مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية
المؤلف: عباسي مدني
التصنيف: كتب أخرى
عرض PDFالوصف:
عباسي مدني، مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية، مكتبة المنارة، الطبعة الثاتية 1409ه الموافق ل 1989م، مكة المكرمة.
مقدمة الطبعة الثانية
حمداً لله على جزيل النعم وصلاةً وسلامًا على من دعا إلى ما هي ورضواناً وتكريماً لصحابته الذين التزموا بسنته وعلى التابعين وتابع التابعين
وبعد :
فهذه طبعة ثانية لكتابنا مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية» الذي طبع في مطبعة دار الشهاب بباتنة الجزائر وذلك بعد نفاد جميع نسخ الطبعة الأولى وكثرة الطلب عليه مع الرغبة في تعميم الفائدة على نطاق إسلامي أوسع. والجدير بالذكر أن المشكلات التربوية أخذت صبغة الجدية في الطرح المنهجي على مستوى البلاد الإسلامية وهو ما يفسر مدى الوعي التربوي الذي تزامن مع الوعي الإسلامي الذي أذكته الصحوة؛ فطموح الأمة الإسلامية إلى تحقيق النموذج القرآني والسني جعل الأمة تنتبه إلى القضية التربوية وتدرك تورطها في ما آلت إليه من ضعف وتردي وتخلف وتبعية وهو ما جعل الأمة الإسلامية تدرك حاجتها إلى إصلاح نظمها .التربوية في نطاق النموذج القرآني والرسالي
على أن هذا الموقف الذي أصبح معلماً من معالم التغيرات الكبرى المتوقعة فإن مردّه إلى النظرة الشمولية الإصلاحية السلفية السنية والتي لخصها إمام دار الهجرة مالك بن أنس في قوله : «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وبمقتضى ذلك انطلق المنهج التربوي الإصلاحي عند أبي حامد الغزالي وابن
الصفحة 5
تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبدالوهاب والسنوسي ومحمد عبده والمودودي وحسن البنا وسعيد النورسي ومحمد إقبال وأبي الحسن علي حسن الندوي وابن باديس وغيرهم من أئمة السلف من اعتبار إصلاح الأمة بإصلاح تربيتها. وما دام السلوك المراد إصلاحه مرتبطاً بالتصور ارتباط التصور بالعقيدة فإن العملية التربوية من حيث هي عملية منهجية تبدأ من تزويد الإنسان بالعقيدة الصحيحة إذ بصحتها يصح التصور ويستقيم السلوك هذا على مستوى العملية التربوية . أما على مستوى الكيان الكلي للأمة فإن إصلاح المنظومة التربوية في نطاق الحل الإسلامي الشامل الرسالي الحضاري يأخذ أبعاده المختلفة في نطاق النموذج الإسلامي الأصح والأكمل وهو ما يثبته القرآن الكريم وتقهره السنة المطهرة فيقول الله جل جلاله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِيناً (1) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) فالإسلام الكل هو الحل الشامل المطلوب اليوم لإصلاح الأمة .
ومن ثمة فإن الإصلاح التربوي المطلوب لمواجهة المستجدات لا يتأتى إلا في نطاق البعد الحضاري الشامل.
من خلال هذا التصور الشمولي يعالج هذا الكتاب المشكلات التربوية في البلاد الإسلامية الذي نقدمه لأول مرة على مستوى البلاد الإسلامية بين يدي المهتمين بأمر الأمة الطامحين إلى إصلاحها والعاملين على تحقيق صلاحها كي تدرك فلاحها .
والله ولي التوفيق .
عباسي مدني
14 رمضان 1408 هـ
الهوامش
(1) سورة المائدة : الآية 4
(2)متفق عليه عن عائشة رضي الله عنه
الصفحة 6
مقدمة الطبعة الأولى
أما بعد، حمداً لله على سائر نعمه والصلاة والسلام على نبيه، فإن القصد من هذه الدراسة : معالجة المشكلات التربوية في إطار التغيرات الكبرى التي اجتاحت البلاد الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري، وفي ضوء آفاق المستقبل الذي تتطلع إليه الأمة ومعرفة الجهود المطلوبة في المرحلة الانتقالية الحضارية، والتخلص من آلامها والسعي الحثيث في تحقيق آمالها.
فالتربية كما تكون ضاربة أطنابها في تاريخ الأمة العريق، تكون أيضاً ذات بعد مستقبلي في غاية من الأهمية بحيث تتوقف عليه كل آمال الأمة فبدون التربية تبقى هذه الأمال معلقة. فالتربية إذن بهذا المعنى، لا تستطيع أن تستغني عن الرؤية المستقبلية التي تكون واضحة معالمها، محددة مقاصدها، دقيقة توقعاتها، وهذه الخصائص التي يتميز بها موضوع التربية يجعله يتطلب مناهج ديناميكية تتفاعل مع صيرورة التاريخ أو بمعنى آخر، إن دراسة التربية لا تتأتى خارج كبريات القضايا المستجدة المطروحة على ساحة الصراع بين الأمم لتنازع البقاء، وإن التربية الإسلامية هي الأخرى لا تكون إلا تربية أمة رسالة الهدى ودين الحق جادة في إعداد جيل عبقري يكون في مستوى البناء الحضاري وتطويره باستمرار.
بيد أن الملاحظ لوضع الأمة الإسلامية، لا يحتاج إلى كبير عناء كي يدرك مدى الهامشية التاريخية أو الحضارة التي آلت إليها الأمة، منذ عهد طويل،
الصفحة 7
يلاحظ ما نجم عن هذه الهامشية من تبعية في مختلف مجالات الحياة لم تبق مجرد ولوع بالغالب، كما ذهب ابن خلدن إذ لو كان الأمر كذلك لهان ولوجدنا ما يبررها ولكن الحقيقة غير ذلك .
فالدارس المدقق لحال الأمم المتبوعة يجدها تعاني من الاستيلاب ما جعلها تفقد أهم مبرراتها وغاياتها وصارت الوسائل غايات تطلب لذاتها فتطلب المال للسلطان والسلطان للغلب والاستعمار فتكون مجتمع الاستهلاك بكل ما فيه من تناقضات كالتضخم والبطالة والتبذير والصراع الطبقي والأمبريالية والتسابق على أسلحة الدمار الحضاري والفناء للنوع فحق عليها القول، قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن تُهْلِكَ فَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَ مَرْنَهَا تَمِيرًا ﴾ (الإسراء (١٦) وهو الأمر الذي حمل فلاسفة الحضارة والتاريخ على القول بسقوط الحضارة الغربية. فعلى الرغم من هذه الأمور التي بات مفكرو الغرب والشرق يعترفون بها، ويسلمون بخطورتها ليس فقط على أمم الغرب والشرق وحدهم بل يتعدى خطرها إلى الإنسانية جمعاء زادت التبعية حدة وخطورة ولم يبق على مستوى القسر المادي بل تجاوزته إلى أبعاد جعلتها أكثر تغلغلاً في كيان الأمة وتسرباً في أعماقها .
فإذا ما أمعنا النظر في التبعية بشيء من الموضوعية والعمق، وجدناها قد اتخذت بعداً نفسياً وتربوياً يشكل أخطر حالات التبعية الحضارية، حيث تعمل التربية الاستعمارية أو تربية التبعية على تكوين نفسية الإنسان المتخلف، فتحارب فيه كل محاولة تحررية وتقضي على أي مبادرة استقلالية تربطه بشخصيته الأصلية. وإذا كانت عقدة التبعية هذه تتعدى إلى أكثر من واحد، فإنها سرعان ما تتحول إلى ذهنية تغمر المجتمع وتطبعه ببصماتها البارزة فتنعكس على كل ميادين الحياة وتنشأ فيه ظواهر كالشكلية والتقليد واللامبالاة والتبذير والانحلال الأخلاقي وعدم الانضباط فصار من السهل على العالم النفساني والاجتماعي ملاحظة آثار التبعية منعكسة على سلوك الناس خاصتهم وعامتهم وعلى مواقفهم واتجاهاتهم وقيمهم عند قيامهم بمختلف المهام واتخاذ المواقف فكثيراً ما تظهر الأبعاد النفسية للتبعية في شكل ضياع للوعي الحضاري وضمور
الصفحة 8
للجهد الجماعي الناقد لمبرراته عندما تنشأ في الحياة العامة ظواهر كالتقوقع في الأغراض الشخصية وتفشي اللإنتمائية التاريخية الحضارية، وظهور النزعة العرقية والجهوية والوطنية والقومية بمعانيها الضيقة وغيرها من التناقضات1.
وإذا حاولنا البحث عن أهم عوامل التبعية حتى في أمعن صورها النفسية والاجتماعية والحضارية وما نجم عنها من انعكاسات سلبية لا حصر وجدنا مساهمة التربية في ذلك تجعلها من أشد عوامل التبعية خطراً. والدليل على ذلك أن القهر الاستعماري لم يستطع أن يعطي للتبعية أكثر من حالها المادي الصرف، بينما حققت تربيته ذلك الغرض الثاني بأيسر الجهود، فالمتتبع للتغيرات الكبرى التي غمرت البلاد الإسلامية منذ ظهور ممهدات سقوط الخلافة نجد مخطط الغارة على العالم الإسلامي كان ولا يزال يركز على التربية ويرى مدى خطورة التربية الاستعمارية ومساهمتها في تكوين إنسان التبعية، فدراسة مناهج التربية الاستعمارية وفلسفتها تدل دلالة واضحة على أن هذه التربية كانت تعتبر تكوين الإنسان اللامنتمي ، إنسان التخلف والتبعية أهم أغراضها وغاية غاياتها . على أن المصلحين الإسلاميين قد أدركوا ذلك السر من الوهلة الأولى فركزوا على تربية الطفل المسلم ذي القناعة الإيمانية والشخصية الإسلامية والمناعة العقائدية والوعي الإسلامي النير واستطاعت بالفعل تربيتهم على بساطتها وعلى الرغم من ضعف إمكاناتها أن تحمي شخصية الأمة من الضياع وكونت تربية موازية للمنظومة التربوية الاستعمارية واستطاعت إلى حد بعيد أن تحفز الأمة للعمل الجاد للصمود الحضاري والجهاد المستميت من أجل التحرر إلى تحقيق النصر وبفضل ذلك تصدت الأمة للغزو بكل أشكاله العسكرية والفكرية والحضارية فلولاها ما جاء الشعور بالحاجة إلى الجهاد مصحوباً بالوعي الإسلامي الحضاري الذي أعطى للمقاومة أهم وأقوى مبرراتها وهو ما يفسر من جهة أخرى أهم عوامل الغفوة التي انتابت الأمة في المرحلة الانتقالية فصـور
الهوامش
(1) وذهب إلى هذا القول كثيرون منهم مالك بن نبي، وأرنولد تونبي، وشنبنقل وشنستر
الصفحة 9
الشعور بالحاجة إلى البناء الحضاري الإسلامي في فترة ما بعد الثورات التحريرية يعود بالدرجة الأولى إلى حمول الوعي الإسلامي لدى الأمة في هذه الفترة لأن الجهد الجماعي للأمة مرتبط بالوعي الإسلامي ارتباطاً كلياً فينمو مع نموه ويتقلص بتقلصه حتما والدليل على ذلك وقوع الشعوب فور انتهاء ثوراتها في التبعية ولم يمنعها من التخلف نيلها لاستقلالها فالغموض الذي أسدل على مبررات البناء الحضاري الإسلامي وسائر شروط النهضة ومختلف عوامل الصحوة لم يقصد به غير إخلاء الجو إلى الغزو الفكري وترسيخ دعائم التبعية الحضارية ليحل الغزو الفكري محل الغزو العسكري والاستعمار الحديث مكان الاستعمار التقليدي ويتخذ الأول أمعن صورة في التبعية بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية.
وحتى تتحول التربية إلى عامل استقلال حضاري ووعي إسلامي نير ورقي علمي وتقني وقناعة إيمانية قوية وقيم أخلاقية عالية تحتاج إلى جهود جبارة و دراسات جادة واصلاحات سليمة جذرية شاملة من أجل ذلك حاولت دراسة مشكلات التربية كما هي تواجهنا على مستوى الأحداث الكبرى للتاريخ المعاصر.
على أنني أعترف بأن الموضوع شائك ذو تشعبات لا حصر لها لكن المنهج الذي تبنيته ساعدني على تحديده مهما اتسع ومكنني من التحكم فيه مهما اعصوصب وجعلني أصل إلى نتائج أرجو أن تكون أقرب إلى الصواب، وأبعد ما تكون من الخطأ.
وإذا كان لي أن أذكر الصعوبات التي اعترضت سبيلي في هذه الدراسات فإن أخطرها كان يتمثل في صعوبة التخلص من المفاهيم التي ينضج بها الفكر الحديث، وأصبحت تشكل ذهنية عقلانية ضيقت الخناق على الفكر ولم تقتصر جنايتها على أبناء الغرب بل تعدتهم إلى أبناء الأمة الإسلامية أنفسهم لكن قراءتي المبكرة للقرآن الكريم وشيء من السنة المطهرة، كانت لي درعاً منيعاً احتمیت به من مخاطر ذهنية الفكر الحديث كما ساعدتني الأنوار القرآنية والقبسات السنية على شق حجب التقليد للغرب والنفاذ إلى الحق والحقيقة
الصفحة 10
اللذين اتخذتها ضالتي في هذه الدراسة. وإذا كنت لا أنكر فضل دراستي للفكر الغربي والشرقي ؛ قديمه وحديثه بصفة عامة وعلوم التربية بصفة خاصة فإن المنهج الذي تبنيته لم أتركه كما كان عند علماء التربية المقارنة وعلى رأسهم أستاذي برايند هولمس ولم يتجاوز الحدود المنطقية والشروط المنهجية للبحوث العلمية وتقنياتها التي هي ليست وقفا على أمة من الأمم .
أما المفاهيم والقيم التي اعتمدتها فهي قرآنية الروح وسنية سلفية المنهج الخطأ وإسلامية المنحى على أن جهودي ما تزال في طور المحاولة لا تخلو من وهي في هذا الحال أبعد ما تكون عن الكمال وأحوج إلى الإكتمال .
ورجائي في الله أن يكون عملي هذا نافعاً للعباد والبلاد وشفيعاً لي يوم المعاد.
عباسي مدني
الصفحة 11
المشكلة التربوية وكيف تواجهنا في العصر الحديث
تعد مشكلة التربية من أعقد المشكلات التي تواجه الدولة الحديثة، ويعتبر موضوع التربية من أهم المواضيع التي لا يشغل بال المربين فحسب1)). بل يشغل أيضاً بال المفكرين والمصلحين الإجتماعيين وغيرهم، ويعود هذا الإهتمام إلى شدة ارتباط التربية بالحضارة والثقافة ومدى تأثرها وتأثيرها بالسياسة والاقتصاد وجميع الأوضاع الإجتماعية ...
هذا وأن مشكلات التربية لا يخلو منها مجتمع مهما بلغت درجة بساطته أوتعقيده على أنها لا تواجه الأمم بنفس الدرجة ولا بنفس الوضع على وجه التحديد، لقد واجهت مشكلة التربية الأمم من حيث هي قضية تربوية بحتة غايتها تكوين الفرد تكويناً جيداً جسمياً ونفسياً وعقلياً، لتحقق شخصية الفرد كمال نضجها ونهاية نموها وسلامتها فتحقق بذلك عند تعميمها على جميع الأفراد سلامة المجتمع ذو الشخصية المثلى والخبرة الراقية والرسالة الهادية عبر التاريخ . لقد ظهرت هذه النماذج التربوية مع ظهور الأنبياء والمرسلين، فالمتأمل في تاريخ
الهوامش
(1)يقول بهذا الرأي الذي يقضي بتشعب القضايا التربوية إلى أن تتعامل في أعماق الحياة الاجتماعية وكل أبعاد الحضارة علماء كثيرون منهم على وجه الخصوص ابن خلدون في كتابه المقدمة لكتاب العبر ومصطفى عبد الرزاق في مقدمة له لكتاب التربية في الإسلام لأحمد فؤاد الأهواني والسيد أبو الحسن علي حسن الندوي في كتاب نحو التربية الإسلامية الحرة
الصفحة 13
الرسالات السماوية التي كشف عليها القصص القرآني النقاب في وضوح (1) وجلاء، يدرك أهمية هذه النماذج التربوية وعمق مفهوم الإنسان ورقي القيم التي حددت على أساسها أهداف التربية، وجميع أغراضها الفردية والاجتماعية، وهو ما يلاحظ أيضاً في عهود الخلفاء الراشدين والتابعين إلى العهد الأموي والعباسي بالنسبة إلى الأمة الإسلامية. أما في الأمم الأخرى، فقد عرفت التربية ازدهاراً وتطوراً في عهد كونفيشيوس وأتباعه وسقراط وتلامذته . ، وفي عهد الإصلاح الديني الكنسي بفضل محاولات جون كالفن1509 - 1564 ومارتن لوثر 1483 - 1546 ، وأتباعهما (2). وفي عهد الثورة الفكرية على فلسفة الكنيسة التي اجتاحت العالم الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين (3)، وكثيراً ما تطرح مشكلة التربية على هذا المنوال عندما تكون الأمة في حالة التأهب والتحفز لأداء الرسالة أو إقامة حضارة وانبثاق نهضة وانبعاث صحوة .
أما مشكلة التربية إبان ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا وأوروبا فقد كانت اقتصادية بالدرجة الأولى؛ وإن انعكست على الأوضاع الإجتماعة والثقافية والسياسية (4). وعندما اندلعت الثورة الفرنسية رفعت شعار الأخوة والمساواة والديمقراطية. وما أن ظهرت النزعة الإمبريالية الإستعمارية في العالم الحديث
الهوامش
(1) القرآن الكريم.
(2)محمد أمدجاء المولى .... قصص القرآن، ط 10 ، المكتبة التجارية بمصر 1389 هـ -1969م ، محمد بيومي صهران دراسات تاريخية من القرآن الكريم، لجنة البحوث والتأليف والترجمة والنشر المكتبة التاريخية،1400هـ -1980 م .
(3)بول مورو المرجع في تاريخ التربية وزارة المعارف دار الترجمة، مكتبة النهضة المصرية،1953م، ج 2 ص :61 -64.
(4)يرى فرنسيس بيكون أن أسباب النزعة الإلحادية هي الإنقسامات في الدين التي كانت عديدة. انظر : قصة الفلسفة ول ديورانت ترجمة أحمد النسياني، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، ص: 225 ثم انظر يوسف كرم تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط 4 ،1966م، ص: 8 ثم انظر ول ديورانت، قصة الحضارة ترجمة محمد بدران لجنة التأليف والنشر، القاهرة، 1959م، ج 21
الصفحة 14
حتى نشأ التباين الطبقي في المجتمع الليبرالي الرأسمالي وصارت مشكلة التربية سياسية (1) تخضع لاعتبارات من نوع جديد كالصراع الطبقي والطائفي والإيديولوجي .
أما بالنسبة إلى الشعوب المستعمرة فقد اختلفت المشكلة التربوية باختلاف تطور المفاهيم الإستعمارية، فبعد ما كان الاستعمار مجرد غزو عسكري غايته استغلال ثروات البلدان ونهب الشعوب تحول إلى غزو فكري وقهر حضاري (2) .
فحولت السياسة الإستعمارية كسياسة الجزائر فرنسية التربية من عامل بناء إلى عامل هدم حضاري .. ومن وسيلة إصلاح إلى عامل إفساد ومن أداة تحرر بمعناه الكامل إلى أداة تبعية ثقافية وحضارية .
إن التربية الإستعمارية الإنجليزية التي استعملت في آسيا (3) وإفريقيا، لمن
الهوامش
C. Wright Mills. the Power Elite, oxford university Press. P. 269. (1)
George Pickering the challange to Education. Apelican Book, Penguin Books. P. 58-67.
R. Garaudy. l'Alternative. Editions Robert laffont. Paris. 6, P. 11-37.
Radovan Ritcha, la Civilisation au carfous. Editions du seuil. Paris. P. 11-23.
V. Giscard d'Estaing. Democratie Fracaise. Fayard. P. 49-53.
Francois. Dourricaud. Esquisse d'une theorie de l'autorité. Plon: Paris. P. 9-41.
B.R. Cosin. Education structure and society Penguin weth the open University Press. P. 80.
(2) مالك بن نبي . مشكلة الأفكار، ترجمة محمد عبد العظيم علي، مكتبة عمارة .
مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مكتبة دار العروبة 1960 م ، ص : 11 - 81 و 129 .
مالك بن نبي . شروط النهضة، ترجمة عمر كامل السقاوي، دار الفكر، ط ، 1969 م، ص: 129 .
فرحات عباس، ليل الإستعمار، ترجمة أبو بكر رجال، مطبعة فضالة المحمدية، المغرب، بدون تاريخ ص: 23 .
(3) غاندي، حضارتهم وخلاصنا ترجمة نجدة هاجر منشورات المكتب التجاري للطباعة
15 الصفحة
أخطر النماذج التربوية الإستعمارية التي كان لها أسوأ الآثار على الأمم المستعمرة بصفة عامة والأمة الإسلامية بصفة خاصة. وكذلك التربية الإستعمارية الفرنسية التي فرضتها فرنسا على شعوب الشمال الإفريقي وغيرها كالشعوب الفرانكوفونية الإفريقية، فكانت هذه التربية أخطر سياسة تربوية استعمارية تعرضت لها الشعوب (1).
والدليل على ذلك، أنها هي التي أعطت للإستعمار المفهوم الثقافي والبعد الحضاري اللذين لا يزولان بزوال سلطته السياسية وجلاء قوته العسكرية بالإضافة إلى ما حققته في هذه الأقطار وغيرها من تبعية مجحفة وتقليد أعمى ونزعة استهلاكية تواكلية حيال الحضارة، وهو الأمر الذي جعل المشكلة التربوية في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة على درجة من العمق والتعقيد، ولم تطرح كمجرد مشكلة اقتصادية يمكن أن ينطبق عليها التفسير المادي الماركسي كما يدعي البعض (2) ولا هي سياسة حتى بالمعنى الواسع لهذه المشكلة كما يراها
الهوامش
والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1959 م، ص: 131.
الباريغان الثقافة الإنسانية وفلسفة التربية الأونيسكو، دار النشر للجامعيين، تعريب أنطوان فوري، ص : .69
جواهر لال نهرو آراء في قضايا الساعة نقله إلى العربية مروان الجابري، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، ط 1 ، 1959 م، ص: 16 إلى 23 .
Norman Miller and Rodrik Aya. National libertion in the third World the Free
Pressv, P 1448.
Sir Hamilton A.R.G. BB, the Middle East in transion Edited by, walter. Z. laqueur. Routledye et Regan Paul, london P4-11.
(1) قول الدكتور بوديشون : لا بد لفرنسا أن تفرض فرنسيتها الاستعمارية المقاييس الأخلاقية وقيمها، ولكن الذي يهمنا قبل كل شيء هو تأسيس مستعمرة تملكها بصفة نهائية وتنشر على الشواطيء البردوية المدنية الأوروبية. انظر ليل الاستعمار، فرحات عباس، ص: 73
(2) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ مؤسسة الثقافة الجامعية الإسكندرية، 1975 م، ص :
الصفحة16
هيچل (1) بل هي أعمق من ذلك وأبعد من أن تنحصرفي مجال واحد مهما كانتأهمية ذلك المجال في الحياة الاجتماعية؛ بل هي قضية حضارة برمتها (2) لأمة ذات رسالة (3) جاءت لانتشال العالم من ظلم الكفر وطغيان الجبابرة وخطر الخراب والدمار الناشيء عنهما في إطار حضارة نووية تتحفز أمها للغزو، وتتحمس للقهر والغلبة، حاملة في طياتها بذور الدمار والفناء والشقاء في الدارين. إذن فالمشكلة التربوية كما هي مطروحة الآن على الشعوب العربية والإسلامية؛ هي مشكلة إعداد إنسان الحضارة (4) الإسلامية الذي يكون في مستوى العمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ذلكم الإنسان الذي يجيد توظيف تراثه الثقافي، وثرواته الطبيعية التي تزخر بها بلاده توظيفاً حضارياً وتقنياً انطلاقاً من إعادة الإعتبار للإنسان دينه وعقله، وضميره، وإرادته، وحريته في اعتدال وتوازن بين مختلف حاجاته المادية والروحية، كما جاء ذلك في العقيدة الإسلامية .
فالأمة الإسلامية كأي أمة متحضرة لا يمكن لها أن تعيش خارج نطاق حضارتها، تلكم التي نشأت بفضل جهود أجيالها المتعاقبة وبفضل جهادها المستمر عبر تاريخها الطويل، فالحياة خارج الحضارة عدم وموات وخراب .
والتربية هي الأخرى كما هي في اصطلاح المربين لا يمكن أبداً فصلها عن الحضارة؛ فمنها تستمد مبرراتها ومادتها ومحتواها وأغراضها ووسائلها وجميع أدواتها وتقنياتها ونظمها ومؤسساتها، فحاجة التربية إلى الحضارة كحاجة الشجرة إلى التربة الطيبة، كي تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها على أكمل الوجوه، لا بد ها من البيئة الحضارية الشاملة والمناخ الثقافي المناسب. هذا وإن الوظيفة
الهوامش
(1) مالك بن نبي ميلاد مجتمع مكتبة دار العروبة القاهرة 1962 م، ص: 92.
(2) أبو الحسن علي الحسن الندوي التربية الإسلامية الحرة مؤسسة الرسالة، ط 4، 1403 هـ - 1982 م .
(3) مالك بن نبي شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي داوي، دار الفكر، ط ، 1969 م، ص: 111 - 138
Alan Swingrood, Marx and modern social theory. M P 5887. (4)
-M. Dommanget, les Grandes Socialistes est l'Education, Armand colin, p 302-
الصفحة17
الأساسية التربوية هي وظيفة حضارية رائدة على مر العصور والأزمان في مختلف الظروف والأحوال (1)، أما عزل التربية عن الواقع الثقافي والإجتماعي الذي يعيشه المجتمع وجعل اهتماماتها خارج الأحداث الكبرى التي تسيطر على العالم، فلم يحدث إلا في أحط حالات الانحطاط كما كان الشأن عند المدرسين في القرون الوسطى (2) .
إن التربية التي لا تراعي جميع حاجات الفرد والمجتمع، وحقيقته التاريخية، وآماله المستقبلية هي تربية فاقدة لأهم مبرراتها، فالوقائع التاريخية التي تستمد منها هويتها كماض وحاضر ومستقبل والأوضاع الاجتماعية والإقتصاية والسياسية كما تواجهها الأمة في حياتها الثقافية والحضارية؛ تربية فاشلة، لا تستطيع أن تمكن الفرد ولا المجتمع من التخلص من معضلاته، ولا تضمن له تحقيق آماله في المستقبل، فالوقائع التاريخية والأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية في البلاد الإسلامية تواجه شعوبها كبلاد مغزوة وأمة مظلومة وحضارة مهددة أغنياء لكن ثرواتنا مسلوبة أولي شخصية مميزة لكن أصالتنا مهددة قل فيها الجهد وضعف الجد وانطفأت فيها جذوة العبقرية، ففشى التقليد وقل الإبداع ... ومن ثمة فإن رسالة التربية في هذه المجتمعات تبدأ من مواجهة هذه الظروف وعلاج القضايا بحزم ويقظة وحكمة .
