمع الياباني؟ انظر Critique of Benedict's The Chrysanthemum and the Sword,>» American Anthropologist, vol. 55, no. 3 (August 1953), pp. 405-410,
الصفحة 334
الكلامية بتعبد الوطن في المآثر الفنية أو الحربية. ذاك أمر لا يكون إلا أن نقترح بشكل متزامن أن الخلقية (Ontogenese) قادرة على تفسير تطوّر النسالة (Phylogenese)، وأن السيرة قادرة على تفسير التاريخ: لو عدنا إلى الجذور لتبين لنا إنا كنا نحقق مأثرة إذا كنا نقترف صنيعاً ذا بأس بواسطة قرار تلقائي وغير متوقع، مطيعين عند إتيانه مبادئ جلية ومعلومة منذ أمد طويل في رونسفو (Roncevaux) عرف رولان (Roland)، وقد حمله إيمانه في مبادئ الفروسية كيف يستثمر فرصة تحويل مقامات معاكسة إلى يوم لغلبة الفكر(.)، إن المأثرة لقادرة إذن على أن تكون في المستويات الاجتماعية كلها. إن صنع الحرفي الباريسي قطعة الحلي، وتقطير الريفي تقطيراً متقناً النبيذ، ورباطة جأش المدني أمام تنكيل البوليس السري الألماني وغزل مارسيل بروست اللطيف في مجلس السيدة دي جرمونت (De (Guermantes كلها أمثلة عن المأثرة في فرنسا الحديثة. (11) ولكي نخرج من الدائرة المفرغة للتحليل المبحثي، أن كانت كالمسالك السياحية بين المباحث المشتركة التي لا تستطيع أن تهدي إلا إلى أفكار مشتركة»، ليس ثمة، مثلما نرى من مناص آخر إلا أن نفسر القيم المضمرة لأدلة التاريخ بتاريخ للدليل.
قد يحمل على الظن أن تحليلاً مثل تحليل ميشال كروزييه (Michel Crozier)، لما يجهد لتطبيق نظريته عن الظاهرة البيروقراطية على نسق التعليم الفرنسي يفلت من التلفيقية الكلانية لتحاليل الأنثروبولوجين الثقافيين المتسرعة. وفي واقع الأمر، فإن هذا التحليل يراكم الأخطاء النظرية التي للنزع الثقافي وأخطاء الفكر
الهوامش:
(11)Pitts, «Continuité et changement au sein de la France bourgeoise,» pp273-274
الصفحة 335
التكنوقراطي، تظاهراً بتقويم التجريد المرتبط بالتوصيف النوعي للبيروقراطية بواسطة سلف ملموسة من التوصيفات ذات النزع الثقافي لـ «الثقافة الفرنسية : على سبيل أن نظريته تجهل الاستقلالية النسبية لمختلف الأنساق الجزئية، فإنها لا تقدر إلا على العثور في كل منها، وخصوصاً في نسق التعليم على ارتسام لأكثر السمات عمومية للبيروقراطية الفرنسية هي عينها سمات نيلت بتقاطع بسيط لأعم توجهات المجتمعات الحديثة، وللتوجهات الأعم من الطبع القومي». أن نطرح منذ البدء أن النسق التربوي لمجتمع ما يعكس نسقه الاجتماعي يعني أن نختزل بغير أي إجراء آخر، المؤسسة المدرسية في وظيفتها النوعية التي تقضي بـ «الرقابة الاجتماعية»، رقابة هي الراسب المشترك للوظائف الخصوصية كلها، وأن نقضي لأنفسنا بالجهل بكل ما يدين به نسق تعليم ما لوظيفته المخصة به، وعلى وجه الخصوص، الجهل بطريقته المميزة في الوفاء بما عليه من وظائفه الخارجية في مجتمع وزمن مسميين (12). هكذا، على سبيل المثال لا يتأتي لميشال كروزييه أن يتملك ناصية قسمات المؤسسة المدرسية المميزة، مثل تطقيس الفعل البيداغوجي، أو مثل المسافة بين الأستاذ والتلميذ، إلا بقدر ما يعترف أنها تمظهرات للمنطق البيروقراطي، أي بقدر ما يجهل ما لديهم تخصيصاً من مدرسي بما هوَ تعبير عن توجهات أو لزوميات مخصة بأنساق التعليم الممأسسة كلها ولو كانت قليلاً مبقرطة أم كانت خلاف ذلك: إن
الهوامش:
(12) Michel Crozier, Le Phénomène bureaucratique, essai sur les tendances bureaucratiques des systèmes d'organisation modernes et sur leurs relations en France avec le système social et culturel (Paris: Seuil, 1963), p. 309.
ونقرأ أيضاً : علينا إذاً لو كانت فرضياتنا صحيحة، العثور في نسق التربية الفرنسي على العناصر المميزة للنسق البيروقراطي، ولا سيما أن تلك العناصر تنتظم حول معضلة الرقابة الاجتماعية، وأنها لا تقدر على البقاء لولا أن التربية تورثها وتعززها.
الصفحة 336
التوجه (Routinisation) إلى جعل العمل البيداغوجي روتيناً منمطاً، وهو توجه يتجلى في ما يتجلى إلى إنتاج أدوات فكرية ومادية صورتها المدرسة ولأجل المدرسة أكانت أدلة أو مدونات أو مأثورات مختارة ونحوه، تظهر مع علامات المأسسة الأولى في المدارس التقليدية التي كالمدارس البلاغية والفلسفية للعصور القديمة أو المدارس القرآنية، لا تمثل أياً من قسمات التنظيم البيروقراطي (13). وإذا ما نظرنا من ناحية أخرى إلى التجلي بالإشارة» (Epideixis) للسفسطائيين، وهم مقاولون صغار في التربية، وكانوا مكرهين أيضاً على اللجوء إلى التقنيات النبوية لاستهواء الملأ ابتغاء انشاء علاقة بيداغوجية، أو اللجوء إلى تقنيات البلبلة التي بها كان أساتذة الزان (*) (Zen) يفرضون سلطانهم الروحي على زبائن أرستقراطيين، لجاز لنا أن نشك في أن فهم مأثرة» العلامية، وفهم أثر النأي الذي هو منها، انطلاقاً من وجود هوة بين المعلم والتلميذ، تعيد إنتاج فصل النسق البيروقراطي منازل»، هو أفضل من فهمها بالإحالة إلى لزوم وظيفي ما مرتبط بكل فعل بيداغوجي، باعتبار أن ذاك الفعل يفترض
الهوامش:
(13) هكذا إذن يقدم السفسطائيون، أول الأساتذة المحترفين، انظر : Protagoras, 317 b Plato
أعترف أني استاذ محترف - سفسطائي - مرب للناس) لتلامذتهم مقتطفات أشعار مختارة لشعراء عظام.
(Plato, Protagoras, 325e.)
ثم يشرعون في توزيع نسخ من كتاباتهم المخصة بهم منوالات) (paradigmata) نزعم أنها المصححة. انظر:
Rudolf Pfeiffer, History of Classical Scholarship from the Beginnings to the End of the Hellenistic Age (Oxford: Clarendon Press, 1968, p. 31.
(*) الزان (Zen) هو أحد المذاهب البوذية التي تتوسل تقنيات بيداغوجية أكثر منها الممارسة على سبيل اللجوء إلى قضايا مفارقة أو إحراجات عبثية على المريد أن يحللها لا أن يحلها، في خلاء اللامعنى، ويكون له بذلك أن يحل في خلو التوتر والمشيئة كالماء الراكد العاكس العالم مرآة.
الصفحة 337
الاعتراف بسلطان الأستاذ البيداغوجي، ثم عليه إنتاجه أكان سلطاناً شخصياً أو فوضته إياه المؤسسة. قس على ذلك، حين لا يرى میشال كروزييه في الضمانات المؤسسية لـ الاستقلال الجامعي إلا شكلاً لضمانات متضمنة قانونياً في التعريف البيروقراطي للمراكز، فإنه يخلط في واقعة واحدة واقعتين لا اختزالتين بقدر لا اختزالية أنساق الروابط (الربط) التي هما فيها مساهمتان من جهة، الاستقلالية التي طالب بها الأساتذة وحصلوا عليها باعتبارهم موظفين خاضعين التشريع مشترك من إدارة من الدولة؛ ومن جهة أخرى، الاستقلالية البيداغوجية الموروثة عن طائفة الأساتذة في القرون الوسطى (14) : إن النزع المميز لكل نسق تعليم والذي يقضي بإعادة تأويل اللزوميات الخارجية وإعادة ترجمتها طبقاً لوظيفته المخصة به أكان نسقاً بيروقراطياً أم خلاف ذلك، لقادر وحده من دون سواه على أن يفسر مقاومة تنزع هيئة الأساتذة إلى أن تصدّ بها كل تعريف خارجي لمهامها باسم إيتيقا اليقين؛ إيتيقا تأبى قياس محصلات الممارسة بمقاييس أخرى إلا أن تكون مقاييس القيم المخصة بالهيئة، وباسم أيديولوجيا الحذق وحصانتها التي تتحصن بالتماس تقاليد الاستقلالية التي وصى بها تاريخ مستقل نسبياً. أما والقول ببعض عطالة ميكانيكية أو بعض دأب ناشز فدونها تفسير كل ذلك. باختصار نقول إلا نقر أن نسق تعليم فريد يحدده نموذج استقلالية ودرجة استقلالية مميزين، فقد نصبو إلى توصيف خاصيات اشتغال المؤسسة وممارسات الأعوان تعزى للسلطة الراجعة إلى المدرسة على أنها مجرد تخصيصات السيرورة نوعية مثل النزوع إلى البرقرطة؛ وهي
الهوامش:
(14) "لقد كان المدرسون الفرنسيون أول من تحصل على ضمانات قانونية تلجمهم من أي اعتباط ولئن كان عليهم متابعة برامج ما زالت على قدر كبير من الصرامة بوجه عام فإنهم اكتسبوا مع ذلك أكثر لا تبعية شخصية كمالاً ".
311. Crozier, Ibid, p
الصفحة 338
سلطة تقضي بأن توفي المدرسة بوظائفها الخارجية طبقاً لمبادئ تحدد وظيفة التلقين بها.
إننا إذ نبين كل الربط بين الأنساق وفق الترسيمة الاستعارية لـ الانعكاس»، أو ما، وفق انعكاسات ينعكس بعضها على بعض، وهو أدهى وأمر، يعني أن نميع في اللاتفاضل الوظائف التفاضلية التي تؤديها مختلف الأنساق في روابطها مع مختلف الطبقات الاجتماعية. هكذا إذن تكتب تحاليل البيروقراطية نفسها ولعلاقاتها بالنسق المدرسي، وهو الذي يصل الممارسة وقيم كبار هيئات الدولة بالتكوين الذي وفرته مختلف المدارس الكبرى، إلى الجهل بأمر أن قدماء تلامذة تلك المؤسسات يصدرون إلى جهاز الدولة، وقد أمن لهم نسق المدارس الكبرى احتكاره، استعدادات وقيماً هم بها مدينون على الأقل لانتمائهم إلى بعض شرائح الطبقات المهيمنة المسافة من الدور الهروب إلى التجريد، أو نحوه بقدر ما يدينون بها إلى تعليم المدرسة. هكذا إذاً، كرة أخرى نكتب على أنفسنا ألا نرى في أكثر المواقف نموذجية للفئات الدنيا من أعوان الإدارات إلا نتاجاً للتنظيم البيروقراطي، أتعلق الأمر بنزع الشكلنة أو بتشييىء المواظبة، أو بتصلب العلاقة بالقانون، إذ ننسى ملاحظة أن تلك القسمات كلها، وهي قادرة على أن تظهر أيضاً خارج الوضعية البيروقراطية، تعبر صلب منطق تلك الوضعية، عن نسق الاستعدادات الخلق = Ethos)، مثل الاستقامة والدقة والميل إلى الصرامة وقابلية الاغتياظ الأخلاقي، وهي استعدادات يدين بها أعضاء البرجوازية الصغيرة إلى موقعهم الطبقي. وحسبها أن تهييء ما قبلياً أعضاء البرجوازية الصغيرة للانتساب إلى قيم الخدمة العمومية وإلى الخصال التي يلزمها النظام البيروقراطي إن لم تكن، زيادة عن ذلك، الدروب الإدارية بالنسبة إليهم الوسيلة المثلى للارتقاء
الصفحة 339
الاجتماعي. ثم إننا نعلم صلب المنطق ذاته أن الاستعداد الذي يظهره الطلاب أصيلو الطبقات المتوسطة أو أطر التعليم المتوسطة، وبالأحرى، الطلاب أبناء أطر التعليم المتوسطة، إزاء المدرسة - على سبيل المثال الميل الثقافي أو تثمين الكد) - لا يتأتى فهمه إلا إذا وصلنا نسق المعايير المدرسية بخلق الطبقات المتوسطة أن كان مبدأ القيمة التي تمنحها الطبقات المتوسطة المعايير المدرسية. وكما يتضح، شرط أن نجعل بنية العلاقات بين الطبقات للربط بين الأنساق الجزئية، وسيطاً، نستطيع الإحاطة في ما وراء المتشابهات البيئة جداً، بالتجانسات الحقيقية بين البيروقراطية ونسق التعليم، وذلك بأن تنير تجانس ربطها بالطبقات الاجتماعية. هكذا، فإنه حين نقترح عبر المقولة الرخوة عن الرقابة الاجتماعية»، أن النسق المدرسي يوفي بوظيفة لا هي بالمجزأة ولا هي بالمميزة إزاء المجتمع الكلي»، تنزع الوظيفية في الحالات كلها إلى تورية أمر أن نسقاً ما يسهم في إعادة إنتاج بنية العلاقات الطبقية يخدم فعلاً المجتمع» على معنى النظام الاجتماعي، ويخدم من ثمة المصالح البيداغوجية للطبقات التي تنتفع من ذاك النظام.
