قراءات في المناهج والتدريس
المؤلف: ماجد حرب وآخرون
التصنيف: كتب أخرى
عرض PDFالوصف:
ماجد حرب وآخرون، قراءات في المناهج والتدريس، دار وائل للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2010،عمان-الأردن.
مقدمة
« أنا لا أملك الحقيقة، ولكن لدي تصوّر عنها »
عمر حسن الشيخ
( رحمه الله)
هذه جملة قراءاتٍ في المناهج والتدريس نهديها عالماً له علينا يد لا تُنسى، أستاذًا نهج لنا في العلم طريقًا لا يلتبس، وسبيلا إلى المعرفة لا يخفى، ومنهجا في البحث لا يبلى، إنساناً لم تستخفه الخيلاء ولم يمد به العجب يومًا، ولكن شاءت إرادة الله أن يترجل أستاذنا العلامة الدكتور عمر الشيخ، فإن الثرى بيننا وبينه لن ييبس فهو باق بينا نسلك مدرجه ونتحلى بحليته، ونتوسم بميسه. ويرتد إلينا، في قراءاتنا هذه كثيرٌ من رَجْع كلام أستاذنا رحمه الله كلام وعيناه إذ خبرنا الرجل سنوات طويلة في رحلة الدراسات العليا في المناهج والتدريس لم يألنا فيها نصحا ولم ين في تعليمنا ولا نذكر أن أمرا اشتبه أو مسألة أشكلت والتبست، إلا وجدنا عنده شواهد واضحة ومناهج راجحة تُبطل الاشتباه وتلغي الإشكال والالتباس، حتى أصبحت بصائره سلما إلى لحوق الملتمس، ومسلكا إلى حيازة المغزى.
في القراءة الأولى, نماذج تخطيط المنهاج وسؤال ما بعد الحداثة, وقفت على نماذج عديدة في تخطيط المنهاج, تبلورت تحت مظلة الحداثة , ثم تناولت آراء منظري ما بعد الحداثة في شأن تخطيط المنهاج, والمآخذ التي يرصدها هؤلاء التي يرصدها هؤلاء تجاه تلك المناهج, وان كانت هذه الورقة ننبئ بسلامة التنظير في فكر ما بعد الحداثة, الا أنها تشي بعبء ينوء بحمله هذا الفكر, عبء الانتقال الى طور الممارسة والتنفيذ.
الصفحة 1
وفحص د. إياد أبو رحمة في القراءة الثانية ملامح نظرية الأدب على نحو يفصح عن حسن التبصر بها، إذ تناول ماهية الأدب ووظيفته وعلاقته بالمعرفة... وثمة -في هذه القراءة- إشاراتٌ دالةٌ على ما ينبغي أن تكون عليه مناهج الأدب والنصوص الأدبية، ساعدت على الخلوص إلى جملة من التوصيات من شأنها أن تعين على "تحويل" تضمينات الأدب إلى ممارسات داخل الغرف الصفية، من ذلك مثلا الركون إلى النصوص التفاعلية من خلال الحاسوب، واختيار بُنى نصية في ضوء التفضيلات القرائية لدى الطلاب.
ورسمت د. بُعاد الخالص في القراءة الثالثة ملامح مشروع يلفت الأنظار إلى أهمية التفكي التأمل في الممارسات التدريسية، وليس بخافٍ على أحد أن هذا التفكير يعني أن يعيد المعلم النظر في قيمه ومعتقداته وممارساته بغية تطويرها وتحسينها. وتتجلى أهمية هذه القراءة بتتبعها نموذجًا ذا صبغة عملية ترشد المعلمين إلى حسن التأمل في ما يفعلون داخل الصفوف، على نحو استعادي غير خطيّ.
في القراءة الرابعة بسط د. شريف اليتيم القول في التعلم الإلكتروني من حيث ماهيته وأنواعه وطرائق ضبط ضبط جودته. ووظف الباحث في قراءته هذه جملة من المعايير المعتمدة لدى مؤسسات عالمية تتبنى التعلم الإلكتروني وتنتصر له، للحكم على جودة التعلم الإلكتروني. ولعلّ هذه القراءة أن تكون دعوة للالتفات إلى مفهوم التربية الرقمية ومفهوم المنهاج الرقمي.
واستندت د. جانيت زبانة في قراءتها المعنونة إلى جهود لمكي وكازدن وغيرهما في توضيح فكرة
الصفحة 2
الخطاب الصفي التي يعني تفعيل الممارسات التدريسية من خلال اللغة. والحق أن في هذه الفكرة التي تحوم حولها القراءة الخامسة، حافزًا للشروع بالمزيد من الجهود البحثية التي تطال الخطاب الصفي، إذ لا تنفك الدراسات التي تناولته قليلة، كما أن عناصر هذا الخطاب –على نحو ما أوضحتْ د. زبانة- تستأهل من الباحثين وقفات كثيرة.
التعلم القائم على المشكلات هو موضوع القراءة السادسة التي أبان فيها د. بسام ابراهيم ماهية هذا التعلم، وأوضح خطواته مبرزًا العلائق التي تربطه بالتعلم بالاكتشاف، وبالتفكير الإبداعي، ومؤكداً أهميته في بناء الطلبة اتجاهات إيجابية نحو العلم.
وحاولت د. روناهي مجدلاوي في القراءة السابعة تبيان ما لفهم طبيعة التاريخ من أهمية في عقلنة منهاج التاريخ وجعله أقرب إلى الفهم، لذا ثمة بحث موسّع في هذه القراءة مستند إلى منظور ابستيمولوجي يترسم تضمينات وتوصيات من شأنها أن تغير معتقدات الطلاب عن التاريخ على نحو يمكنهم من تملك مؤشرات حقيقيةة دالّة على التفكير التاريخي.
ثم إني ختمتُ الكتاب بقراءة ثامنة نظرت فيها إلى مسألة المنهاج الخفي في المدارس، ذلك أنه يجمل بنا الاكتراث بثقافة المدرسة وبما تشيعه هذه الثقافة من قيم قد يتمثلها الطلاب، تحول دون أن يصبحوا أفرادًا فاعلين في مجتمعاتهم، فالمدارس بيئاتٌ قد يسودها الطبقية والتعصب والخوف، ولن تضطلع بأدوارها المنوطة بها إلا إذا أصبحت أماكن متحررة من هذا كله.
د. ماجد حرب
الصفحة 3
نماذج تخطيط المنهاج وسؤال ما بعد الحداثة
د. ماجد حرب
استاذ المناهج والتدريس المساعد
جامعة الزيتونة الأردنية
راج في السنوات الأخيرة مصطلح ما بعد الحداثة رواجاً كبيرا، وطال ميادين متعددة كالأدب والفن والعمارة ثم التربية، غير أن تضمينات ما بعد الحداثة المعنية بالتربية لا تزال غير واضحة الملامح، ولا تبرح بحاجة إلى حُسْن تبصر وتأمل.
والحقيقة أن فهم ما بعد الحداثة لا يتأتى كما ينبغي ما لم يوضح المقصود بالحداثة، ذلك أن مفهوم ما بعد الحداثة في جوهره وعيٌ اجتماعي يتسم بتحدي افتراضات الحداثة التي ظهرت في القرن الثامن عشر مع ظهور المشروع التنويري الذي أكد أهمية المنحى العلمي، وآمن بالاستدلال طريقا لاكتشاف الحقيقة.
وتستند الحداثة إلى نموذج سلوكي قائم على الفلسفة الوضعية، ويعني هذا أن النظم ال تربوية المستظلة بالحداثة تعمد إلى طرائق تجريبية يُحدد من خلالها النتاجات التي يُطمح أن يحققها الطلاب ويُحدد كذلك العلاقات السببية بين الممارسات التدريسية وتلك النتاجات.
ويعني ما سبق، أن الحداثة تركن إلى لغة كمية تكشف من خلالها سمات معينة أو خصائص محددة، وإنما تلجأ إلى مثل تلك اللغة حتى يسهل معالجة تلك
الصفحة 4
السمات والخصائص معالجة إحصائية قابلة للمقارنة. وعلى هذا، فإن المعرفة -في ظل الحداثة – هي نتاج تطبيق الاستدلال، كما أن المنهج التجريبي ذو شأن كبير عند منظري الحداثة، وهو منهج معني بفحص أثر متغير في متغير غيره، أي أنه يبحث دوما في علاقات السبب/النتيجة، ومن المعلوم أن البحث في هذه العلاقات يعني الإكتراث بالناتج النهائي حسب، من غير التفات إلى الجوانب القيمية التي قد تتكانف تلك العلاقات.
وإن طال ذلك المنهج التجريبي السلوك الإنساني، فإنه يمكن أن نفهم أن الحداثة تغفل آدمية الإنسان، إذ سيغدو الإنسان آلةينظر في مدى فعاليتها وإنتاجيتها، وستغدو المدارس مصانع تنتج السلع، الأمر الذي يعني أن المشروع التربوي الذي أفرز الحداثة قد فشل في الاستجابة لفرادة الإنسان وعواطفه وحدسه، وفشل في تجسيد مقولة إن التربية أولا وقبل كل شيء ممارسة للحرية (حرب، 2006).
وفي ضوء تلك الانتقادات، ظهرت آراء تربوية تجديدية قصدت تجاوز ما آلت إليه الحداثة، واستمدت تعاليمها - بغية ذلك – من تضمينات ما بعد الحداثة، وأسس الآخذون بهذه الآراء (مثلا Slattery, 1995, Doll, 2004) خطابا تربويا مغايرا.
يرى منظرو ما بعد الحداثة التربويون أن الحقيقة ليست عالمية تحمل معنى واحدا، وأن ظاهرة ما ينبغي ألا تفسر تفسيرا أحاديا، وأن اللغة الكمية الإحصائية قد لا تعكس الواقع تماما كما هو، والتربية - من منظورهم – لا ينبغي أن تظل مكرسة لتحقيق أهداف مسبقة التحديد، بل يجب أن تكون أكثر تنوعا من حيث أهدافها وعملياتها، وعلى هذا فهي عملية تأويلية نقدية تثير دوما تساؤلات عديدة حول غاية التربية وأهدافها، وحول طبيعة المناهج والممارسات التدريسية.
الصفحة 5
ويمكن لمن يتتبع آراء منظري ما بعد الحداثة التربويين أن يلحظ أنهم يندرجون تحت تصنيفات متعددة، فمنهم المعني بالفلسفة الظاهراتية التي تبحث في معاني خبرة معيشة كما يراها الفرد الذي يمر بهذه الخبرة، ومنهم المعني بالتحليل الجندري (أي بطبيعة الأدوار الاجتماعية التي يلعبها كل من الرجل والمرأة، وموقف المنهاج من هذه الأدوار)، أو التحليل النفسي (القائم على الافادة من علم النفس في فهم كيف ينظر الأفراد الى المدرسة والمنهاج)، ومنهم من يستند إلى منظور تاريخي يقدم من خلاله مختصرات نقدية مهمة في شأن تربوي ما.
ومهما يكن من شيء،فإن الحداثة نزعة فكرية ظهرت مع ظهور الحركة التنويرية في القرن الثامن عشر، وأكدت أهمية المنهج العلمي القائم على الاستدلال وأهمية التكنولوجيا في اكتشاف الحقيقة، ورغم هذا، فقد تمخض عن الحداثة تأكيد لمعاني البيروقراطية والتفكير الخطي المتتابع (Hargreaves, 1995). في حين تشير ما بعد الحداثة إلى مجموعة الأفكار والمبادئ والممارسات التي ترفض الارتداد إلى الأشكال العقلية التقليدية، وتؤمن بتعددية التفسير وبتطوير طرائق جديدة للتفكير في ظاهرة ما، وترى أن الواقع والمعرفة يتغيران على الدوام (Atkinson, 2000). وبنظرة مجملة إلى أهم التضمينات التربوية لما بعد الحداثة، نجد ما يأتي:
الصفحة 6
قيم المساواة والتسامح وتقدير العواطف.
ولهؤلاء المنظرين آراء وتوجهات تطال المنهاج المدرسي؛ إذ رفضوا نماذج تخطيط المناهج القائمة على الحدائة والمستندة إليها، ودعوا إلى منهاج غير مخط يستجيب لآدمية الإنسان وللتعددية الثقافية التي يشهدها هذا العصر. من هنا، فإنه من الأهمية بمكان إلقاء الضوء على أشهر نماذج تخطيط المناهج التي نهضت في ظل الحداثة، كنموذج تايلر، ونموذج تابا، ونموذج شواب، ونموذج ووكر، ونموذج غودلاد، ونموذج جونسون، لنحدد-من ثم- كيف نقد منظرو ما بعد الحداثة هذه النماذج، وما البديل الذي يقترحونه.
ذلك أن المزاعم التي أدلى بها منظرو ما بعد الحداثة في معرض نقدهم لنماذج تخطيط المنهاج المستندة إلى الحداثة – تشير إلى أهمية إعادة النظر في نماذج تخطيط المنهاج، ليصبح المنهاج أداة تمكين يخاطب الفرد الشمولي الجوانب في عالم يشهد تباينا اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا متسارعا.
الصفحة 7
نماذج تخطيط المنهاج
يحظى المنهاج بتعريفات عديدة، فهو تلك الموضوعات المفيدة التي يتعلمها الطلاب ليعيشوا في أي مجتمع معاصر (Marsh & Willis,2003) ، وهو كل عمليات التعلم المخطط لها التي تقدم للطلاب تحت مسؤولية المدرسة، أي أنه خطة مكتوبة توضح النتاجات التعلمية المقصودة (Sayler, et al, 1985)، ويمكن النظر إلى المنهاج على أنه جميع الخبرات التعلمية التي يتعرض لها الطلاب تحت إشراف المدرسة. وبنظرة تركز على التعلّم واكتساب المهارات، يمكن القول إن المنهاج هو جميع الخبرات التعلمية التي يُرفد بها الطلاب ليكتسبوا مهارات عامة ومعرفة في مواقف تعلمية مختلفة.
وقد حاول بوزنر Posner, 1998)) تتبع نماذج تخطيط المنهاج من خلال تصنيفها تحت أسئلة ثلاثة هي:
الصفحة 8
أ- النماذج الإجرائية:
يعد نموذج تايلر أقدم نماذج تخطيط المنهاج وأشهرها وأكثرها رواجا، حتى غدا نقطة انطلاق للنماذج الأخرى، وقد قدم تايلر أربعة أسئلة على مخططي النماذج أن يجيبوا عنها، هي:
يرى تايلر أن ثمة مصادر رئيسة لاشتقاق الأهداف التربوية، هي: خصائص المجتمع، وخصائص الطلاب، والمبحث المعرفي، وعلى هذا فإن قائمة كبيرة من الأهداف ستُختار من هذه المصادر الثلاثة، لذا يوصي تايلر أن تعرض هذه الأهداف على غربالين: فلسفي يحدد أيها أكثر أهمية، ويوجد التناغم بينها وينفي عنها التنافر والتضارب، ونفسي معني بنظريات التعلم ليحدد مدى ملاءمة الأهداف للطلاب من حيث حاجاتهم وقدراتهم وميولهم، وبمرور هذه الأهداف بهذين الغربالين، تقلص القائمة إلى قائمة أصغر تحوي أهدافا أكثر دلالة.
وفي ضوء القائمة النهائية من الأهداف يتم اختيار الخبرات التعلمية التي سيمر بها الطلاب، ويقصد بالخبرات التعلمية تفاعل الطلاب مع مواقف تعلمية معينة، ويتم اختيارها في ضوء جملة من المعايير من أهمها ارتباطها بالأهداف المنشودة، ومدى
الصفحة 9
مراعاتها للتنوع بين الطلاب، ومدى قابليتها للتطبيق، ومدى قدرتها على جذب انتباه الطلاب.
ثم أن هذه الخبرات التعلمية المختارة بحاجة إلى معايير تنظيمية تجعلها أدنى إلى فهم الطلاب وأقرب إلى تشويقهم. ويقترح تايلر ثلاثة معايير تنظيمية في هذا الشأن، هي: الاستمرارية، والتتابع، والتكامل. ويشير معيارا الاستمرارية والتتابع إلى بناء الخبرات على ما سبقها، أي إلى اتساع هذه الخبرات على صعيد السنة الدراسية الواحدة، واتساعها عند انتقال الطلاب من سنة دراسية إلى أخرى، وهو ما يعرف بالتنظيم الرأسي لخبرات المنهاج، في حين يشير معيار التكامل إلى ربط الخبرة التعلمية بخبرات تعلمية أخرى من مباحث مختلفة، كأن تربط خبرات لغوية بخبرات فنية أو علمية مثلا، في ما يعرف بالتنظيم الأفقي لخبرات المنهاج.
وحتى يتم مراعاة هذه المعايير التنظيمية، يجدر الانتباه إلى ما دعاه تايلر بالعناصر التنظيمية، ويقصد بها المفاهيم والمهارات والقيم والاتجاهات، إذ تجمع المفاهيم المتعلقة بظاهرة ما معا، وتجمع المهارات المتعلقة بالظاهرة نفسها معا، وكذا القيم والاتجاهات، وذلك وفق مبادئ منطقية (كالانتقال من المحسوس والمجرد، ومن المعلوم إلى المجهول مثلا)، أو زمنية (كما يحدث في المفاهيم التاريخية أو الأدبية مثلا)، لتشكل هذه العناصر التنظيمية مجتمعة ما يمكن تسميته بالبنية التنظيمية يعبر عنها عادة ب "الوحدة الدراسية" أو "الدرس"، وهكذا يمكن القول إن المنهاج في النهاية مجموعة من البنى التنظيمية.
والخطوة الأخيرة في نموذج تايلر هي التقويم، ويقصد بها تحديد الفارق بين ما هو مأمول (أي الأهداف)، وما هو واقعي (أي أداءات
الصفحة 10
الطلاب بعد أن مروا بالخبرات التعلمية)، ويمكن أن يتأتى حساب هذا الفارق من خلال أدوات عديدة كالاختبارات والملاحظة والاستبانات.
ولعله جلي مما سبق، أن نموذج تايلر خطي يسير في خطوات متسلسلة (الشكل (1))، وأنه تقني يضع غاية (الأهداف) ويبحث في الوسائل التي من شأنها تحقيق هذه الغاية.
(أنظر الشكل الموجود في الصفحة 18 ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
ورغم أن لهذا النموذج أفضلية السبق، إلا أنه لم يسلم من الانتقادات، إذ يؤخذ عليه أنه يحدد الأهداف مسبقا، وفي ضوئها تتم بقية العمليات، فهو نموذج إنتاج محض، يكون الطلاب مدخلاته، وتكون الخبرات التعلمية عملياته، أما المخرجات فهي تحقيق الطلاب للأهداف المنشودة
تأثرت هيلدا تابا إلى حد كبير بنموذج تايلر، وقد صاغت نموذجها عام 1962، وهو نموذج خطي وموجه نحو الأهداف وموجه نحو الأهداف. ويأتلف هذا النموذج في خمس خطوات (Taba, 1962)؛ الأولى تشخيص الحاجات، ويقصد بها الوقوف على حاجات المجتمع
الصفحة 11
والطلاب، إذ في ضوء هذه الحاجات تأتي الخطوة التالية وهي صياغة الأهداف، وينبغي أن تحوم هذه الأهداف حول مفاهيم وتعميمات عامة وإيمانا من تابا بأهمية الاستدلال الاستقرائي للطلاب، فإنها توصي بأن تعالج أهداف المنهاج قدرة الطلاب على تكوين مفهوم ما، والخلوص - بصورة استقرائية – إلى تعميمات ومبادئ يطبقونها، كما أوصت بأن تطال هذه الأهداف الاتجاهات والقيم والمهارات الأكاديمية والاجتماعية.
أما الخطوة الثالثة، فهي اختيار المحتوى المناسب وتنظيمه، ويقصد بالمناسب ارتباطه بالأهداف ومناسبته لمستويات الطلاب وحفزه للتفكير بأسلوب استقرائي، ويتكون المحتوى من مفاهيم كبرى وأفكار رئيسة وحقائق معينة حول الموضوعات المراد تعلمها، ويُعرض هذا المحتوى في أنماط ترتبه، تماما كما
هو الحال في العناصر التنظيمية التي تحدث عنها تايلر.
والخطوة الرابعة تتمثل في اختيار الخبرات التعلمية وتنظيمها، وتأخذ تابا في هذه الخطوة بمعيار التتابع الوارد في نموذج تايلر، وتقدم هذه الخبرات للطلاب متى ما أخفقوا في تعلم المحتوى، وهذا مما يسجل لنموذج تابا، إذ أعطت المعلم دورا كبيرا في نموذجها، فالمعلم هو من يحدد إن كان طلابه قد أتقنوا استقراء المحتوى وفهم مفاهيمه للخروج بتعميمات دالّة، فإن أخفقوا في هذا، فإنه ي رفدهم بالمزيد من الخبرات التعلمية المنظمة التي قد تتمثل بالمزيد من القراءات حول الموضوع المراد تعلمه، أو القيام برحلات ميدانية ذات صلة.
أخيرا، يتم التأكد من مدى اقتراب الطلاب - بعد أن تعلموا المحتوى ومروا بالخبرات التعلمية – من الأهداف المنشودة، أي التقويم، وهي الخطوة الأخيرة في نموذج تابا، وكما هو الشأن في نموذج تايلر، يتم التقويم من خلال.
الصفحة 12
أدوات عديدة كالملاحظة والاختبار وأعمال الطلاب.
ولعله واضح مما سبق أن نموذج تايا توسيع لنموذج تايلر، مع تأكيد أهمية الاستدلال في تعلم الطلاب، وتأكيد دور المعلم في تنظيم بيئة صفية مناسبة تساعدهم في فهم المحتوى والخبرات التعلمية التي يمرون بها، ويشير الشكل إلى نموذج تابا
(أنظر الشكل الموجود في الصفحة 20 ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
انتقد جوزيف شواب نماذج تخطيط المنهاج القائمة، وعاب عليها ضيق أفقها، وصبغتها التجريدية، كما انتقد استنادها إلى أُطُر وتصورات مسبقة التحديد، لذا يوصي شواب باعتماد التفكير العملي لا النظري عند تخطيط المنهاج، وإذا كان التفكير النظري معنيا بالتعامل مع المجردات بهدف تفسير ظاهرة ما من خلال الاستنتاج، فإن التفكير العملي يتعامل مع المحسوسات بهدف صنع قرار ما من خلال الحوار والتشاور.
لذا، فإن شواب يتبنى نموذجا في تخطيط المناهج قائما على التفكير العملي وعلى ما أسماه بالتدبر، ويقصد به ذلك الجهد التشاوري الذي
الصفحة 13
يشترك فيه المعنيون بالمنهاج، - من غير اقتصار على نظرية بعينها أو الاستناد إلى تصورات مسبقة – وهو جهد من شأنه أن يحل عمليا الإشكاليات القائمة، ويتطلب لغة أو تفكيرا عمليا وليس نظريا، ويكون منطلق هذا التفكير الإحساس بأن ثمة استياءً ما تعاني منه المناهج القائمة، وتلك مسألة تقتضي الدخول إلى الواقع والميدان، إذ إن جوهر هذا التفكير هو التعامل مع مواقف محسوسة بغية صنع قرار وتنفيذه.
والتدبر عملية معقدة تتطلب من الآخذين بها نوعين من الفنون؛ الأول هو الفنون العملية التي تعني فهم واقع المناهج القائمة وإدراك المشكلات التي تعتريها، بغية مواجهتها والتغلب عليها، وهذا لا يتأتي بالطبع إلا من خلال الحوار والتشاور، وقد تكون المشكلة على سبيل المثال معنية بتنظيم خبرات المنهاج، أو قد تكون معنية باستراتيجيات تنفيذه، وقد تكون فشل المنهاج في رفد الطلاب بخبرات تعلمية معينة... وبالقدر الذي يتمتع فيه فريق المناهج بقدرات تحاورية وتشاورية وبخبرات، يمكن أن ينجح في صياغة بدائل و مقترحات مبررة تحل الإشكالية القائمة.
أما النوع الثاني من الفنون التي يوصي بها شواب، فهي فنون الانتقاء والاختيار ويقصد بها قدرة فريق المنهاج على استخدام منظورات معرفية متنوعة للنظر إلى المشكلة من زوايا متعددة، وهنا لا بد من التذكير مرة ثانية بأن شواب يرفض الاقتصار على نظرية معينة، بل يوصي بتناول جملة من النظريات تساعد على فهم الإشكالية ومن ثم حلها.
ويأتلف فريق المنهاج - حسب شواب – من أربعة عناصر، خبير في المنهاج ملم في الفنون العملية وبفنون الانتقاء، وخبير في المبحث المعرفي المراد تطوير منهاجه (اللغة أو العلوم أو الرياضيات مثلا)، وممثل عن المعلمين (نظرا لأهمية
الصفحة 14
الميدان في تخطيط المنهاج حسب شواب)، وممثل عن الطلاب، وليس المقصود به طالبا ما، وإنما خبير بنظريات التعلم أو بعلم النفس.
والأصل في هذا الفريق أن يتبنى الحوار والنقاش بصورة مستمرة حول ما يمكن عمله لجعل المنهاج أكثر فاعلية، وهكذا يمكن القول إن نموذج شواب غير معني ببناء المنهاج بقدر ما هو معني بالمشكلات التي يعاني منها منهاج قائم، وبمواجهة هذه المشكلات والتغلب عليها.
ولعله غير خافٍ أن نموذج شواب يختلف إلى حد ما عن نموذج تايلر وتابا، ولكنه مع هذا يظل نموذجا تقنيا، إذ يضع غاية محددة ويبحث في الوسائل والأدوات التي تحقق هذه الغاية، غير أنه أقل خطية - بكثير - من نموذجي تايلر وتابا، ذلك أن التدبر والتشاور والتحاور التي تشكل روح فريق المنهاج هي عمليات استعادية، بمعنى أنها لا تسير بخط متتابع متسلسل، كما أنها ليست عملية استقرائية، لأنها لا تهدف إلى الوصول إلى تعميم او تفسير ما، بل إلى الوصول إلى قرار يزيل المشكلات التي تحول دون فاعلية المنهاج.
ب- النماذج الوصفية "Descriptive"
متأثرا بشواب، صاغ ديكر ووكر نموذجه في تخطيط المنهاج، الذي راج تحت اسم النموذج الطبيعي. ويتكون هذا النموذج من ثلاث مراحل رئيسة، هي: منصة المنهاج، والتدبر، والتصميم.
الصفحة 15
في منصة المنهاج ينطلق مخططو المنهاج لرسم معتقداتهم حول ما يمكن تعلمه وتعليمه (مثلا هل يمكن تعليم الإبداع). وحول ما هو صحيح (أي النظريات)، وحول ما هو مرغوب فيه تربويا (الأهداف)، ويصاحب كل هذا تصورات وإجراءات المخططين لماهية التعليم الجيد. وقد ينشأ في أوساط المخططين صراع مرده اختلافهم في ما يحملون من معتقدات وتصورات، فيأتي دور التدبر (على نحو ما هو موجود في نموذج شواب) لتحديد الحقائق المطلوبة، وتوليد البدائل والأولويات وموازنتها، واختيار أفضلها حجة. ويكون المخططون في مرحلة التدبر أمام مبادئ وتصورات قد قبلت في المنصة، وأمام مبادئ وتصورات أخرى استجدت في أثناء التدبر، وعليه فإنهم بحاجة إلى سياسة تكفل لهم ترتيب الأولويات المستجدة، والحفاظ على الأولويات المنبثقة من المنصة. ويصل مخططو المنهاج متسلحين بهذه السياسة المرحلة الثالثة وهي التصميم، ولأنهم يصلون هذه المرحلة يحملون معتقدات وتصورات مشتركة (نتيجة التدبر)، فإنهم يمتلكون فيها موقفا واضحا يساعدهم في اختيار المواد التدريسية والأنشطة التي سينفذها الطلاب لتحقيق الأهداف التي اتفقوا عليها في مرحلتي المنصة والتدبر، أي موقفا يساعدهم في تصميم المنهاج.
والشكل (3) يشير إلى ملامح نموذج ووكر
الصفحة 16
(أنظر الشكل الموجود في الصفحة 24 ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
ويمكن القول إن نموذج ووكر نموذج آخر موجه نحو الغايات، أي أنه تقنيّ الطابع، ولكنه - شأنه شأن نموذج شواب - أقل خطية من نموذجي تايلر وتابا. غير أن القيمة الحقيقيةة لهذا النموذج تكمن في أن ووكر صاغه في أثناء عمله في مشروع لتخطيط المنهاج، أي أن النموذج يستند إلى خلفية تجريبية، لذا فإنه يقدم صورة وافية لما يحدث فعلا عند تخطيط المنهاج، خلافا لنموذج تايلر (مثلا) الذي يقدم صورة لما ينبغي أن يكون. ومع هذا، فقد يعاب على نموذج ووكر أنه لا يوفر وصفا يتجاوز مرحلة تصميم المنهاج، أي أنه ليس معنيا بتنفيذ المنهاج وتقويمه وتغييره، لذا فإن البعض يرون أن في هذا النموذج فائدة كبيرة لمخططي المناهج، ولكنه قد يبدو غير ذي نفع للمعلمين Marsh & Willes,2003))).
الصفحة 17
ج- النماذج المفاهيمية:
يرى جون غودلاد (Goodlad,1997) أن تخطيط المنهاج يمر بثلاثة مستويات؛ المستوى الأول مجتمعي يناط بالسلطات التربوية العليا كمجالس التربية، ويتم في هذا المستوى صياغة الغايات التربوية الكبرى التي يطمح أن يحققها المنهاج، ويؤخذ في الاعتبار هنا قيم المجتمع وفلسفته، وفي ضوء الغايات التربوية تشتق أهداف تربوية وتحدد الفرص التعليمية التي من شأنها متى ما تعرض لها الطلاب أن تحقق تلك الأهداف. ويقصد بالفرص التعلمية كل ما من شأنه أن يعين الطلاب على فهم مفاهيم أو تعميمات، أو على تملك مهارات أو قيم متعلقة بموضوع معين، وقد تشمل هذه الفرص مواد تعليمية، أو ألعابا تعليمية، أو زيارات ميدانية، أو قراءات فردية. وتختار هذه الفرص بحيث تلائم مستويات الطلاب وتحفز دافعيتهم للتعلم، والحقيقة أن الفرص التعلمية ما هي إلا خبرات تعلمية على نحو ما ورد في نموذجي تايلر وتابا. ويتم تحديد هذا كله على مستوى مديريات التعليم، وهو المستوى الثاني لتخطيط المنهاج وفق نموذج غودلاد، ويعرف بالمستوى المؤسسي.
أما المستوى الثالث فهو تدريسي ويضطلع به المدارس ومعلموها، ويتم فيه اختيار ما سماه غودلاد بمراكز التعلم، ويقصد بها مجموعة الأنشطة التي توفر فرصا تعلمية للطلاب. وتشكل المراكز التعلمية المتعلقة بموضوع ما وحدات دراسية، وربما أفاد غودلاد في هذا من فكرة تايلر حول البنى التنظيمية، وعليه يمكن القول إن المنهاج - حسب غودلاد – مجموعة من مراكز التعلم المنظمة تنظيما جيدا. وعلى سبيل المثال، قد يشكل موضوع "التكنولوجيا" مركزا تعلميا يوفر للطلاب فرصا ليتعلموا مفاهيم
الصفحة 18
ويستخلصوا تعميمات ويكتسبوا قيما حول معنى التكنولوجيا، وأهميتها للناس، ودورها في البيئة وفي تحسين جودة الحياة. ويوضح الشكل (4) نموذج غودلاد في تخطيط المنهاج.
(أنظر الشكل الموجود في الصفحة 26 ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
• نموذج جونسون:
يرى جونسون أنه ينبغي التفريق بين "المنهاج" و"التدريس"، وأن النظر إلى المنهاج على أنه خبرات تعلمية منظمة لا يسعف في هذا التفريق، والمنهاج - حسب جونسون – سلسلة منظمة من النتاجات التعلمية المقصودة، وتشمل هذه النتاجات التعلمية معرفة (حقائق ومفاهيم وتعميمات) ومهارات وقيما، يتم اختيارها من مصدر واحد هو
الصفحة 19
المحتوى الثقافي القابل للتدريس، أي المعرفة، وهنا يلمح الفارق بين نموذج جونسون ونموذج تايلر، ففي حين يعد المجتمع وخصائص الطلاب والمعرفة، مصادر لأهداف المنهاج في نموذج تايلر، يأخذ جونسون بمصدر واحد للمنهاج هو المعرفة، أما المجتمع وخصائص الطلاب فهما معياران لاختيار المعرفة.
وتنظم النتاجات التعلمية المقصودة (أي المنهاج) بصورة تظهر ارتباطها ببعضها البعض، فعندما يعرض مفهوم ما، فإن المفاهيم المرتبطة به ينبغي أن تعرض إلى جانبه بشكل يوضح ما بينها من ارتباطات، أي أن المفاهيم ترتبط مع بعضها بعضا على نحو عنقودي، فعلى سبيل المثال، يرتبط مفهوم "الخاصية الشعريّة" في العلوم بمفهوم "التوتر السطحي"، وتجمع المفاهيم الأخرى ذات العلاقة لتكون ما يدعوه جونسون بالعنقود، وهكذا يأخذ المنهاج في النهاية شكل الخارطة العنقودية التي تظهر ارتباط المفاهيم والتعميمات ببعضها بعضا.
وعند الخروج بقائمة من النتاجات التعلمية المقصودة المنظمة على النحو السابق، يترك المجال للمعلمين في اختيار المحتوى التدريسي المناسب ليكتسب الطلاب تلك النتاجات (من هنا يفهم كيف فصل جونسون المنهاج عن التدريس)، وهذا مما يسجل لنموذج جونسون، إذ فيه هامش حرية غير قليل للمعلم، فهو الذي يختار المحتوى التدريسي الأنسب (ما عبر عنه جونسون بالمحتوى الأدائي، ويقدمه للطلاب في ضوء ذخيرته وخبرته في التدريس، واضعا نصب عينيه النتاجات التعلمية التي تم اختيارها وتنظيمها، وهكذا، فإن المنهاج والتدريس مفهومان منفصلان غير مرتبطين في هذا النموذج، وهذا ما أحدث ضجة غير قليلة عندما أشهر جونسون نموذجه، كما يتضح من هذا النموذج (انظر الشكل 5 في الصفحة 28) أن المنهاج هو من يقود التدريس، وأنه (أي المنهاج) مخرج عملية "التخطيط" ومدخل لنظام التدريس.
الصفحة 20
والتقويم- حسب نموذج جونسون – هو قياس الفارق بين النتاجات التعلمية المقصودة، والنتاجات التعلمية الحقيقيةة التي أظهرها الطلاب، وبالقدر الذي تقترب فيه النتاجات الحقيقيةة من النتاجات المقصودة يكون التدريس فاعلا، والشكل (5) يوضح معالم نموذج جونسون.
(أنظر الشكل الموجود في الصفحة 28 ضمن النسخة الورقية بدف أعلاه)
وبتتبع النماذج السابقة كلها، يتضح أنها تقنية علمية، بمعنى أنها تضع غايات معينة وتبحث في الطرائق والإجراءات التي تحققها، ولأنها تستظل بالحداثة، فإنها تعطي اعتبارات كبيرة للموضوعية وللتحديد المسبق للأهداف، وللطرائق التجريبية التي يمكن من خلالها التظر في مدى اقتراب الطلاب من الأهداف أو النتاجات المنشودة.
الصفحة 21
وفي ظل تلك النماذج، يُنظر إلى التعليم على أنه عملية غرضها الأسمى حفز أو إنتاج التعلّم، من خلال ثنائية الوسائل/الغايات، ذلك إن تلك النماذج استهدفت غاية واحدة هي اقتراب الطلاب من الأهداف أو النتاجات، ويشير هذا إلى ما يردده منتقدو هذه النماذج من أنها نظرت إلى الطلاب على أنهم مواد خام يتعرضون إلى عمليات متعددة ليخرجوا في النهاية وقد حققوا جملة من الأهداف أو النتاجات، أي أن التربية - حسب تلك النماذج – نظام إنتاجي شبيه بأنظمة المصانع، لذا تُدرج النماذج السابقة تحت منظور الإنتاج التقني.
من أجل ذلك، يرى البعض أن تلك النماذج التي قامت على منظور تقني إنتاجي، لم تحفل بآدمية الطلاب، ولم تكترث بهم من حيث هم أفراد ذوو اهتمامات وحاجات ومشاعر وعواطف، إذ كان جل الاهتمام في تلك النماذج وصول الطلاب إلى الأهداف المأمولة.
والحقيقة أن ما قامت عليه تلك النماذج، يتعارض والأغراض السامية للتربية، لذا ظهرت أصوات تنادي بإعادة النظر في نماذج تخطيط المنهاج، ودعت إلى تقصي نموذج لا ينظر إلى الطلاب على أنهم "مواد خام"، أو إلى المدارس بعدها "مصانع". ولعل باولو فريري كان من أوائل الذين لفتوا الانتباه إلى هذا الأمر.
يرى فريري أن الهدف الأسمى الذي ينبغي أن يجسده المنهاج هو زيادة الوعي النقدي عند الطلاب، بمعنى أن يصبحوا أكثر إدراكا لأنفسهم ولمجتمعهم بما يحمله من قضايا ومشكلات. لذا يضع فريري منظورا في تخطيط المنهاج يتعارض مع الافتراضات الرئيسة لمنظور الإنتاج التقني الذي تندرج تحته النماذج السابقة كلها، وقد عُرف – فيما بعد – بالمنظور النقدي.
الصفحة 22
يقوم المنظور النقدي على إمداد الطلاب بالقدرة على تأمل أوضاعهم وقضايا مجتمعهم من خلال لغة حوارية ينهمكون فيها مع معلميهم، ليصبح الطرفان- الطلاب والمعلمون – متقصين نقديين لتلك الأوضاع والقضايا، ولكن هذا يتطلب الاستناد إلى معرفة يأخذ بها الطرفان، شريطة أن تتغير أدوارهما، إذ يرفض هذا المنظور أن يظل الطلاب سلبيين تُملأ أدمغتهم بالمعلومات، وتُسترد وقت الحاجة إليها (أي وقت الاختبار)، في ما دعاه فريري بالمفهوم البنكي للتعليم، حيث يودع المعلمون المعرفة في أدمغة الطلاب، ويسترجعونها وقتما يطلبونها(أي في الاختبارات)، تماما كما تودع الأموال في البنوك وتسترجع وقت الحاجة. وما سبق يعني أن ثمة فئة مهيمنة (المعلمون) تستأثر بالمعرفة، وفئة مُهيمن عليها (الطلاب)... لذا يرى فريري أن هذه الحالة لا تعبر عن حقيقة التربية وأغراضها، التي يقف على رأسها ممارسة الفرد لحريته، ولحقه في فهم واقعه الذي يعيش فيه.
ويضع فريري تصورا ليأخذ به مخططو المناهج، ويقوم هذا التصور على خطوات عديدة، تبدأ بأن يساعد مختصون تربويون الطلاب على تطوير موضوعات توليدية تعكس رؤيتهم لحاجاتهم وحاجات مجتمعهم، ثم يأخذ أولئك المختصون تلك الموضوعات التوليدية، ويطورون حول كل موضوع منها مواد تعليمية (قراءات، صور، لعب أدوار مثلا)، وتستخدم هذه المواد في حلقات ثقافية يشترك فيها المعلمون والطلاب ليتحاوروا حول الموضوعات التي أسهم الطلاب في توليدها، والحوار هنا مسألة على قدر كبير من الأهمية، فهو المسؤول عن استمرارية التواصل بين الجميع، ومن غير تواصل لا يمكن أن يحدث تعلم، كما أن الحوار يعين على تأمل المعلم والطالب في كل موضوع مرغوب في مناقشته.
الصفحة 23
وهكذا يصبح النتاج التعلمي الذي يستهدفه المنهاج - على وفق منظور فريري- هو التأمل الناقد، لأن التأمل في النهاية سيفرز وعيا يساعد الطلاب على فهم واقعهم وتحسينه. وقد أصبحت أفكار فريري تلك نقطة انطلاق انطلق منها جماعة من المنظرين في المناهج دُعوا بالمنظرين الجدد.
يحرص المنظرون الجدد على "فهم" المنهاج أكثر من حرصهم على طرائق تخطيطه، لذا فإنهم يناقشون قضايا منهاجية مثل: ذكورية المنهاج (أي تحيزه للذكور دون الإناث)، والنظر الى المنهاج على أنه ظاهرة قابلة للتأويل، وفحص دورالمنهاج في إعادة البناء المجتمعي، لذا فإن منهم من هو معني بالمساواة الجندرية وبتفعيل آراء الحركة النسوية من أمثال بينر ورفاقه، ومنهم من نظر إلى المنهاج على أنه "نص" قابل للتأويل مثل هارغريفز ودول. وهناك من المنظرين الجدد من رأي أهمية أن يخضع المنهاج للنقد الإجتماعي، مثل أبل، كما أن منهم من دعا إلى فهم المنهاج من منظور تاريخي ينير واقعه ويرسم معالمه المستقبلية، كما فعل كليبرد... وقد شكلت المنظورات التي يتبناها هؤلاء وغيرهم (من أمثال غيروكس الذي نظر إلى المنهاج بعده فعلا ثقافيا، وغرين التي أعلت من شأن الخيال في المنهاج، وجودسون الذي ذهب إلى فحص المنهاج من منظور اجتماعي تاريخي) معالم ثورة فكرية جديدة في المناهج تناغمت إلى حد غير بعيد مع افتراضات ما بعد الحداثة.
ما بعد الحداثة: الرؤيا البديلة
يجمل - قبل الوقوف على آراء منظري ما بعد الحداثة حول ما ينبغي أن يكون عليه المنهاج – القول إن ما بعد الحداثة في تضميناتها التربوية تأخذ إلى حد غير قليل بمعالم النظرية البنائية التي ترى أن المعرفة تبنى بناء في
الصفحة 24
عقول الطلاب، وأن الطالب متعلم نشط يحرص على جعل تعلمه ذا معنى.
لعل المحاولة التي أدلى بها وليام دول حول طبيعة المنهاج المستند إلى افتراضات ما بعد الحداثة، تعد مثالا جيدا يمكن أن يوضح الفوارق الكبيرة بين نماذج الحداثة (السابقة) و (نموذج) ما بعد الحداثة، رغم اعتراض منظري ما بعد الحداثة على كلمة نموذج، إذ تشي بشيء من التخطيط المسبق وهو ا لأمر الذي يرفضونه جملة وتفصيلا.
استبدل دول بأسئلة تايلر الأربعة كلمات أربعا، شكلت تصوره الذي أطلق عليه وهذه الكلمات هي الثراء، والعود، والعلاقات، والدقة المتبصرة.
ويقصد بالثراء أن يمكّن المنهاج الطلاب من تملك تفسيرات عديدة لظاهرة أو موضوع ما، وأن يثير فيهم فضولا علميا يجعلهم يتحررون من كل ماهو حتميّ، ذلك أن المعرفة تقدم للطلاب على شكل نصوص، والنص - مهما كان موضوعه – مفعم بالمعاني، والاقتصار على فهم معنى وحيد لن يقود الطلاب إلى الإحاطة بمايحمله النص. وعلى هذا، فإن المنهاج يعد ثريا متى ماحفز المعلمين والطلاب ليتفاوضوا معا حول موضوع ما، بحيث يظل الطلاب (والمعلمون كذلك) في حالة من اللااتزان المعرفي، حالة يشعرون من خلالها أنهم بحاجة إلى المزيد من تفسير المعرفة التي يتفاوضون حولها.
فعلى سبيل المثال، تعد مناهج اللغة ثرية إذ ركزت كثيرا على تفسير ضروب الأدب وعلى تحميلها المعاني التي تجعلها تحفز أذهان الطلاب نحو التفكير في حقيقة اللغة والأدب، لتصبح اللغة في النهاية محددا من محددات ثقافة الطالب. وكذا يعد منهاج الرياضيات ثريا إذا رفد الطلاب بفرص "للعب" مع الأنماط حسب ما يرى دول، ويقصد بهذا أن تغدو الرياضيات مبحثا معرفيا
الصفحة 25
ممتعا، فالمربعات مثلا تنقسم إلى مثلثات قائمة، وفهم خصائص المستطيلات يقود إلى مفهوم متوازي المستطيلات، والدوائر أنماط يمكن أن يلعب معها الطلاب، فدائرتان تتقاطعان في نقطتين، وثلاث دوائر تتقاطع في نقطة واحدة ... وهكذا يمكن أن تعرض الموضوعات الرياضية على شكل أنماط ممتعة تشحذ السعات الخيالية عند الطلاب. وفي العلوم يعد المنهاج ثريا عندما يحفز الطلاب على صياغة الفرضيات المعنية بالظواهر التي يشهدونها في حياتهم، ويعني هذا رفد الطلاب بالقدرة على جمع المعلومات ومعالجتها مستندين إلى خيالهم، إذ لا إبداع من غير توظيف حقيقية للخيال.
أما العَوْد، فيعني أن يوفر المنهاج الفرص أمام الطلاب ليحظوا بتفسير ظاهرة أو صياغة فرضية أو معالجة معلومات مرات متوالية، وليس معنى هذا التكرار، فالتكرار أن يحدث الشيء مرات عديدة ولكن من غير أن يطال جوهره أو بنيته شيء من التغيير، أما العود فأن يحدث الشيء مرات عديدة ليتسع ويمتد، وهكذا فإن الطالب عندما يعيد معالجة معلومات معينة مرات ومرات، فإنه في كل مرة يتأمل في ما لديه، ويحاول أن يضيف إليه ويمتد به، ولعلّ دول أفاد في رؤيته هذه من فكرة المنهاج الحلزوني الذي تنظم خبراته تنظيما رأسيا يقوم على تراكم الخبرات واتساعها مع مرور الزمن، وهذه الفكرة ما هي إلا معيارالتتابع الذي أخذ به تايلر في معرض حديثه عن تنظيم خبرات المنهاج، ولكنها هنا تقوم على التأمل المستمر والحوار مع الآخرين.
أما العلاقات فهي - حسب دول- نوعان: علاقات تربوية وعلاقات ثقافية، والأولى تعني أن يرتبط المعلمون والطلاب أكثر فأكثر بالمنهاج، من خلال تأملهم في ما يقومون به من أنشطة مع مرور الزمن، فالمساق الدراسي بداية الفصل الدراسي يختلف عنه نهاية
الصفحة 26
الفصل، وهذا يلزمه حسن تنسيق للوقت الأكاديمي، فعلى سبيل المثال يمكن للمعلم أن يخصص ثلث الوقت الأكاديمي للمزيد من القراءات يختارها الطلاب في ضوء فهمهم للمساق الذي يدرسونه، ويقوم الطلاب - من ثم – بعمل ارتباطات بين فهمهم وبين ما خلصوا إليه من قراءاتهم.
وهكذا، فإن الأعمال التي أنجزها الطلاب بداية الفصل ستتحسن نتيجة ما اكتسبوه من قراءاتهم الإضافية، ومن هنا، سينظر الطلاب إلى الكتاب المدرسي بعدّه قابلا للتعديل والتنقيح، وليس بعدّه سلطة معرفية مسلّما بها، وغير خافٍ ما للعلاقات التربوية من أثر في تعميق "العَوْد" في المنهاج.
أما العلاقات الثقافية فتعني أن يستخدم الطالب المنهاج أداة في فهم المصفوفة الكبرى التي ينتميان إليها، أي فهم الثقافة المحلية بعّدها مكونا من مكونات الوعي، وليس هذا حسب، بل فهم إرتباطات هذه الثقافة بغيرها من الثقافات، ومرة أخرى يؤكد دول أهمية الحوار في هذا الشأن، فمن خلال الحوار يمكن ربط الطالب بلغته وتاريخه، ويمكن ربطه أيضا بشبكة ثقافية عالمية، لذا فإنه حوار لا يستهدف فردانية الإنسان - كما هو الأمر في الحداثة – بل يستهدف جعل الإنسان جزءا من سياق محلي وعالمي يعيش فيه، إنه حوار سياقي.
غير أن هذا كله يلزمه - حسب رؤية دول – دقة متبصرة توازن بين أهمية تفسيرات الطلاب وأهمية الإيمان "بلا حتمية ما يتوصلون إليه، بمعنى أن ما يقدمه المنهاج من فرص للطلاب حتى ينظروا إلى ما يتعلمونه من زوايا متعددة ويفسرونه تفسيرات دالة منبثقة من فهمهم وتأملهم، ينبغي ألا يقودهم إلى عدّ ما تتمخض عنه تفسيراتهم استنتاجات أو أحكاما حتمية غير قابلة للحوار أو التأمل ثانية، فهذا مما يتنافى وثراء المنهاج، وهكذا فإن الدقة في منهاج ما
الصفحة 27
بعد الحداثة تختلف اختلافا جذريا عن مفهومها في مناهج الحداثة، ففي حين تعني الدقة من منظور ما بعد الحداثة رفض الحتمية أو قياس مدى تعلم الطلاب بناء على معايير مسبقة التحديد، فإنها كانت - من منظور الحداثة – تعني أن ثَمّة ما هو حتمي يجدر بالطلاب التوصل إليه، لذا فإنها تستند كثيرا إلى القياس الكمي والملاحظة.
وبتدبر تضمينات ما بعد الحداثة حول المنهاج، يتضح أنها تسعى نحو منهاج يكون أداة لبناء شخصية الطالب وتمكينه، كما يتضح أن نماذج الإنتاج التقني في تخطيط المنهاج تتطلب وقفة تأمل ومراجعة... فالتحديد المسبق للأهداف، وتقييد الطلاب بخبرات تعلمية معينة دون غيرها، وفرض الكتاب المدرسي كسلطة معرفية وحيدة يرجعون إليها، وحفزهم على التفكير بطريقة توحي لهم بحتمية الأمور... هذا كله قد لا يتماشى وروح العصر-الذي يعيشونه، وقد لا يسعفهم كثيرا في أن يغدوا أفرادا فاعلين فيه.
ورغم هذا كله، فإن إمكانية أن تنتقل تلك الرؤى إلى طور التنفيذ والتطبيق، لا يزال موضع بحث ومدارسة، ولعل من بين منظري ما بعد الحداثة من يعترف صراحة بهذا، إذ يقر ليبووتش بأن تضمينات ما بعد الحداثة المتعلقة بالمنهاج، تواجه أعباء عديدة تتمثل بالممارسة والتنفيذ، ولكنه يرى -في الوقت نفسه - أن هذه الأعباء قد تتلاشى كلما فُهمت تلك التضمينات أكثر وأكثر، وكلما أُعطيت أفكار ما بعد الحداثة في الشأن التربوي الاعتبار الذي تستحقه.
الصفحة 28
من سماء النظرية إلى أرض البيداغوجية
د. إياد حسين أبو رحمة
استاذ المناهج والتدريس المساعد
جامعة الزرقاء الخاصة
ما زالت المكتبة العربية تفتقر حتى اليوم إلى دراسات عربية تضع تصوراً واضحاً ومحدداً لنظرية عربية في الأدب، تبنى على أساس متين من مظانها العربية الأصيلة (المصادر القديمة والحديثة) بحيث تضع إطاراً واضحاً منهجياً ينظم الممارسة الأدبية، وفق رؤية مستوحاة من المفهوم العربي للأدب، تكسب الأدب قواماً متجذراً في المجتمع والتاريخ، ووعياً بالذات، ومحفلاً للتطوي والتجديد.
فالأدب نتيجة ارتباط أداته (اللغة) بالفكر، يعد واحداً من أهم المؤسسات التي تشكل المجتمع، ودراسة الأدب إنما هي دراسة لمختلف المؤسسات الاجتماعية التي تتفاعل فيما بينها لإنتاج الأدب، وهيكلة صرحه، ولهيكلة صرح الأدب يفترض بدء حصر الفاعلين فيه، وتوزيع أدوارهم، وتحديد مهامهم، وأهم أولئك الفاعلين، المؤسسة التربوية التعليمية، كمؤسسة علمية كبرى، والمناهج المدرسية للغة العربية كمحفل للتنظيم والتجديد والتقييم للأدب، ووضع تقاليد أدبية محددة يعود إليهم المتعلم في فهم الأدب وتقويمه، والتي تشكل في مجملها نظرية في الأدب مبنية على تصور منهجي ومفاهيمي محدد للأدب، تؤمن بإبداع المتعلم ومساهمته في تشكيل رؤية واضحة عن الأدب وشروطه، والتي هي الفكرة العميقة لنظرية الأدب التي تعنى في التفكير في شروط الأدب ومعايير تقييم النصوص الأدبية وقيمتها وفق معايير محددة، يتم التأسيس لها بواسطة مؤسسات مختلفة يعدّ المنهاج المدرسي للغة
الصفحة 29
العربية أحدها، بل من أهمها؛ كونه يؤسس لتلك القيم الأدبية تأسيساً نظرياً وتطبيقياً من خلال النصوص الأدبية الواردة فيه.
ولكي لا نذهب إلى أبعد من ذلك في حديثنا، فمحتوى نظرية الأدب يوجب توضيح مصطلحين هما نظرية وأدب، فأول ظهور حديث لمصطلح نظرية كان في مجال العلوم التطبيقية، وأن استخدامها في مجال العلوم الإنسانية حديث النشأة، يعود إلى نهاية القرن الماضي عندما ظهر في أوروبا نزوع إلى تطبيق المناهج العلمية في مجال الدراسات الأدبية وبخاصة الأدب، وعلى أية حال، فإن استخدامها في مجال الدراسات الأدبية والفنية المعاصرة عند العرب لا يرجع إلى عهد بعيد، وقد أثار هذا المصطلح إحساسا بالدهشة، يبهرهم ويدفعهم إلى ترديده في مجالهم وكتاباتهم حتى أصبحت الكلمة لديهم مرافقة للثقافة الواسعة والمعرفة المتميزة، فاستخدام مصطلح نظرية في الدراسات الفنية والأدبية مرادف للمعاني التالية " منهجية"، و"أسس فكرية" و"تحليل المفاهيم"، و"تفسير الظواهر"، و"استنتاجات عامة قائمة على البحث الميداني" (الصديق،1993،36 )، ويمكن أن نستنتج من هذه المعاني السابقة جميعها مفهومين رئيسين، يمكن اعتمادهما في الدراسة : الأول فكري بحت، ونعني به مجموعة الأفكار والمفاهيم المجردة التي تتناسق فيما بينها، لتعطي تفسيرات متماسكة، وتساعد على إيجاد صيغة لغوية، تثبت وتوضح ظاهرة من الظواهر الأدبية، وتعتمد على الفحص الدقيق والشامل لتلك الظاهرة، ولا يمكن تحقيق هذا المفهوم إلا بالاعتماد على المفهوم الثاني الذي يقوم على أساس عملي، ويتضمن مجموعة المجالات والمناهج التي يجب على الباحث الاستفادة منها، كما يعني أيضا مجمل الدراسات الفكرية التي تهتم بالمفاهيم الفنية والأدبية وأشكالها وأساليبها في مجتمع من المجتمعات، وضمن ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية محددة.