معنى هذا أن التربية عندنا مدعوة إلى أعداد أجيال خالية من عقدة التخلف والولوع بالغالب على حد تعبير ابن خلدون، قادرة على وضع حد للتبعية بكل معانيها الإقتصادية والثقافية . لكن هذا لا يتأتى إلا بإعادة النظر
الهوامش
(1) يقول السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي : فمهمة التعليم في البلاد الإسلامية مهمة عسيرة ومعقدة ... إنه ليس مجرد تعليم العلوم والفنون ولغات وطنية وأجنبية وآداب أهلية وروسية، بل هو إنشاء جيل فكرياً وخلقياً ممتازاً وذلك لا يتم بترجمة الكتب وجلب الأساتذة من الخارج وإنشاء عدد كبير من الكليات والجامعات وإرسال بعثات الطلبة إلى أوروبا وأمريكا إنما تحتاج إلى شيء كبير من النبوغ والابتكار وشيء كثير من التأليف والإنتاج ... ص : 8.
(2) بول مورنو المرجع في تاريخه التربية ترجمة صالح عبد العزيز، مكتبة النهضة المصرية، 1958 م ، ج 1، ص: 218
الصفحة18
في الأوضاع التربوية السائدة من أجل إصلاح تربوي جذري وشامل يحقق النوعية فيشجع العقل والفكر على النبوغ والتفوق والامتياز في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والتقنيات وجميع أصناف الخبرات ... أو بتعبير آخر فإنه لا بد من البحث الجاد عن نقطة بداية صحيحة لنهضة أصيلة يكون لها شأنها في المستقبل، ولعل من أهم شروط النهضة الحقة الإصلاح التربوي الذي يقوم على أساس إعادة الاعتبار إلى الإنسان جسمه وعقله وروحه، هذا إن سلمنا بأن مشكلة الحضارة يشكل الإنسان (1) فيها حجر الزاوية (2)
أما ما يدعى اليوم بالنهضة في البلاد العربية والتي تغشى الحياة الثقافية فهي نهضة مزيفة في نظرنا لا تستطيع أن تذهب بعيداً بدليل تقوقعها في دائرة التخلف والقبوع في ظل حضارة الشرق أو الغرب أو هما معاً تستمد منهما ما يسد حاجتها اليومية من المواد الإستهلاكية وهو ما يزيدها ارتباطاً بالدول العظمى وخضوعاً لسلطاتها القاهرة واستسلامها لنظامها الدولي الإمبريالي (۳) الجائر هذا النظام الذي وضع لتزداد الأمم الغنية غنى وقوة، بينما تزيد الأمم الفقيرة فقراً وضعفاً لأن النهضة التي لا تقوم على الأصالة ولا تنشد النبوغ للتفوق على المستوى الحضاري الشامل كما هو الشأن في أغلب الأقطار العربية حالياً، لنهضة شكلية تقضي على كل نزعة استقلالية ابداعية تحريرية فالنهضة القائمة على تربية غربية أو شرقية في روحها وأهدافها وغاياتها ونظمها لا يمكن أن تكون إلا نهضة سطحية الفكرة عقيمة المسعى عديمة الجدوى.
يكتب أحد الأدباء المهتمين بالتربية في مصر في مقدمة لكتاب له قوله : وفي هذا العصر الذي ظهرت فيه تلك النهضة المصرية الفتية، أرجو أن أقدم للمربين والمثقفين من قراء العربية في الشرق عامة وفي مصر خاصة هذا الكتاب
الهوامش
(1) أسوالد شبنقلر تدهور الحضارة الغربية، ترجمة حمد التبياني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ج 3، ص : 240 .
(2) أرنولد توينبي، مختصر دراسات للتاريخ، ترجمة محمد فؤاد شبل، جامعة الدول العربية، ط 1، 1960 م، ج 1 ، ص: 86 - 93
(3) بن جامين ج - كوهين قضية الإمبريالية ترجمة فور الدين الزراري، مؤسسة سجل العرب، 1980 م ، ص : 24 - 85 .
الصفحة19
في - الاتجاهات الحديثة - وهو ثمرة كثير من التجارب، وخلاصة دراسة وافية للتربية النظرية والتجريبية والعملية (1) ويذهب الكاتب إلى القول بأن التربية الحديثة على اختلاف مشاربها روحاً واحدة فيقول : .... فبعد أن كانت تلك الآراء - ويعني الآراء التربوية الحديثة - نظرية أصبحت ممكنة التطبيق بمختلف الوسائل، ومهما اختلفت الطرق الحديثة، وتعددت اسماؤها في أوروبا وأمريكا فأنها متحدة في روحها (2) .
ولو تعمق الكاتب قليلاً في نظريات التربية، لوجدها تختلف في أعماقها باختلاف الإتجاهات الفلسفية أو الدينية والإيديولوجية السياسية والتربوية بالضرورة، ولعل هذا ما جعل الكثير من المهتمين بالتربية يهتمون فقط بنقل النظريات والإكتفاء بعرضها كخبرة ممتازة ويشجعون على استيرادها واقتنائها دون معرفة ما لا يليق فيها بالمنظومات التربوية المستعيرة. وهذا باعتراف بعضهم، نذكر منهم على سبيل المثال حنا غالب في مقدمة كتابه حيث يقول: «ومما يؤسف له أن علم التربية عندنا لا يزال متحفظاً .. فالبحوث والدراسات التربوية لم تبدأ بعد بصورة جديدة ولا يزال الأدب التربوي في اللغة العربية ضئيلاً، وما لدينا منه معظمه مترجم (3) ، أو مقتبس من مصادر غربية شتى (4)، والواقع أن ما لدينا من ركام الكتب المترجمة بالعربية لا يكاد يزيد عن عرض قد يختلف في العمق والدقة والأمانة لمختلف النظريات التربوية خال من التحليل والنقد وإعادة النظر وهو ما حمل الكثير من قراء هذه الكتب والطلاب على الاعتقاد بهذه النظرية بأنها حقائق ثابتة ومباديء مسلمة لا تقبل النقاش ولا تحتاج إلى إعادة النظر، والحال أنها عند أصحابها إن كانوا نزهاء هي أحوج ما تكون إلى الجهود الفاحصة والدراسات الناقدة. فإذا كانت هذه النظريات في رأي
الهوامش
(1) محمد عطية الإبراشي، الإتجاهات الحديثة في التربية، دار لإحياء الكتب العربية، ط 6، ص .
(2) نفس المصدر، ص : 6
(3) ويلاحظ أن هذا الأخير في إدعائه قد أغفل التراث التربوي الإسلامي الزاخر، بكنوز الخبرة التربوية، وحصر همه فقط في التربية الحديثة .
(4) حنا غالب، مواد وطرائق التعليم، بيروت - لبنان، 1966 م، ص: 2 .
الصفحة20
أصحابها تحتاج إلى إعادة النظر فهي بالنسبة إلى غيرهم ممن تختلف دياناتهم وعقائدهم ومذاهبهم أحوج بل يذهب بعض الدارسين للنظريات الحديثة نذكر منهم جون ديوي وجيمس روس إلى أن التربية والفلسفة لشدة ارتباطهما هما شيء واحد (1) ومن ثمة فإنه إذا اختلفت المذاهب الفلسفية اختلفت بالضرورة المفاهيم والمذاهب التربوية. إننا لا ننكر قيمة المحاولات التي قاء بها الكتاب العرب من نقل الخبرات التربوية الحديثة، ومدى مساهمة هذا الانتاج في تعميق النظر في المسائل التربوية في البلاد الإسلامية. لكن توقفها عند هذا الحد من نقل الخبرات دون تمحيص ودراسة وإظهار عواقب انتحالها على علاتها كما هو جاري في أغلب أنحاء البلاد، أمر بات يهدد خطره بالإمعان في التقليد، وينذر بالتزام التبعية للأمم المنتجة لهذه النظريات. مع العلم أن هذه النظريات لم تأت صدفة، بل هي وليدة ظروف تاريخية وثقافية معينة وحضارة متميزة، وظروف اجتماعية خاصة ليست لها أي صلة بالبيئة الثقافية العربية والإسلامية، إلا ما كان مشاعاً بين الأمم والحضارات من علوم وتقنيات و معارف وخبرات يمكن اعتبارها من المحتوى التربوي كإنتاج إنساني مشترك .
هذا من جهة النظرية التربوية. أما النظم التربوية في البلاد الإسلامية وهي أبرز ميدان تتجلى فيه شخصية الأمة وأصالتها وعبقريتها وجميع حظوظها الحضارية فقد تعرضت هي الأخرى للتخريب تحت ستار الإصلاح والتمدين إثر الغزو الاستعماري الذي لم تنج منه ناحية من البلاد الإسلامية (2).
مع العلم أن أي مس لهذه النظم تنجم عنه عواقب وخيمة على كل المستويات الثقافية والحضارية. إن السياسة الاستعمارية استناداً على الوثائق الرسمية والأحداث الأليمة أيام الاحتلال تندرج تحت المخطط الاستعماري الذي تعرضت له البلاد الإسلامية، لم تعرف الإنسانية أخطر منه، فكان مدبروا هذه الخطة الاستعمارية للعالم الإسلامي يعتقدون أنه من المستحيل الإستيلاء
الهوامش
(1) جيمس روس، الأسس العامة لنظريات التربية، ترجمة صالح عبد العزيز، مكتبة النهضة
المصرية، ص : 5 .
(2) ساطع الحصري التربية والاجتماع، دار العلم للملايين، بيروت، 1962 م، ص: 109 .
الصفحة21
على العالم الإسلامي، واخضاعه لنفوذهم ما دام المسلمون أقوياء في عقيدتهم، عاملين بدينهم متشبعين بقيمهم متحلين شمائل أخلاقهم . لذا بات في حسابهم القضاء على الأمة الإسلامية، لا يتأتى إلا بالقضاء على النظم التربوية الإسلامية، وتعويضها بنموذج يتماشى مع أغراض السياسة الاستعمارية (١)، والعمل على تكوين جيل مخضرم ؛ لا هو متشبع بروح دينه ومقتنع بعقيدتنه وأخلاقه، ولا هو متمكن من الروح الغربية أو الشرقية الحضارية. ومن الذي يستطيع أن ينكر آثار هذه المخططات الماكرة في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية، لذا ونحن إذ نحاول أن نعالج في هذه الدراسة مشكلات التربية في البلاد الإسلامية نرى لزاماً علينا أن نحصر المشكلة التربوية التي تعاني منها البلاد الإسلامية في العصر الحديث في البؤرتين الرئيسيتين التاليتين :
أ - الإصلاحات التي تعرضت لها النظم التربوية في البلاد الإسلامية وانعكاساتها الثقافية والحضارية .
ب - النظرية التربوية الحديثة من حيث هي خبرة ذات خلفيات ثقافية وحضارية معينة، إن كان لها فضل النهوض بالعالم الغربي عبر عهود ما بعد الإصلاح الديني، فهي اليوم على ما وصلت إليه من تطور تشكو ضعف خلفيتها الفلسفية وعجزها عن تحقيق السعادة للإنسان الحديث وتحقيق التوازن الروحي والمادي (2) .
إن النظرية التربوية الحديثة حتى في أمعن حالاتها المثالية تعاني من مأزق المادية (3) الحرج وهي مع ذلك تغزو العالم الإسلامي وتجد بابه مفتوحاً على مصراعية ورجال الفكر متفرجون ومنهم من يعتقد أنها بلغت الكمال والنهاية في التمام ! .
الهوامش
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب، الدار السعودية للنشر، ط 2 ، جدة، 1387 هـ ، ص: 118
(2) السيد ريتشارد لفنجسون التربية لعالم حائر، ترجمة وديع الضبع، مكتبة النهضة المصرية، 1940 م، ص . ك .
(3) نفس المصدر. ص: 2 . 29
الصفحة 22
الإصلاح التربوي في البلاد الإسلامية
يقول لوثروب ستودارد الأمريكي :
إن روح الإصلاح ما فتئت تدب في كل عرق من عروق العالم الإسلامي دبيباً طبيعياً هائلاً تتدفعه إلى الأمام دفعاً متواصلاً (۱) فمنذ القرن الثالث عشر الهجري عند ظهور الحركة الإصلاحية الوهابية (1) كان العالم الإسلامي يتحفز لتغيرات كبرى ويستعد التحولات عظمى : محاولاً التخلص من عوامل الانحطاط والبدء في العمل على إعداد الشروط الأولية للنهضة الإسلامية الحقيقية، وفي الوقت نفسه تكالبت على العام الإسلامي قوى الشر والطغيان والغزو والإستعمار التي كانت تغذيها الأحقاد الصليبية والأطماع التوسعية لاستعمارية. قال رئيس ارساليات التبشير الألمانية في تقريره عن أعمالها : إن نار الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية ولا في مستعمراتنا في آسيا أو أفريقيا، ين ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها
قوته، وينتشر سواء أكان في أفريقيا أم في آسيا " .
على أن هذا الغزو شكل نوعاً من التحدي، كان لا شك من نتائجه تحفيز المسلمين للصحوة ). فعلى الرغم من خطورة المخططات الاستعمارية التي
الهوامش
(1) لوتروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي ترجمة حجج، دار الفكر، القاهرة. ط . .۰ 1973 م. ج 1، ص: 78 .
(2) محمد بن عبد الوهاب صاحب لفرقة الوهابية. ولد 1110 هـ - 1206 هـ . دعان التوحيد ونبذ الخرافات لأنه يعتقد أن إصلاح العقيدة هو أساس كن صلاح .
(3) أ. د. شتنيه الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 242 .
4)) وفي هذا الصدد تكون متفقين مع أصحاب هذا التفسير وخاصة أرتولد توتبي وسينقل ومالك بن نبي .
الصفحة23
أعدت لمواجهة حركة الإصلاح والقضاء على الصحوة، فإن الدعوة التي قام بها جمال الدين الأفغاني 1256 - 1314 هـ ، ومحمد عبده 1266 - 1323 هـ ، وعبد الحميد بن باديس 1308 - 1359 هـ ، وحسن البنا، وغيرهم قد وجدت تأييداً ومساندة من الشعوب الإسلامية مما جعلها تقوى على عنف أعدائها المستعمرين ومن ساروا على ركابهم. ولعل سر هذا النجاح يكمن في أن المنهج الإصلاحي المتبع كان قائماً على إصلاح العقيدة والتعليم، وذلك نظراً لما آل إليه أمر الناس في تلك الظروف من التدهور والتخلف والظلم والفساد . . .
وإذا كانت النظم التربوية هي جزء من كل بالنسبة إلى الحياة الثقافية والإقتصادية والسياسية والحضارية، فإن فساد الكل هو فساد لجميع أجزائه بالضرورة، ومن ثمة فإن النظم التربوية السائدة آن ذاك، كانت في أشد الحاجة إلى الإصلاح التربوي الواعي السليم، وخاصة لما صارت المجتمعات تشكو من عدم جودة التوظيف لكل من التراث الثقافي الحضاري والثروات الطبيعية التي تتمتع بها البلاد الإسلامية .
كالعير في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
فماذا تنفع الطبيعة إذا تجمد الفكر، وماذا يجدي التراث الثقافي الزاخر بكنوز المعرفة إذا حدرت العقول، وتحجر الفكر وعجز الخلف على إعادة صياغته في بناء حضاري يستجيب لمتطلبات التاريخ، وما ذنب الفكر إذا لم تنجب التربية جيلاً أو عدة أجيال يكونون على جانب من النبوغ والعبقرية، ويصبحون في مستوى المهام الكبرى للتاريخ ؟ .
انطلاقاً من هذه الاعتبارات اتخذ الإصلاح في نظر هؤلاء العلماء المصلحين أدق معانيه وأبعد مراميه من حيث هو عملية منهجية للتغير الشامل، القائم على أسس علمية سليمة أبعد ما تكون عن النزوات العاطفية والأغراض الشخصية والمحاولات الإرتجالية، وهو ما جعل منهجهم الإصلاحي إذا ما قورن بالإصلاح عند المصلحين الغربيين أكثر عمقاً وشمولية ودقة وسلامة وصحة وأصالة ... وهذا ما جعل الصحوة مدينة لهم إلى اليوم، فلا تستطيع أن
الصفحة24
تخرج عن هذا المنهج إذا أريد لها الاستمرار إلى أن تحقق أبعد غايتها وأسمى مراميها. وإذا قيل لماذا حققت الإصلاحات الغربية نهضتها وغاية نمو حضارتها وازدهارها، في حين أن الإصلاحات التي دعا إليها علماء الإسلام لم تحقق شيئاً، من ذلك فإن العملية الإصلاحية ذات الأبعاد الشاسعة تقتضي شروطاً، منها بالضرورة مراعاة عامل الزمن، بالإضافة إلى أن الضغوط التي تواجهها حركات الإصلاح الإسلامية لم تواجهها الحركات الغربية وخاصة الغزو(2) الفكري وما يشكله من عراقيل أمام الإصلاح بصفة عامة والإصلاح التربوي بصفة خاصة في البلاد، ولئن حاول زعماء الغزو الفكري الحيلولة دون تبني الشعوب الإسلامية الدعوة الإصلاحية بما يبثونه من شكوك في صحة (3) الإسلام وسلامة نهجه وقدرته على حل مشكلة الإنسان في هذا العصر، فإن الشعوب الإسلامية قاطبة (4) قد استجابت لنداء علمائها ودعوتهم الإصلاحية، وهو ما شجع ظهور مدارس ومعاهد تمثل النموذج الإصلاحي الذي اختاروه، وكانت الشعوب الإسلامية لا تتراخى ولا تتهاون في أمر تدعيمها وتمويلها ولم تبخل بالعزيز لتعزيزها حتى صارت معلماً من معالم الصحوة، فكل ذلك على الرغم من محاولات السلطات الإستعمارية لمنعها وقهر علمائها ودعاتها، فقد كانت الحركة الإصلاحية الإسلامية في أغلب أنحاء البلاد قد أنعشت ضمير الأمة ونشرت الوعي في أرجائها فقل الصبر على الضيم وتاق الناس إلى المعالي، وجدوا في طلب الحرية بكل غال، ودعم تلك الروح أغلب الأقطار الإسلامية، وكان من نتائج ذلك قيام ثورات تحررية تصدت للاستعمار بشجاعة نادرة وبسخاء في التضحية والفداء فأحيت عهود الأبطال من السلف الصالح، أولئك الذين
الهوامش
(1) عمار طالبي ابن باديس آثاره وحياته دار مكتبة الشركة الجزائرية، دار اليقظة العربية، بيروت، 1388 هـ - 1968 م ، ج 1 ، ص: 11 .
(2) مالك بن نبي ، الصراع الفكري، مكتبة دار العروبة، ص : 11 - 13 .
(3) محمد البهي ، الفكر الإسلامي الحديث مكتبة وهبة، ص: 7.
4)) القسيس نالسون، إن حركة هذه الجامعة الإسلامية، قد خضعت في إبعاد وخلع السلطان عبد الحميد، ولكن لا تزال في الأهالي روح تضامن مع ملازمة للإسلام، الغارة على العالم الإسلامي، مصر، ص: 163 .
الصفحة25
دوخوا العالم بتفانيهم من أجل إعلاء كلمة الله، ورفع راية الإسلام خفاقة، وهو ما رفع رأس الأمة بين الأمم، واتخذوا الجهاد حلاً حاسماً لمواجهة الإستعمار وطرده وتحرير البلاد من ربقته .
وإذا كان الناس في معظم أنحاء البلاد الإسلامية على هذا المستوى من السخاء والبذل بالنفس والنفيس من أجل تحقيق حريتهم فذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنهم بحصولهم على الحرية الحقة والاستقلال التام يتم حصولهم على كل المرامي والأهداف وكانت أمنية الأماني عند جلهم أن يحققوا الإصلاحات التي نادى بها العلماء المسلمون المصلحون، فتحقق الأمة صلاحها وتنال عندئذ فلاحها وكأنهم كانوا مقتنعين بأنه لا فلاح بدون صلاح ولا صلاح إلا بالإصلاح. قد يعترض معترض فيقول : إنك تجاهلت تلك الإصلاحات الهامة والجهود الجبارة التي بذلت في هذا الصدد في أغلب الأقطار العربية والإسلامية . فما بال الإصلاحات التربوية التي قام بها رجال السياسة أمثال مصطفى كمال أتاتورك والخديوي إسماعيل ومن سار على منوالهم من دعاة الحداثة .
مع العلم أن جل هذه الإصلاحات قد تحققت بالفعل : وصارت المدارس الابتدائية (1) والتكميليات والمعاهد الثانوية والجامعية، خير دليل على نجاح هذه الإصلاحات التربوية الحديثة، إذ لولاها لبقي تلامذتنا في الكتاتيب القرآنية والزوايا والجوامع، كالأزهر، والزيتونة والقراويين، والجامع الأموي في دمشق، وغيرها من مدائن العالم الإسلامي كقم، واسطنبول، ولاهور... من مؤسسات أصحاب العمائم والحقيقة أن اعتبار ما قام به مصطفى كمال في تركيا والخديوي إسماعيل في مصر وما تم من تغيير للمنظمات التربوية في مختلف الأقطار العربية والإسلامية اصلاحاً تربوياً سليماً لهو قلب للحقائق، وتجن على الحق والحقيقة .
فشتان بين الإصلاح التربوي القائم على الأسس المنهجية السليمة
الهوامش
الصفحة26
الصحيحة تشرف عليه قلة من علماء الأمة الذين هم على بصيرة من الامر أحرار في تفكيرهم، أولو إصالة وحكمة ونفاذ رأي واستقلالية في العزيمة، وبين تلك التطفلات الارتجالية المفروضة بطريقة ما. إن ما قام به مصطفی کمال والخديوي إسماعيل في تلك الظروف الغامضة وما تلاها من محاولات غمرت البلاد الإسلامية قاطبة، جنايتها على الأمة الإسلامية لا تقدر مخاطرها على الأجيال التي تلتها في الماضي والحاضر والمستقبل ما لم يتدارك الأمر. فلو علم هذا أن من مهام هذه الإصلاحات التربوية ترسيخ جذور الاستعمار الجديد وتدعيم الغزو الفكري الذي اجتاح البلاد لعلم أنها كانت أخطر وسيلة للقضاء على الإصلاح الذي نادى به علماء المسلمين في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية . لقد جاء في مقدمة شاتليه عن إرساليات التبشير البروتستانتية ما يلي : «قلنا في سنة 1910 ... في موضوع السياسة الإسلامية : ينبغي لفرنسا أن يكون عملها مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية .. وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المسندة من مدرسة الجامعة الفرنسية (1) .
إن هذه التصريحات الخطيرة لزعماء الكنيسة تكشف النقاب على أسرار الخطط الإصلاحية التي جاء بها دعاة الحداثة، وكأنها من ابتكارهم ومن إبداع عبقريتهم، وهم في الواقع ليسوا إلا واجهة ومجرد أداة جامدة لا تعي شيئاً مما يفعل بها. لقد وجد دهاة الاستعمار في هؤلاء الزعماء كل استعداد لتنفيذ خطتهم، سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا ، وهو ما جعلهم يتلقونها كتعاليم لا مجال لمناقشتها والشك في نفعها، فدعوا إليها بحماسة نادرة (2) وحملوا شعوبهم على العمل بها متعصبين مستبدين . . .
لقد كان المراد بالبديل الذي جاء به هؤلاء هو ترسيخ جذور الاستعمار الحديث ونشر الغزو الفكري للقضاء على كل محاولة اصلاحية إسلامية جاء بها
الهوامش
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، مصر، ص: 13 - 14 .
(2) أبو الحسن علي الندوي الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، دار الندوة للتوزيع، لبنان، ص: ١٦٦ .
الصفحة27
علماء الإسلام ترمي إلى تحقيق نموذج الأمة الإسلامية كما جاء محدداً في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهم يريدون بذلك إيقاظ شعلة الإيمان في صدور الخلف بما نهض به السلف ورفع راية الحرية والحق والعدل وحمل رسالة الهدى ودين الحق التي حملها الأجداد لهدي العباد.
أما نماذج القوم فقد انتحلت من الغرب والشرق، وكان القصد منها سد الطريق أمام النهضة الصحيحة التي بدأت تهدد الكيان الاستعماري في أغلب أنحاء البلاد الإسلامية (1) . ففي الوقت الذي بدأت فيه الأمة تشعر بضرورة العودة إلى دينها القويم واقتداء نهجه السليم لتعيد للعالم الإسلامي حريته ووحدته، يقف أئمة الكفر والاستعمار للحركة الإصلاحية الصحيحة بالمرصاد، ويلبسون سياسة التغريب ثوب الحداثة ويقنعون الغزو الحضاري بخمار التمدين، ويسخرون التربية لتكوين أجيال لا حظ لها في حضارتها إلا التنكر لها لجهلهم بها، ولا حظ أيضاً في الحضارة الغازية التي انتحلوها غير الشكلية والتقليد والإتكالية والإستهلاك التقني؛ هم في الحالتين عالة، ومن الحضارتين في بطالة، ثقافتهم والوقت وقت العلم والتخطيط والتقنية والتنظيم تسابقت الأمم على غزو الفضاء، وتفننت في العلوم والمتاقن وتطورت صناعتها الحربية (٢) ... لكن ماذا يفيد العلم عندما تموت الضمائر وتعمى القلوب والبصائر وتطغى الأهواء، وتسود الغرائز، وتغيب من ساحة الحياة الثقافية والإجتماعية الشيم، فصارت حضارة الشرق والغرب متداعية كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وصارت مصائر منتحلي قشورها مصائر غريق استمسك بغريق . سطحية، وخبرتهم استهلاكية، ومواقفهم ارتجالية .
الهوامش
(1) السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، دار الكتاب، ط ، 1967 م - 1387 هـ .
(2) يقول سلامة موسى في كتابه مشاعل الطريق للشباب دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1962 م ، ص : 80: يجب أن ننظم الإصلاحات في الصحة والتعليم ونظام العائلة والسياسة الخارجية والأمن الداخلي في فلسفة موحدة كالديمقراطية والاشتراكية . . . . .
الصفحة28
أما قولهم لولا الإصلاحات التربوية الحديثة للبثت تربيتنا تربية أصحاب العمائم فهو دليل قاطع شهد به شاهد من أهلها واعتراف بأن نجاح هذه الإصلاحات يعني القضاء على المؤسسات التربوية العتيقة ذات السمعة الاجتماعية، والقيمة التاريخية العالية كالجامع الأزهر والزيتونة وأمثالهما في مختلف الأقطار الإسلامية، ونسى هؤلاء أن هذه المؤسسات على قدمها. كانت تخرج كل عام علماء في مختلف العلوم الشرعية وفنون اللغة العربية، وكانت تربيتها علمية لا علمانية، تعمل دؤوبة على نبوغ الناشئين في كل جيل. يقول أحد المصلحين في المغرب العربي، وهو ابن باديس: إن تربيتنا العلمية الدراسية المبنية على بيان الحقيقة وإجلائها على ما هي عليه حيرتنا لا تستطيع شيئاً من المواربة (1). ففي الوقت الذي كانت التربية في المؤسسات الإسلامية تعمل على تكوين أجيال متشبعين بروح الإسلام عقيدة وتصوراً وقيماً وشريعة وأخلاقاً ونظاماً .... المؤسسات القائمة على الأساس العلماني والعقلاني تعمل جادة في إعداد الإنسان اللامنتمي المتنكر لدينه وقومه حتى لوطنه إن استطاعت. ولئن استطاعت هذه التربية أن تحدث التباساً عند بعض الرجال الذين لا يشك في إخلاصهم ووطنيتهم وذكائهم، ومنهم من وصل إلى درجة القيادة السياسية، فكيف لا تستطيع هذه التربية أن تكون من متوسطي الذكاء والثقافة اللامنتمين. فلمثل هؤلاء وجة عبد الحميد بن باديس كلمة مرة جاء فيها: «نعرف كثيراً من أبنائنا الذين تعلموا في غير أحضاننا ينكرون - وربما عن غير سوء قصد – تاريخنا ومقوماتنا ويودون لو خلعنا ذلك كله واندمجنا في غيرنا (2).