لكننا لن نستطيع تملك أسباب توفيق الفلسفات الكلانية كلها التي تستوحى من اللامبالاة عينها حيال الفروقات، وبوجه خاص حيال الفروقات الطبقية، تملكاً كافياً، من غير أن نأخذ بالاعتبار الوظائف الفكرية تحديداً التي لضمتها وتحفظها وسهوها وإسقاطاتها وزلاتها، أو على العكس من غير أن نأخذ بالاعتبار الإزاحات والتحويلات التي تأتيها نحو موضوع المجانسة» أو «التكتيل» أو «العولمة». هكذا إذن لا تفلح الطاعة لمبادئ الأيديولوجيا المهيمنة في أن تفرض نفسها على المثقفين، إلا من خلال طاعة اتفاقيات العالم الفكري وتوافقاته وليس صدفة إن كانت الإحالة إلى الطبقات
الصفحة 340
الاجتماعية اليوم في فرنسا تنزع إلى أن تبدو بحسب الزمر أو بحسب الظرفية كموقف أيديولوجي ما قبلي يزدريه الحراس المتميزون الموضوعاتية المجتمع الراقي ببرطمة متعالية، مثل كبيرة القروي أن كان عاجزاً عن أن يساير الذوق السائد والذي يغتم له الممثلون المعتمدون السوسيولوجيا مستوردة يفرّ إليها بهلوانيو الطلائعيين جميعاً، الذين هم لا ينفكون ينكبون، خوفاً من أن يستأخروا عن ثورة أيديولوجية أو نظرية في تقصي أفق الحداثة»؛ وهم المستعدون على عجل على تبين آخر ما جد من طبقات جديدة أو من اغترابات جديدة أو من تناقضات جديدة. ومثل دناسة الجاهل أو هفوة بليد الذهن اللتين أحسن صنعهما لإثارة شفقة شيعة الأحجية الجديدة للفن والثقافة، أو أيضاً مثل تفاهة لا تحاجج وغير جديرة بالنقاش المفارق، لكنها قادرة على إثارة الشقاق البليد الذي يتجنبه بأناقة عالية الخطاب الأنثروبولوجي عن أغوار الأعماق المشتركة. ولو كنا نعلم أن ليس بالإمكان أبداً أن نستنتج على نحو مباشر الدلالة الفكرية أو حتى السياسية للأيديولوجيا المخصة بفئة مثقفين من موقع تلك الفئة في بنية الروابط الطبقية، وإنما هي تدين دوماً بشيء ما إلى الموقع الذي تحل فيه في الحقل الفكري، لما استطعنا فهم أن اللامبالاة حيال التباينات الطبقية التي كشفنا وظيفتها المحافظة، بقادرة من غير تناقض، على أن تسكن أيديولوجيات تسعى بفخر للتضرع الطقوسي أو التعزيمي بصراع الطبقات. وترى بعض من أكثر انتقادات نسق التعليم جذرية في الاحتجاج على الوظيفة النوعية لكل نسق تعليم منظوراً إليه كأداة تلقين، وسيلة لحجب الوظائف
الطبقية التي تؤديها تلك الوظيفة: لما تشدّد تلك الأيديولوجيات على الخيبات الملازمة لكل تنشئة بدءاً طبعاً بالخيبات الجنسية، أكثر مما تشدد على الشكل الخصوصي للإكراهات أو العوز، هي حتى بالنسبة إلى أكثرها نوعية تنوء بها من مختلف الطبقات الاجتماعية على نحو
الصفحة 341
تفاضلي، إنما تهدي إلى التشهير بالفعل البيداغوجي تشهيراً صلحياً منظوراً إليه كفعل قمع لامتميز، وبالمناسبة ذاتها، تهدي إلى انتفاضة إجماعية ضد الفعل القمعي لـ «المجتمع مختزلاً إلى أقصى الانطباعية انطباعاً عن التراتبيات السياسية والاقتصادية والبيروقراطية والجامعية والعائلية. وحسبنا أن نرى أن تلك الأيديولوجيات كلها تقوم على البحث عن الاغتراب النوعي والتشهير به، وهو اغتراب خص خيالياً بالإحالة الشجية إلى الحداثة، حتى نتبين أنها لما تخلد إلى تمثل تلفيقي لربط الهيمنة التي تهديها إلى أن تجعل الانتفاضة اللامتميزة ضد الأستاذ الديواني مبدأ قلب التراتبيات قلباً معمماً، إنما تفرط في الوقت نفسه مثل الفكر التكنوقراطي أو ذي النزع الثقافي في الاستقلال النسبي لنسق التعليم إزاء الطبقات الاجتماعية وتبعيته
الوظيفة الأيديولوجية لنسق التعليم
أن نكتشف أننا قادرون على أن نعزو إلى المبدأ عينه كل النقصان الذي يمكن كشفه في تحاليل نسق التعليم التي تقوم على فلسفات اجتماعية متناقضة في ظاهرها بقدر تناقض النزع الاقتصادي التطوري ونزع النسبية الثقافية، يعني أن نلتزم بالبحث عن مبدأ البناء النظري القادر على سد هذا النقصان وتفسيره. بيد أنه لا يكفي أن
(15) إن قاسمت الأيديولوجيات النقدية»، التكنوقراطية، خصمها المفضل، اللامبالاة حيال الفروقات، فإنها لا تختلف عنه إلا في التطبيقات التي تأتي لذاك الاستعداد، إذ لما تنذر السوسيولوجيا إلى تعقب الاغتراب النوعي، فإن تشكل نسقاً أيديولوجياً عناصره التي أشهدت بتواتر أكثر من البقية هي إيثار التصنيفات السوسيولوجية القادرة على أن توفر وهم التجانس (ندوة صحفية»، طبقة عمرية»، «شباب»، إن لم يكن مرتفقو» المستشفيات، أو التجمعات السكنية الكبرى أو النقل العمومي) أو الاهتمام المفتون بالأثر المجانس والمغترب للتلفزة أو وسائل الإعلام، أو للتألية صنع إنسان آلي) أو للأشياء التقنية، وبوجه أعمال لـ «الحضارة التقنية أو لا مجتمع الاستهلاك».
الصفحة 342
نتبين النقصان المشترك بين النهجين (التمشيين كي نبلغ حقيقة الرابطة بين الاستقلال النسبي لنسق التعليم إزاء بنية العلاقات الطبقية وتبعيته لها : أني لنا أن نأخذ بالاعتبار الاستقلال النسبي الذي تدين به المدرسة لوظيفتها المخصة بها، ولا نفرط في الوظائف الطبقية التي تؤديها بالضرورة في مجتمع منقسم إلى طبقات؟ ولما ننذر لأنفسنا تحليل السمات الخصوصية والممنهجة التي يدين بها نسق التعليم الوظيفته التلقينية المخصة به، ألا نحرّم على أنفسها بشكل مفارق طرح مسألة الوظائف الخارجية التي يؤديها نسق التعليم، إذ يؤدي وظيفته المخصة به وبأكثر دقة مسألة الوظيفة الأيديولوجية لتورية الرابطة بين الوظيفة المخصة به والوظائف الخارجية للوظيفة المخصة به ؟
لئن كان من غير اليسير أن نتبين على نحو متزامن، الاستقلال النسبي لنسق التعليم وتبعيته لبنية الروابط الطبقية، فسبب ذلك، من جملة الأسباب الأخرى، أن نتملك ناصية الوظائف الطبقية لنسق التعليم تشترك في التقليد النظري بتمثل أداتي للعلاقات بين المدرسة والطبقات المهيمنة، بينما أن تحليل سمات البنية والاشتغال التي يدين بها نسق التعليم لوظيفته المخصة به كان له دوماً على وجه التقريب مقابل عماء البصيرة عن الربط بين المدرسة والطبقات الاجتماعية كما لو أن معاينة الاستقلال كانت تفترض الوهم الذي يقضي بحياد نسق التعليم. وأن نظن أننا نستوفي المعنى الذي لعنصر ما أياً كان من نسق تعليم ما، إذ نقنع، فنعزوه مباشرة إلى تعريف مختزل لمصلحة الطبقات المهيمنة، فلا نتساءل عن المساهمة التي يدلي بها ذاك النسق بما هوَ كذلك، في إعادة إنتاج بنية العلاقات الطبقية، يعني أن ننذر لأنفسنا بغير مقابل عبر ضرب من غائية الأسوأ تسهیلات تفسیر خاص (ad hoc) وعام (Omnibus) معاً : كما أننا إذ
الصفحة 343
نمتنع عن الاعتراف بالاستقلال النسبي لجهاز الدولة، نقضي لأنفسنا بأن نجهل بعضاً من الخدمات الأكثر خفية التي يؤديها ذاك الجهاز للطبقات المهيمنة، أن يؤكد بفضل استقلاله، تمثل الدولة - الحكم. كذلك، فإن التشهير البسيط بـ «الجامعة الطبقية والذي يطرح قبل كل تحليل الهوية في آخر التحليل، أي هوية الثقافة المدرسية وثقافة الطبقات المهيمنة، وهوية التلقين الثقافي والمذهبة الأيديولوجية، وهوية السلطان البيداغوجي والسلطة السياسية؛ إنما هذا التشهير يحول دون تحليل الأواليات التي تتحقق من خلالها بصورة غير مباشرة وعلى نحو موسط معادلات جعلها ممكنة الريحان البنيوي، واللعب الوظيفي المزدوج، والارتحالات الأيديولوجية.
ولما يحسب دوركايم الاستقلال النسبي لنسق التعليم سلطة إعادة تأويل الطلبات الخارجية والانتفاع من المناسبات التاريخية ابتغاء إنجاز منطقه الداخلي، فقد نذر لنفسه على الأقل وسيلة فهم النزوع إلى إعادة الإنتاج التي تسم المؤسسات المدرسية والتكرار التاريخي لممارسات مرتبطة بلزوميات خاصة بالمؤسسة أو تكرار النزوعات المخضة بهيئة مدرسين محترفين (16). ورأى
الهوامش:
(16) يتضح مثلاً أن بعض علماء الاجتماع الأمريكيين يأخذون على مؤسستهم المدرسية المخصة بهم تقاليد أو عيوب في الاشتغال عدد من الكتاب الفرنسيين، والأغلب باسم رؤية غزلية للنسق الأمريكي، يأخذون على الجامعة الفرنسية فيعزون ما يعتبرونه قسمات فريدة إلى فرادة تاريخ قومي : مع أنه لا يؤرخ للجامعات الأمريكية بدءاً من أطلال ماض قروسطي أو بقايا مركزة دولتية، فإنها تتوفق أيضاً إلى التعبير، لعله على نحو أقل اكتمالاً، عن بعض من أكثر التوجهات الخصوصية للنسق الجامعي في قسمات مثل الإعداد المتعجل للامتحان (Boning). أو مثل عدو الحواجز الممأسس الذي تختزل فيه سيرة الطالب؛ أو مثل وسواس الامتحانات الذي يزداد كلما أدت تلك الامتحانات دوراً متعاظماً في النجاح الاجتماعي، أو مثل التسابق الضاري ابتغاء الألقاب والملاحظات الجيدة التنويهات (Honours)) التي ستتبع الفرد طيلة حياته، بخاصة إن أصبح جامعياً، أو مثل الكدح الفكري له خضع المعلمون والمساعدون؛ أو مثل خاصية أطروحات الدكتوراه السخيفة سخافة تفوق الحد
الصفحة 344
هالبواخ (*) (Halbwachs) في كتابه: التطور البيداغوجي في فرنسا،
الفضل الرئيس للمؤلف في أن دوركايم كان يربط تعمير التقاليد الجامعية بـ «الحياة الخاصة بنسق التعليم: «إن أعضاء التعليم مرتبطة في كل عهد ببقية مؤسسات الجسم الاجتماعي وبالعادات والمعتقدات، وبتيارات الأفكار الكبرى. لكنها لها أيضاً حياة مخصة بها، وتطور مستقل نسبياً في أثنائه تحفظ جيداً قسمات من بنيتها القديمة، وأحياناً تقاوم التأثيرات التي تمارس عليها من الخارج، فتتكئ على ماضيها. ولن نفهم بالمرة، مثلاً، تقسيم الجامعات إلى كليات وأنساق الامتحانات والدرجات، والداخلية، والجزاءات المدرسية لولا أن نعود القهقرى بعيداً زمن كانت المؤسسة تتشكل، وكانت أشكالها بمجرد أن تولد تنزع إلى البقاء بقاء الزمن، إما بضرب من جمود، وإما بأنها تنجح في التكيف مع الشروط الجديدة. يبدو لنا التنظيم البيداغوجي مبصراً من وجهة نظر تلك الزاوية كأنه أكثر عداوة للتغيير، ولعله محافظ أكثر وتقليدي أكثر من الكنيسة ذاتها، أن كان له وظيفة توريث ثقافة ترمي بعروقها في ماض سحيق إلى الأجيال الجديدة». وبفعل أن للعمل البيداغوجي أمارسته المدرسة أم كنيسة ما أم حزب ما) إنتاج أفراد يبدلهم على نحو دائم وممنهج فعل تحويل مديد ينزع إلى أن يخصهم بالتكوين الدائم ذاته والقابل للنقل (ها بتوس)، أي ترسيمات تفكير وإدراك وتقدير وفعل مشتركة؛ وبفعل أن إنتاج
الهوامش:
= (Unbelievably Picayunish) والتي تذهب إلى مثواها الأخير على رف في المكتبة؛ أو مثل لا إنتاجية الأساتذة الذين بمجرد ما إن يبلغوا الأستاذية يستنزلون بالموقع، فما يفعلون شيئاً بعد ذاك (Who Ease Up) أو أيضاً مثل أيديولوجيا الاحتقار الجامعية للإدارة وللبيداغوجيا الجامعية. انظر:
Logan Wilson, The Academic Man, a Study in the Sociology of a Profession (London; New York: Oxford University Press, 1942).
(*) هالبواخ: عالم اجتماع فرنسي (1877-1945) كان تلميذ دوركايم.
الصفحة 345
أفراد متماثلين ومبرمجين على نحو متماثل يلزم ويُحدث تاريخياً إنتاج أعوان برمجة هم أنفسهم مبرمجين على نحو متماثل، وأدوات محافظة وتوريث معايرة؛ وبفعل أن الديمومة الضرورية حتى يحدث تحوّلاً نظامياً في فعل التحويل هو على الأقل أجل مساو للزمن الضروري لإنتاج متماثل لمعيدي إنتاج محولين، أي إنتاج أعوان قادرين على إتيان فعل محوّل ومعيد إنتاج التكوين الذي هم أنفسهم كانوا له متلقين؛ وبفعل أن المؤسسة المدرسية هي من يمتلك كلياً بشكل خاص بموجب وظيفتها الخاصة، سلطة اصطفاء وتكوين أولئك الذين تودعهم مهمة تأبيدها عبر فعل يمارس طيلة فترة التعليم، فتلفي نفسها بسبب ذلك من ثمة في أكثر المواقع ملاءمة لفرض قيم تأبيدها الذاتي أن تستخدم بعض سلطتها على إعادة تأويل القيم الخارجية وذاك أمر عليها يسير؛ أخيراً بفعل أن الأساتذة يمثلون أكثر النتاجات اكتمالاً لنسق الإنتاج، هم الموكول إليهم من بين ما أوكل إليهم، إعادة إنتاجه، نفهم، وكذلك لاحظ دوركايم، أن المؤسسات التعليم تاريخاً مستقلاً نسبياً، وأن يكون إيقاع) تحول المؤسسات والثقافة المدرسية بطيئاً بشكل خاص. بيد أنه عندما نعزو استقلال نسق التعليم النسبي وتاريخه إلى شروط إنجاز وظيفته الاجتماعية المخصة به، فقد نقضي لأنفسنا، مثلما يوحي بذلك نص هالبواخ، وحتى مشروع دوركايم، إلى تفسير دائري للاستقلال النسبي للنسق بالاستقلال النسبي لتاريخه، والعكس صحيح.
لن يتأتى لنا بالفعل تفسير السمات النوعية التي يدين بها كل نسق تعليم لوظيفة التلقين المخصة به ولاستقلاله النسبي تفسيراً كاملاً من غير أن نأخذ في الحسبان الشروط الموضوعية التي في فترة مسماة تتيح لنسق تعليم ما تحقيق درجة استقلال محددة ونموذج
الصفحة 346
استقلال مخصوص لذلك يتعين بناء نسق الروابط بين نسق التعليم والأنساق الجزئية الأخرى من غير أن ننسى أن نعين تلك الربط بالرجوع إلى بنية العلاقات الطبقية حتى نتبين أن الاستقلال النسبي لنسق التعليم هو على الدوام المقابل لتبعية تغشيها على نحو مكتمل تقريباً، خصوصية الممارسات والأيديولوجيا التي يجيزها ذاك الاستقلال. نقول بكلمات أخرى إنه مع كل درجة ونموذج مسميين من الاستقلال، أي مع كل شكل محدد من التناسب بين الوظيفة المخصة به والوظائف الخارجية، يتناسب دوماً نموذج ودرجة محددان من التبعية للأنساق الأخرى أي في آخر التحليل البنية العلاقات الطبقية (17). ولئن استطاعت المؤسسة المدرسية التي كان يلاحظها دوركايم أن تبدو له كأنها أكثر محافظة بكثير من الكنيسة، فلأنها ما كانت تدين بقدرتها على الذهاب بمنزعها العابر للتاريخ إلى الاستقلال إلى حد بعيد إلا إلى أمر أن المحافظة البيداغوجية كانت توفي بوظيفتها التي تقضي بالمحافظة الاجتماعية بنجاعة تكبر قدر ما تظل الوظيفة مواراة على نحو أفضل. هكذا عندما يحلل دوركايم الشروط الاجتماعية والتاريخية التي تجعل الاتفاق التام بين نمط التلقين والمحتوى الملقن ممكناً، باعتباره سمة التعليم التقليدي، فقد صبا إلى أن يدرج في الوظيفة المخصة بكل نسق تعليم عرفت على أنها وظيفة المحافظة على ثقافة مؤرثة من الماضي أمراً لا يتعدى
الهوامش:
(17) يوفي كل نسق مدرسي بدرجات شتى ووفق أشكال تحددها في كل حالة، بنية العلاقات الطبقية بما عليه من مجموع الوظائف المتناسبة مع مجموع الروابط الممكنة مع الأنساق الأخرى، بحيث تكون بنيته واشتغاله باستمرار مرتبين بالنظر إلى بنية محددة من وظائف ممكنة. وليس بناء نسق التشكليات الممكنة من نسق الوظائف الأ تمريناً مدرسياً إن لم تجز مقاربة كل تركيبة تاريخية على أنها حالة خاصة من المجموع المثالي للتركيبات الممكنة من الوظائف، وإن لم تبعث من ثمة الربط كلها بين نسق التعليم والأنساق الجزئية الأخرى، بدءاً طبعاً بالربط الباطلة، أو السلبية، وهي أفضل الربط خفية بطبيعتها.