الصفحة 30
فالمفهوم الثاني هو الأساس الذي يقف وراء تحقق المفهوم الأول، إذ لا يمكن للنظري أن يسبق العملي، ويمكن توضيح ذلك بمثال: فابن خلدون (د.ت، 522) عندما قدم في مقدمته تعريفا للأدب، "الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف " وهو بذلك قد صاغ ما يمكن أن نسميه مفهوما نظريا للأدب العربي- الإسلامي، إلا أن ابن خلدون لم يستطع صياغة هذا المفهوم إلا بعد الإطلاع على مجمل النتاج الأدبي الذي أبدعته الحضارة العربية الإسلامية حتى عصره، كما انه اطلع على ما قاله سابقوه من أفكار ومفاهيم مجردة، تحاول استنتاج قوانين خاصة بتفسير الظاهر الأدبية، إن تعريف ابن خلدون للأدب يوضع تحت المفهوم الأول للكلمة "نظرية"، على حين أن الطرائق والوسائل التي استخدمها، وساعدته على صياغة هذا التعريف، توضح تحت المفهوم الثاني للكلمة.
أما الأدب، فهناك من يقول بأن الأدب مرآة، ويتردد مصطلح المرآة من أفلاطون وحتى أيامنا هذه، وربما تتناقض آراء القائلين بهذا المصطلح، فهل هو مرآة للأشياء أم لعقل الأديب أم لنفسه أم مرآة للبيئة، أم للمجتمع؟ وقريبا من مصطلح المرآة يردد آخرون بأن الأدب صورة، ونجد أنفسنا مرة أخرى أمام خلافات بّينة، فهل هو صورة لفعل الشخصية، أم صورة لحياة الأديب أم لانفعالاته، أم صورة من صور
الهوامش:
(&) إن تشبيه الأدب بالمرآة وربط الأعمال الأدبية بالعالم الخارجي كان من ابتداع النظرية الكلاسيكية، إذ تجعل من الأدب عاكسا للحقائق أو الوقائع الاجتماعية التي تقع خارج ذات الأديب، فالأديب ناقل لما حوله من مظاهر الحياة المختلفة دون تدخل لذاته وعقله في ذلك، وهذا التشبيه أيضا موجود في النظرية الرومانسية حيث ربطت بين الأدب والعالم الداخلي للمبدع، فجعلت من العمل الأدبي تعبيرا عن مشاعر المبدع وانفعالاته ومن ثم فالعمل الأدبي وفقا لهذه النظرية يعد مرآة تعكس ما في داخل الأديب بعد ما كانت تعكس ما في الخارج.أما نظرية الانعكاس (الواقعية) فتنطوي على تشبيه العمل الأدبي بالمرآة، فالعمل الأدبي يعكس واقع الحياة العملية ولكن من منظورات متعددة (وسنأتي على بيان ذلك في الفصل الثاني) (البدوي، 2004)
الصفحة 31
التعبير عن الخيال، أم صورة للعلاقات الاجتماعية؟
وبعيداً عن هؤلاء وأولئك، فهناك من يحاول تحديد ماهية الأدب من خلال ربطه بغيره من الظواهر، فيصبح جزءًا من الفن بشكل عام، أو جزءًا من المعارف والعلوم الإنسانية، أو جزءًا من الأيدلوجيا، أو جزءاً من النظام الاجتماعي، أي يعدّه ظاهرة اجتماعية وربما ظاهرة حضارية (الماضي، 2005).
وخلافا لكل ما تقدم هناك من يعرف الأدب من خلال الأداة، فالأدب فنَ لغوي، أو لغة الخيال، أو كيان لغوي (جسد لغوي)، أو نسيج لغوي (السعافين، 1993)، أو مجموعة من الجمل، وهناك من يرى أن الأدب شكل جمالي خالص، أو عمل فني بحت، أو نظام من الرموز والدلالات التي تولد في النص وتعيش فيه ولا صلة لها بخارج النص، وعلى عكس هؤلاء يرى آخرون أن الأدب تعبير بالكلمة عن موقف الأديب من العالم، أو أنه أداة تعبير طبقية، أو أنه صياغة لغوية لتجربة إنسانية عميقة، أو أنه استخدام خاص للغة لتحقيق هدف ما. (الطائي، 1998)، أو تعبير مبدع عن الذات بلغة مؤثرة ومناسبة، أو هو إعادة صياغة للحياة أو تأثيراتها على النفس بأسلوب شائق (أمين،1983).
كل هذه التعريفات السابقة تعكس أزمة التعريف ومدى الخلافات والصعوبات الناتجة عن محاولة تحديدنا لمفهوم الأدب، وقد يأخذ الدارس الأدبي بتعريف من تلك التعريفات المتعددة، ولكنه في محاولته البرهنة على صحة تعريفه الذي اتخذه يجد صعوبات أخرى، من أهمها المنهج الذي سيتبعه لتأكيد صحة ما ذهب إليه، فهناك من يحاول تأكيد وجهة نظرة وصحتها من خلال تحديد منشأ العمل الأدبي، أي نشأته ومصدره، وهناك من يتخذ وجهة نظر أخرى، إذ يركز على وظيفة العمل الأدبي بعدّ الوظيفة تحدد الماهية، وهنا وهناك نجد الآراء المتعددة المتباينة إلى حد التناقض.
الصفحة 32
ولعل كل تلك الآراء المتعددة والمتباينة التي تعترض طريق الباحث الأدبي تتمحور حول قضايا ثلاث هي: نشأة الأدب، وطبيعة الأدب، ووظيفة الأدب.
ولا شك أن البحث عن تلك القضايا، يتطلب الاستناد إلى نظرية في المعرفة، أو فلسفة محددة متكاملة؛ حتى يوفر الباحث لأفكاره و آرائه درجة من القوة والاتساق والعمق أيضا، بعدّ الأدب أفضل مصدر للمعرفة غير المباشرة (وهي التي يكتسبها الإنسان من طرائق متعددة كالقراءة بحيث تمكن الفرد من الاطلاع على تجارب الآخرين، الذين يعيشون معه في الزمان والمكان أو ممن لا يشاركونه زمانه ومكانه) فهو لا يكتفي بنقل التجارب كما تفعل كتب التاريخ مثلا، وإنما يستخدم في نقلها وسيلة فنية تجعلها أكثر عمقا،ً وأبعد تأثيراً في المتلقي ؛ ولذلك يمكن عدّ الأدب مؤسسة معرفية يمكن للفكر الإنساني من خلالها تخزين تجارب الأمة في ذاكرتها اللغوية التي تتوارثها الأجيال، وهذه الحقيقة تعني ارتباط الأدب بنظرية المعرفة؛ (هي نظرية حول جوهر عملية المعرفة وقانونيتها وأشكالها (المعجم الفلسفي المختصر، 1986 )، فهي بحث في إنتاج الفكر وليس في الفكر نفسه (الصديق، 1993 ))، فكل المؤسسات المعرفية ترتبط ارتباطا وثيقاً بمفهوم المعرفة ونوعيتها ووسائلها وطبيعة مصادرها وأهدافها، فالأمم تحاول الحفاظ على شخصيتها بالتنسيق بين فروع ثقافتها، فلا تقيم صدعاً بين ما يقوله الأديب، وما يقوله الفيلسوف وعالم النفس أو التربية.
وبذلك فنظرية الأدب هي مجموعة الآراء والأفكار القوية والمتسقة والعميقة، والمستندة إلى نظرية في المعرفة أو فلسفة محددة، والتي تهتم بالبحث عن نشأة الأدب وطبيعته ووظيفته، وهي تدرس الظاهرة العامة من هذه الزوايا في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم عامة تبين حقيقة الأدب وآثاره.
الصفحة 33
ومن الجدير بالذكر أن هناك تداخلاً وتشابكاً وصلات قوية بين النقد الأدبي والنظرية الأدبية وتاريخ الأدب، فعلى الرغم من حقيقة تعاملهم مع النصوص الأدبية إلا أن لكل منهم طريقة خاصة في التعامل مع الأعمال الأدبية، يحددها الهدف المتميز لكل منهم، فالمؤرخ الأدبي يتعامل مع العمل الأدبي ليبين الظروف والملابسات التي أحاطت به وبصاحبه، والناقد يتعامل مع النص ليبين مواطن الجودة والرداءة وأسبابهما أو ليبين لنا مدى انفعاله به، أو ليصدر لنا حكما أو تقويما له، أما المُنَظِّر الأدبي فإنه يهتم بجملة من النصوص، لا لكي يصدر أحكاما أو يصور انفعاله إزاء هذه الأعمال، وإنما لكي يستنبط مبادئ عامة شاملة تبين حقيقة الأدب وأثره كظاهرة عامة أيضا (الماضي،2005).
وقد أشار الصديق (1993) إلى أن النتائج التي توصل إليها التاريخ الأدبي والنقد تشكل البحث التطبيقي، وهي الأساس الذي تقوم عليه الدراسات النظرية التي تقود إلى نظرية الأدب، والمتخصص في نظرية الأدب ينظر في تلك النتائج، وقد يكون عليه القيام بدراسات في التاريخ والنقد؛ ليتمكن من تصحيح ما قد يقع فيه المؤرخ والناقد من أخطاء، ومن ثم يستطيع أن يتوصل إلى تكوين مفاهيم عامة حول طبيعة الأدب، ووظيفته الاجتماعية، وتطور ذلك من عصر إلى عصر، وولادة الأنواع الأدبية، أو ذوبانها في أنواع جديدة، وارتباط كل ذلك من جهتي المرسل والمستقبل.
كما أشار ويلك ( 1981) إلى أن هذه التمييزات بين المجالات الثلاثة لا تنفصل فيما بينها فصلا عمليا كاملا، فالعملية ديالكتيكية (جدلية)، فهناك إسهام متبادل بين النظرية والممارسة.
وعلى الرغم من هذا التمايز، فلا بد من تأكيد حقيقة هامة، وهي أن عرض النظريات الأدبية، يعين في فهم الأعمال الأدبية وتحليلها، فبالرغم من أن
الصفحة 34
النظريات الأدبية كلها قد أنتجها فلاسفة الغرب ومفكروه، إلا أنها تزودنا بأحكام تنطبق على الفن عامة ولمحات من الحقيقة، التي لا تتغير بتغير الآداب أو اللغات فيها، فيمكن فهم النصوص فهماَ صحيحاَ متكاملاَ شاملا بتبين حقيقة الأدب وأثره كظاهرة عامة.
أما العلاقة بين الأدب والتربية فعلاقة وثيقة جداً، لأن التربية هي إعداد المواطن للحياة إعداداً صحيحاً؛ بغية تمكينه ليكون إنسانا قادراً فكرياً ونفسياً وجسدياً على خدمة نفسه والحياة، والأدب أيضا يلقي الضوء على منابع الفضيلة والرذيلة في أنفسنا، كما أن الأهداف التي يسعى إليها الأدباء والمربون واحدة، تتمثل في السمو بعواطف الناس وتنوير عقولهم، وتبصيرهم بواقعهم، والعمل على النهوض بمجتمعاتهم بعد تطوير شخصياتهم (السيد، 1991).
فالقيمة التربوية المرجوة من وراء تدريس النصوص الأدبية، تكمن في أن هذه النصوص الأدبية لها المكانة الأولى في إعداد النفس وتكوين الشخصية، وتوجيه السلوك الإنساني بوجه عام، وهي بذلك غاية ووسيلة لإعداد المتعلم المناسب في المرحلة الأساسية العليا؛ لأنها ترمي إلى تهذيب الوجدان، وتصفية الشعور، وصقل الذوق، وإرهاف الإحساس، فالمتعلمون في هذه المرحلة في حاجة حقيقيةة إلى تنمية هذا الجانب الفكري والوجداني بتلك الدراسة الأدبية التي تلتمس آثارها في العاطفة والروح، وتلقى من المتعلمين استجابة سريعة لها، ومشاركة ناشطة فيها، وتفاعلاً قوياً معها (إبراهيم، 1991).
وإذا سلمنا بذلك، فإن النصوص الأدبية التي تدرس في مناهج اللغة العربية ينبغي أن تُختار في ضوء الأهداف المرسومة للأدب، ولما كانت هذه الأهداف التي نتوخاها في تدريس الأدب تتمثل في تبصير النَّشْءِ بواقعهم ومجتمعهم وبيئتهم، وبتراث أمتهم، وما أبدعته قرائح ا لأدباء، بما يصقل شخصية الطالب، ويمده من
الصفحة 35
كل نافع، ويرفع من شأنه، ويعلي من موهبته في فحص كل الأنواع الأدبية، بشتى عصورها الأدبية، فإن تخير النصوص الأدبية ينبغي أن يحقق هذه الأهداف، وعليه فإن المعنيين بتدريس الأدب وضعوا عدة معايير قد تساعد في اختيار النص الأدبي المناسب للمرحلة المناسب، ومن من أهمها:
- أن يكون النص الأدبي ممثلا لعصره، كاشفاً عن أهم أحداثه السياسية والاجتماعية، تتمثل فيه معالم البيئة الطبيعية والاجتماعية، وأشهر الفنون الأدبية، والخصائص الفنية لأدب العصر.
- أن تتنوع أشكال الأداء الأدبي في المناهج، بحيث تتناول النصوص الشعرية والنثرية المختلفة كالمقالة والقصة القصيرة والسيرة الذاتية، وأجزاء مختارة من المسرحية.
- أن تتصل النصوص الأدبية بالمناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية؛ لأن هذه المناسبات تهيئ مواقف طبيعية لدراستها، فيقبل عليها المتعلم، وهو يدرك وظيفتها وقيمتها في حياته.
- أن يكون النص من الطول بحيث يكون كافياً لتحصيل المتعة للقارئ، وكافياً أيضاً لتصوير ما سيق من أجله من مظاهر اجتماعية، أو سياسية أو نحوها، وكافياً كذلك لتوضيح بعض الخصائص الفنية، وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن تعرض أبياتا مقتضبة لمجرد الوصول إلى حكم أدبي وصولاً سريعاً وعاجلاً.
- أن تكون النصوص سهلة في أسلوبها، واضحة في معناها، جميلة في تصويرها، كما ينبغي أن يكون النص فيه جديد في مبناه ومعناه، مما يسهل على الطلاب إدراكه. وأن يكون النص المختار مناسباً لمرحلة النمو المستهدفة بهذا النص، فيكون النص مراعياً لخصائص نمو تلك المرحلة ورغباتها وميولها، فيكون
الصفحة 36
قريباً إلى نفوس الطلبة، مما يسهل عملية تعلمه وتذوقه وتحليله.
- أن يكون النص بعيداً عن التعقيد في المعنى، والوعورة في التركيب، والغرابة في اللفظ؛ لكي لا تتحول قطعة النصوص إلى شرح ألفاظ؛ مما يبعد الطلاب عن الهدف الأصيل من الأدب.
- كما ينبغي لبعض النصوص أن تنمي شعور الانتماء إلى الوطن والدين، وأن تثير فيهم الجرأة والشجاعة وحب الوطن، وكراهية الظلم وعدم الانتماء، وأن تحفزهم على بناء وطنهم والدفاع عنه.
- كما يجب أن تكون النصوص الأدبية موثقة، وتشتمل على تراجم مناسبة للكتاب والأدباء أصحاب النصوص المختارة، وبناء عليه يتوقع واضعو المنهاج أن يكون الطالب في نهاية هذه المرحلة قادراً على قراءة النصوص وتفهمها وتذوقها (وزارة التربية والتعليم، 1991) (القلداري، 1996).
إضافة لذلك؛ وتأكيداً لأهمية النصوص الأدبية - التي تعد وعاء التراث الأدبي الجيد قديمه وحديثه، ومادته التي يمكن من خلالها تنمية مهارات الطلبة اللغوية: فكرية وتعبيرية وتذوقية (شحاتة، 1993) - فمن الجدير أن نتساءل عن نظرية الأدب التي تتضمنها تلك النصوص، وانعكاساتها التعلمية التعليمية التي تسعى إلى تكوين الطلبة تكويناً أدبياً شاملاً ومتكاملا،ً يجمع في انسجام تام بين القديم والحديث، وبين النظري والتطبيقي، وهو ما يتلاءم تماما والمهام الأدبية المنوطة بالنصوص الأدبية، ويتفق والأهداف التربوية المرجوة.
فالبحوث الأدبية الحديثة التي تستوحي مناهجها من أدبيات تحليل النصوص المعاصرة ونقدها، هي النموذج المؤهل لاحتلال المركز الأول في المستقبل، هذا إذا ما سايرت مناهجنا التعليمية مختلف التطورات العصرية التي يعرفها تدريس الأدب في العالم. فالتعليم في جوهره لم يكن يوما عبارة عن اكتساب المعارف وتحصيل
الصفحة 38
المعلومات فقط، وهو أشد بعد اً عن ذلك اليوم. إن تعليمنا نشاط منظم يستهدف تنمية شخصية الفرد، ويسهل تفتح طاقاته الفكرية والوجدانية والعملية. كما يرمي إلى تكوين شخصيته تكوينا يمكنه من التكيف والتفاعل مع المجتمع، ومن العمل على تطويره. ولكي يندرج تدريس الأدب ضمن هذه الآفاق، ويستجيبَ لهذه الغايات النفسية والاجتماعية التي ترمي إليها التربية المعاصرة، فلا بد أن يتعامل المتعلم مع النص الأدبي قراءة وإنتاجا (بناني، 2001).
ولتحقيق ذلك فلا بد من إعادة تشكيل النموذج التربوي؛ لإحداث تحول نوعي في البرامج والممارسات التربوية، يؤدي إلى خلق مخرجات تنسجم وهذه المتطلبات الجديدة. غير أن هذا لا يمكن له أن يتم إلا بإحداث تطوير نوعي في برامج التعلم ووسائطه المتنوعة، ومن هنا جاء هذا الفصل ليلفت الانتباه إلى معطيات جديدة ومفهومات ومبادئ مهمة في تحقيق أهداف منهاج اللغة العربية وفق منظور نظرية الأدب، تعطى فيه الحداثة الأولويةَ؛ لمعرفة النتاج الأدبي الجديد والقديم، وفي ذلك توسيع للمنهاج والبحث عن صيغ ومناهج علمية تتماشى والتغيرات الطارئة، سواء على مستوى الأدب وما لحق الدراسات الأدبية من تطورات ضخمة وكبيرة، أم على مستوى المناهج الدراسية لتتماشى مع خططها التطويرية.
وبعد، فإن معرفة نظرية الأدب في مناهجنا، تزود المناهج بالأطر التي تعين المتعلم على فهم النصوص الأدبية وتحليلها، والتوجهات البيداغوجية العامة للنص الأدبي، ومراميه المعرفية الكبرى، خصوصا ما يتعلق منها بتنمية قدراته الإبداعية المرتبطة أساسا بحجم مشاركته الفعلية والدائمة في فهم النصوص الأدبية ومقاربتها وتحليلها، وملامسة مميزاتها الفنية والفكرية، وذلك وفق رؤية واضحة للأدب في النصوص الأدبية لمناهج اللغة العربية تؤسس لتقاليد أدبية محددة يعود إليها المتعلم في فهم الأدب وتقويمه
الصفحة 39
نظرية الأدب: دراسة تحليلية
نظرية الأدب: دراسة تحليلية
يعد الأدب أفضل مصدر للمعرفة غير المباشرة وهي التي يكتسبها الإنسان من طرائق متعددة كالقراءة بحيث تمكن الفرد من الاطلاع على تجارب الآخرين، الذين يعيشون معه في الزمان والمكان أو ممن لا يشاركونه زمانه ومكانه، فهو لا يكتفي بنقل التجارب كما تفعل كتب التاريخ مثلا، وإنما يستخدم في نقلها وسيلة فنية تجعلها أكثر عمقا،ً وأبعد تأثيراً في المتلقي ؛ ولذلك يمكن عد الأدب مؤسسة معرفية يمكن للفكر الإنساني من خلالها تخزين تجارب الأمة في ذاكرتها اللغوية التي تتوارثها الأجيال، وهذه الحقيقة تعني ارتباط الأدب بنظرية المعرفة؛ التي هي نظرية حول جوهرعملية المعرفة وقانونيتها وأشكالها (المعجم الفلسفي المختصر، 1986 )، فهي بحث في إنتاج الفكر وليس في الفكر نفسه (الصديق، 1993 ) فكل المؤسسات المعرفية ترتبط ارتباطا وثيقاً بمفهوم المعرفة ونوعيتها ووسائلها وطبيعة مصادرها وأهدافها، فالأمم تحاول الحفاظ على شخصيتها بالتنسيق بين فروع ثقافتها، فلا تقيم صدعاً بين ما يقوله الأديب، وما يقوله الفيلسوف وعالم النفس أو التربية.
ومع أن النظريات الأدبية كلها قد أنتجها فلاسفة الغرب ومفكروه، إلا أنها تزودنا بأحكام تنطبق على الفن عامة ولمحات من الحقيقة، التي لا تتغير بتغير الآداب أو اللغات فيها، فيمكننا فهم النصوص فهماَ صحيحاَ متكاملاَ شاملا بتبين حقيقة الأدب وأثره كظاهرة عامة قطع البحث الأدبي طريقاً طويلاً وشاقاً للتوصل إلى معرفة أفضل بطبيعة الأدب ووظيفته (&)، واستنباط المعايير النظرية الملائمة لتقويمه، فقد تمركزت الدراسات والمناهج الأدبية في الغرب على التأريخ والنقد، إلا أن هذه
الهوامش:
(&) بدأً من أفلاطون وأرسطو مروراً بووردزورث وكوليردج، وبرادلي، وكروتشيه، وإليوت وبليخانوف، ولوكاش، وسيموند، وسبنسر وبرونتيير وفرويد ويونغ وأتباعهما، وفيكو، ومدام دي ستال، وهيبوليت تين، وتولستوي واسكارابيه، وانتهاء ببارت تودوروف، وسوسير جولدمان، إضافة إلى جهود نقادنا القدامى أمثال: الجاحظ والمعري، وابن سينا والفارابي، وقدامة بن جعفر، وابن طباطبا وحازم القرطاجني وغيرهم.
الصفحة 40
المناهج التقليدية أصبحت منذ العشرينات والثلاثينات غير كافية بشكل واضح، وبدأت الدراسات الأدبية تتحرر من التاريخية البحتة من غير أن تجد لها اتجاهاً واضحاً، ووسط هذا الاضطراب جاءت دراسة وويلك ووارين (1881) لتضع تصورا أولياً لهذا الاتجاه النظري، فقد جاءت دراسة وويلك كانت هذه الدراسة نتيجة لدراسات اعتمدت في أساسها على الدراسات النظرية السابقة التي تعود في أصولها إلى مؤلفات أفلاطون وأرسطو، لقد نشرت هذه الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن سرعان ما انتقلت إلى أوروبا الغربية، التي بدأت منذ ذلك الوقت - خصوصا في الستينات تشهد تجديداً ضخماً وتنظيراً جذرياً للظاهرة الأدبية، وتأتي أهمية هذا الدراسة من أنها أصبحت منذ نشرها دليلاً لكل الدراسات التي جاءت بعدها، واهتمت بالموضوع ذاته، فقد كان المؤلفان أول من اتجه في العصر الحديث إلى دراسة أدبية الأدب بعيداً عن التاريخ الأدبي.
والمبدأ العام الذي تتأسس عليه الدراسة، "هو أن كل عمل أدبي يصدر عن العام والخاص في الوقت نفسه، أو ربما من الأفضل القول إنه فردي وعام، ولذلك فإن الجهود التي تبذلها الدراسات الأدبية والتاريخ الأدبي؛ لإبراز فردية عمل أدبي أو كاتب ما أو أدب قطري أو أدب قومي لا يمكن أن تتم إلا باستخدام حدود كلية، وعلى أساس نظرية أدبية" (ويلك، 1981،22). فالحدود الكلية التي تقدمها الدراسة تنتمي إلى الأدب الأوروبي والأمريكي، فالحدود هنا هو كل ما استنبط من هذين ا لأدبين حصرا، إذ إنها على الرغم من قولها أن الأدب واحد، كما أن الأدب والإنسانية كليهما واحد، أغفلت كل ما يتعلق بالآداب الأخرى كالعربي والهندي، فهي تقدم نظرية أدبية واحدة لها عالمها الغربي الخاص، ولا تقدم نظرية أدبية عامة، بل تقرر مبدءا عاما يصدر عن العام والخاص في الوقت نفسه، وهو أن هناك حدودا كلية بين الآداب جميعها، التي هي مجموعة من الجوانب المشتركة بين
الصفحة 41
الآداب جميعها باعتبار مصدرها (الإنسان)، إلا أن ذلك لا ينفي أن لكل أدب خصوصياته التي تنشأ من طبيعة اللغة التي ينتمي إليها هذا الأدب، ومن الأطر الاجتماعية والتاريخية والفكرية التي أحاطت بنشأة هذا الأدب وتطوره التي تنشأ من طبيعة اللغة، فنظرية الأدب في مجتمع من المجتمعات إنما هي نتيجة لتلك الخصوصيات قبل كل شيء.
أما في مجال الدراسات العربية التي قدمت أبحاثاً في موضوعات نظرية الأدب، فهي قليلة، وإن كانت أكثرها منقولة عن اللغات الأخرى، ومنها دراسة تليمة ( 1980)، وقسمت على بابين كل منها وزع على ثلاثة فصول؛ يهتم الباب الأول بالواقع المادي بعدّه مصدراً للتعبير الأدبي، ويرصد المؤلف فيه من خلال مسح التاريخ البشري، تطور الوعي، ومصدر الفن، منذ بدايات نشأته إلى العصر الحديث، ويقسم المؤلف هذا التطور إلى ثلاث مراحل: التجريب والتجريد؛ وهي مرحلة شهدت انتقال الإنسان من الارتباط بالطبيعة إلى الإحساس بالتميز منها، فبعد أن كان كائناً طبيعيا أصبح كائناً إنسانياً، وذلك عن طريق العمل، والمرحلة الثانية هي مرحلة الاغتراب عن الطبيعة، أما الثالثة، فتمثل الاغتراب في المجتمع، ويقدم المؤلف في الباب الثاني فصلاً عن تطور الفنون، وارتباط ذلك بتطور الوعي الاجتماعي، وفصلا ثانياً عن تطور الأدب من خلال عرض الأنواع الأدبية، أما الفصل الأخير فيخصصه للمدارس الأدبية، وهو يعرض في هذا الباب الآراء من خلال وجهتي نظر المعارضين : الفكر المثالي والفكر العلمي.
والمبدأ العام الذي تتبناه الدراسة هو:" أن الثقافة ذات طبيعة اجتماعية لأنها راجعة إلى العمل كعملية اجتماعية، فهو مصدرها ومردّها، فالدرس العلمي لأي شكل من أشكال الثقافة يقوم على ردّ هذا الشكل إلى ذلك المصدر وتفسيره به" (تليمة، 1980،11).
الصفحة 42
وتقوم الدراسة على أسس نظرية مادية تنتمي إلى النظرية الماركسية في تفسير الأدب، والكتاب في حقيقة الأمر غني بمعلوماته، وما يتضمنه من مصطلحات في مجال دراسة الأدب، ويجدر الإشارة إلى أن الدراسة لم تتطرق إلى مجال دراسة النظرية الأدبية عند العرب، فهي تتحدث عن المجتمعات الغربية والآداب والفنون التي أنتجتها تلك المجتمعات، ولا شك أن الدراسة تضمنت بعض الجوانب العامة التي يمكن الاستفادة منها في دراسة الأدب والفن عند العرب.
ومن الدراسات التي عنيت بدراسة نظرية الأدب عندَ العرب دراسة الروبي (1983)، حيث درست الباحثة نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي إلى ابن رشد، وقد خصصت الباحثة الفصل الأول لعرض تصور هؤلاء الفلاسفة للقوى النفسانية التي تعيق المخيلة عن أداء عملها، إلى جانب تصورهم لقوى الإدراك العقلي عند الإنسان، ووقفت في الفصل الثاني عند تعريفهم للشعر من زاوية علاقة الفن الشعري كمحاكاة للواقع، وفي الفصل الثالث بحثت في الطبيعة التخيلية للشعر، أما في الفصلين الآخرين، فقد عالجت تصور الفلاسفة للأداء الشعري، وتحدثت عن الخصائص النوعية التي تميز بها الشعر عن النثر. والدراسة تخرج بفكرة أنَّه إذا كان الفلاسفة والنقاد والأدباء العرب المسلمون لم يستخدموا مصطلح " نظرية الشعر" في مؤلفاتهم، فإن هذا لا يعني أبدا أن جملة تصوراتهم ومفاهيمهم المتناثرة من مؤلفاتهم لا تتضمن ما نضعه اليوم تحت هذا المصطلح، وقد عملت الباحثة على رصد جهود الفلاسفة التي بذلوها في تناولهم للظاهرة الأدبية والقوانين التي تحكمها وتوجهها وتحدد أشكالها ونهاياتها، واكتفت في كل ذلك "بالوصف دون التقويم ".
إضافة إلى ذلك تأتي دراسة الصديق ( 1993)، وهي دراسة تحاول استنتاج نظرية أدبية عربية إسلامية من مضامينها الأساسية، بعيدا عن كل التأثيرات الفكرية
الصفحة 43
الأجنبية التي خضعت لها معظم الدراسات المعاصرة، التي قامت حول التراث العربي الإسلامي وبخاصة الأدب والفن. وقد قام الباحث بإعادة طرح مسألة الظاهرة الأدبية عند العرب، قديما وحديثا، لأنه يعتقد أن مفهوم الأدب القديم يختلف عن المفهوم الذي تتبناه تلك الدراسات في تعاملها مع هذا الأدب: هذا المفهوم لا ينظر إلى الأدب إلاّ على أنه فعالية إبداعية، تهدف إلى التعبير عن الذات، تعبيرا جماليا، على حين أن مفهوم الأدب القديم يتمحور على الثقافة والتعليم.
وهو بذلك يسعى إلى وضع تصور لنظرية الأدب القديم، وهي نظرية عنده تربط الأدب بالمعرفة، وتربط الاثنين بموقف الحضارة العربية الإسلامية من المفاهيم الثلاثة: لله جل جلاله، والكون والإنسان، مستعملا في ذلك جملة من الآليات الفنية ومن ذلك منهج التاريخ الأدبي.
أما بالنسبة للدراسات الحديثة الأخرى التي تناولت نظرية الأدب، فالقارئ لها يستنتج أن كل حديث عن نظرية الأدب عامة، إنما يعني الحديث عن الأسس التي صاغتها التيارات الفكرية الأوروبية للأدب سواء أكانت اتباعية أم إبداعية أم رمزية أم واقعية أم وجودية أم بنيوية.
فنظرية الأدب أفادت من العلوم الإنسانية، ومن الروح العلمية التي صارت الطابع المميز لثقافة هذا العصر دون أن تنفصل عن الأدب بمدارسه وظواهره واتجاهاته، وما أبدعته قرائح الأدباء، ومن ثم احتفظت النظرية الأدبية باستقلالها عن النظرية العامة للثقافة والمصطلحات الخاصة بتاريخ الحضارة؛ ولعل السبب في هذا أن البحث الأدبي له تاريخه الطويل ومنطلقاته الأدبية الخاصة.
ومن خلال الاستعراض التاريخي للمقولات والتعريفات التي تتحدث عن الأدب، التي وصلت إلى درجة عالية من التطور، يمكن القول إن نظرة الناس إلى الأدب "قديما" توحي بأنهم كانوا قانعين بما كان شائعا على أيامهم من أن الأديب
الصفحة 44
يعلم الناس الحكمة، ويحضهم على مكارم الأخلاق، ويروي لهم سير الأولين ويشيد بمآثر الأجداد، ومع تطور المعرفة الإنسانية واستحداث مناهج جديدة للبحث، تطورت علوم الأدب واللغة، وصارالتفكير في وضع "نظرية للأدب" نتيجة طبيعية لتطور هذه العلوم، حيث سارت الدراسات في اتجاهين كلاهما يمثل حد اً أساسياً لنظرية الأدب: أولهما تقويمي يقوم على استنباط القواعد والمعايير التي يقوّم على أساسها جيد الأدب من رديئة، والآخر وصفي يقوم على استنباط الخصائص التي تميز الأدب عن الفلسفة والتاريخ وغيرهما من وسائل المعرفة، وهذا الاتجاه الأخير هو الذي أدى إلى الأسئلة النقدية الكبرى التي عني الباحثون بالإجابة عنها منذ أفلاطون حتى الآن، وكان السؤال الفلسفي بماهية الأدب ووظيفته، والإجابات للأدب.(إسماعيل، 1981).
فالأصول الأولى للنظرية الأدبية تعود إلى مؤلفات أفلاطون وأرسطو، فنظرية المثل التي يعتمدها أفلاطون في تفسير المواقف الإنسانية دفعته إلى رفض الشعر، وطرد الشعراء من جمهوريته، فالشعر في رأيه هو محاكاة للمحاكاة، وقد استمرت تلك العلاقة وبرزت في النظريات الأدبية التي قامت في أوروبا، في عصر النهضة على أسس فلسفية واضحة، فوراء نظرية المحاكاة (الكلاسيكية) (&) مثلاً تكمن الفلسفة العقلية في فلسفة أرسطو، ومن تأثر به من المفكرين ابتداءً من عصر
الهوامش:
(&) كان أول من استخدم لفظ الكلاسيكية الكاتب اللاتيني"أولوس انجيليوس" في القرن الثاني الميلادي في ليالي أثينا، عندما صك تعبير الكاتب الكلاسيكي كاصطلاح مضاد للكاتب الشعبي أي أنه كان يقصد به الكاتب الارستقراطي، الذي يكتب من أجل الصفوة المثقفة،وظل المصطلح غامضا لمدة قرون عديدة تالية، ولقد شاع هذا المصطلح في العصور الوسطى وبداية عصر النهضة الأوروبية بحيث انتقل هذا المفهوم إلى كل لغات أوروبا (راغب،1977)
الصفحة 45
النهضة حتى القرن الثامن عشر، وكانت الثورة الرومانسية (&) ضد الاتباعية في مطلع القرن التاسع عشر تمثل أيضا ردة فعل فلسفية ضد سيطرة العقل الجافة، وعبودية القواعد العامة والتجمد في القوالب، وحمل الرومانسيون مبادئ روسو في تمجيد الفرد والطبيعية والعاطفة، وفي رفض العبودية والقسر الفكري وتقييد العقل البشري. وقد تعددت فيما بعد التيارات والمذاهب الفنية والأدبية وكان أبرزها ال واقعية الاشتراكية، والتي ظهرت واستمرت في الاتحاد السوفيتي سابقاً، في حين شهدت دول أوروبا الغربية تغيرات سريعة ومتلاحقة في المدارس الأدبية (الصديق، 1993).
ففي هذا العصر الذي نعيشه، نلحظ عدم وجود معيار قائم بذاته، فلا أبعاد ثابتة، ولا أحكام فكرية مستمرة، فكل شيء نسبي ومتغير بما في ذلك مقومات الزمان والمكان، فالمهم أن يجد كل صاحب موهبة فنية أو أدبية وسيلة للتعبير عن الإنسان الجديد في علاقته الجديدة بالكون، ومن هنا تعددت الاتجاهات الأدبية، وظهرت مذاهب مثل السريالية والتكعيبية والتجريدية والوجودية والعبثية والبنيوية.
الهوامش:
(&) مصطلح رومانسية مشتق أصلا من كلمة التي تفرعت عن اللغة اللاتينية القديمة، والرومانسية إحدى لهجات سويسرا، ولقد قصد الرومانسيون باختيارهم هذه اللفظة عنوانا لمذهبهم – إلى المعارضة بين تاريخهم وأدبهم وثقافتهم القومية أي الرومانسية وبين تاريخ الأدب والثقافة الإغريقية اللاتينية القديمة التي سيطرت على الكلاسيكية وقيمتها، فكان الرومانسيون يقولون: مالنا و الآداب الإغريقية واللاتينية أصول فنهم وأمامنا تاريخنا القومي وثقافتنا القومية، فالرومانسية كما يرون - ثورة على ما استقر في المجتمع من عقائد سياسية أو دينية أو خلقية بالية، وغايتها تغيير هذه الأوضاع وتأكيد حرية ا لإنسان وحث الشعب على معارضة الاستبداد والظلم ولقد ارتبطت نشأة الرومانسية بفرنسا منذ أوائل القرن التاسع عشر نتيجة لتضافر عدة ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية مهدت لظهورها، وخلقت عند الفرنسيين تلك الحالة النفسية التي تتميز بها الرومانسية. (مندور، 1979).
الصفحة 46
فنظرية الأدب كما أوضح إسماعيل (1981) تنطلق من المقولات البسيطة والتعريفات الأولية للأدب التي توصل إليها أفلاطون وهوراس، إلى بحث العوامل الخارجية التي يمكن أن تؤثر في العمل الأدبي، والعوامل الأخرى التي تتدخل في عملية الإبداع ذاتها، بل إن علاقة ا لأدب بالمعرفة صارت جزءاً من النظرية الحديثة للمعرفة.
ولا شك أن النظرية الأدبية تبقى أفكاراً صاغها أصحابها اعتماداً على التأمل العميق في مسألة الأدب، مرتكزين بذلك على نظرية في المعرفة أو فلسفة محددة. ولكن النقد هو من يتولى دراستها على المستوى التطبيقي، ليعرف مدى صدقها على الظاهرة من حيث هي كل متكامل، لذلك قال ويلك (1981،47): "من المستحيل وضع نظرية للأدب إلا على أساس دراسة أعمال معينة، فالعملية ديالكتيكية، فهناك إسهام بين النظرية والممارسة ".
غير أن العمق والقوة والاتساق والاستناد إلى فلسفة أو نظرية في المعرفة لا يعني بحال أن أية نظرية أدبية خالية من التغيرات أو نقاط الضعف (&)، فكل نشاط ثقافي مرتبط بمراحله الاجتماعية والحضارية، وكل نشاط في نظرية الأدب مرتبط أيضا بالوضع التاريخي والأدبي الذي استند إليه في استنباط آرائه وأفكاره، ولا شك أن مهام نظرية الأدب التي تتمثل في البحث عن نشأة الأدب وطبيعته ووظيفته، تعني الاهتمام بمقومات الأدب كحقيقة عامة في أي زمان أو مكان وفي أية لغة كتب بها.
الهوامش:
(&) المعروف أن النظرية الأدبية تكون متماسكة ومقبولة، كلما كانت مكونة من عناصر متناسقة ومقبولة لدى كثير من العلماء كما أوضح سابقا، ولكن مع ذلك فهي لا تكتسب قوة القانون؛ كونها ليست صارمة في حكمها، ولا تملك ذلك، غير أنها من جهة أخرى تملك كثيراً من جوانب الحقيقة الأدبية، مما جعلها مقنعة من وجهة النظر التي طرح المنظر من خلالها فكرته (رحماني، 2004).
الصفحة 47
فالبحث في نشأة الأدب يعني بيان العلاقة بين الأديب والعمل الأدبي، كما أن البحث في طبيعة الأدب يعني بيان جوهر الأعمال الأدبية أي خصائصها وسماتها العامة، وأخيرا فإن البحث في وظيفة الأدب يعني بيان العلاقة بين الأدب وجمهور القراء أي بيان أثر الأدب في المتلقين، ولا شك بأن الأديب والعمل الأدبي وجمهور القراء أركان أساسية لوجود الأدب، وإذا انتفى ركن من هذه الأركان انتفى وجود الأدب.
وعلى ذلك، فلا بد من عرض مبحثين: المبحث الأول، ويتضمن الحدود العامة لنظرية الأدب نلحقه بمبحث آخر أكثر أهمية يتضمن عرضا للتوجهات البيداغوجية للنظرية الأدبية، وذلك على أمل أن يمثل ذلك قاعدة صلبة وتنظيرية جذرية للظاهرة الأدبية.
المبحث الأول: الحدود العامة لنظرية ا لأدب
أ- طبيعة الأدب
تختلف الآراء وتتنوع حول طبيعة الأدب باختلاف النظريات الأدبية، فالدراسات التي تهتم بهذا الموضوع نادرة جدا، وهذا ما يفسر غياب تعريف كامل لطبيعة الأدب مقبول من كل الباحثين، إذ لا يعرف الباحث دراسة واحدة مخصصة كلية للبحث عن طبيعة الأدب، ولا شك أن الوصول إلى تعريف دقيق وتام لطبيعة الأدب يقتضي استقصاء شاملا، ويمكن الوقوف على بعض التعريفات المنتشرة في الدراسات التي اهتمت بطبيعة الأدب، فذهب بعضها إلى أن الأدب كل شيء قيد الطبع، وكل ما يمت إلى الحضارة بصلة لا يخرج عن مجال الأدب (ويلك، 1981)، ولا شك أن هذا التعريف يشمل التراث البشري كله . وهذا المعنى ليس جديدا، ففي التراث العربي كان الأدب يطلق بمعنى رياضة
الصفحة 48
النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي، ومنه كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، فهو يعني كل ما ينبغي أن يتأدب به صاحب الكتابة من كل ما أنتجه العقل الإنساني من ضروب المعرفة (المعجم الوسيط، 1985)، وفي التراث اليوناني نجد مثل ذلك واضحا في قول أرسطو طاليس كما جاء في رحماني (12 ،2004)، "أن من ينظم نظرية في الطب أو الطبيعة يسمى عادة شاعراً".
ولكن هذا التعريف لا يمكن قبوله؛ لأنه يعدّ كل تراث الحضارة البشرية المطبوع يدخل ضمن نظام الأدب، فكل ما هو مكتوب من تاريخ وفقه وتفسير وفلسفة واجتماع وطب لا يخرج عن ميدان الأدب، وقد يبدو هذا بعيداً عن الأدب من حيث هو فن أداته الكلمة والخصائص الأدبية.
وهناك تعريف آخر للأدب يقصره على الكتب العظيمة التي تشتهر لشكلها الأدبي أو بتعبيرها مهما كان موضوعها، والمعيار هنا: إما أن يكون جدارة جمالية فقط، أو جدارة جمالية مرتبطة بميزة فكرية عامة، ففي الشعر الغنائي والدراما والرواية نختار أعظم الأعمال على أسس جمالية، أما الكتب الأخرى، فتنتقى لشهرتها أو لسموها الفكري معا، بالإضافة إلى قيمة جمالية من نوع أضيق؛ فالأسلوب والتأليف وقوة العرض هي الخصائص التي يشار إليها عادة. (رحماني، 2004). فالأدب بهذا المعنى سيكون أضيق من السابق، وأقرب إلى خصائص الأدب، إلا أنه بهذا المعنى فيه خلط ومغالطة كبيرة وطمس للطبيعة الحقيقيةة ل لآداب.
ويرى ويلك (1987) أن هذه الكتب العظيمة مستحبة جداً لأغراض تربوية، وعلينا أن نوافق جميعا على الفكرة التي توجب على الطلبة والمبتدئين منهم خاصة أن يقرؤوا الكتب العظيمة أو الجيدة، إلا أنهم يعطون بعد ذلك ما يبين أن الأدب الإبداعي يتطلب تقاليد أدبية قد لا نجدها في هذه الكتب العظيمة، وكذلك لا
الصفحة 49
يفهم عندئذ أمر تطور الأنواع الأدبية، ومن ثم طبيعة العملية الأدبية ذاتها.
وهناك نظرية أخرى ترى أنه من الأفضل قصر مفهوم الأدب على فنون الأدب أي الأدب الخيالي كالقصة أو الشعر أو الرواية والمسرح، وعدّ اللغة هي مادة الأدب، مثلما يعدّ الحجر أو البرونز مادة للنحت، والألوان مادة الرسم، والأصوات مادة الموسيقى (البدوي، 2004).
وعلى الرغم من أنَّ هذا التعريف قد نص على الأدب من حيث خاصية الخيال؛ إلا أنه لم يستطع أن يهيمن على الظاهرة الأدبية فعلاً، كما أن القول بأن "اللغة" هي مادة الأدب كالحجر مادة النحت قول فيه مغالطة، لأن اللغة ليست مادة جامدة كالحجر، وإنما هي إبداع المجتمع، ومن ثم تأتي محملة بالتراث الثقافي والاجتماعي الذي نشأت من خلاله، وعليه فهناك تنوع لغوي وفقا لتنوع المجتمعات.
ويرى ويليك ( 1981) أن أبسط حل للمشكلة يكمن في تمييز الاستعمال الخاص للغة في الأدب، أي أن نفرق بين اللغة الأدبية وغير الأدبية من جهة، والتفرقة بين أساليب استخدام الأدباء للغة تبعاً للأنواع الأدبية.
وعليه فينبغي إجراء تمييز أساسي في استعمالات اللغة بالنسبة لكل من مجالات الأدب والعلم والحياة اليومية، وبخاصة في تعريف الحد الفاصل بين اللغة الأدبية واللغة العلمية، فاللغة العلمية عالمية، وهي لغة مجردة ذات طابع دلالي خالص، تهدف للتطابق الدقيق بين الدال والمدلول، فهي لغة إشارية، بينما اللغة الأدبية مليئة بالالتباسات، كما أنها لغة تاريخية متشبعة بالأجناس والتصنيفات اللاعقلية و التضمينات، كما تتخللها الأحداث التاريخية والذكريات والتداعيات، فهي ليست دلالية فقط، بل تعبيرية، كذلك كونها تنقل الموقف، ولا تقتصر على تقرير الفكرة في ذهن السامع، بل تتجاوزه إلى التأثير في موقف القارئ وإقناعه، كما أنها تشدد على
الصفحة 50
القيمة الصوتية في الوزن والسجع والتكرار.
فطبيعة المادة الأدبية ليست نصوصا تقريرية، ومن ثم ليست بيانات منطقية، فهناك فرق واضح بين نص تقريري نجده في رواية تاريخية لنجيب محفوظ يتضمن معلومات عن أحداث تاريخية فعلية، والمعلومات ذاتها حين تظهر في كتاب تاريخ أو علم اجتماع، فاللغة الأدبية أشد إيغالا في البنية التاريخية للغة، فهي تشدد على الإشارة، ولها جانبها التعبيري والذرائعي الذي يهدف إلى التأثير بواسطة استثارة التوسل العاطفي لحظة أزمة انفعالية، وهو ما تسعى اللغة العلمية إلى تقليله.
ومن الجدير بالذكر أن هناك فروقا لغوية دقيقة بين الأنواع الأدبية من قصة وشعر ومسرح ومقال أدبي وغيرها (&)، فقد فرق القدماء العرب بين الشعر والنثر، لذا نجد من يذهب إلى أن الشعر يتجاوز اعتباطيا العلاقة إلى توازن بين الصوت والمعنى، ويمنع استنفاذ العلامة من أي معنى كان، إذ ينبغي على جسمها الكلامي أن يكون صلباً وغامضاً بشكل يكون للتنغيم معنى، وأن يكون لمعنى الكلمات صوت (تادييه، 1993).
ولعل كل هذا الاهتمام بالتمييز بين اللغة الأدبية وغير الأدبية، ثم التمييز بين اللغة في الأنواع الأدبية نفسها، يجعل من السهل قبول تعريف آخر للأدب، هو قول ويليك ( 1981،21): "الأدب يشمل الآثار اللغوية كافة التي تثير فينا بعض خصائص صياغتها انفعالات عاطفية أو احساسات جمالية" وبذلك يتبين أن أصحاب هذه
الهوامش:
(&) قد توقف ويلك وارين (1981) عند الفروق الفردية اللغوية بين الأنواع الأدبية. مشيراً إلى أن الجانب الصوتي من الشعر مختلف عنه في الرواية، كما أن العنصر الذرائعي في الرواية الذي يهدف إلى التأثير بواسطة استشارة التوسل العاطفي لحظة أزمة انفعالية أقوى من الشعر، بينما العنصر البرهاني الذي يهدف إلى الإقناع أقوى من الرواية منه في الشعر، وحتى في الشعر نجد فرقا بين الشعر التعليمي والشعر الغنائي الذاتي، كما أن اللغة في الرواية والقصة والمسرح أكثر ذهنية منها في الشعر، أضف إلى ذلك أن اللغة الشعرية أكثر انتهاكا لنظام اللغة من اجل وضع المستمع والقارئ في حالة من الوعي والانتباه، كما أن اللغة الشعرية تعني كثيراً جداً بالحبك المحكم لدرجة التعقيد أحياناً بحيث يصبح من المستحيل أحياناً تغيير كلمة، أو إضافتها دون إفساد تأثيرها في المجموع.
الصفحة 51
النظرية لا يميزون الأدب بصيغته فحسب، بل يميزونه بأثره النفسي الذي ينبعث عن خصائص صياغته، وهذا الأثر هو الانفعالات العاطفية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه على الرغم من وجود فوارق واضحة بين الفنون الأدبية، فإن هناك عاملا مشتركا بينها ألا وهو البلاغة، وهذا ما دفع بعض الباحثين من النظر إلى طبيعة الأدب نظرة تكمن في عمليات مثل التخيل أو الاختراع (إسماعيل، 1981).
وهذا التصور سيقود إلى محاولات أخرى بعيدة كل البعد عن الطبيعة الحقيقيةة للآداب، فهو يقوم على فهم ضيق يخرج منه مؤلفات عظيمة واسعة التأثير مثل كتاب الحيوان والبخلاء، وغيرها من الكتب القيمة.
وعلى أي حال، وحتى وإن اتفق المتخصصون على طبيعة محدودة للأدب، فهذه الطبيعة قابلة للتغيير المستمر بفعل التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، التي يشهدها المجتمع من عصر إلى آخر، فالثورة التكنولوجية الهائلة التي عاشتها المجتمعات المتطورة خلال السنوات القليلة الماضية، قد تركت بصماتها واضحة على الإنتاج العقلي بصفة عامة، والأدبي بصفة خاصة (ايفاشيفا، 1984).
ففي ضوء العولمة والثورة التكنولوجية ظهرت ملاحظات أولية حول القائلين بالأجناس الأدبية، وكذلك الرافضين لها، وهذه قضية لا يمكن إغفالها أو التهوين مما تعانيه حين تكون الجذور التي تمد الحاضر بمسوغاته لا تزال نابضة بالحياة (الغيث، 2003).
فنقطة الوثوب على الجنس الأدبي(&) تتمحور حول الافتراض القائل في سياق نظرية التلقي؛ حيث تُمنح القراءة سلطة شبه مطلقة في تفسير النص وتأويله،
الهوامش:
(&) يجدر الإشارة إلى أن دراسة الأدب والنقد في الجامعات (بعامة)، تؤثر إقرار نظرية الأجناس الأدبية، التي يصعب الانفلات منها حتى عند الذين يحلون "النص" مكان الجنس الأدبي.
الصفحة 52
فالمعرفة بحدود الجنس الأدبي لا تساعد على تفسيره، فكل نص هو حالة مفردة وتفسيره لا يحتاج إلى المعرفة بأصول النوع الذي ينتمي إليه، فالنصوص ليس من الضروري أن تكون محدودة النوع، وافتراضهم هذا يقوم على أن النصَ يمكن أن يكون له تفسيرات مختلفة، وأن توقعات القراء تتغير، وتقاليد القراء تتغير (كوهين، 1997).
ولعل هذا يرشد إلى موقف عملي وتكاملي يتبلور في أنه ينبغي استحضار مميزات الجنس الأدبي وإمكاناته في المراحل التعليمية، وذلك بعرض نصوص أدبية متنوعة تعالج الأجناس الأدبية ذات الجذور العربية الأصيلة كالأدب الجغرافي والتاريخي والخيالي والمناظرة، تلك أجناس تهمنا، فهذه الأجناس الأدبية تهددها نزعات التطور، ممثلة بموجات العولمة العاتية، التي سينتهي بها التهديد إلى الاندثار، إن لم تبذل جهود واعية حقيقيةة في تنقيتها وإمدادها بعوامل الحياة المتطورة، بحيث لا تنقطع عن أصولها التاريخية ولا تتحجر عندها في الوقت نفسه.
ب – وظيفة الأدب
لا شك أن الأشياء كلها تكتسب قيمتها من الوظيفة التي تقوم بها، فمن خلال الاستعراض السابق لطبيعة الأدب، اتضح كيف اختلفت النظريات وتشعبت في تفسير طبيعة الأدب، وعند النظر نجد أن تلك الاختلافات في تفسير طبيعة الأدب ترجع في أحد جوانبها إلى تنوع الأعمال الأدبية، وبالتالي تنوع الهدف منها أو وظيفتها، هذا فضلاً عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها كافة المجتمعات عبر العصور التاريخية المتعاقبة (البدوي،2004)، فوظيفة الأدب في العصور القديمة، تختلف بلا شك عن وظيفته في العصر الحالي، فوظيفة الأدب في العصور القديمة وظيفة أخلاقية تهذيبية تطهيرية، وفي العصر الإسلامي كان أحسن بيت يقوله الشاعر ما كان صادقاً أي حاملاً للقيم النبيلة،
الصفحة 53
وموافقا للخلق السليم (رحماني،2004)، بينما في عصر النهضة، كان يعدُّ الأدب نوعا من التسلية أو المتعة، وإذا كان هناك خلاف حول وظيفة الأنواع المختلفة للآداب كالشعر أو القصة أو الرواية أو المسرحية، فإنه يمتد حول وظيفة الأدب العظيم والأدب الجيد، حتى الأدب السوقي، يجد من يثني عليه بعدَه نوعا من التسلية أو الهروب من أعباء الحياة اليومية، فعملية الهروب التي قد يحققها الأدب السوقي يمكن أن تساعد القارئ على زيادة سخطه على الواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وتصيبه بنوع من الإحباط ، فالفنان أو الأديب قد يصبح هدفاً بمجرد التغني بكل براءة برغد العيش والأحلام السعيدة (البدوي، 2004).