إن هذه المأساة تشخص لنا حقيقة التعليم المنتحل ومخاطره. إذ ما كان للإستعمار أن يحقق حلم تشكيك المسلمين في ضرورة الاستمساك بدينهم والعمل الجاد به إلا بالتعليم الذي لغم عقولهم بما هو أفتك بالضمائر والعقول ؛ في جاء في تقرير الإرساليات التبشيرية التي كانت في طليعة الصراع الفكري
الهوامش
(1) عمار طالبي ابن باديس حياته وآثاره، دار اليقظة العربية، ط 2، 1388 هـ . 1968 م، ج 3، ص: 383
(2) عمار طالبي ابن باديس حياته وآثاره المصدر السابق، ج 3، ص: 383 .
الصفحة29
الحاد . . . ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته .
ذلك بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية (1) أن هذا التقرير ليبين عمق فكرة التخريب الحضاري التي كان يحلم بها قادة الإستعمار وفي مقدمتهم الإرساليات التبشيرية التي كانت تتصدر أحداث الغزو الفكري للعالم الإسلامي، وهذا ما يؤكده أحد علماء الإسلام المعاصرين في قوله: «وقد تجلى هذا الصراع الذي عنف واستفحل في جميع الأقطار الإسلامية، والتي أخذت العلوم الغربية برمتها، والكتب المقررة في البلاد الأجنبية أو الكتب الخالية من روح الدين، على علاتها وطبقات نظام أوروبا أو بلاد أخرى في التعليم في بلادها . . . وقد دفعت لهذا التعليم وما جنت منه من فوائد مادية قيمة غالية جداً من الأخلاق والروح والعقيدة، وقد اتفقت كلمة العقلاء من أهل التجربة على أن حضارة الأمة والبلاد في هذا النظام التعليمي، وفي هذه المعاهد ودور التعليم الحديث كانت أكبر من ربحها» (2)، وفعلاً أن ما حققه هذا التعليم للاستعمار من مطامع خيالية لم يكن ليحققه بغيره من وسائل التخريب الحضاري والغزو الفكري . والدليل على ذلك أنه من كان يتصور أن التربية التي أنجبت مالك بن أنس وأبي حنيفة والشافعي وأحمد (3) بن حنبل والبخاري ومسلم وأبا حامد الغزالي وابن رشد وابن سينا والرازي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن خلدون وابن عربي والشاطبي وغيرهم تربية كهذه يستهان بها وتستبدل بتربية أبعد ما تكون عن حقيقة هذه الأمة وعن شخصيتها وثقافتها وحضارتها؟، ومن كان يصدق أن هذه الأمة يأتي عليها زمان وتصبح إذا احتاجت إلى عالم في الدين
الهوامش
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 13 - 14 . (2) السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي نحو التربية الإسلامية الحرة، المصدر السابق، ص : 8.
(3) أحمد شبلي تاريخ التربية الإسلامية مكتبة النهضة المصرية، 1966 م، 14، 112 .
الصفحة30
أو علوم القرآن أو السنة أو اللغة العربية، لا بد لها من توجيه النبهاء من أبنائها إلى الخارج كجامعة السوربون في باريس، ومعهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن. وحتى الأزهر الذي كان آخر ما تبقى من المؤسسات الإسلامية التي تمد العالم الإسلامي بالدعاة المدرسين صار رئيس شيوخه من خريجي الجامعات الغربية، وهو ما كانت ترمي من ورائه الخطة الإصلاحية التربوية الماكرة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية، وعلى ضوئها تمت الإصلاحات التربوية الحديثة .
لقد كان أعداء الإسلام أمثال زويمر يدركون جيداً خطر الأزهر والزيتونة والقراويين والجامع الأموي ومسجد الرسول ، وغيره، وكانوا أيضاً يدركون أهمية القضاء على هذه المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي (1) وما يحققه من بلبلة فكرية وشك وارتياب في الدين وانحلال في الأخلاق وضعف في الشخصية، فبدون هذا النموذج لا يستطيع العالم الإسلامي النهوض برسالة، والقيام بنهضة تبني الحضارة للعالم الإسلامي وحدته وقوته وعزته ومناعته. على أننا لا ننكر ما كانت تحتاج إليه هذه المؤسسات التربوية الإسلامية من إصلاح، وما كانت تشكو من جمود وتحجر وشكلية . وخير دليل على ذلك روح الإصلاح التي انتعشت في العالم الإسلامي وحركة الإصلاح التي عمت دعوتها وانطلقت صحوتها وهذا ما اعترف به رئيس مؤتمر لكنو في خطبة الافتتاح بقوله : إن الإسلام قد بدأ ينتبه الحقيقة موقفه ويشعر بحاجة إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن بثلاث نهضات إصلاحية : الأولى إصلاح الطرق الصوفية، والثانية تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية والثالثة أفراغ العقائد والتقاليد في قالب معقول (۲). وكأنه في هذه النقاط الثلاث أراد أن يحصر النهضة الإصلاحية في إصلاح العقيدة ومنهجية سياسية وحدة العالم الإسلامية والإصلاح الإجتماعي، ولئن كان صادقاً في ذلك فإنه قد عمد إلى الأسلوب الغامض عند
الهوامش
(1) عن فرحات عباس، في كتابه ليل الاستعماره قول المؤرخ لوتي غاية الاستعمار الفرنسي قوله : حاولنا في الجزائر أن نجعل من أرض شرقية أرضاً غربية، ص : 24 . أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق من ص: 14 إلى 23 .. (2) أ. ل. شاتليه الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص: 154 و 155 .
الصفحة31
الإشارة إلى الإصلاح بصفة عامة والإصلاح الاجتماعي بصفة خاصة؛ ألا وهي مسألة إصلاح التعليم. إن المناهج الإصلاحية كانت في جلها قائمة على اعتبار اصلاح التعليم هو أساس كل إصلاح. يقول العالم المصلح الإمام عبد الحميد بن باديس : «اصلاح التعليم أساس كل إصلاح. هذا ولقد انتبه هؤلاء المصلحون إلى ما كانت تعاني منه المنظومات التربوية من العجز والقصور في مختلف القضايا التربوية الغير سوية، وهو ما يدل على مدى الوعي التربوي الذي كان هؤلاء الرجال يتمتعون به فيقول في هذا الصدد ابن باديس: «لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فلما كان علماؤهم أهل الجمود في العلم وابتداع في العمل، كذلك المسلمون يكونون» (1) ويذهب ابن باديس إلى أن صلاح العلماء مرتبط بالضرورة بصلاح التعليم ويعتبر التعليم أهم عامل يكون على منواله النشيء فهو الوسيلة التي بها نحقق أهدافنا التي ترمي إلى ظهور علماء مسلمين قادرين على تحمل أعباء الدعوة وقيادة الأمة وتخليصها مما هي فيه من الضعف والإستعمار والتخلف فيقول : ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم؛ فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره، فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم (2) وابن باديس شأنه شأن المصلحين الإسلاميين لا يعني بالتعليم إلا التعليم الإسلامي بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويعتقد أن النموذج الذي يتوخاه للإصلاح التربوي ويختاره لهو نموذج التعليم الذي يكون به المسلم عالماً من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به، وقوله : (ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله ومضمونه في مادته وصورته) (2)، والحقيقة أن جميع علماء الإسلام يعتقدون في الرسول ﷺ أنه أرقى
الهوامش
(1) عمار طالبي ، ابن باديس : الصدر السابق، ج3 ، ص: 217 .
(2) ابن باديس المصدر السابق، ص: 217 .
(3) ابن باديس المصدر السابق، ص: 217
الصفحة32
نموذج للمعلم، ودليلهم على ذلك قوله ﷺ في حديث رواه مسلم: «إنما بعثت معلما» .
والجدير بالذكر أن علماء الإصلاح كانوا على بصيرة مما تعانيه المنظومات التربوية من قصور وكانوا يعتقدون أن أي تفريط في إصلاح التعليم ينجم عنه فساد في المجتمع وتقهقر وتخلف للحضارة والحقيقة أن المنظومة التربوية هي خبرة الأجيال قاطبة على أن الخبرة هي وليدة زمانها ومكانها وظروفها التاريخية المعقدة فكلما مر عليها زمان وتغيرت أمامها الظروف دعت الضرورة إلى إعادة النظر في تلك الخبرة والعمل على تهذيبها وتطويرها واثرائها بمجهودات الأجيال المتعاقبة كل ذلك في حدود الأصالة أو بمعنى آخر أن يكون التغير في نطاق حضارتها وثقافتها كجزء أصيل من كيانها التاريخي المستمر عبر العصور والأجيال ، أما إذا فقدت الخبرة القدرة على التغير في نطاق الأصالة، فيتعذر استمرارها وتفقد بذلك مبرر وجودها بالضرورة لأنها فقدت عنصرها الحضاري وتلك هي سنة الله في خلقه : ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تحويلا (
ولعله ليس من العيب أن تظهر تناقضات في الأمة . إنما العيب كل العيب في عدم العمل على التخلص من تلك التناقضات؛ بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونعتبر أنه من دلائل عظمة الأمة قدرتها على تجاوز تناقضاتها لتكمل نقصها وتتخلص مما فسد من أوضاعها وتثبت أمام الأزمات والشوائب، كما تبرز عظمتها في الجهود الجبارة التي شيدت حضارتها وأثرت ثقافتها. إن القدرة على. إعادة صياغة معطيات التاريخ في شكلها الأفضل في المستقبل لمن أهم شروط النهضة، ليصبح الرقي عملية مستمرة لتهذيب الخبرة وجودتها .
ومما نأخذه على المتطفلين للإصلاح من دعاة الحداثة أنهم نادوا بالتغير للتغير وإن كان على حساب التاريخ والأصالة، والتغير على حساب الأصالة، يعني الرفض كلياً أو جزئياً للمعطيات الثقافية والحضارية للأمة من حيث هو رفض لخبرتها عبر الأجيال وجهود الأمة المتواصلة عبر القرون، فرفض ثقافة الأمة وحضارتها خسارة لا تقدر بثمن لأن هذا الرفض مفاده أن كل جيل من
الصفحة33
الأمة يبدأ من الصفر، وإذا كانت بداية كل جيل من الصفر تصبح نهاية كل جيل مهما كانت جهوده صفراً من حيث هي بداية أخرى من الصفر كأجيال الحيوانات فمتى أذن تخرج الأمة من حلقتها المفرغة فرفض ثقافة الأمة وحضارتها وتاريخها هو رفض للاستمرار الانتقائي الذكي والسبب في ذلك أن للاستمرار شروطاً ثلاثة هي :
أولاً : عوامل الثبات التي تبقى شاهدة على البداية التي تتعاقب عليها كل أجيال الأمة في طريق الغاية .
ثانياً : عوامل التغير التي تضفي على الركن الثابت ألوان العصور المتعاقبة وميزات كل جيل من الأجيال المتلاحقة .
ثالثاً : القدرة على الإنتقاء والإصطفاء للخبرة التاريخية. ولكي لا يطغى الثابت على المتغير، ويصبح الاستمرار روتينياً، وهو ما يؤدي إلى الركود الحضاري والثقافي، ثم يحدث الانحطاط ، لا بد من الجهود العبقرية التي تعي مواطن القصور في الخبرة وتدرك حاجاتها إلى الإصلاح سواء أكانت هذه الخبرة تربوية أم سياسية أم عسكرية ... كما يجب ألا يتغلب المتغير على الثابت فتميع شخصية وتذهب أصالتها؛ لذلك فإنه الجهد الإنتقائي للخبرة لمن أهم عوامل الإزدهار والرقي في حياة الأمم، ومن ثمة فإننا إذ نعترف بضرورة إصلاح - المنظومة التربوية باستمرار، فإننا أيضاً نعد عدم الشعور بالحاجة إليه في حقبة ما من أخطر عوامل الغفوة، والغفلة التربوية إذا طالت يترتب عليها انحطاط ثقافي وحضاري بالضرورة، والسبب في ذلك أن الشعور بالحاجة إلى الإصلاح الذي اجتاح شعوب العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر ناتج عن صدمة التحدي التي انتبه عليها المسلمون مباشرة في الغزو الاستعماري . فهو بمثابة رد فعل إيجابي لم يكن دهاة الاستعمار يتوقعونه، لكن هؤلاء حاولوا من جهة أخرى اخفاء هذه الحقيقة بتفسير ماكر لظاهرة الصحوة، مدعين أن ما ظهر من شعور بالحاجة إلى الإصلاح التربوي في البلاد الإسلامية مرده إلى الأفكار الغربية التي أنعشت الحياة الثقافية الراكدة آنذاك، فيقول القسيس زويمر: ومصدر هذا
الصفحة34
الشعور بالحاجة إلى الإصلاح واحد وهو التغير الذي حدث في الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الإفرنجية» (1) .
والظاهر من هذا التفسير المتشبع بالأغراض الاستعمارية الماكرة والحقد على الإسلام والمسلمين هو اعتبار النهضة مجرد إقبال على ما أتى به الغرب من أفكار، في حين أن العكس هو الصحيح، إذ النهضة الأصلية تجلت في الاتجاه الذي رفض البدائل الغربية والشرقية، وفي موقف الرفض الذي كان من طرف الشعوب الإسلامية قاطبة .
ومن أبعاد هذا التفسير الماكر جعله النهضة مجرد الشعور بالحاجة إلى تقليد الغالب، والإقبال على ما استورده للعالم الإسلامي من أفكار، لتكون عقدة التقليد الأعمى والتبعية التامة والانصهار في الغرب انصهاراً كلياً، في حين أن علماء الإصلاح كانوا يحاولون اعطاء النهضة صبغة العبقرية الفذة الناقدة والمبدعة اليقظة في انتقاء الخبرات حتى تكون الأمة في صيرورة تاريخية انتقائية على الدوام، ومن ثمة فإن عامل القيم يعتبر من أهم العوامل التي تتميز بها الصحوة كي تعي الأمة ذاتها وتهتدي إلى الأفضل الذي يحقق أكمل صورة عن نفسها، كما يجب أن تكون عليه من حيث هي أمة إسلامية حاملة رسالة الهدى ودين الحق .
وحتى لا نقع في الغموض ومتاهة النسبية، فإن للقيم أصولاً وفروعاً. وإذا كان من أهم خصائص الأصول الثبات، فإن التغير هو الآخر من أهم مميزات الفروع، فالدين الإسلامي مثلاً لا يمكن بحال إلا أن يكون دائماً هو الدين الحق الذي جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، كما هو مبين في القرآن الكريم والسنة. ومن ثمة فإن عقيدته تبقى هي نفسها، وكذلك الشريعة والأخلاق ومختلف المفاهيم والقيم، فهذه تعد من أهم مقومات الأمة الإسلامية، إذ بدونها لا يمكن أن تكون ؛ فوجودها واستمرارها مرتبطان ارتباطاً كلياً بها، وهذه من سنن الله في خلقه لا يدعى عكسها إلا مراوغ، وأما الفروع
الهوامش
(1)أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص: 155 .
35 الصفحة
والتقنيات والحاجيات والتحسينات والكماليات من أمور المعاش المختلفة، فهي الأمور المتغيرة، وهي التي عن طريقها ندرك ما يجب أن يبقى من صالح، وما يجب أن يزال مما طرأ عليه من فساد .
فمن عوامل الفجوة بين ما كانت عليه الأمة في ظروف ما وزمن ما وبين ما يجب أن تكون عليه في المستقبل تتجلى رسالة الجيل الجديد، لأن الظروف لا تسمح دائماً بتحقيق كل ما يطمح إليه الجيل من الأمال إلا نادراً؛ فالتفاوت الذي تدركه الأجيال بين الحاضر كما هو إيجابية وسلبية وبين ما يجب أن تكون عليه الأمة هو مجال الجهود والاجتهاد اللذين تتبلور فيهما عبقرية الجيل الجديد وهو ما يطبع عصره بطابع جهده واجتهاده. وهذا ما يجعل الأجيال في مستوى الاحتفاظ بالتالد والتميز بالطارف كجيل من بناة الحضارة. حيث ترتبط الفروع بالأصول ويكون التنوع في الوحدة والكثرة في الانسجام والاتساق وهو ما يحقق النوعية ويضمن عدم طغيان الكمية على الكيفية في التكامل والتجاوب والتجانس والتفاعل ... وإذا حدث أن فقد هذا الوعي ورضي الجيل بما انتهى إليه سلفه أو تنكر له تقاعس هذا الأخير، وفقد الحافز إلى الجهد الضروري الذي يكون في مستوى متطلبات الحضارة كي تزدهر وساعتئذ يصير هذا الجيل الخامل الفاقد للعزيمة اتكالياً عاجزاً عن الإبداع والانتاج الحضاري الراقي، فينزع بحكم هذا الوضع النفسي المتدهور إلى التقليد فتتدهور الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... ثم يبدأ ظل الحضارة في تقلص مستمر وإذا طال هذا الوضع النفسي بأجيال الأمة تسقط حضارتها، وتصير خبراً بعد عين ... وهذا يفسر ظاهرة الوعي الذي دب في أعماق الأمة الإسلامية فحرك إرادتها وقوى عزيمتها للعمل على التخلص من المأساة، وإعطائها المبررات السليمة التي تعبر عن روح الأمة وذاتيتها الفذة والتي ما فتئت مشاعر الخير تتأجج في أعماقها وتدفعها من الداخل إلى العمل الجاد من أجل القيام برسالتها من حيث هي أمة إسلامية ذات رسالة وصاحبة حضارة إذ منهما تستمد مبرارت وجودها. ولذا نلاحظ أن هذا الوعي لم يكتف بطرح مسألة الإصلاح بل تجاوزه إلى الاقتناع بالحل الإسلامي ورفض الحلول المستوردة التي تحمس لها بعض المعجبين بالغرب ودعا إليها قصيروا النظر في
الأمور. والحقيقة
الصفحة36
أن موقف الرفض للبدائل المستمرة من طرف الأمة الإسلامية ليس بدعة لكن للحضارة فوصفوا الأمة بالهمجية والوحشية. دعاة الاستعمار اعتبروا هذا الرفض لبدائلهم من طرف الأمة الإسلامية رفضا وأضفوا على غزوهم الحضاري طابع التمدين والشرعية في حين أنهم لم يعيبوا على شعوبهم رفض البدائل المستوردة .
* * *
لقد كان من العسير جداً على أمم الغرب والشرق وهم يقدمون على إصلاح نظمهم التربوية أن يوفقوا بين استعارة الخبرات الأجنبية وبين المحافظة على أصالتهم وشخصيتهم وطابعها الثقافي القومي. إن ولوع فرنسا وبريطانيا بالنظام البروسي التربوي ورغبتهما في إصلاح نظامهما في ضوء التجربة البروسية لم يزهد المربين الفرنسيين والأنجليز في إصالة نظامهم التربوي، بل زادهم خوفاً على شخصيتهم من التشويه والتناقض وإفشاء نزعة التقليد للأجنبي، وإن كان أوروبياً لأنهم كانوا يعتبرون المنظومة التربوية ما هي إلا نتيجة لجهاد أجيال الأمة عبر العصور. لذلك لم يسمحوا لأنفسهم بالارتجال والمجازفة في عملية الإصلاح. فالنقاش الشيق الذي أثارته قضية استعارة الخبرة الأجنبية كان على أشده منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم. وعلى الرغم من حدته أحياناً فقد كان مفيداً إلى حد كبير من الناحية النظرية والعملية على حد سواء؛ فمن الناحية النظرية أثمر النقاش الذي كان بين المربين والمفكرين فكراً تربوياً عمق النظر في المسائل التعليمية وغيرهما مما له علاقة بالتربية وتوسيع مجالات التربية النفسية والاجتماعية وغيرها، وطور المناهج وطرق التدريس والوسائل التكنولوجية، إلى جانب مساعدته على ظهور ونضوج علم التربية المقارنة من أهم علوم التربية .
وما أحوج المتحمسين للبدائل الحديثة إلى معرفة هذه الحقائق كي يعرفوا مدى جنايتهم على الأمة الإسلامية وتجنيهم على الحق والحقيقة .
وهكذا يتبين لنا أن رفض الأمة الإسلامية لبدائل الحداثة المستعارة من الغرب أو الشرق هو رفض طبيعي كما يدل هذا الرفض على مدى وعي الأمة
الصفحة37
الإسلامية . حيث أدركت أن خطر الغزو الحضاري أخطر وأكثر عمقاً ودهاء من الغزو العسكري، وإنها إذا استسلمت للغزو الفكري، فلماذا تحارب الغزو العسكري وهو أهون؟ إن ما ظهر من الأمة الإسلامية من عدم الاستعداد للتجاوب مع بدائل الاستعمار، وإن كان في شكل رفض نفسي، فذلك أن الأمة كالأفراد لا تطمئن لما لا يتقبله ضميرها الأخلاقي وحسها الحضاري والتاريخي ترفض رفضاً باتاً كل البدائل التي لا تتفق مع قيمها، ويهدد كيانها ويكون خطراً على مستقبل أجيالها. ومن ثمة فإن الرفض الأخلاقي لا بد من أن يكون متبوعاً بالرفض النفسي، فتصبح القضية قضية أعماق وأغوار سرعان ما تتحول إلى دوافع ومبررات تشكل العوامل الأولية للفعالية العامة للأمة، وتنعكس في سلوك جماعي لنهضة حضارية وثورة فكرية تتحدى كل غزو، فتتفتق القرائح، وتنبه المواهب ومختلف القدرات لفعالية الأمة الواعية ... ومما يؤكد ارتباط الفعالية بضمير الأمة وذاتيتها أن الدوافع المحفزة لبذل الجهد الإبداعي والحضاري تقوى بقوة مبرراتها العقائدية والأخلاقية والنفسية وتضعف بضعفها أو تخمل بخمولها. وإن استقراءنا لتاريخ الحضارات في نشوئها وتطورها وازدهارها وجمودها وانحطاطها، ودراسة الظواهر الثقافية والاجتماعية في مختلف أطوار الحضارة يؤكد ارتباط فعالية الأمم بمدى وعيها لذاتها وقناعتها بعقيدتها وفكرتها المثلى عن نفسها، وهو ما يذكي حسها بالحاجة إلى الحرية والإرادة والفعالية ... وهذه أمور اعتبرها فلاسفة الحضارة من أهم المبررات لنشوء وارتقاء الحضارة، وهو ما يجعل التفسير النفسي (1) لصحوة الأمة الإسلامية وموقف الأمة من البدائل المستوردة يعتبر حتى الآن أقرب محاولات التفسير إلى الصواب، وأنه المنهج المتبع لدراسة هذه الظاهرة لهو أدنى المناهج إلى الحقيقة .
ولعل هذا ما يحملنا إلى القول بأن دراسة مالك (2) بن نبي لواقع العالم
الهوامش
(1) أرنولد توينبي ، مختصر دراسة للتاريخ ، ترجمة محمد فؤاد شبلي جامعة الدولة العربية،1961 م
(2) مالك بن نبي ، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر.
الصفحة38
الإسلامي ودراسة أرنولد توينبي وشنقلر للحضارة الغربية من أهم الدراسات وأعمقها حتى الآن .
أما الدراسات التي أهملت العوامل النفسية في الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية لهي من أفشل الدراسات وأكثرها سطحية من ذلك تذكر الدراسات القائمة على أساس المادية التاريخية لكارل ماركس وغيرها من دعاة الحداثة، على أن دعاة الإصلاحات التربوية وغيرها التي نادى بها أصحاب الحداثة في البلاد الإسلامية إذ حاولوا اغفال الفروق الموجودة بين الأمة الإسلامية وأمم الشرق والغرب تجاهلوا موقف الرفض الأمة الإسلامية وبالغوا في احتقارهم له ظناً منهم أن فرضها بواسطة السلطة السياسية قد يكفي في إجبار الناس على العمل بها طوعاً أو كرهاً .
فكان من عواقب ذلك أن وجدت هوة سحيقة بين النظم التي تبنت هذه البدائل وبين الشعوب، بالإضافة إلى ذلك ما أحدثته هذه التربية من بلبلة للأفكار (1) وزعزعة للعقائد واضطراب للقيم، فعملية زرع الخبرة الأجنبية في المنظومة التربوية لا بد من أن تكون مصحوبة بردود فعل تنعكس في شكل صراع بين قيم المنظومة الأصلية وقيم الخبرة الأجنبية تظهر من خلالها قضايا جديدة على المجتمع من ذلك مثلاً مشكلة الاختلاط بين الجنسين ومسألة العلمانية أو اللائكية، وقضية التوجيه التربوي ؛ فالتخطيط ومشكلة المرأة . . .
إلى غير ذلك من القضايا المستحدثة والتي في الواقع لا مبرر لها غير الحمى الاجتماعية التي انتابت الأمة عندما غزتها جرثومة الثقافة الأجنبية بواسطة الخبرة المستوردة. وهو ما يؤدي حتماً إلى نشوء تناقضات على مستوى الحياة الثقافية والاجتماعية عندئذ في هذا المجال يفقد المجتمع حتماً انسجامه وتماسكه وتناسقه . ولا تقف حمى التناقضات إلا بأحد الأمرين: فأما الانحلال وأما التمزق من الداخل نتيجة التفكك والتنازع والتعارض والتضارب وهو ما حدث في المشرق وصار يهدد شعوب المغرب .
الهوامش
(1) السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي، نحو التربية الإسلامية الحرة، المصدر السابق، ص : ۹
الصفحة39
وهذه النتيجة هي التي كان دعاة الاستعمار يعملون بكل مكر ودهاء للوصول إليها، بدءاً بالقضاء على الخلافة وجعل وحدة العالم الإسلامي أمراً مستحيلاً. والدليل ما قاله القسيس نلسن: «فإنه يستحيل أن يكون من المسلمين عنصر حي حقيقي في استطاعته جمع السنيين والشيعة معاً، ويضم الأتراك والفرس والهنود إلى العرب ليكافحوا ويدافعوا يداً واحدة على اتفاق وثقة متبادلة» (1). هذه هي نتيجة الإصلاحات القائمة على أساس النظم التربوية والسياسية والاجتماعية الغربية والشرقية التي تحمس لها دعاة الحداثة والتي بثت في العالم الإسلامي لتمزيقه من الداخل ومواجهة حركة الجامعة (2) الإسلامية التي كانت تعمل على توحيد العالم الإسلامي وكان يدعو لها فطاحلة علماء البلاد الإسلامية كجمال الدين الأفغاني (3) ومحمد عبده، وحسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، والمودودي ... وكانوا لتحقيق ذلك الغرض قد تبنوا المنهج الإصلاحي السلفي الذي يقوم على اعتبار النموذج الأليق بنهوض الأمة الإسلامية هو النموذج النبوي كما هو في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والإثراء الذي جاءت به قرائح الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام النابهين، واتخذوا التربية أساساً للإصلاح الاجتماعي .
إذن هذه هي حقيقة المحاولات الإصلاحية التي قام بها دعاة الحداثة وما نجم عنها من عواقب وخيمة كان من نتائجها تمزيق شمل المسلمين والبلبلة الفكرية والعقائدية والانحلال الأخلاقي وتعميق هوة التبعية للشرق أو الغرب للوصول في النهاية إلى جعل عودة المسلمين إلى دينهم الصحيح الذي يجتمع عليه شملهم أمراً مستحيلاً كما قال القسيس نلسن في مؤتمر الإرساليات التبشيرية في العالم الإسلامي، وهو ما جعل أيضاً علماء الإسلام يشعرون أكثر
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 164 .