الصفحة 347
أن يكون تركيبة خصوصية للوظيفة المخصة به والوظائف الخارجية حتى ولو كانت تركيبة جد متواترة في التاريخ (18). وإذ تنزع الثقافة، للمدرسة موضوعياً وظيفة حفظها وتلقينها وتصديقها، إلى أن تختزل ذاتها في العلاقة بالثقافة علاقة وليت وظيفة التميز الاجتماعي بفعل أن شروط اكتسابها كانت تحتكرها الطبقات المهيمنة، فإن المحافظة البيداغوجية التي لا تعهد في شكلها الحدي إلى نسق التعليم غاية أخرى إلا غاية أن يحفظ ذاته عينها حفظاً مماثلاً لذاته، هو أفضل حليف لـ «المحافظية الاجتماعية والسياسية. ذلك أنه تظاهراً بالدفاع عن مصالح هيئة خصوصية، وبجعل الغايات التي لمؤسسة مخصوصة مستقلة، تسهم المحافظية البيداغوجية بآثارها المباشرة وغير المباشرة في صون النظام الاجتماعي. وما استطاع نسق التعليم أبداً أن يوهم بالاستقلال المطلق إيهاماً تاماً إزاء مصالح الطبقات المهيمنة إلا لما كان التوافق بين وظيفة التلقين المخصة به ووظيفته التي تقضي بالمحافظة على الثقافة ووظيفته التي تقضي بالمحافظة على النظام الاجتماعي متقناً بإحكام إتقاناً صار معه بوسع تبعيته لمصالح
الهوامش:
(18) يتضح أنه لما يدرج دوركايم خاصيات تعود إلى حالة محددة تاريخياً، وعابرة للتاريخ، من العلاقات بين نسق التعليم وبنية العلاقات الطبقية في تعريف الوظيفة المخصة بنسق التعليم، فإنه ينزع ضمنياً إلى أن يُلبس باعتبارها قانوناً عابراً للتاريخ، علاقة مكانتها الإيبستمولوجية ليس إلا مكانة تعميمات بالصدفة، هي انتظامات تاريخية لم تعرف إلى يومنا هذا استثناء، لكن يظل نقيضها سوسيولوجياً قائماً. وليس كفل اليوتوبيات البيداغوجية تلك التي تنذر لنفسها ملاءمة الوظيفة المخصة بالنسق مع أي من الوظائف الخارجية ملاءمة آلية من أن تحرم على أنفسنا أن نتخذ محصلات التاريخ مهما كان تكرارها تعبيرات عن طبيعة تاريخية، ما علمنا المجتمع فيه. . إن تكن غير ذات فطرة إنسانية في شيء سيبقى الناس هم الناس دوماً). ولما تعلم النزوع إلى تبرير النظام القائم بالإحالة إلى طبيعة الأشياء» الذي يسم الفكر المحافظ، يتضح ما باستطاعة فلسفات التاريخ المتشائمة، وهي المتيقظة دوماً ابتغاء تبديل الانتظام التاريخي بلا استثناء إلى قانون ضروري وكوني، أن تستفيد من جعل الرابطة بين الفعل المدرسي والمنزع المحافظ سرمداً.
الصفحة 348
الطبقات المهيمنة الموضوعية أن تظل مجهولة في اللاوعي السعيد لـ «الحميمية الانتقائية. وما دام لا يعكر ذلك التناغم شيء، فإنه بمقدور النسق بشكل أو بآخر الإفلات من التاريخ بأن يتقوقع داخل إنتاج معيدي إنتاجه كما في دورة العود الأبدي. ذلك أنه، وبشكل مفارق، لما يجهل النسق كل لزوم آخر إلا لزوم إعادة إنتاجه المخصة به، فإنه يسهم بأنجع الأشكال في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي (19). وحدها الرابطة الوظيفية بين المحافظية البيداغوجية التي لنسق يهمين عليه وسواس تأبيده الذاتي وبين المحافظية الاجتماعية هي التي تتيح تفسير السند المتواصل الذي يلقاه على الدوام محافظو النظام الجامعي من قبيل المدافعين عن اللاتينية أو التبريز أو أطروحة الآداب أن كانت دعائم مؤسسية للعلاقة الثقفة بالثقافة وللبيداغوجيا الملازمة غيابياً للتعليم الإنسي لـ «الإنسانيات»، ولا يزالون في فرنسا عند أكثر الشرائح محافظة من الطبقات المهيمنة " (20).
الهوامش:
(19) لا ريب في أنه ما من نسق آخر حيث تحدد ضرورات تكوين أساتذة مطابقين للمعايير التقليدية، الخيارات البيداغوجية من أمر البرنامج أو التمرين أو الامتحان تحديداً في غاية من الكمال كما يحددها في النسق الفرنسي : إنه منطق التعليم الذي ينزع إلى أن ينتظم بتمامه وكماله بغية الاستعداد للتعليم ما يعبر عنه الأساتذة الفرنسيون، إذ يقيسون في أحكامهم وممارساتهم البيداغوجية، على الأقل لا واعياً، الطلاب جميعهم بحسب منوال عن الطالب الكامل، والذي هو ليس غير منوال التلميذ النجيب الذي كانوا عليه والذي يعد بأن يصبح الأستاذ الذي هم أضحوا عليه.
(20) بالمستطاع أن نمتلك ناصية علاقة التبعية بالتبعية التي تؤخذ نسق التعليم بالمصالح المادية والرمزية للطبقات المهيمنة أو على نحو أدق لشرائح تلك الطبقات المهيمنة، بالبحث في شكل تسائل في الآراء أو اختلاف فيها والتي تصوغها مختلف فئات المدرسين ومختلف الطبقات أو شرائح الطبقات حول المشاكل البيداغوجية. هكذا مثلاً يتيح تحليل الإجابات في بحث يتعلق في ما يتعلق به بتعليم اللاتينية أو التبريز أو التكوين المهني أو وظائف المدرسة والعائلة تباعاً في أمور التربية، أن تتبين في ما وراء تمظهرات الحلف القديم الذي كان يوحد الشرائح المهيمنة من البرجوازية إلى المدرسين الأكثر تعلقاً (بمعنيي الكلمة) -
الصفحة 349
وبالنظر إلى الشروط التاريخية والاجتماعية التي تحدد حدود الاستقلال النسبي الذي يدين به نسق تعليم ما لوظيفته المخصة به، كانت تحدد في الوقت نفسه الوظائف الخارجية لوظيفته المخصة به، فإن كل نسق تعليم يتميز بـ «ازدواج وظيفي يتحين بتمامه وكماله في حالة الأنساق التقليدية، حيث يعترض النزع إلى المحافظة على النسق وعلى الثقافة اللتين يحفظهما، يلقى طلباً خارجياً بالمحافظة الاجتماعية بالفعل يدين نسق التعليم التقليدي بقدرته على الإتيان بمساهمة متميزة في إعادة إنتاج بنية العلاقات الطبقية إلى استقلاله النسبي. ذلك أنه حسبه طاعة قواعده المخصة به حتى يطيع بالمناسبة ذاتها إضافة إلى ذلك الضرورات الخارجية التي تحدد وظيفته التي تقضي بشرعنة النظام القائم، أي حتى يؤدي بالتوازي وظيفته الاجتماعية التي تقضي بإعادة إنتاج العلاقات الطبقية، أن يؤمن توريث رأس المال الثقافي توريثاً وراثياً، ووظيفته الأيديولوجية التي تقضي بتورية تلك الوظيفة أن يثبت وهم استقلاله المطلق. هكذا يتعين على تعريف الاستقلال النسبي لنسق التعليم إزاء مصالح الطبقات المهيمنة تعريفاً كاملاً، أن يأخذ في الحسبان دوماً الخدمات الخصوصية التي يؤديها ذاك الاستقلال النسبي لتأبيد العلاقات الطبقية: إن النسق المدرسي يدين في حقيقة الأمر بمهارته الخصوصية في تنكير ما يدلي به من مساهمة في إعادة إنتاج توزيع رأس المال الثقافي بين الطبقات إلى مهارته الخصوصية على جعل
الهوامش:
= بنمط انتداب وتكوين تقليدي وبالمناسبة ذاتها بالتمثل التقليدي للثقافة (الإنسانيات) العلامات المبشرة بحلف جديد يوحد أكثر شرائح الطبقات المهنية ارتباطاً بإنتاج جهاز الدولة أو التصرف به بفئات المدرسين القادرين على التعبير عن مصالحهم الفئوية في المحافظة الجامعية باللغة التكنوقراطية والعقلانية والإنتاجية (مثل البحث القومي عن طريق الصحافة في وضعية نسق التعليم).
الصفحة 350
اشتغاله مستقلاً، وفي الحصول على الاعتراف بشرعيته بأن يثبت تمثل حياديته وليس تورية تلك الخدمة بأقل الخدمات التي يتيحاستقلاله النسبي أن يسبغها على المحافظة على النظام القائم (21). وما كان لنسق التعليم النجاح في أن يوفي بوظيفته الأيديولوجية التي تقضي بشرعنة النظام القائم موافاة متقنة لو نجحت تلك الآلية الاجتماعية الرائعة، وكأنه عبر تعليب علب ذات قاع مزدوج في إخفاء الروابط التي في مجتمع مقسم إلى طبقات توحد وظيفة التلقين، أي وظيفة الإدماج الفكري والأخلاقي، مع وظيفة المحافظة على بنية العلاقات الطبقية المميزة لهذا المجتمع (22). هكذا مثلاً تضع هيئة المدرسين السلطان الأخلاقي لوظيفتها البيداغوجية (سلطان يزداد كبراً بقدر ما يبدو غير مدين لمؤسسة مدرسية تبدو هي نفسها لا تدين للدولة أو للمجتمع بشيء في خدمة أيديولوجيا الاستقامة الجامعية والإنصاف المدرسي، على نحو أفضل أيضاً من هيئة أعوان الدولة تلك الطائفة التي لما تمكث تظاهراً خارج المجتمع، ولعلها فوقه، تمنح الدولة، كما لاحظ أنجلز، مظهر الاستقلال إزاء المجتمع. وإن لم تكن ممارسات المدرسين البيداغوجية أو الأيديولوجية قابلة لأن تختزل على نحو مباشر وكلياً، أو هي لا
الهوامش:
(21) إن كان حقيق علينا أن نقارب الاستقلال النسبي لنسق التعليم باعتباره الشرط الضروري والخصوصي لإنجاز وظائفه الطبقية، فلأن التوفيق في تلقين ثقافة شرعية وشرعنة تلك الثقافة يفترض الاعتراف بالسلطان البيداغوجي تحديداً للمؤسسة ولأعوانها، أي الجهل ببنية العلاقات الاجتماعية التي تؤسس ذاك السلطان. وبتعبير آخر نقول إن الشرعية البيداغوجية تفترض تفويض شرعية موجودة ما قبلياً. لكن المؤسسة لما تنتج الاعتراف بالسلطان المدرسي أي الجهل بالسلطان الاجتماعي الذي يؤسسها تنتج شرعنة تأبيد العلاقات الطبقية عبر ضرب من أولويات متبادلة دائرياً.
(22) يتضح أنه بمفارقة تجعل ثمة كامل الخصوبة الكشفية المقولة الاستقلال والتي يظهرها أغلب مستعمليها، يتعين أن نستخلص من الاستقلال التبعات كلها لكيلا نضيع شيئاً من التبعية التي تتحقق من خلالها.
الصفحة 351
اختزالية في الأصل الطبقي لتلكم الأعوان أو في انتمائهم الطبقي، فلأنها مثلما يبين تاريخ فرنسا المدرسي تعبر بتعدد معانيها وتعدد كفاءاتها الوظيفية عن المصادفة البنيوية بين الخلق، يدين به الأعوان لطبقة أصلهم الاجتماعية وطبقة انتمائهم الاجتماعية وبين شروط تحيين ذلك الخلق، وهي شروط مسجلة موضوعياً في اشتغال المؤسسة، وفي بنية علاقاتها بالطبقات المهيمنة (23).
عندئذ ليس على المدرسين من الدرجة الأولى حرج في أن يعيدوا صياغة صلب الأيديولوجيا ذات النزع الكوني للمدرسة المحررة، استعداداً يعقوبياً للمطالبة الإيتيقية بالمساواة الشكلية بين حظوظ هي لهم من أصلهم ومن انتمائهم الطبقي ؛ استعداد أضحى
الهوامش:
(23) يتضح مثلاً أن الثقل النسبي للمدرسين سليلي البرجوازية الصغيرة يتناقص كلما ترتفع في تراتبية أنظمة التعليم، أي كلما أشير إلى التناقض المدون في وظيفة الأستاذ بالبنان وتتأكد على نحو أكمل أولية العلاقة بالثقافة سمة الطبقات المحظوظة: 36% من المعلمين أبناء الأقل من 45 سنة، سنة 1964 كانوا أصيلي الطبقات الشعبية، و 42% أصيلي البرجوازية الصغيرة، و 11 أصيلي الطبقة المتوسطة أو البرجوازية الكبرى والحال أنه من بين الأساتذة أساتذة التعليم الثانوي والعالي مختلطين 16 كانوا أصيلي الطبقات الشعبية، و35% أصيلي البرجوازية الصغيرة، و 34 أصيلي الطبقة المتوسطة والبرجوازية الكبرى. وفي غياب الإحصاءات لنا أن نتذر لأنفسنا فكرة عن الأصل الاجتماعي لأساتذة التعليم العالي أن نعتبر الأصل الاجتماعي لتلامذة دار المعلمين العليا والمقدرة بـ %6% من الطبقات الشعبية و 27% من الطبقات المتوسطة و 67% من الطبقات العليا. وإن كان لا مراء في أن مختلف فئات المدرسين يدينون بعدد من سيماهم إلى الموقع الذي تحل فيه في نسق التعليم، أي إلى علاقات التنافس، أو التسابق أو التحالف المعلنة أو المضمرة التي تعقدها مع الفئات الأخرى (أفلا ننظر مثلاً في ما كان من أمر التعليم الثانوي إلى الاختلافات التي تفصل المعلمين والأساتذة التقليديين لذاك النظام التعليمي وإلى المسار المدرسي معية نمط التكوين الملازم له والذي ساقهم إلى تلك المنزلة أمر غريب، يبقى أن كل تلك السمات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتباينات من أصل اجتماعي، بحيث إنه يمكن لفئات من المدرسين لا يختلفون في شيء من أمر شروط الوجود والوضعية المهنية، أن تكون متباعدة في مواقفهم المهنية واللامهنية، بفروقات لا اختزالية في تناقضات مصالح فئوية تحيل في ما وراء طبقة الانتماء إلى طبقة الأصل.
الصفحة 352
في التاريخ الاجتماعي لفرنسا لا ينفصل عن إعادة ترجمته صلب أيديولوجيا مدرسية تقول بالخلاص الاجتماعي عبر الجدارة المدرسية.
كذلك، يعيد تمثل الخصال المدرسية والامتياز المدرسي الذي لا يزال يوجه الممارسات البيداغوجية في التعليم الثانوي الفرنسي، حتى العلمي منه، إنتاج تعريف اجتماعي للامتياز الفكري والإنساني. ولن تأتي إعادة الإنتاج تلك من دون أن تحمل سمة إعادة تأويل البرجوازية الصغيرة أو إعادة التأويل الجامعية.
هناك الصبو النوعي الذي للطبقات المحظوظة إلى تقديس (تعبد) الطرق، يختص وفق معايير تقليد أرستقراطي للأناقة العلية وللذوق الأدبي السليم، تقليد يؤبده نسق تعليم موسوم بقيم يسوعية : على غرار سلم المعايير المهيمنة تنتظم تراتبية المهارات المدرسية وفق متقابلات بين المتألق» و «المجد»، و «الأنيق» و«المكد»، والمتميز»، و«المبتذل»، و«الثقافة العامة، والحذلقة»، باختصار بين اليسر الذي لتقنيات العلوم والحذق التقني (24)، وهذه كلها ثنائيات أنتجها مبدأ تصنيف في منتهى القوة، بحيث وإن احتمل أن يختص طبقاً للمجالات والأزمنة، لقادر على تنظيم التراتبيات كلها
الهوامش:
(24) لا ريب في أنه ما كان لذاك النسق من التقابلات الجامعية تحديداً، مردود تصنيفي كذاك المردود، ونجاعة رمزية كتلك النجاعة لولا كان يثير على نحو غير مباشر التقابل بين النظرية والممارسة حيث يعبر التقسيم الأساسي بين العمل اليدوي والعمل غير اليدوي عن نفسه، ولما يؤثر نسق التعليم بشكل نظامي أحد قطبي مسلسلة التقابلات المتوازية (بالإضافة إلى امتياز ممنوح للاختصاصات النظرية، وتعبد الأدب للشكل والميل إلى التجريد الرياضي أو بخس التعليم التقني بخساً مطلقاً، يؤثر بالمناسبة نفسها أولئك من كان لهم امتياز أن تلقوا من عائلة متحررة من ذرائعية تفرضها عجلة الحاجة الاقتصادية مهارة في الحذق الرمزي أي أولاً حذق الكلام، وحذق العمليات الملموسة، وحذق العلاقة المتجردة عن الدنيا وعن الآخر والمترفعة عنهما واللامبالية بهما، ومن ثمة عن اللغة والثقافة اللتين تلزمهما المدرسة إذا تعلق الأمر بصورة خاصة باكتساب استعدادات مثمنة ايما تثمين تثمين الاستعداد الجمالي تحديداً أو الموقف العلمي.