ويمتد الخلاف أيضا إذا نظرنا إلى وظيفة الأدب من وجهة النظر الأيدلوجية، فالرأسمالية تنظر إلى الأدب بعَدِّه ظاهرة اجتماعية ينمو ويتطور ويتغير، فهو هام في المحافظة على توازن البناء الثقافي للمجتمع بعَدِّه جزءا من البناء الاجتماعي للثقافة في المجتمعات الرأسمالية، هذا فضلاً عن وظيفته الأساسية في الترفيه والتسلية، فالأديب حر فيما يكتب ما دام لا تتعارض هذه الكتابة مع حريات الآخرين. بينما تنظر الماركسية إلى الأدب بعَدِّه أداة أساسية من أدوات الضبط الاجتماعي، وهو أحد أسلحة الطبقة، ومن خلاله تتواجه الأيدلوجيات المتعارضة، وتقع المبارزات بين القديم والجديد، فالماركسية ترى ضرورة تصوير الأدب للمجتمع القائم على الاستغلال والظلم والكذب تصويراً دقيقا بهدف القضاء عليه، فالماركسية كأيدلوجية تسعى للقضاء على حرية الخَلْق أو الإبداع، وتسعى إلى زيادة وعي أفراد المجتمع، وتكوين وعي نقدي لأفراد المجتمع بما في ذلك الأدباء، فهي تدفعهم للالتصاق بالواقع الذي يستقون منه علمهم (ايجلتون، 1994).
الصفحة 54
أما النظرية الأدبية الإسلامية (1) فهي تنبثق من الرؤية الإسلامية للكون والحياة وبناء الشخصية الإنسانية، والرقي بها، فالأدب المقبول هو المرتبط بالعمل الصالح، فالحكم عليه يكون بالأثر الذي يتركه في المتلقي بحيث يكون الانسجام الكامل في الأثر، فرسالة الأديب الانتصار للحق والفضيلة والنبل بتعزيز مبدأ القدوة، فالمرجعية الفكرية والثقافية للأدب الإسلامي تهتم بطبيعة الأدب ووظيفته في الوقت نفسه، مركزا على أن الأدب يؤدي وظيفته عن طريق جماله، فالأدب الإسلامي ملتزم إزاء القيم التي يحملها التصور الذي يعد مرجعيته، ولكن ذلك لا يعني إهدار القيم الفنية، فمسؤولية الكلمة تقتضي الوضوح دون إهدار للقيم الفنية الجمالية (الكيلاني، 1987)، فهو أدب التزامي يدرك أن الكلام عمل، بتحويل المادة الشعرية إلى ممارسات تعبيرية، يتوحد فيها القول بالعمل، ويلتقي الظاهر بالباطن، وتتحد الكلمة بالسلوك (خليل، 1987).
ونظراً لأهمية الوظيفة فقد تعددت النظريات التي تناولت وظيفة الأدب: أولها ترى أن الأدب ممتع، وأن الفن للفن، لا لشيء آخر، فالتشبيهات والصور في الأدب لا تختار على أساس جمالها في ذاتها، ولكن لما يتطلبه موقعها في جملة العمل الأدبي (هلال، 1973)، ولا شك أن المفكرين الذين ذهبوا هذا المذهب كثيرون منهم بندتو كروتشيه، وإدجار آلان بو، وبودلير، وتوماس إليوت، وازرباوند، وسينجارب، إضافة إلى الشكليين الروسيين، الذين يرونه فناً، وشكلاً من المهارة مصنوعا، وشيئاً من الجمال في صفته الجمالية، وإذا نظرنا إلى النظرية، فُهم أنها
الهوامش:
(1) من الجدير بالذكر أنه لن يكون بمقدور أحد الإدعاء بقدرته على رسم صورة نهائية لنظرية الأدب الإسلامي، فالمكتبة الأدبية الإسلامية تكاد تخلو من دراسات ذات طابع شمولي تستهدف تقديم صورة متكاملة لنظرية الأدب من زاوية الرؤية الإسلامية، فما زالت لدراسات المعنية بنظرية الأدب الإسلامية في مرحلة التمخض والصيرورة والعطاء، لذا فإن ما يُذكر في النظرية الأدبية الإسلامية في هذه الدراسة ما هو إلا خطوط عريضة لنظرية في الأدب الإسلامي.
الصفحة 55
ذات طبيعة شكلية في الأساس، فهي ترى في وظيفة الأدب المتعة ذاتها، وهنا لابد من إظهار حقيقة أن المدرسة الشكلية لم تهمل الفائدة الخلفية والمنفعة الأدبية بصفة عامة، فهي لا تستبعد المنفعة، لكنها لا تراها تمثل أساساً في طبيعة الأدب.
وثاني تلك النظريات ترى أن الأدب نافع ومفيد، فالشعر أداة للتهذيب (ويلك،1981)، وفي ضوء تلك النظرية نجد في الأدب العربي من يقسم الشعر باعتبار القيم الخلقية، فالقيرواني (1972) مثلاً يقول: " فالشعر هو خير كله، وذلك ما كان من باب الزهد والمواعظ الحسنة، والمثل العائد على من تمثل بالخير، وما أشبه ذلك، وشعر هو ظرف كله، وذلك القول في الأوصاف والنعوت والتشبيه، وما به من المعاني والآداب، وشعر يتكسب به، وذلك أن يحمل إلى كل سوق وما يتفق فيها، ويخاطب كل إنسان من حيث هو، ويأتي من جهة فهمه "، فهذا القول حقيقة لا يكتفي ببيان رسالة الأدب ووظيفته، بل يشير إلى الآثار الشعرية المختلفة النافعة منها و الضارة، كما يشير إلى اللهو والمنفعة، مما يبين أن الوظائف يمكن أن تتعدد وتتنوع في أدوارها.
إن كثيرا من الباحثين الأدبيين في إطار نظرية الأنواع الأدبية ينظرون إلى وظائف الأدب على أنها متعددة ومتنوعة، ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الوظائف:
الصفحة 56
محاكاة فعل هزلي ناقص يحصل به تطهير المرء بالسرور والضحك من أمثال هذه الانفعالات (طاليس،1993). ومعناه أن وظيفة الأدب تخلصنا كتابا وقراء من عناء الانفعالات فالتصريح بالانفعالات يحررنا منها، وقارئ الرواية والناظر إلى المسرحية يشعر بالفرح والخلاص (ويلك،1981).
والواقع أن الناظر في النصوص الأدبية يجد أن بعضها يهيجنا، والبعض الآخر يهذبنا وينفعنا، ولكن هل للقارئ دور في تحديد أثر النص تبعاً لمستواه الثقافي واللغوي والديني؟ ومن جهة أخرى، هل للمناهج والتربية عموما دور في التأنيس؟ وذلك كي لا نغتر بالتعويل على القارئ، فللألفة والعادة دورهما.
ويرتبط بالتطهير وظيفة نفسية، فبإمكان الروائي مثلا أن يعلمك عن الطبائع البشرية أكثر من عالم النفس، فهو يقدم خدمة للقارئ عندما يكشف عن الحياة الباطنية للشخصيات، ولاسيما حين نجد فرويد يعد العمل الأدبي إشباعا خياليا لرغبات لا واعية توقظ وتشبع لدى الآخرين نفس الطموحات، فمكافأة الإغراء تكمن في المنطقة المرتبطة بالإحساس بجمال الشكل (تادييه، 1993).
أما الإسلامية، فترى أن الأدب لابد أن يخدم قيم الحق والخير والجمال في الوقت نفسه، فالأدب رسالة حضارية شاملة قبل كل شيء بما في ذلك الاحتفال بآلام الطبقات البشرية وقيودها، لكنَ هذه المدرسة لا تستخدم الحقد الطبقي لإزالة تلك الآلام (قطب، 1983).
الصفحة 57
ومن خلال العرض السابق تبين أن الأدب يمكن أن يكون أداة للتهذيب أو للمعرفة، وأنه يمكن أن يكون نوعاً من الكشف أو التعبير عن الحقيقة، فإذا نادى مناد بأن الأدب متعة، وجد من يرد عليه، بأنها معرفة فريدة قائمة على الكشف والتبصر في الحياة، وإذا نادى مناد آخر بأن الأدب التزام بأفكار وقضايا ومواقف، وجد من يرد عليه، بأنه نغم صاف وصور جميلة.
ومع هذا فإن جميع الأفكار السابقة، وإن بدت متعارضة أشد التعارض، إلا أنها جميعاً تدور حول تعريف هوراس الروماني للأدب بأنه "كل ما يمتع ويفيد" (إسماعيل، 1981،25)، فالأدب عنده يجب أن يمتع ويعلم في آن واحد أو أن يعلم في قالب ممتع.
والبحث عن وظيفة الأدب يبدو أقرب ما يكون إلى هذه المقولة الهوراسية، فهوارس عندما تحدث عن المتعة والفائدة كان يتحدث عنهما بعَدِّهما قيمتين أساسيتين لا يستغني الأدب عن أي منهما، فعندما يؤدي ا لأدب وظيفته بنجاح تمتزج المتعة بالفائدة امتزاجا تاما، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، بما في ذلك أن المتعة ليست كغيرها من المتع، إنها متعة رفيقة على أعلى درجة من الفعالية؛ لأنها تأمل غير مكتسب، وفائدة الأدب، وما في فيه من معرفة، إنما هي جدية مفعمة بالمتعة؛ ذلك أنها من نوع مختلف عن جدية الواجب الذي يتحتم أداؤه أو جدية الدرس الذي يتحتم دراسته، فهي جدية و جمالية، جدية الإدراك والتبصر- في الأشياء(إسماعيل، 1981 )، والوحدة المتمثلة بالتوازن والتماسك والتكامل (حرب، 2003 )، فالمرء كما أورد ريتشا رد فينمان يمكن أن يتبين الحقيقة بفضل جمالها، كما أن الجمال في الفنون، هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح كما يقول هاينزبرغ (عبد الحميد، 2001).
الصفحة 58
فالخبرة فكرية كانت أم عملية لها طابعها الجمالي، فهي تعمد على نوعين من التفكير: الأول منطقي، قائم على الذكاء، والثاني إبداعي، قائم على الخيال، والخيال ملمح جمالي يقود إلى تذوق العمل تذوقاً ذا طابع وجداني يفضي بصاحبه إلى تقدير ذاك الشيء تقديرا جماليا ومحاكاته في ضوء معايير معينة (حرب، 2003).
فالباحث في طبيعة الأدب وبنيته الفنية، الذي يريد أن يؤكد أن طبيعته لغوية أساساً وذات بنية جمالية، لا يملك إلا أن يراجع نفسه ليقول في النهاية: إن هذا الجمال يعبر- لا بد- عن شيء، ويهدف إلى شيء، فالعلاقة بين الفائدة والمتعة علاقة ديالكتيكية، تعبر بالضرورة عن مطابقة بين جوهر الأدب ووظيفته، فمن المفترض أن تكون طبيعة الأدب ووظيفته متلازمتين (عثمان، 1981)، فالأدب ممتع ومفيد لمن يحسنون استخدامه، والذين يحسنون استخدامه هم الذين يفهمون طبيعته، ولا يمكن أن يؤدي وظيفة لا تتفق مع طبيعته (إسماعيل، 1981).
فالقول بأن هناك تعارضا بين الشكل والمضمون إنما هو وهم، والحق أنهما متكاملان في تكوين النص الأدبي، ويؤيد ذلك قول رسول لله صلى لله عليه وسلم: "لَشِعْرُ كعب بن مالك أشدُّ على ِقريشَ من رشق السهام "، وقوله : "قل وروح القُدُس مَعَكَ "، وقوله أيضا: إنَّ من الشعرِ لحكمةً َ وإنَّ من البيان لسحراً " وعلق على النص ابن رشيق ( 1972،27 ) بقوله : "قرن البيان بالسحر فصاحة منه صلى لله عليه وسلم، وجعل من الشعر حكمة؛ لأن السحر يخيل للإنسان ما لم يكن للطافته، وحيلة صاحبه، وكذلك البيان يَتَصَوَّرُ فيه الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق؛ لرقة معناه ولطف موقعه، وأبلغ البيان عند العلماء الشعر بلا مدافعة "، فالحكمة تعني الغاية الأخلاقية، والسحر يعني الغاية الفنية، فالقصيدة تبدأ بالإمتاع، وتنتهي بالمعرفة والحكمة، وهذا يعني أن الأدب يمزج حبه للجمال بحبه للحقيقة، ويوجد هذان الحدان معا في الذهن، ويتألف التعبير من اتحادهما.
الصفحة 59
فالأدب بوسائله التعبيرية الفنية يقوم بالإمتاع الجمالي، الذي يغني روح الإنسان ويسمو بها إلى الأجمل والأنبل، كما يقوم بمهمة تعميق الإحساس بالحياة والخبرة، فالأدب لفظاً ومعنى يدل على المعاني الخلقية والتربوية والجمالية، فهو بذلك وثيق الصلة بالتربية بمعناها الشامل، وبشكل عام ينشأ الأدب من الإنسان، وموضوعه ذلك الإنسان ومجتمعه، ولا يمكن لفن أن يوجد أو أن يعيش ويتطور تطوراً خلاقاً بمعزل عن موضوعه.
ومع أن تدريس نصوص أدبية ذوات أساليب رفيعة في مناهج اللغة العربية يجب الحرص عليه لما تحققه من فائدة تعليمية وتربوية، إلا أن الاعتماد على الخصائص الأسلوبية أدى إلى أحكام قيمية مضللة ترتب عليها إخراج كثير من الأعمال الأدبية من دائرة الأدب، وإدخال غيرها مما لا يشترك مع الأدب إلا في حقيقة واحدة هي الأسلوب الرفيع، وعليه فيجب أن تستفيد بذكاء مما كتبه المتخصصون في الموضوعات المختلفة وتضمينها في مناهجنا بحيث نجمع بين المتعة والفائدة، وذلك وفق معايير أدبية واضحة تتفق وطبيعة التوجه التربوي التعليمي.
وبعد، فالاتجاه الذي نحن بصدده يبدو أقرب ما يكون إلى المقولة الهوراسية، لكن التطبيق التربوي، يجعلنا لا نطمئن إلى أن الطلبة يفهمونها فهما مفاهيمي اً وجمالياً معا، يجمع بين الفائدة والمتعة، بحيث تملكهم خبرات مفاهيمية وجمالية يتفاعلون من خلالها مع العالم المادي المحيط، وتمكنهم من تمييز هذه المفاهيم والمعارف، وجعلها تتلاءم مع مفاهيمهم ومعارفهم السابقة؛ لأن في ذلك إعمالاً للعقل والعاطفة معا، فهي خبرة كلية تنتهي بمعان أعمق.
ج – الأدب والمعرفة
إن تحديد علاقة الأدب بالمعرفة لا يزال على الرغم من الاجتهادات الأدبية مسألة صعبة وشائكة، فهناك اتجاه يؤكد أن الأدب لا يزال له دور هام في اكتشاف
الصفحة 60
الحقيقة، والآخر ينفي أن يكون للعقلية الأدبية قدرة خارقة أو طريق سحري للمعرفة، فالأدب فن، ولا ينبغي أن يقدم على أساس ما يقدمه من معرفة بالحياة، ولا على أساس ما يضيفه إلى الثقافة، وإنما يقدم بعده عملاً فنياً، ولعل هذا يبدو وكأنه تناقض وتعارض وتمايز، إلا أن هذا التمايز ما يلبث أن يتبدد، فالنشاط التأملي والنشاط التخيلي في الأدب كلاهما يخدم الحقيقة، ويثري المعرفة الإنسانية، فلا تعارض بين الوظيفة الفنية والمعرفية التي يؤديها الأدب (إسماعيل، 1981).
أن الإنسان يكتسب المعرفة عن طريقين: مباشرة وغير مباشرة، فمصدر الأولى تجربته الخاصة التي يكتسبها عن طريق عيش الواقع والاحتكاك مع العالم، ولما كان الإنسان كائن اً محكوماً بالزمان والمكان، فإن تجربته مهما اتسعت، تظل محدودة بالزمان والمكان، ولذلك فإنه بحاجة ماسة إلى توسيع خبراته، وزيادة معارفه عن طريق معرفة غير مباشرة تقسم إلى نوعين: أولهما الاطلاع على تجارب الآخرين، الذين يعيشون معه في الزمان والمكان، وثانيهما معرفة تجارب من لا يشاركون زمانه ومكانه، وهذه المعرفة غير المباشرة يمكن اكتسابها من طرائق متعددة، تأتي في طليعتها القراءة، فالقراءة هي المصدر الأول من حيث الأهمية والاتساع في اكتساب المعرفة، فهي تُمَلِّكُ الفرد خلاصة التجارب التي عاشها أشخاص مختلفون عنه في الزمان والمكان، وبامتلاك هذه التجارب نُوسِّع من معرفتنا ونعمقها، وهو ما يساعدنا على توجيه قراءتنا، وتعميق فهمنا لما سنطلع عليه من تجارب جديدة ( الصديق، 1993).
فالأدب أفضل مصدر للمعرفة غير المباشرة، فهو لا يكتفي بنقل التجارب، وإنما يستخدم في نقلها وسيلة فنية تجعلها أكثر عمقاً وأبعد تأثيراً في المتلقي، ولذلك فيمكن عدّ الأدب وسيلة معرفية، يمكن للفكر الإنساني من خلالها تخزين تجارب الأمة في ذاكرتها اللغوية التي تتوارثها الأجيال، هذه الحقيقة تعني ارتباط الأدب
الصفحة 61
بنظرية المعرفة، التي هي بحث في أدوات إنتاج الفكر، وليس في الفكر نفسه، فكل المؤسسات المعرفية في حضارة من الحضارات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المعرفة، ونوعية وسائلها، وطبيعة مصادرها، وأهدافها في تلك الحضارة، فارتباط الأدب بالمعرفة هو الذي يحكم موضوع الأدب، وطبيعته وهدفه، كما يحكم أنواعه، ويفسر تطورها، ويربط بينها وبين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحيط بها (الصديق، 1993).
وحول مسالة طبيعة المعرفة الإيجابية القائمة في الآثار الأدبية التي يبلغها الإنسان من خلال التعمق، يورد فريس وموراليس ( 2004) :إن لكلمة معرفة معنيين، فالكلمة يمكن استعمالها كاسم، فتدلّ عندئذ على علم إيجابي قائم: شخص يثبت معرفته، كتاب يشتمل على معارف في هذا المجال أو ذاك، والكلمة يمكن استعمالها كفعل، فتدلّ عندئذٍ على العملية التي يتم بها تدريجيا تكوين المعرفة"، وهذا التميز أمر أساسي ؛ لأنه يسمح في النهاية باكتشاف نوعَي المعرفة اللذين يمكن وجودهما في النص، ويمكن للقارئ تحصيلهما، فهناك نصوص تعلمنا الوقائع، فتنقل إلينا المعرفة الإيجابية عن مجال ما، وهناك نصوص تنمّي فينا الفعل الذي تتكون من خلاله هذه المعرفة الإيجابية، فالأولى تركز على المضمون، والأخرى على عملية التساؤل والتفسير.
فاختيار النصوص الأدبية المرتكزة ارتكازاً أساساً على نظرية معرفية، يجب أن يستند في مصدرها وطرائقها وأشكالها ومعاييرها على الواقع، بما فيه من ظروف مختلفة فكرية واجتماعية تحكم وجوده، وفي ذلك يرى السيد ( 1998) أن على المتخصصين في منهاج اللغة العربية أن يسألوا عن المهارات اللغوية اللازمة للمتعلم في كل مرحلة مع مراعاة مستويات المتعلمين العقلية والنفسية، على أن تساعد المتعلم على التفاعل الاجتماعي، حيث أن الاقتصار على رأي المختصين
الصفحة 62
والخبراء اللغويين، بغض النظر عن مطالب نمو المتعلم، ومتطلبات المجتمع يُعد عملاً ناقصاً إذ يركز الخبراء على بعض الأساسيات، إلا أنها لا تستخدم في الحياة العملية.
وعليه، فيجب أن تستند تلك النصوص الأدبية في إطار نظرية الأدب على نظرية في المعرفة، أو فلسفة محددة متكاملة، توفر للمتعلم درجة من القوة والاتساق والعمق من خلال الآراء والأفكار التي تطرحها.
د- الأدب والمجتمع
إن فكرة العلاقة بين الأدب والمجتمع قديمة، ولكن هذه الفكرة دخلت في القرن العشرين أفقاً جديدة جعلتها مدار بحث من المهتمين بالأدب ودراسته، وليس هناك شك أن المتعلم عندما يدرس النص الأدبي بدلالاته الاجتماعية، سيكون قادراً إلى الوصول إلى فهم أعمق وأخصب للأدب، بِعَدِّهِ ظاهرة اجتماعية، وذلك من خلال دراسة أبعاده الذاتية والمجتمعية أو تفاعلها مع المجتمع، الذي ينتمي إليه في شتى نشاطاته ومؤسساته المختلفة.
ويمكن القول إنه لا خلاف على تأثر الأدب بحياة الأديب، فالأدب يتأثر بحياة منشئه بصورة أو بأخرى، وهذا ما يبرز الاهتمام بجمع المعلومات عن حياة الأديب وعدِّها مصدراً مهماً لتفسير النصوص الأدبية، فهناك اتفاق بين النظريات الأدبية –على ما بينها من خلاف- على أن الفن يغلب عليه الذاتية، فالفنان يتأثر ببيئته ومجتمعه، والطبيعة المحيطة به، وبثقافة العصر وأحداثه، لكنه يظل محتفظاً بما له من طابع ذاتي، بحكم طبيعته الخاصة المختلفة عمن سواه (إسماعيل،1981).
والملاحظ أن استقصاء المسائل المتعلقة بالأدب والمجتمع له ما يبرره في العصور الحديثة بشكل خاص، فقد صار الأدب مرتبطاً بالعمل بحيث صار النتاج الأدبي عملاً فنياً، وصار النقد العالمي يعتد بالوظيفة العملية للأدب، وينكر هروب
الصفحة 63
الفنان من الواقع وطبقاته وشخصياته؛ وذلك نتيجة للفلسفات الواقعية.
فلا اعتراض على أن النص الأدبي يمكن النظر إليه بعدِّه وثيقة اجتماعية تاريخية تعطي مرآة صادقة عن العصر، فالأدب يعد انعكاساً لجوانب مختلفة من البناء الاجتماعي، وهو يقدم صوراً من المجتمع في مختلف العصور التاريخية، ابتداء من الآداب البدائية والشعبية، وانتقالا إلى الآداب الكلاسيكية والرومانسية والواقعية (إسماعيل،1981، البدوي، 2004)، ولا اعتراض أيضاً على أهمية الأدب بعدّه أداة أساسية من أدوات الضبط الاجتماعي، حيث يمكن استخدام الأدب في عملية التنشئة الاجتماعية، وتأكيد النظام الاجتماعي، والمحافظة على الوضع القائم، وغير صحيح القول بإمكان الحكم على أي نص أدبي من خلال مضمونه، فالأديب لا ينسج الواقع حرفيا ولا يلقن حقائق، إنه يبدع كائنات وأشياء تؤلف عالماً واسعاً وموحداً، وأيضاً غير صحيح أن الفن يكمن في شكل مستقل عن المضمون، أو يمكن أن يفقد من قوته وطهارته، إذا اقترب كثيرا من الحياة الواقعية، ومن الصراعات الاجتماعية (البدوي، 2004) .
ومن المؤكد أن تأثير النصوص الأدبية في المتعلمين في المرحلة الأساسية العليا أكبر، وأشد عنفاً من تأثيرها فيمن ضعفت استجابتهم للحياة، من الكهول والمتخلفين عاطفياً وثقافياً وفنياُ من فئات المجتمع الأخرى، فتأثير النص في قرائه من المتعلمين يتفاوت تبعاً لنوعياتهم من حيث الثقافة والقدرة على التذوق، وا لأكثر من هذا أن المتعلم الذي يأخذ الأدب على أنه محاكاة للحياة وتصوير لها، يختلف تأثره بالنص الأدبي من متعلم آخر يفهم الأدب على أنه نوع من الرؤية الفنية أو على أنه تفسير للحياة، ومن هنا تأتي أهمية منهاج اللغة العربية، بما يحويه من نصوص أدبية وطرائق معالجتها بعدِّ تلك النصوص مؤسسة اجتماعية، تهدف إلى إشباع حاجة اجتماعية للاستطلاع والتساؤل أو إلى المتعة الجمالية أو بالترفيه أو
الصفحة 64
بدور تعويضي أو بتحويل القيمة الأخلاقية إلى قيمة جمالية وتذوقية، كل ذلك يبين أن النصوص الأدبية كمؤسسة اجتماعية لا تقوم بوظيفة واحدة، وإنما بمجموعة من الوظائف المتعددة التي يشبع خلالها كثيرٌ من حاجات المتعلم الأساسية والثانوية، ويخلق عبرها مجموعة من القيم القادرة على الإسهام في إحداث التغير الاجتماعي وفي المشاركة في إعداد المواطنة الجديرة بإرساء مقومات الديمقراطية الأصيلة كما يصفها فريري (2004) من خلال تمكين الطلبة من توظيف قراءة الكلمة من أجل الوعي بالعالم والقدرة على قراءته والتأثير في أحواله بالعدل الاجتماعي وكرامة الإنسان.
ويتوقف ذلك بمدى تضمين منهاج اللغة العربية نصوصاً تخرج بتصور تجديدي لا ينكر التراث ولا يرفضه، وإنما يدعو إلى تجاوز سلبياته، وتمثُّل أنقى ما فيه، انطلاقا من تغيير الواقع وتطوره، نصوصاً تتمسك بطرافة التعبير وجدته وفنيته (الصفة الفنية)، وتقرن القديم والجديد معاً، وتتمسك بالفصيح من اللغة والأساليب، والتجديد في الأفكار والمعاني، والمقترنة بإرادة التغيير والتجدد والخلق.
وبعد، فالأدب لا يصور الحياة فحسب، بل يسعى إلى تحقيق أغراض تتفاوت في الأهمية عن التصوير إلى نشر المبادئ والأفكار في المجتمع، "فالأدب من خلال قدرته التأثيرية يساهم في بناء السلم القيمي في المجتمع، كما أنه يساهم في تعزيز الروابط القومية العربية سابقا ولاحقا، "وباللغة وحدها يندمج الفرد بالمجتمع، ويتلقى تراث الأمة الفكري والشعوري والأخلاقي والاجتماعي كله، التراث المنحدر من قرائح الكتاب والشعراء والمفكرين السالفين منهم والمعاصرين" (السيد، 1998).
كما أن الأدب من أهم وسائل نقل الفكر؛ لأنه يقوم بفعل التغيير الاجتماعي والفكري والسياسي، فالأدب يحدث تغيرا إيجابيا هائلاً في الطلاب؛ لأن
الصفحة 65
الحياة تحاكي الفن، ومن هنا تأتي فكرة ضرورة تخير نصوص أدبية بمواصفات مشبعة بالروح التعليمية المحضة (تعليم تربوي وأخلاقي ومدني)، وعليه فيجب أن يُقدم للطلبة نصوص أدبية تحوي قواعد اللياقة وآداب السلوك القويم والقيم الدينية والأخلاقية، مما يتيح لهم الظهور بالمظهر الحسن في المجتمع.
ه- مناهج دراسة النصوص الأدبية
كان المنهاج البلاغي(&) هو المنهاج السائد في الحكم على النصوص، إذ كانت تقوم أساساً على شرح النص وتفسيره، من الناحية اللغوية والبلاغية، محتذياً في ذلك حذو أسلافنا من علماء اللغة و شرَّاح الغريب (موافي، 2004 )، فيتوقف دارسو الأدب عند الألفاظ ليحكموا عليها من حيث الغرابة والألفة، وعند الجمل والتراكيب في انسجام ألفاظها أو تنافرها، وعند الصور والأخيلة والزخارف اللفظية والمحسنات البيانية؛ ليروا فيما إذا كان الأديب قد أكثر منها أو أقل، وكان هذا المنهج سائداً في التعامل مع الظاهرة الأدبية في الوطن العربي وأوروبا حتى مطلع القرن العشرين، حين ظهرت الثورة عليه، مواكبة للثورات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في أوروبا، وكانت الثورة على هذا المنهج تدعو إلى تحرير
الهوامش:
(&) اصطدم الباحث بأسماء كثيرة لمسميات كثيرة أو متشابهة في مجال المناهج والاتجاهات النقدية لدراسة الأدب فنسمع عن النقد النحوي والنقد اللغوي البلاغي والنقد البياني والنقد الفقهي والنقد المدرسي أو الجامعي وهي بمعنى واحد أو متقارب وهو النقد الذي ينظر في الشعر إلى نحوه وصرفه وعروضه وبيانه وبديعه وفي بعض الأحيان إلى معانيه، وهو النقد الذي سار عليه جل نقاد العرب من قرون ولا ي زال محورا لنقدات كثيرة من نقاد اليوم كما نسمع بالنقد الشكلاني والنقد الشكلي والنقد الفني والنقد الجمالي والنقد الأسلوبي وهي مصطلحات للدلالة على المنهج أو النقد الذي يضفي الأهمية في النص الأدبي على الجانب الشكلي الخارجي ويهون من قيمة المضمون، ومثل هذا الاضط راب في استخدام المصطلحات نجده بالقدر نفسه في مجال المدارس والتيارات النقدية والنظريات الأدبية ولعل ذلك يرجع الى كثرة المصطلحات الغربية والجديدة وترجمتها وضعف مؤسسات الترجمة والنشر وغياب التخطيط والتنسيق والتكامل في حركة الترجمة، إذ لا بد للمجامع اللغوية والعلمية من المشاركة في حل لهذه المشكلة وذلك بأن تشارك في تذليل الصعوبات وتيسير مهمة الباحثين من خلال توحيد اللغة التي يتحدث بها هؤلاء الباحثون وذلك بوضع معاجم مبوبة للمصطلحات الأدبية والنقدية. لمزيد من الاطلاع انظر أبو شاويش (1997)
الصفحة 66
النص الأدبي من قيود التحجر البلاغي، والنظر إلى الذات المبدعة للنص الأدبي في بعديها الفردي والاجتماعي (السيد، 1998).
والحق أن النظريات التي تستخدم في مواجهة ودراسة النصوص متعددة، فبعضهم يقسمها تبعاً لماهية الأدب ووظيفته، ونتج عن ذلك مذهبان: مذهب يضم نظريات تهتم بطبيعة الأدب وتدرسه من هذه الزاوية قد لا تعنى إلا بشكله، ومذهب يضم نظريات تدرس النص من وجهة ما يدل عليه، ومن ثمّ ركزت على المضمون، ومن ذلك تقسيم ويلك ( 1981 ) نظريات الدراسة الأدبية إلى الاتجاه الخارجي لدراسة الأدب، ويشمل الأدب والسيرة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأفكار والأدب والفنون، والاتجاه الداخلي لدراسة الأدب، ويتساءل فيه عن الطبيعة الفنية لعمل أدبي، ثمّ يتناول السلاسة والإيقاع والأسلوب والصورة وطبيعة السرد، والأنواع الأدبية والتقييم، أما الطاهر( 1983) فحدد مناهج دراسة النصوص الأدبية بالمنهج اللغوي والبلاغي والتاريخي والنفسي و الشكلاني والجمالي والإبداعي والانطباعي والفلسفي والاجتماعي والماركسي والوجودي والبنيوي والتحليلي والرمزي، ومن الجدير بالذكر أن مناهج دراسة الأدب تزداد في الأوساط الأكاديمية الغربية والعربية باستمرار إلى حد أخذت تستعصي حتى على المختصين.
وهذا الاختلاف لن يقودنا إلى نتيجة سلبية تجعلنا ننكمش أمام النص الأدبي، بل تجعلنا نقول: إن باب الاجتهاد مفتوح، ولكل باحث شخصيته واستقلاليته، فهذه المناهج على تعددها تلتقي في أنها تحاول تذوق النص الأدبي، وهي في سبيلها لذلك تتمحور في اتجاهين: أحدهما: يدرس النص من داخله، ويسعى إلى الكشف عن العلاقات التي تتحكم به، دون اللجوء إلى السياقات الخارجية للنص (الزبيدي، 1989) كالمنهج الشكلاني الروسي، ومدرسة النقد الجديد الأمريكية، والمنهج البنيوي، والثاني يتناول النص من الخارج بكل ما يحيط
الصفحة 67
به، وبالمؤلف من ظروف وأشياء كالمنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي، ومن خلال ما سبق يمكننا
تقسيم مناهج الدراسة الأدبية إلى قسمين:
أولاً: نظريات دراسة الأدب من الداخل، وتقسم إلى قسمين:
أ- نظريات دراسة الأدب من الداخل (سطحاً):
تنطلق دراسة الأدب من الداخل (سطحاً) من طبيعة الأدب وخصوصيته، ويمكن تلخيص الخصائص العامة لتلك النظريات، في أنها تستمد قواعدها من طبيعة الأدب لا من وظائفه، ومن ثمّ تركز على جماليات الشكل، ومن ثمّ البحث في بناء كل عمل أدبي (قصيدة أو قصة أو مسرحية) بتحليل عناصر هذا البناء كعمل كلي، وتفحص هذه العناصر في علاقاتها المتداخلة مع بعضها البعض، مفترضة أن المعنى يتألف من مواد الشكل: من وزن وصورة ولغة، ومواد المضمون من قيمة ولهجة، كما اهتمت -خاصة الشكلية الروسية - بمشكلة اللغة الشعرية وفهمها، فدرسوا بصفة أساسية الطبقة الصوتية للغة وتناغمات الحروف اللينة والصائتة والقافية وإيقاع النثر والوزن، وكثفوا دراساتهم في مفهوم الصوتيات، وفي ألمانيا اهتموا بدراسة الجملة لغوياً ودراسة الأسلوب كعملية فردية، كما اعتنت نظريات الأدب من الداخل سطحاً بالتفسير البنائي للأعمال الأدبية؛ رغبة في اكتشاف دافع مركزي لرؤية الأديب للعالم، مستخدمين في ذلك علم النحو والأسلوب وعلم المعاني، كما اهتم بعض الدارسين بتحليل القصائد كبنايات من التناقضات والمفارقات، بمعنى التعارضات والغموض وتصالح الأضداد.
ويمكن التطرق إلى ثلاث نظريات من نظريات دراسة الأدب من الداخل سطحاً، وهي (رحماني، 2004) :
كعلم الأصوات وعلم اللسانيات وفقه اللغة أدوات وقواعد،
الصفحة 68
كما أنها تهتم بدلالة الألفاظ وتطورها وعلم الرموز ورمزية التفسير وقد أدى ذلك إلى شرح النصوص الأدبية شرحاً واضحاً، فدرست لغة النصوص بعدّها لغة مُشَكَّلةً تشكيلا جمالياً، وبنية من الإشارات اللفظية، حيث انتهت الدراسات اللغوية بالشكل السابق إلى ما يشبه النظرية التفكيكية.
والحقيقة أن الفرق بين النظريتين كما عبّر عنها سكوت (د. ت) لا يعدو خلافاً داخل أسرة واحدة، فكلاهما مهتم أساساً بتحليل العمل الفني تحليلاً داخلياً مع رفض المسائل الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية والشخصية (السيرة)، على أنها أمور غير وثيقة الصلة بالموضوع، فكلتاهما تصران على دراسة النص دراسة متفحصة، على أن نظرية الوحدة العضوية تهتم بالحبكة والتركيب والنوع الأدبي.
الصفحة 69
الأشكال الفنية تفسر بضرورتها الجمالية، لا بدوافعها الخارجية المأخوذة من الحياة العملية.
وهذه النظريات تنطلق من طبيعة الأدب لتفسرها معتمدة على مرجعية لغوية أساساً، بحيث تعدُّ النص نصاً قبل كل شيء، وتعدّ اللسانيات أساسه، ومن أهم أعلامه دوسيسروجاكسون وبتفيست، وسأعرض لنظرية النص الشعري (الشعرية)، والتي أوجدها جاكسون في أحد فصول كتابه (دراسات في اللسانيات العامة) كما جاء في (المطلق، 1999)، ويعرض الإجابة عن السؤال التالي: ما الذي يجعل من الرسالة الكلامية عملا فنياً؟ وبالتالي متى نحكم على النص أنه أدبي؟ وكيف يمكن أن نتفاعل مع هذا النص. يقول جاكسون: إن الشعرية تتصل بقضايا البيئة اللغوية، مثلما يهتم تحليل الرسم بالبنى التصويرية، وبما أن اللسانيات هي العلم الشامل للبنى اللغوية، كذلك يمكن عدّ الشعرية جزءاً لا يتجزأ من اللسانيات، كما يمكن دراسة اللغة بمختلف تنو عات وظائفها، وقبل التطرق إلى الوظيفة الشعرية أي الرسالة في حد ذاتها (أي النص)، لا بد من تحديد مكانها بين الوظائف الأخرى للغة، فالمرسل يقوم بإرسال رسالة إلى المتلقي، ولكي تكون هذه الرسالة فعَّالة، فهي تقتضي وجود سياق تحيل إليه (يطلق عليه اسم مرجع)، وهذا السياق يمكن للمتلقي إدراكه كلاميا،ً أو من شأنه أن يتحول إلى كلام، وبعد ذلك يتحول إلى شيفرة مرمزة مشتركة بين الطرفين كلياً أو جزئياً، وتقتضي هذه الرسالة أن يكون بين الطرفين تماس أي قناة مادية، وثمة ترابط نفسي بين هذين الطرفين، وهذا التماس يسمح بإدامة عملية التواصل، ويدرس جاكسون النص الأدبي من خلال نظرته إلى وظائف اللغة ومنها:
الانطباع المنفعل لدى المرسل بصرف النظر عن حقيقة هذا
الصفحة 70
الانطباع أو اصطناعياته، أي ننظر إلى لغة الرسالة (أي النص) من حيث إشاراتها، واستخدامها الرموز، أو من حيث كونها عامة.
أ- الاختيار: استخدام لفظ محدد للدلالة على مدلول معين.
ب- التركيب: محور الكتابة أو الموضع، وتناوله بأساليب لغوية مختلفة.
ويعرض السيد ( 1998) عناصر تحليل النص الشعري عند جاكبسون، التي تقوم على جانبين كبيرين هما:
أ- الجانب الشكلي: 1. هندسة القصيدة. 2.ائتلاف الكلمات في نوع حروفها. 3-الصيغ المستخدمة وخصائصها. 4. المظاهر النحوية. 5. العلاقات البلاغية.
ب-الجانب الدلالي: 1. إفادات كلمات النص ودلالاتها والبنية الصوتية وتواتر الحروف. 2-علاقة النص بغيره من النصوص. 3-صلات مقاطع النص فيما بينهما. 4.نظام القصيدة ومدى انفتاحه أو انغلاقه ومدى تدرجه بين الأمرين. 5-دور الصورة الشعرية في عملية الخلق الفني. 6-العلاقة بين جانبي النص الشكلاني والدلالي.
الصفحة 71
ب-نظريات دراسة الأدب من الداخل عمقاً (المضمون)
ويشمل المنهج الأخلاقي، ومنهج الإنسانية الجديدة، والمنهج الإسلامي، والمنهج الموضوعاتي.
وهي منهج يعنى بالأثر الذي يتركه الأدب في المجتمع، وفي نفسيات الأفراد وسلوكياتهم ووعيهم بصفة عامة، فالنظريات الخلقية هي تلك التي ترى أن الأدب جزء مساهم في فعالية فئة اجتماعية، ثمّ تُقَيِّمُهُ وتشرحه بالرجوع إلى تلك الفئة، غير أن الفئة الاجتماعية جزء من كلية اجتماعية، وعلى النظرية الخلقية إن وسعت تحليلها توسيعاً كافياً أن تقيم الأدب بالرجوع إلى تلك الكلية الاجتماعية.
فالمنهج الأخلاقي كما وضحه رحماني ( 2004) مجموعة من القواعد الأخلاقية الخاصة التي إذا استخدمها الدارس في دراسة النص الأدبي، مكنته من الوقوف على الأثر الذي يحدثه النص في المتلقي بعدِّه قدوة ونموذجاً.
ويرى غراهام أن النظرية الأخلاقية تحدد للدراسة الأدبية ثلاثة مبادئ ومقاييس أساسية يعتمدها الدارس للحكم على النص الأدبي هي:
الصفحة 72
ينسجم الفن مع الحياة وكيف يتصل بخبرة البشرية.
ويمكن نقد المنهج الخلقي في كونه معيارياً، لذا فإنه يهمل الواقع الاجتماعي، مما يفتح المجال للمنهج النفسي، ويقلل من اهتمامه بشكل النص وبنيته الجمالية، مما يفتح المجال للمنهج الجمالي واللغوي والبنيوي والأسلوبي، كما أهملت عنصراً هاماً كما بين رحماني (2004) يتمثل في مبدأ الرعاية الربانية بالوحي، الذي ينقل للإنسانية تجارب بشرية عن طريق القصص، كما هو الحال في قصة إبليس وآدم وقصة يوسف عليه السلام.
وتنطلق من أن الأدب نقد للحياة، موضوعه الإنسان، مما يستوجب تحليل الإنسان وفق متطلبات أساسية، وهي كونه عاقلاً ومسؤولاً وأخلاقياً وصاحب ميول، وتقوم على قواعد هي الترتيب والتقييد والنظام، وتحلل الجماليات الأدبية بعدّها وسائل التشويق، لتحقيق الغاية الخلقية وتهذيب الإنسان. وتستمد هذه النظرية قواعدها من الدين، وقد رأى بعض الدارسين أنها تحولت بعد ميلادها إلى إنسانية دينية ثمّ إلى الإنسانية المسيحية، فقد تمثلت آراؤها المختلفة في ضرورة التحالف بين الدين والأخلاق وضرورة الاعتراف بقداسة القوى الغيبية في سبيل المعايير الأخلاقية التي يواجه بها الفن، وتوصلوا أخيرا إلى دمج مبررات المعتقد الديني مع المعايير الأخلاقية المزكاة (رحماني، 2004).
تنبثق النظرية الأدبية الإسلامية من رؤية فنية خاصة للعالم تؤدي وظيفتها عن طريق جمالها، ويتميز حسها النقدي بتضافر الحس الجمالي مع الحس الأخلاقي،
الصفحة 73
والبحث عن طبيعة الأدب بالبحث في وظيفته، لصياغة نموذج كامل للحياة، فدراسة الأدب من الوجهة الإسلامية دراسة أخلاقية عقدية وفنية في الوقت نفسه، ومن الطبيعي أن تكون له خصوصيته التي نادى بها كبار النقاد والمبدعين المهتمين بقضايا هذه النظرية قديماً مثل الأمدي، وحديثا أبو الحسن الندوي مؤسس رابطة الأدب الإسلامي، وسيد قطب في كتابه "النقد الأدبي أصوله ومناهجه"، ولاسيما الفصل المتضمن لمقال بعنوان "منهج الأدب الإسلامي" ونجيب الكيلاني وعماد الدين خليل ومصطفى عليان وغيرهم. ومن المعايير التي يعتمدها المنهج الإسلامي في تحليل الأدب وتفسير ظواهره الجمالية والأخلاقية (قطب، 1983):
الصفحة 74
يستوجب أمرين: أولهما تفسير الأحداث تفسيراً دينياً سليماً، بعيدا عن مفهوم الصدفة والاعتباط والعشوائية، وثانيهما التركيز على مبدأ الوضوح، لذا فهو يعد الأدب الغامض والمبهم ضرباً من الشذوذ، فالأدب الإسلامي ملتزم إزاء القيم التي يحملها التصور، الذي يعد مرجعيته، ولكن ذلك لا يعني إهدار القيم الفنية.
ج- رسالة الأديب الانتصار للحق والفضيلة والنبل، وذلك بتعزيز مبدأ القدوة، متجلياً في البطولات القصصية، أو في قصيده مدح أو رثاء، ومحاربة الرذيلة بكل أصنافها، محاربة فنية عن طريق تعزيز مبدأ "التحذيرات" ليعطي العبرة في بعدها الجمالي الممتع والمؤثر.
الصفحة 75
كما أن الأدب الإسلامي أدب منفتح، لأنه لا يمانع من الاستناد إلى الآداب المحلية التي تشكل تراث أمة ما، ليستفيد من خصائص طبيعة اللون الأدبي الذي يكتبه، ما دامت منسجمة في اتجاهاتها وتفاصيلها مع حركة الكون والإنسان الإيجابية في سبيل الحق والعدل الأزليين، وفي إطار الجمال المبدع، بعيدا عن الكذب والتزييف والتناقض (خليل، 1987)، فهو أدب مرن يتسع لكل النظريات الأدبية ويزيد عليها.
ثانياً: مناهج دراسة الأدب من الخارج
وهي عبارة عن المناهج التي تتجه في قراءتها للأدب قراءة تمتد خارج العمل الأدبي وتقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- المنهج النفسي
وهو قراءة الأدب قراءة تمتد خلف سطحه الظاهري لتغوص عن طريق اللغة والخيال إلى أعماق النفس المبدعة، ويستمد هذا المنهج أسسه من علم النفس، ويمكن تعريفه بأنه "مجموعة من القواعد المستنبطة من علم النفس والمنتظمة والمتسقة، بحيث إذا وظفت في تفسير النص الأدبي وتحليله بطريقة سليمة أدت إلى نتائج سليمة في تفسير الأدب، لا من حيث الوظيفة النفسية له فقط، ولكن من جهة اللغة والخيال أيضا، بحثاً عن حقيقة النص الكامنة في اللاشعور عن طريق تأويل عمل الأديب في اللغة والخيال (رحماني، 2004)، وفي هذا يقول ويلك ( 1981) قد نعني باصطلاح "سيكولوجية الأدب" الدراسة النفسية للكاتب بوصفه نموذجاً وفرداً أو دراسة عملية الإبداع، أو دراسة النماذج والقوانين النفسية التي توجد في الأعمال الأدبية أو دراسة آثار الأدب على قرائه (سيكولوجية الجمهور).
وقد ارتبط هذا المنهج باسم فرويد صاحب نظرية التحليل النفساني، وتلميذه يونج، وحمل هذا الاتجاه مورون وايفور ريتشارد، فهو منهج يستخدم آثار
الصفحة 76
الطفولة لكشف محتويات اللاشعور التي يفسر بها النص، فالنص يحتوي على معنى سطحي، ومعنى عميق مكمنه في اللاشعور، حيث يقوم بدراسة شخصية الأديب وتاريخها بوصفها أحد العوامل التي تتدخل في الإبداع الأدبي (السعافين، 1994، السيد، 1998).
وهكذا يصبح النص الأدبي عبارة عن مخزن من المكبوتات اللاشعورية التي تصلح للتدليل على الحياة اللاشعورية للأديب. ومن الجدير بالذكر أن هذا المنهج له إرهاصات قديمة تعود إلى أرسطو الذي قال بفكرة التطهير الشعري، أي أن الشعر يستثير عاطفتي الخوف والشفقة على نحو رمزي، وقد وجه نقد شديد للمنهج النفساني من قبل العديد من النقاد والمفكرين.
ب- المنهج التاريخي أو الاجتماعي
وقد انطلق هذا المنهج من مفهوم مفاده أن الأدب تعبير عن المجتمع، وآخر يرى أن الأدب نقد للحياة، وثالث ينص على أن الأدب يمثل الحياة، والحياة بأوسع مقاييسها حقيقة اجتماعية واقعة، ويستمد المنهج التاريخي شرعيته من أن أصالة سوسيولوجية الأدب تعود إلى أنها تقيم علاقات بين المجتمع، وبين العمل الأدبي وتصفها، فالمجتمع سابق في وجوده على العمل الأدبي؛ لأن الكاتب مشروط به؛ يعكسه، ويعبر عنه، ويسعى إلى تغييره، ويطرح المنهج التاريخي عدة جوانب وهي (رحماني، 2004):
الصفحة 77
لأراء الكتّاب. وقد تطور هذا المنهج في الغرب نتيجة توليفة غربية بين نظريات النص والنظريات الاجتماعية، مما أدى إلى دراسة جديدة تهتم بسوسيولوجية النص من زاوية ما تصفه بالفن، وبعضها ينص على عدم فصل أثر المضمون عن أثر الشكل.
وقد سجل هذا المنهج ملاحظات كثيرة يذكر منها اهتمامه بعناصر تفسير النص تفسيراً تاريخياً واجتماعياً، مما أدى إلى انكبابه على تفسير المضمون وإهمال الشكل الفني، وأيضاً الاستقراء الناقص والأحكام الجازمة، والتعميم العلمي كتعميم نظرية دارون في البحث الأدبي متجاهلين طبيعة الأدب، وكذلك نسيان أن الأدب ليس دائماً تسجيلاً للواقع المعاش أو الماضي، ولكنه تسجيل للآمال والأشواق المستقبلية، والرغبات المكنونة في النفس الفردية أو الجماعية.
ج. المنهج التكويني أو التكوينية النصية
ويكمن هذا المنهج في فكرتين: أن العمل الأدبي عند اكتماله، من المفترض أن يظل حصيلة عملية تكونه، كما أنه يحاول الإجابة عن سؤال: هل هناك شعرية خاصة بالمخطوطات الإبداعية وشعرية خاصة بالنص (تادييه، 1993)، أي شعرية ينهض باكتشافها المنهج التكويني من خلال المسودات، وشعرية ينهض بالكشف عنها النقد الأدبي في النص المطبوع.
الصفحة 78
فالمنهج التكويني يبحث في العملية الإبداعية في حال نشوئها وتطورها في مجال الإبداع، حتى تخرج إلى الوجود، وعندئذٍ، ومن هذه اللحظة تخرج من المجال التكويني لما قبل النص، وتدخل في تاريخ النص، فهو إذن يمازج مرحلة ما قبل النص ليدرس مصادر العمل الأدبي، ثم يعمل على تحليل المسودات، ليصل إلى رؤية نهائية لما قبل النص، ثمّ ينتقل ليقابل مرحلة النص بما قبل النص ليحدد موضع الشعرية بالضبط، ومن ثمّ يمكننا من أن نستخلص من هذا التقصي بعض المؤشرات المتعلقة بعبقرية وذوق الكاتب، وعلى مزاج ووساوس الفنان (تادييه، 1993).
ومن خلال ما سبق نلاحظ أن المناهج السابقة تنقسم إلى قسمين، قسم ينطلق من طبيعة الأدب، وقسم ينطلق من مبدأ الوظيفة الأدبية، ولا شك أن النظريات التي تنطلق من طبيعة الأدب ستنصب على ما به يكتسب ا لأدب أدبيته، دون أن تنسى أن القدرة على التأثير ترجع أساساً إلى صفات في طبيعة الأدب، مما يجعل العلاقة بين دور الطبيعة والوظيفة متكاملتين، بحيث من يتقصى عما وضع له الأدب يسعى إلى إتمام استقصائه بالتحرك صوب الداخل باتجاه المركز؛ ليسأل: ما الأدب؟ ومن يتقصى عن الأدب يسعى إلى إتمام استقصائه بالتحرك صوب الخارج باتجاه شمول التجربة الإنسانية، ليسأل: لأي شيء وضع الأدب؟ وتلك علاقة ديالكيتيكية، ولا بد أن تكون النتيجة تركيباً يمكن بواسطته أن نناقش في المحاور نفسها، وبعبارة متطابقة كلاً من جوهر الأدب ووظيفته.
فالقارئ في مناهج دراسة الأدب، يجد أن هناك تداخلا وقدراً مركزياً مشتركاً، ذلك أنها جميعاً تقوم على النظر في مادة واحدة هي "الأدب"، كما أنها تستعين بوسائل متقاربة في دراسة الأدب (السعافين، 1993).
الصفحة 79
وعليه ظهر منهج يجمع جميع المناهج الحديثة التي أشير إليها، وهو المنهج التكاملي، وهو منهج لا ينظر إلى العمل الأدبي من زاوية محددة وإنما يتناول العمل الأدبي من جميع زواياه، ويتناول صاحبه كذلك، بجانب تناوله للبيئة والتاريخ، فهو لا يغفل القيم الفنية الخالصة، ولا يعرفها في غمار البحوث التاريخية أو الدراسات النفسية.
ومن الدراسات العربية التي عنيت بالمنهاج، المتكامل في قراءة الأدب، ما وضعه السعافين وآخرون ( 1993) تحت عنوان "وحدات في مناهج تحليل النص الأدبي"، وكتاب "في الأدب العربي وفنونه"، وتعد تلك الوحدات وقفات تفصيلية تطبيقية لمناهج نقدية مختلفة جمعت بين النظرية والتطبيق، والانتفاع بالمناهج النقدية المتنوعة في التعامل مع النص الأدبي الواحد؛ من أهمها: المنهج النفسي والاجتماعي والواقعي والبنيوي والتكاملي، والمادة التعليمية لهذه الوحدات تصدر عن أساس منهجي عام هو: أن الأدب يمثل إنجازا إبداعيا، وأنه يستمد مقوماته من وعي شامل لموقع الإنسان في النسيج الاجتماعي وحركة الحياة، وموقفه المبدئي في هذا السياق الاجتماعي الإنساني المركب.
أما فيما يختص بالدراسات التربوية العربية التي تشير إلى طريقة أو أسلوب ما، في دراسة النصوص الأدبية، فقد تعرض القلداري (1996) من خلال دراسته للتذوق الأدبي إلى بعض النشاط الإيجابي الذي يظهر في سلوك المتعلم، ليدل على حسن تذوقه الأدبي أو تمكنه من التذوق الأدبي، ومن ذلك النشاط؛ إدراك الوحدة العضوية في العمل الأدبي، وما بين أفكاره من ترابط، واختيار العنوان المعبر عن فكرة الأديب وأحاسيسه، وإدراك مدى قدرة العمل الأدبي على نقل التجربة بصدق ومدى التلاؤم بين الفكرة والصياغة، و إدراك مدى نجاح الشاعر أو الأديب في تناول المحسنات، ومدى فهم الرمز وتفسيره، واختيار أقرب الأبيات
الصفحة 80
معنى إلى بيت معين، ومكانة القصيدة من تراث الشاعر، وتحديد القيم التي تشيع في القصيدة، وترتيب الأبيات والقصائد بحسب جودتها، واكتشاف القصور الموجود في الأبيات.
كما ركّز مكي ( 1986) على معطيات النص الأدبي وما ينبغي تناوله، حيث يرى أن القصد من شرح النص الأدبي، هو التثبت بدقة مما يقوله النص، والطريقة التي عبَّر بها عن الأفكار الواردة فيه، فالدراسة تأتي بلغة نقد المضمون والشكل والمحتوى والصورة، أو كما تقول العرب المعنى واللفظ، والقصد من المضمون: الأفكار والمشاعر والنظريات وغيرها، وما يتضمنه العمل الأدبي، ويقصد بالشكل: الكلمات والتراكيب التي تعبر عن المعنى، فالمعنى هو الروح والألفاظ هي الصورة التي تحتويه، وشرح النص ليس تدريباً على قواعد النحو.