(2) ومما قاله القسيس نالسون في هذا الصدد: اسمحوا لي أن أقول لكم أنه يظهر أن اجتماع المسلمين بجامعة الإسلامية بكل المعنى الذي يدل عليه هذا اللفظ هو أمر وهي لا ثمرة له غير توليد أحلام تقلق رجال السياسة»، ص: 164 .
(3) علي عبد الرحمن وافي أصول التربية ونظام التعليم، ص: 181 - 192 .
الصفحة40
فأكثر بضرورة القيام بالحركة الإصلاحية والعمل على تخليص الأمة الإسلامية من براثن الغزو الفكري وذلك بالعودة إلى الأصل والعمل على إصلاح المجتمع الإسلامي عن طريق التربية الإسلامية (1) التي حددوا معالمها ومبادئها وجميع
خصائصها .
يتبين مما تقدم أن البلاد الإسلامية وهي تستعد للوثبة الحاسمة في حياتها للتخلص مما هي فيه من ضعف وتخلف وقصور وتقصير في أمور دينها ودنياها نتيجة لعدة أسباب أهمها الغزو الفكري والاستعمار بشكليه التقليدي القديم وثوبه البراق الحديث عانت من محاولات إصلاحية زائفة وهو ما عرقل المحاولات الإصلاحية الاجتماعية الإسلامية بمعناها الواسع والتي نادى بها علماء الإصلاح الإسلاميون، وإذ تصدى هؤلاء العلماء إلى مهمة إصلاح الأمة اتخذوا الإصلاح التربوي أهم وسيلة لتحقيق مراميهم للوصول إلى أبعد غايتهم وأهدافهم، ومن ثمة ظهرت الحاجة إلى الإصلاح التربوي حيث هي أساس كل إصلاح كما جاء ذلك في خطاب ابن باديس .
الهوامش
(1) عمار طالبي ابن باديس حياته وآثاره 32 ص 217
الصفحة41
حاجات النظام التربوي إلى الإصلاح
إن الحضارة أي حضارة إذا فقدت عنصر التجدد لسبب ما فإنها تهدد بالركود ثم الانحطاط وإذا كان للإصلاح عدة أغراض، فمن أهمها شحذ عبقرية الأمة ودفعها إلى الإبداع والتجديد انطلاقاً من خدمة التراث الأصيل، فإلى اكتشاف لمجاهل الكون، وإثراء للمعرفة والمنظومة التربوية بحكم موقعها كالعمود الفقري من كيان الأمة الحضاري الشامل المتكامل تحتاج إلى الإصلاح لتساهم بدورها في عملية التغير المطلوب بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك عندما نعتبر التربية من أهم وسائل الرقي الحضاري والازدهار الثقافي لذلك فهي مطالبة بسبق كل المحاولات الحضارية في عملية التغير وإلا تعذر أن تكون في مستوى وظيفتها الإصلاحية الحضارية الشاملة .
فالتغير الحضاري ليس أبداً بالتغير العفوي الذي يأتي صدفة بل هو عملية طبيعية تخضع لشروط تاريخية في غاية من التعقيد، والتربية من أهم الوسائل أو الشروط التي يمكن بواسطتها التحكم في عملية التغير بطريقة أكثر مباشرة وفعالية وانتظاماً . بل إن النمو الحضاري وما يحتاج من رعاية وعناية لجميع المواهب والاستعدادت والقدرات والمهارات يشكل أهم أغراض التربية في الأمة المتحضرة ذات الرسالة التي جاءت لتحقق للناس سعادة الدارين .
بيد أن التربية لا تحقق سبقها للحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلا بقدر نجاح إصلاح نظامها باستمرار.
وعملية الإصلاح المستمر تهدف بالضرورة إلى التكيف للأوضاع المتجددة والتوظيف الجيد لكل الإمكانيات والمعطيات الذاتية والموضوعية البشرية
الصفحة42
والطبيعية على المستوى الحضاري في الجملة ، ومن ثمة فهي ضرورة تمليها حاجة الأمة المتحضرة التي وعت رسالتها وهيأت نفسها من جديد للصدارة التاريخية والريادة الحضارية .
لقد أصبحت سرعة التغير الحضاري والتطور التكنولوجي من أعقد المشكلات وأعوصها أمام التربية وصار ليس من السهل على التربية إدراك التطور التكنولوجي فضلاً عن تجاوزه، وهذا ما يعطي لعامل الزمن أهميته القصوى في الإصلاح للتحكم في التغير الاجتماعي، لهذا يحتاج المصلح الاجتماعي إلى دقة التنبوء وحدس صادق يتجاوز بهما حدود الحاضر الذي يسيطر على تصوراتنا، ويتحكم في تفكيرنا إلى أبعد الحدود، ومعنى هذا هل يمكن للعلم أن يطمح إلى فهم صيرورة الظواهر، فضلاً عن فهمه للظواهر ذاتها ويحول موضوعه من اللامتغير إلى المتغير؟ .
ما أعقد الأمور في علاقاتها المتشعبة، وما أبسط معارفنا أمام إغوار الحقائق، وما أضيق عقولنا حيال هذه الأكوان الشاسعة، وما أضيق آفاق علومنا وتصوراتنا؟ قال الله تعالى : ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء : 85) .
وإذا لم تحقق التربية غلبتها على عامل الزمن تتقهقر وتتخلف وتصير تابعة لا متبوعة وتعجز عندئذ عن ضمان حاجة الحضارة إلى التجديد والنمو، فالإنسان هو صانع الحضارة وكل شيء في الحضارة يتوقف عليه والإنسان بدوره أيضاً يتوقف مصيره إلى حد بعيد على التربية من حيث هي التي تكون البيئة التي تترعرع فيها مواهبه ومختلف قدراته وخبراته. فكلما ازدهرت التربية ازدهرت الحضارة واتسعت أمامها آفاق الصيرورة وكذلك العكس . فكلما ضاقت آفاق التربية ضاقت أيضاً آفاق الإنسان. وما التفاوت الذي حدث للتربية المدرسية الكنسية في القرون الوسطى (1) إلا خير دليل على خطورة تخلف التربية عن ركب
الهوامش
(1) وهيب إبراهيم سمعان الثقافة والتربية في العصور الوسطى دار المعارف بمصر، 162 ، ص: 195 .
الصفحة43
الحضارة، كما أن مجهودات المصلحين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين خير دليل على أهمية التربية بالنسبة إلى نشأة النهضة وازدهارها .
ولعل أخطر حالات التفاوت بين الحياة والتربية هي عندما يكون التباين بين مطالب الحياة والمحتوى التربوي وخبراته وجميع أهداف التربية وأغراضها.
لأن التربية التي لا تتمتع بالرؤية الواضحة عن الحاضر بكل جوانبه، والمستقبل بكل أبعاده لا تعرف كيف تواجههما، وكيف تعد الأجيال لهما بالضرورة. لأن تحديد موقف التربية منهما لا يكون سليماً في المستوى المطلوب إلا بقدر تغلغلها في أسرار الواقع التاريخي المتغير وإلا تصبح الأجيال التي تربيها والخبرات التي تعلمها غير مطابقة لمتطلبات العصر، فلا تفيد أصحابها في حياتهم الحضارية، أو تكون غير مناسبة لمقومات الأمة وقيمها . ...
هذا ولقد أثار هذه القضية مربون كثيرون أذكر منهم هالبارت سبنلتر وجون ديوي، فبالنسبة إلى سبنلتر (1) يرى لزاماً على التربية أن تقيم محتواها تقييماً موضوعياً بحيث تستطيع أن تعرف أهمية كل مادة من مواد التعليم، ذلك لأنه لاحظ أن تعليم اللغة اللاتينية كمادة أساسية في المحتوى التربوي في كل مستويات التعليم، في حين أن اللغة اللاتينية لم تكن مستعملة في الحياة العملية، الأمر الذي دعا إلى التساؤل عن قيمة هذه المادة الصعبة التي يعاني المتعلمون الكثير من أجل تعلمها، وإذا ما عادوا إلى الحياة العملية لا تجديهم نفعاً .
أما جون ديوي فيرى أن المدرسة (2) كبيئة تربوية كما تتكون فيها القدرات والميول الفردية تنمو فيها كذلك وتترعرع الميول الاجتماعية. فإذا كانت المدرسة في شكلها التقليدي أبعد ما تكون عن الصورة الحقيقية في الحياة الاجتماعية الناجحة فكيف تستطيع هذه أن تحقق الميول الاجتماعي الممتاز عن الطفل؟
(1) بول منرو، الرجع في تاريخ التربية مكتبة النهضة المصرية، 1953 م، ج 2 ، ص: 309 - 311
(2) جون ديوي، الخبرة والتربية
الصفحة44
وينتهي جون ديوي بنقده هذا إلى إقامة الحجة على فشل ذلك النموذج التربوي الأمريكي التقليدي ويقدم بديلاً يتمثل في التربية التقدمية» التي كان قد نادى بها باركر ووليام جايمس كمدرسة تقوم على أساس الفلسفة البرجماسية روحها الديموقراطية بمعناها الليبرالي الواسع .
واحقيقة أن محاولات ربط التربية بالحياة عند كل من سبنسر وديوي إن كانت ذات أهمية في عصرهما وبلديهما فإن ذلك الربط يبدو بسيطاً ممعناً في السطحية، والدليل على ذلك أنه إذا كانت الحضارة برمتها في حاجة إلى تربية تكون في مستوى انقاذها من كبوة المادية فإن المشكلة لا تقف عند حد تربية تساير الحياة بقدر ما هي مسألة تربية تنقذ الحياة ذاتها من صميم والتعاسة اللتين صار يعاني منها إنسان المجتمعات الحديثة . الشقاء
لقد كان على اتباع ديوي من فلاسفة التربية البرجماسية أن يستفيدوا من دراسة أرنولد توينبي كفيلسوف في تاريخ الحضارة التي كشفت القناع عن أزمة الحضارة، حيث تكنولوجية الحياة صارت من أهم ميادين المعرفة التي تساعد علوم التربية على تحديد مهمتها التاريخية والحضارية، كما تساعد المربين على إدراك الفروق الزمانية واختلاف الظروف والأوضاع الحضارية ومختلف شروط الصيرورة التاريخية .
لقد كانت التربية في عهد ديوي تعيش في أحضان الفلسفة الوثيرة متقوقعة لا تخرج عن دائرتها متقيدة بدروب مذاهبها المتشعبة، وتتشكل حسب مقتضيات مدارسها المختلفة، جاء ديوي وحاول قلب المعادلة، وزعم أن التربية هي التي تكون (1) الفلسفة، وليس العكس. على أنه إن ذهب ديوي هذا المذهب واعتبر الفلسفة تابعة للتربية فهو كبرجماتي يحاول أن يهون من شأن الفلسفة أكثر من أن يحاول النظر إلى التربية من خلال نظرة أشمل على مستوى حضاري أوسع بالإضافة إلى ذلك أنه نسي أن التربية التي نادى بها فهي في حقيقتها تنتسب
الهوامش
(1) جايمس دوبي الأسس العامة لنظريات التربية، ترجمة صالح عبدالعزيز، مكتبة النهضة المصرية .
الصفحة45
إلى فلسفته البرجماسية ولا تنتسب فلسفته إلى تربيته بالإضافة إلى ذلك أن ديوي لم ينتبه إلى بوادر أزمة الحضارة، ولعله لم يلاحظ بوادر فشل البدائل التي عم العمل بها وغطت أغلب المجتمعات الحديثة. والحقيقة أن ذاكرته ما تزال عالقة بظروف أواخر القرن التاسع عشرة وأوائل القرن العشرين حين كانت هذه البدائل محط آمال المفكرين على اختلاف مذاهبهم وفلسفاتهم، بحيث لم يكن من السهل على ديوي توقع خيبتها والتنبوء بفشلها في أي مجال من مجالات الحياة الروحية والمادية الحضارية.
على أن بعض المفكرين الغربيين قد انتبهوا إلى ذلك بعد الحربين العالميتين، منذ ذلك الحين حاولوا أن يربطوا التربية بالحياة أكثر من ارتباطها بالفلسفة. كما أدرك هؤلاء أهمية التربية بالنسبة إلى التطور التكنولوجي الذي صار يشكل أهم قضية في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين .
ولئن صارت مراكز النفوذ في العالم المعاصر تحددها مرتبة الدولة في السباق على التسلح، فإن التطور السريع للأسلحة الحديثة يتوقف إلى حد بعيد على مستوى التطور التكنولوجي الذي حققته تلك الدولة. ولكن التطور التكنولوجي لا يتحقق إلا بقدر ما أحرزته الأمة من التطور التربوي الذي توصلت إليها منظومتها التربوية. فمنذ ذلك الحين شعرت هذه الأمم بضرورة إصلاح منظوماتها التربوية، فترى فرنسا التي كانت تحت الاحتلال الألماني وحكومتها في المهجر لم تشغلها الحرب ولم تلهها أهوالها عن إعداد الخطة الإصلاحية التربوية، فكونت في تلك الظروف القاسية لذلك الغرض لجنة من أساتذة جامعة الجزائر في ذلك الوقت حيث كانت الجزائر مقراً للحكومة الفرنسية وديجول في المهجر يشرف على تلك الخطة التي شرع في تطبيقها بعد الحرب. أما بريطانيا فقررت مبدأ ديمقراطية التعليم الثانوي بقرار ١٩٤٤ الشهير واقتصادها محطم وعمران مدائنها مخرب. .. والمانيا المهزومة، واليابان المحروقة، كل هذه الأمم وغيرها أدركت حاجتها إلى إصلاح نظمها التربوية حتى تكون في مستوى مرحلة ما بعد الحرب، ومتطلبات النمو الحضاري السريع مرحلة السباق على التطور التكنولوجي، واستطاعت بالفعل النظم التربوية التي كانت موضوعاً للإصلاح الجاد أن تحقق نتائج مذهلة في الميدان التكنولوجي .
الصفحة46
على أن التربية في هذه الأمم بعد ما تأكد لمعظم أهلها فشل البدائل الفلسفية وبعد أن سحبوا ثقتهم منها ركزوا على العلم وعلقوا عليه كل آمالهم دون أن يضعوا في حسابهم أدنى احتمال للخيبة مع أن العلوم الإنسانية ما تزال تكبو وما فتئت شعلة ذكاء أصحابها تخبو وبدا عالم الإنسان أعقد عوالم مخلوقات الله وأعظمها شأناً، وأرقاها شأواً وأعقدها سراً وأدقها تركيباً وأعجبها خلقة فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) .
أما النظم التربوية في العالم الإسلامي فهي منذ عهد طويل تشكو من تخلفها عن ركب الحياة إلى درجة أنها صارت غير قادرة على أن تلبي حاجات المجتمعات الإسلامية إلى تربية تحقق لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة. وخاصة بعد أن تعرضت لاصلاحات فاشلة قام بها أهل الدخل ومتطفلون من أصحاب الدجل وصارت هي في وادي ومطامح الأمة ورغباتها وإصالتها ووحدتها في واد آخر، فلا على التالد حافظت ولا في الطارف أنجبت سجت العقول بثقافة دخيلة، وخدرت الضمائر بمفاتن سخيفة وثبطت العزائم بخيبات أمل متتالية، وبدأ شعور الناس يشك في قدراتهم التي وهبهم الله إياها، وقلت ثقتهم في أنفسهم فزاد إعجابهم بمن تفوق عليهم وغلبهم ... وأوشكت أن تخبو شعلة العبقرية التي وهبها الله كل جيل من الناس من كل الأجناس فضاقت آفاق المعرفة الواسعة بضيق العقول وقصر الباع بقصر الهمم . . . فإذا لم يستدرك الأمر بالإصلاح الجاد السليم لمنظوماتنا التربوية، تبقي الأمور على ما هي عليه بل تزداد سوءاً يوماً بعد يوم .
ويرى بعض من المتأثرين بالفكر الحديث العلماني المادي أن تخلف المنظومات التربوية في العالم الإسلامي راجع إلى كونها في الأصل دينية ولا يمكن في رأيهم بأية حال أن تصلح للمجتمعات الحديثة التي ينادون بها القائمة مفاهيمها على العقل وحده أساسها أيديولوجي فلسفي لا علاقة له بدين، وهؤلاء في الحقيقة لم يأتوا بهذه الأفكار من تلقاء أنفسهم وجهد تفكيرهم وإنما تقلوها نقلاً حرفياً لما قاله دوركايم وأصحاب هذه النزعة في فرنسا في محاضراته
الصفحة47
التي ألقاها في السربون تحت عنوان: «التربية الأخلاقية»(1) ونسي هؤلاء أمرا في غاية الخطورة وهو أن الأمة الإسلامية أمة قائمة مفاهيمها وقيمها كلها على الدين فإذا حذف منها الدين لم يبق للأمة الإسلامية شيء، وزعم هؤلاء أن أمم الغرب لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطور حضاري إلا بعد ما نفضت يدها من الدين ومن كل ما جاء به وتبنو فصل الدين عن الدولة تبنى لائكة التربية والحداثة فلسفة والديمقراطية أديولوجية . ويعتقد هؤلاء أنه إذا لم يتجه المسلمون اتجاه الغرب ويسلكوا نهجه لا يمكنهم أن ينهضوا، وينصح هؤلاء باتباع الغرب لتحقيق ما حققه من تطور ورفاهية وازدهار وتفوق . . . ويمثل هذا الرأي أدباء ومفكرون وغيرهم في كل بلد من العالم الإسلامي كطه حسين وميشال عفلق والخديوي إسماعيل ومصطفى كمال، وأمثال هؤلاء من الذين تكونوا في المؤسسات التربوية الغربية المزروعة في أهم العواصم العربية والإسلامية، كالجامعة الأمريكية في بيروت، بالإضافة إلى الخريجين من مختلف الجامعات الأجنبية في أوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها، يقول لو تروب (2) :
وأظهر ما يكون المتغربون في الطبقة العليا والوسطى ولا سيما في أولئك المهذبين على الطراز الغربي فمهمة المدارس والمعاهد والجامعات الاستعمارية ما هي إلا تكوين تربوي موازي للنظام التربوي الإسلامي الأصيل لتنشئة وتكوين جيل غربي في ثقافته وإعداده للقيام بحملة على كل ما هو إسلامي (3) حتى يحارب الإسلام بأبناء المسلمين ولقد أدرك المستعمرون بما عندهم من دهاء ومكر السياسة وتقنية الدساسة أنهم لن يصلوا إلى الإصرار بالإسلام والمسلمين ما لم يجدوا من أبناء المسلمين من يسخر لضرب الإسلام عن غير وعي . إن ما حققه المتحمسون للفكر الغربي من أحلام الاستعمار كطه (4) حسين وسلامة موسى
الهوامش
(1) أميل دور كايم التربية الأخلاقية، ترجمة محمد بدي، مكتبة مصر، ص : 6.
(2) لوتروب ستودار حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نويهض، ج 4 ، ص : 4 ، ط 4 ، دار الفكر العربي .
(3) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 55 .
4) ) انظر مستقبل الثقافة في عصر طه حسين
الصفحة48
وتوفيق الحكيم وغيرهم ... لم تستطع أن تحققه جموع المستشرقين الذين كرسوا حياتهم وشحذوا ذكائهم وجندوا عبقرياتهم لضرب الإسلام والتحامل عليه .
والحقيقة أن نموذج سلامة موسى وطه حسين وتوفيق الحكيم لا يكاد يخلو منه بلد من العالم الإسلامي، لقد كانت لهم نفس المهمة سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا ، لقد نشروا الفكر الغربي وسموم السياسة الاستعمارية كداعاة الطورانية ومجاهدي خلق وأصحاب النزعة القومية، وانخدع الناس بهم وانشغلوا عن أولى الأصالة الفكرية ونباهة السجية كمصطفى صادق الرافعي وحسن البنا ومصطفى السباعي وسعيد النورسي ومحمد إقبال والندوي وابن باديس ومالك بن نبي . من أقطاب الصحوة والحركات الإسلامية الرشيدة .
أما الرد على ما ذهب إليه أصحاب البدائل الحديثة فمجمله أن زعمهم باطل لا سند له من أدلة النقل ولا براهين العقل أحكامهم ذاتية، ومزاعمهم ادعائية، أبعد ما يكونون عن موضوعية العلم وحكمة العلماء والدليل على ذلك أنهم ربطوا بين الإسلام وظاهرة التخلف بمعناها الواسع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ولو أنصف هؤلاء الحق والحقيقة لاعترفوا بما أقره التاريخ من أن الناس كلما كانوا حنفاء مؤمنين صادقين عاملين بكتاب الله وسنة رسوله، سائرين على نهج الرسول وخلفائه الراشدين، كانت أحوال الأمة الإسلامية على أحسن ما تكون عليه السلامة والصحة والصواب والقوة والمنعة والعزة، كما كان الشأن في عهد الرسول وخلفائه الراشدين، وما أن دب في الأمة الضعف في دينها كما كان الشأن في ما بعد عهود بني أمية والعباسيين، حتى دب الضعف في كل شيء إلى أن آل الأمر إلى ما آل إليه حال الأمة اليوم، فكيف يفسر هؤلاء إذن قدرة الأمة الإسلامية على الإبداع في ميادين المعرفة من علوم وفنون؟ ألم تنجب هذه الأمة أئمة الفقه وأصوله أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وجعفر الصادق، وعلماء اللغة كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء والمازني، وجهابذة العلم كجابر بن حيان والحسن بن الهيثم والخوارزمي وابن سيناء وابن رشد و ابن خلدون ... وغير هؤلاء من الذين تزخر بهم دائرة المعارف الإسلامية. فما الذي يمنع إذا ما تهيأت الشروط التربوية والثقافية ظهور
الصفحة49
عباقرة مجدين مبدعين لا مقلدين في إطار الحضارة الإسلامية الواسع، أليس من الأصح أن تكون التربية جيلاً أصيلاً في ثقافته مجداً في إنتاجه، مستقلاً في تفكيره عن أي تيار فكري غربي أو شرقي بدلاً من أن تدعوا إلى التقليد، والتقليد ضعف وتبعية وتخلف ؟ .
إن الربط المنهجي لدراسة التاريخ يدل دلالة واضحة على أن الإسلام هو الدين الذي شملت شريعته واحتوت على الحكم والأحكام. وهو ما يجعلها تضمن للعامل بها عن قناعة إيمانية صادقة سعادة الدارين الدنيا والآخرة. وهو الذي كان شرط الرقي والازدهار الحضاري والصلاح الاجتماعي من قبل ومن بعد .
أما قولهم : إن نظم الغرب التربوية لم ترق رقيها الحضاري، ولم تثر ثراءها الثقافي والتكنولوجي في هذا العصر إلا بعد تخلصها من الدين فهو ادعاء باطل ..إن هذا الزعم قد يصح لو كانت كل النظم التربوية التي تتمتع بسمعة أكاديمية هي النظم اللائكية. أما وقد كان العكس حيث نجد النظم التربوية اللائكية تعد على الأصابع ولم تتفوق بحال من الأحوال على النظم التربوية الأخرى البروستنتية والكاثوليكية والإنجلكائية فالجامعات والمعاهد اليهودية في أمريكيا وغيرها من الدول الأوروبية تتمتع بشهرة كبرى لا تضاهيها جامعات أخرى في العالم .
والحقيقة أن لائكية التربوية ظهرت في فرنسا في عهد جول فيرييه حلا لمشكلة الصراع المذهبي الذي مزق فرنسا بين الكاثوليك والبروستان، الأمر الذي جعل ديموقراطية التعليم الذي تبنته السياسة التربوية غير ممكنة التطبيق إلا إذا كانت المدارس الحكومية لائكية تستطيع أن تجمع كل أبناء فرنسا بقطع النظر عن النزعة المذهبية التي ينتمون إليها حيث يجلس الطفل الكاثوليكي بجانب الطفل البروستاني واليهودي (1) وغيرهم .
هذا وإن المعاهد الخاصة التي تنشئها الطوائف للمحافظة على تربيتها ومكانتها الاجتماعية منتشرة على ربوع التراب الفرنسي لأنه من الطبيعي أن لا
الهوامش
P. Cnevallier. Enselgnement Francais. Mouton. 1974, P. 344. (1)
الصفحة50
تعتمد الطائفة أو الملة على غيرها في تنشئة أبنائها ومساعدتهم على تحقيق نبوغهم وتفوقهم، لذلك نجد المعاهد الخاصة وحتى الجامعات في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، تحتل مكانة هامة فكل مذهب يريد أن يحتل مكان الصدارة للحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية لا بد له من مؤسسة تربوية ولما كانت هذه المكانة (1) مرتبطة بالكفاءة وجودة التحصيل صاروا يركزون على التربية التي خصصوا لها معاهد ومدارس لتكوين النخبة المتفوقة من رجال الأعمال والعلوم والسياسة. وبذلك تصدروا الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في أغلب الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية. وصارت هذه المؤسسات التربوية التي تشرف عليها الكنيسة أو الهيئات اليهودية تحتل الصدارة، وتتمتع بسمعة أكاديمية عالية. وجعلت التزاحم المدارس والمعاهد والجامعات التي كان يحتكرها الأرستقراطية وأهل الطبقة العليا في المجتمعات الليبرالية في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرها .
وأما فصل الدين عن الدولة الذي حدث بعد الثورة الفرنسية فهي قضية في حقيقة أمرها سياسية محضة لا علاقة لها بالتربية والنهضة، وأما المقصود بها فقد كان دعاة فصل الدين عن الدولة في فرنسا وروسيا البلشفية يريدون أضعاف سلطة الدين التي كانت تجابههم وتشكل على ثوراتهم خطراً. لأن المذاهب الدينية والطوائف والملل لا ترضى إلا بالحكم الذي يتفق مع دينها ومن ثمة فإن الطابع المسيحي لا ينكر بالنسبة إلى الحضارة الغربية يقول هتلر في مستهل برنامجه الوزاري يوم ولي رئاسة الوزراء : «إن أول واجب ستقوم به الحكومة القومية الألمانية هو العمل من أجل الوحدة الروحية وإحياء العقيدة النصرانية في الأمة والتقاليد المجيدة في الملة (2) وغير هتلر من الساسة الأوربيين أقواهم كثيرة صريحة الدلالة على تشبع الثقافة الغربية بالروح النصرانية التي تشربوها مع لبان أمهاتهم منذ نعومة أظافرهم .
الهوامش
Machael Yang the Rise of the Merito Cracy Aplican. Book. P. 19 - 39. (1)
(2) شكيب أرسلان حاضر العالم الإسلامي ، ج 3، ص : 363، دار الفكر، ط 4 ، 1973 م .
الصفحة51
إن البيئة الأوروبية على ما انتابها من الإنحلال والميوعة والتسامح ما تزال تنضح بالروح النصرانية على اختلاف مذاهبها . ونتيجة لاجتياح المذاهب الفلسفية المادية لساحتها الفكرية، لقد صارت تشكو فقرها الروحي وحاجتها إلى دين يروي شعثها الروحي ويلقي الروح في كيانها المادي ... وهذه كلها أدلة تقضي بخطأ دعاة اللائكية وفصل الدين عن الدولة في نظمها التربوية وغيرها، وخطر هذه الدعوة وفداحة نتائجها التي ترتبت على العمل بها في المجتمعات الإسلامية، إنه إذا كان من مقتضيات الشريعة الإسلامية السمحاء، والعقل السليم أن تكون الحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها التقطها فإنه ليس من الشرع ولا من العقل أن نتبع الغرب والشرق فيما وقعوا فيه من أخطاء، فصوابهم في علوم الطبيعة والرياضيات لا يلزمنا اتباعهم فيما زلت فيه قدمهم في باب العقائد والمفاهيم والقيم . ونحن إن كنا ننشد الحكمة والعلم والتجارب الصحيحة، فيجب أن نتوخى الصواب في كل الأمور والحق والهدى، فأهل الخطأ والزيغ والضلال أحوج إلى اتباع أهل الصواب والحق وليس العكس .