الصفحة 353
وتعاليات تراتبيات العالم الجامعي، وتكريس فروقات اجتماعية بأن يشكلها تمايزات مدرسية. وما التقابل بين ذي النجابة في النقل و ذي النجابة في الترجمة إلا أحد تحيينات مبدأ التقسيم عينه. وهو المبدأ الذي يقابل أيضاً مختصي التعليم العام خريجي المدارس الكبرى دار المعلمين العليا، مدرسة تقنيات العلوم، المدرسة القومية للإدارة بالمختصين الذين أنتجتهم المدارس من الدرجة الثانية، أي يقابل البرجوازية الكبرى بالبرجوازية الصغرى، ويقابل العمل العلي بـ «العمل الوضيع (25). أما ما كان من أمر أساتذة التعليم العالي أبناء البرجوازيين الصغار والذين كانوا لا يدينون بارتقاء اجتماعي استثنائي إلا لمهارتهم على تحويل استبسال وديع لتلميذ من الصف الأول، يسراً مدرسياً، من فرط الاستبسال والوداعة، أو أبناء الطبقة البرجوازية المتوسطة والكبرى الذين كان عليهم أن يتظاهروا على الأقل بالتخلي عن المنافع الوقتية التي رصدتها لهم نشأتهم، حتى يفرضوا صورة جدهم في الجامعة، فإن ممارساتهم كلها تكشف التوتر بين القيم الأرستقراطية التي تفرض نفسها على النسق المدرسي الفرنسي سواء بمقتضى تقليده المخص به أو بسبب روابطه مع الطبقات المحظوظة وقيم البرجوازية الصغيرة التي يدعمها، حتى لدى أولئك الذين لا يدينون بها مباشرة لأصلهم الاجتماعي، نسق نذر أعوانه، بفعل وظيفته المخضة به ومنزلته من السلطة، للإحلال برتبة
الهوامش:
(25) نقرأ في قاموس الأفكار المسبقة (Dictionnaire des idées reques) «النقل»: في المعهد يشهد على الاجتهاد كما الترجمة تشهد على الذكاء. لكن في الواقع يجب الاستهزاء من ذوي النجابة في النقل. من اليسير أن نبين بالنسبة إلى البرجوازية الكبرى للأعمال والسلطة أن طالب دار المعلمين العليا الذي يمثل في أيديولوجيا الأستاذية نموذج الإنسان المثقف ليس بعيداً عن أن يكون لتلميذ المدرسة القومية للإدارة الذي هو تجسيد الثقافة علية أضحت ثقافة الذوق السائد، ما الذي النجابة في النقل بالنسبة للإنسان المثقف وفق شرائع المدرسة التقليدية.
الصفحة 354
ثانوية في تراتبية شرائح الطبقات المهيمنة (20). إن المؤسسة التي تجيز لأعوان توريث، يعوّض بعضهم بعضاً، الاستحواذ على سلطان المؤسسة كي يوهموا بالإبداع الذي لا يقلد، توفر أرضية مناسبة بشكل خاص لاستعمال الرقابات المتقاطعة والمتراكمة التي تجيزها الإحالة المتتالية، وأحياناً المتزامنة إلى التعبد المدرسي للنبوغ، وإلى الميل الأكاديمي للتلاؤم. وحينئذ يلقى أساتذة التعليم العالي في الالتباس ذاته لأيديولوجيا فيها تظهر الثنائية الاجتماعية في انتداب هيئة الأساتذة وازدواجية التعريف الموضوعي للمركز المهني في آن، الأداة الأفضل صنعاً لقمع كل الانحرافات عن نسقي المعايير في أكثر من موضع متناقض من دون أن تتناقض. إننا نفهم أن الاحتقار المطلق لفضائل المكدة للعامل بالفكر، أن كان إعادة ترجمة جامعية لنزع الموهبة الأرستقراطي - والذي يعيد ترجمة أيديولوجيا النشأة الأرستقراطية طبقاً للزوميات الوراثة البرجوازية - يترافق بغير عناء مع الاستياء الأخلاقي من التوفيق منظوراً إليه من غير وساطة على أنه تلويث للعلية (Mondain)، ومع الدفاع الضاري عن الحقوق المكانة حتى لو كان دفاعاً ضد حقوق الكفاءة كثيرة هي المواقف التي تعبر في لبوس جامعي صرف عن صبا البرجوازية الصغيرة إلى أن تتعزى بتوكيد تعويذي لكونية الرداءة. هكذا تنزع دوماً المعايير الجامعية كلها، تلك التي تحكم اصطفاء الطلاب أو تزامل المدرسين، وحتى تلك التي تسوس إنتاج الدروس والأطروحات، أو حتى الأعمال ذات الزعم العلمي، إلى إيثار توفيق على الأقل داخل المؤسسة،
الهوامش:
(26) إن التنافر البنيوي بين المنزلة المجلة داخل المؤسسة والمنزلة خارج المؤسسة، وهو منزلة ينتج من المنزلة الدنيا (أو الهامشية للمؤسسة في بنية السلطة، لقادر على أن يشكل أحد المبادئ المفسرة الأكثر قوة لممارسات أساتذة التعليم العالي وآرائهم ممارسات وآراء قريبة، على تلك الجهة، من القادة الضباط).
الصفحة 355
ذو نموذج نمطي للرجل والأثر وقد حددهما نفي مضاعف، أي يحددهما المتألق بغير أصالة والرزانة بغير ثقل علمي، أو إن أردنا القول حددهما تكلف الرشاقة وتأنق التبحر.
على الرغم من أن أيديولوجيا البرجوازية الصغيرة التي تقول بالتقشف المكد تهيمن عليها الأيديولوجيا البرجوازية التي تقول بالبركة والهبة، فإنها تنجح في وسم الممارسات المدرسية والأحكام عن تلك الممارسات وسماً عميقاً. ذلك أنها تلتقي مع نزوع نحو التبرير الإيتيقي بالجدارة وتجدد نشاطه؛ وهو توجه وإن دنئ أو كبت، ملازم للأيديولوجيا المهيمنة. لكننا لن نفهم المنزع التلفيقي للأخلاق الجامعية لولا أن نرى أن علاقة التبعية والتكامل التي تنشأ بين الأيديولوجيات البرجوازية الصغيرة وأيديولوجيات البرجوازية الكبيرة، تعيد - إنتاج (بالمعنى المزدوج للكلمة في المنطق النسبي للمؤسسة المدرسية رابطة تحالف عدائي يلاحظ في مجالات أخرى وبخاصة في الحياة السياسية بين البرجوازية الصغيرة والشرائحالمهيمنة من البرجوازية : إذا كانت البرجوازية الصغيرة مهيأة ما قبلياً بفعل تناقضها المضاعف مع الطبقات الشعبية والطبقات المهيمنة لخدمة حفظ النظام الأخلاقي والثقافي والسياسي، ومن ثمة خدمة أولئك الذين يخدمهم ذاك النظام، أفلا يكون تقسيم العمل قد كتب عليها خدمتهم بشطط في مراكز الأطر الثانوية والمتوسطة من البيروقراطيات المكلفة بحفظ النظام، سواء أكان ذاك تلقيناً للنظام من أولئك الذين لم يستبطنوه بعد أم تذكيراً به (27).
الهوامش:
(27) لكي نشير إلى الوظائف التي يتكبدها تقسيم العمل الهيمني بين البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الكبيرة وبشكل خاص وظيفة كبش الفداء ووظيفة الدحر التي يتكبدها أعوان ثانويون ولوا عبء ممارسة قهر جسدي ورمزي بالتفويض، حسبنا أن نحصي بعضاً من =
الصفحة 356
ولكي نفهم على نحو ملائم طبيعة الربط التي توحد النسق المدرسي ببنية العلاقات الطبقية وننير تناسبات أو تجانسات أو مصادفات قابلة لأن تُختزل في آخر التحليل إلى تسائلات مصالحوتحالفات أيديولوجية وحميميات بين الها بتوسات (28)، من دون أن نسقط في ضرب من ميتافيزيقيا تناغم الدوائر أو في رعاية إلهية في السراء والضراء، يقتضي الأمر إذن ربط الخاصيات التي لبنية نسق تعليم ما ولاشتغاله التي يدين بهما لوظيفته المخصة به وللوظائف الخارجية لتلك الوظيفة المخصة به بالاستعدادات المشروطة اجتماعياً، وهي استعدادات يدين بها الأعوان (مرسلين كانوا أم متلقين لأصلهم الطبقي وانتمائهم الطبقي، وكذلك للموقع الذي يحلون فيه في المؤسسة، حتى لو لم يكن وارداً أن نضطر إلى خطاب لا ينتهي يسعى إلى الإتيان في كل حالة على كامل شبكة الربط التي تمنح معناها كاملاً لكل رابطة فيها، حسبنا أن نتملك
الهوامش:
= أزواج المتقابلات من بين أكثر المتناقضات الوظيفية دلالة من ذلك مثلاً العقيد، «أب الفيلق» والمساعد حارس الحي، القاضي و الشرطي، رب العمل ورئيس العمال الموظف العالي والمستخدم البسيط الذي كلف بالتعامل مع الملأ، الطبيب والممرض، أو الطبيب النفسي وممرض مستشفى الأمراض النفسية، وأخيراً الناظر والمراقب العام أو الأستاذ و البيدق داخل النسق الجامعي. ثم إننا نعلم مثلاً الاستعمال المزدوج الذي تجيزه في نسق التعليم
ازدواجية الوظائف والقوام المستخدمين): يمثل بخس البيروقراطية السري والعلني الإداريي المدرسة وأعوان التأطير أحد أكثر تخصصات كاريزما المؤسسة يقيناً وأكثرها اقتصاداً.
(28) لكي تري البون الذي يفصل عن تحليل الوسائط العينية، الصياغة النظرية والتي في أفضل الأحوال هي تختزلها، وفي أسوئها تعفي نفسها منها، حسبنا الإحالة إلى بعض من تحاليل هذا الكتاب التي إن اختصرت في اختزالها المجرد، فإنها تصاغ على سبيل المثال على أنها نسق ربط التواصل بين مستويات إرسال ومستويات تلقي تحددها على نحو ممنهج الربط بين نسق التعليم باعتباره نسق تواصل وبنية العلاقات بين الطبقات (الفصلان الأول والثاني من هذا الكتاب، أو أيضاً باعتبارها نسق العلاقات بين نسق القيم المدرسية الذي حدد في روابطه مع قيم الطبقات المهيمنة وبين نسق القيم الراجعة ذات الصلة بالأصل الاجتماعي الهيئة الأعوان وانتمائهم الاجتماعي) (الفصل 4).
الصفحة 357
ناصية في ما هو من أمر رابطة جزئية، بنسق الربط الدائرية التي توحد البنى» و«الممارسات عبر وساطة ها بتوسات باعتبارها نتاج بني منتج للمارسات ومعيد إنتاج للبنى لكي نحدد حدود صلاحية أي تحدّد الصلاحية صلب تلك الحدود تعبيرة مجردة مثل التعبيرة التي تقول بـ نسق الربط بين نسق التعليم وبنية العلاقات الطبقية، هكذا يتم بالمناسبة ذاتها إرساء مبدأ العمل الإمبيريقي، وهو مبدأ يتيح الإفلات من البدائلية العلية والخيالية بين وحدة البني وحدة آلية، وبين التأكيد على حقوق غير قابلة للتقادم للفاعل المبدع أو للعون التاريخي (29). وعلى اعتبار أن بنية العلاقات الطبقية تحدد الشروط الأصيلة لإنتاج الفروقات بين الها بتوسات، فهي إن نظرنا إليها على أنها حقل قوى يعبر عن نفسه مباشرة في النزاعات الاقتصادية أو السياسية وفي نسق المواقع والتناقضات الرمزية، توفر المبدأ المفسر للسمات النظامية التي تختص بها في مختلف مجالات النشاط ممارسات أعوان طبقة محدّدة حتى لو كانت تلك الممارسة تدين بشكلها الخصوصي، في كل حالة، للقوانين المخصة بأي من الأنساق الجزئية المعتبرة (30). هكذا إلا نتبين أنه عبر وساطة الانتماء
الهوامش:
(29) بخصوص الدور الذي يؤديه مفهوم «الها بتوس» في تجاوز تلك البدائلية الماقبل علمية، والتي حتى في أشكالها الطلائعية تثير على أكثر من جهة، الجدال القديم حول الحتميات الاجتماعية والحرية الإنسانية، انظر التذييل الذي وضعه بیار بوردیو تحت عنوان Erwin Panofsky : لكتاب L'Habitus comme médiation entre structure et praxis<< Architecture gothique et pensée scolastique (Paris: Editions de Minuit, 1967). pp. 135-167.
(30) ما من شيء إلا وبشير مثلاً إلى أن الخلق التنسكي للارتقاء الاجتماعي هو الذي يقف مبدأ لممارسات في شؤون الخصوبة والاستعدادات إزاء المدرسة لجزء من الطبقات المتوسطة بينما تنخفض دورياً لدى أخصب الشرائح الاجتماعية مثل الأجراء الفلاحين والمزارعين، والعمال، حظوظ دخول السنة السادسة من التعليم الابتدائي كلما تزداد العائلات نفراً، تشهد نزولاً حاداً في أقل الشرائح خصوبة من قبيل الحرفيين والتجار =
الصفحة 358
الطبقي دون سواها، أي من خلال أفعال أعوان محمولين إلى تحيين في أكثر الممارسات تنوعاً خصوبة أكانت أم نسبة الزيجات أم تصرفات اقتصادية أم سياسية أم مدرسية نماذج الهابتوس الجوهرية نفسها تنشأ الرابطة بين مختلف الأنساق الجزئية، فقد نتعرض لتشييئ بنى مجردة أن نختزل الرابطة بين الأنساق الجزئية تلك في الصيغة المنطقية التي تتيح العثور ثانية على أي منها انطلاقاً من إحداها، أو الأدهى، قد نتعرض إلى ألا نرمم مظاهر الاشتغال الحقيقي لـ «النسق الاجتماعي إلا أن نعطي الأنساق الجزئية كما يفعل بارسونز، صورة أنثروبومورفية لأعوان يربط بعضهم بعضاً تبادلات لخدمات، فيسهمون من ثمة في اشتغال النسق اشتغالاً جيداً. ولن يكون ذاك النسق سوى نتاج تركيبهم المجرد (31).
ولئن بدا التناغم في الحالة الخاصة من الروابط بين المدرسة والطبقات الاجتماعية تناغماً على أحسن ما يرام، فلأن البني الموضوعية تنتج الها بتوسات الطبقية، وبصورة خاصة الاستعدادات
الهوامش:
= والمستخدمين والأطر المتوسطة لدى العائلات ذات الأربع أطفال فأكثر، أي تلك التي تتميز عن مجموع الزمرة بخصوبتها المرتفعة، وبدلاً من أن نرى في عدد الأطفال تفسيراً سببياً لانخفاض نسبة التمدرس يتعين أن نفترض أن الرغبة في تحديد عدد الولادات والرغبة في تقديم للأطفال تربية ثانوية تعبران لدى الفئات التي يوخدها عن الاستعداد النسكي نفسه. وللإطلاع على تحليل للعلاقات بين الخلق الطبقي والخصوبة، يمكن الاطلاع على :
Pierre Bourdicu and Alain Darbel, «La Fin d'un malthusianisme, dans: Groupe d'Arras, Le Partage des bénéfices, expansion et inégalités en France, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1966), pp. 134-154.