فعند شرح النص تلعب معارفنا ومواهبنا دوراً هاماً، وتسهم في الشرح دون أن تنفرد به واحدة، كما لا يصح أن يستخدم النص لاستعراض معارفنا، أو الحديث عن أشياء لا تلقي أي ضوء على الفقرة التي نحللها أو نوضحها، فعند شرح النص يجب أن نعرف كل الأشياء عنه، وألا تستأثر بنا قضية واحدة، أما عن مراحل تحليل النص فهي: فهم النص، وتحديد مكانه بين الإبداع العام لكاتبه، وتحديد موضوعه، ودراسة البناء الداخلي).
أما عند دراسة البناء الداخلي، فإننا نحاول أن نصل ما أمكن إلى الأجزاء التي يتكون منها النص، ويقوم عليها، حيث نقسم الموضوع إلى فقرات على ألا نكثر، كيلا نذهب بوحدة النص مع مراعاة أن النص المدرسي مستلٌّ من نص أكبر على الأغلب. فعند تحليل الشكل ننطلق من الموضوع، ويقصد بالشكل هنا الكلمات والقواعد التي تحكم النص، وبناء جمله بأنواعها المختلفة "نحوية وبلاغية وصرفية وعروضية؛ لأنّ العلاقة وطيدة بين الموضوع والشكل، وبين الأفكار
الصفحة 81
والقالب الذي اختاره المؤلف، حيث القواعد الأساسية في الشرح: أن يكون الموضوع وقالبه وحدة متماسكة، فلا نحكم على الألفاظ مستقلة، ولا على الأفكار مجردة، وإنما على الألفاظ في تعبيرها عن الفكرة بعينها، وعن الفكرة من خلال هذه الألفاظ، وهذا ما يحرص عليه النقد الحديث ونلتقي بأصوله في تراثنا عند كبار البلاغيين العرب وبخاصة عند الجرجانيين: عبد القاهر، والقاضي علي بن عبد العزيز، وفي هذا الكلام نوع من الدعوة إلى ضرورة قول الرأي واضحاً ومتواضعاً بعيداً عن الصيغ المحفوظة.
أما فيصل ( 1986) فقد قام بدراسة مناهج البحث، والطرائق التي غلبت على الدراسات الأدبية والنظريات التي تتحكم فيها، واقتصر على مناهج الأدب الواقعية والمتخيلة والمطبقة والمفروضة، وخصوصية أدبنا العربي الذي لا يستجيب استجابة كاملة – كما يرى - لأنماط الدراسة في الآداب الأخرى، ولا يقاس عليها، كما تعرض الباحث إلى بناء مناهج الأدب وفق النظريات الآتية: المدرسية، الفنون الأدبية، وخصائص الجنس، والثقافات، والمذاهب الفنية، وعليه فقد اقترح منهجاً جديداً يدعو إلى قسمة الشعراء والأدباء إلى مدارس ومذاهب، لا قسمة عصور وفنون، مؤكداً ضرورة التعمق في دراسة كل نموذج من النماذج الفردية، والنفاذ إلى جوها الداخلي العميق، وضرورة تعاون النظريات السابقة كافة، والانتقال من الفرد إلى العام، ومن الجزئي إلى الكلي، فالدراسة الفردية هي أصل البنيان الأدبي، وعلى مقدار ما عند الأفراد من تقا رب، وتجاوب تتكون المدرسة، فيدرس الأديب والشاعر في كل أوضاعه وألوانه، ويحاط بكل مظاهره وصوره، ويتم التعمق في عوالمه الداخلية وترصد أحاسيسه كلها فنفرح لفرحه، ونألم مع آلامه، فنفهم الأدب الذي صدر عنه أقوى الفهم، ونتمرس به أقوى التمرس، فنكشف عن الروح التي سادته والمثل الذي أظلته والآفاق التي كان يعيش فيها ويتقلب في مطاويها، ونحدد مكان
الصفحة 82
الشاعر في العالم الفني، وندل على سمته، ونرسم منحاها البياني، ونحدد مدرسته الفنية، ونلاحظ التفاعل بين أفراد المدرسة الواحدة والتأثير المتبادل، عندها يستطيع أصحاب النظريات الأخرى أن يكشفوا الصلات بين هذه المدارس والأقاليم والعصور والثقافات، وعندها يمتحنون مدى صحة نظرياتهم.
أما انعكاسات المناهج الحديثة في تدريس الأدب في الغرب، فقد استطاع الباحث مطلق (1999) من خلال العودة إلى بعض مناهج الأدب في المدارس الإنكليزية، تعرف الطرائق العامة المتبعة في دراسة النص الأدبي للمناهج اللغوية الإنجليزية منها:
أولا: المقدمات، وذلك من خلال:
1-دراسة الضجة والفاعلية في النص الأدبي. 2- دراسة الكلمات السارة والسعيدة، والكلمات الكريهة. 3- الحب والكراهية في النص الأدبي. 4- دراسة المقاطع. 5- دراسة تجديد المصطلحات أوتحسينها.
ثانياً: الفاعلية اللفظية:
ثالث اً: الأنشطة الإيمائية:
تمثيل المدرس لقصة النص الأدبي. 2- اختيار مجموعة تحدد أحداث النص وتمثلها، وتأتي مجموعة تخمينات للمقطع المقصود أو الحادثة الممثلة. 3- تحديد كلمات تُمثَّل فردياً أو جماعياً، ويقدم الطلبة الآخرون تخمينا حولها.
رابعاً: خارج المسرح أو على هامش النص الأدبي:
إن الهدف من هذه الفاعلية هو سبر عالم النص، وبيان مدى مشابهته للعالم الخارجي مع الإشارة أو التنويه للمتعلمين، أن هناك شخصيات في الحياة غير تلك الموجودة
الصفحة 83
في النص، على أن يقوم الطلبة بعد ذلك بالتعليق على شخصيات النص شفهيا أو كتابيا.
خامساً: الأنشطة القرائية:
سادس اً: نشاطات إملائية:
سابع اً: أنشطة خاصة بمفردات النص:
1-عرض النص مع كلمات ناقصة. 2- قيام المدرس بوضع كلمات بديلة عن الأصلية ويقوم الطلبة بتحديد التغيير الطارئ. 3- عرض النص مع الحذف كما في السابق. 4- اختيار عنوان جديد من بين مجموعة من العناوين.
ثامناً: الأنشطة المرئية (البصرية):
1- قيام المجموعات الصغيرة بالبحث عن صورة فوتوغرافية، أو صورة عادية مناسبة للنص. 2- قيام المجموعات الصغيرة بالبحث عن صورة فوتوغرافية، أو عادية لتكون عنواناً للنص. 3- بعد القراءة يتم تحديد أهم الشخصيات، ووضع الصور التي تتطابق معها.
تاسعاً: الأنشطة الكتابية:
1- قراءة النص قبل الدراسة، ثم قيام المجموعات الصفية بتحديد خمسة أو ستة
الصفحة 84
أسئلة، يقوم المدرس أو المجموعات الصفية بالإجابة عنها. 2- محاولة المجموعات الصفية المتقدمة كتابة نص مماثل.
عاشراً: أنشطة المحاكاة:
والمقصود هنا الاستفادة من مضمون النص، وما يتضمنه من قيم وخبرات في مواقف الحياة العملية.
أما دراسة النص الأدبي المدرسي في المدارس الفرنسية فهي حسب منهاج الأدب والنصوص للصف الأول الثانوي (مطلق، 1999):
أولاً: الأسئلة العامة:
1-ما نوع النص؟ 2- من المتكلم؟.3- من شخصيات النص؟ 4- متى؟ وما المقصود من الأفعال؟ 5-أين؟ 6- كيف؟
أ- أي المفردات اختار الأديب؟ معجمية أم عادية أم سائدة أم متنوعة؟
ب-أي لغة؟ مؤثرة أم عامية أم فصيحة؟
ج-ما الصور البيانية؟ ما البديع؟
ثانياً: الأسئلة الخاصة بالقصيدة:
1- ما واقع الانسجام الصوتي في النص (الجناس، السجع)؟
2- ما البحر العروضي للنص (الإيقاع، أو الوزن)؟
3- كيف جاء تنظيم المقاطع؟ (القوافي، الشكل الثابت)؟
ثم يفصِّل الكاتب في مسالة الانسجام الصوتي، من حيث تكرار الأحرف الصوتية والساكنة، وفي العروض يتحدث عن عناصر العروض من حيث المقاطع اللفظية، والشكل والموسيقى، وتتالي الحركات والوقفات، أما في تنظيم المقاطع، فيتحدث عن صفات القافية، من حيث الفقر والكفاية والغنى، والصوتية ونوعها مذكر أم مؤنث؟ أما شكل القصيدة، فيشير إلى ثباته وتضمنه ثلاثة أدوار متساوية،
الصفحة 85
ودوراً أقصر مع لازمة في آخر كل دور.
ثانيا: دراسة الجملة:
من حيث محتواها، وأسلوب صوغها ومفرداتها، وفيما إذا كان لهذه المفردات أكثر من معنى، أوله مترادفات، واختلاف المترادفات، وتشابه الجمل مع الاخت لاف بالمعنى، والطباق في اللفظة والتركيب، والاشتقاق في الكلمة، ثم يعرض الكتاب: أربع درجات أو مراتب عند دراسة النص الأدبي هي:
1- مخطط تركيب الأصوات (المصوتات).
2- المخطط الإيقاعي (القياس، البيت الشعري).
3- المخطط النحوي (بناء الجمل).
4- المخطط المعنوي.
أما منهاج الصف الثاني الثانوي في المدرسة الفرنسية فقد جاءت دراسة النص الأدبي بشكل عام فيه على النحو الآتي:
أولا: الأنشطة التي تسبق القراءة والشرح:
1- معرفة الكاتب. 2- عنوان النص. 3- عصره. 4- مناسبته أو سبب كتابته.
ثانياً: قراءة النص وتحديد المقاطع وإيجادها، وبيان دورها الإخباري، ودلالتها الرمزية.
ثالثاً: الشرح الأدبي:
1- المقدمة وتتناول النص الأدبي وشكله وعدد أبياته.
2- الشرح الأدبي على أن يتم تجنب التلميح أو الإشارة غير الدقيقة، بالاستناد إلى الاستشهاد من خلال دراسة الفواصل، والأبعاد لدراسة المفردات بالمترادفات وتسيم الجمل، وتقريب معانيها، ومقارنتها مع تراكيب أديب آخر، ودراسة البيت الشعري من حيث وحدة الشكل، ووحدة المعنى والتناسق بين الأبيات والوحدة القواعدية،
الصفحة 86
ودراسة القوافي ونوعها واختلافها، ونوع القافية: مذكرة، مؤنثة، قافية صوتية، قافية ساكنة، وتتالي القوافي المذكرة والمؤنثة، مما يعطي نظامية الشعر التقليدي، فيما يمكن استبدال القوافي الصوتية أو الساكنة في الشعر الحديث، ودراسة نوع القافية من حيث الكفاية والغنى والفقر، ود راسة إطار البيت الشعري (الإيقاع)، من حيث تتابع كثافة التواتر الصوتي الذي يلفت الانتباه في آخر مقاطع الكلمات، أو القافية، ودراسة الصور البيانية والبديعية.
لقد بدا أن التربويين والباحثين كانوا يدورون في حلقة مفرغة، فالتشيع لطريقة دون سواها، والتركيز على نقطة معينة أغفل كثيراً من الأبعاد الأخرى فالزمان وحده لا ينهض مبررا قويا دون المكان، وأثر البيئة، ودراسة الفنون والتركيز على التقسيمات والأنواع الأدبية أفقد الدراسة الأدبية المتعة الذهنية التي يعول عليها-كثيرا- التربويون لتقديم الأدب للتلاميذ، بصورة محببة وقريبة من النفوس، ليكون لها الأثر الكافي لتعديل السلوك المطلوب وتعزيز جوانب التذوق الأدبي والإحساس بالجمال.
فمناهج الأدب كما أشار مصطفى ( 1995) قد أخذت منهاج التكامل، وجاء المنهج في صورة متكاملة ومتنوعة، يزاوج بين الأنواع الأدبية، ويأخذ من التاريخ ما يدعم النص، فيعرف الطالب جو النص ومناسبته وأثر البيئة فيه، والحقيقة أن منهاج التكامل يحتاج إلى أكثر من هذا، فما زالت بعض الأفكار غامضة حول الأساس الذي يتم على أساسه فهرسة الكتاب، ووضع نص بعينه إلى جانب نص من فن آخر.
ومن الجدير بالذكر أن ثمة توازيا بين الحركات التربوية والحركات الأدبية، فالحركة المثالية في التربية توازي نظرية المحاكاة، والتربية الطبيعية التي حمل لواءها روسو توازي نظرية التعبير في الأدب حيث أن كل منهما يرمى إلى عدم مجابهة
الصفحة 87
المجتمع والسلبية بالانضواء تحت أحضان الطبيعة، أما نظرية الفن للفن، فقد نمت وترعرعت في ظل الفلسفة المثالية وتبنى أصحابها بحماسة النتائج التي توصل إليها علم النفس التحليلي، وانطلقوا من مبدأ الفن للفن، الذي جعل الجمال هدفه الأول، كما رفض أصحاب نظرية الفن للفن الاجتماعي الموضوعات الاجتماعية والسياسية.
وفيما بعد أسهم التقدم العلمي في انتصار الفلسفة الوضعية الشديدة الصلة بالواقع، فبرزت نظرية الانعكاس في الأدب وأصبح الأدب محرضاً اجتماعياً هادفاً، ومن هنا نلحظ مدى مواكبة التربية للأدب وللتطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية للمجتمعات.
وبعد هذا الاستعراض، فيجب تأكيد فكرتين في صميم نظرية الأدب، الأولى: خلاصتها أن النص الأدبي الجيد لا يسعه البتة أن يكون له وجود إلا إذا أقام نوعا من أنواع التوازن بين الخيال والواقع، بحيث لا يطغى أي من الطرفين على الآخر فينحيه جانبا أو يرغمه على الضمور أو الاضمحلال، فإذا ضمر الخيالي، وطغى الواقعي، فإن النص يصبح عرضة للدخول إلى واقعية فجة لا يسعها أن تنطوي على غير التسطح الساذج العديم القيمة، وإذا أفرط الخيالي في الطغيان فضمر الواقعي أو اضمحل، فإن النص لابد له أن يتحول إلى بنية جوفاء أو إلى لغة ناشفة وفقيرة إلى الروح التي هي قوام الأشياء الحية كلها.
أما الفكرة الثانية: فخلاصتها أن نظرية الأدب التي يجب أن تؤطرها النصوص الأدبية في مناهج اللغة الع ربية ينبغي لها أن تكون معيارية (ترسيخ الأسس الكفيلة بإنجاز المعيار الصالح لاستصدار حكم القيمة الناضج، وهو أعلى وظائف الدراسة الأدبية، وأبعد غاياته وأسمى فاعلاته)، ولكي تكون النظرية المعيارية فإن من واجبات مناهج اللغة العربية أن تخضع المتعلم لنصوص أدبية يستخلص منها تعريفا
الصفحة 88
للأدب يصلح لتأسيس المعيار نفسه، كأن يقول: بأن الأدب كلام مكتوب، ومن ماهيته أن يؤثر في شعور من يتلقاه تأثيراً إيجابيا عميقا، وبذلك تصير القدرة على التأثير هي المعيار الذي يدشن كل نص أدبي في المنهاج، أما الفعل الآخر الجدير بالاحترام فأن يتم تناول النصوص الأدبية ودراستها بتصور خاص ومؤسس على قيم علمية محددة تؤمن بإبداع المتعلم ومساهمته في تشكيل رؤيته بعيدا عن أي توجيه مسبق، أي تصور يتأسس على قيم إبداعية ونقدية، وذلك بأن يتم تناول النصوص بالتأويل واستبصار نوايا النص ومضمراته.
المبحث الثاني: توجهات بيداغوجية لنظرية الأدب
إن نظرية الأدب التي يجب أن تؤطرها النصوص الأدبية في مناهج اللغة العربية ينبغي لهان يكون قوامها التكامل والامتزاج بين طبيعة الأدب ووظيفته (الأدبية والجمالية)، فاللغة العربية والأدب منها خاصة على مختلف أنواعه، لا يتعلم لذاته فقط، وإنما لغيره، فهو علم لا بدّ أن يؤدي إلى قراءة القرآن، وفهم مضامينه وتعاليمه، إضافة إلى الاطلاع على الثقافة العربية الإسلامية بإبراز الجوانب الإيجابية في تراثنا العربي الإسلامي؛ بغية معرفة المتعلمين لماضيهم، وفهم حاضرهم، وتكوين رؤيتهم للمستقبل، وتعميق فهمهم لذواتهم، وهي بذلك تتوجه إلى لله عز وجل، فهي تتحدث به، وتعمل على مساعدة صاحبها على معرفة لله عز وجل، ونيل رضاه، وهذا المفهوم للأدب مرتبط بنظرية المعرفة في هذا العصر والذي يمكن القول من خلاله أن الأدب مؤسسة معرفية تتأسس على نظرية المعرفة في عصرنا، وتعدّ أهم سُبل اكتساب المعرفة؛ هي التي تجعل من المتعلم متمدناً، مثقفا ممتلكا للمعرفة، مبتكراً، منتجا لها، وتعمل على تهذيبه، وتساعده على الوصول إلى معرفة الكون والعالم، تمهيدا لمعرفة نفسه، في طريقه إلى معرفة لله عز وجل.
الصفحة 89
وما دام الأدب مرتبطاً بالمعرفة، فهو الذي يحكم موضوع الأدب وطبيعته وهدفه، كما يحكم أنواعه، ويربط بينها، فعلى مناهج اللغة العربية تقديم مختلف أنواع المعارف، والتي ترتبط بتقديم نماذج أدبية تنسجم ومفهوم الأدب وهدفه، داعية إلى تفعيل مصادر معرفية متعددة، لتشمل جميع مناحي الحياة من وسائل إعلام ومسرح ومصادر إلكترونية متعددة.
ومن الجدير بالذكر وجوب استثمار مناهج اللغة العربية الإمكانات التي تنتجها تكنولوجيا المعلومات، وعلى رأسها "الحاسوب" في التأسيس لما يمكن أن نسميه النظرية الأدبية المعاصرة، التي تتوجه إلى "السمة التفاعلية" للنص الإلكتروني، الذي تجاوز فيه النص بُعده التقليدي المطبوع إلى نصوص ذات طبيعة صوتية أو صورية أو غيرها، مما يترك الباب مفتوحا وواسعا للتفكير في الإفادات الكثيرة للنص الإلكتروني في مجال نظرية الأدب في المنهاج، حتى يتمكن المتعلم من بناء فهم يستوعب النقلة الهائلة التي تمت على مستوى التكوين النوعي للنصوص، والتحول من الصيغ الشفوية إلى الإلكترونية، المقترنة بالحاسوب، والتي لا تتيح فقط التحرك بين وصيغ الترابط النصوص اللفظية، ولكن أيضاً الانتقال بين العلاقات غير اللفظية مثل الصوت، والصورة و الخارطة، واللوحة، والصورة الحية والمتحركة.
ومن هنا يشكل "التفاعل" قاعدة الوعي الجديدة "ببنية النصوص" وبوظائف الأدب وبقيم المتعلم، وهي السمة التي تجعل من الترابط في الوسائل معبراً إلى التفاعل في بناء المعنى، صحيح أن الأنواع التعبيرية من شعر وقصة ورواية ومقال تبقى محكومة بضوابطها الأسلوبية المأثورة في النصوص المكتوبة، بيد أنها تكتسب تدريجياً قيماً ومؤثرات بصرية وصوتية، تجعل من وجودها الجديد، رهينا من جهة بجهاز الحاسوب، ومرتبطا من جهة ثانية باختيارات المتعلم وتفصيلاته الأدبية،
الصفحة 90
وسرعان ما طفا على السطح تسميات جديدة من قبيل الرواية التفاعلية والمسرح التفاعلي (يقطين، 2005).
وعليه فان على مناهج اللغة العربية أن تؤسس لنظرية أدبية تأسيساً معرفياً أكثر شمولاً للولوج إلى هذا العالم الخصب في علاقاته بالأدب، وفي ذلك ركيزة لما ينبغي أن تكون عليه نظرية الأدب في التصور والممارسة؛ لتضطلع هذه اللغة العربية بدورها في الدخول إلى العصر، والتأثير ضمن باقي الثقافات والتواصل معها والتوسع في الأدب ليسجل تجارب إنسانية أخرى، وترجمته هذا الموقف في مناهج اللغة العربية، إذ إن الإنتاج الثقافي والمعرفي عامة والأدبي خاصة ذو بعد إنساني، يتفاوت بتفاوت التجارب والأمم، وتلك التجارب لا بدّ لها من "التأثير والتأثر"، وهذا الموقف من المعرفة موقف يستبعد مفهوم "المحاكاة" ليحل محله مفهوم "التفاعل الأدبي"، الذي هو جوهر نظرية الأدب المعاصرة، وهذا يعني أن المنهاج يحاول أن يضع (الأنا العربية) في مقابل (الآخر) دون إحساس بالضعة والانهزام، وبدون إشهار سلاح الرفض الجاهز، بل يقدم رؤية منفتحة تقدر إنجاز الآخر، الذي أفاد بدوره من "الأنا العربية" في فترة من الفترات.
كما أن على مناهج اللغة العربية الإعلاء من شأن الوظيفة الأدبية، وفي ذلك دعوة لمؤلفي مناهج اللغة العربية للبحث في الأدب عن نصوص تحقق أفضل الوسائل المعرفية والبلاغية التي تمكنهم من إيجاد المتعة والفائدة والتأثير الأفضل في المتعلم، وفي ذلك وجوب دراستها وتحليلها وفق طبيعة الأدب ووظيفته، مما يزيد من قدرة المتعلم على الملاحظة والتحليل، بشكل يعزز فهم النصوص الأدبية وتذوقها، وتحقيقاً للوظيفة الأدبية المعرفية والجمالية.
وعليه يجب أن تقوم النصوص الأدبية في مناهج اللغة العربية على طبيعة للأدب، محورها عرض بعض النماذج من مجموع النتاج الذي عرفته الحضارة
الصفحة 91
العربية حتى يومنا هذا، ويمكن أن يوزع على ثلاثة أصناف: نماذج من مؤلفات أدبية وشعرية أو نثرية، ونماذج من العلوم الإنسانية والدينية، ونماذج من مؤلفات علمية بحتة، على أن الصنف الثالث يستبعد تماما من التصنيف الأدبي؛ كون التمييز بين الأدب وغير الأدب عند المختصين هو الاستخدام الجمالي للغة، الذي يساعد على إتقان اللغة وتنمية الذوق الجمالي كما يغني الذهن ويقدم له مختلف أنواع التجارب والخبرات الأدبية.
فتلك النصوص هي أدوات تمكن متعلمها من إتقان اللغة، وهو إتقان ضروري لجودة التعبير بها ولفهم النصوص العربية، وهو مفهوم ناتج بسبب فساد الذوق اللغوي واضمحلال القدرة على استخدام اللغة السليمة من قبل غالبية الطلبة، وهو بهذا مفهوم علمي نفعي يرى في الأدب أداة لتعليم الناشئة علوم اللغة بغية إجادة التعبير وإظهار ما في النفس من معانٍ، وهو بهذا ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود منه ثمرته وهي الإجادة لمهارات الاتصال الأربع (الاستماع، القراءة، المحادثة، الكتابة) وهو مفهوم يتفق في نظرته إلى طبيعة الأدب ووظيفته كما جسدته نظرية الأدب الإسلامية، إذ إنه لا يرى من الأدب فعالية إبداعية صادرة عن المرسل( المؤلف، الكاتب)، وإنما هو معرفة تراكمية تجمع أفضل ما قيل من نظم ونثر، فموضوعات هذه النصوص والمنهج المتبع في عرضها يجسدان عمليا مجموع الدلالات السابقة، ويمكننا أن نلحظ أن النماذج الأدبية الإسلامية جميعها تسعى إلى تقديم ثقافة لغوية وتاريخية واجتماعية ودينية وسياسية، تهدف أساسا إلى التهذيب وتقديم مختلف أنواع المعارف، وهذا ما يجعل مفهوم الأدب الذي تعكسه يتمثل في معظم المعارف المتوفرة في كل المجالات المعرفية والاجتماعية والسياسية، وبهذا فنظرية الأدب في النصوص الأدبية، ترى في الأدب مجموع النتاج الذي يجعل من المتعلم قادرا على إتقان اللغة، مثقفا ممتلكا للمعرفة، مبتكرا لها، يمتلك ثقافة أدبية ومعرفية في المجالات
الصفحة 92
المختلفة، أي أن تلك النماذج تمثل أداة أدب معرفي يمكن أن نسميه أدبا تقنيا معرفيا.
فنظرية الأدب في النصوص الأدبية يجب أن تقوم على معرفة تراكمية تجمع أفضل ما قيل من نظم ونثر، وبهذا أصبح الأدب يدرس كمادة ليس لذاتها، وإنما أصبحت مادة تدرس لغيرها كمحور تدور في فلكه الزوايا اللغوية والبلاغية؛ ليكون وسيلة لفهم اللغة وإتقانها. فتدريس الأدب وفق تعليم منظم، يستهدف تنمية شخصية الفرد، ويسهل تفتح طاقاته الفكرية والوجدانية والعلمية، كما يرمي إلى تكوين شخصية المتعلم تكوينا يمكنه من التفاعل والتكيف مع المجتمع، ومن العمل على تطويره، وبهذا فهو يستجيب لهذه الغايات التي ت رمي إليها التربية المعاصرة؛ فهو يتعامل مع النص الأدبي قراءة وإنتاجا، أما المعارف الضرورية لتيسير عملية قراءة النص وكتابته فيتوصل المتعلم إليها بنفسه، ويستنبطها بواسطة مجهود النظر والتحليل الذي يقوم به هو نفسه بمساعدة المعلم إزاء النص الأدبي، فهو بذلك يتخذ من النص مجالا تتكون فيه مهارات الطلبة اللغوية والعقلية التي مازالت في مرحلة التشكل، ولم يُتخذ النص كمجال لتعليم اللغة فقط أو لتدريس التاريخ والنظريات الأدبية والآراء النقدية، وإنما يتم اتخاذه كميدان للتعلم يتقصى فيه الطلبة مكوناته الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية، وخصائصه التصويرية، والأفكار والمضامين وآثاره، ولم يتم اتخاذه مبررا لحشو أذهان الطلبة بعدد من المعارف الجديدة المجردة.
والحقيقة أن تعلم الطلبة لقراءة النص وكتابته، ينبغي أن يتم من منظور تكاملي يزاوج بين البعد التاريخي والاجتماعي للنص، والبعد الجمالي الفكري له أيضا، بحيث يمحص المتعلم بنيات النص ويحلل مكوناته ويتأمل قضاياه وعناصره المتشابكة، وفي ذلك انسجام ووسائل نظرية الأدب (نشأة الأدب) في زيادة إمكانات تدريس الأدب وربطه بصاحب النص، ووجوه انعكاسها على النص
الصفحة 93
وملامح العصر التي يحملها، إضافة إلى أن بيئة النص تفسر بعض ملامحه، كما أن للتيارات الثقافية في البيئة التي قيل فيها النص آثارا بارزة في النص، وهو ما ينسجم وما افترضه بوك ( 1993) من ضرورة إلقاء الضوء على عصر النص، والاستفادة القصوى من المعلومات السابقة عند الطلبة حول الأديب وانعكاساتها على النص، والتركيز على عرض المحتوى التاريخي والثقافي للنص، والتي يستحضرها المتعلم عند قراءة النص، كونها تشكل عاملا من عوامل فهمه وتحليله، ووسيلة من وسائل نظرية الأدب لزيادة إمكانات تدريس الأدب، وفعاليته وفهمه، وعليه فيجب تأكيد ضرورة العناية بنشأة النص كمحور أساسي من محاور نظرية الأدب، التي تسهم بشكل فاعل ومنسجم في فهم الأدب وفاعلية تدريسه، وجعله أكثر إمتاعاً وحيوية.
فغالبية النصوص الأدبية العربية قامت على تقديم مختلف أنواع المعارف، فاختيار النص يجب أن يكون مراعياً لحاجات نفسية واجتماعية عند المتعلمين، فاختيار النصوص يجب أن يستند إلى دراسة متخصصة من علماء النفس والاجتماع، ووفق دراسة مسحية لحاجات الطلبة النفسية والاجتماعية، وعلى ضوء هذه المعرفة تحدد النصوص الأدبية التي تملأ نفس المتعلم حقا، ورب نص كان مغمورا بالأمس يصبح اليوم ذا أهمية خاصة.
فتفضيل معظم الطلبة لأنواع أدبية محددة دون غيرها، كالقصة القصيرة والمسرحيات وموضوعات فكاهية هادفة تأخذ شكل القصة أو الشعر القصصي، تعبر عن موضوعات تمدهم بالمعرفة الحقيقيةة بذواتهم وبمشكلات الواقع والأحداث الجارية على المستوى الوطني والدولي. فلا بد من طرح موضوعات اجتماعية تمس التغيرات التي يتعرضون لها كمراهقين، كبناء العلاقات الاجتماعية، والثقة بالنفس، وهو ما يتفق ودراسة ماكنايت ( 2002 ) ودراسة أولجير( 2002 )، اللتين أكدتا دورالأدب القصصي في توجيه سلوك الإنسان، الذي ينسجم وميول الطلبة
الصفحة 94
وتفاعلهم مع منهاج الأدب، بالإضافة إلى ما أكدته دراسة بوك ( 1993) من أن قارئ النص يجب أن يحس بما يقرأ، وما أكدته دراسة بنتون (1984) أيضا من ضرورة تنوع الأشعار بحيث تناسب الطلبة.
وعليه، فالحرص على أن تكون جميع النصوص الواردة في مناهج اللغة العربية من ذوات الأساليب الرفيعة سُنّة محمودة يجب الحرص عليها؛ لما تحققه من فائدة تعليمية وتربوية، فالأعمال الأدبية المتصفة بالأسلوب الرفيع وبراعة التأليف، وجمال العرض يمكن أن تعد قيمة جمالية، فالأدب بوسائله التعبيرية الفنية يقوم بالتعبير الجمالي كما يقوم بمهمة تعميق الإحساس بالحياة والخبرة، وهو بهذا يدل على المعاني الخلقية والتربوية والجمالية، ويحث على إعمال العقل والعاطفة معا، وبهذا فإن على الجهات المسئولة أن نأخذ بمنهج واضح يفصل بين ما يصلح أساسا لتعليمه للطلبة، وما لا يصلح أساسا لتعليمه، بحيث يأخذ هذا المنهج بمعايير الوظيفة الأدبية المتمثلة في المتعة والفائدة.
فالأدب ممتع ومفيد والعلاقة بين الفائدة والمتعة علاقة ديالكتيكية تعبر بالضرورة عن المطابقة بين جوهر الأدب ووظيفته، إذ لا بد للنصوص الأدبية أن تقدم نصوصاً ذات طابع فكري وجمالي، فالأول منطقي قائم على الذكاء، والثاني إبداعي قائم على الخيال، والخيال ملمح جمالي يقود إلى تذوق العمل تذوقا ذا طابع جمالي يفضي بصاحبه إلى تقدير ذلك الشيء تقديرا جماليا، وهو ما يؤطر لنظرية أدبية معيارية، ترسخ الأسس الكفيلة لإنجاز المعيار الصالح لاستصدار حكم القيمة الناضج، فالأخذ بمفهوم الجمال والتشديد على أهمية الأسلوب بوصفه الأساس الأول لكل أدب عظيم يستجيب لحاجات صميمية في النفس وذات قيمة جمالية، وهو ما افتقرت إليه النصوص العلمية في كتابي مهارات الاتصال، وأثبتته مقابلات المعلمين والطلبة، فالنص الذي نريد ضمن رؤية تتفق ونظرية الأدب في الوثيقة، هو
الصفحة 95
النص الذي يمتلك أفقاً معرفياً فنياً وفكرياً وجمالياً، وليس النص المكشوف الجاف، فالنص الذي يستقطب اهتمام المتعلم هو الذي يفجر طاقات تعبيرية هائلة ويشكل مصدرا ثرياً للشعرية والجمال، ومصدرا ثرياً للفكر والمعرفة، وهذا يتفق وما ذهبت إليه دراسة روزاريو (2001)، التي خلصت إلى أن الطلبة يحاكون الأنواع المعبرة، ويتذوقون جماليات النصوص التي تتناغم مع أذواقهم وعواطفهم وقدراتهم على التخيل والتعبير؛ مما يمكنهم من التفاعل معها وفهمها، أما تلك الجافة والمعقدة، التي تحدّ من قدراتهم التعبيرية والتخيلية فإنهم يعزفون عنها، مما ينعكس سلبياً على ذائقيتهم الأدبية وإحساسهم الجمالي الشاعري فيها.
ومن جهة أخرى، ينبغي عرض مختلف أصناف النصوص بقصد تمثلها وإنتاجها؛ لأن الحياة العملية ستجبر طلبتنا لا محالة على ذلك، كالنصوص الحجاجية (المناظرة)، وأعتقد أن هذا هو الذي يفسر كون طلبتنا لا يحسنون التعليل التعليق؛ فالنصوص الواردة في مناهج اللغة العربية في جلها نصوص وصفية.
أما ما يمكن وضعه ضمن إطار العلاقة بين الأدب القومي والأدب العام والأدب المقارن، وحرصا على إبراز الجوانب الإيجابية في عرض نماذج مترجمة من الأدب العالمي، فإنه لا بد من إبراز غنى الأدب القومي وتأثيره وتأثره، والأهم من ذلك أن نلفت أنظار الناشئة إلى تراثهم العريق، ونوجه المفتونين بالآداب الأجنبية إلى ما في آدابهم من ثراء ونبل وصدق وشموخ، فإن عرض مثل تلك النصوص لا بد أن يبرز ثراء الأدب القومي، وفضله على الآداب الأجنبية، ويبث روح الأصالة والاعتزاز بالتراث في نفوس الناشئة ويحثهم على الإبداع.
وإذا تم الاتفاق على ذلك، فإن عرض مثل تلك النصوص، لا بد وأن ينسجم مع هذه الأهداف، وذلك من خلال عرض نماذج قصصية وشعرية من الأدب العربي، يتبعها نماذج مترجمة من الآداب الأجنبية متأثرة بتلك النماذج العربية، أو
الصفحة 96
مؤثرة فيها، وندع للتلاميذ فرصة تأمل هذه النماذج وتلك، ليتبينوا وجه الاتفاق والاختلاف، ثم يتدخل المعلم تدخلا يسيرا مبرزا دور الأدب العربي في التأثير على بعض الآداب الأجنبية أو تأثره بها أحياناً، ولكن بعد هضمها، وحفاظه على شخصيته العربية، وذلك دون الدخول في تفصيلات ما يسمى بالأدب المقارن وعوامل التأثير والت أثر، وما إلى ذلك من بحوث تفصيلية يرجى درسها في مراحل أخرى متقدمة، ومن الجدير بالذكر أن متعلمي المرحلة الأساسية العليا يتميزون بخصائص القدرة على إدراك العلاقات الزمانية والمكانية، والتشابه والتضاد، والتفكير الناقد، والتفكير المجرد، كما يستطيعون التقويم وملاحظة الفروق، وفي هذه المرحلة يمكن تنمية هذا الاتجاه مع التوسع في إبراز فضل الأدب العربي على الآداب الأجنبية في العصور الوسطى.
وفي ذلك انسجام مع ما ذهبت إليه نظرية الأدب، ورسالتها الأدبية التفاعلية، ضمن رؤية تنمي الولاء للأدب العربي، ومقاومة الشعور بالنقص، وما في ذلك من غنى في إبراز الأدب العربي وأصالته وتفوقه وإنسانيته، ولما فيه أيضا من تأسيس وإبراز لعلم له أهمية بالنسبة للآداب القومية بعامة، وللأدب العربي بخاصة؛ وهو الأدب المقارن كأحد مفردات نظرية الأدب؛ لأنه يميط اللثام عن وجه هذا الأدب المشرق الذي احتفظ بقوامه وشخصيته وثقافته عندما تأثر بغيره من الآداب والثقافات، وأكد ثراءه وغناه وإنسانيته وتفوقه عندما أثر في غيره من الآداب.
أما دراسة النصوص فلا بد فيها من إتباع منهجية تستند إلى إبراز مميزات ومواصفات النوع، إذ إن استحضار مميزات النوع الأدبي وإمكاناته، لا بد أن يبنى على منهجية تستند على الملاحظة والوصف والاستنتاج، بحيث يقوم المتعلم باستقراء عدد من النصوص وملاحظتها والخروج بجماليات النوع ومكوناته في
الصفحة 97
النص تقويما وتأويلا. فقيام المتعلم باستقراء عدد من النصوص وملاحظتها تقويما وتأويلا، له أثر في تنظيم ممارسة أدبية تؤطر لتقاليد أدبية محددة يعود إليها المتعلم في فهم أدبي وتقويمي، بحيث يمكن بمقتضاها إمداد المتعلم بالقدرة على التمييز بين الإبداع واللإبداع، وتنمية القدرة القرائية والتحليلية للنص الأدبي لدى المتعلم، والحقيقة أن جملة المعايير (مجموعة التقاليد الأدبية المحددة التي يشكلها المتعلم من خلال استخلاص مميزات ومواصفات النوع الأدبي) تشكل نظرية الأدب فهي تدل على التفكير في شروط الأدب وتعمل جاهدة على تخليص الممارسة الأدبية إبداعاً ونظريةً ونقداً وتاريخاً ورأياً عاماً أدبياً من يقين قد يتلبسها، أو قناعة قد تجمدها، ومن شأن ذلك أن يمد المناهج المدرسية كمؤسسة أدبية فاعلة، بمضاد ينتسب إليها يحد من مخاطر انغلاقها على ذاتها، ويطلعها على السؤال الذي يضمن تطورها وتجديدها من داخلها.
ولكن، ردُّ هذا القول يتمحور حول موقف عملي وتكاملي هو أن دراسة النص في ضوء الوعي بخصوصية النوع تؤدي ثمارا ونتاجا لا تؤديه دراسة النص في ذاته، فهذه عملية مشروعة تماما، بل من طبيعة اللغة أن تتحرك في إطار من التجريد، وفي إطار من طبيعة النوعية، إضافة إلى ذلك ينبغي استحضار مميزات النوع الأدبي وإمكاناته في المرحلة التعليمية، وذلك أن الأساس الذي تبني عليه نظرية الأدب موقفها من الأنواع الأدبية؛ أن الأدب ليس مجرد مجموعات مشتتة من القصائد والملاحم والمقالات والمسرحيات، إنها أنساق، والنوع الأدبي مؤسسة وبإمكان المرء أن يعمل من خلال المؤسسة القائمة (نوع أدبي ما) ويعبر عن نفسه، أو يبتكر مؤسسة جديدة، أو بإمكان المرء أن يلتحق بمؤسسة ما، ثم يعيد تشكيلها بعد ذلك، فبقاء النوع الأدبي واستحضاره لدى المتعلمين، عدا كونها ضرورة جمالية، فهي ضرورة تنظيمية (الغيث، 2003)، وهذا هو الذي يعنينا في دراستنا
الصفحة 98
أكثر حين نفكر في أنواع الأدب (الأنواع الأدبية العربية الأصيلة) التي تتميز بنوع من الخصوصية في ضوء العولمة، فقد دلت الدراسة على تنوع الأنواع الأدبية الواردة في النصوص، وانعدام أخرى عربية أصيلة كالأدب الجغرافي وأدب الرحلات أو المناظرة أو المقامات، فهذه الأنواع العربية الأصيلة تتهددها نزعات التطور، ممثلة بموجات العولمة والثورة التكنولوجية، وإذا ما لم يتم استحضارها في المراحل التعليمية المختلفة فسينتهي بها التهديد إلى الاندثار والاضمحلال، على حين أن استحضارها يعد جهداً واعياً حقيقيةا لتنقيتها وإمدادها بعوامل الحياة المتطورة، بحيث لا تنقطع عن أصولها التاريخية، ولا تتجزأ، وفي ذلك اختيار لنصوص أدبية بطريقة علمية ومنهجية وفق رؤية واضحة المعالم لنظريتنا الأدبية التي نسعى لتأطيرها عند المتعلمين. وعليه فيجب التأكيد على ضرورة إعادة النظر في اختيار النصوص الواردة في منهاج اللغة العربية، بحيث تخضع لدراسة علمية ومنهجية، يراعى فيها مدى تمثيل النص لأدب الأديب أو النظرية التي ينتمي إليها أو الجنس الأدبي الذي يحدده، مع الأخذ بعين الاعتبار الأجناس العربية ذات الجذور الأصيلة كالمناظرة والأدب الجغرافي والخيالي وأدب الرحلات.
ومن ناحية اخرى بيداغوجية تتعلق بالأسلوب المتبع في تدريس النصوص الواردة في مناهج اللغة العربية في مدارسنا، فالطرائق تقليدية في تدريس النصوص الواردة في مناهج اللغة العربية والممارسات البيداغوجية للمعلمين، فهي تصل بين متعلم متلق للأدب، ومعلم مُرْسِلٍ وصلاً لا ينبني على تنمية القدرة القرائية والتحليلية للنص الأدبي، بل ينبني على إحلال الحواجز غير المباشرة محل التعامل المباشر مع النص الأدبي، فيتم اللجوء إلى قراءة النص من خلال المعلم ( قراءة تلقينية (تحصيل معارف)) ويشرع المتعلم في دراسته و تقييمه، ليس تبعا لما يقرأ، بل تبعا لما يلاحظ أو يستنتج وفقا لآراء معلمه تارة، وللكتاب تارة أخرى، وإن حدث
الصفحة 99
أن قرئ، فبقصد تنمية مهارات الاتصال، وليس كنص كل شيء فيه له دلالة، فالمتعلم يدرس الأدب- وبالمفارقة- دون أن يقرأ الأدب، وذلك وصف لممارسة تقليدية ومن هنا فلا بد من تشكيل متعلم يكون رأيه من خلال احتكاكه المباشر بالنصوص، بعيدا عن أي توجيه مسبق، ضمن تصور خاص ومؤسس على قيم علمية محددة، تقوم على أدبية النص (الجانب الشكلي والجمالي في تقويم النصوص الأدبية)، وتحديد قيم ومفاهيم نظرية تطبيقية لمفهوم القيمة الأدبية، فالنص الذي نريده كما أوضح الموسى ( 1991) الذي ورد في المطلق( 1999) ليس نصا جاهزا مغلقاً أحادي البعد والاتجاه، يقدم فائدة، ولا يقدم متعة كافية، ففائدته في غيره من معرفة اجتماعية أو أخلاقية وغيرها، وهو بذلك لا يحتمل تعدد وجوه التفسير، يتحدد بالقراءة وتتحدد القراءة به، بل نص لا نهائي وإشكالي ومتعدد الأبعاد وموضوعه الإحساسات الإنسانية والصراع الدرامي، و لا يمكن شرحه أو وصفه بمعزل عن اللغة، وبذلك نكون قد حققنا قيماً أدبية علمية ضمن مهارات لغوية أربع، تسهم في خلق المتعلم الجديد الذي يكوّن رأيه من خلال احتكاكه المباشر مع النصوص، بتصور خاص ومؤسس على قيم علمية محددة، تؤمن بإبداع المتعلم ومساهمته في تشكيل رؤيته، بعيدا عن أي ت وجيه مسبق من قبل المعلم، أنه تصور يتأسس على قيم الإبداع والخلق.
ومن بين الدراسات التي تشير إلى طريقة في دراسة النصوص الأدبية ومناهج البحث في النصوص، دراسة فيصل ( 1986) الذي اقترح منهجا جديدا يدعو إلى قسمة النصوص إلى مدارس ومذاهب (نظريات أدبية) لا قسمة عصور وأنواع أدبية، بما في ذلك من فهم للأدب، ووقوف على الصلات بين هذه النظريات، وتحديد مكان صاحب النص في العالم الفني وتقييم لمدى صحة تلك النظريات، فهو بذلك تمرس أقوى على فهم الأدب.
الصفحة 100
واخيرا فيجب عدّ المدرسة بيئة تعليمية أدبية تعي الأدب مفهوما وطبيعة ووظيفة، بحيث تؤطر لنظرية أدبية تهتم بالأدب كوسيلة للاستمتاع بجمال الطبيعة والحياة، أو كوسيلة فذة لتهذيب الطلبة لدراسة الحياة الاجتماعية والنفسية، وتوجيههم إلى الغايات النبيلة، وإيقاظ الشعور الوطني فيهم، وتحريك نفوسهم، وإلهاب مشاعرهم.
فنمطية الأسلوب المتبع وتقليديته في مدارسنا، يدل على أن التوجهات البيداغوجية لنظرية الأدب وانعكاساتها التعليمية التعلمية، التي تجمع في انسجام تام بين النظري والتطبيقي لم يتم ترجمتها إلى حقيقة ملموسة، خصوصا فيما يتعلق بحجم مشاركة المتعلم الفعلية والدائمة في فهم النصوص ومقاربتها وتحليلها وملامسة مميزاتها الفنية والفكرية. وهو ما أسلفنا ذكره من ضرورة تأكيد أهمية وجود تقاليد أدبية محددة نعود إليها في فهم الأدب وتقويمه، تقوم على جملة من المعايير، بمقتضاها يتم التمييز بين النص الإبداعي الممتع المفيد، والنص اللاإبداعي، فالأدب عندما يفتقد أدبيته فإنه يفقد حلقات الإيصال والتداول عند المتعلمين، سواء باتخاذه موضوعاً للبحث والتفكير، أو نتاجا يتفاعل معه المتعلمون وبذلك يظل غريبا عن محيطه، عديم الفعل في المتعلمين، فاقداً لأثره القيمي المعرفي في المتعلمين والمجتمع.
إن الأسلوب النمطي المعتمد في تدريس النصوص الأدبية قاصر، لأنه لا يقف بالمتعلم على أدبية النص بما فيه الكفاية، إذ لا يكفي القول بأن هذا النص أو ذاك به مجازات أو كنايات أو محسنات بديعية لنقضي بأدبيته، ذلك أن هذه الظواهر يمكن العثور عليها في الكلام العادي، أو حتى في النصوص الأخرى التي توصف بالأدبية، إضافة إلى افتقار الممارسات التدريسية لضبط النص من حيث كونه نوعا أدبيا، وتحديد مقوماته ومرتكزاته وتقعيد بنياته الدلالية والفنية والوظيفية، من خلال
الصفحة 101
تحليل النصوص وتصنيفها ونمذجتها وتقويمها، ودراستها من خلال سماتها النمطية، ومكوناتها النوعية الجوهرية وخصائصها التجنيسية.
وهذا القول يُحيل إلى ما تعرضت له الباحثة بوك (1993) في دراستها من أن قارئ النص يجب أن يحسّ، أو يُعطي الإحساس بما يقرأ، وعلى معلم النص الأدبي المقروء أن يشجع طلابه على رد ما يقرأ إلى ما هو مألوف وشائع، وأن يقرب النص إلى الخبرات الثقافية عند الطلبة، مع التركيز على عرض المحتوى التاريخي والثقافي للنص، وإلى أي جزء أدبي ينتمي، وتنبه إلى ضرورة العناية بأجزاء النص كافة، وإعطاء كل جزء ما يستحقه من عناية، بحيث يعيد الطلبة بمساعدة معلمهم تركيب النص من جديد، وفي النصوص النثرية نقرأ، أو ندرس الشخصيات وصلاتها بالحبكة، وعند قراءة النص لا بد من قراءة النغمة المناسبة، وسؤال الطلبة عما يتوقعون، وإعادة تشكيل هذه التوقعات، واستخدام المعاجم، والقيام بالتلخيص، ولا بدّ من التركيز على مبادئ المناقشة العامة، والتركيز على التفاعل بين الطالب والنص، وملاحظة تطور الإحساس عنده، والنصيحة الأهم التي تقدمها الباحثة هي ترك الطلبة يحاكمون النص.
كما أكد مالازار الوارد في المطلق ( 1999) ضرورة أن يكون المعلمون شديدي البخل، وعدم تقديم الإجابات الجاهزة على طبق من ذهب بما يشبه الكنز، وأكد ضرورة أن يكافح الطالب ليفهم بعرق جبينه؛ وذلك لعدم قيمة الإجابة إذا جاءت بطريقة سهلة "فما يأتي بسهولة يذهب بسهولة"، بالإضافة إلى تبني مناهج لسانيات النص، التي تسمح للطلبة بأن يؤولوا ويفهموا نصوصاً، وأن ينتجوا هم كذلك نصوصا متقاربة، كما أوضح السيد( 1998)، وهي حقيقة طرائق متبعة في تدريس النص الأدبي في المناهج اللغوية الإنجليزية والفرنسية كما أوضح المطلق (1999).
الصفحة 102
إضافة إلى ذلك ما أكدته دراسة مالكين (1995)، ودراسة فريند (1995)، ودراسة مور ( 1995)، من فعالية دور استخدام وسائل نظرية الأدب في تدريس الأدب ومساعدة الطلبة للتحول العقلي من قراءة النص بطريقة واحدة إلى قراءة النص بعدّة طرائق، وتقديم ذخيرة غنية بطرائق جديدة للقراءة.
كما اقترح ديلانواي الوارد في المطلق ( 1999) أسلوباً لدراسة القصة الأدبية يتمثل في أن يوضع الطالب في الجو العام للقصة أو في بيئة القصة، وتعرف الطالب موضوع القصة، ومن ثم شخصياتها، وتحليل كل شخصية من تلك الشخصيات على حدة، وبعد استعراض أحداث القصة ونهايتها يتم التركيز على اتجاهات القصة الفكرية، وأسلوبها الأدبي الفني مع ضرورة إفساح المجال للطلبة لمناقشة تلك القصة واستخلاص النتائج التي توصل إليها الطلبة بإشراف المعلم ليس غير، مع التركيز على ملاحظة هامة و أساسية هي التوقف على الفهم الأولي لكل طالب بعد قراءة كل قصة.
وفي ذلك يرى بلان الوارد في المطلق ( 1999) ضرورة توجيه الطلبة نحو القراءة المختارة التي تسهم في تربية سلوكية إيجابية، وخاصة قراءة القصص التي تُستخلص منها العبر، التي تسهم في تشكيل الذوق الأدبي، والمساعدة في الحكم على قيمة الأعمال الأدبية المقروءة، وهو ينسجم مع ما ذهب إليه هولت ( 1986)، وتايلر ( 1995) من ضرورة أن تعنى مناهج دراسة النصوص بالطريقة الحوارية، المركزة على عرض النص وفق وجهة نظر المتعلم؛ التي تدفع إلى التحليل العقلاني للكلمة والعبارة والوصول إلى شرح سليم للنص، فهي تعاونية؛ بمعنى أن المعلم والطلبة تحدثوا مع بعضهم بعضا ليكونوا المعاني الأدبية، و تحاورية بمعنى أنها احتوت على آراء وأفكار متناقضة، فباستخدام التفسير الباطني والظاهري للنصوص يتوصل الطلاب والمعلم لإنتاج نص تشعيبي متقن.
الصفحة 103
ومما سبق فيجب أن يحمل المنهاج المكتوب والفعلي رؤية واضحة تجسد نظرية أدبية تقوم على تصور منهجي ومفاهيمي محدد، ينظم الممارسة الأدبية المدرسية، ويحدد مكوناتها، ويوزع أدوارها، وينيط بمختلف الفاعلين مهام محددة، وفق رؤية محددة ومؤطرة وواضحة للأدب، تقوم على جملة من المعايير المحددة التي بمقتضاها يتم التمييز بين الإبداع الحقيقية واللاإبداع (شروط الأدب)، بحيث تخلص الممارسة الأدبية (إبداعاً، نظرية، نقداً، تاريخاً، رأياً عاماً أدبياً) من يقين قد يتلبسها، أو قناعة قد تجمدها، أو إدعاء قد يغشيها.
وهذا يتطلب بناء المنهاج المكتوب على هديٍّ من سمات نظرية الأدب، وأن تصبح نظرية الأدب بأبعادها ومراميها جزءا من إعداد معلمي اللغة العربية، وضرورة إجراء المزيد من الدراسات التي تعنى بالنظرية الأدبية القائمة على "السمة التفاعلية".
كما يجب الاستفادة من المناهج الحديثة والمعاصرة، والدراسات الرائدة، فيما وصلت إليها من مفاهيم أدبية معاصرة كإمداد الطلبة ببحوث حول دراسة النص دراسة أدبية أو توجيههم إليها، والأخذ بنماذج وطرائق جديدة في تحليل النصوص الأدبية، من خلال الاستفادة من التطورات الضخمة التي لحقت بالدراسات الأدبية.
كما يجب ربط النصوص بالخلفيات الوجدانية والنفسية والاجتماعية التي يصدر عنها النص، ويتفاعل معها، ليدفع بها في اتجاهات معينة.
كما يجب اختيار نصوص أدبية إثرائية متنوعة تعالج الأجناس الأدبية ذات الجذور العربية الأصيلة كالأدب الجغرافي والتاريخي والخيالي والمناظرة، وعلى أساس الوظيفة ا لأدبية والجمالية (المتعة والفائدة) التي تسهم في بناء جملة من المعايير والتقاليد الأدبية المحددة، يعود إليها المتعلم في فهم الأدب وتقويمه، والتفكير في
الصفحة 104
شروطه وهي أسمى وظائف نظرية الأدب وتوجيه الطلبة للانتقال من الشفوية إلى الكتابية والإلكترونية؛ مما يفتح فضاءات جديدة للتواصل والإبداع والإنتاج، والمساهمة في التأسيس لنظرية أدبية تعطي المتعلم صفة المساهمة المنتجة، فتتحقق إبداعيته من خلال مساهمته في العملية نفسها.
كما يجب على الجهات المسئولة في وزارة التربية والتعليم الإفادة من نتائج وبحوث ودراسات نظرية الأدب في إعداد المناهج والكتب المدرسية، وفي إعداد المعلمين إعداداً قوامه معايير محددة ضمن تصور منهجي ومفاهيمي محدد للممارسة الأدبية، وعقد المؤتمرات والورش التدريبية والندوات المخصصة بنظرية الأدب ووسائلها البيداغوجية؛ مما يسهم في الاستفادة من إمكانيات نظرية الأدب في تفعيل تدريس الأدب. كما يجب عليهم إعادة النظر في اختيار النصوص الواردة في مناهج اللغة العربية، بحيث تخضع لدراسة علمية ومنهجية، يراعى فيها مدى تمثيل النص لأدب الأديب أو النظرية التي ينتمي إليها أو الجنس الأدبي الذي يحدده، مع الأخذ بعين الاعتبار الأجناس العربية ذات الجذور الأصيلة كالمناظرة والأدب الجغرافي والخيالي وأدب الرحلات.