إن المنظومات التربوية الإسلامية ما تأخرت عن ركب الحياة وعجزت عن تحقيق ما تتم به سعادة الدارين إلا لما صارت تفتقر الأمة إلى حكمة العلماء فالإشراف على الإصلاح من هم أبعد الناس عنه ؛ عرض الأمة لهدم مبيت وإفساد تحت شعار الإصلاح .
أما قولهم : إن النظم التربوية الإسلامية أصولية همها الأوحد الدين وأخلاقه ومن ثمة فهي لا تليق بمجتمع اليوم في عصر غزو الفضاء وازدهار التكنولوجيا، فهي من حيث هي إسلامية تربية أصولية أساسية تهتم أول ما تهتم بالدين وأخلاقه، باعتبارها أمة الرسالة تطمح إلى الدعوة إليها والعمل إلى نشرها في ربوع العالم، هذا العالم الذي صار يعاني من الفقر الروحي والانحلال الأخلاقي والتقوقع الفكري في دائرة المذاهب الفلسفية التي تحجرت، وهو ما يدفعها أيضاً إلى أن تهتم بمطالب عالم الأسباب من العلوم ومبادئها على اختلاف ميادينها ومناهجها، والتكنولوجيا وفنونها فلا تعارض بين متطلبات عالم
الصفحة52
الأسباب ومتطلبات العقيدة والشريعة والقيم والمفاهيم الإسلامية، وبكل ماله علاقة بشخصية الأمة الإسلامية، فهذه غاية والأخرى وسائل لا بد من توفرها التحقيق الغاية. إنه لا تعارض بين الغاية والوسيلة اطلاقاً لدى المفاهيم الإسلامية ولا يدعى ذلك إلا حاهل للإسلام أو جاحد للحق والحقيقة .
هذا ولقد حددت المفاهيم والقيم إلى درجة لم يبق بعدها أي مجال للتناقض والتفريط أو الإفراط ، وهو ما لم تحققه ديانة غير الإسلام ولا فلسفة . ولن تستطيع أمم الغرب والشرق أن يحصوا على ما هم عليه من ازدهار حضاري تكنولوجي إلا بعد نجاح إصلاح نظمهم ، وما نجحت إصلاحاتهم إلا بفضل مستوى وعيهم الذي انعكس في تكامل العلماء ورجال السياسة وتضافر عوامل الكفاءة التي يتمتع بها العلماء ورجل السياسة، وهو ما ساعد على نمو الشعور بالحاجة إلى إصلاح نظمها التربوية وتطويرها لتكون في مستوى القدرة على إعداد ما تحتاج إليه الحضارة من العلماء وكبار الخبراء ورجال الأعمال وعباقرة - العصر ؛ فلم تمنعهم لتحقيق ذلك ظروف الحرب القاسية، والهزيمة النكراء لأنهم أدركوا أن مصيرهم مرتبط بالتفوق التكنولوجي أكثر مما تتوقف على نتائج الحرب التي خرجوا منها غالبين كأمريكا وروسيا ووبريطانيا وفرنسا، أو مغلوبين كالألمان واليابان لا الغلب يبطرهم ولا النصر يلهيهم، فشمروا على ساق الجد وركزوا على مطامح المجد لا يلوون على شيء إلى أن حققوا ما هم عليه الآن من ازدهار ورخاء ولولا هذه الإصلاحات التي تجاوزت المحيط إلى أمريكا الشمالية، حيث عرفت التربية الأمريكية هي الأخرى تحولات كبرى لولاها ما عرف العالم الجديد هذا الازدهار الثقافي والتطور التكنولوجي المذهلين، وما كان لهذه الإصلاحات أن تحقق هذا المستوى من النجاح ولا أدنى منه إلا أنها كانت اختيارية خالية من أي نوع من القسرية، شرعية منهجية لا يخالطها ارتجال، لم تفرض على أمة من أمم أبداً، ولم تغفل حاجة لطائفة أو فئة من الفئات الاجتماعية والطوائف والملل والنحل والطبقات لم تكن الصالح مجموعة على حساب مجموعة أخرى إلى درجة أن الصراع الطبقي الذي لا تخلوا آثاره ولا ينجو من ضغوطه قرار، فإن مفعوله وتدخله في توجيهه الخطة الإصلاحية التربوية التي عمل بها في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين كان
الصفحة53
ضئيلاً، ففي بريطانيا البلاد الرأسمالي الذي يعيش صراعاً طبقياً رهيباً حيث لم يحدث مرة في التاريخ البريطاني العريق أن خرجت السياسة التربوية عن قبضة الطبقة الأرستقراطية، مع ذلك يعترف رجالها بعد الحرب العالمية الثانية بفضل جميع الأنجليز على اختلاف طبقاتهم على ما أحرزته بريطانيا من النصر، ويقولون في مسودة إصلاح التعليم 1944: «إن مصير الأمة البريطانية مرتبط برجالها كل رجالها دون استثناء أو تمييز .
نستنتج من ذلك أن العملية الإصلاحية التربوية معقدة لا يجوز تركها للصدفة والمخاطرة والارتجال، ولكي تنجو من الأخطار ومن الوقوع في الهوى والأغراض الشخصية، إنه لا بد أن تكون العملية الإصلاحية علمية في منهجها ودقتها وموضوعيتها وهذا ما يجعل الأمانة العلمية جد صعبة ومعقدة ؛ وحتى يكون العلماء في مستوى المسؤولية العظمى ، يطلب أن تكون العملية الإصلاحية على الأسس التالية :
أ - الأسس المنهجية .
ب - الأسس الشرعية .
ج الأسس الغائبة
الصفحة54
العملية الإصلاحية عملية منهجية
أن تغلغل النظام التربوي في أعماق حياة الأمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية ووضعه منها موضع العمود الفقري في اجسم، جعل عملية تبادل التأثير والتأثر بينه وبين مختلف مجالات الحضارة في حالة من التفاعل الوظيفي. المستمر. وبهذا صار الإصلاح التربوي في غاية من التعقيد، فأي خطأ ارتكبه المصلحون في أي مرحلة من المراحل النظرية أو الإجرائية تترتب عليه عواقب ومشكلات قد لا يكون من السهل تصحيحها بعد فوات الأوان هذا ومن الحقائق التي أثبتتها التجارب الإصلاحية التي قام بها المصلحون في مختلف النظم التربوية إنه وراء كل خلفية إشكالية تترتب عليه عند تزامنه كمتغير مع الثابت، الأمر الذي سيحدث من التناقضات ما يفوق الحصر، وحتى يمكن للمصلحين التحكم والضبط والتحديد للفروض التي لا بد أن تحصر نتائجها حصراً دقيقاً عن طريق التنبؤ ولا بعد للعملية الإصلاحية من منهج تحدد في ضوئه مشكلاتها ومفاهيمها وأبعادها ومختلف عواملها بالإضافة إلى اخل المنطقي والمراحل الإجرائية التي تمر بها إلى عملية التطبيق ثم اختباره لمعرفة مدى صحة الفروض وما يترتب عليها من النتائج فإذا تأكد لنا أنه لرفع مستوى التحصيل لا بد من رفع مستوى ثقافة المعلم وتحسين خبراته، فإن هذا اخل يستلزم توفير شروط ذلك الأعداد، وإلا تعذر الحل، فالعملية الإصلاحية عملية تنصب على معطيات الحاضر لتصيغها صياغة جديدة مستقبلية قابلة للعمل الإجرائي في الميدان، لأن الحاضر في حكم الماضي والماضي لا يغير أبداً على أن هذا لا يعني اطلاقاً الانتقاص من قيمة التاريخ، لأنه هو الذي يجمع معطياته ويمثل الكيان الموضوعي الذي تم تشكينه النهائي داخل الصيرورة،
الصفحة55
وصار يمثل الصورة الحقيقية لحال من أحوال الأمة في زمن محدد، وهذا يعني أنه لا بد من المعطي التاريخي الذي يكون موضوع الصياغة المستقبلية من حيث هي صميم العملية الإصلاحية، فالإصلاح ليس أبداً انطلاقاً من لا شيء بل هو انطلاق من التاريخ كشيء موضوعي لواقع الأمة وبه يتحقق كمالها في المستقبل باستمرار لأنه عملية اصطفاء وترقي لخبرة الأمة الحضارية باستمرار، فالمناهج التاريخية حسب رأي برايند (۱) هولمس مناهج مفيدة لكنها ناقصة، والدليل على ذلك أنها ركزت على الماضي وتوقعت فيه دون الإهتمام بالمستقبل، مع أن المستقبل هو موضوع التغير وليس الماضي لأن هذا الأخير ثابت لا يقبل التغير. فالإشكالية عند «هولمس تكمن في تزامن المتغير وهو ما يجب أن تكون عليه الأوضاع والأحوال للمنظومة التربوية مع اللامتغير وهي الأحوال الثابتة للمؤسسات التربوية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية. فالتقاء الصورة المثلى التي يريد الإصلاح تحقيقها في زمن واحد مع الثوابت يحدث التناقض والأشكال، وحتى يتحقق التطابق بينهما، أنه لا بد من دراسة عميقة دقيقة لمختلف العوامل لتحديد تأثيرها ومدى تأثرها ضمن العملية الإجرائية الإصلاحية، فالحل إذن يقتضي تحقيق التطابق بين المتغير واللامتغير في المستقبل وإزالة التناقضات التي تتعارض مع الحل أو بمعنى آخر يكون الحل متمثلا في حالة التطابق الخالية من التناقضات، وهذا ما يجعل العملية الإصلاحية قائمة على أساس منهجي تحدد بواسطة العلاقات المختلفة للظواهر .
إذن لا بد من تحدد الخطة الإصلاحية في ضوء المعطيات التاريخية، التي تنصب عليها العمليات الإصلاحية، في إطار منهج يساعد على إعادة صياغة المعطي التاريخي صياغة نظرية تسمح بتحديد المشكلة والتوصل إلى تحليلها وتفسير مختلف أوضاعها، ووضع الفروض المناسبة وتحديد المراحل الإجرائية العملية عن طريق التنبوء. فالتاريخ إذن هو أهم وسيلة لنقل مكتسبات جهد وجهاد الأجداد باستمرار، لولاه ما تحقق التطور الفكري ولا الحضاري باعتبار التطور هو بداية كل جيل من حيث انتهى سلفه وهو الجهد المستمر عبر الزمن .
Brian Holmes Problems in Education. P. 911. (1)
الصفحة56
زد على ذلك أن مطالب الحضارة تنمو باستمرار وتن طال قصير والعوائق كثيرة، ونوائب الدهر لا يخلو منها عصر، ولا يبخل بها دهر، منها ما أمكن للأجداد التغلب عليه ومنها ما لم يمكنهم تجاوزه أو تحقيقه من الآمال .
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فينبغي للخلف استكمال واستدراك ما فات السلف، لأن الإنتاج الحضاري ليس وقفاً على جيل دون جيل، وليس اختكاراً لعصر دون عصر، فلكل جيل جهوده و مجال جهاده واجتهاده بالإضافة إلى ذلك عامل الزمن الذي يجب أن يقرأ له ألف حساب . أنه يزداد في كل عهد خطورة وأهمية فقد كان كالسيف يومئذ، كان السيف أحسم سلاح في الهيجاء، أما اليوم فقد صار الوقت كالصاروخ النووي سرعة وخطراً وفصل خطاب .
إن عامل الزمن في وقت الأقمار الصناعية ومضاعف سرعة الصوت والعقول الإلكتورنية لا تدانيها سرعة الحصان على أن التطور التكنولوجي لا ينسينا فضل السلف الصالح وجهده وجهوده واجتهاده مما يجعلهم لنا دوما قدوة حسنة لا بد من التوقان إلى اتباعهم والسير على نهجهم. إلا أنه إذا كان لا بد من حكمة الأجداد وحسن الاقتداء بهم فإنه من الحكمة أيضاً معرفة الأحفاد ما يمكن أن يضاف من جديد لجهود واجتهاد الأجداد.
ومن أهم وظائف التربية المحافظة على ما تجب المحافظة عليه كالدين وشريعته السمحة وأخلاقه الفاضلة وقيمه النبيلة، إلى جانب ذلك فهي مطالبة أيضاً بأن تجدد الفكر وتطور العلم وأن تجعل الجيل بطل عصره وعبقري زمانه ينشد الصواب والحق والخير والفضيلة متخلصاً من الضلال والزيف، وتكون فيه القدرة على الانتقاء وتنمي عنده ملكة الاصطفاء ليكون دوماً عنصر صلاح وسعادة وفلاح .
وليحقق التغير أغراضه وينشد الإصلاح مراميه التي تحدد في إطاره التاريخي، لا بد من منهج يضع الأمور مواضعها فلا تطغى الوسيلة على الغاية ولا البداية على النهاية، ولا تسبق التحسينات الضروريات والحاجات. لذا
الصفحة57
فالتحليل المنهجي للأغراض والمرامي التربوية وغيرها لا يكون إلا نتيجة للتصور المنهجي لمعطيات التاريخ مصوغة صياغة مستقبلية إصلاحية .
لأن التصور لمعطيات التاريخ يطلب أن يكون تصوراً واضحاً صحيحاً مطابقاً للحقائق تطابقاً لا يشوبه زيف، ولا تشويه؛ مما يجعل عملية الإصلاح جد معقدة ؛ فالكل يعلم ما يدور في الساحة الثقافية وغيرها من انتاج مغرض يقبح المحاسن، ويحسن المساويء مضفياً على التراث غموضاً، وعلى الحقائق التاريخية التباساً، قصد تضليل وتحريف الجيل الجديد وتنفيره من التراث .
وهذا كله من شأنه أن يجعل عملية جمع المعلومات تحتاج إلى منهجية محددة ذات ضوابط علمية وقيم. فإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة لجمع المعلومات الصحيحة عن معطيات التاريخ لأخذ صورة صحيحة يمكن الاعتماد عليها في بناء التصور المنهجي للرؤية المستقبلية، فكيف بالمراحل التي تمتد بالعملية الإصلاحية التي تتطلع إلى آفاق ما يجب أن تكون عليه وفق توقعات لا سبيل لنا إلى ضبطها إلا عن طريق الاحتمالات المبنية على التنبوء؟ إذن لا بد من منهج ضابط للمعطيات محقق للنتائج والمقدمات، مقنناً للعلاقات رابطاً بين العوامل مفسراً للأحداث والمواقف والحالات لتكن عندئذ الرؤية المستقبلية رؤية علمية تبدأ بالمشاهدة فالملاحظة فالتحليل فالمقارنة فالتفسير فالحكم فالبرهنة عليه . .. ثم التحقق من صدق الفرضية والعمل على ضبط الاحتمالات عن طريق الربط التجريبي أو المنطقي بين مختلف العوامل للتوصل إلى الصورة الواضحة الكاملة على النموذج الإصلاحي ثم إلى المراحل الإجرائية التي تمر بها العملية الإصلاحية، كعملية منهجية أبعد ما تكون عن الارتجال والصدفة.
ولكي لا تقع الخطة الإصلاحية في الظلم لا بد من مراعاة العدالة والتقيد بها تقيداً تاماً كشرط من الشروط المنهجية اللازمة .
الصفحة58
مراحل إعداد الخطة الإصلاحية
إن إرادة الأمة هي أول ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إعداد الخطة، لأن إرادة الأمة أساسية أيضًا في مرحلة تبنيها والعمل بها. إذ بدونها لا يتحقق أمر ذوبال من الإصلاح، ويصبح هذا الأخير تعسفاً واضطهاداً. وإذا كانت إرادة الأمة مرتبطة بالاختيار، فإنه لا اختيار بغير حرية، فالأمة الحرة هي التي تقرر مصيرها بنفسها، وذلك عندما تكون متحكمة في أمورها وتمارس مسؤولياتها وتقرر ما بدا لها أنه الأصلح والأفضل في ضوء قيمها دينها وأخلاقها وفكرها الأصيل .
لأن الإصلاح يبدأ قبل كل شيء من وعي الأمة لذاتها عندما تدرك بوضوح من هي وكيف هي؟ وماذا يجب أن تكون عليه ؟ ومن ثمة فإن أسوأ الأخطاء وأعظم الجرائم التي يمكن أن ترتكب في حق الأمم هي أن تفرض البدائل الإصلاحية على الأمة فرضاً، وتقسر على العمل بها قسراً ، كالذي حدث للبلاد المستعمرة، وفي تركيا أيام مصطفى كمال وغيرها من الأقطار الإسلامية،
والتي ما تزال الأمة تعاني من آثارها إلى اليوم. لأن العملية الإصلاحية هي عملية شرعية وأخلاقية؛ فهي عملية شرعية لأنها تستلزم الاختيار وإرادة الأفضل والاقتناع بأنه كذلك باتفاق. وهي أخلاقية لأنها تقوم على شعور الأمة بمسؤولياتها نحو ما تختاره أمام أجيالها المتعاقبة وبالنسبة أيضاً إلى عقيدتها ورسالتها ودعوتها كل ذلك عن طواعية واقتناع وتتبناه عن رضا وحرية، لأن الإرادة مرتبطة بالحرية فلا إرادة لمن لا حرية له، وإلا فما الفرق بين الخطة الإصلاحية الشرعية، والخطة الاستعمارية القسرية لأن القهر عدو للإرادة وسالب للحرية وخصم للأخلاق والشرعية، ومخرب للحضارة. فمنذ أن فقدت الشعوب الإسلامية حقها في اختيار نموذج الحياة في ضوء عقيدتها وأخلاقها
الصفحة59
وشريعتها وخبرتها التاريخية ومستقبلها توقفت على الانتاج الحضاري لأن هذا الأخير يحتاج إلى جهود مبدعة ولا إبداع بدون إرادة واعية ولا إرادة واعية بدون اقتناع ولا اقتناع بدون حق وعدالة وحرية .
فاقتناع الأمة الإسلامية بسلامة دينها الحنيف وشريعته السمحة وأخلاقه الفاضلة وعلمها بقدرته على ضمان سعادة الدارين الدنيا والآخرة في كل زمان ومكان جعلها بالضرورة ترفض ما عداه من البدائل والنماذج الإصلاحية الأخرى وإن فرضت عليها فرضاً وأجبرت عليها قسراً .
لذلك ساءت عواقب التغيير القسري، وخابت خططه إلا في ما أفسدته من أوضاع اجتماعية وثقافية وتربوية، وما أحدثته من تناقضات وما بثته من اتجاهات وانحرافات وتشويه للمنظومات التربوية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي . دليلنا على ذلك أن الفرض لبدائل الحداثة لم يحقق النهضة المرجوة بل عمل على تزييفها وتحريف اتجاهها والسبب في ذلك أن النهضة لا تحققها العزائم المحطمة والذكاء المجمد والعبقرية المغمورة والضمائر المخدرة. فالذي يعود إلى التاريخ يجد أن النهضة وليدة العزائم المحفزة والذكاء المتقد والعبقرية الملهمة والضمائر اليقظة والفكر الحر . . . لقد كان لانعدام مراعاة إرادة الأمة في الخطة الإصلاحية التربوية أن زادت المشكلات تعقيداً والأزمات تفاقماً وحدة، ولا يمكن لأي خطة إصلاحية أن تنجح ما لم تراع الشروط المنهجية كالعدالة ببعديها الشرعي والأخلاقي مروراً بالمراحل المنهجية الإجرائية اللازمة حسب ما جاء عند علماء التربية المقارنة ، ويرى «هولمس» وغيره من علماء هذا العلم أن الخطة الإصلاحية الناجحة تمر في الغالب على المراحل التالية :
أ - مرحلة الإعداد.
ب - مرحلة التبني .
ج مرحلة التطبيق .
وتشمل عندهم كل مرحلة مجموعة من الإجراءات المنهجية بحيث كل مرحلة تكتسب فيها الخطة الإصلاحية الخصائص المنهجية اللازمة. وأي تقصير
الصفحة60
أو نقص أو خطأ يقع في المرحلة من هذه المراحل تنجم عنه عراقيل من شأنها أنها تعوق السير الطبيعي للعملية الإصلاحية، ولأهمية هذا التقسيم الإجرائي للعملية الإصلاحية سنعمل على مراعاته مع إضافة مرحلة ما قبل الإعداد وذلك نظراً لما يحدث من أخطاء ليس لها فقط انعكاسات على مرحلة الإعداد بل تؤثر في كل المراحل اللاحقة أيضاً وقد لا نكون مبالغين عندما نعتبرها مرحلة مصيرية للخطة الإصلاحية برمتها وفي كل مراحلها .
أ ـ مرحلة ما قبل الإعداد :
ونظراً لأهمية اختيار الأشخاص الفنيين الذين يعدون الخطة الإصلاحية إعداداً فنياً أولياً، ونظراً لتأثير هؤلاء في اتجاه الخطة ومفاهيمها وغاياتها ومراميها ... مهما كانت طريق الإعداد تبدو فنية صرفة فإن مرحلة ما قبل الإعداد مرحلة أساسية لا بد من مراعاة أمور كثيرة من ذلك إدخال هذه المرحلة في نطاق الشرعية، فعند تعيين هيئة الإعداد فما هي المعايير أو الطرق التي يتم على أساسها تعيين هذه الهيئة ؟ لا شك أن ثمة معايير فنية تشترك فيها أغلب الهيئات التي يجب أن تكون في مستوى من المؤهل العلمي المتخصص . لكن التخصص سوف لا يكون ذا مجال واحد فهناك الجانب الإداري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ... زيادة على ذلك مراعاة الشروط البيداغوجية المعقدة، ومن جهة أخرى فإنه لا بد من أن تكون هيئة الإعداد ممثلة لكل فئات المجتمع لتكون هي الأخرى شرعية، أو بمعنى آخر فإن الهيئة المكلفة بإعداد مشروع الخطة هي في ذاتها يجب أن تكون ممثلة للأمة بأسرها تمثيلاً عادلاً وصادقا . وأما إذا كانت المعايير التي تعين على أساسها هيئة الإعداد مجرد معايير فنية تقنية صرفة، فإن الأمة نكون حينئذ تحت سلطة التكنوقراطيين والبيروقراطيين، فتعطي هؤلاء كل الصلاحيات الفنية والإدارية والسياسية وغيرها . ففي هذه الحالة يأتي المشروع حسب اتجاه هؤلاء البيروقراطيين والفنيين بقطع النظر عن رأي الأمة وإراداتها. وفي حالة ما إذا تعددت الطوائف والديانات والملل والنحل والإيديولوجيات، وكان التكنوقراطي من طائفة أو نحلة أو اتجاه جاءت الخطة لصالح تلك التي ينتمي إليها التكنوقراطي وفي هذه
الصفحة61
الحالة تصبح الخطة أبعد ما تكون عن الشرعية والعدل؛ ففي البلاد التي يقل فيها الوعي التربوي والسياسي تسند أمور إعداد الخطة الإصلاحية إلى أشخاص لا تتوفر فيهم الشروط المذكورة كالشرعية والعدالة والأمانة العلمية، عندئذ يتصرفون كما لو كان الأمر أمرهم هم وحدهم ، وفي هذا الحال تسير الخطة من أول وهلة على غير الشرع، أبعد ما تكون عن العدالة والفضيلة، فتنعدم الموضوعية وتختل أدق القواعد الفنية، فتطغى الأهواء على العقول وتجمح العاطفة بأصحابها، فيقعون في الشطط والتطرف وسواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا .
ففي مثل هذه الأمور العظيمة والمهام الخطيرة التي يتوقف عليها مصير أمة بأكملها وترتبط به مصلحة الأجيال المتعاقبة، فلا بد من الموضوعية الكاملة والأمانة التامة والعدالة. إن الأمة التي وقعت تحت سيطرة البيروقراطيين التكنوقراطيين؛ أمة محرومة من حرية القرار والعدالة الاجتماعية، فتصير شرذمة من الناس تتحكم في مصيرها وتعبث بأمال أبنائها ومستقبلها، ومن ثمة فإنه يمكن القول بأن مرحلة ما قبل الإعداد لا تقل أهمية عن التي تليها إذا لم تكن أحسم منها، وحتى تختار العناصر التي تشكل منها لجنة الإعداد على أساس العدالة يجب أن تتوفر الموضوعية والكفاءة والتمثيل مبعدين الأهواء والعواطف والأغراض. ولشدة تعقد الأمور لا بد أن تعين لجنة الإعداد على ضوء الشروط التالية :
أ ـ أن تكون لجنة الإعداد ممثلة أصدق تمثيلاً، فلا تكون لائكية، والمجتمع متدين ولا تشكل من تشكيلة دينية واحدة، والمجتمع متعدد الديانات، ولا يجوز العكس .
ب - لا تتألف اللجنة من خبراء أجانب يجهلون الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والحضارية، أو يتجاهلونها لأمر ما .
ج ـ أن يكون اختيار الفنيين من مختلف التخصصات التربوية والثقافية والإدارية والسياسة لمختلف المؤسسات على أن تكون تحت إشراف محكم يضمن تكاملها وتعاونها في إطار منهجي موحد .
الصفحة62
د- أن تكون التخصصات في تنوعها ونوعيتها في المستوى المطلوب إلى جانب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية.
هـ ـ أن توفر اللجنة الفنية كافة الشروط المنهجية والظروف المناسبة اللازمة لإعداد مثل هذه الخطة على أكمل الوجوه وأتمها .
مع العلم أن كل هذه الاحتياطات قد لا تكفي إلا إذا تدخلت الحكمة التي ترتفع إلى مستوى المسؤوليات التاريخية وتتجاوز الاعتبارات الشخصية من الهوى والزيغ والشطط والضلال والتحيز والميل معنى هذا أنه لا بد من لجنة الحكماء للإشراف على عملية الإعداد عن كتب ووضع الأهداف الكبرى للسياسة التعليمية حتى تكون المنظومة التربوية في مستوى آمال أجيال الأمة المتعاقبة، وحسب متطلبات زمانهم الذي خلقوا له، وقد يختلف كثيراً عن زماننا، وهذه من أعوص مشكلات السياسة التربوية في مرحلة الإعداد.
ب ـ مرحلة الإعداد :
من أهم مميزات هذه المرحلة معرفة أهم الأغراض الإصلاحية التي تتخذها العملية الإصلاحية هدفاً لها، ولذلك تعد الغائية من أهم الشروط المنهجية للعملية الإصلاحية التربوية، فهي التي تضفي على الإصلاح التربوي صفة الوعي والعمق والجدة والأصالة والفعالية حيث تبرز العملية الإصلاحية في إطار منهجي متكامل، فلا تتعارض الوحدة والتنوع ولا الجدة والأصالة ولا الكمية والكيفية .. إذ من المتطلبات المنهجية عند إعداد الخطة الإصلاحية، معرفة ما انتهى إليه النظام التربوي من أوضاع المختلف المؤسسات والمستويات من كل الجوانب الإيجابية والسلبية ومعرفة الأسباب والعلل عن طريق التقويم الموضوعي الدقيق والتتبع الإجرائي للحياة التربوية .