(31) مع أن قراء ماركس البنيويين يؤكدون علوية بنية العلاقات الطبقية في صعد الممارسة الاجتماعية كلها، فإنهم لا يرغبون، وقد حملهم رد فعل ذو منزع موضوعاتي ضد كل الصيغ المثالية لفلسفة الفعل، إدراك الأعوان إلا كحمال للبنية، فيذهبون بالتالي تبعاً إلى الجهل بمسألة الوسائط بين البنية والممارسة، بسبب من أنهم لم يمنحوا البني مضموناً آخر غير سلطة غامضة جداً هي في آخر التحليل، سلطة تحديد بني أخرى أو تحديدها قصرياً.
الصفحة 359
والاستعدادات الماقبلية التي إذ تحدث الممارسات المتكيفة مع تلك البني، فإنها تجيز اشتغال البنى وتأبيدها : إن الاستعداد على الانتفاع من المدرسة والاستعدادات الما قبلية على النجاح فيها على سبيل المثال تتبع، مثلما رأينا ذلك الحظوظ الموضوعية للانتفاع منها والنجاح فيها، تلك التي ترتبط بمختلف الطبقات الاجتماعية، وأن تلك الاستعدادات والاستعدادات الماقبلية تمثل بدورها أحد أهم عوامل تأبيد بنية الحظوظ المدرسية باعتبارها تمظهراً موضوعياً للعلاقات بين نسق التعليم وبنية العلاقات الطبقية قابلاً إلى أن نتملك ناصيته. وما من شيء، حتى الاستعدادات والاستعدات الماقبلية السلبية التي تسوق إلى الإقصاء الذاتي، أي على سبل المثال تسوق إلى احتقار الذات وتبخيس المدرسة وجزاءاتها أو الخلود إلى الفشل أو إلى الإقصاء، إلا ويمكن فهمها على أنها استباق لاواع للجزاءات التي تدخرها المدرسة موضوعياً للطبقات المهيمن عليها. وعلى نحو أعمق نقول إن نظرية مناسبة للهابتوس باعتباره محل استبطان الخارجي وتخريج الداخلي تتيح دون سواها إظهار الشروط الاجتماعية لممارسة وظيفة شرعنة النظام الاجتماعي إظهاراً تاماً. هي وظيفة من بين وظائف المدرسة الأيديولوجية كلها، هي أفضلها تورية بلا ريب. ولأن نسق التعليم التقليدي يتوصل إلى أن يوهم أن فعله التلقيني مسؤول مسؤولية كاملة عن إنتاج الهابتوس المثقف، أو إلى أن يوهم عبر تناقض صارخ أنه لا يدين بنجاعته التفاضلية إلا إلى المهارات الفطرية لأولئك الذين يصيبهم، وأنه بالتالي مستقل عن المحددات الطبقية كلها، بينما لا يفعل غير تأكيده ها بتوس طبقي وتعزيزه ها بتوس لأنه تشكّل خارج المدرسة هو مبدأ لكل المكتسبات المدرسية، فإن نسق التعليم التقليدي ذاك يسهم بطريقة لا مبدل لها في تأبيد بنية العلاقات الطبقية وبالمناسبة ذاتها في شرعنتها أن يواري أمر أن التراتبيات المدرسية التي ينتجها تعيد إنتاج
الصفحة 360
التراتبيات الاجتماعية (32). ولكي نقتنع أن ما من شيء إلا ويهيىء ما قبلياً نسق تعليم تقليدي لخدمة وظيفة تفضي بالمحافظة الاجتماعية، حسبنا أن نذكر من جملة ما نذكر به بالحميمية من جهة، بين الثقافة التي يلقنها، وطريقته في تلقينها وطريقة امتلاكها، وهو أمر يفترضه ذاك النمط من الاكتساب وينتجه، ومن جهة أخرى بين مجموع تلك القسمات، والسمات الاجتماعية للملأ التي يلقنها إياه نسق التعليم. ثم إن تلك السمات عينها معتصمة بالاستعدادات البيداغوجية والثقافية التي هي لأعوان التلقين من أصلهم الاجتماعي، وبتكوينهم وبمنزلتهم في المؤسسة وبانتمائهم الاجتماعي. وبالنظر إلى تعقد شبكة الربط التي من خلالها تنجز وظيفة شرعنة النظام الاجتماعي، يصير من العبث مثلما يتضح أن ندعي حصر موقع ممارسة الوظيفة في أوالية أو في قطاع ما من نسق التعليم. مع ذلك، ففي مجتمع مقسم طبقات فيه تتقاسم المدرسة عائلات وهبت رأس مال ثقافياً على نحو متفاوت واستعداداً لإيناعه مهمة إعادة إنتاج منتج التاريخ ذاك الذي يمثل في فترة مسماة من الزمن المنوال الشرعي للاستعداد المثقف، ما من شيء يخدم المصلحة البيداغوجية للطبقات المهيمنة أفضل مما يخدمها «اللا تدخل البيداغوجي، وهو سمة التعليم التقليدي. ذلك أنه فعل، إذا ما غاب كان ناجعاً على نحو مباشر، وإذا ما حضر كان غير قابل للإدراك أصلاً، يبدو مهياً ما قبلياً لخدمة وظيفة شرعنة النظام الاجتماعي ما نعني قوله هو أنه من السذاجة بمكان أن نختزل
الهوامش:
(32) لكي تختبر عيانياً تناسب الآثار المدرسية للفعل والاصطفاء مع آثار التربية ما قبل المدرسية أو الموازية لها والتي وفرتها شروط الوجود بطريقة خفية حتى ولو عينها السلطان البيداغوجي الزمرة عائلية ما وحملها دلالتها البيداغوجية تحديداً، حسبنا أن نلاحظ أنه من صف السنة السادسة وإلى مستوى معهد تقنيات العلوم، تتناسب تراتبية المنشآت وفق الحظوة المدرسية والمردود الاجتماعي للألقاب التي تفضي إليها تناسباً دقيقاً مع تراتبية تلك المنشآت وفق التركيبة الاجتماعية لملئها.
الصفحة 361
وظائف نسق التعليم الأيديولوجية كلها في وظيفة المذهبة السياسية أو الدينية وظيفة قادرة بدورها وفق نمط التلقين على أن تتحقق بطريقة تقريباً خفية. إن ذاك اللبس، وهو لبس ملازم لجل تحليلات الوظيفة السياسية للمدرسة أكثر ضرراً بقدر ما يستطيع الرفض المتكبر لوظيفة المذهبة أو على الأقل رفض أكثر الأشكال المعلنة للدعاية السياسية وللتثقيف المدني أن يؤدي بدوره وظيفة أيديولوجية أن يواري وظيفة شرعنة النظام الاجتماعي، إذ مثلما يبين ذلك جيداً وبصورة خاصة، تقليد الجامعة العلمانية الفرنسي، أكانت جامعة ليبرالية أو محررة يجعل الحياد المصرح به إزاء العقائد الإيتيقية والسياسية أو حتى العداء المعلن تجاه السلطات مساهمة نسق التعليم في الإبقاء على النظام الاجتماعي، وهو القادر على اتيانها دون سواه، لا ريب فيها على نحو أكبر.
هكذا، ولكي نفهم أن الآثار الاجتماعية للأوهام المشتركة أو العالمة ليست وهمية، وهي أوهام متورطة سوسيولوجياً في نسق الروابط بين نسق التعليم وبنية العلاقات الطبقية، يقتضي الأمر أن نعود إلى المبدأ الذي يقود نسق الروابط ذاك : تفترض شرعنة النظام القائم في المدرسة الاعتراف الاجتماعي بشرعية المدرسة، وهو اعتراف قائم بدوره على الجهل بتفويض السلطان تفويضاً يؤسس موضوعياً تلك الشرعية أو على نحو أدق، قائم على الجهل بالشروط الاجتماعية للتناغم بين البنى والها بتوسات تناغماً على غاية من الكمال حتى ينجم الجهل بالها بتوس باعتباره نتاجاً معيد إنتاج ما ينتجه والاعتراف الملازم لذلك ببنى النظام كما أنتجت هنا على هذا النحو ينزع نسق التعليم موضوعياً إلى أن ينتج، عبر تورية حقيقة اشتغاله الموضوعية، التبرير الأيديولوجي للنظام الذي يعيد إنتاجه باشتغاله. وليس مصادفة إن صبا سوسيولوجيون كُثر، ضحايا أثر
الهوامش:
المدرسة الأيديولوجي، إلى أن يفصلوا عن شروط إنتاجهم الاجتماعية الاستعدادات والاستعدادات الما قبلية إزاء المدرسة، من قبيل الترجيات»، «التطلعات»، «المحفزات»، «الإرادة»: ولما يغفلون عن أن الشروط الموضوعية تحدد التطلعات ودرجة إرضائها سوية، يجيزون لأنفسهم التبشير بأفضل العوالم، إذ يكتشفون في نهاية دراسة طولية للسير، كما لو كان الأمر تناغماً منشأ ما قبلياً، أن ما رجا الأفراد شيئاً ما أدركوه، وأنهم ما أدركوا شيئاً ما رجوه. ولما يتحامل م. فرمو - غوشي على الجامعيين الذين يكابدون دوماً شعوراً بالذنب عند قراءة الإحصاءات المتعلقة بالأصل الاجتماعي للطلاب في الكلية»، يقول إنه لم يتبادر إلى ذهنهم فكرة أن الديمقراطية الحقيقية لعلها كانت تتمثل في إيثار تطور التعليم الأكثر تكيفاً مع سمات ورغبات الأطفال سليلي أوساط متواضعة أو المتثقفة قليلاً، ثم يضيف: «لا يعنيهم كثيراً أن يفضّل ابن عامل ذو ذهن وقاد بسبب تقليد اجتماعي أو مهارة مكتسبة من جراء انتمائه إلى وسط ما، إلى غير ذلك، التوجه إلى المدارس التطبيقية القديمة أو المدارس المهنية القومية القديمة حتى يبلغ، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً شهادة تقني أو شهادة مهندس في الفنون والمهن مثلاً، وأن يفضل ابن الطبيب التوجه إلى التعليم الكلاسيكي بغية بلوغ الكليات (33). هكذا إذاً هم الناس المتواضعون» فرحون بما أوتوا في تواضعهم، فلا يتطلعون في الحقيقة إلى شيء إلا لما هو بين أيديهم وليحمدوا هذا النظام الاجتماعي الذي لم يتوان عن صنع تعاستهم، إذ يدعوهم إلى مصائر طموحها كبير سيئة التكيف مع مهاراتهم بقدر سوئها مع تطلعاتهم.
(33)Vermot-Gauchy, L. 'Education nationale dans la France de 1975, pp. 62-63.
الصفحة 362
المدرسة الأيديولوجي، إلى أن يفصلوا عن شروط إنتاجهم الاجتماعية الاستعدادات والاستعدادات الماقبلية إزاء المدرسة، من قبيل «الترجيات»، «التطلعات»، «المحفزات»، «الإرادة»: ولما يغفلون عن أن الشروط الموضوعية تحدد التطلعات ودرجة إرضائها سوية، يجيزون لأنفسهم التبشير بأفضل العوالم، إذ يكتشفون في نهاية دراسة طولية للسير، كما لو كان الأمر تناغماً منشأ ما قبلياً، أن ما رجا الأفراد شيئاً ما أدركوه، وأنهم ما أدركوا شيئاً ما رجوه. ولما يتحامل م. فرمو - غوشي على الجامعيين الذين يكابدون دوماً شعوراً بالذنب عند قراءة الإحصاءات المتعلقة بالأصل الاجتماعي للطلاب في الكلية»، يقول إنه لم يتبادر إلى ذهنهم فكرة أن الديمقراطية الحقيقية لعلها كانت تتمثل في إيثار تطور التعليم الأكثر تكيفاً مع سمات ورغبات الأطفال سليلي أوساط متواضعة أو المتثقفة قليلاً، ثم يضيف: «لا يعنيهم كثيراً أن يفضّل ابن عامل ذو ذهن وقاد بسبب تقليد اجتماعي أو مهارة مكتسبة من جراء انتمائه إلى وسط ما، إلى غير ذلك التوجه إلى المدارس التطبيقية القديمة أو المدارس المهنية القومية القديمة حتى يبلغ إن استطاع إلى ذلك سبيلاً شهادة تقني أو شهادة مهندس في الفنون والمهن مثلاً، وأن يفضل ابن الطبيب التوجه إلى التعليم الكلاسيكي بغية بلوغ الكليات (33). هكذا إذاً هم الناس «المتواضعون» فرحون بما أوتوا في تواضعهم، فلا يتطلعون في الحقيقة إلى شيء إلا لما هو بين أيديهم وليحمدوا هذا النظام الاجتماعي الذي لم يتوان عن صنع تعاستهم، إذ يدعوهم إلى مصائر طموحها كبير سيئة التكيف مع مهاراتهم بقدر سوئها مع تطلعاتهم.
الهوامش:
(33) Vermot-Gauchy, L'Education nationale dans la France de 1975, pp. 62-63.
الصفحة 363
هل بنجلوس (*) (Pangloss) المخطط أقل تخويفاً من بنجلوس الميتافيزيقي ؟ لما كان الفلاسفة الجدد للنظام الاجتماعي، المتفائلون مقتنعين أن حسبهم أن يعملوا فيه حساباً حتى ينتجوا أفضل العوالم المدرسية في أفضل المجتمعات الممكنة، فإنهم كانوا يستعيدون لغة العدالات الاجتماعية التي تبتغي أن تقنع أن النظام القائم هو ما يجب أن يكون طالما أنه ما من حاجة حتى إلى أن يستدعي إلى النظام، ضحايا ذاك النظام المحققون أي أن يستدعي واجب وجودهم لكي يرضوا بأن يكونوا ما ينبغي أن يكونوا عليه. لذلك نفهم أنهم لا يقدرون على شيء سوى أن يكتموا ما يقومون به ضمناً، أي وظيفة شرعنة النظام القائم والمحافظة عليه، والتي توفي بها المدرسة إذ تحمل الطبقات التي تنبذها على الظن في شرعية نبذهم بأن تحول دونهم ودون تبين المبادئ التي باسمها تنبذهم ودون الاعتراض عليها. وليست أحكام الامتحان جازمة جزماً لا رجعة فيه، إلا لأنها تفرض على نحو متزامن الإدانة ونسيان الحيثيات الاجتماعية للإدانة. ولكي يبدل المصير الاجتماعي دعوة للحرية أو جدارة شخصية على غرار ما في الأسطورة الأفلاطونية حيث على الأرواح التي سحبت نصيبها أن تشرب ماء نهر النسيان من قبل أن تهبط ثانية إلى الأرض، فتحيا فيها قدرها الذي آلت إليه، يتعين على المدرسة كاهن الضرورة، وحسبها ذلك، أن تنجح في إقناع الأفراد بأنهم هم أنفسهم اختاروا أو فازوا بالأقدار التي كانت قد خصتهم بها الضرورة الاجتماعية سلفاً. إن المدرسة تتوصل اليوم بأيديولوجيا الهبات الفطرية والميولات الغريزية إلى شرعنة إعادة الإنتاج الدائري للتراتبيات الاجتماعية وللتراتبيات المدرسية، وهي في ذلك خير من الديانات السياسية أن كانت أكثر وظائفها ثبوتاً، مثلما لاحظ
الهوامش:
(*) هو شخصية الفيلسوف المعلم في رواية فولتير كانديد.
الصفحة 364
ماكس فيبر، هي أن تهب الطبقات المحظوظة ربوبية لامتيازها، وخير من خلاصيات الآخرة التي كانت تسهم في تأبيد النظام الاجتماعي بواسطة الوعد بانقلابه ما بعد الموت، وخير من المذهب مثل مذهب الخرمة (Kharma) الذي كان فيبر يرى فيه تحفة العدالات الاجتماعية إلهياً ولا سيما أنه كان يبرر الميزة الاجتماعية لكل فرد في نسق الطوائف الدينية بدرجة أهليته الدينية في دورة الارتحالات.
هكذا تتمثل أكثر وظائف نسق التعليم خفية وأكثرها خصوصية في إخفاء وظيفته الموضوعية، أي في تنكير الحقيقة الموضوعية الرابطته ببنية العلاقات الطبقية (34). ولكي نقتنع بذلك حسبنا أن ننصت إلى مخطط منطقي، والذي إذا ما تساءل عن أكثر الوسائل أمناً لإجراء اصطفاء ما قبلي للفاعلين القادرين على النجاح مدرسياً والقادرين من ثمة على رفع المردود التقني للنسق المدرسي، فإنه يُساق إلى التساؤل عم هي سمات المترشحين الذين يحق أخذهم بالاعتبار: «في ديمقراطية، لا تقدر مؤسسات تعليم تعيلها أموال عمومية على الاحتفاظ علناً ببعض السمات بمثابة مقاييس اصطفاء.