الصفحة 105
انظر المراجع من الصفحة 115 الى 124
الصفحة 106
التفكير التأملي: البعد الغائب في المنهاج
د. بعاد محمد الخالص
مستشارة تطوير التعليم في مدينة القدس
غدا التفكير التأملي هدفا هاما في برامج تربية المعلمين، وقد شد ديوي الأنظار إليه في كتابه "كيف نفكر"، وفي هذا السياق يشير ديوي إلى أن عملية التفكير التأملي للمعلمين تبدأ عندما يواجهون صعوبة أو مواقف مشكلة أو خبرات لا يمكن حلها فورا، مما يولد لديهم شعورا بعدم الارتياح فيقودهم في خطوة إلى الوراء إلى تحليل تجاربهم، واختبارها ونقدها.
ويعرف ديوي التفكير التأملي بالعمل الذي ينطوي على جملة من الأنشطة المستمرة، التي تتطلب إمعان النظر في الأفكار والتصورات والمعتقدات، أي أنه تبصر للفرد في أعماقه يدفعه إلى تمحيص أعماله وتحليلها وتحليل الأهداف والنواتج والعمليات؛ بغية تطوير التعليم نحو الأفضل.
ومن هنا، فالتأمل لا يتألف من سلسلة من الخطوات أو الإجراءات التي يتوجب على المعلمين استخدامها؛ بل هو عملية منهجية ومنظمة تتضمن فهم المشكلة وتبصرها وتحديدها والسعي إلى حلها. وعليه فالتأمل هو الطريق .(Rodregers,2002الذي يساند المعلمين في أعمالهم ويوضح لهم معنى أن يكونوا معلمين(
وقد ألف العديد من الكتب التي تستصرخ المعلمين للتأمل، وتعددت التعريفات حول التفكير التأملي في خطاب يحدث تناغما بين فكر المعلم وممارساته، وعرف شون التأمل بأنه تطور الوعي الحدسي للفرد عن معرفته المفاهيمية والإجرائية أثناء القيام بالعمل من خلال جملة من التفاعلات في المواقف
الصفحة 107
التعلمية. فهو استقصاء ذهني واعٍ للفرد حول معتقداته وتصوراته ومعرفته وخبراته وفلسفته.
فقد عد التأمل تبصرا في الأعمال يقود إلى تحليل دائم لها، مما أما بولارد يؤدي بالمعلم إلى الانشغال في أعماله وتحليلها وتقييمها تقييما مستمرا، فينجم عنه مراجعة للقرارات التي يتخذها، ليصار به إلى تدبر واع.
وعرف هلفش وسميت التأمل على أنه شطحة غير متوقعة من شطحات الخيال تقود المعلم إلى رؤية حقيقة أعماله وممارساته من خلال التركيز على المشاعر والعواطف والخيال الذي يقود المعلم إلى استشعار ما يقوم به من أعمال عقليا ووجدانيا وحسيا.
ووجه ولسون الأنظار إلى التفكير التأملي، إذ عده عملية عقلية نشطة تشمل أفعالا كثيرة تمتد ما بن الأحلام العادية اليومية إلى حل المشكلات الصعبة التي تعترض المعلمين، ومن خلاله يعمل المعلمون شيئا ذا معنى مستندين إلى الخبرات التي يمرون بها والتجارب التي يغوصون فيها.
أما رومانو فلم يجد سبيلا إلا أن يستنهض همم المعلمين للتأمل ليقودهم إلى مواجهة المواقف التي تعترض طريقهم في أثناء عملية التعليم، وتتطلب منهم اتخاذ قرار فوري حول كيفية التعامل مع المواقف التي تجابههم، وليتسنى ذلك ينبغي إمعان النظر في ما يتعلق بعملية التعلم والتعليم، والبحث عن سبل تطوير التعليم وفق منهج تأملي يصل بالمعلمين إلى البحث والاستقصاء عن استراتيجيات يطورون فيها ممارساتهم استنادا إلى فهم حقيقية لكنْه التأمل، ومقدرة على تحويل التأمل إلى واقع عملي يترجم معاني النمو المهني لديهم.
ومن هنا، فالتفكير التأملي بمثابة رحلة يغوص المعلم من خلالها إلى أعماق ذاته فيسبرغور توجهاته ومعتقداته التربوية، ويجعلها تطفو على السطح لتؤرق
الصفحة 108
نظريته وفلسفته حول التعليم والتعلم، فتتخلخل معتقداته التربوية من خلال نقد صريح لها، ولما انبثق عنها من أفعال وممارسات في حقل التعليم، مما يعني أن المعلم يخوض طريق التغيير والتطوير ليصل من خلال تأمله إلى درجة المعلم الحاذق الذي غدا التأمل فعلا لصيقا به ضمن منهجية علمية وبحث دؤوب.
وعلى هذا، فالتأمل ينير بصيرة المعلمين ويضيء أمامهم الطريق لتحسين ممارساتهم التربوية في عملية ذهنية واعية يدركون من خلالها ما يقومون به من أعمال، من أجل ذلك كله يعد التأمل ضرورة قصوى تتجلى أهميته في ما يأتي:
أولا: يبصر التفكير التأملي المعلم بحقيقة كونه معلماً، ويجعله يقف على أسباب اختيار مهنة
التعليم ووعي أهميتها وقد يطرح المعلم في هذا المجال أسئلة من مثل:
1- لماذا اخترت مهنة التعليم دون غيرها؟
2- هل أنا راض عن عملي؟
3- لو أتيحت لي الفرصة للعمل في مجال آخر هل أترك مهنة التعليم؟
4- ماذا تعني مهنة التعليم بالنسبة لي؟
إن سعي المعلم للإجابة عن هذه الأسئلة يقوده إلى مواجهة ذاته بصراحة في سبب اختيار مهنة التعليم ومدى رضاه عنها، الأمر الذي يدفعه إلى المضي بحثا عن معنى أن يكون معلما، وماهية إلى حاجة المعلمين إلى الجرأة خصائص المعلم الحاذق، ودوره، وقد أشار ليمان والشجاعة في مواجهة أنفسهم بصراحة في ما يتعلق باختيار مهنة التعليم.
ثانيا: يساعد التفكير التأملي المعلم على مراجعة معتقداته التربوية في جلسات المنصة الفكرية التي تطرح فيها الأفكار والتوجهات والمنظورات والتصورات، فيتعرف المعلم في هذه الجلسات إلى حقيقة معتقداته التي تؤثر في ممارساته التعليمية وتنعكس على أدائه في غرفة الصف وعلى فهمه للمتعلمين
الصفحة 109
وطبيعة التعامل معهم. ويشير راث إلى أن المعتقدات تبقى كامنة إلى أن يتم إيقاظها لأنها ترتبط بذات الإنسان ارتباطاً وثيقا مما يجعل من تغييرها مهمة شاقة ومجهدة. وبهذا الصدد يزعم ايزلنج وزملاؤه أن التفكير التأملي هو الذي يستطيع تغيير معتقدات المعلمين من خلال لقاءات النمو المهني والتلمذة المهنية التي تطلق تجارب المعلمين وخبراتهم وتبصرهم بمعتقداتهم.
ثالثا: يقود التفكير التأملي المعلم إلى تعرف الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها لتحديد معالم طريقة للوصول إلى غاياته في عملية التعليم وقد يتساءل:
1- ما الأهداف التي أسعى إلى تحقيقها؟
2- كيف يمكنني تحقيق الأهداف؟
3- ما الأدوار التي ينبغي على القيام بها لتحقيق الأهداف؟
4- أين تقع أهدافي من التوجهات التربوية الحديثة؟
5- كيف يمكنني تحسين أهدافي وتطويرها؟
إن سعي المعلم للتنقيب عن أهدافه قد يرسم خطته في التعليم ويحدد السبل التي توصله إلى تحقيق أهدافه، مما يدفعه إلى مراجعة أهدافه ومقارنتها بالفلسفة التربوية الحديثة، ولربما يصوغ أهدافا تؤدي إلى تحسين تعلم طلبته، وإلى تطوير مهارات التفكير العليا لديهم، وتطوير قدراتهم على البحث والاستقصاء وهذا يعني أن المعلم يسهم في تطوير عملية التعليم برمتها.
رابعا: يؤدي التفكير التأملي وفق ما أشار إليه ماتشت في نموه المهني، ومقدرته على تقييم ذاته المهنية وتطويرها، فتنساب أسئلة تتعلق بهذا الإطار من مثل:
1- هل أنا مستعد للانخراط في برامج تقويم المعلمين؟
2- هل لدي الجرأة لتقييم عملي ونقده بصراحة؟
الصفحة 110
3- هل أنا موافق على الانضمام إلى برامج النمو المهني؟
4- هل لدي الاستعداد والقابلية للتغيير والتجديد؟
إذا كانت إجابة المعلم عن الأسئلة بالقبول، فان هذا يعني أنه مستعد ليكون معلما متأملا، وهذا بدوره يقوده إلى تعرف نقاط القوة والضعف لديه، ويساعده على الإفصاح عن احتياجاته من النمو المهني مما يولد لديه دافعا للتواصل مع أقرانه ومرشديه في حلقات التأمل الذاتي والحوار التأملي فيتولد لديهم خطة للتطوير المهني يكون المعلم شريكاً في وضعها وتطويرها.
خامساً: يساعد التفكير التأملي المعلم في كشف الغطاء عن مفهومه للمعرفة والنظرية التربوية التي يتبناها، وللتوجه التربوي الذي ينطلق منه في عمله، فقد يعتقد المعلم أنه يتبنى ت وجهاً حديثاً في التعليم من منطلق النظرية البنائية؛ التي تسمح للمتعلم بأن يبنى خبراته وأنماط تفكيره من خلال سلسة من التفاعلات في أجواء تسمح له بالتجريب والاستقصاء، بيد أن ممارسات المعلم تنبئ عن توجه تقليدي يعد المتعلم مستقبلا للمعلومات التي يقدمها له بوصفه مالكا للمعرفة وذلك وفق التعليم البنكي الذي أشار إليه فريري في كتابه تعليم المقهورين، ومن هنا، فالمعلم بحاجة إلى تأمل يضيء بصيرته ويسلط الضوء على ما يقوم به من ممارسات في حقل التعليم ويجعله يختبر ممارساته ويحاكمها استنادا إلى التوجه التربوي البنائي.
سادساً: يثمن التفكير التأملي علاقة المعلم بطلبته ويعلي من شان علاقة ايجابية تبادلية تعطي للمتعلم فرصا للتعبير عن مشاعره وأفكاره، ذلك لأن التفكير التأملي يجعل المعلم يراجع ممارساته في ما يتعلق بعلاقته مع طلبته ونوعية هذا العلاقة ونوعية الخطاب السائد في غرفة الصف ودورالطلبة ودور المعلم في عملية التعلم، فيعاين مشاعر طلبته وأفكارهم وما يختلج في نفوسهم وقد ينقب على ما يشعر به
الصفحة 111
طلبته ويجعلهم يفصحون عن توجهاتهم وأفكارهم عبر جلسات الحوار المستمرة، فتصبح الغرفة الصفية لديهم بمثابة لوحة فنية تعج بالتفاعلات، فيبني الطلبة ومعلمهم عملية التعلم وتتشكل لديهم جملة من المعاني التي ولدوها أثناء عملية التفاعل، وتكتمل اللوحة الفنية حين يلتفت المعلم إلى احتياجات طلبته وميولهم وتفضيلاتهم وخصائصهم فينطلق في عملية التعليم من مكامن قوتهم ليقودهم إلى تطوير ذكاءاتهم المتعددة.
سابعا: يثري التفكير التأملي عبر جلسات الحوار التدبري معرفة المعلمين المهنية، ويزيد من معرفتهم العلمية ومعرفة المحتوى البيداغوجي، إذ يتم في جلسات الحوار التأملي التحاور في ما أنجزت قراءته من الأبحاث والمعارف العلمية والتربوية، فيتعرف المعلم إلى ما هو جديد وإلى خبرات المعلمين في الحقل التربوي، عدا ذلك يؤدي التفكير التأملي إلى تمكين المعلمين في أساليب التعليم، إذ تتاح لهم الفرص لتبادل الحديث حول أساليب مختلفة للتعليم، وتبادل الخبرات والإطلاع على تجارب الآخرين في مجال التعليم، وملاحظة وأنشطة للمعلمين ونقدها والاستفادة منها، إضافة إلى تطوير أساليب التقييم وانتهاج أدوات التقييم الحقيقية التي تلائم أساليب التعليم الحديثة من مثل: السجل القصصي وقوائم التقدير والتقييم الذاتي والابتعاد عن تقييم الورقة والقلم.
ثامناً: يؤدي التفكير التأملي إلى انخراط المعلم في عملية البحث، إذ يشير ماكنف أن البحث الإجرائي شكل من أشكال التأمل يقوم به المعلم بغية تحسين ممارساته، فعبر البحث يسعى المعلم إلى التفكير في صلاحية أساليبه وكفايته في التدريس بغية تقديم أفضل خدمة للطلبة.
ويعد البحث الإجرائي عملية يقوم بها المعلمون بدراسة ممارساتهم لحل المشكلات العملية التي تواجههم في عملهم. وأما مجاله فهو المشكلات العملية اليومية التي يواجهها المعلمون وليس
الصفحة 112
المشكلات التي يطرحها الباحثون المتخصصون في المجالات المعرفية. ومن هنا فالبحث الإجرائي نوع من الاستقصاء التأملي الذي يقوم به المعلمون في مواقف تعليمية، بهدف تحسين ممارساتهم وعقلنتها. (الشيخ، 2006).
تاسعًا: يعلي التفكير التأملي من خلال جلسات الحوار التأملي وكتابة صحائف التأمل وحكايات المعلمين من صوت المعلمين، ويسمح لتجاربهم بالظهور فيؤدي ذلك إلى نموهم المهني، وفي هذا الصدد يشير ديملدير وريجسبي إلى أن صوت المعلمين صوت خافت ويحتاج إلى حوار تدبري ليتمكنوا من التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وتوجهاتهم بصراحة فتتولد لديهم دافعية أكبر نحو الانجاز وتزداد ثقتهم بأنفسهم.
وتعين كتابة التأملات المعلم على التفكير في التعليم، وتطوير معرفته ونظرياته، فالتأمل عملية مستمرة من المعرفة والفهم والتجريب في إطار العمل المهني. يعد الحوار التأملي سبيلاً إلى التطوير المهني للمتعلمين، ويؤكد جين الدور الذي يلعبه الحوار التأملي في مساعدة المعلمين في التعبير عن أنفسهم، ويدعو إلى تطوير مقدرة المعلمين على الحوار التأملي الذي يساعد المعلمين على تطوير عملية التعليم والتعلم داخل صفوفهم، وهذا ما يوصف بتمكين المعلمين.
ويقصد بتمكين المعلمين الوصول إلى حالة نفسية يشعر من خلالها المعلمون بأنهم أكثر مسؤولية، وأكثر سيطرة على أعمالهم، ويتطور هذا التمكين من خلال تعزيز دافعيتهم، ومهنيتهم وثقتهم بأنفسهم واستقلاليتهم وتبادل الخبرات مع الآخرين. ويمكننا القول إن التأمل خير وسيلة تؤدي إلى تمكين المعلمين. وتجدر الإشارة إلى أن دور التأمل لا يقتصر على تمكين المعلمين حسب؛ بل يتعداه إلى إطلاق أصواتهم عبر السماح لهم
الصفحة 113
بالحديث عن تجاربهم في مجال التعليم، ويتطلب ذلك منهم تأملاً عميقاً وناقداً لذواتهم، وانغماساً في إبراز تجاربهم.
وتأسيسا على ما سبق، تعد صحائف التأمل ذات فوائد جمة للمعلمين لأنها تقودهم إلى التنقيب في أعماق ذواتهم، وكسر حواجزها، فتتفتح أذهانهم على أفكارهم وممارساتهم، ما يؤدي إلى تحسينها، وتجويد تعليمهم نحو الأفضل.
وتحدثت باسفورد وتورب عن صحائف التأمل بوصفها إستراتيجية فعالة تشجع على التفكير التأملي والتعلم المستمر، فهي عملية تعلم غنية تحدث للمعلمين أثناء نشاطات التفكير التأملي فتسلط الضوء على خبراتهم ومفاهيمهم ومتعلماتهم، وتساعدهم على ربط ممارساتهم بمعتقداتهم التربوية التي يؤمنون بها، وهم بذلك يقرون بما لديهم من مكامن قوة، ويخضعون تجاربهم للنقد الذاتي والتغيير والتطوير. وفي أثناء عملية كتابة صحائف التأمل قد يحلو لهم طرح أسئلة سابرة من مثل:
وقد يطرح المعلم تساؤلات أخرى عديدة، وأثناء محاولته الإجابة عن أسئلته يستدعي خبراته وتجاربه ويفهم مشكلاته التي تتعلق في التعليم، ويتعرف الوجهات
الصفحة 114
التربوية المختلفة في حقل التعليم من خلال تحليله ممارساته في السياق التربوي، وفهمه لما يحدث داخل غرفة صفه، فيؤدي إلى تطوير ذاته المهنية بوضع خطة لتطوير ذاته.
وتحدث روكسان عن أهمية احتفاظ المعلمين بصحائف التأمل مشيرا إلى أن هذه الصحائف تشجع على التفكير والنقد الذاتي، وتعمل على تطوير المعرفة الذاتية وتجويد الخبرة والممارسة.
والحق أن صحائف التأمل سواء اليومية أم الأسبوعية تقدم للمعلمين فرصا ليستقصوا أفكارهم ومشاعرهم وممارساتهم، فهي تسمح لهم بأن يكسروا قيودا فرضها عليهم العمل اليومي الرتيب، لذا تأتي صحائف التأمل دافعا إلى تحدي ممارساتهم وأفكارهم ومشاعرهم، وقد يلتحمون أحيانا معها. بيد أن صحائف التأمل يعتريها صعوبات جمة، وقد تحدث كاتريلز عن هذه الصعوبات التي تواجه المعلمين أثناء كتابة صحائف التأمل، لما تنطوي عليه من إفصاح كامل عن المشاعر، والاتجاهات والتصو رات، الأمر الذي قد يقلق المعلمين ويشعرهم بالتهديد أحيانا، كما يواجه المعلمون صعوبة في كتابة المذكرات نتيجة نقص الخبرة في هذا النوع من التعبير.
وبقصد حل الإشكالات التي تعتري تجربة المعلم أثناء التأمل، ومساعدته على كتابة تأملاته، ينبغي البحث عمّن يساند المعلم ويرشده في عمله ليعينه على تدبر أفكاره وأعماله ونقدها بكل صراحة وموضوعية ودون شعور بالتهديد. ويتطلب هذا توفير أجواء للمعلمين يعيشون خلالها مع خبرات التفكير التأملي ويمارسون عملياته، وينبغي أن يتم ذلك في بيئة يسودها الأمن والتفهم لكل معلم، من خلال السماح له بالتعبير عن مخاوفه ومشاعره .(Reed,2002) وتفضيلاته واهتمامه واتجاهاته، من خلال إعطائه الوقت ليخط أفكاره في صحائف تأملية
الصفحة 115
تجربة من الحقل التربوي:
رحلة التفكير التأملي:
بدأت العمل في برنامج التفكير التأملي مع أربع معلمات في روضة أطفال في مدينة القدس، وقد دربتهن على برنامج التفكير التأملي من خلال حكايات المعلمين، وكن حالة دراسية عملنا معا خلال سنتين ونصف في رحلة التفكير التأملي التي استمرت بعد انتهاء البحث سنة أخرى، وقد كان جل همنا عبر هذه الرحلة الارتقاء بالذات الإنسانية والارتقاء بالتعليم من منظور تأملي يقود المعلمة إلى وعي ذاتها ووعي معتقداتها التربوية وممارساتها انطلاقا من التفكير المتعمق والتأمل التدبري.
صحائف التأمل زاد الرحلة ومحطتها الأولى:
في بداية البرنامج التدريبي طلبت إلى المعلمات كتابة صحائف التأمل، وقصدت بها أن تخلو كل معلمة مع ذاتها لتخط بيدها ما تعلمته من تجربة المعلمة في الحكاية التي قرأتها أثناء البرنامج التدريبي ودار الحوار حولها. وتدون المعلمة ما استطاعت تطبيقه، وما يختلج في نفسها من أفكار، وما تفيض به نفسها من مشاعر فتعبر عنها في صحائفها، واستجابة لذلك كانت تجلس المعلمة في نهاية اليوم الدراسي وتفكر في سير وقائع اليوم، وتراجع خطتها وما قامت به من أعمال فتسجل تقييمها الذاتي، ثم تحدد الصعوبات التي واجهتها والأفكار التي تخطر ببالها وما تعلمته استناداً إلى تجارب المعلمات في الحكايات.
تحليل صحائف التأمل:
يستأهل الحديث عن بيانات المعلمات في صحائفهن التأملية في البحث النوعي تحليلا روائيا، وقد استخدم التحليل الروائي بقصد وضع البيانات في قالب روائي تسرد فيه الأحداث لتوليد نظرية البحث "النظرية
الصفحة 116
المؤرضة"، فلم تنطلق الدراسة من نظرية مسبقة، بل سارت في طريق تولدت من خلاله نظرية تتعلق بصحائف التأمل ودورها في تغيير معتقدات المعلمة التربوية وممارساتها من منطلق التفكير التأملي والتعليم التأملي الذي يراد بالمعلمة من خلاله أن تكون باحثة إجرائية ومولدة لممارسات جديدة تقودها إلى تعليم أفضل، وأن تكون قادرة أيضا على توليد أنموذج للعمليات التي مرت بها من خلال كتابة صحائف التأمل لتصل بنفسها إلى تغيير معتقداتها التربوية وأفكارها.
الأخلاقيات والثقة في التعامل مع المعلمات في رحلة التفكير التأملي:
تعد كتابة التأملات عملية صعبة ومهمة شاقة لما تنطوي عليه من كشف للأسرار والخبايا في المعتقدات التربوية والممارسات والتوجهات والأفكار، لذا اقتضت أخلاقيات البحث عدم ذكر أي معلومات عن المعلمات تظهر أسماءهن أو مكان عملهن، لتتمكن المعلمة من التعبير بحرية ودون شعور بالتهديد أو الخوف، لذا فإن أسماء المعلمات المذكورة هنا هي أسماء مستعارة وليست حقيقيةة.
المعاناة في كتابة صحائف التأمل:
لم يكن سهلا على المعلمات أن يكتبن التأملات، وقد طرحت كل واحدة جملة من التساؤلات في محاولة للتهرب من هذه المهمة التي عددنها من أصعب المهمات في حياتهن: ماذا أكتب؟ لماذا التأملات؟ اكتبي أنت؟ ما أهمية ذلك؟ وتوالت العبارات الرافضة لكتابة صحائف التأمل، وقادني ذلك إلى البحث عن أسباب رفض المعلمات لكتابة التأملات إذ لم تكن تجربة كتابة صحائف التأمل بالتجربة اليسيرة على المعلمات؛ لأنها تعد شاهداً وحجة على المعلمة وعلى تجاربها وأقوالها ومشاعرها، فهي تخط بيدها كل شيء عن نفسها وتفصح عن مشاعرها ونقاط القوة والضعف لديها، وفي هذا كشف للذات بصراحة مما ينجم عنه شعور لدى المعلمة بالخوف وعدم الثقة. عدا ذلك تتطلب التأملات من المعلمة
الصفحة 117
مهارة في الكتابة والتعبير ومقدرة على وضع أفكارها وتصوراتها وما يختلج في نفسها على الورق وتعبر عنه بكلمات تظهر شخصيتها وفكرها ومعتقداتها وفلسفتها، وكل هذا كفيل بعزوف المعلمة عن كتابة التأملات وإيجاد المبررات التي تبرر لها رفض الكتابة وذلك لأن الكتابة لم تكن بالنسبة للمعلمة خبرة معيشة، فلم تعش مع خبرة الكتابة من صغرها ولم تجرب الكتابة التعبيرية في سني حياتها.
لذا، في بداية الأمر، رفضت المعلمات بشدة كتابة التأملات، وطلبن إعفاءهن بشدة من هذه المهمة التي عددنها شاقة، وعبرت كل معلمة عن رفضها ومبرراتها بطريقتها الخاصة في محاولة للتخلص من الكتابة، في ما يلي سرد لما قالته المعلمات في هذا الصدد:
المعلمة رهام: "عندما طلبت منا أن نكتب التأملات أصبت بصدمة وشعرت أنني اختنق ولم أعرف كيف أتهرب من طلبك، كنت أتمنى أن لا أكتب عن نفسي أو أي شيء. لا أستطيع أن اكتب، الكتابة صعبة على أول ما طلب منا نكتب التأملات تضايقت كثيراً وترددت وما كان واضح لي ماذا أكتب ثم حاولت وكتبت، وكتابة التأملات الأسبوعية واليومية بدفتر التحضير ساعدتني أكتب لكن هي ليست سهلة، لكنها تجعلني أرى نفسي أين".
المعلمة سرين: "أصعب شيء يكتب الإنسان عن نفسه وخاصة معلمة الروضة تحتار ماذا تكتب، والكتابة صعبة ومتعبة".
المعلمة نرمين: "كانت مهمة التأملات مهمة شاقة وصعبة وشعرت بالضيق ولم أعرف ماذا علي أن أفعل وأخذت وقتا طويلا وأنا أحاول أن أكتب وأمزق أوراقي".
المعلمة ريم: "كتابة التأملات أربكتني في البداية ولم تعجبني ولم أعرف ماذا أكتب، لم أكن أحب أن أكتب عن نفسي وعن أي شيء يعنيني. وأول التأملات كنت أحكي ماذا أكتب، وماذا تريد منا، واجهتني قصة الخوف من الكتابة".
الصفحة 118
الانتقال من المعاناة إلى المكاشفة والمسارّة:
لم يكن سهلا أن تخط المعلمة تأملاتها وتكتب عن ذاتها وتصرح بها أمام الآخرين، فليس من ثقافتنا أو تجربتنا في الحياة بشكل عام وفي التعليم بشكل خاص التعبير والكتابة عن ذواتنا، ولم تتأصل فينا تلك الخبرة منذ سني الدراسة فلم تكن بأي حال من الأحوال فعلا ملازما للمعلمة منذ طفولتها. ومن جهة أخرى فإن ثقافة المدارس ورياض الأطفال لا يسودها أجواء الكتابة التأملية للمعلمين؛ فلم تعش المعلمة لحظات تعج بالتأمل والحوار التأملي والصراحة والنقد الذاتي من ذي قبل، ولم تمر بخبرات تقودها إلى نقد ذاتها والإفصاح عنها وكشفها أمام الآخرين وتعريتها، لذا حلت المعاناة والتردد والاغتراب والخوف، واستعصت الكتابة واستعصى على المعلمات الكشف عن ذواتهن وإخراج ما بداخلهن.
وكان لزاما تجاوز الصعوبات والمعاناة من خلال عمل دؤوب لإقناع المعلمات بأهمية كتابة التأملات، ومساندتهن ودعمهن لخوض تجربة الكتابة وكشف الذات والتعبير عنها، وبعد مضي خمسة أشهر من العمل مع المعلمات في رحلة التفكير التأملي خطت كل معلمة تأملاتها، فقامت المعلمات بمحاولات جادة من الكتابة التأملية، وانغمست ثلاث منهن بعد محاولات عديدة في كتابة صحائف تأملية بعمق في خطاب يحدث تناغما بين فكر المعلمة وممارساتها، وهو ضرب من ضروب الخبرة الحقيقيةة التي استهلت بإدراك المعلمة لذاتها المهنية، وفهم لما تؤول إليه ممارساتها ومعرفة بمراميها وغاياتها المستقبلية، إنه طريق ترسم معالمه المعلمة بذاتها حينما ترى صورتها في صحائف تأملها. وبذلك أسرت المعلمات عما يختلج في أنفسهن وانبجست عباراتهن لتظهر أفكارهن وممارساتهن دون شعور بالخوف أو الاغتراب.
الصفحة 119
أما المعلمة الرابعة فبقيت كتابة التأملات بالنسبة إليها مهمة شاقة وصعبة، وتمثلت مكامن الصعوبة لديها في ضيق الوقت وكثرة المشاغل وليس الخوف من الإفصاح عن ذاتها، وطلبت السماح لها بكتابة التأملات وفق ظروفها وأوقاتها، وكان لها ما تريد، وكتبت تأملاتها مرة كل ثلاثة أسابيع وعبرت عن أفكارها وممارساتها. وفي ما يأتي شواهد من التطور الذي حدث للمعلمات على صعيد كتابة التأملات:
المعلمة رهام: "صرت أكتب كثيراً وأعبر حتى دفتري التحضير صرت أكتب فيه تأملاتي عن الأطفال، ولما أعمل نشاط معهم بكتب ردة فعل كل طفل، ومحادثاتهم حتى صرت أقول للأطفال تأملوا صرت أستخدم هذا المصطلح كثيراً في عملي مع الأطفال، بطلت أبكي كنت أبكي كثير على كل شيء بمر معي وأحزن لأي سبب بطلت أبكي صرت أشعر أني أقوى وبطلت أعصب أيضا وصرت أشعر إني إنسانة عندها الكثير لتعطيه وصرت أرتاح لما أكتب خف التوتر عندي وشعرت إني أفضل".
المعلمة سرين: "أقول استفدت أكثر شيء من كتابة مذكرات التأمل أنه صارت تطلع من عندي أشياء أيضا في البيت مع الأولاد، صرت أحكي عن مشاعري ومع أولادي، ما كنت أحكي عن مشاعري، صرت أطلب منهم يحكوا عن مشاعرهم، وهذا يشعرني براحة، في تربيتنا ما كان في مجال نعبر عن مشاعرنا الآن صرت أشعر بالعكس".
المعلمة نرمين: "أدركت أهمية التأملات وعندي أشياء كثيرة أحكي عنها أنا عملت كثير مع الأطفال وبحبهم كثير لكن الكتابة تتطلب وقت، مشكلتي الوحيدة هي الوقت لاني أم وربة بيت ومعلمة ومسؤولياتي كثيرة ويضيع وقت كثير وأنا ما كتبت كل ما أتمنى أن اكتبه".
الصفحة 120
المعلمة ريم: "التأملات مهمة بالنسبة لي وعرفتني بقيمة حالي وقيمة ما أكتب وكانت التأملات بمثابة الطريق لنا جميعا، وأجمل شيء مر معي لما كنا نحكي عن تأملاتنا ونقرأها ونعرف عن أنفسنا أكثر وعن الأطفال وحتى عن البشر وكيف يفكرون، استفدت كثير من هذه الفترة الطويلة والصعبة لكنها حلوة اشتريت دفتر خاص بي ملون وشكله جميل وصرت اكتب عليه ما يخطر ببالي وشيء جميل أن يعرف الإنسان حاله بشكل أفضل وبصراحة صرت اعرف أتفاهم مع كل أنواع الناس هذا إلي التأمل علمني إياه، وأهم شيء أن التأمل عالجنا نفسيا وخفف الضغوطات التي نعيشها".
عمليات تصاحب كتابة صحائف التأمل:
تنص هذه الفكرة على أن المعلمات اللواتي عملت معهن في التفكير التأملي مررن بجملة من العمليات خلال كتابة صحائفهن التأملية، وهي بمثابة دورة تفاعلية تبادلية تبدأ من وصف المعلمة للخبرة التي تمر بها لتصل إلى إعادة بناء ذاتها وممارساتها، وتتمثل العمليات في الآتية:
أولا: الوصف:
يعني في مجال صحائف التأمل وصف المعلمة ممارساتها ومشاعرها وتجاربها وخبراتها وأفكارها والسياق ال تربوي الذي عملت به، فتصوغ عباراتها كما هي من غير تحليل أو تفسير. وأما الأسئلة التي تطرح في هذه العملية فهي:
الصفحة 121
ثانيا: التحليل الناقد:
ويقصد به كتابة التأملات بلغة الناقد الذي يخترق سطور النص ويكشف مضامينه ومراميه، فتكسي المعلمة عباراتها بمقارنات ونقد وتمحيص وتدقيق لذاتها فتميزها عن غيرها من المعلمات الأخريات، وتظهر تجربتها بعينها الناقدة التي تغربل الأفكار والممارسات والتصورات.
وتظهرها بعين الناقد فتقارن بين ممارساتها وأفكارها ومشاعرها.
وتسأل المعلمة أسئلة تنم عن التمحيص والنقد من مثل:
ثالثا: التأويل:
يقصد بالتأويل في مضمار صحائف التأمل إضفاء المعلمة معنى لخبراتها وأفكارها ومشاعرها وعرض أفكارها وممارساتها مع توضيح البواعث وراء ممارساتها، وما يقبع خلفها من معتقدات تربوية ومنظور فكري، وهي بذلك تتوغل في عمق ذاتها، لتجعلها تطفو بصورة جلية.
وفي عملية التأويل تتفاعل المعلمة مع ما تكتب وتتفاوض مع ذاتها فقد تتعاطف معها وتجد مبررا لممارساتها في التعليم فتتحد مع ذاتها ومع أفكارها، وقد تنقدها وتعيد نقدها مرة أخرى، لتخرج من اللغة إلى ما وراء اللغة فتكشف عن ذاتها بطريقة تأويلية.
وتسأل المعلمة أسئلة تقودها إلى التفسير من مثل:
الصفحة 122
رابعا: الاستقصاء:
ويقصد به التبصر الواعي في الخبرة الذي يستحث المعلمة في البحث عن حلول وأبدال حلول للإجابة عن الأسئلة التي تطرحها بهدف توليد معرفة جديدة تنير لها ممارساتها، ومن خلال الاستقصاء تستخدم المعلمة جملة من الإجراءات في البحث عن أفضل السبل لتحسين ممارساتها وتطوير ذاتها مهنيا.
خامسا: الاكتشاف:
عملية عقلية تكشف المعلمة خلالها النقاب عن ذاتها ومشاعرها وأفكارها وممارساتها وتجاربها انطلاقا من وعيها وإدراكها لها وما تقوم به، وقد تكتشف ذاتها بصورة أفضل وقد تكتشف ذوات طلبتها. وفي أثناء عملية الاكتشاف تولد المعلمة معاني للمعالم التي عايشتها في رحلة التأمل، وتسائل نفسها جملة من الأسئلة تبصرها بحقيقتها:
سادسا: إعادة البناء:
يعني تبصر الذات بعين المبتكر لها وللممارسات والتجارب لتولد منها جديدا اكتشفته وابتدعته خلال رحلتها، فالتعلم لدى المعلمة في هذه الرحلة بنائي، إذ قادها إلى بناء ذاتها المهنية لدى معايشتها خبرتها ومزجها بمعتقداتها وفلسفتها وانغماسها في حقل التفاعل الاجتماعي والحوار التأملي والتلمذة المهنية، فأضفت
الصفحة 123
على ممارساتها معانيها الجديدة وخرجت بذات عارفة تلتهم المعرفة وتبحث عن كل ما هو جديد في سبيل تطوير ذاتها المهنية نحو الأفضل والأسمى. وفي هذا السياق تنتقل المعلمة من الوعي التقليدي إلى الوعي النقدي والتأملي الذي يمكنها من تغيير ذاتها، ويقودها إلى التعلم الحقيقية.
وأما الأسئلة التي تطرحها المعلمة فهي:
ويوضح الشكل الآتي عمليات كتابة صحائف التأمل
انظر الشكل الموجود في الصفحة 142 في البدف أعلاه
أنموذج لصحيفة تأمل المعلمة رهام (1):
تعلمت من تجربتي في التأمل إني ما أقف عند نقطة معينة وأن أطور نفسي، صرت أسأل الأطفال ماذا تحبوا أن تفعلوا وصرت آخذ باقتراحات الأطفال لم يكن يهمني أن استمع لاقتراحات الأطفال وان أعمل بها، عندما تنناقش في تأملاتنا كنت أشعر بالخوف من التقصير وإني أكون أقل واحدة تعمل مع الأطفال بشكل إيجابي لكن اكتشفت العكس، اكتشفت إني عندي أشياء كثير إيجابية مثل أن أطفالي ما بتشاجروا بالصف وكل واحد بيقول للثاني أنت صديقي وهذا أفرحني كثير إني استطعت أساعدهم يصادقوا بعض، وأيضا تعلمت إني لا أقف عند هدف معين ممكن أنا وصلت للهدف أشعر أنه قد يكون هنالك أهداف أكثر من خلال أسئلة الأولاد وحتى لا أكون تقليدية صرت أغير أهدافي، وفرحت كثير أن الأطفال صاروا يكتشفوا وحدهم، وضعت بين أيدهم الورود وصاروا يكتشفوا اللون الأحمر والأصفر وضعوا الورد في الماء وصاروا يستخرجوا ألوان وانبسطت أكثر أن الأطفال عندهم إمكانيات يتفاعلوا أكثر ويكتشفو.
وصار الأطفال يدمجون الألعاب مع بعض، وصرت أبحث كثيرا عن أساليب أجعل فيها الأطفال يعملوا بحرية وصرت أسال المرشدة التربوية، وزميلاتي وأقرأ واشتريت كتاب من معرض الكتاب عن تعليم الأطفال، وقبل كل هذا ما كنت أسمح للأطفال يدمجوا الألعاب كنت أخاف يعملوا فوضى في الصف، الآن صرت أسمح لهم يدمجوا الألعاب واكتشفت أن الحرية تنتج إبداع عند الأطفال (1) وبهذا غيرت طريقتي في تعليم الأطفال وغيرت رأيي وفكري، وصرت أحاور الأطفال أكثر وآخذ برأيهم حتى صرت أخيرهم بالألعاب التي يلعبوا بها،
الهوامش:
(1) جاءت الألفاظ العامية في بعض أجزاء هذه الورقة انسجاما مع ما يذهب إليه البحث النوعي من ضرورة رصد ما يقوله أفراد الدراسة من غير تغيير.
الصفحة 124
ووضعت معهم اتفاقية لترتيب الألعاب ووضعها على رف الألعاب. وفي العام القادم بإذن لله سيكون عملي مع الأطفال أفضل لن أضع الألعاب أو أرتبها على الرف سأترك لهم الحرية ليرتبوا الألعاب التي يريدون اللعب بها أولا، وأجعلهم يكتشفون كل لعبة بأنفسهم.
وأيضا صرت ألاحظ أكثر كل حركة بتحركها الأطفال وحتى لمسة يدي على الأطفال صرت انتبه كيف أمسكهم وماذا تعني لهم النظرة ولمسة يدي، يشعروا نحوي لما بنظر لهم نظرة وأنا مبتسمة، صرت أراقب نبرة صوتي وطريقتي في الحديث معهم، واكتشفت أن نبرة صوتي لها تأثير عليهم، وصرت أهتم بالأطفال أكثر وبمشاعرهم وأعترف إني غيرت كثير من نفسي، وأهم شيء إني صرت ما أخجل أو أخاف أحكي عن حالي ومشاعري ونقاط قوتي وضعفي لأني اكتشفت أن المعلمة وخاصة معلمة الأطفال يتوجب عليها تغير كثير من نفسها، وتسعى هي بنفسها إلى تطوير تعليمها.
وقفة أمام صحيفة تأمل المعلمة رهام:
يظهر من تحليل صحيفة تأمل المعلمة رهام أن المعلمة مرت خلال كتابة تأملاتها بجملة من العمليات، فهي وصفت حالها ومشاعرها ووصفت طريقة تعليمها، وحللت ممارساتها وأفعالها وأقوالها، وقارنت بين دورها في السابق ودورها الحالي والتغييرات التي حدثت معها على صعيد تغيير معتقداتها نحو الأطفال، وقدمت تفسيرا وتأويلا لما آل إليه حالها مع الأطفال من حيث طريقة التعامل معهم في مواقف التعلم المختلفة.
وأظهرت المعلمة محاولتها في البحث والاستقصاء عندما أخذت تسأل المرشدة التربوية وزميلاتها وعادت إلى الكتب، وهذا يعني انفتاح المعلمة على التعلم والتطور المهني، وكل هذا يبين التطور الذي حدث للمعلمة في رحلة التفكير
الصفحة 125
التأملي الذي قادها إلى اكتشاف ذاتها المهنية واكتشاف قدرات أطفال صفها والإيمان بها، فقد أدركت أن الأطفال بمقدورهم قيادة تعلمهم حينما تعطى لهم الفرصة لذلك، وأن باستطاعتهم الوصول إلى الإبداع والابتكار إذا أتيحت لهم فرص تعلم تحترم قدراتهم وتترك لهم الحرية للتعلم والاختبار والتجريب.
واكتشفت المعلمة ذاتها بصورة أعمق وعاينتها بعين الناقد الموضوعي، فتداركت أهدافها وأساليبها ووعتها بصورة أكبر، فعاشت تعلما حقيقيةا ساعد في اكتشاف ذاتها مع أطفالها في الروضة، وفي توضيح دورها إزاء تعلمهم ومنحهم الثقة، فتطورت أساليبها وآمنت بحرية الطفل في تدعيم تعلمه، فاستحالت أساليبها احتراما للطفل وتثمينا لحريته ودوره في عملية التعلم، وتركت له الحرية في اللعب والاكتشاف.
وكل ذلك قادها إلى إعادة البناء، بناء برنامجها وممارساتها وتفكيرها ومفاهيمها عن التعلم والتعليم، وبناء ممارساتها التي تنم عن احترام الطفل والأخذ برأيه في التخطيط ووضع الألعاب بين يديه لترك المجال أمامه للبحث العميق لسبر غور تعلمه.
وبهذا أصبحت المعلمة أكثر شفافية في وعي ذاتها ومشاعرها وتأثيرها في الأطفال، وانعكاس تعبيراتها ونغمات صوتها عليهم مما ولد لديها الشعور بالراحة، وهذا يتأتى من خلال إدراك المعلمة لذاتها ومقدرتها على تغييرها لتتمكن من الوصول إلى كل طفل، فاستطاعت أن تصل إلى الأطفال جميعا وبنت برامج عديدة ونوعت من أساليبها.
كما زادت ثقة المعلمة بنفسها وكسرت حواجز الخوف لديها، فأخرجت ما بداخلها وتماهت مع ذاتها وأفكارها وثمنت أهمية التعلم الذاتي لها وللأطفال واعترفت بالتغيير الذي حدث لها خلال رحلة التفكير التأملي، فقد انخرطت في
الصفحة 126
مصاف المعلمين الذين يقودون التغيير بأنفسهم.
عملية التغيير التي واكبت المعلمات الأربع في التفكير التأملي وصحائف التأمل:
سلط التفكير التأملي الضوء على معتقدات المعلمات وممارساتهن، وأنار بصيرتهن تجاه ذواتهن المهنية وتجاربهن، وكل هذا من شأنه أن يقود المعلمة إلى تطوير ذاتها ومفاهيمها ومعتقداته ونظريتها، فقد فحصت نظريتها التربوية التي تبنتها، وطور التأمل لدى المعلمات وعيا ذاتيا فأخذت تبحث كل معلمة عن سبيل لتطوير عملها مع الأطفال وتجويد تعليمها بما يتسق مع التوجه التربوي الحديث الذي ينظر لمعلمة الروضة الحاذقة بوصفها ميسرة لتعلم الأطفال، ودافعة لهم نحو البحث والتجريب. وفي ما يأتي مثال من تأمل معلمة:
المعلمة ريم: "كنت أظن المعلمة الجيدة هي المعلمة التي تعطي معلومات أكثر للأطفال، اكتشفت أن المعلمة الجيدة هي التي تعطي الحرية للأطفال ليتعلموا، كان صعب علي أني أغير هذا لاني كنت دائما أهتم بأن أعطي الأطفال معلومات أكثر حتى في بعض الأوقات لا أسمح لأحد أن يسأل حتى لا يضيع ال وقت، اكتشفت أن الأطفال كانوا مظلومين وصرت أفتش عن طرق جديدة للتعامل مع الأطفال رحلنا جولات وجمعنا مواد كثير وصرنا نتعلم عنها، واستفدت كثير وصرت أخلي الأطفال يبحثوا ويكتشفوا حتى في أنشطة الفن بطلت أقل لهم انتظروا لأريكم ماذا تعملوا صرت أترك لهم الحرية ليعمل وا ما يريدون هذا شيء رائع".
ولم يقف الحد عند كتابة صحائف التأمل، بل تعداه إلى جلسات الحوار التأملي الذي تقرأ فيه المعلمة ما تفضي به نفسها من تأملات دونتها في صحائفها، ويدور حوار وتطرح الأسئلة، وبذلك تحولت الجلسات إلى منصة فكرية تعتصر فيها الأفكار والمشاعر، وعلت أصوات المعلمات الأربع مطالبة في التغيير، تغيير وضع الروضة وبرامجها، واقترحن استراتيجيات جديدة للعمل مع الأطفال وقدن عملية
الصفحة 127
تعليم منطلقة من الفكر البنائي والتعلم بالمشروعات.
وزاد ذلك من دافعية المعلمات نحو العمل مع الأطفال وتباين ذلك وفقا لشخصية المعلمة وخبراتها وانغماسها في عملية التأمل، بيد أن جميع المعلمات اللواتي شاركن في التدريب انخرطن في عملية التغيير، وأدى الحوار التأملي بهنّ إلى أن يقدن العمل معا في فريق واحد ينهمك في تفكير مستفيض، وتعد هذه المهمة من أصعب المهمات التي واجهتها أثناء عملي في ال برنامج التدريبي الذي استغرق سنتين ونصف السنة، إذ ليس من اليسير أن تنهمك المعلمات في عمل جمعي أو فكر متحد، تذوب فيه الفردانية ويتحدن معا لوضع رؤية جديدة للروضة تنطلق من فهم مغاير لدورهن ودور الطفل في عملية التعليم والتعلم سعيا للوصول إلى صفات وسمات المعلمة الحاذقة، تقول إحداهن:
المعلمة سرين: "كنا نجلس مرة كل أسبوع ونتناقش بتأملاتنا ونطلع بأفكار جديدة وهذا كان شيء جميل وصرت أتعلم من أفكار زميلاتي واتفقنا أننا السنة القادمة ما راح نعمل على وحدات تعليمية وسنغير برنامج الروضة ونعمل بمشروع، اتفقنا نعمل الفصل الأول على مشروعين وأول مشرع سنبدأ فيه بإذن لله مشرع البلاستيك وراح يكون لنا جلسة نجلسها مع بعض نخطط فيها للمشروع حتى نعرف من أين نبدأ، وراح نترك في المشروع الحرية للأطفال يختاروا الأنشطة ما نخطط الأنشطة مسبقا راح نجعلهم هم يخترعا أنشطة يمكن هذا صعب لكننا سنحاول وأكيد بتعاوننا مع بعض سننجح".
ومع اقتراب نهاية العمل مع المعلمات في مجال التفكير التأملي الذي كان شاقا وصعبا، كانت صحائف التأمل تأخذ منحى العمق والجدية ويغلب عليها الطابع المهني الحصيف، وحلت التأملات محل كتابة التحضير اليومي لدى المعلمات، وأصبحت فعلا ملا زما لهن في عملهن اليومي في الروضة.
الصفحة 128
المعلمة نرمين: "بعد انتهاء برنامج التأمل أكملنا في العمل في التأمل وكتابة التأملات واتفقنا ما نكتب تحضير يومي ونكتب تأملاتنا اليومية وملاحظاتنا، وصرت أكتب تأملاتي كل يوم وعملت دفترين دفتر لملاحظاتي عن تطور الأطفال صرت أكتب كيف يتطور كل طفل في كل نشاط والكلمات الجديدة التي يحكون بها، حتى كيف تتطور لغتهم وكيف صار عند الأطفال وعي صوتي وتمييز سمعي وكل مرة برجع لملاحظاتي وإذا جاءت أم وسألت عن طفلها بتكون عندي ملاحظات عن الطفل وتأملاتي أيضا برجع لها يعني صار عندي وضوح أكثر عن الطفل وكيف أدون ملاحظاتي عنه وعن عملي وعن نفسي".
وبعد، فهذا هو التفكير التأملي والتعليم التأملي، وهو طريق محفوف بالمصاعب والجهد المضني؛ إذ يتطلب من المعلم جرأة على مواجهة ذاته بصراحة، ومقدرة على التجديد والتغيير والصبر والتعلم المستمر، والانغماس في عملية التدبر التي تعيدها إلى أعماق ذاتها، والأهم من هذا الإيمان بأن التغيير يبدأ من ذات الفرد حينما يعيش التأمل في كافة مراحله وينغمس فيه بكليته.
الصفحة 129
انظر المراجع من الصفحة 149 الى 150
الصفحة 130
التعلم الإلكتروني وضبط جودته
د. شريف اليتيم
الاشراف التربوي – مملكة البحرين
مفهوم التعلم الإلكتروني وفاعليته
مع التطور التقني في مجال الاتصالات وتضمينها في التعلم عن بعد، وخاصة في استخدام الإنترنت، تزايد التركيز على ما يعرف بالتعلم الإلكتروني. ونتيجة ل ذلك ظهر عصر جديد من التعليم أدى إلى توسع الفُرَص التربوية ووصولها إلى أناس في مناطق جغرافية متنوعة. كما ساعد التطور التقني في حل مشكلات المعلمين والمتعلمين من محدودية الوقت وزيادة المحتوى المعرفي، خاصة مع التوجهات الأخيرة لدى كثير من المؤسسات التربوية لتحضير طلبتها للاختبارات المعيارية وتعرضها للمسائلة المستمرة.
وتباينت التعريفات المستخدمة لمفهوم التعلم الإلكتروني حسب اللفظ الإنجليزي المستخدم، وكثير من المواقع الإلكترونية لا تفرق في الاستخدام بين اللفظين. واستخدمت مفردات كثيرة في سياق التعلم الإلكتروني مثل التعلم الإلكتروني والتعلم بالإنترنت والتعلم الموزع والتعلم الشبكي والتعلم الاتصالي والتعلم الافتراضي والتعلم المساعد بالحاسوب والتعلم المعتمد على الإنترنت والتعلم عن بعد.
الصفحة 131
وبالنسبة للمتعلم فإن التعلم الإلكتروني لا يعرف حدوداً للزمن أو المكان. فالتعلم اللامتزامن يسمح له بالدخول للمواد التعلمية الإلكترونية في أي وقت يشاء، في حين يسمح له المتزامن بتفاعل حقيقية مع المعلم. ويمكن باستخدام الإنترنت الوصول إلى أحدث المواد التعلمية وأكثرها ملاءمةً، كما يمكن التواصل مع خبراء المادة أنفسهم. كما يستطيع نظام التعلم الإلكتروني الفاعل أن يظهر حاجات المتعلمين ومستويات إتقانهم للموضوعات التي يدرسونها، وتقديم احتمالات عديدة ليختاروا منها ما يساعدهم على تحقيق النتاجات التعلمية المحددة.
ومن السمات المميزة للتعلم الإلكتروني امتلاكه لخصائص ايجابية لا تتوفر في التعليم المباشر. فالتعلم يحدث بينما يقوم الطلبة بطرح مواضيع وأسئلة متنوعة، ويتحدّون بعضهم بعضا.
فلا يتم التركيز على شخص واحد في هذه البيئة، ولا يوجد معلم متخصص ومحاضر يقوم بتفريغ ما لديه من معرفة في جعبة طلبته. فالمعلم في هذه البيئة التفاعلية يتعامل مع متعلمين مسؤوليين يحضرون صفوف الكترونية ويطرحون فيها أفكارا ونظريات ومفاهيم، ويكون دوره فيها خلق بيئة يستفيد فيها جميع الطلبة من أفكارهم ونظرياتهم ويختبروها بمقارنتها بالحقائق المتكونة من أفكار آخرين. وفي نفس السياق، لا يمكن تجميع ما يحدث في الصفوف الإلكترونية في ملف واحد، لان ما يحدث ليس تدريس اً وإنما تعلما، يكون فيها الطلبة أنفسهم اختصاصين والمعلم مسهلا وميسرا.
وقد ذكر اندرسون أربعة مكونات أساسية للتعلم الإلكتروني الفاعل هي: تدريب المتعلم وإعداده، والنشاطات التي ينفذها المتعلم في تعلمه، وتفاعلات المتعلم مع المحتوى والمعلم وباقي مكونات البيئة التعلمية، وأخيرا الناقلات التعلمية كالتطبيقات الحياتية والمعاني الشخصية. كما في الشكل التالي
الصفحة 132
انظر الشكل الموجود في الصفحة 154 في البدف أعلاه.
وفي نفس المجال، يصف غايتان التعلم الإلكتروني الفاعل بسمات عديدة كالتكيف المستمر والمتماسك لجميع منفذيه، والتغلب على التحديات المادية، والإدارة التطورية، والتعامل الفاعل مع السياسات الجديدة في عملية التنفيذ، والالتزام الكافي من الأطراف التربوية ذات المسؤولية.
الصفحة 133
وفي المقابل ذكر إلومي أسباباً قد تؤدي إلى فشل برامج التعلم الإلكتروني منها: الكلفة العالية للتقنية، وضعف القرارات، والمنافسة، وغياب استرايتجية مناسبة أو عدم وجودها خاصة المتعلقة بتقييم الحاجة، واستعجال المؤسسات لتقديم مقررات صفية بشكل الكتروني.
وفيما يتعلق بتطوير التعلم الإلكتروني، يرى كوهلمان أن الكثير يرون جودة البرامج في التركيز على عملية التصميم، متجاهلين الحاجات الحقيقيةة للمؤسسة والزبون (العميل) والمتعلمين. فوظيفة المح ترف في التعلم الإلكتروني استغلال تكنولوجيا التعليم للحصول على نتائج ذات معنى لتلبية حاجات المشتركين جميعهم - المؤسسة والزبون والمتعلم. كما أن بناء مقرر الكتروني ووضعه على الإنترنت عمل كبير لا بد أن تدرك المؤسسة حاجاته، ويحتاج في واقع الأمر إلى تضافر جهود أطراف عديدة، كمدير البرنامج ومصمم التدريس ومتخصص تكنولوجيا المعلومات والمبرمج وخبير التعلم الإلكتروني ومستشار التنفيذ.