إن التقويم التربوي لمستوى التحصيل في مختلف المستويات والمؤسسات يساعد دوماً على معرفة مستوى التطور التربوي للمنظومة التربوية، وكذلك الشأن بالنسبة إلى اختيار الوسائل الفنية التي تتم بواسطتها العملية التربوية، فإنه دوماً مطلوباً للتأكيد من نجاعتها وسلامتها والعمل على تطويرها، ويدخل
الصفحة63
في هذا الإطار المعلم وظروفه النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى وظيفته ورتبته و درايته ومدى مردودها على مستوى معيشته ومكانته في المجتمع. لعله ليس من نافلة القول ضرورة التركيز على الظروف التي تجري فيها العملية التربوية وطرق التعليم ومدة التمرين وطرق التصحيح والترسيخ للخبرات التربوية. وكذلك مدى العناية بشخصية المتعلم ككل والفروق الفردية، ومدى قدرة المحتوى التربوي على تشجيع القدرات المختلفة والهام والمواهب المتنوعة وتوجيه الميول المختلفة، واتقان الخبرات ....
إن اختيار مدى القناعة الشخصية الإيمانية والخلقية والقيم الجمالية والفنية، تساعد على التتبع الإجرائي لنمو الشخصية بالطرق السوية للتأكد من سلامة ونجاعة العناية والرعاية في تهيئة الشروط البيئية اللازمة للنمو السوي لشخصية المتعلم، على أن هذا كله لا يكفي بل لا بد من مقارنة مستوى التحصيل بمستوى الجهد المبذول لتحقيق النوعية التربوية المطلوبة. فإذا كنا قد عرفنا مقدار الجهد المبذول في مختلف المستويات الدنيا والعليا فإن هذه النتيجة لا تكون ذات دلالة إلا إذا ربطنا بين الحدين الأدنى والأقصى من الجهد وبين مردود كل منهما فلتقدير قيمة النتائج بقيمة الجهود لا بد من هذه المقارنة، فإن كان المردود أكثر من الجهد علمنا أن الطريقة التي تم بها العمل التربوي ناجحة، وإن كان العكس أدركنا خطأ التوجيه لأن الحكمة التربوية تقتضي توظيف الجهود أثناء العملية التربوية توظيفاً جيداً. ولئن قامت العملية التربوية على الجهد ولن تقوم إلا عليه فإن توجيه الجهد التربوي يعد من أهم الوسائل التربوية التي على ضوئها تتحدد النوعية التربوية ومن ثم فإن العملية التربوية عملية منهجية بالدرجة الأولى وهادفة .
وحتى في هذا الحال من بذل الجهد الأقصى والوصول إلى أعلى النتائج بالنوعية التربوية المحلية لا يكفي ما لم يقارن المستوى المحلي بمستويات أخرى بنفس المستوى التعليمي لأرقى النظم التربوية في العالم، وهو ما يساعد إلى حد بعيد على تطوير العملية التربوية والوصول بها إلى المستوى الأعلى من النوعية التربوية العالمية المتفوقة. فإذا كانت معرفة الفروق الفردية تفيد المعلم عند وضع
الصفحة64
الخطة العملية التربوية وإعدادها قبل التطبيق لتكييف المادة التربوية حسب متطلبات المواهب والقدرات والاستعدادات المختلفة فإنه أيضاً بات من الضروري إدراك مستوى الخبرة النوعية عند أنجح النظم التربوية في العالم وأسباب ذلك التفوق أو عكسه. وهذه المعايير الفنية لكل جوانب العملية التربوية تساعد إلى حد ما على إدراك ما يمكن تعديله وتطويره، وتحقيق تلك المستويات من الخبرات الجدية دون أي مساس بما له علاقة بالشخصية التي لا بد للنظام أي نظام تربوي أن يحافظ عليها لأنها تمثل جوهر أصالته .
أما التقنيات التربوية البيداغوجية فهي ليست وقفاً على أحد بل تعد القاسم المشترك بين مختلف النظم التربوية المتطورة، بحيث يمكن قياسها واختبارها وتعديلها وتطويرها بدون حد ولا انقطاع . إنها نتيجة العبقرية التربوية على مستوى العالم كجهد مشترك بين الناس، وهذه المعايير الفنية التربوية هي التي بواسطتها نستطيع أن نعرف ما يمكن استعارته مما لا يجوز أخذه، ومما لا يكون مشاعاً بين الحضارات والنظم التربوية كالدين ومختلف القيم مما هو خاص بالأمة. فالمواد العلمية مثلاً والتقنية والخبرات التكنولوجية موجودة في كل المحتويات التربوية على الإطلاق باستثناء المؤسسات الدينية ومعاهد العلوم الإنسانية المختصة فهي لا تحتاج في تخصصاتها إلى هذه المواد العلمية، باستثناء معهد علوم التربية الذي لا بد له من كل هذه العلوم والمعارف لأنها تكون. المحتوى التربوي في جملته .
ما طرق مقارنتها فكثيرة تختلف باختلاف المناهج وطرق البحث في علم التربية المقارنة والتي لا يسمح المقام بذكرها، وعلى الجملة فإن وضع رسم بياني لمستوى التحصيل أو النوعية التربوية ليس بالعسير، حيث يمكن أن تعطي صورة واضحة على الأوضاع التربوية المراد معرفتها كالرسم التالي :
الصفحة65
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 66 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
تقارن على هذا الأساس كل المواد العلمية في كل المستويات المعرفة الفروق النوعية لمستوى التحصيل من مختلف النتائج في منظومات تربوية مختلفة .
ثم تأتي مرحلة المقارنة بين مختلف الرسوم البيانية حسب التدرج للقيم المحددة لكل من النوعية التربوية ومردودها في كل من المؤسسات التربوية والتقنية والحياة العملية في المعامل وغيرها كمردود للفرد والأمة ؛ فمقارنة « أ » في الجزائر بـ «أ » في بلد كألمانيا الغربية واليابان أو غيرهما في مستوى التحصيل لنفس الدرجة والمستوى والمادة تكشف على مجموعة من العوامل التي تتحكم في الظواهر التربوية، سواء أكانت تتعلق بالمحتوى أم الطرق ومختلف الوسائل البيداغوجية .
فإذا وجدنا مثلاً لـ « أ » في ألمانيا يساوي مستوى التحصيل لـ «ب» أو (جـ) في الجزائر أو اليابان، فإن هذا الفرق ذا دلالة تربوية في غاية الأهمية، لأن الفرق الكبير بين المستوى الواحد في مختلف البلدان أو النظم التربوية يعد مؤشراً خطيراً يساعد إلى حد كبير على معرفة العلاقات بين مختلف العوامل التي لها تأثيرها المباشر أو غير المباشر في الظواهر المراد دراستها؛ وهذه النتيجة إذا ساعدت على معرفة الفروق بين مختلف المنظومات التربوية فهي ساعدت أيضاً
الصفحة66
على اكتشاف أسبابها وطرق معالجتها. وهذا ما يجعل الخطة الإصلاحية الجادة تتميز بالتحديد والدقة أبعد ما تكون عن الارتجال.
إن معرفة العوامل التي تتحكم في مستوى التحصيل في مؤسسة تربوية معينة ومنظومة ما في شروط ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية نتيجة لها شأنها في علوم التربية وغيرها من العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلوم السياسة والاقتصاد. وهكذا ترقى العلوم بدقة البحث والتحكم في الظواهر عن طريق التحكم في عواملها والقوانين التي لها الظواهر فضلاً عن تفسيرها . لكن الدراسة المقارنة لا تنتهي عند حد الكشف عن الفروق التي توجد بين المنظومات التربوية بل تطمح إلى ما هو أهم من ذلك أي تطمح إلى اختيار الحلول اختياراً واعياً مبنياً على بصيرة من الأمر وعلم بدقائق المسائل ومختلف أسرارها وتوقع نتائجها ... إلى غير ذلك مما يعطي الإصلاح صبغة غائية منهجية واضحة . فلا يكون الحل أسوأ من حال المشكل، لأن وراء كل حل خلفية إشكالية لا بد من معرفتها وإلا يصبح الإصلاح عبثاً لا غاية له. فإذا علمنا مثلاً أن مستوى التحصيل «جـ) في الجزائر في مادة الرياضيات = مستوى التحصيل «ب» في ألمانيا أو سويسرا، ورحنا نرفع مستوى المحتوى التربوي في مادة الرياضيات أو بحسب مستوى ( أ ) و «ب» في ألمانيا وسويسرا . . . دون أن نفكر في العوامل الأخرى ذات العلاقة المباشرة وتغيرها؛ كالمعلم ومستواه الثقافي والتربوي والبيداغوجي، فإن مجرد تغيير المحتوى التربوي لا يفيد شيئاً، بل قد يزيد المشكلة تعقيداً، فالمعلم الذي لم يكن له نصيب من الرياضيات غير نصيب الثقافة العامة لا يستطيع أن يتقن تدريسها، كالمعلم الألماني المتخصص بالإضافة إلى المدة الطويلة التي يقضيها في الإعداد والتربص التربوي في دور المعلمين المتطورة .
مع العلم أن الدراسات المقارنة بينت أن بعض النظم التربوية قد وصلت في تطور مؤسساتها إلى وضع برامج تخصصية للمتعلمين المتفوقين من الصفوف الابتدائية. ولكي يشجعوا القدرات التي قد يقضي عليها في المعهد إذا لم تجد العناية منذ المراحل المبكرة الأولى من التعليم يخصصون لهؤلاء الموهوبين عناية
الصفحة67
فائقة؛ فما أكثر الموهوبين الذين ضاعوا بسبب سوء حظهم في المرحلة الابتدائية التي لم يصادفوا فيها معلماً في المستوى المطلوب .
وهكذا الشأن في كل المستويات ومختلف مجالات المعرفة والتكنولوجية فضحايا التخلف البيداغوجي الذين يترسبون في مختلف مستويات التعليم خسارة لا تقدر بثمن. وإن ما نضيعه من مواهب ثرية ما أحوجنا إليها لبناء حضارتنا لا يعرف لها حد.
فالدراسة التي عالجت موضوع التسرب التربوي في كثير من النظم التربوية تبين بوضوح مقدار جناية النظم التربوية الفاشلة على نسبة عالية من الأجيال .
ومن جهة أخرى فإن النظم التي وسعت آفاق التربية وآثرت محتوياتها بالتنوع وطورت طرقها ووسائلها وأعطت المعلمين ما يستحقونه من جدية التكوين وفائق الاحترام الأدبي والمادي، وحسنت الظروف الاجتماعية المدرسية وفتحت الأبواب أمام المبادرات التربوية والمواهب المختلفة، لم تقض فقط على ظاهرة التسرب بل استطاعت أن تحصل على نتائج تربوية غير متوقعة .
إن من أهم النتائج التي توصل إليها علم النفس الحديث إن القدرات العقلية التي يتمتع بها الإنسان السوي لا حد لها ؛ على إنها تحتاج إلى البيئة التربوية التي تكون في مستوى ثقافي يبرر المواهب ويلهم العبقرية ويشجع على أن تساهم في تطور الفكر والعلم والتكنولوجيا، وذلك ما يجعلها تساهم بصفة أكثر فعالية ونجاعة في الرقي الحضاري الشامل .
فالدراسة الدقيقة للوضع التربوي للمنظومة سواء من الناحية النظرية أم العملية تصبح شرطاً من شروط الوعي والغائية الإصلاحية التربوية الضمان التطور السليم باستمرار، فبدونها لا يستطيع المصلح أن يعرف ما يجب تغييره وما يجب الإبقاء عليه، وعلى الجملة فإن التقنيات البيداغوجية ووسائلها والعلوم والتكنولوجيا انتاج للعبقرية البشرية المشتركة بين سائر الأمم دون تمييز أو فروق، ومن يدعي غير ذلك لا يستطيع أن يكذب التاريخ إذ لم توجد حضارة
الصفحة68
في التاريخ بدأت من الصفر. بل كل واحدة انطلقت من حيث انتهت سابقتها .فإن كان للأواخر حظ المواصلة في تقرير الأصول وتطوير الفنون وتوسيع آفاق المعرفة على اختلاف ميادينها، فإن للأوائل على الأواخر فضل السبق وشرف البدء : فتاريخ الفكر لا شك يذكر لكل أمة فضلها، ويسجل لكل جيل جهوده، وما تميزت به عبقرية الإنسان في كل عصر ومصر .
على أن بعض المؤرخين بدافع العنصرية ينكرون جهود بعض الأمم المساهمة في البناء الحضاري الإنساني : فلا يعترفون بما أنتجته أمة من الأمم، كنكران بعض مؤرخي الفلسفة والعلوم والتربية لما بذلته الأمة الإسلامية وما نبغ فيها من علماء وعباقرة نابهين ومجتهدين في كل ميادين المعرفة : لولاها ما عرفت الحضارة الحالية هذا التطور، مع العلم أن إنكارهم هذا لا يستطيع أن يغير من الحقيقة التاريخية شيئاً، فهذا انتاجهم وهذه آثارهم في من جاء بعدهم من مفكرين وعلماء ستبقى حجة على المنكرين ودليلاً على المزيفين لتاريخ الفكر والعلوم والفنون، ولئن خدعوا أنفسهم فلن يخدعوا التاريخ . يقول شوقي :إخدع الأحياء ما شئت فلن تجد التاريخ في المنخدعين فبدافع التعصب يدعي البعض أن شعوباً أذكى من شعوب وإن العبقرية الفذة فهي للإنسان الأوروبي دون غيره، فهذا ادعاء لا دليل له فما أتى به علم النفس وما جاء في تاريخ الحضارات لا يترك لهذا القول أي سند يذكر أو دليل مقنع. إن تفاوت الناس بحكم الفروق الفردية من أنواع الذكاء ودرجاته حسب الشروط البيولوجية والبيئية لا علاقة له باللون أو العنصر أو الجنس. فإن ما وهبه الله للإنسان في كل جنس وكل جيل من استعدادت وقدرات ومواهب تفوق الحصر وتتجاوز حدود إمكانيات التربية، ومهما حاولت هذه الأخيرة أن ترقى إلى مستوى تنوع هذه القدرات والمواهب لا تستطيع . ولهذا فإذا كان هناك قصور في مستوى تحصيل للمتعلمين فإن ذلك ليس أبداً نقصاً في الفطرة وإنما هي نقص في العناية والرعاية والتربية والتكوين؛ فالتربية مدعوة إلى أن تسمو إلى العدالة، وأن تنشد الخير للجميع دون ميز أو فرق أو تعصب، فتتخذ الحكمة ضالتها والهدي دليلها والحق والحقيقة غاية لها .
الصفحة69
ونظراً لتزايد تعقد الحضارة ونمو مطالبها وخاصة حاجتها إلى أرقى المواهب والخبرات، فإن الإنسانية أحوج ما تكون إلى أجود تربية للموهوبين والعبقريات التي لا تخلو منها فطرة بشرية سليمة في كل أمة، بقطع النظر عن اللون أو العنصر أو الجنس أو الطبقة، بالإضافة إلى لزوم العناية بالعاديين حتى لا تكون العناية بفئة على حساب الأخرى حسب مقتضيات العدالة كما أسلفنا، دون أن ننسى المتخلفين أولى صعوبات التحصيل والمعوقين .
ولعل ظهور مؤسسات تربوية عالمية كاليونيسكو والإسسكو، دليل قاطع على النضج التربوي والوعي الإنساني اللذين بفضلهما يمكن القضاء على النزعة العنصرية العرقية، وظاهرة الحرمان التربوي المجحف الذي لا يزال يسيطر على عالم العنصرية والاستعمار.
إن الحرية حق لكل إنسان، وواجب على كل أمة من الأمم، بل هي حق إنساني يتجاوز كل الاعتبارات العرفية والعنصرية . ...
فتبادل الخبرات التقنية والعلمية والوسائل التكنولوجية، لمن علامات النضح الثقافي والحضاري والوعي التربوي الإنساني، ولكن في حدود ما يمكن أن يكون فيه التبادل بين الأمم والخبرات دون أن يكون متبوعاً بعقدة النقص، والميل إلى التقليد والاتكالية أو عقدة الاستعلاء، لأن الإعجاب بالآخرين قد تنشأ عنه عقدة الشعور بالنقص، كما أن الإعجاب بالنفس يتولد عنه الغرور، وكلاهما آفة للعلم .
وفي الجملة أن تداخل شؤون الثقافة والحضارة يجعل المصلح الاجتماعي والتربوي مضطراً إلى مراعاة كل العلاقات والأبعاد التي لها ارتباط بالعملية الإصلاحية، وهو يعد الخطة الإصلاحية. ومن ثمة فلا بد من تحديد أهم العوامل وضبطها في مرحلة الإعداد، مما يجعل تبنيها من طرف الأمة أيسر وأقرب .
جـ ــ مرحلة التبني :
فإذا كانت المراحل الإجرائية للعملية الإصلاحية عادلة، يطلب أن تعقب ۷۰
الصفحة70
مرحلة الإعداد للمشروع مرحلة أخرى تفرضها طبيعة العدالة الاجتماعية بمعناها الشامل، ويعتبر الأستاذ هو لمس هذه المرحلة من المراحل الهامة التي لا يتوقف عليها مصير الخطة الإصلاحية فحسب، بل يتوقف عليها أيضاً مصير التربية برمتها .
إن عرض المشروع الإصلاحي على الأمة على اختلاف فئاتها حق من حقوقها، وفرصة ثمينة لجلب انتباهها إلى مختلف القضايا التربوية التي يرتبط بها مصيرها، وعليها تبني آمالها، وتحقق ازدهارها ورقيها، فمن حق كل مواطن أن يناقش بكل حرية كل بنود المشروع، وأن يقترح ما يبدو له أنه الأصلح والأصوب والأفيد. بالإضافة إلى جعل الأوضاع التربوية موضع إعادة النظر وإخضاعها للملاحظة والنقد والدراسة والتقويم وعرض الحلول وإفساح المجال إلى انتقائها واصطفائها على بصيرة من الأمر، وقياسها واختيارها على ضوء المعطيات التاريخية، فلا تكن غريبة عنه وبعيدة عنه، ثم يهيء المناخ الاجتماعي والثقافي والظروف الاقتصادية والسياسية المناسبة : زد على ذلك أن عرض الخطة الإصلاحية على الأمة، يساعد على تحفيزها وإعدادها للعمل بها عن طريق مشاركتها في المناقشة في مرحلة التبني ؛ فتبدي رأيها من جهة وتقتنع بمبررات الإصلاح التربوي فتتبناها عن رغب لا يشوبه رهب.
ومن ثمة فإن عرض المشروع على الأمة ضرورة تشريعية منهجية إجرائية تستلزمها طبيعة العدالة الاجتماعية، كما تستلزمها خاجة الخطة الإصلاحية إلى مساهمة الأمة في تحقيقها، وهذا الغرض يطلب توفير الشروط التالية :
أ ـ حق الأمة في اختيار البديل التربوي لتشعر بمسؤوليتها نحو الخطة الإصلاحية المعروضة، ويمارس حقوقها في تقرير مصيرها بنفسها كنتيجة من نتائج حريتها وبعد من أبعادها .
ب ـ إعداد الأمة للمساهمة في مرحلة التطبيق، ورفع وعيها التربوي كأهم عامل من عوامل الإصلاح التربوي .
ج ـ اعتبار العدالة الاجتماعية حقاً من حقوق الأمة، ومبدأ من المبادىء
الصفحة71
الأساسية للخطة الإصلاحية تذوب أمامه كل الفروق، ويعمل على تحقيق التكامل الاجتماعي. يقول رسول الله ﷺ : الناس سواسية كأسنان المشط».
د ـ إلقاء الأضواء على السلبيات والإيجابيات التي تشكل الحياة التربوية بما في ذلك المؤسسات والمنظومة التربوية برمتها .
هـ ـ نقد المفاهيم التربوية والمناهج والطرق والسياسة التربوية بأجمعها والإحاطة بكل ما له علاقة بالتربية والثقافة، مع العناية التامة بمختلف المسائل التربوية والوعي اللازم، واتباع الخطة الإصلاحية للواقع ولجميع المعطيات الموضوعية التاريخية واختيارها قصد تكييفها بقدر ما يحقق للخطة من النجاح في مرحلة التطبيق .
فإذا تحققت هذه الشروط في مختلف المراحل وبعرض الموضوع على الأمة بحرية وجدية فإن مرحلة التطبيق سوف لا تكون صعبة. ومما يساعد على سير الأمور سيرها الطبيعي كلما أخذت مرحلة الإعداد والتبني ما تستحقه كل مرحلة من العناية والجدية والشرعية والمنهجية، على أن طرق التبني كثيراً ما تختلف باختلاف النظم السياسية، ولذلك فإنه لا داعي لتحديدها .
الصفحة72
السياسة التربوية في العالم الإسلامي وبعض النظم الغربية
لقد ذهب ذلك العهد الذي كانت فيه التربية لاتهم إلا الأسرة والقرية أو المسجد ... لأن الحضارة الحديثة أثقلت كاهل الأسرة بمشكلات استغرقت كل اهتماماتها واستنفذت جل طاقاتها وملأت كل أوقاتها كمشكلة الكسب والسكن وسائرك متطلبات الحياة التي ما فتئت تزداد تعقيداً على مر الزمن؛ من هذه الأمور وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره كالهجرة والطلاق والبطالة وانتشار الأمية، وما نشأ عنها من فقر وجهل ومرض بالإضافة إلى غياب التكافل الاجتماعي ؛ وهو ما جعل الأسرة تعجز عن القيام بمهمة التربية التي كانت من أهم مهامها .
على أن اهتمام الدولة صار يتزايد مع زيادة شعورها بالحاجة إلى فنيين ورجال السياسة والإدارة والريادة والقيادة . لتحريك الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وتطوير الحضارة وتكوين رجال الجيش «حماة الحمى. فهذه الحاجات جعلت الدولة مضطرة إلى أن تتخذ ليساستها منهجاً يتفق مع مبادئها الأساسية كالعدالة الاجتماعية وما تقتضيه من ضمان تكافؤ الفرص وتكوين النخبة، وما تحتاج إليه من عناية خاصة في كل مراحل التعليم وتسيير التربية وتمويلها وإصلاح نظمها وتحديد أهدافها وتكييف محتواها ومادتها وطرقها وسائر وسائلها وإعداد المعلمين لمختلف مراحل التعليم والخبراء والمسيرين الإداريين ... وإنشاء المؤسسات التربوية لطفولة ما قبل المرحلة الابتدائية والمدارس والتكميليات والمعاهد الثانوية والجامعات والمعاهد العليا لما بعد الجامعة. وللبحوث في مختلف مجالات المعرفة والتكنولوجيا .
الصفحة73
لعل هذا ما جعل السياسة التربوية من أحدث ميادين التربية وأهمها. أما المهتمون بها فكثيرون يتسع نطاقهم مع اتساع العلوم الإنسانية وتداخلها، على أن التربية المقارنة صارت هي أهم العلوم التي تهتم بسياسة التربية، ثم يأتي بعدها علم الاجتماع السياسي وعلوم السياسة والاقتصاد . . . ..
والسياسة التربوية كالخطة الإنمائية والإصلاحية والاجتماعية تنصب على الحاضر مضيفة إليه الأبعاد المستقبلية التي تمثل الغد الأفضل الذي تطمح الأمة لتحقيقه، ومن ثمة فهي نظرة مستقبلية استبصارية واضحة المعالم تقوم على البصيرة النافذة، والإرادة الخيرة الحرة، والنية الخالصة، والحكمة البالغة، والخبرة الراقية لتكون في مستوى متطلبات تنشئة الإنسان وفق سائر مميزاته الشخصية الفردية والاجتماعية والحضارية وحاجات العصر العلمية والتكنولوجية والفنية . ليكون الجيل متفوقاً على أنداده من أجيال الأمم ومتميزاً، وليكون في مستوى المهام الجسام التي تنتظره في السلم والحرب، وفي كل الظروف .
وأخيراً لا بد من تجنّب أجيال الأمة الوقوع في المأزق التي مر بها سلفه كالتخلف والتبعية والتقليد والولوع بالغالب ... ليصبح ما تعانيه الأمة من هذه الأمور في حاضرها قضية جيل تنتهي معه ولا تتعداه إلى ما بعده من أجيال.
على أن هذه الأمور لا تتأتى إلا إذا كانت سلطة العلم فوق سلطة العاطفة . وسلطة الشرع فوقهما أي عندما تكون السياسة تخضع للشرع والعلم الضمان المصلحة العامة وما وضعت الشرائع وما اخترعت العلوم إلا لذلك. فالسياسة التربوية مدعوة إلى التقيد بالشرع والعلم وسائر متطلبات مصالح الأمة للنهوض والرقي والازدهار ؛ ومعنى هذا أن مسؤولية العلماء من الأمة تتجاوز الاعتبارات السياسية العابرة، ففي هذه الحال تكون السياسة التربوية هي التي تفرض نفسها على السياسة العامة. أما إذا كان العكس وطغت السياسة العامة على السياسة التربوية فتصبح هذه الأخيرة لا تتحدد إلا في ضوء أغراض السياسة العامة واتجاهها فتلتزم حدودها وميادينها مع العلم أن السياسة العامة آنية، متغيرة، وتهتم أول ما تهتم بالحاضر الذي هو تحت سيطرتها ومسؤوليتها
الصفحة74
وصلاحيتها المحدودة، أما السياسة التربوية فهي المستقبل الذي هو في الحقيقة من حق الأبناء والأحفاد وحدهم، ولذلك فهي نظرة مستقبلية ترتكز على ما سوف يأتي من مطالب الجيل لإعداده لزمانه والمهامه التاريخية التي تنتظره دون عقدة ضعف أو تخلف أو وهن .
وكلما نضجت هذه الفكرة المستقبلية للسياسة التربوية قويت عند الأمة إرادة المستقبل، وأخذ هذا الأخير أولويته على الحاضر، وتضاءلت الحاجات الآنية في عينيها واختارت سياسة التقشف كطريقة أو سياسة للتحكم في الحاجات العاجلة من أجل توفير طاقات الأمة وإمكاناتها لحاجات الأجيال المقبلة الآجلة، وبذلك تصبح السياسة العامة في خدمة السياسة التربوية، لأنه لا مستقبل لأمة لا تعتبر قضية إعداد الأجيال إعداداً يؤهلهم لما يستقبلهم من الزمن أهم قضية تواجهها في الحاضر على الجملة. فالأمة التي تعيش ليومها لا مستقبل لها. إن الأمة التي تجهل كل همها تجعل ليومها وإن كان على حساب غدها أمة حكمت على نفسها بالشقاء والتخلف والانهيار الحضاري .... فتكون بذلك قد أوصدت أبواب الخير والازدهار والسعادة في وجه أبنائها. أن طريق العلم والهدى هو وحده طريق الاستمرار والفوز والنجاة في الدارين وطريق الجهل والجاهلية طريق مسدود لا يؤدي إلا للخيبة والفشل والاضمحلال. إن الأمة التي تشتري يومها بغدها أمة منتهية لا أمل لها في المستقبل تسير أمورها من سيء إلى أسوأ ويصير ما تستدبره خيراً مما تستقبله .
بينما تجعل هذه همها في الحاضر تكون أمة أخرى قد جعلت همها في المستقبل وسخرت سياستها العامة في خدمة سياستها التربوية الخاصة وجندت كل ما تملكه من إمكانات مادية وبشرية لتحقيق الغد الأفضل تتحسن أمورها تدريجياً يوماً بعد يوم وتتطور مؤسساتها في كل حين وتنمو إمكاناتها الحضارية باستمرار ... عاملة على تنفيذ خطتها الإصلاحية بحزم ودقة وانتظام وأخذت تسير بخطوات نحو المستقبل وهي كلها ثقة وإيمان : «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .
فما أعقد أمور الإنسان وما أهمها في بناء حضاري وإصلاح اجتماعي
الصفحة75
وإيقاظ نهضة فالإنسان هو باني الحضارة ومنشيء النهضة ومشيد الاقتصاد. على أنه في كل ذلك مرتبط بنوعية التربية التي يتلقاها في كل مراحل نمو شخصيته. فبقدر ما استطاعت هذه الأخيرة إلهام مواهبه الفردية وقدراته وخبراته وتشجيع عبقريته على الإبداع واكتشاف أسرار الأكوان والقرآن الكريم تزدهر الثقافة والحضارة وينمو العمران .
ولما صارت التربية من أهم مهام الدولة ومن متطلبات أداء هذه المسؤولية الثقيلة جودة التسيير والتمويل والتوجيه والمراقبة . وهذه مهام كلها تحتاج إلى بنيات إدارية وتربوية . فإما أن تخضع لسلطة مركزية مطلقة أو محلية مطلقة أم هما معاً، ولهذا السبب اختلفت النظم التربوية في هذا الحال وعانت أغلب النظم من هذه المشكلة ولأهميتها نتعرض لها بشيء من الإيجاز.
الصفحة76
المركزية واللامركزية
للتربية تشريع حددت قوانينه ومواده ومبادئه في ضوء المصلحة العامة ومجموعة المبادىء لتحديد العلاقات الإدارية والتربوية ومختلف المسؤوليات وتنظيم وضبط المستوى التحصيلي لكل رتبة تعليمية في كل مرحلة من مراحل التعليم الرسمي، فمنذ تدخل الدولة في شؤون التعليم صار لا بد لكل نظام تربوي من أسس تشريعية في غاية من الدقة والتحديد لضمان السير المحكم، والتسيير المنظم القائم على العدل والإنصاف والتقويم الموضوعي للخبرات، والترتيب التصاعدي للمهام والوظائف.
وحسب هذه تختلف النظم التربوية في كثير من الأمور منها أنه في حين تكون بعض النظم التربوية مركزية كما هو الشأن بالنسبة للنظام الفرنسي منذ عهد نابوليون تكون أخرى ممعنة في اللامركزية تعتمد على السلطة المحلية أو غيرها كما هو الشأن في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية .
إلا أنه في الأصل كانت السلطة المحلية التربوية سابقة للسلطة المركزية وكانت النظم التربوية في أغلبها لا مركزية النشأة وما تحولت إلى المركزية إلا بعد تحولات كبرى حدثت المجتمعاتها ونتيجة لتغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية؛ فعندما كانت التربية تحت إشراف الأسرة أو المسجد في البلاد الإسلامية أو الكنيسة في المجتمعات النصرانية كانت السلطة المحلية التي تشرف على نظام الأحباس هي المسؤولة وعلى رأسها علماء الأمة .
فأهم المراكز التربوية كانت تتمثل في المراكز الدينية وكانت التربية ذاتها مرتبطة بالدين وكان هذا الأخير هو أهم غاياتها وأغراضها، على أن العناية بعلوم الدنيا لم تكن قليلة في أغلب الجوامع في مختلف عهود التاريخ الإسلامي .
الصفحة77
ولما ظهرت الدولة كأكبر تشكيلة ، أو جهاز سياسي فرضته طبيعة تطور الأمم وتعقد المهام الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية من جهة وتطور الحضارة وتشعب شروطها من جهة أخرى ظهرت الحاجة إلى سلطة مركزية تستجيب للمهام الكبرى التي لا تستطيع أي سلطة محلية تغطيتها مهما كانت عليه من الثروة المادية والسلطة الإدارية، على أن تدخل الدولة في شؤون التربية قد أثار عدة قضايا وتخوفات على الحريات الأساسية للأمة. لقد كان من نتائج تدخل الدولة هذا أخذ مسؤولية الإشراف والتسيير والتوجيه وربط هذه المهام بالسياسة وهو ما يثير لا شك مشكلات لا حصر لها وينشىء تناقضات لا يتسع المقال لذكرها .
ففي عهد نابليون بونابارت لأول مرة عهد للسلطة المركزية تسيير شؤون التربية في فرنسا ثم سايرتها دول كثيرة بعد ذلك وتبنت المركزية كسلطة تربوية منها تذكر روسيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وتركيا . . . لكن هناك دول أخرى أنشأت سلطة مركزية وخصصت للتربية وزارة أو عدة وزارات، فإنها أبقت على السلطة المحلية، ولم تمعن في تدخلها في شؤون التربية إمعان الدولة المركزية من هذه الدول بريطانيا وأمريكا الشمالية .
ولا عطاء فكرة واضحة على النموذجيين نرى لزاماً علينا عرض النموذج البريطاني كعينة للنظم التربوية اللامركزية في حين نقدم النموذج الفرنسي كعينة للنظام التربوي المركزي ثم النموذج الإسلامي الذي له خصائصه المميزة قصد إدراك الفروق التي لا يمكن إغفالها .
الصفحة78
مركزية النظام الفرنسي التربوي
في العاشر من ماي 1906 أنشأ «نابليون» نوعاً من هيئة إحتكارية إدارية تحت اسم : «الجامعة الأمبراطورية».
فمنذ ذلك العهد طبعت المركزية النظام التربوي الفرنسي بطابعها وصار لا يمكن لأي مؤسسة تربوية أن تظهر إلى الوجود إلا بإذن من الجامعة المذكورة .ولا أحد يستطيع أن يزاول التدريس ما لم يكن ممنوح الإجازة فعلى رأس كل ناحية عينت أكاديمية تحكم على المؤسسات التربوية، وكل أكاديمية يسيرها سلك تفتيشي أكاديمي، وقبل الجمهورية كانت السلطة التربوية مكونة من مجلسين، ففي حين كان الأول يشرف على التعليم العام ويشرف الثاني على التعليم التقني .
أما في الجمهورية الرابعة فقد جمع المجلس في مجلس «التربية الوطنية» وأما مهمته فكانت استشارية محضة. لكن القضايا التربوية حول هذا الأخير حق المشاركة الاستشارية لمجلس التعليم الابتدائي والثانوي والعالي والعمومي .
فمنذ أن تحول المجلس الملكي التربوي إلى المجلس الأعلى للتربية الرسمية في الخامس عشر من ماي ١٨٥٠ عند ثورة ١٨٤٨ أخذ هذا الأخير الشكل الملائم للحكم الجمهوري لذلك نجد أرنولد بلانشار» يربط بين استقلالية الجامعة ومشكلة السلطة والنفوذ. فالإصلاح الأخير الذي حدث عام ١٩٦٤ ينهي التجربة التاريخية للمجلس. وادخلت عناصر جديدة من خارج الجامعة من الإداريين والمعلمين وممثلي أهالي التلاميذ ونقابة المعلمين بصفتهم معنيين بكل قضايا التربية. ولكي يضم المجلس كل هؤلاء الأعضاء أخذ شكله الثلاثي، فلمجموع أعضائه الذين عددهم ۷۷ أو ۸۳ في مجموعات ثلاثة وكل
الصفحة79
مجموعة تتألف من 25 عضواً ففي الوقت الذي تختص فيه المجموعة الأولى بالتسيير الإداري من حيث هي تشتمل على عضوين على الأقل ممن لهم خبرة في التدريس شكلت الثانية من اثني عشر عضواً يمثل مختلف المصالح الإدارية للقضايا التربوية بالإضافة إلى الآخرين الذين يمثلون كفاءات مختلفة ولهم ارتباط بالنشاط التربوي . أما المجموعة الثالثة فتتكون من أعضاء تنتخبهم المجالس الابتدائية والثانوية والعليا. فشارلز فرانكل و آرمون بلانشاري، وهالزم وففريزار، وآخرون يرون أن السلطة المركزية صارت ضرورية تمليها الحاجة إلى التنسيق والتنظيم والانسجام، فهذه وغيرها كانت حاجات ضرورية للسياسة التربوية الفرنسية. ويعتبرونها مبدئياً من الحاجات الجماعية، لذلك يرون أن المركزية في فرنسا مزيلة لأي سلطة محلية جهوية ويجملون مقاصد مركزية النظام الفرنسي التربوي في الأمور التالية :
مساعدة الدولة على ضمان الاتساق داخل المنظومة التربوية وضمان وحدة قياس المحتوى التربوي لكل مستوى تعليمي وتحديد نظام الامتحانات في المستويات المختلف الإيجازات والشهادات ومستوى التحصيل، فتكون قيمها التربوية محددة يتعين من خلالها مستوى التحصيل لكل مرحلة تعليمية .
والجدير بالذكر أن جل المفكرين الفرنسيين يعترفون بأن مركزية النظام التعليمي الفرنسي كان له الأثر الكبير في تطوير التربية وضمان الانسجام على مستوى كل المراحل التعليمية والتخطيط من أجل تحديد حاجات التربية إلى التمويل حسب إمكانات اقتصاد البلاد من جهة والحاجات التربوية والاجتماعية من جهة أخرى.
على أن هؤلاء لا ينكرون الآثار السيئة للبروكراسية التي صار يعاني منها النظام التربوي الفرنسي نتيجة للمركزية وعلى الرغم من المجهودات الجبارة المبذولة من أجل تسهيل سير الأمور بشكل طبيعي ملائم، كما يعترف هؤلاء أن المركزية شكلت عائقاً خطيراً أمام روح المبادرة التي كان يتمتع بها النظام التربوي الفرنسي من قبل، ومن أجل ذلك فهم لا ينكرون أن حلّ هذه المشكلات وغيرها لا تكون إلا في اللامركزية .
الصفحة 80
نستنتج مما تقدم أن النظام التربوي الفرنسي قد انتهى إلى الشعور بضرورة الإصلاح الجذري للتخلص من المشكلات الناجمة عن المركزية فإنه لا بد من اللامركزية وللتغلب على البروقراطية ولإفساح المجال لروح المبادرة وتحقيق الحرية الأكاديمية فإنه لا بد من إعادة النظر في السياسة المركزية .
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 81 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
الصفحة81
لامركزية النظام البريطاني
إن الأسرة والمعلم هما اللذان يشكلان السلطة التربوية التقليدية ثم الكنيسة والسلطة المحلية. ففي البيئة تسيطر عليها فلسفة: دعه يفعل لا يليقبها إلا نموذج السلطة المحلية لأن أغلب الحاجات التربوية كانت تستجيب . السلطة المحلية وكانت في نظر المجتمع الانجليزي المحافظ مبادىء أساسية لا غنى عنها بالمرة. إن روح المبادرة هي التي كان لها الفضل في ازدهار التربية البريطانية وتطورها إلى اليوم. وكذلك الحرية الأكاديمية التي تتمتع بها معظم الجامعات .
على أن التمويل المحلي صار غير كاف بعد النمو العمراني الذي عرفته بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد البدء بالعمل بديمقراطية التعليم الثانوي وعلى وجه الخصوص النواحي الفقيرة من الجزيرة .
في هذا الصدد اعترف مربون كثيرون من الإنجليز بعجز السلطة المحلية في مواجهة مشكلات الإدارة التربوية وما تحتاج إليه من تقنيين مختصين من أولي الخبرة الإدارية التربوية ومسيرين كما اعترفوا أيضاً بعجزها عن التمويل الكافي للحاجات التربوية المتزايدة من هؤلاء نذكر - (ع. فيزي وليستر سميث - وغيرهما فهؤلاء يعتقدون أن ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تسمح بقدرة السلطة المحلية على تسيير التربية دون مساعدة السلطة المركزية وأوضح
«فيزي».
أن السلطة المحلية تعاني عجزاً خطيراً من الناحية المالية كما أنها تفتقر إلى الإشراف الإداري الكفء، لكنه يعترف من ناحية أخرى أن السلطة المحلية
الصفحة82
التربوية نجحت إلى حد بعيد في إعطاء النظام التربوي ثروة في التنوع والاختلاف الأمر الذي ساعد على مواجهة مطالب الحياة المتنوعة. غير أنه سلم بتناقضات الوضع التقليدي حيث إنه كلما كانت السلطة المحلية التربوية في حاجة إلى المزيد من التمويل كانت هذه الأخيرة في حاجة أيضاً متزايدة إلى الرقابة المالية والإشراف المباشر. فالمالية التربوية تزيد بزيادة الإنفاق ومن ثمة فتدخل الحكومة كسلطة مركزية صار أمراً لا مفر منه وخاصة بعد قرار 1944 القاضي بديمقراطية التعليم الثانوي ومجانيته .
أما «ليستر سميث، فيرى أن السلطة المركزية مقبولة وهو في هذا يبدي تحفظاً يعكس طبيعة الإنجليز وميلهم للمحافظة وهم أخوف ما يكونون على المساس بالحرية الأكاديمية التي يقدسونها ولذلك يحدّد مستوى تدخل السلطة المركزية في أمور التربية ويرى أن هذا التدخل يجري دوماً على حساب الحرية التربوية وإذا كان الإنجليز لا يقبلون لأي سلطة مهما كانت أن تمس بالحرية الأكاديمية فإن ليستر سميث هو الآخر يخشى أيضاً أن ينشأ عن تدخل السلطة المركزية تقوقع الأغراض التربوية في دائرة سياسة الدولة الآنية فتصبح التربية تخدم النظام السياسي كما كان الحال في ألمانيا النازية وروسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية. ففي هذه النظم تصير السياسة التربوية خاضعة لسياسة الدولة الحاكمة. ومن النتائج السيئة للمركزية في رأي ليستر سميث البيروقراطية والتوزيع السيء لكنه يسلم بأنه على المدى البعيد سيؤول الأمر إلى مركزية التربية بعد سلسلة من الإصلاحات، لذلك يرى أنه يستحسن التوفيق بين السلطتين المركزية واللامركزية وضرورة تنسيق الأمور على مستوى الخطة التربوية على النطاق الوطني فيقول: أن التخطيط التربوي مبدأ مقبول من طرف الدولة من حيث هو مخطط رئيسي لكن تدخل الدولة لا يجوز أن يكون على الشكل الاستبدادي وإنما تتدخل كالأخ الأكبر مع مجموعة المعنيين بأمر التربية لا لأنه يحق للدولة أن تستبد بطرق الحياة (1) .
(1)
Padley Robin the comprehensive school.
الصفحة83
ومهما يكن فإن العلاقة بين السلطتين المركزية والمحلية ما تزال غامضة غيرأن تزايد الإنفاق التربوي مصحوب دوماً بتزايد الحاجة إلى المساعدة المركزية وهذا ما جعل عملية التغير في صالح السلطة المركزية على حساب السلطة المحلية .
والجدير بالذكر أن أغراض التربية وأهدافها في بريطانيا تشمل المقاصد الوطنية والمحلية دون تعارض كما تتفق السلطتان على ضرورة حاجات الطفولة للرعاية والعناية .
فظهرت المركزية في بريطانيا بمفهوم التنسيق والتخطيط وجودة التوزيع وعدالته بواسطة البرلمان مفسرة ومطبقة من طرف الحكومة بمشاركة السلطة
المحلية. لكن تفسير القرار يؤدي في الغالب إلى مخاطر لأن ترجمة المبدأ بالمعنى الأدبي وتفسيره قد يؤدي إلى غير ما كان قد وضع من أجله في حالة التطبيق .
كل هذه المسائل طرحت في النقاش الدائر حول العلاقة بين السلطة المركزية والمحلية إلى أن استقر الأمر في النهاية على الإبقاء على السلطتين المركزية والمحلية والعمل على تعايشهما في النظام التربوي الإنجليزي. ومن ثمة فالنظام البريطاني لا هو بالمركزي البحث كما هو الشأن في فرنسا ولا هو محلي لا مركزي تماماً كما كان النظام البريطاني القديم قبل الإصلاح.
ومن أهم الأسباب التي جعلت الإنجليز يحتفظون بالسلطة المحلية، وأن يدبروا لهم أمر تدخل السلطة المركزية ضرورياً هي المحافظة على الحرية الأكاديمية وروح المبادرة والتنوع التربوي ... وحتى تبقى التربية تخضع لإرادة الأمة فلا تتغير بتغيير الحكومات وسياستها .
ففي ضوء الخبرتين الفرنسية والإنجليزية في موضوع مركزية النظام التربوي واللامركزية تبين أن المركزية الصرفة كما كان الشأن في فرنسا وروسيا وألمانيا في عهد هتلر وإيطاليا في أيام موسليني تنجم عنها عواقب منها القضاء على حرية التربية والحد من حرية العلماء والمربين والمصلحين وكل من يهمهم أمر التربية بالإضافة إلى تضييق الخناق أمام روح المبادرة وما ينشأ عنها من تنوع
الصفحة84
ثقافي ضروري لازدهار النهضة الثقافية والحضارية وظهور البروكراسية الممعنة في الروتين الإداري المعرقل للحركة التربوية النشيطة، بينما تبدو أيضاً السلطة المحلية وحدها عاجزة على مواجهة مشكلات التمويل والتوجيه والإشراف والتسيير الإداري المحكم....
بينما تشجع اللامركزية روح المبادرة وتيسر الأعمال الإدارية وتقضي على الروتين البيروقراطي الذي يشكل أخطر العوائق أمام السير الطبيعي للأمور التربوية وتساعد على التنوع الذي يعد من أهم شروط الازدهار الحضاري، تعتبر المركزية هي الأخرى حلا لمشكلات كبرى كالتمويل والإشراف المباشر والتسيير المحكم.
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 85 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
الصفحة85
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 86 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
الصفحة86
النظام الإسلامي التربوي
أما بالنسبة إلى النظام الإسلامي، فكان قبل الاحتلال أكثر النظم التربوية تحرراً واستقلالاً بفضل نظام الأحباس»، لذلك فإن قضية التمويل التي كانت أهم مبررات المركزية لم تطرح بالمرة على الساحة التربوية في العالم الإسلامي، لقد كانت المساجد والجوامع والزوايا والكتاتيب والمستشفيات.. تمول من الأموال (۱) التي حبست لذلك الغرض. يفضل هذا النظام الفريد من نوعه كانت السلطة التربوية محلية تحت رعاية العلماء وإدارة محلية خصصت لتسيير الأرزاق المحبسة .
فبفضل نظام الأحباس هذا كانت السلطة التربوية محلية ومستقلة وكانت تحت رعاية العلماء والإدارة المخصصة لتسيير الأرزاق المحبسة من أراضي خصبة ومزارع غنية ومتاجر وحمامات . وإذا أراد الخليفة أو الأمير أن يشارك في ذلك فيتبرع من حر ماله لوجه الله لا يريد بذلك أي نوع من السلطة لقد ساهم الأمويون في بناء جامع دمشق وبنى الفاطميون الأزهر والمرابطون الجامع الكبير في الجزائر العاصمة. فمنذ عهد المأمون صار الأمراء والخلفاء، وكبار الأغنياء يتنافسون على مساندة المؤسسات التربوية بالأوقاف التي يوقفونها على المدارس والمعاهد والجوامع ... لقد أشاد بهذه الجهود مؤرخون وعلماء كثيرون، نذكر من نقلا عن «شلبي»، قول ابن جبير وتكثر الأوقاف على طلاب العلم في البلاد الشرقية كلها وبخاصة دمشق فمن شاء الفلاح من نشيء مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، فيجد الأمور المعينات كثيرة وأولها: فراغ البال من أمر
الهوامش
(1) أحمد شلبي ، تاريخ التربية الإسلامية ، مكتبة النهضة المصرية 1966 م ص 365 .
الصفحة87
المعيشة، إذ لا يتفرغ طلاب العلم إلا إذا ضمنت لهم معيشتهم، فبفضل الأوقاف لم تطرح إطلاقاً مشكلة التمويل التربوي كما لم تظهر الحاجة إلى سلطة مركزية تفرضها حاجات المنظومة التربوية إلى التسيير والتمويل والتوجيه ... كما حدث ذلك في المجتمعات الحديثة الغربية والشرقية .
لهذه الأسباب كانت المنظومة التربوية في كل أنحاء العالم الإسلامي تقوم على أساس حرية التربية، التي كانت تتبلور في مكانة العلماء من الأمة، كما ساعد نظام الأحباس على ضمان حرية العلماء واستقلالية التربية إلى درجة لم
تعرفها مؤسسة تربوية ولا منظومة في العالم القديم ولا الحديث. وإذا قدر للأوقاف عجز في بلد ما يجد نظام الزكاة مؤازراً له، فبيت مال المسلمين تدر على كل المشاريع التي من شأنها خدمة الصالح العام كالمؤسسات التربوية . والمستشفيات ودور الرعاية ....
ومن ثمة السياسة التربوية الإسلامية كانت لا مركزية في جملتها الأمر الذي ساعد على ظهور تنوّع في مناهج التعليم فكانت هذه تختلف باختلاف البيئات الاجتماعية والثقافية وغيرهما. وكانت التربية إلى حد بعيد تتكيف. الأوضاع المحلية، غير أن الطابع الإسلامي العام يشمل كل النظم التربوية التي كانت تغطي العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه الأمر الذي جعل التربية في مختلف النواحي أكثر نجاعة وفعالية وثراء كل ذلك بفضل تشجيع روح المبادرة وسواء أكان ذلك في العلوم أم في غيرها. لقد كان للعلماء فضل كبير على تلك النهضة التربوية وكان للامركزية مزايا لا تعد أهمها حرية العلماء ومكانتهم ومساعدتهم على أداء رسالتهم دون أن يتقيدوا بنظام سياسي أو سياسة حاكم. ولأهمية ذلك لا بد من تخصيص فقرة لمكانة العلماء في الأمة كنموذج يزال له اعتباره في التربية المقارنة يمكن في ضوئه حل كثير من المشكلات المستعصية التي تعاني منها كثير من النظم التربوية في البلاد الإسلامية وغيرها .
الصفحة88
مكانة العلماء في النظام التربوي الإسلامي
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العلماء ورثة الأنبياء. فالمتأمل في هذا الحديث يلاحظ أن مكانة العلماء في الأمة الإسلامية ترتفع إلى أرقى ما يمكن أن يصل إليه محظوظ من البشر هي مرتبة الأنبياء.
وإذا كان أول الأنبياء - حسب العقيدة الإسلامية - هو آدم عليه السلام وآخرهم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الرسالة الكاملة الشاملة التي جعلها الله لكل البشر من بعده إلى يوم الدين فإن أولى الناس الذين هم أولى بتحملها بعده ، هم العلماء. فإذا اختار الله سبحانه وتعالى وجعلت حكمته خيار خلقه لرسالته، هم الأنبياء - لما اتصفوا به من الحكمة والعصمة واتباع الحق . اختار ها أيضاً من يكون في مستوى الرسالة من الأمانة والصدق والإيمان والتقى والورع … لورع .... ممن حباهم الله وجعلهم خالصين له الدين عاملين مجاهدين من العلماء العاملين لأن مقتضى استمرارية الرسالة من جهة، وختم سلسلة النبوة بسيدنا محمد من جهة أخرى، أوجب قيام العلماء بالرسالة من بعده وهم أجدر الناس بذلك لأنهم أقذرهم على معرفة الشرع وإقناع الناس بضرورة اتباعه اقتداء بالرسول وخلفائه وصحابته والتابعين نستنتج من ذلك أن الخلافة الحقة لرسول الله هي خلافة العلماء ابتداء من صحابته والتابعين، وللقيام بمهمة الرسالة العظيمة وأداء الوظيفة الصعبة ميزهم الله في كتابه العزيز بميزة الحكمة وسلامة العقل وعدم اتباع الهوى فقال تعالى : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَ مَا يَذَكَرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَب ) (البقرة : (۲۶۸) فالعلماء هم الذين منحهم الله نعمة الحكمة وهي كما عرفها ابن عباس رضي الله عنهما معرفة الشرع. فهذه المواصفات القرآنية
الصفحة89
لنموذج العلماء لها أكثر من دلالة تربوية منها ضرورة الجمع بين العقل والشرع فكلاهما له أهميته في مساعدة العالم للفهم الصحيح للشريعة وغيرها والعمل القويم بها مما يتعلق بأمور الدارين الدنيا والآخرة .
والجدير بالذكر أن العلماء والفقهاء الذين تعرضوا لموضوع العالم والعلماء في الملة كثيرون وكلهم يجمعون على المواصفات التالية :
أ ـ وجوب ربط قيمة العالم المحقق ـ على حد تعبير الشاطبي - بمن أخذ عنهم كأخذ الصحابة رضوان الله أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو النموذج الأكمل للمعلم في الإسلام وصحابته هم النموذج الأمثل للمتعلمين في الأمة ثم يليهم التابعون وتابعوا التابعين إلى يوم الدين .
ب - ضرورة الملازمة والأخذ المباشر عمن صح علمهم وصلح عملهم ولزم الاقتداء بهم كجعفر الصادق والإمام مالك وسائر أئمة الإسلام في كل زمان ومكان رضي الله عنهم أجمعين.
ج - لزوم العمل بما علم كي يطابق فعله قوله إذ لا يؤخذ العلم عندهمعمن تخالف أفعاله أقواله ومما ينصح به الغزالي المتعلم في كتابه بداية الهداية أن يعمل المتعلم ألف مرة بما كان قد تعلمه مرة ليكون في بداية الهداية .
د -ألا يكون قاصداً بتعليمه العلم الدنيا وحدها والوصول إلى المكانة عند الناس والشهرة والسلطان قال تعالى: ﴿ قُلْ أَو نَيْتُكُم بِخَيْرِ مِن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَجُ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَاتٌ مِّنَ اللَّهُ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ ) (آل عمران : 15).
هــ -الا يكثر التردّد على الأمراء والملوك والسلاطين قال حذيفة رضي الله عنه : إياكم ومواقف الفتن»، قيل وما هي ؟، قال: «أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه».
أما سعيد بن المسيب فيقول : إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص». وقال بعض السلف: «إنك لا تصيب من دنياهم أفضل منه .
الصفحة90
ويرى الشاطبي أن طاعة الأمة للعلماء واجبة كطاعة الله ورسوله، فهم أولوا الأمر الذين وجبت طاعتهم بموجب صريح القرآن الكريم. يقول تعالى : و يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) . (النساء : 59) .
فالمتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية يلاحظ منذ العهود الأولى صدارة العلماء في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والدليل على ذلك ملاحظة الدارسين للتاريخ الإسلامي من المستشرقين يذكر أبو القاسم سعد الله منهم ليبايز وهميلتون حبيب ويرى هؤلاء حسب ما أورده سعد الله أن السلطة في الدولة الإسلامية كانت إلى عهد العثمانيين تنقسم إلى قسمين: «قسم الحاكمة وهي السلطان والوزير والجيش والولاة وغيرهم من الإداريين
والعسكريين»، و«النظم الإسلامية التي جعلوا على رأسها العلماء ورجال الدين بصفة عامة. ويرى سعد الله أن مكانة العلماء ودورهم في الدولة الإسلامية لا يستطيع أن يهون من شأنه أحد. لقد كان شيخ الإسلام على حد تعبير سعد الله : في الدولة العثمانية مقدماً على الوزير الأول، وكانت كلمته ضرورية لإعلان الحرب وعقد السلم وقبول أو رفض نظام معين (1).