الهوامش:
(34) قليلة هي المؤسسات التي كما نسق التعليم وقيت من التقصي السوسيولوجي لو كان حقاً أن للمدرسة وظيفة إخفاء الوظائف الخارجية لوظيفتها المخصة بها، وأن ليس لها أن توفي بتلك الوظيفة الأيديولوجية إلا أن تخفي أنها توفي بها، فإنه ليس بوسع العلم في تلك الحالة أن يكون له موضوع إلا أن يتخذ موضوعاً ما يحول دون بناء الموضوع. وأن يأبى مشروعاً علمياً كذلك المشروع، يعني أن ينذر نفسه إلى قبول أعمى أو متواطئ للمعطى مثلما يعطي نفسه سواء تتنكر تلك الاستقالة النظرية بالصرامة المعلنة للإجراءات الإمبيريقية أو تتبرر بالتماس مثال «الحياد الإيتيقي»، أن كان مجرد ميثاق مع النظام القائم أنه لا عدوان عليه، وإن ليس علماً إلا ما خفي، فإن علم المجتمع علم نقدي في ذاته من غير أن يكون للعالم الذي يختار العلم إمكان اختيار النقد: إن المخفي في تلك الحالة، سر، هو سر محفوظ جيداً حتى ولو ما اقترح أحد لحفظه، طالما أنه يسهم في إعادة إنتاج نظام اجتماعي قائم على ثورية أنجع الأواليات لإعادة إنتاجه، وأنه يخدم من ثمة مصالح أولئك الذين لهم مصلحة في المحافظة على هذا النظام.
الصفحة 365
ومن بين السمات التي يكون لنا أسباب وجيهة لأخذها بالاعتبار، ثمة الجنس، رتبة المولد، الفترة المقضاة في المدرسة، الخلقة، النبرة أو الأداء، المكانة الاجتماعية الاقتصادية للأبوين، وحظوة آخر مدرسة ارتيدت (.). لكن ألا يقوم الدليل على أن أولئك الذين أحل أبويهم أسفل التراتبية الاجتماعية، ينزعون إلى تمثل رهان خاسر من أمر نتائجهم المدرسية في الجامعة، فإن منحرفاً صريحاً وظاهراً لسياسة الاصطفاء ضد أولئك المترشحين يصبح أمراً غير مقبول (35) باختصار، إن الوقت (إذن المال المبذر هو أيضاً الثمن الذي يجب دفعه حتى تبقى الرابطة بين الأصل الاجتماعي والنتائج المدرسية منكرة. ذلك أنه لما نرغب في أن نفعل، بأقل الأثمان وبشكل أسرع، ما سيفعله النسق على أي حال، فإننا نميط اللثام عن وظيفة، بأن تبطلها في الوقت نفسه لا يتأتى لها التحقق إلا إذا ظلت مخفية. ثم إن النسق المدرسي دائماً ما يشرع توريث السلطة من جيل إلى آخر لقاء إنفاق للوقت أو تبذير له، بأن يخفي الرابطة بين نقطتي البداية والوصول الاجتماعيين من المسار المدرسي، بفضل ما هو في أقصى الحالات ليس إلا أثر إشهاد صيره ممكناً إسهاب تفاخري في التعلم وأحياناً غلو فيه. وعلى نحو أعم، إن لم يكن الوقت الضائع قد أنفق هباءً، فلأنه مكان تحوّل في الاستعدادات إزاء النسق وجزاءاته، تحوّل لا محيد عنه لاشتغال النسق والوفاء لوظائفه : إن الذي يفصل عن الإقصاء الذاتي المرجأ الإقصاء المعجل على أساس توقع حظوظ الإقصاء الموضوعية، هو الوقت المستوجب
الهوامش:
(35) R. K. Kelsall, «University Student Selection in Relation to Subsequent Academic Performance A Critical Appraisal of the British Evidence,» in: Paul Halmos, ed., Sociological Studies in British University Education, Sociological Review Monograph; no. 7 (Keele: University of Keele, 1963), p. 99.
الصفحة 366
حتى يقتنع المنبوذون بشرعية نبذهم. وإذا غالباً ما تركن أنساق التعليم أكثر فأكثر في أيامنا هذه إلى الطريقة اللينة حتى تقصي أكثر الطبقات بعداً عن الثقافة المدرسية، مع أنها أكثر تكلفة وقتاً ووسائل، فلأنه على نسق التعليم، على سبيل مؤسسة شرطة رمزية نذرت أن تخيب لدى البعض التطلعات التي تغذيها لدى الجميع، أن ينذر لنفسه وسائل الحصول على الاعتراف بشرعية جزاءاته وبشرعية آثارها الاجتماعية، حتى إذا لم يعد النبذ كافياً بذاته لفرض استبطان شرعية الاستبعاد، لا يتأتى لسلط ولتقنيات تحكم منظم وجهري أن تتخلف عن الظهور (36).
وهكذا، فإن النسق المدرسي مع كل الأيديولوجيات والآثار التي يفرزها استقلاله النسبي هو من المجتمع البرجوازي في مرحلته الراهنة، ما كانت عليه أشكال أخرى من شرعنة النظام الاجتماعي ومن الانتقال الوراثي للامتيازات بالنسبة إلى تشكيلات اجتماعية كانت
الهوامش:
(36) إن نسق التعليم الفرنسي الذي كان في شكله التقليدي يقتضي الاعتراف بالأحكام من دون معارضة وكان يحصل على ذلك، وهي أحكام تعبر عن تراتبية دوماً ذات معنى واحد ( حتى وإن كانت تتوارى تحت تعالب للتراتبيات، يتعارض على تلك الجهة مع أنساق كالجامعة الأمريكية التي كانت تتحسب لحل مؤسساتي للتوترات الناتجة من البون بين التطلعات التي تسهم في تلقينها والوسائل الاجتماعية لتحقيقها : ولو ننتقل إلى الحد الأقصى نلمح جامعات لما ترتضي بحالها بطريقة شبه علنية على أنها حالة خاصة من نسق مؤسسات الشرطة الرمزية، تهب لنفسها كل الأدوات الممأسسة روائز، جهاز توجيه ومسالك للمرآب تمثل جامعة متراتبة على نحو دقيق تحت مظاهر التنوع وعداد المستخدمين المختصين (علماء نفس، أطباء نفسيون مستشارو التوجيه محللون نفسيون الذين يتيحون التحكم في أولئك الذين تدينهم المؤسسة وتستبعد وتدنى تحكماً خفياً وباسماً. وتتيح تلك اليوتوبيا أن نتبين أن عقلنة» الأدوات التقنية والمؤسسية للاستبعاد وللتوجيه ولتلقين الانتساب للتوجه وللاستبعاد تتيح للنسق المدرسي أن يؤدي بطريقة أكثر نجاعة أن كانت معصومة أكثر، الوظائف التي يوفي بها اليوم، إذ لما يصطفي مخفياً مبادئ اصطفائه، يحصل على الموافقة على هذا الاصطفاء وعلى المبادئ التي تؤسسه.
الصفحة 367
تختلف سواء بالشكل الخصوصي للعلاقات وللتناقضات بين الطبقات أو بطبيعة الامتياز المورث : أفلا يسهم بذلك النسق المدرسي في إقناع كل فاعل اجتماعي بالبقاء في المكان الذي تحتم له بـ «الفطرة» والبقاء فيه والتمسك به (ta heauto prattein) مثلما كان أفلاطون يقول؟ ولما كان وريث الامتيازات البرجوازية غير قادر على التماس لا حق الدم - كانت طبقته قد أبته تاريخياً على الأرستقراطية - ولا حقوق الفطرة - قديماً كانت سلاحاً مشرعاً في وجه النبلاء الذي يوشك أن ينقلب على التميز» البرجوازي - ولا الخصال النسكية التي كانت تتيح للمقاولين من الجيل الأول تبرير توفيقهم بجدارتهم، فإنه عليه أن يستنجد اليوم بالإشهاد المدرسي الذي يشهد بهباته وجداراته معاً. تفترض الفكرة المضادة للفطرة بثقافة النشأة، وتنتج عمى البصيرة عن وظائف المؤسسة المدرسية التي تؤمن مردودية الرأس المال الثقافي وتشرع له توريثه بأن تواري أنها تؤدي تلك الوظيفة. هكذا، ففي مجتمع فيه الحصول على امتيازات يتبع حيازة الألقاب المدرسية تبعية لصيقة أكثر فأكثر، فإنه ليس للمدرسة إلا وظيفة أن تؤمن التوارث السري لحقوق برجوازية حقوق لم يعد بالإمكان أن تورث بطريقة مباشرة ومعلنة. ولما كانت المدرسة هي الأداة المفضلة للتبرير البرجوازي للنظام الاجتماعي التي تمنح المحظوظين الامتياز الأعلى ألا يبدوا محظوظين، فإنها تتوصل بيسر إلى إقناع الذين حرموا الإرث أنهم يدينون بمصيرهم المدرسي والاجتماعي لعوزهم الهبات أو الجدارات، بقدر ما أنه في مجال الثقافة يستبعد السلب المطلق الوعي بالسلب.
الصفحة 368
ملحق
تطور بنية حظوظ بلوغ التعليم العالي : تشوه أم انزياح ؟
هناك مسائل كمسألة دمقرطة انتداب الجمهور المتمدرس هي في منتهى الاندماج مع إشكالية أيديولوجية تحدد ما قبلياً، إن لم تكن الردود الممكنة، فأقلها القراءات الممكنة لتلك الردود التي نتردد في تقديمها حتى لو كان الأمر تظاهراً بالتدخل، وإن بحجج علمية في حوار، للعقل العلمي فيه حيز في منتهى الضيق. والمثير مثلاً أن أولئك الذين كانوا أول من نادى بـ «الدمقرطة من غير هدي برهان عددي، أو استندوا إلى مقارنة متعجلة ومتحاملة لنسب بسيطة عن ممثلين لكل فئة اجتماعية من الجمهور المتمدرس (1)، يستعجلون اليوم التنديد بكل محاولة قياس تطور حظوظ بلوغ شتى الأنظمة
الهوامش:
(1) هي نسب غالباً ما استعبرت من دون أي شكل آخر من المحاكمة المنهجية من إحصاءات صيغت بحسب فئات متنافرة في الزمان وفي المكان، وتعلقت بمجموعات جزئية من الجمهور المتمدرس إما سيء تحديدها أو هي متغيرة هكذا نرى أن مقالة لا تمثل غير شكل حدي تبت في مسألة دمقرطة التعليم مسألة اختزلت عبر تلاعب بالكلمات في مسألة التركيبة الاجتماعية لجمهور الطلاب بأن تتكل على إحصاءات، كان عليها لأجل حاجات إنشاء مسلسلات تعاقبية أن تخلط الأطر الثانوية والمتوسطة والعالية من الوظيفة العمومية في فئة يقال لها موظفون مدنيون وعسكريون. وبقدر ما يكون هذا القد (التنافر) طليقاً، يأتي نصيراً لـ «تحليل يبتغى البرهنة على الانتقال من انتداب برجوازي إلى انتداب متوسط».
الصفحة 369
ومختلف أنماط التعليم بالنظر إلى الأصل الاجتماعي قيساً علمياً، وكأن ذلك مس من وسواس أيديولوجي : لكي نقدر تماماً المفارقة، يقتضي الأمر أن نعلم أن قياس تطور الحظوظ المدرسية على مدى فترة طويلة بالقدر الكافي، لم يكن ممكناً إلا منذ نشر المكتب الجامعي للإحصاء (.B.U.S) مسلسلات إحصائية موزعة بحسب فئات ملائمة نسبياً (2). وعلى نقيض الاستعمال البسيط لنسبة تمثيل مختلف فئات الطلاب داخل مجموع جمهور الطلاب (تمثيل يقارب سراً أو علانية كأنه إمبراطورية داخل إمبراطورية)، فإن بناء احتمالات التمدرس الموضوعية المرتبطة بمختلف الفئات الاجتماعية يُرغمنا على إرجاع حصة المفلحين في المدرسة من كل فئة إلى فئة الأصل بأكملها : ثم إنها ألا توفّر أحد أكثر الوسائل نجاعة لتملك تملكاً إمبيريقياً ناصية نسق الربط التي توخد في فترة مسماة من الزمن نسق التعليم وبنية الطبقات الاجتماعية، وتوفّر في الوقت نفسه قياس تحول نسق الربط ذاك في الزمن (3).
الهوامش:
(2) إذا كان علينا سنة 1963 الاكتفاء بحساب يغطي لسنة واحدة حظوظ بلوغ التعليم العالي والحظوظ الشرطية لبلوغ مختلف الكليات بالنظر إلى الأصل الاجتماعي والجنس (وهو حساب أجري على تلك الشاكلة لأول مرة فلأن الإحصاءات عن جمهور الطلاب بحسب الفئة الاجتماعية والمهنية وبحسب الجنس وبحسب الجامعة، والتي كانت متوافرة بالنسبة إلى الفترات السالفة، كانت إلى حدود سنة 1958 تجمع في الفئة نفسها جميع الموظفين المدنيين Pierre Bourdicu et Jean-Claude Passeron: والعسكريين من دون تمييز في الرتبة. انظر:
Les Héritiers, les étudiants et la culture, le sens commun (Paris: Editions de Minuit, 1964), pp. 15 sq., tableau des chances et pp. 145 sq.
وتضم الأخيرة الملاحظة عن الطريقة المستخدمة في بناء هذا الجدول).
(3) هكذا حالما نعزو تطور نصيب الطلاب النسبي أصيلي الطبقات المتوسطة، صلب الجمهور الفرنسي إلى تطور النصيب النسبي للطبقات المتوسطة صلب الجمهور النشيط، يتبين في الحال كل ما هو خيلي في التحاليل التي تنزع إلى تأويل تزايد (ربو) ثقل فئة الطلاب تلك تزايداً طفيفاً حددت بمهنة الأب لحظة التسجيل في الكلية وعلى أنه مؤشر على المشاركة المتزايدة لتلك الطبقات في أرباح التمدرس في التعليم العالي بالفعل فبين سنة 1962 وسنة =
الصفحة 370
إن ذاك البناء، إنما يمثل في الحالات كلها الوسيلة الوحيدة للإفلات من الأخطاء كلها الناتجة من جعل جمهور من المفلحين مستقلاً، وهو جمهور يدين بالأساسي من سماته لـ «التركيبة الاجتماعية للزمرة التي تتشكل من المفلحين أقل بكثير مما يدين بها لربطهم الموضوعية مع الفئة التي هم لها الممثلون في المدرسة، ربط تعبر عن نفسها مثلاً في نسب الاصطفاء التفاضلي بحسب الطبقة الاجتماعية والجنس (4). وبشكل أعم، لن يتأتى لنا الإفلات من الخطأ الذي يقضي أن نرى صفات جوهرية في الخاصيات ذات الصلة بفئة ما، إلا شرط أن نستعمل منهجياً نمط التفكير الترابطي»، خطأ ألا نتبين أن لا يتهيأ إنشاء الدلالة الملائمة لطرفي رابطة ما (مثلاً تلك التي توحد اتخاذ المواقف السياسية بالانتماء إلى اختصاص ما إنشاء كاملاً إلا داخل نسق الروابط التي تكسوها تلك الصفات وتواريها : أفلا ننظر مثلاً إلى أدبيات لـ علماء اجتماع عن دور علماء الاجتماع في حركة أيار / مايو (*) أو إلى السذاجات التي توحي بها نسبة أبناء العمال، وهي نسبة مرتفعة نسبياً في كليات العلوم، إذ نغفل عن إيعازه إلى شبه احتكار الطبقات المحظوظة لأكبر المدارس العلمية أي لما نغفل عن أن نبسط معضلة الانتداب الاجتماعي في مستوى الدراسات العلمية. إن الحذر من مقاربة العناصر بمعزل عن الربط
الهوامش:
= 1968 تحديداً فإن أكثر الفئات الاجتماعية تعداداً وأكثرها تمثيلية للطبقات المتوسطة هي التي عرفت نسب الربو الأكثر ارتفاعاً من بين الجمهور النشيط أن كان +34.2 % لفائدة الأطر المتوسطة في مجموعها (67% للأساتذة والمهن الأدبية والعلمية) و +26,4% للمستخدمين مقابل، مثلا +4% لأرباب العمل في الصناعة والتجارة (-%1.9 بالنسبة إلى الصناعيين بحصر المعنى) Economie et statistique, no. 2 (juin 1969), p. 43.