ولقد ابتكرت سلون سي المصطلح الذائع الصيت في الوقت المعاصر وهو شبكات التعلم اللامتزامنة لنشر فكرة أن الناس يتعلمون في أوقات وأماكن متنوعة، ولتأكيد أن استخدام الشبكات لا يقتصر على البنية التحتية التكنولوجية بل يتعدى ذلك إلى الشبكات الإنسانية التي لم تكن متوفرة سابقا. ويكون المتعلم فيها ليس مستخدما فقط وإنما مَصدرا، وبذلك يصبح التواصل الإلكتروني وسيلة فاعلة مُدعّمة بالوسائل التقنية لتسريع التعلم بين المتعلمين الكُثر.
واقترح خان إطار اَ للتعلم الإلكتروني دعاه "الإطار الثماني" وقدم سينج وصفاً لهذا النموذج
الصفحة 134
انظر الشكل الموجود في الصفحة 156 في البدف أعلاه.
يعدّ هذا الإطار دليلا لتخطيط برامج التعلم الإلكتروني وتطويرها وإدارتها وتنفيذها وتقييمها، فالتعلم الفاعل يتطلب من الإستراتيجيات التنظيمية أن تأخذ بعين الاعتبار جوانب الإيصال الفاعل. حيث أن احتياجات كل متعلم تختلف عن غيره، وكذا أفضلياته، لذا فإن على المؤسسة أن تستخدم مزيجاَ من طرائق التعلم في إستراتيجياتها لإيصال المحتوى المناسب للمتعلمين في الشكل الأفضل وفي الوقت الأنسب.
يرى خان أن بناء بيئة تعلمية ذات معنى يتطلب توفر عوامل متداخلة تعتمد بعضها على بعض. ويساعد الفهم العميق الشمولي لهذه العوامل في بناء هذه البيئة، كما تشكل هذه العوامل الأبعاد الثمانية لهذا النموذج التي يمثلها "الإطار الثماني الأوجه"، وهي: البعد المؤسسي- (المجالات التنظيمية،
الصفحة 135
والإدارية، والشؤون الأكاديمية، والخدمات الطلابية). والبعد البيداغوجي ( تصميم التعلم الإلكتروني وإستراتيجيته، واختيار طرائق الإيصال المناسبة لتحقيق الأهداف التعلمية للبرنامج)، والبعد التكنولوجي (اختيار نظام إدارة التعلم ونظام إدارة المحتوى التعلمي وتحديد البرمجيات المحوسبة اللازمة والأجهزة والبنية التحتية الأخرى)، وتصميم واجهة البرنامج (المجالات المتعلقة بال واجهات المرتبطة بكل عنصر من مكونات البرنامج التعلمي التي تكون محكمة لتحقيق تكامل عناصر البرنامج وربطها، مما يمكن المتعلم من استخدام كل طريقة إيصال وحدها والتنقل بين الأنواع كلها)، والتقييم (تقييم مستوى فاعلية تطبيق المقرر ومستوى أداء كل متعلم)، والإدارة (البنية التحتية والخطط والمصادر الداعمة لإدارة أنواع الإيصال المختلفة وتسجيل البرنامج والإنذارات، والبرامج الزمنية)، ودعم المصادر (توفير المصادر المختلفة للمتعلم وتنظيمها- في الإنترنت، وخارج الإنترنت و"استشاري" يمكن التواصل معه عند الحاجة عبر البريد الإلكتروني أو التخاطب الإلكتروني)، والبعد الأخلاقي (قضايا أخلاقية كتكافؤ الفرص، والتنوع الثقافي).
يتضمن التعلم الإلكتروني طرائق بيداغوجية متنوعة، إذ تُظهر نتائج الدراسات التربوية أن أفضل طرائقه في العقد القادم ستكون محتوى التعلم الإلكتروني والتدريس الإلكتروني والتعلم الإلكتروني من الاختصاصيين، والتعلم التشاركي الإلكتروني وإدارة المعلومات الإلكترونية والإنترنت والتعلم النقال. وستكون الإنترنت أداة مهمة للتعاون والعمل الجماعي الافتراضي. ومن أكثر التقنيات التي ستؤثر في
الصفحة 136
إيصال التعلم الإلكتروني في السنوات القادمة مشاريع المحتوى المُعاد استخدامها، يليها التكنولوجيا اللاسلكية، ثم أدوات التعاون الثنائي والمكتبة الإلكترونية، فالمحاكاة والألعاب، فالتكنولوجيا المساندة، وأخيراً الملفات الإلكترونية. وفي باقي المؤسسات، يُتوقع أن تكون أكثر التقنيات المؤثرة في إيصال التعلم الإلكتروني في السنوات القادمة هي أدوات إدارة المعلومات، يليها المحاكاة من خلال الإنترنت، ثم التكنولوجيا اللاسلكية، فأهداف المحتوى المُعاد استخدامها، فالتكنولوجيا التكيّفية، فالأقراص المحوسبة، فالأجهزة المحمولة.
ضبط الجودة في التعلم الإلكتروني
ينمو التعلم الإلكتروني بشكل مطرد في مرحلتي التعلم قبل الجامعي والجامعي، ونتيجة لزيادة عدد المقررات الإلكترونية ظهرت تحديات جديدة من أهمها ضمان جودتها. وإلى الآن لم تتوفر مجموعة "معايير الجودة" التي يُنظر إليها كمرشد واضح لإرشاد مُعدّي هذه المقررات، رغم كثرة المؤسسات أو الدراسات التي تعرض هذه المعايير. ويجب الانتباه في هذا السياق إلى أن الجودة تضمحلّ عندما تسيطر مفاهيم السوق والعمل على برامج التعلم الإلكتروني، فبينما يسمح ذلك بتأمين تمويل البرامج وإيراداتها، يعمل - في غياب الكشف والمتابعة- على إهمال الضبط النوعي لصالح مبدأ "الفرص المتوفرة والمصادر"، فيؤدي باسم الفاعلية إلى تفكك البرامج وضعفها.
يُعَدُّ موضوع تطوير الجودة مجالا للنقاش في هذا العصر، فهو يتحدى قيم التربويين المحترفين ومعتقداتهم، وتؤكد الدراسات المتعلقة في هذا المجال،
الصفحة 137
أن طبيعة تطوير الجودة عملية تكيّف مستمر للخدمات التربوية التي تقدمها المؤسسة للمستفيدين. ومن أكبر التحديات التي تواجه تحديد تعريفها أنها تبقى خبرات نسبية، يتم تحديدها بشكل كبير من خلال مستويات فردية للتوقعات، حيث أنها تستند إلى رؤى مؤسسيها، لذا يتصف النظام المرتكز على مفاهيمها بعدم الموضوعية، وبالتالي تكون فاعلية أي نشاط لتحسين الجودة مرتبطة بالقدرة على تعزيز التوافق حول الأهداف العامة لأي عملية تطوير تقوم بها المؤسسة، وتركز أساليب التطوير الجديدة على اعتبار التفاوض مهما جدا لتنفيذ نظام جودة ناجح. ويرتبط ذلك مع طبيعة الجودة المفتوحة التي ليس لها تعريف محدد، بل هي علاقة بين أحداث واقعة وأخرى متأملة.
وبنظرة إلى تاريخ الجودة، قارن باركر بين العصرين القديم والجديد في مجال ضمان الجودة وإجازة المؤسسات التربوية، ووصف العصر القديم بالعبارات أو المفردات الآتية: التمركز على المعلم، والمركزية، والتجانس، وحجم وشكل واحد يناسب الجميع، ومغلق، ونحن مقابل هم، وكمي، وثبات الزمن وتغير التعلم، واعتماد المعلمين، وتعزيز الخبرات، وإقليمي وطني، وثبات، وطريقة إيصال واحدة، وعملية، وبنية تحتية. في حين وصف العصر- الحديث بالتركيز على: المتعلم، ومَحَلي، ومفتوح، وتشاركي، ونوعي، ومرن، وثبات التعلم وتغير الزمن، ومهارات المعلم، والخبرات التراكمية، وعالمي إقليمي، وحركي، ونماذج إيصال توزيعية، ونتاجات، وخدمات.
ويمكن لمتابع الأدب التربوي المعاصر المتعلق بجودة التعلم الإلكتروني ملاحظة ظهور مؤسسات عالمية متخصصة في هذا المجال منها:
الصفحة 138
وهي اتحاد يتكون من خمس منظمات عالمية، ويوفر قاعدة بيانات لإستراتيجيات الجودة المتعلقة بالتعلم الإلكتروني وخدماتها، ولمزيد من المعلومات عن هذه المؤسسة يمكن زيارة موقعها الإلكتروني http://www.Eqo.Info.
الصفحة 139
المقررات الإلكترونية، وقوائم لتقييم المقررات الإلكترونية. ولمزيد من المعلومات عن هذه المؤسسة يمكن زيارة الموقع الإلكتروني http://www.sreb.org.
ويؤكد التنوع والتعدد في أنظمة الجودة العالمية ما أكده باركر من أن أطر الجودة العامة تختلف في استراليا عنها في إنجلترا وكندا والولايات المتحدة، إلا أنه يوجد أرضية مشتركة كافية لتأسيس خصائص عامة في التدريس الإلكتروني. وبشكل عام، تشترك هذه الأطر بسمات جودة تتضمن: عرض عبارات واضحة لأهداف تربوية، وتعزيز الالتزام بدعم المتعلم من قبل المؤسسة، والانشغال في عمليات تشاركية تؤدي إلى تحسين بيئة التعليم والتعلم.
وتعرّف المؤسسة الأوروبية لمراقبة الجودة -حسب ما أورده هيلدبراند- مفهوم الجودة في سياق التدريس الإلكتروني بأنها أي سياسة أو طريقة أو قانون أو معيار أو أداة أو قائمة أو أداة تحقق وإثبات تهدف للتأكد من تحسين نوعية التعلم الإلكتروني. كما يشير مفهوم الجودة في مجالات عديدة كاختصار لإدارة الجودة الشاملة أو لتطوير الجودة المستمر. وحسب نتائج الدراسة المسحية التي نفذتها المؤسسة الأوروبية لمراقبة الجودة، ترى غالبية الآراء المتخصصة بتعريف الجودة في التعلم الإلكتروني ارتباط الجودة بزيادة تحصيل التعلم.
تظهر نتائج تحليل البيانات في المركز الأوروبي للملاحظة والتحليل والمؤسسة الأوروبية لمراقبة الجودة أنه مع توفر عدد كبير من الإستراتيجيات والبدائل المقترحة لتطوير الجودة إلا أن غالبية من يشترك في التعلم الإلكتروني يمتلك كفاءات منخفضة من الجودة. ويؤكد اهير أهمية امتلاك كفاءات عديدة تعرف بثقافة الجودة تتضمن معلومات
الصفحة 140
عن الاختيارات والتكيّيفات العامة لتطوير الجودة، والخبرات في استخدام الأدوات، والقدرة على الابتكار والتعديل لتكييف الأدوات والمفاهيم لواقع المؤسسة أو استخدام نظام جديد، والقدرات التحليلية لتقييم الحاجات والأدوات والمفاهيم (انظر الشكل في الصفحة 162 في البدف أعلاه).
يستخدم مفهوم الكفاءة النوعية بشكل واضح في مجال التدريس الإلكتروني مقارنة باستخدام الكفاءة الإعلامية، ويشير إلى حاجة عملية تطوير الجودة الناجحة لكفايات يجب أن يمتلكها الذين سيتضمنهم التعلم الإلكتروني مثل: المدرسون والمؤلفون، ومصممو الوسائل، والمتعلمون. ويُصنف إهلر وآخرون هذه الكفاءات في أربع مجموعات أساسية هي: معلومات حول الفرص
الصفحة 141
المتوفرة لتطوير الجودة، والقدرة على استخدام إستراتيجيات الجودة، والقدرة على تكييف إستراتيجيات الجودة وتطويرها وتصميمها، والحكم الناقد والقدرات التحليلية لتشجيع استخدام الجودة في مجالات التعلم المتنوعة وتصنف المؤسسة الأوروبية لمراقبة الجودة طرائق الجودة إلى أنواع عديدة، تختلف في هدفها (سياسات الجودة، إدارة الجودة، ضمان الجودة، تقييم الجودة)، وفي المجموعة المستهدفة (المتعلمون، المطورون، صانعو القرار) وفي الطريقة (العملية والنتاجات، والموجهة نحو الكفاية).
ومن خلال الفهم المفتوح لتطوير الجودة يمكن اقتر اح خطوات تنظيمية تعرف بدورة تطوير الجودة. حيث يتم تطوير الجودة في أربع خطوات متتابعة: الأولى تحليل الحاجة (تفحص المؤسسة لدرجة حاجتها للجودة، وأوضاع المؤسسة الراهنة التي سيتم فيها التنفيذ)، والثانية عملية اتخاذ القرار (المقارنة بين الحاجات المحددة سابقا مع طرائق الجودة المتوفرة لاختيار الأنسب منها)، والثالثة مرحلة الإدراك (تنفيذ إستراتيجية الجودة في المؤسسة وتكييفها مع ظروف المؤسسة وحاجاتها)، والأخيرة مرحلة الدمج (يتم تعديل الأنشطة التي يجب أن ينفّذها المشاركون وأعمالهم وسلوكاتهم).
كما أظهرت نتائج الدراسات أن المصدر الأساسي للمعلومات حول جودة التعلم الإلكتروني هو الإنترنت، يليها الممارسات المتميزة وتجارب الآخرين فالكتب ومنتديات النقاش.
وتستخدم هذه المؤسسات نماذج جودة خارجية كالمعايير واستراتيجيات الجودة، والقوائم العامة المعدة خارج المؤسسة، في حين تفضل الجامعات الاعتماد على نفسها. كما يمكن أن تساعد المصادر الخارجية صانعي القرار في المؤسسات وباحثي التعلم الإلكتروني، مثل نماذج الجودة الشائعة والمألوفة ونماذج إدارة الجودة الرسمية مثل ايزو 9000.
الصفحة 142
ركائز جودة التعلم الإلكتروني ومعاييرها
لا يوجد إطار عام لإدارة الجودة وضمانها وتقييمها في مجال التعلم الإلكتروني. لذلك يصعب - والحال هذه- مقارنة المنتجات والخدمات المرخصة، ولا يتوفر مقياس محدد ومعرّف بشكل دقيق، وتستخدم في هذا المجال نماذج عديدة محلية وإقليمية وعالمية مرتبطة بمجالات مخصصة وبمؤسسات متنوعة وبسياقات مختلفة، وارتبطت المعايير التي أعدتها مؤسسات عالمية مختصة بموضوعات عديدة تشكل في مجملها جوانب التعلم الإلكتروني كالمواد التعلمية وبرامج التطوير المهني الإلكتروني والمعلم الإلكتروني والنقاش الإلكتروني والمقررات الإلكترونية. وسيتم التطرق لمعايير هذه المجالات بعد التعرض باختصار للركائز الأساسية لجودة التعلم الإلكتروني.
فيما يتعلق بركائز جودة التعلم الإلكتروني، تستخدم مؤسسة سلون (سلون سي) إطارَ جودةٍ يعتمد على أربع ركائز أساسية تدعّم جودة بيئة التعلم الإلكتروني، وهي: فاعلية التعلم، والكلفة/الفاعلية، ومستوى الإقبال، ورضا المؤسسة ورضا الطلبة كما يشير الشكل (4) وسيتم التطرق بشيء من التفصيل لكل واحدة منها.
الصفحة 143
انظر الشكل الموجود في الصفحة 165 في البدف أعلاه.
وفيما يتعلق بالركيزة الأولى (فاعلية التعلم)، تقارنُ كثير من الدراسات التعلم الإلكتروني بالتعلم المباشر في الغرفة الصفية، وتظهر غالبيتها تساوي جودة التعلم الإلكتروني والتعلم الصفي المباشر وبصيغة " لا توجد فروق ذات دلالة". يرى مور في هذا السياق أن ما نحتاجه الآن هو طرائق جديدة تذهب بعيدا عن ظاهرة (غياب الفروق الدالة إحصائيا) لتخبرنا أكثر عن الخصائص المميزة للتعلم الإلكتروني الفاعل، ويؤكد أن كل وسيلة الكترونية تختص بتحقيق هدف ما، فتركز على خبرة محددة وتعززها، وتشجع طرائق محددة من التعلم، كما قد تعمل على تعطيل التعلم بطريقة ما. ويرى أيضا أن الخاصية المعرِّفة بالوسائل الإلكترونية هي التفاعلية ويقسمها إلى خمسة هي: مع المحتوى، ومع المعلم، ومع الزملاء، ومع واجهة التعامل الإلكترونية، والتعلم من تفاعل الآخرين.
الصفحة 144
وذكر أندرسون ثلاثة مستويات للتفاعل في التعلم الإلكتروني، الأول تفاعل المتعلم مع نفسه (داخل المتعلم)، والثاني تفاعله مع غيره (إنساني وغير إنساني)، والثالث تفاعله مع عملية التعليم (الأنشطة التعلمية).
ويعد تفاعل الطلبة أكثر مجالات التعلم الإلكتروني أهمية بالنسبة للمؤسسة التي تكون في بداية تطبيقها للتعلم الإلكتروني، حيث تحتاج إلى اهتمام أكثر بوسائل تحقيق أنماط التعلم والتواصل الشخصي، فالمؤسسات تريد أن تجعل من التفاعل الإلكتروني أكثر اجتماعيا وإنسانيا، وتقاوم العزلة ببناء مجتمعات تعلمية تمارس الثقة والصداقة كأساس للتواصل.
ويوضح مور هذه التفاعلات كالآتي:
بالنسبة للتفاعل مع المحتوى، فيشير إلى قدرة المتعلم على الوصول إلى معلومات المحتوى ومعالجتها وتركيبها وإيصالها إلى الغير. ولا يعد وجود كم هائل من المادة المعرفية على الإنترنت تعلما، بل يرى غالبية الباحثين أن كثيراً من التدريس المعتمد على الحاسوب يوفر قليلا من فرص التعلم، وسبب ذلك هو غياب تفاعل المتعلمين مع المادة. وما نعرفه عن تصميم التعلم الإلكتروني مصدره بحوث التعلم المعتمد على الحاسوب وتصميم الوسائط المتعددة، فمثلا نتج عن خبرة التصميم لبعض الباحثين عدداً من المفاهيم الداعمة للتصميم الفاعل للتدريس المعتمد على الحاسوب منها: سلوك المعلم سلوكَ المُسهِّل والمُيسِّر، واستخدام عددا من أنماط العرض المتنوعة وأنشطة وتمارين عديدة ومسائل تعتمد على العمل اليدوي، والتحكم في مسار نمائه، واستخدام الاختبارات المتكررة، ووضوح التغذية الراجعة والتنظيم العام والتنقل، وتوفر صفحات المساعدة.
الصفحة 145
أما التفاعل مع المعلم، فهو قدرة المتعلمين على التواصل مع معلميهم واستقبالهم التغذية الراجعة منهم. ويرى البعض أن الوسائل اللامتزامنة تقلل من فورية الاستجابة مع المعلم، ويرى آخرون أن التواصل المعتمد على الحاسوب شخصيٌّ بشكل كبير. ويمتلك معلم الصف الإلكتروني- كغيره من المعلمين- أدوارا ثلاثة: معرفية، وانفعالية، وإدارية، ويتحول الدور المعرفي في التعلم الإلكتروني إلى دور عميق ومعقد، في حين يحتاج الانفعالي اهتماما أكثر لإيجاد أدوات جديدة للتعبير عن العواطف والمشاعر، ويحتاج الدور الإداري إلى اهتمام أكثر في التفاصيل والبنية والمراقبة.
وفيما يتعلق بالتفاعل مع الزملاء، فإنه يساعد في خلق مجتمعات تعلم نشطة، وهي إحدى الخصائص المتميزة للتعلم الإلكتروني، ويعده الطلبة أكثر عدالة وديمقراطية من التقليدي، حيث يُمكّنهم النقاش اللامتزامن من تأمل مشاركة زملائهم قبل عرض ما لديهم، فيتعزز شعور الوعي بينهم وتزداد ثقافتهم التأملية، كما يعتمد التواصل الموجه بالحاسوب على عدد الرسائل ووقتها وطبيعتها. وبينما يشجع التواصلُ الموجه بالحاسوب التجريب والتفكير التشاركيّ من جهة، يحتاج من جهة أخرى إلى بيئة اجتماعية تتضمن تعليمات خاصة عن عدد النقاشات وجودتها ونسبة علامات المقرر اعتمادا على الإجابات. ويعد تطوير الوجود الاجتماعي والتفاعل مع الآخرين حجر زاوية للمجتمعات المتعلمة إلكترونيا.
يتضمن التفاعل مع الواجهة الرسومية موضوعات تصميم المقرر بما فيها تكامل الوسائل، يرى الباحثون أن التعلم الإلكتروني الناجح يتأثر بشكل واضح بقدرة المتعلم على التفاعل مع بنية المقررات الإلكترونية التحتية والرسومية، وبالتالي يزيد وضوح التركيب والتنظيم والشفافية والقدرة التواصلية للواجهة من رضا الطلبة وتعلمهم وتصوراتهم واحتفاظهم بالمعلومات.
الصفحة 146
ويشير التفاعل بالإنابة إلى التعلم بالملاحظة أو قدرة المتعلمين على اكتساب فهم بمتابعة تفاعل الآخرين، وهو منطقي ومهم ومقبول للتعلم الاحترافي، ويشير إلى أن التفاعل المباشر ليس ضروريا لجميع الطلبة، وهناك فائدة من مراقبة تفاعل الآخرين والتفكير النشط فيه.
وفيما يتعلق بالركيزة الثانية (فاعلية الكلفة)، فهو موضوع ذو أهمية للمؤسسات التربوية المعاصرة، وتحتم الأولويات التنافسية للمصادر المادية التربوية ومحدوديتها أن تحدد المؤسسة كلفة البرامج الإلكترونية وتعلنها وتبحث طرائق ضبطها، رغم أن ذلك كما يراه الكثيرون عملية معقدة، وأحد أسباب ذلك طبيعة التكنولوجيا المتغيرة التي تزيد من صعوبة تقييم الكلفة المتوسطة المدى، ليس لأن كلفة الأجهزة والبرمجيات متغيرة بشكل متواصل، ولكن أيضا بسبب السوق التنافسي- لتكنولوجيا المعلومات. إضافة إلى أن ظهور مكونات جديدة كالملكية الفكرية عزز الحاجة إلى إطار مفاهيمي لتحليل الكلفة، كما أن مواضيع مثل ملكية محتوى المقررات لم يتم تعريفها بشكل محدد بعد. ويعزز تحديد كلفة التعلم الإلكتروني وضبطه حوار المؤسسات أثناء محاولتها فهم طرائق تقييم هذه المجالات الجديدة، كما نتج عن الكلفة العالية لإيصال تعليم الكتروني ذي جودة في سوق تنافسي، ظهور برامج وأنشطة إبداعية تشاركية.
وفي عصر يسوده وفرة عروض البرامج جنبا إلى جنب مع نقص التمويل والضائقات المادية المتكررة، تصبح الجودة هي الهدف المركزي للبيئة الإلكترونية - بما فيها مجال فاعلية الكلفة. وهذا يتطلب أولا فهم السياق المؤسسي -الذي يتضمن ثقافة المؤسسة- قبل البدء بحساب الكلفة، كما يؤكد أهمية الموضوعات الآتية المتعلقة بالجودة والكلفة:
الصفحة 147
وبالنسبة للركيزة الثالثة (القبول)، فتتضمن توسيع الفرص (مثل الوصول إلى المتعلمين أو الجدد منهم، وتوفير مصادر إضافية (أفضل، وأسرع، وأرخص) أو/ وتقليل العوائق (الكلفة، التكنولوجيا، البرامج، ومداخل المقررات، مستويات الجاهزية أو الدافعية......). وهذا يشمل:
الصفحة 148
ومن التوجهات الواعدة هنا زيادة التركيز على التعلم المتمازج الذي يعمل على توفير فرص التعلم في تجمعات متنوعة تستوعب أنماط التعلم المختلفة، وتلبية حاجة المتعلمين للمرونة وللاختيار حسب رغباتهم واهتماماتهم، ويخدم هذا التعلم المقررات الإلكترونية الذي تنشدُ مرونة عالية وتحتاج خبرات شخصية أكثر.
وفيما يتعلق بالركيزة الرابعة (رضا الطلبة)، فوسيلة الطلبة لإظهار رضاهم عن المقررات الإلكترونية وعنما تعلموه هي استجاباتهم على أدوات قياس الرضا، حيث يؤكدون أنهم سيدرسونها مرات أخرى وينصحون زملاءهم أن يدرسوها، ومن المهم الاستمرار في قياس مستويات رضا الطلبة عن التعلم الإلكتروني لدعم تطوره المستمر.
ولعل الموضوع الأساسي هنا هو مقارنة مستوى تفاعل المجتمع التعلمي مع حاجات المتعلم، فقد أظهرت بعض الدراسات في هذا المجال ارتباط المستويات العليا من التفاعل ومشاركة المجتمع المتعلم مع ارتفاع رضا الطلبة. كما أن المستويات الدنيا من التفاعل أو التعاون مع المتعلمين الآخرين يقلل من ارتياح المتعلم.
كما يعد وجود مستوى مناسب من التفاعل مع المعلم وباقي المتعلمين موضوعا منفصلا عن مشاركة المجتمع المتعلم في بعض الحالات، ومع ذلك يعد هذا المستوى العالي من تفاعل الطلبة مع بعضهم ومع معلمهم ضروري اً لنجاح هذه البرامج.
إن أحد العوامل المهمة في نجاح برامج التعلم الإلكتروني هو الالتزام القوي للمؤسسة والمشاركين منها في التدريس في البيئة الجديدة، فقد أظهرت البحوث والخبرات في هذه المجال أن هذا الالتزام يرتبط بشكل مباشر مع مستويات
الصفحة 149
الرضا المهني والشخصي، ويتكون رضا المؤسسة (الركيزة الأخيرة) عندما يتلقى المشاركون في البرامج الإلكترونية المكافآت الشخصية، والدعم المؤسسي والاعتراف المهني الذي يحتاجونه ليشعروا بأهمية وصحة ما يعملون.
ومن العوامل المؤثرة في مجال رضا المؤسسة:
الصفحة 150
تفكير، ويمكن أن تتضمن محتوى الكترونيا (رقميا)، وأنشطة محددة أو أدوات تقييم ترتبط مع أحد الأهداف التربوية وتُصنّف في خطة تسمح بتخزين معلومات عن المحتوى والوصول إليه (مخطط بيانات فوقية). وتستخدم الوسائل التعلمية التفاعلية والرسومات والمحاكاة والفيديو والأصوات لتحقيق الأهداف التعليمية والتعلمية إضافة إلى طرائق أخرى تذهب أبعد من العرض الساكن للكتاب المقرر لإشغال الطلبة في محتوى عالمي حقيقية، ويجب مراجعة جودة الوسائل التعلمية من خلال معايير مقارنة تشمل:
الصفحة 151
وفيما يتعلق بجودة برامج النمو المهني، فالمعلم يحتاج إلى نماء مهني ذي جودة ليساعد طلبته في تحقيق المعايير الأكاديمية التي تم إقرارها عالميا ليكون معلما ذا جودة، ويزود التعلم الإلكتروني المعلم بنماء مهني نوعي من خلال وصوله -غير المحدد بالوقت والمكان- للمقررات وورش العمل. وقد عرض المجلس التربوي لمقاطعات الجنوب الأمريكي ثلاثة مجالات لجعل نماء المعلم المهني ذا جودة وهي: معايير سياق التعلم الإلكتروني وتشمل المشاركين والقيادة الداعمة والمصادر اللازمة لتنفيذ النماء المهني النوعي، ومعايير عملية التعلم الإلكتروني وتشمل الأهداف التي سيتم تحقيقها، ومعايير محتوى التعلم الإلكتروني وتشمل جودة المحتوى وعدم تحيزه.
وفي مجال المعلم الإلكتروني النوعي، فقد يكون من أكثر خصائص التعلم الإلكتروني تميزا هو أن المعلمين والطلبة نادراً ما يرون بعضهم بعضا، فبينما تركز الصفوف التقليدية المباشرة على الوجود الفيزيائي في الصف، يركز التدريس الإلكتروني على المشاركة النشطة بالتفاعل المتواصل بين المعلمين والطلبة. ونتيجة
الصفحة 152
لذلك، يحتاج المعلم الإلكتروني تقنيات وطرائق عديدة يتعرف من خلالها على طلبته فُرادى، ويُرشدهم ويدير النقاش معهم ويُقيّم تقدمهم العلمي ويستجيب بشكل فاعل مع حاجاتهم. ولأن الطلبة والمعلمين يتواصلون بالبريد والنقاش الإلكترونيين، فيجب على المعلمين أن يتقنوا الكتابة والتواصل الإلكترونيين، ويجب أن يدركوا معاني كتابات طلبتهم ومغازي كلماتهم..
وقد قسم معايير المعلم النوعي الإلكتروني إلى ثلاث مجموعات أساسية، تتعلق الأولى بالإعداد الأكاديمي واجتياز المعلم لمعايير التدريس المهنية التي تقررها وكالة الترخيص أو امتلاكه للإعتمادات الأكاديمية في مجال التخصص، وتتعلق الثانية بالمحتوى المعرفي ومهارات تكنلوجيا التدريس الأساسية الضرورية للتدريس الإلكتروني، أما الثالثة فتتعلق بالتدريس الإلكتروني وطرائقه وإداراته ومعلوماته ومهاراته وتنفيذه، وقد اشتملت المعايير في هذه المجموعة على الجوانب الآتية:
الصفحة 153
وفيما يتعلق بجودة النقاش الإلكتروني، فقد أصبح النقاش الإلكتروني مكوناً أساسياً في المقررات الإلكترونية، ونشاطاً مألوفاً في التعلم الإلكتروني. وفي حين يشجع الكثيرون استخدامه، إلا أن كثيراً من تعقيدات استخدامه ما تزال مجهولة، فهو يعكس بطريقة ما النقاش المباشر بين الطلبة والمعلم في الغرفة الصفية التقليدية، فمثلا، تحول الاهتمامات بالمحادثة الموجود في التعلم الصفي إلى النقاش الإلكتروني؛ فانشغال الطلبة في الحوار الإلكتروني -كما في النقاش الصفي التقليدي - يساعدهم على إيجاد أرضية مشتركة قبل إبداء الآراء المناقضة والمخالفة. ومن الواضح أن هناك سمات تميز النقاش الإلكتروني وتجعله فريدا يستحق مزيدا من الاهتمام والدراسة.
ويرى مور أن الكثير يرغبون في التعرف إلى طريقة إدارة نقاشٍ الكتروني ناجح، حيث يقدم النقاش الإلكتروني أفكاراً متنوعة وعدداً هائلاً من الرسائل التي قد لا يتوفر الوقت لقراءتها جميعها ولتحديد أكثرها أهمية، ولأن لدى الناس شغفا اجتماعيا، فقد ينحرف نقاشهم عن المسار الحقيقية ويتطرقون لمواضيع خارجية.
الصفحة 154
وحتى يتم تطوير مساعدات أفضل للنقاش، يمكن اقتراح الطرائق التالية لتقليل ضجيجه:وفر مساحة منفصلة للمحادثات غير المرتبطة بالمادة المعرفية، قم بتوضيح الت وقعات لعدد المراسلات ونوعيتها، وزع الدرجات على المشاركين حسب التوقعات المعلن عنها، وفيما يتعلق بالطلبة الخارجين عن النقاش، يجب تذكيرهم باستمرار برسائل نموذجية تعرض التوقعات الحقيقيةة المطلوبة، وترشدهم -بطريقة ايجابية غير مهينة- لسبل المشاركة الفاعلة. ومن التوجهات الإضافية التي يرى مورأنها يمكن أن تخفف من الضجيج: أرسل إجابة مباشرة بدلا من بناء رسالة جديدة، وافق أو خالف الرسالة السابقة مع عرض أسباب ذلك، دعم رأيك بأدلة من الأدب التربوي، قدم من خبراتك الخاصة -أو خبرات الآخرين- مثالا أو أمثلة على الرسائل واطلب توضيحات وتفسيرات مع تضمينها أمثلة مقارنة أو تمييز أو وجهات نظر بديلة، استخدم تفاعلات سلوكية واضحة مثل الإقرار بوضوح الرسالة وتقديرها والموافقة أو المعارضة ودعوات لأفكار جديدة.
كما تساعد الممارسات الآتية في تصميم النقاش الجماعي وتحديد الأدوار لتحقيق المساواة في التعامل
:(Moore,2002)
الصفحة 155
معايير الجودة في مقررات التعلم الإلكتروني
يقسم كولمان المقررات الإلكترونية إلى نوعين: المقررات المعتمدة على المعلومات، والمقررات المعتمدة على الأداءات، ومن الواضح أن غالبية المقررات المدرجة تحت مسمى "الكترونية" هي معلوماتية. ورغم أن الهدف الأساسي لمجموعة كبيرة من مقررات التعلم الإلكتروني هو تغيير الأداءات إلا أنها تركز في جوهرها على تبادل المعلومات فقط، ويجب تأكيد أهمية تحديد نوع المقرر الإلكتروني، حيث يصبح تحديد المصادر اللازمة أكثر سهولة. كما يصنف كولمان المقررات الإلكترونية حسب تركيزها على مجالي تبادل المعلومات وتغيير الأداءات إلى ثلاثة أنواع: المقررات المعتمدة على المعلومات (البرامج التي تعرض معلومات عن برمجية تطبيقية)، ومقررات تعلّم بخطوات إجرائية متتابعة (توضح طريقة استخدام برمجية ما)، وتلك التي تساعد المتعلم على حل المشكلات واتخاذ القرار. لاحظ الرسم الآتي.
الصفحة 156
انظر الشكل الموجود في الصفحة 178 في البدف أعلاه.
ويقترح كولمان أيضا نقاطا عديدة لإدارة مصادر التعلم الإلكتروني منها: شجع المتعلم أن يقرأ بعيدا عن المقرر وخارج الإنترنت، لا تعط المعلومات مباشرة بل علّمه طرائق إيجادها، وقسم المحتوى إلى أجزاء صغيرة الحجم، واعمل على أن يبقى المقرر بسيطا يركز على النتاجات المطلوبة. كما يؤكد مور في السياق نفسه أهمية وضوح مخطط المقرر لكي يتمكن الطلبة من معرفة ما يريده المعلم تماما. ومن الممكن البدء باختبار مسحي سريع في الأسبوع الأول يحاول الطلبة فيه إجابة أسئلة ذات علاقة بالمخطط، مما يساعد في طرح مسائل فيما بعد.
الصفحة 157
ونتعرف الآن إلى السمات الأساسية للتدريس الإلكتروني، من خلال عرض المعايير التي وضعتها مؤسسة التكنولوجيا التربوية اعتمادا على تقرير معايير جودة المقررات الإلكترونية الذي أعده المجلس التربوي لإقليم الجنوب، وتتضمن خمسة مجالات تصف المقررات الإلكترونية ذات الجودة: المحتوى، وتصميم التعليم، وتقييم الطلبة، والمجال التقني، وتقويم المقرر وإدارته. وسوف يتم عرض الجوانب الأساسية لكل مجال، إضافةً إلى أسئلة تلخص المعايير المحددة لجودتها.
يشتمل المجال الأول (المحتوى) على الجوانب الأساسية الآتية:
معايير المحتوى الأكاديمي والتقييم، ومقدمة المقرر، ومصادر المعلم. ويمكن تلخيص معايير الجودة هنا بالأسئلة الآتية:
الصفحة 158
تشتمل المتطلبات التقييمية اختبارات على مستوى المؤسسة أو المستوى الوطني أو الدولي؟
واستجابته للطلبة، ووصف المقرر والأنشطة الأساسية المتضمنة فيه؟
الصفحة 159
الصفحة 160
يشتمل المجال الثاني (تصميم التعليم) على الجوانب الأساسية الآتية: تحليل التعليم والمتعلمين، وتصميم الدروس والوحدات والمقرر كاملاً، والأهداف/ النتاجات التعلمية، والإستراتيجيات التدريسية والأنشطة، والتواصل والتفاعلية، والمصادر والمواد التعلمية. ويمكن تلخيص معايير الجودة هنا بالأسئلة الآتية:
الصفحة 161
توقعات تعلم الطلبة)، والأسئلة الأساسية، والمفاهيم الرئيسة، والمفاهيم والمهارات المهمة ذات العلاقة المباشرة بالمادة العلمية وبالعالم الحقيقية الذي سوف ت طبق فيه المعرفة؟
الصفحة 162
بالذات ومهارات بين شخصية، وأنشطة تحتاج من الطلبة تأطير المشاكل وتحليلها وحلها، وتكوين وجهات نظر وتطوير نماذج فكرية؟
الصفحة 163
ويشتمل المجال الثالث (تقييم الطلبة) على الجوانب الأساسية الآتية: إستراتيجيات التقييم، والإجراءات والطرائق المناسبة، والتغذية الراجعة، ومصادر التقييم ومواده. ويمكن تلخيص معايير الجودة هنا بالأسئلة الآتية:
الصفحة 164
ودراسات الحالة، وملفات التقييم. وتشمل إستراتيجيات التقييم أنواعاً عدة منها: إستراتيجية التقييم الذاتي أو الواجبات التي تعطي الطالب تغذية راجعة مباشرة والكترونية وتحوي مواد توضح الأخطاء وتُلَمِّح للمحتوى المعرفي، وإستراتيجية الطبقات المتعددة (المراحل المتعاقبة) لتعزيز التكامل المعرفي وإشراك الطلبة في تقييم أعمالهم وإجابتهم عن الواجبات للتأكد من إتقانهم المادة.
الصفحة 165
الحكم على درجة الإتقان ومستوى المهارة وأهمية المحتوى؟
يشتمل المجال الرابع (المجال التقني) على الجوانب الأساسية الآتية: بنية المقرر، واجهة المستخدم، الحاجات التكنولوجية وتبادل المعلومات، سهولة الوصول إلى المعلومات، الدعم التقني. ويمكن تلخيص معايير الجودة هنا بالأسئلة الآتية:
الصفحة 166
وأوراق معالجة البيانات، وبرامج عرض البيانات، وبرامج التسجيل الصوتي؟
يشتمل المجال الخامس (تقويم المقرر وإدارته) على الجوانب الأساسية الآتية: تقويم فاعلية المقرر، تحديث المقرر، اعتماد المقرر أو إجازته، أمن (سرية) البيانات. ويمكن تلخيص معايير الجودة هنا بالأسئلة الآتية:
الصفحة 167
الصفحة 168
انظر المراجع من الصفحة 190 الى 192
الصفحة 169
الخطاب الصفي في منهاج العلوم:
اللغة بعدها أداة تعلم
د. جانيت زبانة
بدأت أنظار الباحثين المختصين في تعليم العلوم وتعلمها تتجه نحو الخطاب الصفي الذي يسود الصفوف، ولعل هذا الاهتمام ينبثق من حقيقة مفادها، أن الحياة الصفية في جوهرها ما هي إلا نظام اتصالي بين المعلم والطلبة.
ولا يُعنى مفهوم الخطاب الصفي بالمفردات أو المصطلحات العلمية أو التعريفات فحسب، وإنما أيضا بما يحكم هذه المفردات والمصطلحات من علاقات غير محصورة. وهذا يعني أن الأمر منوط بدلالات الكلمات وبما يربطها من علاقات وسياقات. ومن هذا المنطلق بدأ بعض المختصين أمثال لمكي وغيره في دراسة ما للخطاب الصفي من أثر في عمليات تعلم العلوم وفهم المفاهيم العلمية، آخذين بالاعتبار الدلالات التي تكتسبها الكلمات عبر ذلك الخطاب، والسياقات الصفية التي تطرح عبرها اللغة التي يُتكلَّمُ بها داخل الصفوف.
وقد وفر الباحثون الذين درسوا الصفوف من منظور الاثنوغرافيا الاجتماعية اللغوية (أمثال كازدين وهايمس وسميث وأريكسون وغيرهم) أو من منظور الأثنوميثودولوجيا (أمثال ميهان وهيب)، أومن
الصفحة 170
منظور الأنثروبولوجيا (أمثال ماكديرموت وفيلبس) سلسلة من التصورات لفهم الخطاب الصفي من وجهة نظر المعلمين والطلبة. وتبين دراسات هؤلاء الباحثين (الوارد ذكرهم في 1985) أهمية الخطاب الصفي كسياق اتصالي لكل من العمل الأكاديمي والاجتماعي والثقافي الذي يحصل في الصفوف، وهذا يعني أن المهمات الأكاديمية والاجتماعية والثقافية، وكذلك المعرفة، والإجراءات، والتقويم، منطمرة في الخطاب الصفي.
غير أن معظم الدراسات الحديثة المتعلقة بالخطاب الصفي في دروس العلوم ركزت على تفاعل المعلم مع الطلبة أو على الحوار القائم بين طالب وطالب، أو الحوار بين أفراد مجموعة تعاونية صغيرة، ونادرا ما كانت هناك دراسات تربط بين تركيب الخطاب والمحتوى الذي يدور عليه، وتشير كازدين إلى أن لمكي هو أول من ربط تركيب الخطاب بالمحتوى الأكاديمي في دروس العلوم.
وقد قدّم لمكي فهماً أفضل للعلاقة بين الخطاب الصفي وتعلم العلوم في دراسته: التحدث في العلوم، حيث أشار إلى أن " التغيير الوحيد في تعليم العلوم وتطوير قدرة الطلبة على استخدام اللغة العلمية الصحيحة هو إعطاؤهم فرصة استخدام اللغة فعليا في الصف، أي إعطاؤهم فرصة أكبر في الحديث في أثناء الحوار الصفي والمناقشات الجماعية وفي كتابة الموضوعات العلمية".
وأشار أيضا إلى أن "لغة العلوم ليست جزءا من لغة الطالب الأُّم بل هي كاللغة الأجنبية، ذات وقع غريب وغير مريح لمعظم
الصفحة 171
الطلبة، حتى لو مارسوها واستخدموها لفترة طويلة". وبحسب لمكي فإن: "خطاب العلوم لا يعني ببساطة التحدث عن العلوم، بل هو يعني تفعيل تعليم العلوم من خلال أداة اللغة. إن خطاب العلوم يعني الملاحظة، والوصف، والمقارنة، والتصنيف، والتحليل، والمناقشة، وبناء الفرضيات، وتوليد النظريات، والتساؤل، والتحدي، والمحاجّة، وتصميم التجارب، ومتابعة الإجراءات، والحكم، والتقويم، واتخاذ القرارات، واستخلاص النتائج، والكتابة، والتعليم، أي كل ما تشتمل عليه اللغة العلمية".
وأشارت أبرامز إلى أن جوهر تعريف لمكي يعني أن تعلم وتعليم العلوم يجب أن يحصل من خلال السياق العلمي للاستقصاء، فالطلبة لا يستطيعون تطوير فهمٍ عن طبيعة العلم أو المسعى العلمي دون أن يقوموا بإعادة الاكتشافات والخبرات التي مارسها العلماء في توصلهم إلى المعرفة العلمية.
وحلل لمكي جلسات صفية لدروس في الفيزياء والكيمياء وعلوم الأرض، واقترح لذلك استراتيجيات مختلفة، فتحدث عن النمط الموضوعي لمحتوى الدرس، وهذا المحتوى في صفوف العلوم، ليس مجموعة مفردات ومصطلحات علمية، وليس سرداً للتعريفات فحسب، بل هو أيضا استخدام هذه المفردات والمصطلحات وإظهار علاقاتها بعضها ببعض ضمن سياقات واسعة ومختلفة. فعند بناء الكلمات والجمل والعبارات لتكوين معنى _ علما بأن المعنى ككل، هو أكثر من جمع أجزائه المنفصلة_ لا نكون في حاجة لتعلم
الصفحة 172
دلالة الكلمات فحسب، وإنما أيضا لمعرفة علاقاتها بعضها ببعض، وملاءمة معانيها لمختلف السياقات وإعطاء معنى لسياق العبارات والجمل ككل. فالطالب ربما يعرف معنى الإلكترون والعنصر والمدارات، ولكن ذلك لا يعني أنه يستطيع أن يضع هذه الكلمات معا في جمل صحيحة تبين علاقاتها بعضها ببعض. إن نمط الارتباطات بين معاني هذه الكلمات في مجالات خاصة في العلوم يسميه لمكي النمط الموضوعي (النمط الثيماتي) وهو نمط علاقات المعنى أو شبكة العلاقات بين المفاهيم العلمية الرئيسة التي تصف المحتوى الأكاديمي للخطاب في .(Lemke,1990)مجال معين من مجالات العلوم
إن الهدف الأساسي الذي يسعى إليه الخطاب العلمي في الصفوف هو إتقان الأنماط الموضوعية (الأنماط الثيماتية) لكل مجال في العلوم، وهذه الأنماط من العلاقات (علاقات الدلالة) بين المصطلحات العلمية، توجد إلى حد كبير في كل فرع في العلوم، فكل كتاب أو مقالة، وكل خطاب منظم يوفره معلم العلوم يستخدم الأنماط نفسها، غير أن الطلبة لا يستخدمون دائما هذه الأنماط في حديثهم، ولا ي أتون إلى الصف بعقول بيضاء خالية من أية مفاهيم، بل إن هناك أكثر من نمط واحد- يختاره الطلبة- يُنسج في الصف مع الخطاب العلمي الذي يعده معلم العلوم. وهذه الأنماط التي يأتي بها الطلبة ويختارونها هي تلك المعاني الدارجة في اللغة العامية أو هي هجين للمعاني العامية والتعلم السابق الخطأ، ومن أجل تكوين معنى ملائم عند الطلبة، يجب على المعلمين أن يكوّنوا روابط بين أنماط الموضوعات العلمية التي يختارونها والأنماط التي يتحدث بها الطلبة عادة عن الموضوع .(Lemke,1990)العلمي
ولا يعرف الطلبة- حسب لمكي- كيف يتحدثون العلوم مباشرة أي كيف يصوغون معا الجمل، والعبارات، وكيف يجمعون المصطلحات والمعاني، وكيف
الصفحة 173
يتكلمون، ويجادلون ويحللون أو يكتبون. أما المعلمون فيعرضون مجموعة من المهارات المعقدة، ويتوقعون من الطلبة أن يفهموا، وعندما يعجز الطلبة عن ما يقوم به المعلمون، يستخلص المعلمون أن الطلبة ليسوا أذكياء أو .(Lemke,1990)أنهم لم يبذلوا جهودا كافية. ولكن المعلمين لا يدرّسونهم مباشرة كيف يفعلون ذلك
إن الطرائق التقليدية التي تُعلّم بها العلوم في أيامنا، لا تسمح للمعلم أن يسمع حديث الطلبة عن الدروس المعلّمة، وذلك لأن النمط الذي يتحدث به الطلبة في الأغلب يميل ليتلاءم مع نمط المعلم، فالطلبة لديهم فرص قليلة لتكوين المعنى بمصطلحاتهم الخاصة واستخدام أنماطهم الخاصة. وفي الأغلب، تبقى هذه الأنماط الخاصة بهم مخفية، ونادرا ما يتم التحدث عن الاختلافات بين أنماط المعلم وأنماط الطلبة مباشرة، مما يقود إلى سوء تواصل وسوء فهم بينهم، ففي صفوف العلوم في العادة، نوعان من الأنماط الموضوعية: النمط الموضوعي (النمط الثيماتي) للطالب، والنمط الموضوعي (النمط الثيماتي) للمعلم الذي يختلف عن نمط الطالب. فالطالب قد يستخدم المصطلحات أو الكلمات نفسها، ولكن عند وضعها معاً في شبكة علاقات مع مصطلحات أخرى فإنها تعطي دلالات مختلفة. لكن كيف يعمل المعلمون على ربط الأنماط الموضوعية معاً؟ وما الاستراتيجيات التي يستخدمها المعلمون والطلبة لنسج(حبك) هذه الأنماط (علاقات المعنى) في حوارهم الصفي؟ وكيف يستطيع الطلبة، من خلال كل ما قيل في الصف، أن يعرفوا أي نمط يجب عليهم أن يتعلموه؟ وما الطرق الأساسية التي يدرّس فيها .(Lemke ,1990)محتوى الدرس؟ هذه الأسئلة يطرحها لمكي لفهم الخطاب الصفي عند تعليم العلوم
الصفحة 174
وكما يقول لمكي: " لا نريد أن يكرر الطلبة الكلمات كالببغاوات، نريدهم طلبة يدركون المفاهيم، وقادرين على بناء المعاني الكاملة بكلماتهم الخاصة، والتعبير عنها بمرونة كافية، لتلتقي مع احتياجات الحوار أو المشكلة أو الاستخدام، أو التطبيق. والمفاهيم كما أشار إليها لمكي، هي مفردات الأنماط الموضوعية (الثيماتية) التي يتحدد معناها من ارتباط بعضها ببعض.
أما كازدين فتشير إلى أن دراسة الخطاب الصفي إنما هو دراسة لنظام التواصل، فالحصة الصفية نشاط اجتماعي له نمط من التنظيم والبناء، ويتضمن انواعاً محددة من الأحداث المتتابعة التي لها بداية ونهاية، والمعلم هو المسؤول عن توجيه وإدارة الخطاب الذي يحصل في الصف، واللغة التي يتكلم بها تعكس ذاتية كلٍّ من المشاركين.
ولكي يكتسب الطلبة مهارات الخطاب في العلوم، يجب أن تتوافر لهم فرص ممارسة الحديث عن الموضوعات في العلوم، وهذا ما أشارت إليه غَلَس عندما عملت مع مجموعة من الطلبة الصغار، ووفرت لهم فرصاً بشكل منتظم في جلسات "التحدث في العلوم" (بعكس الصفوف التقليدية التي يكون فيها المعلم مسؤولاً عما يقال عن الم وضوع)، وهيأت أوضاعا يبقى فيها المعلم صامتاً نسبيا بينما الطلبة يتناقشون ويتحاورون لتطوير إدراكهم(فهمهم) ونظرياتهم، تقول في هذا الصدد: " عندما تبدأ مجموعة من المتعلمين بالحوار، وعندما يحصل الحوار خارج التأثير النظري والمفاهيمي للمعلم، فإن المجموعة تتحرك بصورة طبيعية وحيوية نحو النظرية وتكون مستعدة للتعليم والتعلم. "وأشارت غلس أيضا إلى أن الطلبة في البداية يستخدمون
الصفحة 175
السرد ثم ينتقلون تدريجيا وبشكل هادف نحو الخطاب الاستقصائي.
إن كلاً من لمكي وغَلَس، وجدا- اعتماداً على خبرتيهما في المدارس الابتدائية والثانوية- أن الأطفال لا يتحدثون أحاديث العلوم في صفوفهم التقليدية، ونتيجة لذلك، فهم غير قادرين على تنفيذ واستيعاب العلوم.
واقترحت كازدين - كما ورد في بلوم أن حديث الطالب- الطالب (الذي يختلف في خصائصه عن حديث المعلم الطالب من حيث صرامته وحزمه) يسمح للطلبة بتطوير اتجاهات تجسر الاختلافات بين الأفراد، وتوفر سيطرة أكثر على حوارهم وتعلمهم، وتسمح لهم باستكشاف حدود معرفتهم، وازدياد خبرتهم بأنواع الخطاب.
وانعكس تأثير علم النفس الثقافي، وعلم النفس الاجتماعي الثقافي على البحوث في تعليم العلوم، الأمر الذي قاد إلى الاهتمام المتزايد بدراسة كيفية تطور المعاني خلال اللغة والوسائل الرمزية الأخرى في الصفوف، وهذا الاتجاه الجديد في البحث، يشير إلى ا لابتعاد عن الدراسات التي تركز على الفهم الفردي للطالب، وإلى التوجه نحو البحث في الطرائق التي تطور الفهم في السياقات الاجتماعية في صفوف العلوم، وتحيي الاهتمام في الدور الذي يلعبه المعلم في صف العلوم. وكان لكتابات فيجوتسكي ومعتقداته الثقافية الاجتماعية عن التطور والتعليم، تأثيرات كبيرة وبارزة في التربية على مدى السنوات العشر الأخيرة من القرن الماضي.
إن التفاعل الاجتماعي هو المرتكز الفكري للمنحى الثقافي الاجتماعي لفيجوتسكي الذي يشير إلى أن الوظائف العقلية العليا
الصفحة 176
التي يؤديها الفرد تستمد من الحياة الاجتماعية. أي أن التراكيب السيكولوجية العالية (مثل المعرفة المفاهيمية العلمية) تظهر أولا بين الناس على المستوى السيكولوجي البيني أو الاجتماعي، حيث تستخدم فيه اللغة وأساليب رمزية أخرى، ثم تظهر بعد ذلك داخل الفرد على المستوى السيكولوجي الداخلي.
ويقود منظور فيجوتسكي إلى مدخل تحليلي يميز أهمية التفاعل السيكولوجي بين الأشخاص وبخاصة طبيعة خطاب المعلم- الطالب في الصف، ويؤكد أن المعلم له دور وسيط في نقل المعرفة العامة الموجودة (كالمعرفة العلمية) إلى الطلبة.
ويستند تحليل فيجوتسكي لدور المعلم إلى إدراك التدريس باعتباره مساعدا على الإنجاز أو الأداء، وهذه الفكرة ترتبط برؤية التعلم في المدرسة على أنه تطور، وبالتدريس على أنه مساعدة الطالب في تحقيق مستوى من الانجاز ضمن " منطقة النماء القريب" التي يكون فيها الطالب غير قادر على إنجاز العمل أو المهمة بمفرده، ولكن بمساعدة المعلم سوف يصبح قادرا تدريجيا على إنجاز العمل وحده.
وأشارت غَلَس كما جاء في غيرود وونج إلى الفكرة السابقة نفسها، إذ ترى أن "البيداغوجيا" القائمة على الخطاب تسمح للمعلم والطلبة بالانخراط في حديث فعال عن العلوم وطبيعة العلم.
الصفحة 177
وهكذا، فإن النظرية البنائية الاجتماعية للتعلم والتعليم تؤكد أهمية الخطاب الصفي والحوار والجدل كأدوات موجهة للاستيعاب المفاهيمي، وتؤكد دائماً أن خطاب المعلم (خطاب المعلم- الطلاب، وخطاب المعلم - الطالب) الذي أنبثق من عمل فيجو تسكي كما ورد في كازدين، وخطاب الطالب-الطالب أو تفاعل الأقران في تطوير مهارات الخطاب والتفكير الذي تناولها بعض الباحثين المعاصرين مثل غلس، يعدّان فرصاً حقيقيةة تسمح للطلبة بتوليد المعاني.