(4) للاطلاع على أمثلة أخرى انظر آنفاً، الفصل 3، ص 302-305 من هذا الكتاب.
(*) حركة آيار/ مايو المقصود الحركة الطلابية عام 1968.
الصفحة 371
التي تكونها نسقاً لا يتوجب البتة أكثر مما يتوجب حين المقاربة بين عهود مختلفة. لذلك كي نتملك ناصية الدلالة الاجتماعية لنصيب مختلف الفئات الاجتماعية في مختلف الكليات أو مختلف الاختصاصات، يقتضي الأمر أن نأخذ بالاعتبار «المنزلة» التي تحل تلك الكلية فيها أو يحل ذاك الاختصاص فيها في لحظة معطاة من الزمن في نسق الكليات أو نسق الاختصاصات تحت طائلة الركون إلى أوهام التاريخ المونوغرافي، تاريخ لما يُستخلص ضمنياً من هوية الكلمات الهوية الماهوية من خلال زمن المؤسسات أو القسمات المناسبة، يقضي لنفسه أن يقارن ما لا يُقارن، وبنسيان مقارنة عناصر، إذ نراها في ذاتها ولأجل ذاتها لا تقارن، تشكل الأطراف الحقيقية للمقارنة أن كانت تحل في منازل متجانسة في حالتين متتاليتين لنسق مؤسسات التعليم (5).
ولكل أولئك الذين يستخلصون من ارتفاع الحجم الإجمالي للجمهور المتمدرس في التعليم العالي دمقرطة» ملا طلاب الكليات، يتعين التذكير بأن تلك الظاهرة المورفولوجية قد تنسحب على تأبيد الوضع الراهن، أو حتى في بعض الحالات على تراجع
الهوامش:
(5) هكذا مثلاً لأنه يتعذر التفكير في نسق المدارس الكبرى خارج الربط التي توخده ببقية مؤسسات التعليم العالي، ولأنه يتعذر التفكير في أي مدرسة خصوصية خارج روابطها ببقية المدارس، أي بغض النظر عن المنزلة التي تحل بها في لحظة معطاة من الزمن في نسق المدارس الكبرى، فإن تاريخاً اجتماعياً لمدرسة تقنيات العلوم ودار المعلمين العليا بأكثر تحديداً نقول تاريخ الانتداب الاجتماعي أو الدروب، أو حتى المواقف السياسية والدينية لتلامذة تلك المدارس يجهل منزلة كل منهما في نسق المدارس الكبرى، ومن ثمة كل ما ينساب من قيمة منزلتها في بنية العلاقات بين نسق المدارس الكبرى ونسق السلطة، على الأقل بسبب إحداث المدرسة القومية للإدارة، سيكون تاريخاً مغالطاً مغالطة تاريخ سان سير (Saint-Cyr) الذي لما يتفوقع في الأيديوغرافيا، لن يتبين أن أي مدرسة أخرى (مثلاً مدارس الفلاحة) إنما تنزع إلى أن تحل محل الأولى تدريجياً في نسق الوظائف التي يؤديها نسق المدارس الكبرى.
الصفحة 372
في تمثيل الطبقات المبخوسة (6) بقدر ما تنسحب على اتساع قاعدة الانتداب الاجتماعية. إن بوسع ارتفاع نسبة تمدرس فئة عمرية أن يحدث فعلاً على نحو حصري تقريباً لصالح فئات اجتماعية كانت في السابق أكثر الفئات تمدرساً ؛ أو على الأقل أن يحدث تناسبياً وفق التوزيع السالف للتفاوت في التمدرس وبشكل أعم، فإن ربو العداد هو محصلة عوامل من أنظمة متعددة : إذا كان ارتفاع عدد الطلاب في فرنسا يترجم منذ سنة 1964 على الأقل) ربو الحزم (وهو) ازدياد ناجم عن ازدياد نسبة الخصوبة بعد سنة (1946) وازدياد نسبة تمدرس الطبقات العمرية ما فوق سن الثامنة عشرة، فإن توزيع تلك النسبة الإجمالية بين نسب تمدرس مختلف الفئات الاجتماعية المهنية به ريب شديد ألا يكون قد تغير كثيراً مثلما يذهب الارتفاع المستمر في نسبة التمدرس الكلية في التعليم العالي إلى افتراضه.
على نحو أدق، كي ننذر لأنفسنا تقريبة عددية لبنية الحظوظ مشروطة اجتماعياً لبلوغ المدرسة، وبخاصة كي نحلل تطور تلك البنية عبر الزمن، يستحسن أن نربط عداد فئة طلاب محددة اجتماعياً مع عداد (حزمة) جماعة الفتية من السن نفسها الذين وهبوا السمات الاجتماعية ذاتها. وفي حقيقة الأمر بوسع ازدياد نصيب طلاب أصيلي فئة اجتماعية معينة أن يترجم ليس ارتفاع حظوظ بلوغ المراهقين سليلي تلك الفئة من التعليم العالي، إنما مجرد تغير في الوزن العددي للفئة في الجمهور النشيط. لأجل ذلك، يمثل حساب احتمال بلوغ التعليم العالي بحسب الفئة الاجتماعية المهنية الأصلاة أو الجنس أو أي خاصية أخرى أكثر الصياغات دقة لنظام مقادير تفاوت الحظوظ المدرسية المشروطة اجتماعياً وترويجها.
الهوامش:
(6) ليست الفرضية مستبعدة كلياً - على الأقل بالنسبة إلى نماذج تعليم معين - حتى في تعليم قيد الانتشار وفي وضعية نمو اقتصادي. ونعثر على مؤشر لهذا التوجه في تطور انتداب الدراسات الطبية.
الصفحة 373
(أنظر الشكل الموجود في الصفحات 374 و375 - ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
الصفحة 375
تظهر قراءة جدول حظوظ بلوغ التعليم العالي سنة 1961 - 1962 تباينات هائلة بين مختلف الفئات الاجتماعية : هكذا كان لابن أجير زراعي 1,2 حظ من مئة للقيام بدراسات عليا، ولابن صناعي حظ من اثنين. وكان ذاك القياس لتوزيع التفاوت يكشف عن أنه في تلك الفترة كان نسق التعليم ينزع إلى أن يقصي بلا قيد ولا شرط الأطفال ذوي الأصول الشعبية من بلوغ مستوى في الدرب أعلى.
وبين سنتي 1962 و 1966 تفاقمت حظوظ بلوغ التعليم العالي بالنسبة إلى جميع الفئات الاجتماعية. ولكن إن عنينا بـ «الدمقرطة» ما توحي الكلمة به دوماً ضمنياً أن كان سيرورة تسوية الحظوظ المدرسية لأبناء سليلي مختلف الشرائح الاجتماعية المساواة المثلى للحظوظ التي تفترض أن لكل الفئات الجزئية نسبة حظوظ مساوية للنسبة الإجمالية لتمدرس الطبقة العمرية)، فإن ربو حظوظ الفئات كلها، وهو ربو ملاحظ إمبيريقياً، لا يمثل في ذاته علامة على الدمقرطة». من ناحية أخرى، لكي يكون تحليل تطور نسبة الحظوظ دقيقاً سوسيولوجياً عليه أن يفترض أن نأخذ أيضاً بالاعتبار الدلالة الاجتماعية لتطور تلك البنية منظوراً إليها باعتبارها كذلك. وإذا ما اكتفينا بالفئات القصوى لعاينا أن حظوظ أبناء العمال وأبناء العمال الفلاحين بلوغ التعليم العالي قد تجاوزت الضعف خلال الفترة المعنية، في حين أن حظوظ أبناء الأطر العليا تكاثرت فقط بما قدره 1,6%، فإنه من البديهي جداً ألا يكون لتضاعف نسبة حظوظ هزيلة جداً الدلالة ذاتها أو الآثار الاجتماعية ذاتها التي لنسبة أعلى ثلاثين مرة. وحتى نعتمد القياس الدقيق للتبعات الاجتماعية لتلك التغيرات العددية، والتي تعزى مثلما يبين ذلك الرسم البياني إلى الإزاحة نحو الأعلى لبنية الحظوظ المدرسية لمختلف الطبقات الاجتماعية (انظر الشكل رقم (4))، يتعين إذن بكل دقة أن نتمكن
الصفحة 376
من تحديد العتبات التي في مختلف مساحات سلم الحظوظ تنتج بطبيعتها تحولات ذات دلالة لأنساق تطلع الأعوان وإننا فعلاً لعلى علم أن مع كل حظوظ موضوعية مختلفة تتناسب أنساق مواقف مختلفة إزاء المدرسة والارتقاء الاجتماعي في المدرسة : حتى لو لم تكن الحظوظ المدرسية موضوع تقدير واع، والتي تسلم تعبيراتها للإدراك حدسياً في زمرة الانتماء الجوار أو زمرة الأتراب مثلاً من جهة الأمثلة العينية لعدد من الأفراد المعروفين الذين لا يزالون يتمدرسون أو الذين كانوا قد دخلوا سوق العمل أصلاً، في عمر مسمى، تسهم في تحديد الصورة الاجتماعية للدراسات العليا، وهي صورة خطت موضوعياً في نموذج محدد لشرط اجتماعي ما. ووفق النظرة الجماعية لعملية بلوغ التعليم العالي، كمستقبل مستحيل أو ممكن أو محتمل أو عادي أو مبتذل، فإن كامل تصرف العائلات والأبناء وبوجه خاص تصرفهم في المدرسة ونجاحهم فيها يتغير أن كان ينزع إلى أن يتقدر على ما هو على نحو معقول حلال عليهم رجاؤه. وعلى اعتبار أن تجارب نوعياً مختلفة تتناسب مع مستويات مختلفة كمياً لنسب، فإن الحظوظ الموضوعية التي لفئة اجتماعية تمثل عبر وساطة سيرورة استبطان القدر الموضوعي للفئة، إحدى الأواليات التي بها يتحقق ذاك القدر الموضوعي.
هكذا لما ارتفع احتمال بلوغ التعليم العالي المخص بأبناء الصناعيين من 52,8 % إلى 74% فإنه قد تضاعف فقط بما قدره 1,4 مع ذلك، فإن النسبة التي بلغت 74% تضعهم من الآن فصاعداً في مستوى من سلم الحظوظ ليس لتجربة أن تتناسب معه إلا تجربة تمدرس شبه يقينية مع الامتيازات الجديدة والتناقضات الجديدة المرتبطة بتلك التجربة. وإن نعتبر من جهة أن عدداً مهماً من أبناء الصناعيين متمدرسون في الصفوف التحضيرية وفي المدارس الكبرى
الصفحة 377
ليسوا بالتالي من بين العداد الذين استخدموا كقاعدة حساب لتلك النسبة)، وإن نأخذ بالاعتبار، إضافة إلى الدروس المدفوعة الأجر وغير المحصية والتي يعتبر أعضاء تلك الفئة هم أول المستفيدين منها أشباه المدارس العليا للتجارة وللإعلان وللصحافة، وللسينما، وللتصوير، ونحوه)، علينا أن نقرّ أن عموم أبناء الصناعيين تقريباً والمحتمل أن يتابعوا دروساً هم المتمدرسون بالفعل حتى بعد سن الثامنة عشرة، وعلينا أن نصبو إلى معاينة ظهور أول علامات التمدرس الطبقي الأقصى.
في نهاية الأمر، من خلال الربو العام في نسب احتمال بلوغ التعليم العالي من الطرف إلى الطرف، فإن تطور بنية الحظوظ المدرسية بين سنتي 1962 و 1966 قد صدق الامتيازات الثقافية للطبقات العليا بالفعل، فبالنسبة إلى ثلاث فئات أبناء وبنات الصناعيين وأبناء الأطر العليا، تبلغ احتمالات البلوغ أو هي تتجاوز عتبة 60%، أو تتجاوزها بغير احتساب تلامذة المدارس الكبرى ففي شأن ابن الإطار العالي كانت متابعة الدراسات بعد البكالوريا سنة 1961 - 1962 مستقبلاً محتملاً، وفي سنة 1965 - 1966 كان مستقبلاً مبتذلاً. وعلى العكس من ذلك، لم يكن ارتفاع احتمالات بلوغ الأبناء سليلي الطبقات الشعبية ذا شأن حتى ألفوا أنفسهم فيه مبعدين بشكل نهائي من حيّز الحظوظ الموضوعية، إذ كانت هنالك تنحت تجربة الاستعفاء، أو استثناء تجربة المعجز في المدرسة : أن يكون لابن عامل 3,9 من مئة من حظوظ بلوغ التعليم العالي بدلاً من 1,5 فذاك أمر لا يكفى لتحوير الصورة التي تجعل الدراسات العليا مستقبلاً لا احتمالياً، إن لم نقل غير معقول، أو إن أردنا القول مستقبلاً غير مؤمل. أما ما كان من أمر الطبقات الوسطى، فإنه من المحتمل أن تكون بعض الشرائح بوجه خاص المعلمون وصغار
الصفحة 378
الموظفين قد بلغت عتبة فيها تنزع الدراسات العليا إلى أن تبدو كإمكان عادي، وفيها ينزع إلى الخفوت، تمثل الدراسات التي تجعل البكالوريا النهاية الإجبارية للسيرة.
وبتعبير آخر نقول إن التمثل المقبول سلفاً منذ أمد في الطبقات العليا، والذي يجعل من البكالوريا مجرد حق لبلوغ التعليم العالي (وهو ما تقوله سلباً القولة البكالوريا لا تساوي شيئاً»، ينزع إلى الذيوع في مستوى الطبقات المتوسطة : إن التمثل الذي كان يلهم إلى يومذاك عدداً من المتسربين من الدراسات بعد البكالوريا، وهي تسربات متواترة جداً عند أبناء الطبقات المتوسطة، وبصورة خاصة أبناء المستخدمين الذين كانوا يحدون طموحهم، من جزاء أثر التخلفية (Hysteresis)، في التغلب على العقبة التي اصطدم بها آباؤهم خلال دروبهم من غير البكالوريا لا نملك من أمرنا شيئاً) ينزع على أن يخلي مكانه لتمثل معاكس بالبكالوريا لم نعد نملك من أمرنا شيئاً». ويستند ذاك التمثل إضافة إلى ذلك، إلى تجربة حقيقية وواقعية، أن لم تعد البكالوريا تكفي لضمان اعتلاء وظائف الأطر العليا بصفة آلية، وقد صارت في حالات كثيرة شرطاً لبلوغ وظائف، استطاع الجيل السابق بلوغها عبر الأبواب الصغيرة»، أي غالباً بتعليم ابتدائي. يتضح لنا في تلك الحالة، أنى يمكن لما هو في جانب كبير منه ليس إلا إزاحة للتطلعات أن يحياه الفاعلون تغيراً في الفطرة، أو مثلما كان يقول الملاحظون الذين لا يخشون الكلمات كـ «نقلة».
غير أن التفاوت في حظوظ بلوغ الجامعة لا يُعبر إضافة إلى ما سلف إلا جزئياً عن التفاوت المدرسي المشروط اجتماعياً : ذلك أن جدول الحظوظ الشرطية يظهر أن الطلاب والطالبات من شتى الأصول لا يلفون أنفسهم على سواء في أي نموذج مهما كان من
الصفحة 379
نماذج الدراسات. وإذا ما كان الأصل الاجتماعي أو الجنس لا يؤديان دورهما في الغربلة التفاضلية إلا لبلوغ التعليم العالي، وإذا ما كانت لفيالق اصطفيت اصطفاء متفاوتاً بمجرد أن حازت الدخول إلى الكلية حظوظاً متساوية عند دخول مختلف الشعب، باختصار، إذا ما كان توزيع الطلاب في شتى الكليات لا يتبع إلا الدعوة» الموهبة التي ترصده لشيء و الميولات الفردية (منظوراً إليها كمنازع فطرية فالتة من الحتميات الاجتماعية علينا، بالنسبة إلى مئة طالب من أصل مسمى العثور على توزيع للحظوظ الشرطية يعكس بلا قيد ولا شرط في كل فئة اجتماعية قسط مختلف الاختصاصات من العداد المجموع العام للطلاب : أن كان تباعاً 31,5% للآداب، 32,4% للعلوم، و16,5 % للحقوق، و15,6% للطب، و 4,0 % للصيدلة، خلال 1961 - 1962 وكان بحسب الترتيب 34,4 و 31,4 و 19,9 و 10,7 و 3,5 خلال 1965 - 1966. ويتضح أن التوزيع الملاحظ إمبيريقياً يمثل بالنسبة إلى التوزيع العشوائي الذي ينجم عن الاستعمال الحر للملكات الفطرية انحرافاً نظامياً، يعزى، إجمالاً إلى أن الطلاب أصيلي الطبقات المبخوسة يتوجهون بالأحرى نحو كليات الآداب والعلوم والطلاب أصيلو الطبقات المحظوظة نحو كليات الحقوق والطب. وفي الحقيقة يتعين علينا أيضاً أن نشير إلى أنه بين 1961 - 1962 و 1965 - 1966 كان ذاك التخصص الاجتماعي للكليات ينزع إلى التفاقم.