وإذا رغبنا في دراسة أسباب إخفاق الطلبة في تعلم المفاهيم، فمن الضروري دراسة الدورالذي يلعبه الخطاب في تعليم العلوم، وفحص ما يتحدث به كل من المعلم والطالب، وما يناقشه الطلبة، وكيف ينخرطون في المناقشات داخل الصفوف، عند تنفيذ أنشطة وتجارب العلوم، وكيف يستخدم كل منهما اللغة لربط أفكارهم والتواصل في الأفكار، وهل يبتكر الطلبة معاني واسعة حينما يشتركون في تنفيذ أنشطة وتجارب العلوم، وهل تنعكس هذه المعاني في كلماتهم الخاصة التي يستخدمونها للتعبير عن الفهم.
إن للخطاب الصفي محتوى وأغراضا، ولكن على أي شيء يدور هذا المحتوى وتلك الأغراض؟ هل يدور على الحقائق أم على التعميمات؟ أم يدورعلى التطبيقات أو التفسيرات؟ أم يعتمد العرض؟ ثم ما نوع الخطاب الذي يستخدمه المعلم، وكيف يتحدث كل من المعلم والطالب في دروس العلوم؟ وكيف تنفذ الدروس والأنشطة والتجارب العلمية؟ وهل تلعب اللغة دورا في تعلم العلوم؟ وإذا كان لها دور، فما طبيعته؟ وما نوع اللغة التي يستخدمها الطلبة؟ وما العلاقة بين الخطاب الصفي السائد وتعلم الطلبة؟
الصفحة 178
ويتألف الخطاب الصفي كما ذكر لمكي من العناصر الآتية:
وتصف العلاقات الدلالية في تحليل الموضوع كيفية ارتباط معنى كلمتين أو جملتين عند استعمالهما معا في الحديث عن موضوع معين. كذلك يمكن أن يعبر عن العلاقات الدلالية باستخدام علاقات نحوية مختلفة بين الكلمتين او المفردات الموضوعية (الثيماتية)، وتستخدم بعض الأحيان المصطلحات (التراكيب) القوا عدية لتسمية العلاقات الدلالية، وكل علاقة دلالة هي علاقة خاصة للمعنى بين كلمتين أو جملتين أو مفردتين من المفردات الموضوعية (الثيماتية) أو بين مجموعتين من مفردات الموضوع المرتبطة.
الصفحة 179
ويعد لمكي التحليل الموضوعي تجريدا للنص من الصياغة الخاصة، أي إنه يجب عند تحديد علاقات دلالة تجاهل العديد من النقاط الصغيرة، وأيضا بعض الأنماط النحوية، لأن الموضوع يبقى نفسه، لو قلنا "المخطط التالي يمثل ذرة الهيليوم" أو "ذرة الهيليوم ممثلة بالمخطط التالي"، اختلفت الصياغة ولكن النمط (الدلالة) هو نفسه لم يتغير.
وقد قسم لمكي علاقات الدلالة إلى خمس مجموعات:
ويتم التحليل بأتباع الخطوات التالية:
الصفحة 180
انظر الرسم الموجود الصفحة 204 في البدف أعلاه.
وقد قدم تحليلا مفصلا لأجزاء من جلسات صفية مصورة ومسجلة لأكثر منا اثني عشر معلما في ثلاث مدارس ثانوية، ووصف الخطاب من جلسات الصفوف من الصف التاسع وحتى الصف الثاني عشر، في دروس الإحياء والكيمياء والفيزياء وعلوم الأرض. وكان المعلمون جميعهم متطوعين للمشاركة في هذا المشروع، وقام الباحث بزيارة أولية للصفوف قبل بدء التسجيل، وتم التسجيل بآلة تسجيل صوتي: في مقدمة الصف وأخرى في الخلف.
الصفحة 181
وقام الباحث أيضا بكتابة ملاحظاته الصفية للأحداث كما حصلت داخل الصف، وكذلك أعطى انتباها واضحا للتفاعل غير اللفظي، وأيضا قام بمقابلات مع المعلمين قبل الدرس عن طبيعة الصف والمنهاج، وفي بعض الحالات كان الباحث يقوم بمقابلة الطلبة، وتمت مقابلات مع بعض المعلمين بعد الزيارة الأخيرة للباحث، دارت حول انطباعاتهم عن كيفية تقديم الدرس واتجاهاتهم حول الطلبة والمنهاج، وقسم الباحث النصوص المكتوبة للخطاب الصفي إلى أجزاء. وحلل هذه الأجزاء لتحديد تراكيب الأنشطة والاستراتيجيات المطبقة من جانب المعلمين والطلبة كاستراتيجيات المونولوج، والحوار، والحوار الثلاثي بين المعلم والطالب، وللكشف عن الأنماط الموضوعية (الثيماتية) لمحتوى العلوم واستراتيجيات تطوير النمط الموضوعي (الثيماتي) المستخدمة من جانب المعلمين، وأشار لمكي في معظم دراساته إلى الحوار الثلاثي الذي يبدأ بأسئلة المعلم ثم باستجابة الطالب يليها التقويم والتوسع في الإجابة من جانب المعلم هنا يتساءل كيف يختلف الخطاب في العلوم عنه في التاريخ والأدب والرياضيات.؟ وكيف يكون المعلم محتوى هذه الخطابات.؟ وأكد لمكي أن محتوى الخطاب نفسه يمكن أن يعبر عنه بأساليب مختلفة، وأن العلاقة بين مفهومين عمليين يمكن أن يعبر عنها كجملة مفردة واضحة إما بالحوار الذاتي أو بالربط التسلسلي (سؤال- جواب – تقويم) في الحوار الصفي. وما يتغير هو الأسلوب والأدوار .Semanic الاجتماعية والعلاقات والتراكيب القواعدية، وما يبقى دون تغيير هو علاقات الدلالة
الصفحة 182
وحتى يكون المعلم قادرا على تجسيد خطاب صفي يفصح عن طبيعة العلم، يجب أن تكون لديه معرفة بطبيعة العلم وبكلمات أخرى يجب أن تكون لديه معرفة بالمحتوى (مادة الموضوع)، ومعرفة بيداغوجية (معرفة بأصول التعليم)، ومعرفة بطبيعة العلم، إن معرفة الموضوع وحدها، أو معرفة طبيعة العلم وحدها، أو المعرفة البيداغوجية وحدها لا تكفي ليكون المعلم ناجحا في تعليم طبيعة العلم، بل على المعلم أن يمزج بين هذه المجالات الثلاثة معا ليمتلك معرفة المحتوى البيداغوجية لطبيعة العلم كما هو موضح في الشكل (1) الذي يبين معرفة المحتوى البيداغوجية لطبيعة العلم كما وردت في دراسة لشوارتز وليدرمان.
اللذيْن أشارا إلى مجالات أخرى غير مبينة في الشكل (1) تتطلب انتباهاً واضحاً، وهي معرفة تاريخ العلم، والاستقصاء العلمي، ومناح (مداخل) بيداغوجية ذات علاقة بطبيعة العلم، تتفاعل(تتضافر) مع معرفة مادة الموضوع ومعرفة طبيعة العلم، وأكدا أن الأنشطة القائمة على الاستقصاء تعدّ طرائق لتعليم الطلبة عن طبيعة العلم، وهذه الرؤية تتفق مع تلك التي قررتها حركات إصلاح مناهج العلوم، التي أكدت أن الاستقصاء قد يوفر السياق لتعليم الطلبة طبيعة العلم، ولكن الاستقصاء وحده ليس كافيا لحبك مفاهيم طبيعة العلم في المحتوى التقليدي. أي أن المعلم يجب أن يكون قادرا على أن يسيّق (ينسج) ما يعرفه عن التعليم مع ما يملك من مفاهيم وأمثلة حول طبيعة العلم وتاريخه، وأن يصمم أنشطة قائمة على الاستقصاء لتوصيل أو تقديم طبيعة العلم بشكل مفهوم للطلبة.
الصفحة 183
انظر الشكل الموجود الصفحة 207 في البدف أعلاه.
كما أشار عبد الخالق وليدرمان إلى أن البحوث التي اهتمت بتحسين مفاهيم المعلمين عن طبيعة العلم كانت قائمة على افتراض أن مفاهيم المعلمين هذه تُنقل مباشرة إلى ممارساتهم داخل الصف. ولكن الدراسات التجريبية التي فحصت هذه الافتراضات تؤكد أن العلاقة بين مفاهيم المعلمين لطبيعة العلم وممارساتهم داخل الصف أكثر تعقيدا مما يعتقد، وأظهرت هذه الدراسات معيقات عديدة تحول دون ترجمة فهم المعلمين لطبيعة العلم إلى ممارسات داخل الصف.
ولمساعدة المعلمين في تغيير ممارساتهم داخل الصفوف، يجب مساعدتهم في توسيع وإغناء أنظمتهم المعرفية التي تشمل مجالات المعرفة التي تسهم في تعليم طبيعة العلم للطلبة. ويستطرد كل من شوارتز ولدرمان في
الصفحة 184
شرح هذه الفكرة: "ولكن امتلاك المعلم قاعدة معرفية تتضمن معرفة بيداغوجية لطبيعة العلم ليست كافية لتعليم فعال لطبيعة العلم، وإنما هناك متطلبات أخرى لذلك تشمل بالإضافة إلى القاعدة المعرفية، إيمان المعلم بقدراته لتعليم فعال لطبيعة العلم، وإيمانه بقدرات الطلبة في تعلم طبيعة العلم، ثم الترجمة الهادفة لهذه المعرفة إلى ممارسات صفية تشير بوضوح إلى تعليم صريح لطبيعة العلم، مما ينعكس إيجابا في تحصيل الطلبة".
الصفحة 185
انظر المراجع من الصفحة 209 الى 210
الصفحة 186
التعلم القائم على المشكلات
د. بسام إبراهيم
كلية العلوم التربوية / الانروا
المقدمة:
استخدم الإنسان قديماً أنماطاً من التفكير غير العلمي، كالتفكير بطريقة المحاولة والخطأ، والتفكير الخرافي، والتفكير المنطقي الأرسطي. واستطاع عن طريق هذه الأنماط المختلفة من التفكير أن يحصل على إجابات ويصل إلى تفسيرات معينة للأشياء والأحداث والظواهر من حوله. وكثيراً ما تقبلها الإنسان من غير أن يناقشها أو يتساءل عن كيفية التوصل إليها أو التحقق من صحتها.
وظلّت هذه الأنماط من التفكير عاجزة عن توفير الحقيقة التي تدعمها الملاحظات الدقيقة للوقائع المحسوسة ونتائج التجربة العلمية، إلى أن استطاع اكتشاف أساليب للتفكير العلمي مكنته من التحرر من قيود الأنماط القديمة، وتوصل عن طريق أساليب التفكير العلمي تلك إلى التغلب على المشكلات التي عجز عن إيجاد حل لها (بسيونى والديب، 1989).
ويصادف الفرد الكثير من المشكلات في أثناء تفاعله مع بيئته، بحيث أنه إذا لم يستطع التغلب على ما يعترضه من هذه المشكلات، فإنه يشعر بالإحباط الذي قد يؤدي إلى الصراع النفسي (خير لله والكناني، 1996).
وتلعب العلوم والتكنولوجيا دورا بارزا في تنمية التفكير العلمي الذي من خلاله يمكن التصدي لما يواجه الأفراد والمنظمات من المشكلات المختلفة التي يتعرضون لها، فلقد رأت منظمة اليونسكو في عام 1994 أن الثقافة العلمية (1)
الصفحة 187
والتكنولوجية (1) حاجة عالمية، لكي لا يغترب الناس عن مجتمعهم ولكي لا يكونوا مرتبكين وضعيفي المعنويات بسبب التغيير، وسيكون التفكير وحل المشكلات الأساسين الجديدين للتعليم في القرن الحادي والعشرين
.(Jenkins,1997)
من هنا كان التفكير في كيفية تدريس العلوم وماذا ندرس مطلبا عالميا لتحسين عملية التعليم، وأخذ هذا المطلب يتزايد أكثر فأكثر خلال العقد الماضي.
ولقد ظهرت تحولات جذرية في النظرة إلى تدريس العلوم والكيفية التي يجب أن يتم بها، ومن هذه التحولات التعلم القائم على المشكلات. حيث أن استخدام التعلم القائم على المشكلات في تدريس العلوم يزداد انتشاراً مع الزمن، وذلك لأنه يقدم للطالب مواقف للتعلم المفتوح تخلو من القيود التي تطرحها أساليب التدريس التقليدية.
وقد حُددت خصائص النظام التربوي الجديد بأنها تتضمن تعلماً تعاونياً، ومهارات حل المشكلات، ومهارات إعطاء معنىً للتعلم، ومهارات الاتصال ووجود معلم دوره تسهيل وتوجيه عملية التعلم، وهذه الخصائص إلى حدٍ بعيد مماثلة لخصائص التعلم القائم على المشكلات. ذلك أن تقديم الموضوعات والدروس العلمية على صورة مشكلات علمية من الأساليب التي تبعث الحيوية والنشاط في الصف، بل وتثير الطاقات الإبداعية لدى الطلبة.
يُعد التعلم القائم على المشكلات من الأساليب الحديثة في التدريس تُرد بدايته إلى باروز من جامعة مكماستر في منتصف الستينات،ثم أخذ ينتشر بعد ذلك وبخاصة في التسعينات من القرن الماضي. وقد ظهر الاهتمام باستخدام هذا النوع من التدريس، نظر اً لزيادة الاهتمام بتنمية العمليات العقلية
الهوامش:
(1) أحيانا يشار إلى هذا المصطلح بالتنوير العلمي.
الصفحة 188
والسلوكية والاجتماعية لدى الطلاب، كالملاحظة، وإدراك العلاقات والترابط بين المعلومات، واستنتاج البيانات وتحليلها وتفسير المعلومات المتوافرة تحت أيديهم، كما أن التعلم عن طريق المشكلة يؤدي إلى نتائج ومؤشرات أفضل لدى الطالب الدارس أو المتدرب من التعلم عن طريق الأساليب التقليدية (السامرائي وزملاؤه، 1994).
وتبدو أهمية مدخل التعلم القائم على المشكلات في الوصول إلى النتيجة المرجوة بطريقة موضوعية، وأهمية التفاعل القائم في هذا المدخل بين الجانب العقلي المتمثل في فرض الفروض والجانب الحسي المتمثل في الملاحظة والتجريب (الدمرداش، 1991).
وقد أشارت دتش إلى أن من أهم توصيات مؤتمر وينجسبرد الذي انعقد عام 1994 هو حث المعلمين على تبنّي طرائق صفّية تساعد الطلاب على تنمية القدرات التي تعرف بأنها لازمة للنجاح، ويتضمن هذا ما يأتي:
ويوفر التعلم القائم على المشكلات بيئة مناسبة لتنمية هذه المهارات.
ويرى تشن وباروفالدي أن التعلم القائم على المشكلات تعلم لا يركز فقط على المعارف والمعلومات" معرفة ماذا" ولكن يتعدى ذلك إلى التركيز أيضاً على ا لإجراءات المعرفية أي" معرفة كيف" حيث أن "معرفة ماذا"
الصفحة 189
تمكن المتعلمين من اكتساب المعرفة، ولكن لا تمكنهم من استخدام هذه المعرفة.
في حين أن " معرفة كيف" تمكن المتعلمين من تطبيق المعرفة والمفاهيم في مواقف جديدة.
التعلّم القائم على المشكلات وبنية التعلم المفاهيمية
لقد شهد عقد الثمانينيات من هذا القرن حركة تدريس تدعو إلى تعليم الطلبة كيف يعالجون المعلومات وكيف يفكرون تفكيراً مستقلاً وفعالاً. وهذا النوع من التعلم يركز على الفهم، وعلى تعلم كيف نتعلم بوصفهما هدفين رئيسين في التدريس، ويشتملان على جوانب التفكير المتعددة (جونز، وزملاؤه، 1988).
وربما أيد هذا التوجه، النظرة المعاصرة للعلم على أنه بناءٌ دينامي متطور ومنهج منظم للاستقصاء والبحث والتفكير، يتم من خلاله التوصل إلى أبنية المعرفة العلمية، وتشكل المفاهيم العلمية في ضوء هذه النظرة لحمة الأبنية المعرفية، فالحقائق والقوانين العلمية لا تكسب العلم الصفة الدينامية، لأنها لا تُظهر الكيفية التي تتطور بها المعرفة، ولا تظهر طبيعة العلم ووحدته، لذلك لا بد من جامعٍ يجمعها وهو المفاهيم والمخططات المفاهيمية (الشيخ، 1973).
وعلى ذلك فإن تعلم المفاهيم العلمية واكتسابها من الأهداف التي يسعى العاملون في التربية العلمية لتحقيقها من خلال تدريس العلوم (زيتون، 1999).
ويسعى المعلم من خلال ما يملك من بنية مفاهيمية متماسكة ومن خلال الاستراتيجيات التعليمية التي يستخدمها، إلى ربط وتنظيم المفاهيم التي يقدمها، ويفرض عليها تنظيماً عقلياً يحتويها ويفسر العلاقات بينها ويجمع شتاتها في نسقٍ واحد، وينقلها إلى طلبته بأقصر السبل وأيسرها. ويظهر المخطط في الشكل (1) أن امتلاك المعلم للبنية المفاهيمية للموضوع المعرفي الذي يدرسه، واختياره لاستراتيجيات تعليمية مناسبة تحفز الطلبة على ربط المفاهيم
الصفحة 190
الجديدة المراد تعلمها بطريقة منظمة وغير عشوائية، بما هو موجود في بنيتهم المفاهيمية السابقة، يؤدي إلى امتلاك الطلبة لهذه البنية المفاهيمية.
انظر الشكل الموجود الصفحة 215 في البدف أعلاه.
ومن الاستراتيجيات التعليمية المناسبة لتكوين بنية مفاهيمية متماسكة لدى الطلبة استخدام استراتيجية التعلم القائم على المشكلات.
ويشير (قطامي، 1990) إلى أن المتعلم من خلال سلوكه لحل المشكلة يكون صانعاً للفروض، ومختبراً لها، وواصفاً لخطة العمل للسير في طريق حلها. كما أنه في موقف حل المشكلة يتعلم وصف الظواهر، ويحتاج إلى خطط لبناء المفاهيم البسيطة بقدر ما تسمح به قدراته وخبراته وأبنيته المعرفية، كما أنه بحاجة إلى وضع خطة لتعميم العلاقات بين المفاهيم البسيطة التي يطورها ويتمثلها، وحتى يتسنى فهم حل المشكلة لا بد من فهم حالات المشكلة وأوضاعها.
الصفحة 191
ويعرّف كيرليك ورودنيخ استراتيجية التعلم القائم على المشكلات على أنها استراتيجية للتعلم تتضمن معلومات ومهارات تمكن الطالب من فهم المشكلة التي يواجهها ثم يعمل على حلّها، وهذه المعلومات والمهارات تصبح مكونات أساسية في أبنيته المعرفية بعد تعلمها، ويمكن أن يستخدمها في حل موقف جديد يشبه الموقف الأصلي.
ويرى دودز كما ورد أنّ التعلم القائم على المشكلات يقدم للطالب فهما ذا معنى يمكنه من استدعاء وتذكر المادة التي تم تدريسه إياها من خلال مواقف ومشكلات واقعية متعددة.
ويذكر أندرسون أن التعلم عن طريق المشكلات، ما هو الا عملية تشكيل إجابات جديدة ومختلفة يمكن أن تعتمد على تطبيقات بسيطة لقوانين ومبادئ يتم تعلمها سابقاً للوصول للحل، بالإضافة إلى تطبيقات أخرى أكثر تعقيداً معتمدة على تلك القوانين، وهذا يحدث عندما لا تستطيع الاستجابات الروتينية أو السريعة الإجابة عن المشكلة القائمة (أبو لبن، 1999).
وعند النظر إلى التعلم القائم على المشكلات كإطار تدريس، فإن المادة العلمية وطريقة تدريسها تصبح أدوات في يد المعلم والطالب عندما يصبح الهدف هو تحقيق سلوك مرغوب.
وطريقة التعلم القائم على المشكلات هي إحدى الوسائل التي يمكن أن تُظهر فعاليتها في هذا المجال، فقد أشارت بعض البحوث إلى أن الطلاب الذين درسوا موضوعات معينة باستخدام استراتيجية التعلم القائم على المشكلات كانوا أكثر قدرة على تذكر المعلومات والاحتفاظ بها واستخدامها في مواقف جديدة من أولئك الذين يتعلمون .(Torp&Sage, 1998)بالطرق المعتادة
الصفحة 192
وتقوم استراتيجية التعلم القائم على المشكلات في التدريس على جعل المشكلات التي تتصل بموضوع الدراسة محوراً ونقطة بداية، إذ إن النقطة الأساسية هنا تكمن في تنظيم محتويات المنهج بحيث تتمحور حول سيناريو المشكلة أكثر من تركيزها على الموضوع أو المادة، ومن خلال التفكير في حل هذه المشكلة وممارسة أنواع النشاط التعليمي المختلفة يكتسب الطالب المعلومات والطريقة العلمية وعدداً من المهارات العقلية والعلمية المعقدة. فهي –بذلك-استراتيجية تعليمية تهدف إلى ربط المشكلات الواقعية بعملية التعلم، وتزود الطلبة بالمصادر والتعليمات اللازمة أثناء تطويرهم للمهارات المستخدمة في حل المشكلة. وتتم ضمن مجموعة طلابية تناقش المشكلات، وتكون مهمة المعلم فيها تسهيل عملية التعلم وتشجيعها. ولأن توجيهات المعلم وتعليماته تكون أقل باتباع هذه الاستراتيجية، فإن الطلبة يأخذون على عاتقهم مسؤولية أكبر في عملية تعليم أنفسهم، ويصبحُ دور المعلم دور الخبير في المادة، وموجِّهاً للمصادر، ومستشاراً لمجموعات النقاش الطلابية مما يوفر تفاعلاً أفضل بين الطلبة والمعلومات، إذ ليس الأمر مجرد نقل للمعلومات من المعلمين إلى الطلبة.
لكن هل هناك فرق بين أسلوب التعلم القائم على المشكلات واستراتيجية حل المشكلة؟
واحدة من أكبر الصعوبات التي رافقت ظهور أسلوب التعلم القائم على المشكلات، هي الخلط بين أسلوب التعلم القائم على المشكلات واستراتيجية حل المشكلة.
ومع أنّ التعلم القائم على المشكلات يوظّف توظيفاً مكثفاً مهارات حل المشكلة، إلا أنه يختلف عن استراتيجية حل المشكلة. ذلك أن استراتيجية حل المشكلة يمكن استخدامها من غير أن يتطلب ذلك تصميم المنهاج
الصفحة 193
(والوحدات التدريسية) على نحو يصبح التعلم فيه منطلقا من مشكلات وقائماً على حلها. وعليه، فإنه في استراتيجية حل المشكلة، يتم في الأغلب تعلم المفاهيم والمبادئ باستراتيجيات وطرائق مغايرة، ويأتي د ور استراتيجية حل المشكلة في استخدام المفاهيم والمبادئ المتعلمة وتوظيفها في حل مشكلات تطبيقية: أكاديمية وحياتية.
ويرى (عبد الحميد، 1987) أن استراتيجية حل المشكة نوع من التعلم، يتضمن علاقات معقدة، وهي في الأساس عبارة عن بحث عن مشكلة حقيقيةة لا يتوافر حلها، وإعادة ترتيبها، وهو يستلزم استبصاراً واكتشافاً للعلاقات بين الوسائل والغايات. وحتى يستطيع المتعلم أن يصل إلى حل المشكلة، لا بد أن يقوم أولاً بعملية الاكتشاف ثم التطبيق ومن ثم الوصول إلى حل المشكلة وبالتالي الوصول إلى الإبداع. ويوضح الشكل (2) العلاقة بين التعلم بالاكتشاف واستراتيجية حل المشكلات.
انظر الشكل الموجود الصفحة 218 في البدف أعلاه.
الصفحة 194
ويرى أوزبل المشار إليه في (عبدالحميد، 1987) أن التعلم بالاكتشاف ما هو إلا الخطوة الأولى التي تؤدي إلى حل المشكلات وبالتالي إلى الإبداع، كما يرى ضرورة أن يسبق النشاط الإكتشافي عملية استيعاب الحقائق والمفاهيم والمبادئ الجديدة، وفي رأيه أن المعلم لو استطاع أن ينظم مادة التعلم تنظيماً له معنى، فإن حاجة المتعلم إلى الاكتشاف تتناقص، بل يصل التعلم إلى درجة أعلى من الكفاية.
ويرى بر ونر المشار إليه في (صادق وأبو حطب، 1984) أن المتعلم في مواقف التعلم الاكتشافي يواجه مشكلة تتخذ إحدى الصور الآتية:
وتعد استراتيجية حل المشكلات استراتيجية تعليمية يتم من خلالها تعلم المضمون والمهارات باستخدام مشاكل حقيقيةة تولّد الدافع أو الحافز لتعلم الطلبة، ويمكن القول إن استخدام هذه الاستراتيجية في التدريس له مزايا عدة يلخصها (لبيب، 1985؛ عميرة والديب، 1987؛ زيتون، 1999) فيما يأتي:
الصفحة 195
أما عن خطوات حل المشكلات التي يُفترض أن يكون لدى المتعلم في بيئة التعلم القائم على المشكلات دراية كافية بها وذلك للوصول إلى حل المشكلات، فيشير (السامرائي وزملاؤه، 1994) إلى أن عدد خطوات حل المشكلات وتسمياتها تختلف من باحث لآخر، وأن عملية حل المشكلة لا تتضمن عملاً واحداً فقط، وإنما تتضمن القيام بعدد من الأعمال أو المراحل المترابطة التي تتطلب من الفرد أن يسير وفق خطوات أو مراحل معينة.
فقد اقترح هيس المشار إليه في قائمة تتكون من ست خطوات لآلية حل المشكلة وعلى النحو الأتي:
الصفحة 196
أما هيني وواتس فقد وضعا سبع خطوات لآلية حل المشكلات، وهي ملخصة بما يأتي:
في حين وضع هولي ثماني خطوات لاستراتيجية حل المشكلات، وهي تشمل ما يأتي:
أما (زيتون، 1999) فقد أشارا إلى الخطوات المبينة أدناه في حل المشكلات وعلى النحو الآتي:
الصفحة 197
ويرى (لبيب، 1985) أن الأخذ بأسلوب التعلم القائم على المشكلات يتطلب وعي المعلم بالآتي:
أ- تحديد المشكلة المرتبطة بموضوع الدرس:
وتتمثل هذه المشكلات في الآتي:
ب- ضرورة مراعاة الشروط الآتية عند اختيار المشكلة:
ج- تحديد خطة (لحل المشكلة) من قبل الطلاب:
ضرورة أن يلتزم المعلم بخطوات التفكير العلمي ومن ثم القيام بالخطوات الآتية:
الصفحة 198
د- تعميم النتائج:
إذا ما توصل الطلاب إلى حل المشكلة، فإن ذلك يؤدي إلى القيام بتعميم (مبدأ أو قانون)، بحيث يمكن الطلاب من تطبيقه في مواقف أو مشكلات أخرى جديدة.
ه- التقويم:
ليس المقصود من اتباع استراتيجية التعلم القائم على المشكلات تدريب الطلاب على التفكير العلمي وخطواته فقط، بل تهدف هذه الاستراتيجية أيضاً إلى اكتسابهم المعلومات العلمية وتنمية الاتجاهات الإيجابية، وعلى المعلم أن يؤكد ما اكتسبه الطلاب من المعلومات الجديدة في أثناء الدرس، ويمكن التحقق من ذلك بطرح مجموعة من الأسئلة تهدف إلى الكشف عن مدى اكتسابهم المتعلمين للحقائق والمعلومات والمهارات في مواقف أو مشكلات أخرى ذات علاقة بالمشكلة الأصلية.
ويحتاج الطلاب أيضاّ إلى التدرب مسبقا على كيفية تنفيذ هذا الأسلوب من التعلم داخل غرفة الصف، وتتمثل هذه الآلية كما يوضحها نيتو وفالنتي بالآتي:
أولا: طرح مشكلة على الطلاب أو تشجيعهم على أن يقدموا مشكلات، وتوجيههم نحو وضع فروض قابلة للاختبار.
ثانيا: تشجيع الطلاب على التوصّل إلى المعلومات والبيانات التي تتصل بالمشكلة، بالرجوع إلى الكتب والمراجع، أو باستخدام الأسئلة والاستفسارات.
الصفحة 199
ثالثا: إتاحة الفرصة للانشغال في فترة الحضانة (2)، حيث تجعل الطلاب يمعنون في المشكلة معتمدين على أنفسهم قبل وضع حل لها.
رابعا: عند حدوث الومضة (3) (الوصول للحلول الممكنة)، يُشجّع الطلاب على صياغة الحل على شكل فروض، وقد يكون الحل صادقاً لا يحتاج إلى تحقيق.
خامسا: اختبار الفروض أو الفروض البديلة، كما تتّبع الإجراءات نفسها خارج غرفة الصف من اجل انتقال اثر التعلم، على أن يطلب من الطلاب تقديم تقاريرهم عن حلول ناجحة لمشكلات مارسوها بالفعل.
سادسا: من المفيد أن يعرف المتعلمين أن المشكلة الواحدة قد يكون لها أكثر من حل واحد، أي أن لها حلولاً بديلة ومتعددة، حتى لا يتقيّدوا بحلٍ واحد يصعب التوصّل إليه، وحتى تتصف طريقتهم في حل المشكلات بالإبداع متمثلة في عناصر الطلاقة والمرونة والأصالة.
من ذلك يمكن القول إن استخدام استراتيجية التعلم القائم على المشكلات في تدريس العلوم في غرفة الصف تتطلب من المعلم أن يبدأ الدرس بطرح المشكلة على هيئة تساؤل يثير اهتمام الطلاب ويتحدّى تفكيرهم، ثم يحدد المعلم أو (الطالب) مشكلة الدرس، ويضع الأسئلة التي يتناولها بحث المشكلة، وينظم خطوات الدرس، ويحدد الأنشطة اللازمة لخطوات حل المشكلة، ويتيح الفرصة للطلاب لصياغة الفروض واختبارها وجمع البيانات من الكتب والمجلات والمصادر العلمية المتوفرة ومن ثم التوصّل للنتائج ثم حل المشكلة والتوصّل إلى تعميمات يمكن تطبيقها في مواقف أخرى جديدة.
الهوامش:
(1) وتسمى أيضا فترة الكمون أو الاختمار.
(2) لعل هذه الومضة هي ما يجمع الاكتشاف باستراتيجية التعلم القائم على المشكلات.
الصفحة 200
استراتيجية التعلم القائم على المشكلات وتنمية الاتجاهات العلمية لدى المتعلمين
يرى المختصون بالتربية العلمية وتدريس العلوم، أن تكوين الاتجاهات العلمية وتنميتها لدى الطلبة من الأهداف الرئيسة لتدريس العلوم. وقد يرجع ذلك في جزء منه، إلى دور الاتجاهات العلمية كموجهات للسلوك يمكن الاعتماد عليها في التنبؤ بنوع (السلوك العلمي) الذي يقوم به الفرد (المتعلم)؛ وكذلك في عدّها دوافع توجه الطالب المتعلم لاستخدام طرائق العلم وعملياته ومهاراته بمنهجية علمية في البحث والتفكير، وتوجيهه نحو بذل المزيد من الجهد في سبيل فهم أفضل للمشكلات العلمية المعطاة (زيتون، 1999).
ويُعرف (زيتون، 1988) الاتجاه العلمي بأنه مفهوم يرتبط بمعنى (العلم) وركائزه وأسسه، وهو يعبر عن محصلة استجابات الفرد (الطالب) نحو موضوع ما من موضوعات العلم، وذلك من حيث تأييد الطالب لهذا الموضوع أو معارضته له. ويلخص (شريجلي، 1987؛ زيتون، 1988) خصائص الاتجاهات في التربية العلمية وتدريس العلوم بما يأتي:
الصفحة 201
أما في شأن المكونات السلوكية للاتجاهات العلمية كهدف من أهداف تدريس العلوم، فيمكن عدّ العناصر السلوكية التي تظهر في سلوك الطالب ذي الاتجاه العلمي والعقلية العلمية، من أهم الوسائل والأساليب التي يمكن لمعلم العلوم أن يستخدمها لتحديد مستوى الاتجاهات العلمية وقياسها وتنميتها، ويذكر كاظم وزكي، 1987؛ والشيخ المشار إليه في (المحتسب،1984) أن المكونات الأساسية للاتجاهات العلمية تتضمن ثمانية مكونات رئيسة وهي: العقلية الناقدة، وتعليق الحكم، واحترام البرهان، والأمانة العلمية، والموضوعية، والاستعداد لتغيير (تعديل) الآراء، والانفتاح العقلي والاستطلاع والاستفسار.
ويذكر (زيتون، 1999) أن المظاهر السلوكية التي تظهر في سلوك الطالب (المتعلم) ذي الاتجاهات العلمية، تختلف عن سلوك الشخص العادي في بحث القضايا (العلمية) والمشكلات الحياتية. ومن هنا يؤكد تدريس العلوم أهمية تشكيل الاتجاهات العلمية وتنميتها لدى الطلبة، لما تلعبه من دور في تشكيل شخصية الطالب العلمية وتوجيه سلوكه والتنبؤ به.
هذا، وتشير خلاصة الدراسات والبحوث التربوية في تدريس العلوم إلى قدرة معلمي العلوم على لعب دور حاسم في تنمية الاتجاهات العلمية، ولهذا يقترح المربون ومختصو العلوم برامج ونشاطات علمية وأساليب تدريسية تجعل من الطالب عنصرا مشاركا وفاعلا في عملية تعلم العلوم أي ذا اتجاهات ايجابية، ومن
الصفحة 202
هذه الأساليب أسلوب التعلم القائم على المشكلات، حيث يؤكد جولد أن الاتجاهات الإيجابية نحو مواد العلوم ونحو العلم كما تبدو في أدبيات التربية العلمية، تجسد الالتزام بمنحى التعلم القائم على المشكلات، وتقويم الأفكار والمعلومات، واتخاذ القرارات.
ويورد (مسلم، 2000) المبررات الفلسفية لاستخدام التعلم القائم على المشكلات، ويقف على رأس هذا المبررات أن هذا الأسلوب من الأساليب العملية المناسبة لتعليم القيم وتنمية الاتجاهات والعادات المرغوبة. في حين يشير (لبيب، 1985؛ زيتون، 1999) على أن هذا النوع من التعلم يستحوذ على اهتمامات الطلاب وميولهم ويقودهم نحو بناء اتجاهات علمية إيجابية.
التعلم القائم على المشكلات والتفكير الإبداعي
تستمد استراتيجية التعلم القائم على المشكلات أهميتها من علاقتها بفهم المفاهيم العلمية والاتجاهات العلمية إضافة إلى علاقتها بالتفكير الإبداعي، حيث أن تقدم الأمم والشعوب في الوقت الحاضر لا يعتمد فقط على ما لديهم من إمكانات مادية، ولكن يعتمد أيضا على ما لديهم من إمكانات بشرية تتمثل بالأفراد المبتكرين المبدعين الذين لديهم القدرة على مواجهة المشكلات والعمل على حلها في جميع ميادين الحياة.
وفي هذا الصدد، أشار كل من جيلفورد وتورانس المشار إليهما في (خير لله، 1981) إلى أنه لا يوجد شيء يمكن أن يسهم في رفع مستوى رفاهية الأمم والشعوب أكثر من رفع مستوى الأداء الإبداعي لدى هذه الشعوب.
ولعل هذا بالفعل ينطبق أكثر على مجتمعنا العربي الذي هو في أمس الحاجة إلى أفراد مبدعين قادرين على تقديم الحلول لمشكلات الحياة اليومية، لذلك أصبحت تنمية قدرات التفكير، والتفكير الإبداعي بصفة خاصة لدى طلاب
الصفحة 203
المدارس، أحد الأهداف التربوية الهامة التي تسعى النظم التربوية الع ربية إلى تحقيقها من خلال برامجها، ففي الأردن -مثلا- كان من الأهداف الرئيسة لعملية تطوير المناهج في وزارة التربية والتعليم تنمية مهارات حل المشكلات، وتنمية التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي، وأساليب البحث العلمي، وإعطاء أهمية خاصة إلى العمليات العلمية والطرائق التي يُتوصل من خلالها إلى المعرفة العلمية، وعدم الاكتفاء بالتركيز على استظهار المعلومات (مؤتمر التطوير التربوي، 1987).
وييشير ماكّورميك إلى أن غرفة الدراسة المفتوحة (التعلم المفتوح) تنمي الإبداع الفردي، في حين أن الاتجاه التقليدي يركز على تدريس الحلول الجاهزة للمشكلات أكثر من تكوين الاتجاه نحو حل المشكلات، كما تتيح غرفة الدراسة المفتوحة (التعلم المفتوح) الفرصة للطلاب الصغار للتعبير عن إبداعاتهم.
إن التعلم القائم على المشكلات والتفكير الإبداعي بينهما ارتباط وثيق. فالتفكير الإبداعي ينتج عنه نتائج جديدة وكذلك حل المشكلات ينتج عنه استجابات جديدة أيضا (الأعسر، 2000).
وقد قدم جيلفورد نموذجا مبسطا لحل المشكلات على أساس نظريته في البناء العقلي أُطلق عليه نموذج البناء العقلي لحل المشكلات، ويرى جيلفورد المشار إليه في (جروان، 1999) أن نموذجه لحل المشكلات يستوعب التفكير الإبداعي في مرحلة توليد الأفكار والبحث عن بدائل للحل من مخزون الذاكرة. كما أن لعملية التقييم في مختلف المراحل دورا في التفكير الإبداعي الذي يتطلب تقليص البدائل من أجل الوصول إلى فكرة أصيلة أو حل جديد، غير أن مفهوم حل المشكلات أكثر اتساعا وشمولا من التفكير الإبداعي، مع أن كليهما يسهم في الوصول إلى نهاية ناجحة
الصفحة 204
عن طريق حل المشكلة، إذ ليس ممكنا الوصول إلى حلول المشكلات من غير خطوات أو نشاطات تفكيرية إبداعية بشكل أو بآخر، وقد تبرز مشكلات خلال العملية الإبداعية تزيد الحاجة إلى ممارسة نشاطات حل المشكلة. ويخلُص جيلفورد إلى الاستنتاج بأن حل المشكلات قد يشتمل على جميع أنواع عمليات البناء العقلي بينما يقتصر التفكير الإبداعي على بعضها.
وقد اتجهت بعض تعريفات الإبداع إلى ربطه بالإحساس بوجود المشكلات وبإيجاد حلول لها، بل إن الطرائق التي حاولت تنمية التفكير الإبداعي اعتمد معظمها على ما يسمى بالحل الإبداعي للمشكلة. وقد عرّف فوكس الإبداع بأنه ممارسة القدرة على حل المشكلات بطرق أصيلة ومفيدة، وكذلك ذكرت آن روو أن العملية الإبداعية أقرب ما تكون إلى حل المشكلات، ولكنها تختلف عنها في عدد الخطوات حيث يكون الهدف (الحل) واضحا في المشكلة، أما في العملية الإبداعية فليس هناك مثل هذا الهدف الواضح. (عيسى، 1994).
وقد أشار وايزبيرغ إلى أن الحلول الجديدة أو غير العادية للمشكلات هي في الواقع نتاج عملية تطويرية تتدرج من بدايات غير ناضجة أو كافية، ثم تبلغ الذروة بالوصول إلى الحل، وأن التحليل الدقيق لوضع المشكلة وكيفية السير في حلها يكشف بوضوح الطبيعة التطويرية أو التراكمية للحل الإبداعي.
مما سبق يمكن القول إن التفكير الإبداعي يشكل جزءا من أي موقف تعليمي مبني على حل المشكلات لأن استراتيجية التعلم القائم على المشكلات، تستدعي مرونة كافية في إعادة النظر بالمشكلة من زاوية جديدة في ضوء الخبرات الجديدة المكتسبة.
الصفحة 205
إنّ استراتيجية التعلم القائم على المشكلات استراتيجية تعليمية تهدف إلى ربط المشاكل الحياتية المحيطة بالمتعلم بعملية التعلم، وتُزود الطلاب بمصادر وتعليمات وتوجيهات تلزمهم في أثناء تطويرهم للمهارات المستخدمة في حل المشكلة، ولهذه الاستراتيجية أسس غنية في نظرية التعلم التجريبي، ويساعد استخدامها الطالب على تمثّل السلوك العلمي الصحيح عند حل المشكلة التي تواجهه، وذلك بعد تهيئة الظروف اللازمة لجعل المتعلم يكتشف المعلومات بنفسه بدلاً من أن يستمدها جاهزة من الكتاب أو المعلم، حيث يعمل الطالب وينغمس في خطوات المشكلة ليشعر بعد وصوله إلى الحل بشيء من الرضا.
الصفحة 206
انظر المراجع من الصفحة 231 الى 235
الصفحة 207
عقلنة منهاج التاريخ منظور أبستمولوجي
شهدت العصور الحديثة تزايداً معرفياً هائلاً، كما شهدت إقبالا من الأجيال المتنامية والمتفتحة على التعلم لم يعرف له نظير من قبل، وكان للثورة الصناعية والثورات التحررية التي تفجرت في مختلف أنحاء أوروبا أكبر الأثر في هذا الإقبال، كما كان لها أثر في تطوير مفهوم التعلم والتعليم وطرائقه، وقد تغيرت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية بعد هذه الثورات، وباتت الحاجة ملحة إلى ثورة إصلاح في المجالات التربوية، بحاجة إلى طلبة لا يتقنون إلا حفظ المعرفة بمختلف أشكالها من حقائق وتعميمات ومبادئ ونظريات وقوانين.
ولمواجهة هذا التحدي أجريت الدراسات والبحوث العلمية وأقيمت الندوات وألفت الكثير من الكتب (ويلبرج وآخرون، 1995) التي تناولت كيفية جعل المعرفة المقدمة للطلبة على شكل مقررات دراسية وسيلة للنمو (.Smith, el al, 1966)المعرفي السليم القائم على نظرية المعرفة
وتتعدد المنظورات الفكرية التي تناولت الحديث عن الإبستمولوجيا، لكن جل المصنفات تعيد المفهوم إلى جذوره الإغريقية، وكلمة مشتقة من كلمة إغريقية تتألف من مقطعين وتقابلها باللغة الإنجليزية، أما المقطع الثاني فتقابله باللغة الإنجليزية، وتعني الإبستمولوجيا بأبسط صورة لها: نظرية المعرفة، وتعود جذورها إلى القرن
الصفحة 208
التاسع عشر، وتتصل في أول ظهور لها بجيمس فرير. ويرجع البعض جذور الابستمولوجيا إلى عصر أفلاطون الذي عدّ المعرفة شكلاً من أشكال الإدراك أو الوعي المطلق، لكن أرسطو أكد على المنهجية المنطقية .(Dancy,2000)والامبريقية في تنظيم المعرفة وآمن كذلك بعالمية المبادئ والأفكار
أسهم كثير من الفلاسفة في صوغ الأدب الإبستمولوجي الذي تناول دراسة طبيعة الأشياء، وحاولوا الكشف عن حدود المعرفة الإنسانية. وتبحث الإبستمولوجية -التي تعني اصطلاحا ذلك الفرع من الفلسفة الذي يعني بدراسة طبيعة المعرفة- في ج
ملة من القضايا المهمة، مثل صحة المعرفة ونوعها، وأصلها، وهل هي فطرية أو أنها مكتسبة من خلال الخبرة؟ وهل هي مسألة ذهنية؟ وهل اليقين شكل من أشكالها؟ ومن المشكلات الرئيسة التي تعوق تطور الإبستمولوجيا نمو المعرفة الذي يمكن أن يدرس على أحسن وجه عن طريق دراسة نمو المعرفة .(Dancy, 2000)العلمية فقط بحسب مزاعم كارل بوبر
ويعدّ بوبر من الذين أحدثوا ثورة تطورية في الإبستمولوجيا، إذ يرى أن العلوم الاجتماعية ذات طبيعة مختلفة لأنها تتعامل مع وقائع متفردة يستحيل أن تماثل العلوم الطبيعية لكي نصل فيها إلى نظريات تنبؤية، فلا يمكن التنبؤ بمسارها أبد اً، ويؤكد بوبر أن التفكير الحر هو تفكير ناقد، لذا فإنه يناصب العداء للمعتقدات الجزمية، ذلك أن التفكير الجزمي ينطلق من مبادئ يقينية يتم تبنيها بشكل أعمى، من غير إدراك لاحتمالية دحضها. ويعرف المذهب التاريخي بأنه طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسة، كما تفترض إمكان الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن القوانين أو الاتجاهات أو الأنماط أو الإيقاعات التي يسير التطور
الصفحة 209
التاريخي وفقاً لها، وهو ينفي بذلك صبغة المنهجية العلمية عن العلوم الاجتماعية ويبرر ذلك بتعقد الظواهر الاجتماعية، ويسم التفكير التاريخي بالعقم والعجز عن تطوير قوانين أو نظريات تفسر الأحداث التاريخية، وتحاكي النظريات والقوانين في العلوم الطبيعية (بوبر، 1959).
وتحاول نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) أن تمعن النظر في ماهية العلوم الاجتماعية من خلال طرحها جملة من التساؤلات حول ماهية المعرفة أو أصل المعرفة وموقع الخبرة في توليد المعرفة والعلاقة ما بين المعرفة واليقين وبين المعرفة واستحالة الخطأ، والأشكال المتغيرة للمعرفة التي رافقت التغير المفاهيمي للعالم. ويظهر أن جميع القضايا السابقة على اتصال وثيق بالفلسفة، مثل طبيعة الحقيقة، وطبيعة المعنى. وقد ظهرت إشكالية توضيح مفهوم المعرفة والعلاقة بين المعتقد والحقيقة في عصر أفلاطون حيث عد أفلاطون المعرفة اعتقاداً صحيحاً.
ويتركز النقاش في حقل الإبستمولوجيا حول تحليل طبيعة المعرفة ومدى ارتباطها بالحقيقة، وهي معنية أيضاً بإنتاج المعرفة وبمذهب الشك في الولوج لأصل المعرفة وأشكالها.
وأولى اهتماماً ملحوظاً بطريقة تفكير المعلم وطرائق تدريسه في الدراسات الاجتماعية وعلاقتها بنظرية المعرفة وأطلق عليها بقايا الإبستمولوجيا في منهجية البحث العلمي، وعد أن دراسة الإبستمولوجيا في الدراسات الاجتماعية تسهم في معالجة الأبعاد المختلفة للافتراضات والقيم التي يتضمنها المنهاج.
الصفحة 210
ويعرف المجلس الوطني للدراسات الاجتماعية منهاج الدراسات الاجتماعية بأنه الدراسة المتكاملة للعلوم الاجتماعية والإنسانية لتعزيز الكفاية المدنية.
وينضوي منهاج الدراسات الاجتماعية في البرنامج المدرسي على دراسة منظمة ومتكاملة مع فروع معرفية متعددة، كعلم الأجناس البشرية، وعلم الآثار، والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ والقانون والفلسفة والعلوم السياسية وعلم النفس والمعتقدات الدينية وعلم الاجتماع.
إن الغرض الرئيس للدراسات الاجتماعية هو مساعدة الشباب على تطوير قدراتهم لصنع قرارات تخدم المصلحة العامة وتنمي روح المواطنة الصالحة في مجتمع ديمقراطي متعدد الثقافات ومتشعب المصالح، لذا تولي الدراسات الاجتماعية اهتماماً كبيرا للقضايا المدنية مثل: الرعاية الصحية والجريمة والسياسة الخارجية وتعكس هذه التعددية في الفروع المعرفية طبيعة الدراسات الاجتماعية، ومستوى فهم هذه الطبيعة من خلال القضايا التي .(NCSS, 1994)يثيرها منهاج الدراسات الاجتماعية
ولهذا الغرض يجمع صناع السياسة والتربويون على أهمية الدراسات الاجتماعية ويرغبون في معرفة، ما يجب أن يتعلمه الطلبة في الدراسات الاجتماعية، وما الطرائق التي سيتعلمون بها؟ وكيف يتم تقويم إنجازهم؟ وظهرت حركة المعايير في الدراسات الاجتماعية لتجيب عن تلك التساؤلات إبّان الإصلاحات التربوية في العقد الثامن من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية التي سمحت بصوغ الأهداف التربوية الوطنية عام 1990 م وصادق عليها الكونغرس الأمريكي آنذاك. وصدرت الوثيقة النهائية لمعايير منهاج الدراسات الاجتماعية عام 1994 م وقام بنشرها المجلس الوطني للدراسات الاجتماعية، ويتمثل الإطار العام لمعايير منهاج
الصفحة 211
الدراسات الاجتماعية في طريقة عرض المفاهيم الأساسية التي يتناولها هذا المنهاج، وفي اتساعها الأفقي والرأسي بشكل منطقي ومنظم يتدرج في مراحل الدراسة المختلفة منذ الروضة وحتى المرحلة الثانوية.
ويتمحور الإطار العام للدراسات الاجتماعية حول عشرة محاور أساسية حسب ما ورد في:
الصفحة 212
وأولت حركة الإصلاحات التربوية في منهاج الدراسات الاجتماعية اهتماماً مناسباً بمنهاج التاريخ بعدّه موضوعاً محورياً في الدراسات الاجتماعية، فأفردت له معايير مستقلة يتصدرها التفكير التاريخي ويبدأ هذا المعيار منذ المرحلة الأساسية الدنيا وينضج ويترسخ من خلال مروره بالمرحلة الوسطى حتى المرحلة الثانوية، وينطلق هذا المعيار من تطوير مهارات الطلبة في التفكير التاريخي كمهارة الترتيب الزمني ومهارة تحليل التفكير عبر الزمن وفهم الأحداث التاريخية من خلال التنسيق والبحث عن مصادر المعرفة التاريخية وفهم السببية التاريخية وفهم وتأويل المرويات التاريخية المتناقضة وبناء مرويّات تاريخية وبناء التأويل التاريخي لها، وتنمية مهارة جمع البيانات التاريخية من المصادر المتعددة وانخراط الطالب في قراءة معمقة في المصادر التاريخية الأساسية والثانوية التي يتطلب بعضها تحري درجة موثوقيتها، وتأصيل اتصال الطالب بمصادر المعرفة التاريخية وتنمية قدرته على استخلاص الأفكار الرئيسة من المصدر التاريخي، ومعرفة الطرائق المختلفة التي صانت به الحضارات البشرية ثقافتها وتراثها ودونته، وتنمية القدرة على الترتيب الزمني للأحداث التاريخية من الماضي إلى الحاضر حسب خطوط الزمن، وتوظيف الوحدات لقياس الزمن كالأيام والأسابيع والأشهر والسنوات والعقود والقرون.
كما يتضمن ذلك تطوير مهارة الطالب في كتابة مروية تاريخية قصيرة أو بيان لأفكار تاريخية وإلقاء عروض إبداعية من خلال إجراء تحقيق تاريخي في إحدى مصادر المعرفة التاريخية، ولا بد أن يشعر الطالب بأهمية دور المعرفة التاريخية والتفكير
الصفحة 213
التاريخي في حياته وفي العالم الذي يحيط به، من خلال تقديم الأدلة التاريخية كالتسجيلات والمصنوعات اليدوية، وأن يعي ضرورة البحث في الجذور التاريخية للكشف عن المشكلات التي ظهرت في الماضي وفهم طبيعتها، لتوظيف هذا الفهم في مواجهة المشكلات التي تواجهه في الوقت الحاضر. ولا بد أن يعي الطالب كذلك العلاقة بين الأحداث التاريخية والناس في الماضي والحاضر من خلال التعرف إلى ظروفهم واهتماماتهم وإنجازاتهم.
وترتقي مهارات التفكير التاريخي في المرحلة الأساسية العليا بشكل أكبر ويصبح الطلبة قادرين على صوغ تساؤلات تاريخية تستند إلى مصادر تاريخية أساسية وثانوية مثل: الوثائق، ومرويات شهود العيان، والرسائل والمذكرات الشخصية، والخرائط والأشكال والنصوص المكتوبة. كما تتطور مهارة الطلبة في جمع البيانات التاريخية مستخدمين مصادر التعلم الالكترونية للحصول على المعرفة التاريخية، ويعي الطالب التعددية في منظورات لأحداث التاريخية وفي تفسيرها والحكم عليها. ويمتلك الطلبة في هذه المرحلة كفاية في اختبار البيانات التاريخية والأدلة التاريخية لتقدير كفايتها والتمييز بين الحقيقة التاريخية ووجهة النظر والرأي وتحليل البيانات لفهم الأحداث التاريخية والأشخاص ضمن سياقها التاريخي، وفحص المفاهيم والقضايا والأحداث والموضوعات الجارية من منظورات وتوجهات تاريخية متعددة، ويتبصر الطلبة بالمرويات والقصص التاريخية المتناقضة ويسبرون غور التناقض من خلال توظيف التحليل والنقد التاريخي المدعم بالأدلة التاريخية.
وتهدف دراسة التاريخ إلى إصلاح شأن المجتمع، ووضع الحلول المناسبة لمشكلاته، بمعنى توظيف التاريخ في خدمة المستقبل وليس دراسته من أجل الماضي فقط (عبده، 1989) ولعل من أهم مزايا دراسة التاريخ تنمية ملكة النقد وتوسيع
الصفحة 214
أفق التفكير من جهة وملاحظة عوامل التقدم والتدهور في المجتمعات ومواطن القوى والضعف فيها ومعرفة نفسية الأمة وأثرها في تطورها من جهة أخرى (عباس وآخرون، 1995). ويهدف التاريخ إلى تعريف الإنسان بنفسه وبطبيعته بوصفه إنسانا.
إن تدريس التاريخ للطلبة يعتمد بشكل أساسي على المصادر التاريخية وعلى تحليل الأدلة التاريخية وتحليل لغة النصوص بشكل دقيق وعلمي محكم ويتساوى هذا كله مع الوعي بالمبادئ والمنهجية التاريخية.