لقد كان طلاب الطبقات الشعبية خلال 1961 - 1962 يتوجهون أساساً نحو دراسات الأدب أو العلوم، بينما كانت نسبة أكثر ارتفاعاً من الطلاب أصيلي الطبقات العليا تنتسب إلى دراسات الحقوق أو الطب : هكذا إذن كان 84,7 % من أبناء الأجراء الفلاحين مسجلين في الآداب أو في العلوم، وكذلك كان 75,1% من أبناء الفلاحين
الصفحة 380
و 82,7 % من أبناء العمال بالمقابل، كان الحال كذلك بالنسبة إلى 66,5 % فقط من أبناء الأطر العليا، و 62,2 % بالنسبة إلى أبناء الصناعيين (مع علمنا مسبقاً أنهم ممثلون تمثيلاً شديداً في المدارس العلمية الكبرى). باختصار نقول كلما نزلنا التراتبية الاجتماعية تعين أن يعوض بلوغ التعليم العالي بـ تقييد الخيارات التي تذهب بأكثر الفئات بخساً إلى حد التدنئة القسرية تقريباً إلى دراسات الأدب أو العلوم. ويُبين تطور نسب الاحتمالات الشرطية بين سنتي 1962 و 1966 أن التوزيع ظل تقريباً ثابتاً، وأن مختلف الفئات الاجتماعية تتراتب بالطريقة نفسها على جهة اختيار الاختصاصات الأدبية والعلمية. وإن كان ربو نصيب طلاب القانون في العداد الإجمالي يُترجم نسبة إلى جميع الفئات الاجتماعية المهنية بانخفاض في الحظوظ الشرطية للقيام بدراسات أدبية وعلمية، فإن ذلك الانخفاض موسوم بصفة خاصة في حالة الفئات العليا : بينما كان لأبناء الأجراء الفلاحين سنة 1966، 83% من حظوظ التسجيل في الآداب أو في العلوم، ولأبناء الفلاحين 74,2% (أي - 0,9 مقارنة بسنة 1962) ولأبناء العمال 79.3% (أي - 3,4)، لم تصر حظوظ أبناء الأطر العليا غير 57 % (- 9,5)، وحظوظ أبناء الصناعيين 52,6% ( - 9,6). لقد اتسع البون بين أبناء العمال وأبناء الأطر العليا خلال الفترة المعتبرة من 15% إلى 22% وإذا ما تفحصنا أكثر بتفصيل تطور احتمالات الفتيان الشرطية لعاينا بالنسبة إلى جميع الفئات الاجتماعية (باستثناء أبناء المستخدمين انخفاضاً في احتمالات دخول كليات الآداب. لكنه تراجع ملموس أكثر بكثير بالنسبة إلى الطبقات العليا منه إلى الطبقات الشعبية والمتوسطة: هكذا كانت حظوظ أبناء العمال تمر من 27,5% إلى 24,8 %، بينما تهبط حظوظ أبناء الأطر العليا من 19,3% إلى 13,7%، وتتراجع حظوظ أبناء الصناعيين من 25,2% إلى 1,6%. وإن علمنا أن بلوغ التعليم الثانوي، ما امتد إلى شرائح
الصفحة 381
جديدة من الطبقات الشعبية إلا مقابل التدني إلى منشآت أو شعب (حديثة مثلاً) أحلت موضوعياً أسفل التراتبية المدرسية، وهو تدن كان يدفع بالأطفال سليلي تلك الطبقات إلى «تسنن» ينذرهم تقريباً على نحو لا عاصم منه لكليات العلوم، وذلك بشكل معاكس ليس للكليات الأخرى فحسب، إنما أيضاً للمدارس العلمية الكبرى الأخرى (7)، لفهمنا أن بمقدورنا معاينة نسبة إلى طلاب الطبقات الشعبية، ربواً في الاحتمال الشرطي لإتيان دراسات العلوم، بينما يأتي طلاب الطبقات العليا بشكل أكثر تواتراً دراسات القانون أو الطب : هكذا تتضاءل حظوظ إتيان أبناء العمال الفلاحين دراسات أدبية بنسبة 10,5% طيلة الفترة المعنية، بينما تزداد حظوظهم في القيام بدراسات علمية بنسبة 9% وعلى نحو معاكس، تنخفض حظوظ أبناء الأطر العليا بشكل مقترن مع حظوظ إتيان دراسات في العلوم (وهي تباعاً 5,6% و 4,3%)، بينما تزداد حظوظهم في القيام بدراسات في القانون أو الطب تباعاً بنسبة 5% و 5,4%. وبشكل عام بالنسبة إلى الطلاب أصيلي الطبقات الشعبية والمتوسطة (أجراء فلاحين وفلاحين وعمال ومستخدمين وأطر متوسطة)، فإن الحظوظ الشرطية لإتيان دراسات في القانون تظل مستقرة بشكل ملموس. ويبلغ الارتفاع الأقصى 28% فحسب مع فئة الأطر الوسطى، بينما ترتفع حظوظ أبناء الأطر العليا (+%4.6)، وخاصة حظوظ أبناء الصناعيين (+%9.5) بوضوح. وكذا الأمر بالنسبة إلى الدراسات في الطب. ذلك أن حظوظ بلوغها هي حظوظ مستقرة بالنسبة إلى الأبناء سليلي الطبقات الشعبية أو هي في ازدياد طفيف، بينما تزداد بنسبة
الهوامش:
(7) Monique de Saint Martin, «Les Facteurs de l'élimination et de la sélection différentielles dans les études de sciences,» Revue française de sociologie, vol. 9, no. 2 (numéro special: Sociologie de l'éducation) (1968), pp. 167-184.
الصفحة 382
5,6 % بالنسبة إلى أبناء الطبقات العليا. خلاصة القول، إنه بوسعنا أن نعتبر أن الارتفاع الطفيف في حظوظ الأبناء أصيلي الطبقات الشعبية في بلوغ الجامعة إنما أوتي، إن صح القول، تعويضاً بتعزيز الأواليات تعزيزاً ينزع إلى تدنئة المفلحين في كليات معينة وذلك على الرغم من الإصلاحات التي تبتغي عقلنة» تنظيم الدراسات والتي كانت قد تحققت خلال الفترة المدروسة في كليات الحقوق والطب).
حسبنا أن نطبق مبدأ تأويل الإحصاءات الذي ينادي به حساب الحظوظ الشرطية بحسب الكليات ويلزم عنه على تفاضليات داخلية أخرى من نسق التعليم (مثلاً كتلك التي تفصل الاختصاصات صلب الكلية ذاتها انظر الشكلين رقمي (1) و (5) ص 216 و 220 على التوالي من هذا الكتاب وبخاصة تلك التي تقابل المدارس الكبرى التي هي عينها متراتبة بدقة بمجموع الكليات)، حتى ننذر لأنفسنا وسيلة إدراك صلب الإحصاءات التي تقيس تطور بنية الحظوظ في بلوغ مستوى ما وصلب نموذج تعليم محدد، ما عساه يشكل القانون الجوهري لتحول الربط بين نسق التعليم وبنية العلاقات الاجتماعية : لو نأخذ الطالب وحدة، بغض النظر عن الموقع الذي تحل فيه المنشأة أو الشعبة المستقبلة في التراتبية المبرأة أو المخفية للمؤسسة المدرسية، نفرط في تضاعف الامتياز الذي يُعزى إلى أمر أن الفئات التي لها أكبر حظوظ بلوغ مستوى مسمى من التعليم، لها أيضاً أكبر الحظوظ لبلوغ المنشآت والشعب والاختصاصات التي بها تعتصم أكبر حظوظ النجاح لاحقاً، سواء أكان مدرسياً أم اجتماعياً. ثم إننا نمتنع، زد على ذلك، عن رؤية أن الإزاحة التي تصيب بنية حظوظ بلوغ نسق تعليم قادر على استخدام تفاضلات موجودة ما قبلياً أو إحداث جديدة تصحبها ضرورة إعادة تعريف متواصل لمقاييس
الصفحة 383
الندرة المدرسية والاجتماعية للألقاب الجامعية (8).
بذاك الانحراف النظامي ننزع إلى سوء تقدير مهارة نسق التعليم على إبطال، بفضل تفاضل متزايد يواري بنيته المتراتبة، آثار الإزاحة التي تصيب بنية حظوظ بلوغ المدرسة، أو إن رغبنا أكثر، على استبدال التدرجات العلمية والموارية على علم والتي تبدأ من الاعتراف الكامل بحقوق برجوازية جامعية إلى مختلف درجات الدناءة(9) بالتناقضات على سبيل كل شيء أو لا شيء، البلوغ أو الإقصاء، والتي كانت تميز حالة للنسق، أخرى.
الهوامش:
(8) تبين إحصاءات المداخيل بالنظر إلى سن التوقف عن الدراسات أن المردود الاقتصادي لسنة إضافية من الدراسات يرتفع بشكل مفاجئ جداً انطلاقاً من الشريحة العمرية المناسبة إجمالاً للسن المتوسط لبلوغ التعليم العالي، أي بمستوى من المسيرة، الطبقات الشعبية منه مقصية تقريباً بشكل كامل. وما من شيء إلا ويصبو إلى افتراض أنه كان على تلك العيبة أن ترتفع باستمرار بمقاس ما كان بلوغ درجة معينة من التعليم يفقد ندرته من جراء الإزاحة في بنية الحظوظ المدرسية.
(9) صلب ذاك المنطق أن ننسى المدارس الكبرى - التي ينزع انتدابها الاجتماعي إلى أن يرتفع منذ بداية القرن إذ مرت نسبة طلاب الطبقات العليا مثلاً من 49% بين سنتي 1904 و 1910 أو بين سنتي 1924-1930 إلى 65,9% سنة 1966 في دار المعلمين العليا للآداب. ومن 36,3% بين سنتي 1904 و 1910 إلى 49,6 % بين سنتين 1924 و 1930، و67,6% سنة 1966 في دار المعلمين العليا للعلوم، يعني أن نقترف خطأ في حق الثقل العددي لجمهورها، ليس لمداه مثيل. ذلك أن تلك المؤسسات، وقد وهبت المنزلة الأرفع قيمة في النسق المدرسي، بل حتى في نسق روابطه مع السلطة، هي من احتكار الطبقات المحظوظة احتكاراً شبه تام.
الصفحة 384
الثبت التعريفي
إعادة التأويل (Réinterpretation) : هي آلية نسقية بمقتضاها يأتي النسق قراءة الطلبات الخارجية طبق ما يتضمنه النسق من آليات داخلية فيقبل تلك الطلبات أو هو يلفظها بذاك يحدد النسق علاقته بالمحيط ويحمي حدوده التنظيمية أي استقلاليته من دون خضوع أو تأثر بما يصيبه من تدفقات خارجية.
إعادة الترجمة (Retraduction) : هي آلية نسقية تتمثل في قيام النسق والحال هنا نسق التعليم بإعادة صياغة داخلية للطلبات التي قبلها النسق أن كانت طلبات مطابقة لمبادئه، ووفقها باعتبارها معلومات خاصة به يصلب بها بنيته الداخلية فيربط بناه الداخلية بعضها مع بعض، وهو معنى الملاحظة الذاتية. ذاك أمر يفضي في النظرية النسقية إلى أن يتمكن النسق من تحديد إجراءات تبدله ومن ثمة تشكيل هويته النسقية.
اعتباط (Arbitraire): هو تقديم الوقائع (اللغوية، الاجتماعية، الثقافية، على نحوه من دون علاقة منطقية سببية، عيانية تربط بعضها ببعض. فتقدم على أنها حقيقة من غير سند يسديها تلك الخاصية، اللهم إلا ذات الواقعة عينها.
الصفحة 385
أنثروبومورفية (Anthropomorphique) : منزع يمنح بمقتضاه الإنسان خصائص إنسانية على ما هو غير كذلك، كالحيوان أو الأشياء أو الآلهة.
برهمي (Brahmane) : أحد أفراد طبقة الكهنوت العليا عند الهندوس.
تشكلية (Configuration) : مفهوم استعمله بورديو أخذاً عن نوربار إلياس (Norbert Elias) من دون إحالة إليه صريحة. و يقصد منه عموما حال ما يكون عليه توازن القوى داخل مجتمع ما في فترة زمنية معينة و هي حال إفراز العلاقات اللعب (التنافس بين الأعوان طبقا لقواعد اللعب التي يفرضها المجتمع على أفراده بقدر ما هي من صنعهم. لذلك التشكلية تتكون من تبعية متبادلة بين الفرد والمجتمع تعبر عن ديناميكية تتخللها تارة فترات ضغط واختلال وطوراً حالات استقرار هي حالات الهيمنة.
الخلق (Ethos) : هو طريقة في الكينونة الاجتماعية بأخلاق ونظام قيمي ما مستبطن. ويفصل فيبر في استعماله للخلق بينه وبين الأخلاق في ماهيتها المجردة. إذ الخلق هو الاستعداد الأخلاقي المجسد حركة على معنى أنه ترجمة اجتماعية للأخلاق في الممارسة. ونلقى المعنى نفسه في استعمال أفلاطون. وهو أيضاً عند أرسطو ضربان من الخصال أولهما خصال الفكر التي تكتسب بالتعليم وخصال الطبع و الطريقة في الوجود التي يأتى بها بالتعود لذلك هي رهن التجربة والزمن. ويذهب بورديو المذهب ذاته إذ يزمع من وراء الخلق إدخال الاستعدادات الدائمة التي تكون الأخلاق المحققة قبالة النزعة الأخلاقية للواجب.
عفاوية (Spontaneiste): نظرية قائمة على الثقة بالعفوية الثورية
الصفحة 386
في الشعب والعفوية المبدعة في الفرد
عون (Agent): في معناه السكولاستيكي الذي اعتمده بورديو. هو الإنسان لما يسهم باعتباره سبباً جزئياً في اشتغال النسق الاجتماعي. لذلك هو ليس بالعنصر على معنى الوظيفية وليس بالفاعل على معنى الذاتوية.
فعل (Acte): هو المزاوجة في الحركة التي ينجزها كل كائن بين الكينونة والتغير، سواء أكان التغير أثناء الانجاز أم حصيلة التغير المنجز في معناه الأرسطي - الذي أخذ عنه معنى الفعل - يعبر عن الماهية أي الكائن بما هوَ كذلك في حركته، لذلك هو شكل الكائن فاعلاً، أم وظيفته، وهو بالتالي المبدأ الأخير لتفسيره في المجتمع. حينئذ الفعل «Acte» أكثر شمولاً من الفعل «Action».
منزع قومي وحدوي (Irrédantisme): مذهب سياسي قومي إيطالي كان ينادي بتوحيد المناطق المحتلة كلها التي تنطق الإيطالية وضمها. ويطلق هذا المصطلح مجازاً على كل حركة سياسية ذات منزع وحدوي قومي.
الهابتوس (Habitus) : هو نسق الاستعدادات التي ينشأ عليها الفرد ويكتسبها وهي تتعلق بأربعة مستويات: العرفاني، والخلقي، وهيئة الجسد، والجمالي. وهي عموماً استعدادت تشتغل وفق أواليات معقدة داخلية تكون حدود النسق وتشكله أي إنشاءه الذاتي في استقلالية عن محيطه وتخرج للناس ممارسات تعبر عن الهوية الاجتماعية لصاحبها
يعقوبية (Jacobine): منزع سياسي ديمقراطي جمهوري أيام الثورة الفرنسية كان يعقد أعضاؤه جلساتهم في أديرة الرهبان اليعقوبيين.
الصفحة 387
ثبت المصطلحات
انظر من الصفحة 389 الى الصفحة 406
المراجع
انظر من الصفحة 407 الى الصفحة 416
الفهرس
انظر من الصفحة 417 الى الصفحة 428