لكن ثمة تساؤل أثارته جل الدراسات التي تناولت الحديث عن الدراسات الاجتماعية وتحديداً عن التاريخ، لماذا يملّ غالبية الطلبة من حصص التاريخ، ويجافون هذا العلم؟ بل إن جزءاً منهم يقصي صفة العلمية عن التاريخ. يعزى سبب هذه المشكلة إلى أن كتب التاريخ زاخرة بالحقائق الجامدة وبأسماء الأشخاص والأماكن، حافلة بالسنوات والعقود والقرون، وعرض التاريخ بهذه الطريقة يعد ذاكرة إنسانية جامدة تعج بالأسماء والأزمان والأحداث ويعوزها الفهم الشامل للتاريخ، وهذا لا ينمي مهارات التحليل والتفكير التاريخي لدى الطلبة ولا يساعدهم على فهم جلي لطبيعة التاريخ. فعلى سبيل المثال يدرس الطلبة في المدارس الأساسية في الولايات المتحدة الأمريكية عن أسباب الحرب الأهلية في كتب التاريخ وتقدم تفسيرات مقتضبة ومبهمة لا تمكن الطلبة من تشخيص أسباب حدوث الحرب، لأن تحليل الأسباب والنتائج لهذه الحرب وضعت جاهزة في كتب التاريخ، ولما كانت كتب التاريخ التي يدرسها الطلبة في المدارس هي المراجع الوحيدة التي يستخدمونها الطلبة في دراسة التاريخ، فمن الطبيعي، أن يجافيها الطلبة ويملّوا من حصص التاريخ.
الصفحة 215
في المقابل كيف يستطيع معلمو الدراسات الاجتماعية أن يبعثوا الحياة في التاريخ ليجعلوا طلبتهم يقبلون على تدارسه وفهم طبيعته؟ حتى ينجح المعلمون في هذه المهمة، تستلزم عملية تدريس التاريخ اعتماد المعلمين على الوثائق والنصوص التاريخية حتى يتواصل الماضي مع الحاضر، وألا يكتفوا بجلب النصوص والوثائق للصف، وهذا يتطلب امتلاك المعلم -قبل الطالب- مهارات التعامل مع وثائق ونصوص التاريخ من حيث التحليل والنقد واختبار هذه الوثائق وتفحصها، فنجاح معلمي التاريخ في تمكين طلبتهم من الاتصال بالتاريخ وبأحداثه وشخوصه يمكن الطلبة من فهم طبيعة التاريخ وتقدير أهميته.
ومن المعيقات التي تقف حائلاً أمام فهم الطلبة لطبيعة التاريخ ندرة المصادر التاريخية التي تتوافر عادة في المكتبات العامة أو في المؤسسات، وغالباً ما يتعذر الحصول عليها. وحتى يعالج معلمو التاريخ هذه المشكلة عليهم أن يستبدلوا بتلك المصادر وثائق بديلة ليجعلوا طلبتهم أكثر التصاقاً واستمتاعاً بالتاريخ، وبذلك يوفرون فرصاً لطلبتهم لتطوير مهارات التحليل والنقد التاريخي بالطريقة الاستقرائية والاستنتاجية.
إن تعلم الطلبة كيف يتساءلون عن التاريخ ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ وأين حدث؟
ومتى حدث؟ يساعدهم في الوصول إلى استنتاجات منطقية بدلاً من الإيمان الأعمى بالتسليم بصحة ما جاء في كتب التاريخ. وبهذه الطريقة يبني الطلبة فهمهم لطبيعة التاريخ ولعناصره ومفاهيمه لتشكل إطاراً معرفياً ومرجعية تؤسس لفهم عقلاني للتاريخ. ومع أن جميع الطلبة يدرسون ويقرأون كتب التاريخ ذاتها إلا أن كل طالب منهم يبني صورة خاصة وإيماناً خاصاً به وهو يفكر بما جاء في كتب التاريخ، ويصل إلى استنتاجه الخاص من خلال ممارسته للتفكير التاريخي،
الصفحة 216
وتصطبغ استنتاجاته بنظرته وبإيمانه الخاص، لهذا نجد أن دراسة التاريخ هي فعل شخصي ووجهة نظر تتنامى عن العالم وعن النفس الإنسانية.
ودوماً يتردد سؤال للطلبة والناشئة والكبار وفي مختلف الأعمار: لماذا يجدر بنا أن ندرس التاريخ؟ ولعل أفضل إجابة عن مثل هذا السؤال هو في كلمة: "الحكم"، لأن المجتمع يحتاجه في تربية المواطنة الصالحة حتى يتمكن المواطن من الوصول إلى حكم جيد قائم على الفهم العميق الذي مكن الحضارات الإنسانية من التغلب على الصعوبات ومواجهة التحديات لتحسين أوضاع الحياة الإنسانية، إن المأساة والكوميديا والمفارقات والجمال ليست أفضل فصول المدنية، لكن التاريخ والسير والأدب إذا تم تعليمها وتمكن الطلبة من فهم طبيعتها بشكل جيد هي الأقدر على حفظ المدنية واستمرارها.
وتندر الدراسات التي تتناول الحديث عن مستوى فهم الطلبة لطبيعة التاريخ أو الكيفية التي يكتسب بها الطلبة المعرفة التاريخية وكيف يفسّرون الأحداث التاريخية والأفكار التي تتولد في أذهانهم عن التاريخ، وتعزى ندرة الأبحاث والدراسات الإمبريقية إلى أن الاهتمام ينصبّ بشكل أكبر على فهم الطلبة لطبيعة العلوم والرياضيات، ويحتمل أن جانباً من هذه المشكلة هي نظرة بعض المفكرين والباحثين للتاريخ على أنه ليس علماً كالعلوم الطبيعية الأخرى، وهو بذلك يفتقر إلى التفكير التاريخي.
وحتى يتمكن معلمو الدراسات الاجتماعية من تدريس التاريخ بطريقة موضوعية لا بد من الكشف عن طريقة تفكيرهم وعن الافتراضات الإبستمولوجية التي ينطلقون منها في بناء المعرفة وهذا يتطلب سبر غور طبيعة المعرفة التاريخية التي يخبرها معلمو الدراسات الاجتماعية وكيف تنعكس هذه
الصفحة 217
المعتقدات المعرفية داخل غرفة الصف وكيف يتلقاها الطلبة ويتعاملون معها ويعالجونها، وما الطريقة التي يمكن من خلالها الكشف عن طبيعة المعرفة التاريخية لديهم، وما الصورة التي يكونونها عن التاريخ ومنهجيته وأغراضه وأهميته، وهل ثمة علاقة بين إدراكات المعلمين لطبيعة التاريخ وإدراكات الطلبة؟، ويرفض بعض الباحثين في مجال الدراسات الاجتماعية فكرة نقل المعرفة إلى الطلبة، مفضلين بدلاً منها تقديم فرص للطلبة للتساؤل، إلا أن الطلبة يحتاجون إلى أن ُعلّموا كيف يشاركون، وكيف يتساءلون في الدراسات الاجتماعية، ويعني ذلك أن يشجع الطلبة على طرح التساؤلات، بقطع النظر عن مستوى تحصيلهم، ويدربون على جمع الأدلة التاريخية، وعلى كيفية الربط بين الأدلة والاستنتاج، وكيف يبررون استنتاجاتهم. وكمثال على الكيفية التي يمكّن فيها المعلمون جميع الطلبة من المشاركة في درس التاريخ يقدم (مورد وألوف ونيدهام) ثلاثة اقتراحات هي:
الصفحة 218
ويكتسب الطلبة مهارات جمع البيانات، والأدلة التاريخية ودراسة وتحليل وتفسير هذه البيانات، ويتعلمون كيف ينظمون الأحداث التاريخية من خلال الزمن، ويتوصلون إلى مبدأ السببية من خلال تحليل ونقد الأحداث التاريخية، وكشف العلاقة بين السبب والنتيجة لتلك الأحداث. والطلبة بحاجة إلى البحث في القضايا والظواهر التاريخية من أجل فهم طبيعة التاريخ، وسبر غور الأحداث التاريخية وربط تلك الأحداث بالتطورات والأحداث الجارية، ذلك أن دراسة التاريخ تمكن الطلبة من التوصل إلى استنتاجات منطقية تسهم في فهم الحاضر واستشراف المستقبل.
وثمة من يعتقد أن دراسة التاريخ مضيعة للوقت، فلماذا يدرس الطلبة عن الماضي وهناك مستقبل، وهم يعجزون عن تغيير الماضي ولكنهم يستطيعون التخطيط للمستقبل؟ والزعم هذا يمكن دحضه، ذلك أن الكيفية التي من خلالها يصنع الطلبة مستقبلهم تعتمد بشكل كبير على فهمهم لماضيهم، وأن الإجابات التي توضح الحاضر والمستقبل تكمن في الماضي.
وحتى يتمكن الطلبة والمعلمون من تصور الماضي كما كان لا كما يتوهمون أنه كان (زريق،1985)، فإنه لا بد أن يطرح المعلمون جملة من التساؤلات على طلبتهم، وبشكل دائم: ماذا حدث في الماضي؟ وكيف حدث؟ وماذا يعني الماضي؟ وما علاقة الماضي بالحاضر وبالمستقبل؟ وحتى يتمكن المعلمون والطلبة من التصدي للإجابة عن التساؤلات السابقة فهم يحتاجون إلى تصور لفهم طبيعة التاريخ.
ويخفق بعض معلمي التاريخ في مساعدة طلبتهم لفهم طبيعة التاريخ، والمفاهيم المرتبطة به، ذلك أن جلّ اختباراتهم تستند على الحفظ واسترجاع
الصفحة 219
المعلومات المتراكمة والمخزونة في مستودع الذاكرة، وغالباً ما تعالج الأسئلة مستويات التذكر ولا تتعدى ذلك، ويقصر المعلمون أسئلتهم على ما؟ وماذا؟ ومتى؟ وأين؟ واذكر؟ وتتبع، مما يثير سخرية الطلبة في كثير من الأحيان الذين تُزَج أدمغتهم بكمّ هائل من المعلومات ما تلبث أن تتلاشى بعد الاختبارات.
وينظر بعض معلمي التاريخ إلى طلبته على أنهم جامعو معلومات ومستودعات تخزين للمعلومات غير المتناهية، من الحقائق التاريخية المفككة، والأحداث التاريخية المبعثرة، وهؤلاء الطلبة بالضرورة يفتقرون إلى الكيفية التي تعالج بها أحداث التاريخ وموضوعاته، فكيف بإمكانهم فهم طبيعته؟ ولا بد لمعلمي التاريخ أن يرتقوا بطريقة تفكيرهم وإدراكهم لطبيعة التاريخ، حتى ينجحوا في تمكين طلبتهم من استخدام النصوص التاريخية بدلاً من تراكمها في أدمغتهم، واستبدال الاستدعاء والاستظهار بآليات التفكير والتحليل التاريخي، التي تستدعي تمحيص وتفحص الأدلة التاريخية والحجج الموصلة إلى حكم على أحداث التاريخ.
ويؤكد (واينبيرغ) المذكور في رومنوسكي في مقالته عن "الكيفية التي يتعلم بها الطلبة المعرفة التاريخية" ضرورة تعليم الطلبة المعرفة التاريخية من خلال تنمية التفكير التاريخي بحيث يتم تدريب معلمي التاريخ على اكتساب هذه المهارات ويقوم المعلمون بعد اكتسابهم لها بتزويد طلبتهم بها.
وتبدو الحاجة ملّحة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى وصف غني وتحليل عميق لممارسات معلمي الدراسات الاجتماعية داخل صفوفهم للكشف عن معتقداتهم الإبستمولوجية، ومنظوراتهم نحو طبيعة التاريخ، وهذا يأتي من خلال
الصفحة 220
ملاحظاتهم داخل الصفوف أو من خلال فحص لمعتقداتهم الإبستمولوجية حول طبيعة التاريخ.
والمتتبع للمنحى التاريخي في دراسة الإبستمولوجيا يلحظ تغييراً في التوجهات الفكرية التي انبرت للدفاع عن مزاعمها المعرفية، فقد سيطر اتجاهان على تفسير الإبستمولوجية بعد عصر النهضة، حيث نظرت الفلسفة الإمبريقية إلى المعرفة كمنتج حسي وعقلاني، وحسب هذه الفلسفة فإن المعرفة تنتج من مخططات، أو تأملات عقلية للموضوعات وللأشياء المدركة ظاهريا، أي أن المعرفة ما هي إلا انعكاس للواقع أو تصور محدد ودقيق عنه.
أما الاتجاه الثاني فتمثل بظهور المدرسة الوضعية المنطقية التي قامت على أساسين:
أولهما تجريبي والثاني منطقي، مؤمنة بمبدأ التحقق بمعنى أن قضية ما يصاغ لها معيار التحقق من صدقها، فهي إما تجريبية يمكن التحقق من صدقها بالتجربة، أو منطقية يمكن التحقق منها بالبرهان (العلاف، 1991).
وجاءت المدرسة العقلانية النقدية لتقف في وجه الوضعية، وإن كانت الوضعية المنطقية قامت على مبدأ أساسي هو التحقق فإن العقلانية النقدية قامت على مبدأ التكذيب وهو وسيلة للتحقق من الفروض والنظريات عن طريق تفنيدها، واتخذ كارل بوبر هذا المبدأ للتمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي، وقال: "إن القضايا العلمية هي تلك التي يمكن إثبات زيفها، أما التي لا يمكن زيفها فهي ليست علمية".
وقد أكد بوبر أن جميع المعرفة العلمية ذات طابع افتراضي، والتزم بنزعة نسبية في تفسير الصدق. وهكذا فإن مبدأ التكذيب ضروري لكل من جانبي المعرفة
الصفحة 221
(العقلية والإمبريقية)، ونمو المعرفة - حسب بوبر - لا يعني مزيداً من الملاحظات والتجارب، بل يتمثل في تكذيبه النظريات العلمية ووضع نظريات أخرى أكثر إقناعاً مكانها (بوبر، 1986)
أما الحقبة التاريخية اللاحقة لتطور الإبستمولوجية، فقد أطلق عليها البراجماتية، وظهرت طلائعها في بداية القرن العشرين. وطبقاً لنظرية المعرفة البراجماتية فإن المعرفة تشمل النماذج التي تحاول تمثيل البيئة، وبشكل مبسط بصورة حل المشكلة، ويبدو استحالة اعتماد نموذج معرفي واحد في كل المعلومات ذات العلاقة، وحتى لو تم افتراض وجود مثل هذا النموذج المعرفي فإنه سيبدو معقداً في التطبيق العملي، لذا علينا أن نقبل بتعددية النظريات والنماذج المعرفية، التي يغلب عليها التناقض والتشويش، والنموذج المعرفي الذي سيقع عليه الاختيار يرتبط بإمكانية قدرته على التصدي وتقديم حلول للمشكلات التي يمكن اختبارها أو الاقتراب من تنبؤات يمكن اختبارها.
ويبدو أن البراجماتية أخفقت في إعطاء إجابة واضحة عن مصادر المعرفة أو النماذج المعرفية، وثمة افتراض ضمني بأن النماذج المعرفية تبنى من أجزاء نماذج أخرى، وبيانات إمبريقية على أساس التجربة والخطأ إلى جانب الحدس.
والبنائية كذلك توجه فلسفي رفض كثيراً من الآراء الوضعية المنطقية،إذ يرى توماس كون أن نسق النظرية العلمية منغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد طابع كل تطور جديد للنظرية، وأن العلم يمر بمرحلتين الأولى العلم القياسي، وهو عند "كون" العلم الجوهري أو العلم الحق، وفيه يكون العلم نشاطاً لحل الإشكاليات ضمن مظلة فكرية أو نموذج إرشادي معين- تجمهر المعتقدات والقيم والأساليب والنظريات التي يتقاسمها المجمع العلمي في تلك المرحلة من الزمن - وهو نموذج لازم وضروري
الصفحة 222
لأي علم كان، أما المرحلة الثانية فقد سماها كون بالعلم الثوري؛ إذ يبين كون أن العلم القياسي بعد تطبيقه مدة من الزمن سوف يواجه بمشكلات أشبه ما تكون بالألغاز التي يعجزعن حلها، وتتراكم هذه المشكلات حتى يمر هذا العلم بمرحلة تأزم (حالة شذوذ)، عندئذ فان فريقاً من العلماء، الذين كانوا على وجه التقريب إما شباباً حديثي السن أو جدداً، سوف يعملون على تغيير النموذج الإرشادي للعلم القياسي، والانتقال بناء على هذا إلى نموذج إرشادي جديد، وهذا ما يدعى بالثورة العلمية (كون، 1992).
هذا التباين الذي أشير إليه يقود للحديث عن المعرفة العلمية وما يميزها عن أنواع المعرفة الإنسانية الأخرى، إذ لا يمكن أن تعد معرفة ما علمية إلا إذا صمدت أمام نقد العلماء وقد يتم الحصول على المعرفة العلمية عبر الملاحظة والتجربة اللتين يتكفل بهما المنحى الاستقرائي، الذي يشير إلى ضرورة الانخراط في الواقع من أجل فهم ظاهرة ما، وضرورة تركيز الملاحظة واللجوء إلى التجريب لتوليد معرفة حول تلك الظاهرة، وقد يتم الحصول عليها بالعمل العقلي البحت، كما يرى المثاليون. ولكن ما يجدر قوله هنا إن المزاوجة بين الأسلوبين السابقين بات أمراً ضرورياً، فتوظف المعرفة التي جاءت نتاجاً للعقل في فهم الواقع والتنبؤ بظواهره السابقين بات أمراً ضرورياً، فتوظف المعرفة التي جاءت نتاجاً للعقل في فهم الواقع والتنبؤ بظواهره أو تغييرها ليتمّ النظر في مدى تطابق ما نحصل عليه مع الواقع. وترى البنائية أنه لا توجد معرفة مطلقة، وأن المعرفة ليست مجموعة مكتشفات، وإنما بناء إنساني يبنيه الفرد نفسه ويعطيه معنى خاصاً به في سياق اجتماعي مع أفراد آخرين، أي إن التعلم كي يحدث لا بد أن يقوم المتعلم بأنشطة تعاونية لبناء علاقات أثناء عمله، ويتفاوض مع أقرانه على معان تشجعهم على بناء مخططات مفاهيمية، فالمعرفة تبنى على ما قبلها، ويعيد الفرد تنظيم معرفته تراكمياً من خلال ثورات المعرفة.
الصفحة 223
أما أصحاب الفلسفة الوضعية فيرون أن المعرفة العلمية يتم اكتسابها بالملاحظة الموضوعية من غير التفات للخبرات السابقة للملاحظ، وتتطور المعرفة تراكمياً عبر تجمع حقائق ثابتة. والتعلم هو محاولة الحصول على الحقائق بحفظها وتكرارها.
ويبدو أن المعرفة ما زالت أداة كامنة تتطور من خلال المجتمعات الإنسانية في نشدانها البقاء، ويبدو أن التطواف حول الإبستمولوجية من أفلاطون إلى البنائية يجعل الإبستمولوجية أقرب ما تكون إلى صورة أو انعكاس للموضوعات التي يفكر فيها الإنسان ويبحث عن إجابات لها.
وتأثر المؤرخون والفلاسفة الذين تناولوا الحديث عن طبيعة التاريخ بالمنظورات الفكرية الوضعية والمثالية، وبرز منظرون يروجون لكل توجه، حيث ركز المثاليون مثل (كولنجوود) في دراسة التاريخ على دور الحكم في تحقيق ونقد الأحداث التاريخية والكشف عن الاختلاف بين التاريخ والعلوم الطبيعية. في المقابل ركز الفلاسفة الوضعيون على العلاقة المنطقية بين التاريخ والعلوم الطبيعية.
ويمثل النموذج الوضعي في دراسة التاريخ بوصفه حقلاً معرفياً منحى انتقائياً مشوقاً، وممتعاً في عرضه للحدث، ويركز هذا المنحى على الموضوعية في دراسة التاريخ وكأنها حتمية الحدوث والتوقع لنصل إلى الحقيقة التاريخية، وبالنهاية لا يمكن إظهار جميع الأحداث ذات العلاقة بالماضي أو نقل أحداث التاريخ كما حدثت فعلاً، لأن الحقيقة في التاريخ لا يمكن الوصول إليها نهائياً، لكن البحث في ج زئيات الأحداث التاريخية تمكن المؤرخين من مواصلة البحث، وإتمام العمل حتى يصلوا إلى رؤية تقارب ما حدث في الماضي، ويختزل هذا المنحى التاريخ إلى قصة أو رواية لا تنمي مهارات التفكير التاريخي.
الصفحة 224
على صعيد آخر، عالج منظور ما بعد الحداثة موضوع التاريخ بشكل ناجع ليحاكي تساؤلاً عن الحدث، وعن كيفية حدوثه. وأثّر هذا المنحى في الدور التربوي في دراسة التاريخ وحوله من وجهة نظر أحادية في قراءة الحدث إلى إعادة قراءة التاريخ وإعادة النظر في قراءة أحداث التاريخ، وإعادة النظر في القيود والمحددات التي تفرض على موضوع التاريخ، فالقول بموضوعية الحقيقة التاريخية أو الموضوعية في التاريخ كهدف أسمى يسعى إليه الباحث في التاريخ يستحيل تحقيقه بسبب تعددية المنظورات التي ينطلق منها المؤرخون أو الباحثون في الموضوع التاريخي، ويمكن توضيح ذلك من خلال نقطتين عمليتين كما يوضحها براون:
أولاً: الاختلاف في النتائج التي يتم التوصل إليها في دراسة التاريخ من باحث لآخر حسب الافتراضات أو المنظورات الفكرية التي ينطلق منها.
ثانياً: التساؤلات التي يتمكن الباحث من توليدها، والتصدي لها، وهو على وعي تام بأنه لن يصل إلى إجابات نهائية، لكنه سيقترب من الإجابة عنها، ومن جملة التساؤلات التي قد تثار عند دراسة التاريخ:
وابن خلدون من الفلاسفة والمؤرخين الذين أكدوا التوجه النقدي والحكمي في دراسة التاريخ متجاوزاً إشكالية التحقيب (العروي، 1997) التي تفصله عصوراً
الصفحة 225
عن منظري ومفكري الحداثة وما بعدها، وأَولى ابن خلدون اهتماماً بصحة الخطاب التاريخي الذي لا يتعلق فقط بأخلاقية الناقلين (أومليل، 1977 الخالدي، 1997)، ذلك أن التاريخ من وجهة نظر ابن خلدون "محتاج إلى مآخذ متعددةٍ ومعارفَ متنوعةٍ وحُسن نظرٍ وتثبّت يُفضيان بصاحبهما إلى الحق ويُنَكّبَان به عن المزلات والمغالط، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، إذ لم يعرضوها على أُصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحقّ وتاهوا في بَيدَاء الوَهم والغَلط) (ابن خلدون، 1966) ويرى (الخالدي، 1997) أن ابن خلدون، أكد أن للتاريخ حقله واستقلاله، واقتصار منهجيته على طريقة تدوين الأحاديث النبوية، لا ينسجم منهجياً مع المعرفة التاريخية البشرية. ويرجع فضل ابن خلدون إلى نفاذ بصيرته إلى هذا (الباطن) الذي وضع أساسه في مقدمته وهي فروع من المعرفة أصبحت علوماً كاملة منها:
وهو فضلاً عن هذا، ينقل التاريخ من قصص وأساطير يرويها الخلف عن السلف إلى علم من علوم السياسة التطبيقية، تجتمع به لدراسة خبرات الماضي فيتمكن بها من الاعتبار لوضع خطط المستقبل، واستخلص أحد المؤرخين الإسبان ثلاثة عناصر جوهرية في نظرية ابن خلدون التاريخية:
الصفحة 226
أولاً: تقديره للتاريخ كعلم.
ثانياً: فكرته عن موضوعات التاريخ ذاتها.
ثالثاً: فكرته عن العناصر التي تجتمع لصوغ طبيعة التاريخ.
ويرى المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي أن التفكير التاريخي تفكير نسبي، ذلك أن دراسة التاريخ يحكمها عاملان أساسيان هما: الزمان والمكان، وليس في الإمكان القول إن التاريخ يصنع في مختبرات الأبحاث، كالعلوم الطبيعية، إلا أن التجارب العلمية تمكن الإنسان من الحصول على نتائج محددة وواضحة، وليس الحال كذلك بالنسبة للتاريخ، إذ إن رحلة المؤرخ الطويلة مع الزمان والمكان والإنسان تأتي بافتراضات وتحليلات ومناقشات وتفسيرات تنتهي على أحسن الفروض باستنتاجات منطقية تعبر عن أقرب شيء للحقيقة، وهذه الحقيقة المجردة لا يمكن الوصول إليها بأي حال من الأحوال إلا من خلال دراسة العصور والأماكن والشعوب التي يفصل بينها وبين المؤرخ آلاف السنين، والتاريخ "علم" ما في ذلك شك، لأننا نستطيع أن نطلق كلمة علم على كل مجموعة من المعارف المحصلة عن طريق منهج وثيق للبحث عن نوع واحد معين من الوقائع، فهو علم الوقائع الذي يتصل بالأخبار عن الناس في مجتمع خلال توالي الأزمنة في الماضي، والتاريخ لا يبحث فقط في الأشياء التي مضت وانقطع وجودها، ولكنه يبحث في الأشياء التي لا تزال موجودة، سواء أكانت روايات عما وقع أم بقايا أشياء وجدت أو نتائج أحداث حدثت.
وقد تفاوتت الآراء حول تقسيم الأزمنة التاريخية، كما اختلفت الآراء حول طبيعة التاريخ ذاته، وتساءل الفلاسفة والمؤرخون: هل يمكن فصل التاريخ عن الحضارة؟، وهل يمكن أن يدرس التاريخ بتقسيمات جديدة أم يجب أن تظل التقسيمات القديمة التقليدية: التاريخ القديم والتاريخ الوسيط والتاريخ الحديث
الصفحة 227
(العروي، 1997)، أم أن ذلك يجعل الصورة التي تشكلها يد المؤرخ أقل وضوحاً أو تجعل بعض ألوانها باهتة شاحبة، لإغفال المؤرخ لها أو لعدم اهتمامه بها أو لعدم قناعته بأنها تدخل في دائرة اهتمامه أو ربما لأنه، وتحت ظروف معينة رأى أن يصمت عنها، والرأي عند توينبي أننا في حاجة إلى إعادة النظر في الموضوع بأكمله.
وينضوي مفهوم التاريخ على ثلاثة عناصر، الأول: الأشياء التي حدثت في الماضي أي الأحداث التاريخية، والثاني: النشاط الذي يمكننا من الكشف عن الماضي وتعني المنهجية التاريخية، والثالث من قام بهذا النشاط وهو المؤرخ، وعمل المؤرخ الرئيس لن يكون التسجيل فقط بل التقدير، وعليه فإن دراسة التاريخ تستوجب دراسته بروح النقد والتفهم في آن واحد، بعيداً عن إضفاء صفة القدسية عليه فهو تاريخ بشر، وبالمقابل فإنه لا يمكن هدم وتقويض حقائقه بنزعة الشك الساخر، ولا يجوز إضفاء سمة الرومانسية عليه بدراسته كتاريخ بطولات وتمجيد لشخوصه وأحداثه من حكام وقادة، وكأن الصفوة فقط هي من تصنع أحداث التاريخ، من غير دور يذكر للجماعات فيه (عباس وآخرون، 1995). وقد أكد علماء التاريخ بأن الشك هو رائد علم المؤرخ" (رستم، 1955) وأكد (غرايبة، 2008) "بأن الأصل في دراسة التاريخ الاتهام لا براءة الذمة".
وتطرق المؤرخ كولنجوود إلى طبيعة علم التاريخ من خلال إثارته لجملة من التساؤلات:
هل يمكن بالفعل الإلمام بالماضي ثانية رغم أنه ينتمي إلى التجارب الماضية والغائبة عن المؤرخ؟
وهل التاريخ – الماضي– هو نفسه الذي يعقله المؤرخ ويتمثله ويعيد تصويره، أم أن الماضي يستحيل استحضاره أبداً، ومن ثم فتصوراتنا عنه لا يمكن أن تكون هي الأصلية ومعرفتنا تظل ناقصة؟ وإزاء هذا فالمؤرخ بصدد
الصفحة 228
مستويين من الإدراك هما الماضي والمعرفة بالماضي، ويُستجوب التاريخ باستنطاق جهود البشرية وما فعلته في الماضي كما يقوم بفهم ما قام به الإنسان بوصفه فرداً فاعلاً خلف آثاراً هي جهوده التي يسعى المؤرخ إلى فك رموزها (كولنجوود، 1968). وتؤكد (زيتلي، 1993) أن المؤرخ كولنجوود يتفق مع جل المؤرخين بأن التاريخ علم، وبوساطته يصل المؤرخ إلى حقائق الماضي أو يحاول الاقتراب منها، والعلم لا يمكنه أن يستغني عن التاريخ، لأن الحادثة العلمية هي أيضاً واقعة تاريخية. ومن الخصائص التي تبرهن على علمية التاريخ ويؤكدها الكثير من المؤرخين يتصدرهم كولنجوود:
أولا: التاريخ نوع من أنواع البحث العلمي.
ثانيا: إن العلم هو الكشف عن حقيقة الأشياء وهذا المعنى المقصود من أن التاريخ هو علم.
ثالثا: إن التاريخ علم من نوع خاص، وهو علم ينصرف إلى دراسة الأحداث التي لا سبيل إلى مشاهدتها الآن، دراسة تستند إلى الاستدلال استناداً إلى شيء آخر يستطيع المؤرخ مشاهدته وهو المادة التاريخية.
رابعا: إن مادة المؤرخ هي الوثائق التاريخية التي لا غنى للبحث التاريخي عنها، إذ هي وسيلة الحوار بين الماضي والحاضر.
خامسا: إن الوثائق التاريخية التي هي المادة الأولية في البحث لا تحمل تأويلاً نهائي اً، وكل مؤرخ يجب ألا يقنع بالنتائج التي يتوصل إليها زملاؤه المؤرخون، لأن البحث التاريخي هو الإضافة الجديدة التي قد يمنحها المؤرخ لأي موقف تاريخي.
سادسا: الخيال التاريخي الواعي القائم على جهد الفكر الخلاق.
الصفحة 229
سابعا: خيال المؤرخ هو نوع من التفكير تفرضه المادة التاريخية وتفرضه طبيعة هذه المادة، بل هو مفروض على المؤرخ ما دام يتعامل مع الماضي.
ويصور كولنجوود العلاقة الجدلية بين العلم والفلسفة والتاريخ، فالعلم وهو نمط من التفكير لا يمكنه أن يوجد إلا ضمن سياق تاريخي معين، ويتوقف وجود العلم على التفكير التاريخي، حيث إن كل نظرية في العلم لا يمكنها أن تحفظ إلا بالتاريخ، والمباحث العلمية لا تتطور إلا بالنقد الفلسفي المستمر، والرجوع إلى ما أنجزه الإنسان عبر عقود خلت إنما يتطلب دراية بالتاريخ، لأننا نسترجع هذه الأعمال في سياق تاريخي معين، ومن هنا تبدو العلاقة الوطيدة بين العلم والفلسفة والتاريخ (زيتلي، 1993)، فالتاريخ رواية ودراية (غرايبة، 2008) ونحن نؤرخ لصانع الحدث، ونكتب التاريخ بدافع الخوف، وحتى لا ننسى لأن الإنسان ينسى (البخيت، 2008).
يتضح من العرض النظري السابق لآراء بعض الفلاسفة والمؤرخين اتفاقهم على العناصر الأساسية والمحورية التالية في طبيعة التاريخ:
أولاً: إن التاريخ علم وهذه حقيقته وهو يتساوق بذلك مع العلوم الطبيعية.
ثانياً: إن التاريخ له منهجيته الخاصة وهي شكل من أشكال البحث العلمي.
ثالثاً: أن التاريخ له مصادره المعرفية وهذه المصادر متعددة وغالباً ما تكون على شكل مدونات.
رابعاً: تتعدد أغراض التاريخ وفوائده لكنها تسعى للارتقاء بفكر وثقافة الفرد والأمة والمحافظة على تراثها وحضارتها بدراستها وتحليلها ونقدها.
خامساً: إن للمعرفة التاريخية أشكالاً، وغالبا ما تكون على صورة أحداث، وثمة حقائق في التاريخ لكنها نسبية ويستحيل أن تكون مطلقة، والتاريخ بشكل عام لا يعيد نفسه.
الصفحة 230
سادساً: المؤرخ هو عالم التاريخ الذي يدرس الماضي مستخدماً المنهجية التاريخية وفق تسلسل منطقي وهو ناقد حاذ.
سابعا: تتعدد التعريفات للتاريخ، لكنها تتفق على العناصر المكونة له وهي: الإنسان والزمان والمكان، والتاريخ لا يُعنى فقط بما حدث في الماضي بل أيضاً يوظف الماضي للكشف عن الأفكار والأيديولوجيات ماضياً وحاضراً ومستقبلا، وفيما يأتي عرض للتعريفات الاصطلاحية لكل عنصر من عناصر طبيعة التاريخ.
الصفحة 231
الصفحة 232
الصفحة 233
أ. النقد الخارجي: إثبات صحة الأصل التاريخي، ونوع الخط والورق، وتعيين شخصية المؤلف وزمان التدوين ومكانه.
ب.النقد الداخلي: يبحث في الحالات العقلية التي مر خلالها كاتب الأصل التاريخي ويحاول أن يتبين الدوافع التي جعلت المؤرخ يكتب ذلك، وهل توفرت المبررات التي جعلته يصدق أو يكذب فيما كتب (عثمان، 1965).
- المؤرخ: هو عالم يدرس الماضي ونظره متجه إلى المستقبل، في حين تقف أقدامه ثابتة على أرض الحاضر، وهو يعد تاريخ الإنسانية كلها تجربة واحدة، وهو يرقبها ويحللها ويستخرج حقائقها لعله يخرج بشئ من الحكمة ينفع الإنسانية من تجاربها الكثيرة.
الصفحة 234
الصفحة 235
أنظر المراجع من الصفحة 265 الى 271
الصفحة 236
ثقافة الخوف نظرٌ في إشكالية المنهاج الخفي في المدرسة
د. ماجد حرب
تُعد المدرسة من منظور سيسيولوجي مؤسسة اجتماعية ذات أنظمة وأدوار ومراكز، لذا تسودها تفاعلات إنسانية محكومة بمعايير محددة تقود سلوك الإفراد، فالسلوك الفردي لطلاب المرحلة الثانوية مثلا يرتبط ارتباطا وثيقا بالأدوار التي يلعبونها في المدرسة وبالمركز الذي يحظون به، إذ قد يكون بعضهم ذوي شخصيات مسيطرة ذات شأن، وقد يكون البعض الآخر ذوي شخصيات هشه معزولة.
ويرى أصحاب النظرة السابقة أن الوظيفة الرئيسة للمدرسة إنما تتمظهر بتنشئة الطلاب التنشئة الاجتماعية المرغوب بها بغية إعدادهم للمراحل المقبلة إعدادا حسنا، وهذه وظيفة ظاهرة جلية للمدرسة، بيد أن المدرسة تضطلع بقصد أو من غير قصد بوظائف أخرى كامنة أو خفية، ويتجلى هذا الأمر في حال تحكم فئة اجتماعية معينة بالأهداف التي ينبغي للمدرسة أن تحققها، وبالمعرفة التي تتضمنها مناهجها. وحسب، فإن ثمة فئة مسيطرة تنتفع من معرفة ما دون غيرها، وتضمنها المناهج المدرسية بشكل يضمن سيطرة تلك الفئة وتفردها، وعليه فإن المدرسة ستغدو مكانًا يعيد إنتاج الطبقية الاجتماعية، ويبقي على الأيديولوجيا السائدة في المجتمع.
الصفحة 237
وإذن، فالمدرسة قد لا تسلم من هيمنة النخبة ذات النفوذ السياسي والاقتصادي، وحتى تبقى هذه النخبة مهيمنة فإنها تعمد إلى المدارس سلمًا لتحقيق مطلبها، وعلى هذا فإن شيوع الطبقية الاجتماعية، وترسيخ اللامساواة والاضطهاد، وتجذير التهميش الاجتماعي في المدارس مطالب تسعى نحوها تلك النخب...والنتيجة أمران اثنان: المزيد من هيمنة النخب، وشيوع الخوف ملمحًا بارزًا من ملامح الثقافة المدرسية.
وعلى هدي ما تقدم، يمكن القول إن النظر إلى المدارس على أنها أمكنة تحدث فيها عمليات التعلم والتعليم فحسب أمر مشوب بشيء من سوء الفهم غير قليل، إذ هي أداة مطواعة بيد النخب لتسويغ معرفة معينة وبث منظومة قيمية محددة. وهي من جهة أخرى مؤسسات ذات ثقافة خاصة تميزها عن غيرها من المؤسسات، وتتمظهر هذه الثقافة بالأعراف والتقاليد المدرسية كالطابور الصباحي وتخصيص الحصص وتوزيع الوقت الأكاديمي، كما تتمظهر بأنماط السلطة السائدة وبالتفاعلات الاجتماعية بين الطلاب، أي أنها ثقافة تتبلور في أنظمة فرعية ثلاثة: نظام رسمي يتمثل بالمنهاج، الصريح الذي تعلمه المدرسة، وبالمنظومة القيمية التي تتبناها، ونظام شبه رسمي يتمثل في النوادي والأنشطة اللامنهاجية التي تشرف عليها المدرسة، ونظام غير رسمي يتجسد في الزمر والعصب الطلابية.
وإنما ينشأ النظام الأخير بفعل جملة من العوامل لعل من أهمها الطبقية الاجتماعية التي تسود الكثير من المدارس، ثم ظاهرة التعصب التي تتخذ أشكالا متعددة سيأتي ذكرها، وغيرها من العوامل. ويدرج كثير من المختصين هذه العوامل تحت عنوان عريض لا ينفك مثار بحث وتدارس هو المنهاج الخفي.
الصفحة 238
يشير المنهاج الخفي – ويسمى أيضا المنهاج غير الرسمي- إلى جملة من السلوكات والاتجاهات والقيم التي يحملها الطلاب نتيجة انغماسهم في ثقافة المدرسة من غير أن تقصد المدرسة ذلك صراحة، وكثيرا ما يتجلى المنهاج الخفي في تفاعلات الطلاب مع بعضهم بعضا، وفي تفاعلاتهم مع معلميهم، كما أنه قد يتجلى في الصور التي تعرضها الكتب المدرسية، ولا سيما تلك التي تطال الأدوار الاجتماعية لكل من الذكر والأنثى(1) إذ ثمة رسائل خفية تبثها هذه الكتب تظهر تحيزًا لأحد الجنسين على حساب الجنس الآخر.
ويطال الحديث عن المنهاج الخفي الهيئة التي تنتظم فيها الغرف الصفية، ذلك أن هذه الغرف تزدحم بالأفراد، وثمة معان لكل شيء يحدث فيها، فجلوس الطلاب في المقدمة، أو جلوس بعضهم الآخر في المؤخرة، ورفع الأصابع عند الإجابة، والعمل الجماعي...، كلها خبرات يمارسها الطلاب داخل غرفهم الصفية، ولئن كانت هذه الخبرات ممتعة لبعض الطلاب. فأنها ليست كذلك للبعض الآخر.
إن الأثر الذي يتركه المنهاج الخفي ممثلا بالمعايير السائدة في ثقافة المدرسة، وبأنماط السلطة الشائعة فيها وبالطبقية الاجتماعية وما تفرزه من معاني العزلة والشعور بالظلم والخوف ربما كان عائقًا كبيرًا، ليس أمام تعلم الطلاب وتحصيلهم العلمي فحسب، بل أمام تنشئتهم التنشئة الاجتماعية التي يستحقونها، حتى يصبحوا أفرادًا فاعلين في مجتمعهم متحررين من ثقافة الخوف وقيد الإذلال.
صفوة القول، أن المنه اج الخفي ربما غرس عند بعض الطلاب شيئًا من الخنوع والعزلة التي قد تعزى إلى الخوف من المنافسة أو مواجهة الآخرين، أو الخوف من مخالفة أنظمة المدرسة، أو الخوف من هيمنة جنس على آخر (إذ ثمة
الهوامش:
(1) انظر في هذا الشأن: حرب, 2008, ملامح المنهاج الخفي في الصور الواردة في كتب اللغة العربية للمرحلة الأساسية الدنيا في الأردن : منظور ايدولوجي , بحث منشور في كتاب مؤتمر جامعة فيلادلفيا الثاني عشر : ثقافة الصورة, إبريل 2007,عمان.
الصفحة 239
هيمنة ذكورية تسود المدارس المختلطة وفق ما أشارت إليه بعض الدراسات مثلا، أو الخوف من تفوق الطبقة الاجتماعية الأعلى، أو الخوف من الاستثناء الاجتماعي والاضطهاد أو السخرية أو الإذلال.
وفي هدي ما سبق كله، فإنه يمكن القول إن المدرسة من حيث هي بنية اجتماعية ربما غرست في نفوس الطلاب ثقافة الخوف، وبدل إعدادهم ليضطلعوا بأدوار حياتية مستقبلية فأنها ربما بثت في قلوبهم معاني التقهقر والخنوع، إي أن المدرسة قد تغدو مرتعا خصبا تنمو فيه بذور الخوف، والنتيجة الحتمية هنا الإنسان المحروم من القدرة.
إن المدرسة – على وفق هذا الطرح – مكان يجذر " اللامساواة " الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مكان اغترابي يسوده خطاب لا يلامس واقع فئة كبيرة من الطلاب، وعليه فإنه يجمل إعادة النظر في الأبعاد التنظيمية للمدرسة، و يقصد بها الوقت الأكاديمي والتسهيلات والمواد التي تقدمها المدرسة، وفي الأبعاد الاجتماعية المتمثلة بعلاقات الطلاب ببعضهم بعضا، وبعلاقاتهم مع معلميهم،و بعلاقات المدرسة بأولياء الأمور والمجتمع المحلي، ثم في الأبعاد المؤسسية ممثلة بسياسات المدرسة والرؤية التي تحملها أنشطتها اللامنهاجية، بغية أن تسد الفجوة القائمة بين نظامها الرسمي (مناهجها وبرامجها وأهدافها المصرح بها وقيمها التي تعمل على تحقيقها) ونظامها غير الرسمي (الزمر والعصب الطلابية، والنتاجات والقيم التي يتعلمها الطلاب من غير أن تقصد المدرسة ذلك).
الصفحة 240
ثقافة الخوف في المدارس:
المدرسة إذ تجذر خطابا اغترابيا
تأتلف ثقافة المدرسة في عناصر من أهمها الرؤية التي تحملها المدرسة، ومنظومة القيم والاتجاهات التي تشيع فيها، والنوادي والاتحادات ونشاطات الطلاب، والزمر والعصب، ونظام الحوافز والتقويم... ويقترب الطلاب، إذ يستظلون بهذه العناصر، من نتاجات تعلمية غير مقصودة، ولأن رؤية المدرسة ومنظومتها القيمية قد لا تتفق مع ما يحمله الطلاب من قيم، فإن ثمة صراعا ينشأ بين نظامين: رسمي وغير رسمي.
على أن فيليب جاكسون ميز ثلاث سمات بارزة تجعل ثقافة المدرسة ذات فرادة وتميز، هي:
الصفحة 241
والحق أن السمات الثلاثة السابقة محوجة إلى فضل تدبر، فهي تشير إلى مواجهات قيمية بين الطلاب، وإلى شيء من الصراع الفكري الذي يجذره تباين الطلاب في طبقاتهم الاجتماعية وأعراقهم وثقافاتهم، كما أنها قد تشير إلى أن الطلاب ربما تخلقوا بما لا ينسجم وقناعاتهم أجلَ الظفر بإطراء المدرسة، أوخوفا من الإخفاق في تحقيق مطلب أكاديمي أو مؤسسي، أو خوفا من أحد مراكز السلطة في المدرسة.
وينبئ التبصر بثقافة المدرسة عن العوامل التي من شأنها أن تبث الخوف في نفوس الطلاب، وتحد من حقهم في تحقيق إنسانيتهم، وثمة عوامل ثلاثة جديرة بالفحص والدراسة:
تعمل المدارس على إعادة إنتاج الطبقية السائدة في المجتمع، فمن جهة يُواجه الطلاب الفقراء برفض زملائهم الطلاب الأغنياء الذين تجمعهم مصالح واهتمامات تجعلهم بمنأى عن أولئك الذين هم أقل ثراء، ومن جهة أخرى يظفر الطلاب الأغنياء بمهارات تواصل تفوق تلك التي يملكها الفقراء، وتجعلهم أكثر قربا من معلميهم ومن السلطة ممثلة بالإدارة المدرسية، وهذه الأخيرة نتيجة لذلك –نتيجة لذلك- ستعمد إلى خطاب تتواصل فيه مع هؤلاء الطلاب الأغنياء، مختلف عن ذلك الذي تتواصل به مع الطلاب الفقراء، ولا مرية أن النتيجة هنا شعور الفقراء بالتهميش الاجتماعي، الذي يعني أن يستبعد الفرد اجتماعيا من المشاركة
الصفحة 242
في الأنشطة داخل المدرسة، والتهميش بالمعنى الذي سيق توا خطوة جادة نحو الاغتراب، والاغتراب دائما خوف وقلق.
ولعل الفكرة السابقة تشي بانقطاع الحوار مع فئة من الطلاب غير قليلة، ويحذر باولو فريري من مغبة هذا قائلا "من غير حوار ليس ثمة اتصال، ومن غير اتصال ليس ثمة تربية حقيقيةة"، والنتيجة الحتمية هنا يضيف فريري: "الخوف هو دائما النتيجة، الخوف من الأذى الجسدي والنفسي، والخوف من التهميش، والخوف من الاضطهاد والسخرية، والخوف من الرفض".
على صعيد آخر، فإن المعرفة المدرسية تؤكد إلى حد كبير تلك الطبقية الاجتماعية، فهي تقصد الحفاظ على بنية المجتمع كما هي، ولا تعرض في المناهج بشكل يساعد على تقليص فرص الصراع، وعلى تبيان العلل التي تصيب المجتمع من فقرو جوع وأزمات أخلاقية وتطرف وتضخم سكاني...
والحق أن التهميش الاجتماعي يعني – في المدرسة- وجود فرص تعليمية غير متكافئة وفي حال تساوي الفرص التعليمية، فإن الآباء الأثرياء سيميلون إلى نقل أبنائهم من المدرسة لأنهم حريصون على اختيار مدارس تكون امتدادا للطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها.
وعلى هذا، فالمعرفة المدرسية تؤطر للبنى السياسية والاقتصادية القائمة، وتعمل على تجذيرها وإعادة إنتاجها، لذا فإن الفوارق الطبقية التي تسود المجتمع ستسود المدرسة لا ريب، وعندما يترك الطلاب مدارسهم إلى المجتمع سيؤكدون هذه الفوارق، وهكذا تكون المدرسة قد لعبت دورا قويا في تأكيد الطبقية الاجتماعية، التي تعني دائما أن فئة اجتماعية ما مهمشة، والتهميش يعني المزيد من الخوف.
الصفحة 243
التعصب: -2
ينبثق التعصب بصوره المختلفة عندما ينعدم الحوار العقلاني بين الأفراد ذوي الاختلافات العرقية والجذرية. وقد يأخذ هذا التعصب طابعا عرقيا (إثنيا) أو مذهبيا أو طبقيا، وقد يرتبط التعصب إلى درجة كبيرة بالطبقية الاجتماعية، لأنها تعني بحال من الأحوال اختلاف الاهتمامات والاتجاهات، بل أن ثمة دراسات ذهبت إلى أن التعصب الطبقي أشد وطأة من التعصب العرقي أو المذهبي.
والمدرسة، كما سبق القول، بيئة تقويمية يسودها التنافس، فإن تضافرت هذه السمة مع الطبقية الاجتماعية في المدرسة، فإن فرصة ولادة التعصب الأعمى ستكون كبيرة لاريب. والحق أن خطورة التعصب إنما تكمن في تمظهره بمكونات ثلاثة: معرفي يتمثل بالمعرفة التي يمتلكها المتعصب عن نفسه وعن الآخرين، وانفعالي يتمثل في ا لاتجاهات التي يكونها نتيجة تلك المعرفة، وسلوكي يترجم المكونين السابقين إلى ممارسات لا عقلانية تتسم بالعنف والعدوانية ورفض الحوار. ومتى ما سادت هذه القيم ثقافة المدرسة، فإن تلك الثقافة ستستحيل ثقافة خوف لا شك، ومصدر الخوف في ثقافة يسودها التعصب ينبع من غياب الحوار كظاهرة إنسانية ذلك أن الحوار العقلاني ضرورة وجودية، إنه فعل للإبداع وليس تجسيدا لسيطرة البعض على البعض الآخر.
-3 المنهاج المقود بالاختبار :
تنص هذه الفكرة على أن المعلمين، إذ ينفذون المنهاج، ربما أهملوا الكثير من أهدافه، وقلصوا المعرفة التي يتضمنها لينحصر تدريسهم في فقرات معينة ترد في
الصفحة 244
الاختبارات، إي أنهم يدرسون المنهاج في هدي الاختبار، وجلي ما في هذا الأمر من خطورة، إذ سيغدو المنهاج المدرسي جرّاءه مِزقا مبعثرة.
والحق أن هذه الفكرة -التي بسط فيها القول فأحسن جورج مادوس من شأنها أن تغرس بذور الخوف في ثقافة المدرسة، فمن جهة يعمد المعلمون إلى توجيه المنهاج نحو الاختبار خوفا من المساءلة وضمانا لشيء- من الأمن النفسي- والاجتماعي والوظيفي، لأن الطلاب عندما يحرزون نقاطا مرتفعة في الاختبارات. يسلم معلموهم من مساءلة الإدارة المدرسية، وربما حظوا بمكانة وظيفية أفضل.
ومن جهة أخرى، فإن الطلاب -إذ يرون الاختبارات تعطى هذا الشأن وتظفر بهذه القيمة - يربطون نتائجها بقرارات مصيرية تعنيهم، ويعيشون لحظات ترقب وحذر تعج بالخوف. عدا ذلك فإنهم يحرمون من المرور بخبرات تعلمية تؤهلهم لفهم ما تعلموا، وتقودهم نحو تحقيق الذات فإن تآزرت العوامل الثلاثة السابقة وأصبحت ملامح بارزة في ثقافة. فإن تآزرت العوامل الثلاثة السابقة وأصبحت ملامح بارزة في ثقافة المدرسة، فإنها لن تجعل المدرسة مرتعا للخوف فحسب، وإنما ستغدو مكانا للصراع يجرد فيه الأفراد من صفاتهم الإنسانية، وسيسوده خطاب اغترابي دعامه الخوف والقلق.
نحو بيئة مدرسية متحررة من الخوف
أفضى الحديث السابق إلى أن ثقافة المدرسة تستحيل في أحيان كثيرة ثقافة للخوف، والحق أن هذه نتيجة يستقيم ردها إلى المنهاج الخفي الذي يسود تلك الثقافة، لذا فإن الخطوة الأولى التي من شأنها أن تجعل المدرسة بيئة متحررة من الخوف تتمثل في الحد من سطوة المنهاج الخفي، وإنما يتأتى هذا على نحو حسن متى ما تبصر المعلمون بالنظام الرسمي، وهذا أمر يتطلب
الصفحة 245
الوقوف على دوافع الزمر والعصب وعلى خصائص أفرادها ليعطوا، من ثم، اهتماما أكبر لأولئك الذين لا تتفق قيمهم مع قيم النظام الرسمي في المدرسة. كما يجمل بمخططي المناهج المدرسية أن يظلوا على دراية واطلاع بخبرات الطلاب خارج المدرسة بغية التعرف إلى المواقف الأخلاقية التي يواجهونها، للعمل بعدئذ على رفد المناهج بالموضوعات المناسبة للتعامل مع هذه المواقف.
ولعله من المفيد أن تشرع المدارس في توفير مواقف وخبرات يستطيع الطلاب من خلالها اكتشاف أوجه الشبه في اهتماماتهم واتجاهاتهم ليعملوا بعدها معا على مواجهة تلك المواقف، ولعل هذه المسألة أن تكون عاملا مشجعا يحد من الفوارق الطبقية بينهم، ويسهم في تأسيس خطاب يلامس الأوضاع الحقيقيةة التي يعيشونها.
كما أن المعرفة التي تتضمنها المناهج المدرسية ينبغي أن تختار وتنظم بشكل يجعلها تسهم في إعادة بناء المجتمع، وإنما يتم هذا من خلال الالتفات إلى فكر جماعة إعادة البناء الاجتماعي التي ترى في المدرسة أداة لتجويد نوعية الحياة، وتقليص فرص الصراع لإيجاد عالم أكثر إنسانية.
ويقود ما سبق، دون شك، إلى تمكين الطلاب من قبول ذاتهم، وهذه مسألة معنية بالحد من ظاهرة التعصب، انطلاقا من حقيقة مفادها "إنك لن ترضى عن الآخر مالم ترض عن نفسك". وينضاف إلى هذا أن تعلم الطلاب في مجموعات غير متجانسة يسهم في زيادة تواصلهم الاجتماعي، وفي تطويرهم اتجاهات إيجابية نحو بعضهم بعضا مما يقلل من فرص التعصب عندهم ويحد منها، ذلك أن امتلاك معرفة وافية عن الطرف الآخر لا يكفي وحده
الصفحة 246
للشروع في حوارات معه، بل الأمر منوط بتكوين اتجاهات إيجابية نحوه وسلوك ممارسات دالة على تقديره واحترامه، ويشير هذا الى ضرورة النظر في التربية المتعددة الثقافات التي تعني جملة السياسات والممارسات التربوية التي تؤكد أهمية تقدير ثقافات الآخرين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وأديانهم.
ويتمم الأمر أن يوجه المعلمون تدريسهم نحو تنمية مهارات التفكير الناقد عند الطلاب، وفهم المفهومات التي يتضمنها المنهاج، لا أن يستنفذوا الوقت الأكاديمي في تدريب الطلاب على اجتياز فقرات الاختبار، وفي هذا حد من وطأة الاختبارات على الطلاب، وتقليل لفرص الخوف الذي يسيطر علهم، وتلك مسألة تتطلب تآزر جهود أصحاب القرار التربوي والإدارات المدرسية والمعلمين حتى لا يظل المعلم ضحية الخوف من المساءلة.
ومما يجعل المدرسة بيئة أكثر إنسانية تطرح الخوف وتجعله بمنأى عن ثقافتها اهتمامها بالتربية الجمالية، وإنما يستقيم أمر هذه متى ما دفع الطلاب نحو المرور بخبرات جمالية قائمة على الإحساس المرهف والذوق الرفيع، ومتى ما حفزوا ليفهموا ما يتعلمون فهما جماليا يدركون من خلاله وحدة الخبرات التي يخبرونها ويعون ملامح التوازن والتناغم فيها، ويعمدون إلى محاكمة الأمور مستندين إلى معرفتهم الداخلية وأحاسيسهم وخيالهم المتدفق، ذلك أن من يستشعر الجمال يؤمن بالبساطة والوضوح، وهاتان كلمتان يخلو منهما قاموس الخائفين.
الصفحة 247
(انظر المراجع الصفحة 284).