والحقيقة أن ما زاد العلماء مكانة في الأمة، أنهم كانوا ربانيين مخلصين الله لا يريدون إلا وجهه، حريصين على التمسك بأهداب الدين الحنيف مجدين في إتباع الرسول . كانت الآخرة هي همهم الأكبر عازفين عن الدنيا ومفاتنها لا يتركون للهوى منفذاً سواء أكان في أمر الدين أم الدنيا، جادين في طلب الحق والحقيقة فكانوا علماء في بحوثهم حازمين غاية الحزم في دقة مناهجهم، متشددين في وجوب صحة الخبر والتأكد من صحة الرواية فضبطوا لذلك قواعد في علم الجرح والتعديل، فكانوا محققين في أمور النقل منهجيين في مسائل العقل، صارمين في أحكامهم لا يجدون للشك منفذاً إلا وسدوه باليقين، ولا يعثرون على الزيف إلا وأزاحوه بالصحة والصواب، ولا يلقون ميلاً إلا وأعادوه
الهوامش
(1) أبو القاسم سعد الله ، تاريخ الجزائر الثقافي الشركة الوطنية للتوزيع والنشر، ج 1، ص: 394 .
الصفحة91
إلى العدل والاعتدال، فكانت مناهجهم سليمة، وعلومهم صحيحة، واجتهاداتهم موفقة ... وهذا ما جعل الأمة لا تطمئن إلا لرأيهم، ولا تجد مضاضة في طاعتهم، ولا تتردد في العمل بنصائحهم وتوجيهاتهم، في أغلب أمورها وأهم قضاياها وألم ملماتها وأحلك ظروفها، لذلك كان أمر الدنيا لا يطغى على الآخرة، وكان أمر السياسة خاضعاً للدين وعدله، لا يجرؤ على حماه سلطان قاهر أو ملك جبار، لأن من مقاصد الشريعة صلاح أمور الناس وفلاحهم في الدنيا والآخرة ومن ثمة وجب بمقتضى الشريعة حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء، ومن قام مقامهم وهم الخلفاء، إذ من أهم أغراض الخلافة سياسة الأمة حسب المنهج القرآني والنبوي السني وما تفرع عنها من مصادر التشريع كالإجماع والقياس ... لضمان صلاح الأمة وفلاحها.
من وصايا الرسول و التي كان لها الأثر الكبير عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعين والعلماء المسلمين هي وجوب الاستمساك بالقرآن والسنة. روي عن الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي»، ومن النتائج العظمى لهذه الوصية الحرص على حفظ القرآن الكريم الذي أدّى إلى جمعه في عهد أبي بكر وعمر
وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ثم تدوين السنة بعد ذلك في عهد عمر بن عبدالعزيز، وحفظ الدين الإسلامي الحنيف بالحفاظ على أصليه الأساسيين، وهما الكتاب والسنة، ولما اتسعت رقعة العالم الإسلامي بعد الفتوحات ودخلت الإسلام أمم من العجم وغيرهم وشعر الناس بالحاجة إلى المزيد من الضوابط في علوم الدين والفنون اللغوية لضمان الفهم الصحيح لكل من القرآن والسنة، شمر العلماء على ساعد الجد والاجتهاد فكتب في الأصول الفقهاء الأعلام كالإمام الشافعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وآخرين رضي الله عنهم أجمعين وظهرت علوم القرآن والحديث واللغة العربية.
ولما كانت الشريعة الإسلامية لا تقوم على النقل دون العقل، فكان لهذا الأخير شأنه في كل من أمور الدين والدنيا الأمر الذي ساعد على ظهور فكر
الصفحة92
إسلامي واضحة مفاهيمه، معتدلة أحكامه، متزنة قيمه، عميقة الأغوار حكمته، أبعد ما يكون عن الزيغ والضلال والشطط والتطرف، والميل إلى اهوى سليم منطقه، صحيحة مناهجه، متسعة آفاقه ومتشعبة ميادينه، أصيلا في مجدداً في فروعه متنوعة أغراضه، فجمعت له الدرر الغالية التي تزخر بها حضارته وشيدت بها صروح مدنيته، وكان في كل حقبة من تاريخه ينجب للعالم قماً في العلم والشيم، كالإمام أبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وفخر الدين الرازي وابن سيناء والخوارزمي وابن رشد والشاطبي وابن العربي والخليل بن أحمد وأبي حيان التوحيدي وسيبويه وابن خلدون وغيرهم كثير.
فالمتتبع لتاريخ المجتمعات الإسلامية يجد أهم الإصلاحات التي حدثت في العالم الإسلامي والتي كان لها آثار نهضة أو يقظة هي تلك التي قام بها العلماء، ودعوا إليها، وجندوا أنفسهم من أجل تحقيقها، وكانت من ورائهم الأمة مؤيدة ومؤازرة ومشجعة بكل ما تملك.
وما أن طغى سلطان الهوى على النفوس حتى غلبت العاطفة العقل، وفشى في الناس الفساد ومال الحكام إلى الاستبداد وضعف سلطان العقيدة في القلوب، فوهنت العزائم حتى خارت القوى. عندئذ تزعزعت مكانة الأمة بين الأمم وجرأ الناس الذين كانوا يخافونها وغزوها في عقر دارها، وعلى الرغم من الجهد الجهيد والجهاد الكبير، وقع العالم الإسلامي في قبضة الاستعمار قطراً بعد آخر وقارة بعد أخرى وما إن انتهى الأمر إلى الغزاة بالاحتلال حتى شرعوا في قتل العلماء وتشريد طلاب العلم وهدم المساجد أو تحويلها إلى كنائس، ونهبوا الأموال الطائلة والأراضي الشاسعة التي كانت للأوقاف لتمويل
التعليم المجاني وكفالة السكن والمعيشة . . . لكل طالب للعلم . وما أن حل الاستعمار حتى فرض سلطته المركزية ليتحكم في المنظومة التربوية وفرض سياسته التعليمية. لكن الأمة لم تستسلم لضغطه ولم تخضع لسياسته بل أصرت على بقاء المؤسسات التربوية الإسلامية الحرة سواء أكانت من المساجد والجوامع والزوايا والكتاتيب القرآنية أم المدارس التي أسسها العلماء
الصفحة93
المصلحون في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، ولقد كانت طيلة الفترة الاستعمارية هذه المؤسسات الحرّة هي معقد آمال الأمة ومعقل الثقافة الإسلامية الأصلية، لولاها ما كانت ،صحوة، ولا تحرك ضمير ولا حدثت ثورة للتحرر، ولا قام للجهاد قائم، لقد كانت تبث الروح في الأجيال واليقظة بعد الصبوة وعقد العزم على الجهاد التحرري للبلاد.
لقد ظهرت محاولات في المشرق والمغرب، وقامت ثورات وأخذت الأقطار والأمصار تتحرك الواحدة بعد الأخرى، وما أن تحقق النصر على الأعداء وظفر من ظفر بالاستقلال حتى استقبل الناس العهد الجديد، بأمال طامحة إلى تحقيق الأمثل. على أن المنظومة التربوية لم تعد إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال ولم يقع لها من الإصلاح الجذري الشامل إلا ما ظهر من التغييرات الشكلية، وورثت أغلب النظم التربوية من النظم الاستعمارية الكثير من الخصائص منها المركزية والتعليم المختلط والمفاهيم والنظريات الحديثة . وفتح باب استيراد الخبرات التي أنتجها علماء الأمم في أوطانهم واستغني عن علماء الأمة هؤلاء الذين لم يبق لهم أي ذكر ولم تعد لهم أية مكانة في الإصلاحات التربوية وغيرها، وهو ما جعل وطأة التبعية الثقافية تزداد يوماً بعد يوم، وتزيد مع زيادتها عقدة النقص وفقدان الثقة في النفس.
الصفحة94
النظام التربوي الإسلامي لا مركزي في أصله
لقد كان من أهم الأغراض التي أوقفت لها الأحباس ضمان مجانية التعليم ونعميمه وضمان حرية العلماء والحفاظ على مكانتهم في الأمة وتشجيعهم على القيام بالمبادرات الإصلاحية والمهام الاجتماعية والثقافية. .. ولذلك أصبح من الملاحظ أن النظم التربوية التي أزيل منها نظام الأحباس قلت فيها المؤسسات الحرّة أو انعدمت تماماً وبانعدام التعليم الحر حرمت مجموعات كثيرة من شباب الأمة من التعليم في مراحل مبكرة خاصة أولئك الذين لم يجدوا مكانا في المدارس الرسمية من جهة ولم يجدوا مؤسسة تربوية حرة تأويهم وتساعدهم على ستدراك ما أصابهم من تخلف من جهة أخرى والحقيقة أن فائدة نظام الأحباس وتشجيعه للمشاريع الخيرية لا حصر لنتائجها ومن هنا ندرك أهمية حرص أجدادنا على إبقاء نظام الأحباس والمؤسسات التربوية الحرّة، ولقد فطن الاستعمار إلى ذلك السر ولذلك بذل كل ما في وسعه للقضاء على نظام الأحباس والوصول إلى أغراضه .
ومن العواقب الوخيمة التي نجمت عن غياب الأوقاف صار العلماء يتقاضون أجورهم كعمال وموظفين في سلك الوظيف العمومي وهو ما أفقدهم حريتهم الأدبية وصار الرأي لمن يحكمه وليس لمن يراه، وغدت السلطة السياسة فوق السلطة العلمية وأداة طيعة لأغراضها ونفوذها . .. فإذا كانت السياسة العامة آنية زمانية تركز في الغالب وتهتم بالعاجل على حساب الأجل ويشغلها الحاضر الذي يعج بالمشاكل على المستقبل المتوقف على الحلول الصحيحة للقضايا الكبرى فإن السياسة التربوية لا بدّ أن تحظى بأهل الحكمة والنزاهة والإخلاص من أصحاب النظرة البعيدة والآفاق الشاسعة . . . لتركز على
الصفحة95
المستقبل بكل أبعاده. لذا نجد الانعكاسات السياسية العامة بارزة. أما انعكاسات الواقع السياسي على التربية فكثيرة أولها تأثيرها على سلم الأولويات مما جعل الخطة الإصلاحية التربوية خاضعة للسياسة العامة والتي هي بدورها تحدّد سياسة الأولويات. لأن وراء كل سياسة تربوية خلفية اقتصادية، فتمويل التربية أمر أصبح لا بدّ منه بعد القضاء على نظام الأحباس. وصار أمر التمويل يقرأ له ألف حساب عند إعداد الخطة الإصلاحية التربوية وإلا تبقى هذه الخطة حبراً على ورق يكاد يجمع أصحاب التربية المقارنة على أن نجاح الخطة تربوية يتوقف إلى حد بعيد على سياسة التمويل وأمسى من المتفق عليه عند المربين المحدثين أن النوعية التربوية مرتبطة إلى حد بعيد بسياسة التمويل التربوي، وهذا ما يدل على أن أجدادنا الذين كانوا يوقفون أجود الأراضي وأخصبها وأعزك الأملاك ذات المردود المالي الذي كان يفوق أحيانا ميزانية الدولة ذاتها على التربية والتعليم لم يكونوا عابثين فما أحوج الأحفاد إلى حكمة الأجداد.
ولما صارت السياسة التربوية مركزية وصارت اقتصاديات التربية جزء من السياسة الاقتصادية العامة فإنه لا بد لهذه الأخيرة من تحقيق التوازن بين التمويل الذي غالباً ما يكون محدوداً والحاجات التي تكون في الغالب غير محدودة.
وفي هذه الحالة تصبح الدولة أمام وضع اقتصادي حرج لا تستطيع أن تخرج منه إلا بوضع سلم للأوليات على أساسه يتم توزيع ميزانية الدولة لتؤمن لمشاريعها ومخططاتها الإنمائية سيراً طبيعياً سليماً من جهة، وتوظف مواردها الطبيعية وغيرها من جهة أخرى، لكن المشاريع تتعارض مطالبها وتضطر الدولة إلى إعطاء الأولوية إما للتربية وإما للمشاريع الاقتصادية، ففي حالة ما إذا أعطيت الأولوية للمشاريع الاقتصادية الصناعية لاضطرار الدولة إلى التصنيع والإنتاج للحاجات الاستهلاكية التي ما تزال تستورد من الخارج فتنشىء المصانع الكبرى والمركّبات الصناعية الضخمة. لكن إنشاءها لا يكون إلا عن طريق المساعدة الفنية فالخبراء الذين يقومون ببناء المعامل والمركبات الصناعية الضخمة هم من أولى الخبرات المعقدة الراقية ممن تكونوا في مؤسسات تربوية ثرية،
الصفحة96
وكذلك الشأن بالنسبة إلى من يقوم بتسييرها وتشغيلها على الوجه الأكمل فإن هذه المهام لتعقدها تحتاج إلى من يكون في مستواها التقني والإداري والاقتصادي .... حتى وإن بنيت المؤسسات الاقتصادية بمساعدة الخبراء الأجانب فإلى متى وهي تسير من طرف هؤلاء الخبراء الأجانب وما فادئة المعامل التي يبنيها الأجنبي ويشغلها؟ هذا بالإضافة إلى حاجة المعامل إلى صيانة وتطوير باستمرار. إن الصناعة التي لا تبني ولا تسير من أبناء الأمة ذاتها ولا تقوم على خلفية تكنولوجية تنتجها المنظومة التربوية محكوم عليها بالفشل، والتكنولوجيا التي لا تتمثل في خبراء من أبناء الأمة ستبقى تكنولوجية مستعارة لا تزيد الأمة إلا تبعية، والاقتصاد إِلا إفلاساً والأمور إلا تعقيداً. ففي هذه الجال يتعطل كل شيء فلا التربية أصلحت ولا الاقتصاد بني ولا الصناعة نجحت.
وهكذا يكون أمر من أعطى الأولوية لغير التربية لأنه كمن ربط الأحصنة وراء العربة في العقبة فالنتائج لا تكون إِلا من جنس المقدمات.
أما إذا حدث العكس كما كان الشأن في فرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان وإيطاليا . .. بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة واختارت هذه الأمم أولوية التربية وأسبقية حاجاتها إلى التمويل على الميادين الأخرى كالصناعة والتجارة والفلاحة . .. وإن استلزم ذلك فرض سياسية تقشفية في مدّة معيّنة لأن الأزمة حكم هذا الاختيار صارت مؤقتة محصورة في جيل الحرب فسرعان ما كونت أبناءها حتى قام هؤلاء ببناء الصناعة والفلاحة والتجارة على علم ودراية وخبرة وتقنية راقية فتحرك عندئذٍ اقتصادها إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم من الازدهار. لقد نجحت هذه الأمم لعدّة أسباب لكن أهمها كان يكمن في سرّ بدئها بالتربية قبل كل شيء وإعطائها ما تستحق من العناية والإصلاح والتمويل مما جعلها مساهمة فعالة ليس فقط في النمو الاقتصادي بل تعدّته إلى البناء الحضاري على المدى البعيد .
فالمشكل التربوي هنا مشكل حضاري في أعماقه لأنه يتعلق بالإنسان. وإنما تتعقد المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية عندما تكون مرتبطة بالإنسان فتكوين الإنسان يحتاج إلى عمر بأكمله وجيل من الناس في
الصفحة97
عصر الحضارة له أهميته التاريخية إنه في الإمكان بناء أضخم المعامل في مدّة لا تزيد على خمس سنوات لكن ليس في إمكان أحد غير اللّٰه أن يكون الإنسان تكويناً كاملا في مدة أقل من عشرين سنة على الإطلاق .
ولذلك إذ نلاحظ طرح قضايا تربوية كتلك التي طرحت في المجتمعات الغربية والشرقية الحديثة في مجتمعات البلاد الإسلامية كمجانية التعليم وتعميمه وحرية العلماء ... فإن هذه القضايا لا تعود في الأصل إلى تاريخ نظام التربية الإسلامية بقدر ما تعود إلى تبني النظم الغربية أو الشرقية عند المحاولات الإصلاحية الحديثة .
الصفحة98
ديمقراطية التعليم والإيديولوجية الديمقراطية
لما كان الإنسان كائناً حضارياً، فإن اللّه قد خصّه بالحاجة إلى التعلُّم أكثر من غيره من المخلوقات. وهذه الحاجة مرتبطة بقدرته الفائقة على التعلّم، فالمخلوقات الحيوانية وإن كانت لها قدرة على التكيُّف الذي يجعلها تستطيع أن تتجاوب مع البيئة بالغريّزة فإن القدرات الغريزية محدودة. حتى تلك الحيوانات لتي وهبها اللّٰه قسطاً من الذكاء مما جعلها تكتسب مرونة وقدرة نسبية على التكيُّف والتعلُّم فإن تكيُّفها هذا غريزي أكثر منه مكتسب بخلاف الإنسان فإن التعليم بالنسبة إليه أمر ضروري وتختلف هذه الضرورة باختلاف الظروف البيئية الثقافية والحضارية. لقد خلقه اللّٰه وزوّده بالقدرات التي جعلته أقدر المخلوقات على التعلُّم واكتساب الخبرات على اختلاف مستوياتها في التعقيد والتنوّع .
والثقافة هي البيئة الحضارية التي تنمو فيها شخصية الطفل، وتترعرع من كل جوانبها الجسمية والنفسية والاجتماعية والعقلية. وأول متطلبات هذه التربية التعليم، بأدق معانيه السيكولوجية والبيداغوجية. فالقدرات العقلية والخبرات النفسية، لا تنمو بطريقة سوية إِلا في بيئة ثقافية وتربوية، وحسب مقدار هذه البيئة من الثروة الثقافية تتكوّن ثروة الطفل الثقافية وعلى قدر فقرها وضحالتها ضعف خبرته الثقافية والتربوية، وهذا ما يجعل التربية ضرورية للكائن البشري وهي حق من حقوقه الحضارية وواجب من واجباته نحو أمته والإنسانية جمعاء.
فالأمة التي لا تؤمن لأجيالها ما تحتاج إليه من الرعاية والعناية ليست أمة متحضرة لأن الحضارة إذا لم تكن بمعنى ضمان الأمن وتأمين حاجة الإنسان إلى
الصفحة99
العناية والرعاية لا معنى لها على الإطلاق، إنه لا سبيل إلى البناء الحضاري غير سبيل التعليم.
فمنذ أن ابتليت الأمة الإسلامية بالاستعمار وهي تعاني من سياسة التجهيل عن طريق حرمان الأجيال المتعاقبة من حقهم في التربية، فقل العلم بقلة العلماء وضحلت الثقافة بضحالة المحتوى التربوي . ولما كانت الأمة الإسلامية أمة متحضرة شعرت بوطأة الحرمان من العلم والمعرفة، لأنها كانت في أجيالها السابقة كما يشهد بذلك تراثها تؤمن لكل راغب، وطالب على قدر رغبته وقدراته واستعداداته للتعلُّم الذي كان مجاناً في كل مستوياته، ومكفولاً لكل الناس وكان نظام الأحباس ضامناً لكل حاجات تمويلية، فلا يوجد جامع إلا وجمع من طلاب العلم على اختلاف تخصّصاتهم ما يدل على تأمين الأمة لحاجة أجيالها إلى التربية والتعليم .
ولما شرد طلاب العلم، ونفي العلماء، وهم روّاد التربية في الملة، خلت الزوايا والمساجد والجوامع، ومنعت المدارس والمعاهد من التدريس، ولم يبق في أغلب الأقطار الإسلامية إِلا المدارس والمعاهد الرسمية التي تموّلها وتراقبها السلطات الاستعمارية لخدمة سياستها، وتسيرها على نهجها، وتعمل على تحقيق أغراضها وأهدافها المختلفة .
فعن طريق هذه المؤسسات التربوية التي تشكّل امتداداً للمنظومة التربوية الاستعمارية جاءت مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي سنحاول التعرف عليها في الصفحات القادمة، ومن بينهما ديمقراطية التعليم .
ولما كانت الأمة بطبيعتها الحضارية تشعر بالحاجة إلى التعلُّم وترغب أن بكون التعليم وترغب أن يكون التعليم ذلك الذي يخدم أغراضها ويحفظ لها شخصيتها ودينها وأخلاقها وثقافتها وحضارتها. لذلك لقد وجدت نفسها أمام أمرين: الحرمان من العلم ومعارفه أو السياسية الاستعمارية التربوية وما تبثّه من سموم وما تنطوي عليه من غش ومكر. .. ولعل هذا ما يساعد على وجود مستوى من الوعي التربوي والسياسي فعندما تشرد طلبة العلم من الجوامع والمعاهد ومختلف المراكز التربوية الإسلامية، وحاول الاستعمار أن يرغم الناس
الصفحة100
على توجيه أبنائهم إلى مدارسه ومؤسساته قاطع الناس المؤسسات التربوية الحديثة الاستعمارية كالذي حدث في الجزائر، وغيرها حيث اختارت الأمة الأميّة على تعليم أبنائها الثقافة الغربية التي وضعت لها المدارس الرسمية. ولقد دام هذا الصراع مدة طويلة، وكان من نتائج صمود الشعوب المسلمة في وجه السياسة الاستعمارية التربوية بقاء الدروس المسجدية والجوامع والزوايا والمعاهد الإسلامية إلى اليوم. عندئذ صار في المجتمع الواحد نظامان تربويان متوازيان نظام استعماري حكومي والآخر أهلي، كما كان الشأن بالنسبة إلى مصر والسودان وباكستان وإيران وغيرها.
لقد جابهت المجتمعات والشعوب المسلمة سياسة التغريب والحداثة بالرفض لكل ما جاءها من الغرب والإعراض عن كل ما جاء به الاستعمار. إن تقارير الجيوش الغازية وبحوث المستشرقين تعترف بهذه الحقيقة وصارت خير شاهد على شدّة خوف الأمة على دينها وسائر مقوماتها الثقافية والحضارية، وصلابة موقفها من الغزو الفكري الذي لم يقل عن صلابتها أمام الغزو العسكري؛ ويصف هذا الموقف الواعي للأمة الإسلامية أحد المستشرقين، وهو «ڤالنتين تشيرول)) بقوله: «أمواج وغمار تتلاطم وينكسر بعضها على بعض ومتناقضات تتناحر، وآراء وأفكار غربية تتدفق من الغرب على حضارة قديمة بنت أجيالاً طوالاً ، فبعض يأخذ ولا يحسن الأخذ، وبعض يعرض ويلعن، وعقائد تتبدّد ثم تعود فتحيا، ونظم اصطناعية مضطربة1) .
إن هذه الملاحظة التي قدمها «ڤالنتين» تكشف بوضوح آثار الإيديولوجية الغربية على العالم الإسلامي وما كوّنته من ردود أفعال على مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية . .. إن ساسة الغرب لم يكونوا متوقعين أبداً صمود الشعوب الإسلامية أمام قهرهم الحضاري وشدة ثباتها على الإسلام وخاصة العوام من الأمة وأغلب علماء الإسلام. لقد كان أكثر رجال الغرب يظنون أن الغزو الحضاري سيتم بمجرد الانتهاء من الاحتلال العسكري، مع
الهوامش
(1) انظر حاضر العالم الإسلامي، ج 4، ص: 5، المصدر المذكور.
الصفحة101
أن المعارك المريرة التي انتهت بالسيطرة الاستعمارية لم تطل ولم تزد عن أربعين سنة أو خمسين سنة على الأكثر في البلاد التي كانت أشد مراساً وأقوى قدرة على الحرب. بينما المعركة الحضارية غطت كل عهود الاحتلال بل استمرّت إلى يوم الناس هذا في أغلب الأقطار الإسلامية. هذا وإن جهاد الشعوب المسلمة الذي خاضته من أجل بقائها على الإسلام ليعد من أنصع صفحات التاريخ للأمة الإسلامية، فاتخاذ الأمة هذا الموقف إلى النهاية أمام زحف حضاري عالمي طاغ لم يكن من السهل اتخاذه والصمود عليه إلى النهاية، لقد كان فعلًا من العسير على السلطات الاستعمارية فرض نظمها السياسية والتربوية والتشريعية على الشعوب الإسلامية، يقول ((اهلا بارير» في مقال له منذ ١٩١٠ : «قال بعضهم أما تركيا لم تكن على استعداد لتحيي الدستورية النيابية بعد الثورة. إنما ذلك وهم شديد. .. إن النظم التشريعية المدنية التي كانت عليها تركيا إنما هي أفضل أسس يشيد عليه الحكم النيابي. كان محمد يخي صاحب الرسالة الإسلامية يجعل الحكم شورياً بينه وبين صحابته، وقد جرى العلماء المسلمون وهم أقطاب الدين وذاته الشرع الشريف على هذا المنهج وما برحوا هكذا حتى اليوم يتشاورون ويستقرىء بعضهم بعضاً في شؤون مصالح المسلمين. فالشريعة الإسلامية هي ديمقراطية وشورية بطبائعها وجوهرها وعدو شديد للاستبداد) (١) .
إن قناعة المسلمين بسلامة دينهم وشموليته وسموه إلى أرقى مراتب العدل والمساواة والحكمة . .. جعلتهم في غنى عما جاء به الغرب من إيديولوجيات سياسية وتربوية وتشريعية. .. لذلك عند محاولة هذه الشعوب للرفض الفعلي عانت بسببها من مختلف ضروب القهر فقد انعكس هذا الرفض الفعلي على ما هو أعمق وأخطر، وأعني من ذلك أن القهر حول الرفض الفعلي إلى رفض نفسي، وهو ما جعل سياسة فرض البدائل الدخيلة تبوء بالفشل الذريع. إنه كلما كانت العملية الإصلاحية عملية قهرية قسرية كانت عملية سطحية تقوم على القوى الفعلية، وهو نفسه ما يحوّل الرفض الفعلي إلى رفض نفسي الذي لا سلطان عليه للبشر لذا فإن تمّ زرع الإيديولوجيات الحديثة على اختلاف
الهوامش
(1) انظر كتاب حاضر العالم الإسلامي، نفس المصدر، ج 4، ص: 59.
الصفحة102
أشكالها وفرضت النظم السياسية والتشريعية والتربوية على طريق السياسة الاستعمارية، فإن الرفض النفسي كان له أقوى مفعول على مر الزمن . إد حال دون نجاح السياسة الاستعمارية بأية حال من الأحوال، وحول موجة الإعجاب السطحي الآني بهذه الإيديولوجيات وغيرها إلى نقيضه أي الرفض. وبدأ هذا الأخير يأخذ أوضح حالاته في الأجيال الأخيرة التي تعيش مأساة خيبة الأمل الناشيء عن فشل هذه الإيديولوجيات.
ومهما يكن من أمر فإن الإزال على التعليم على اختلاف شعبه في السنوات الأخيرة يفسر ويعكس مدى وعي الشعوب الإسلامية بحاجتها إلى مضة حضارية شاملة وهو ما يفسر مدى عمق الصحوة التي بدأت تدب في العالم الإسلامي .
ولئن كان تعميم التعليم وتبني ديمقراطية التربية كوسيلة لتحقيق التكافل الاجتماعي وهو ما ساعد على انتشار المؤسسات التربوية عبر العالم الإسلامي، فإن هذه النظرة تبدو جد سطحية بدليل أنها تقف عند حد محاربة الأمية التي انتشرت في العالم الإسلامي مباشرة بعد الاحتلال وإعداد الكفاءات الفنية والسياسية والإدارية، والحل أن المشكلة هي أعقد بكثير مما تبدو من حيث هي مشكلة تربوية تعيد إلى الأمة اعتبارها كأمة ذات دين ورسالة ودعوة وحضارة، فالصراع العقائدي والغزو الفكري اللذان تعرضت لهما الأمة الإسلامية في هذه العهود جعلت مشكلة التربية من أعمق وأعقد المشكلات الثقافية والاجتماعية والحضارية تتجلى فيها حدة الصراع على اختلاف أبعاده الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذا السبب تمتزج المبادىء التربوية والسياسية وتتخذ ديمقراطية التعليم بعدها السياسي. من أجل ذلك وجدنا أنفسنا مضطرين إلى إعطاء فكرة ولو موجزة عن تطور مفهوم الديمقراطية في الغرب وأهم المشكلات التي نشأت عن تبنيها للمبدأ أو العمل به في أحدث النظم السياسية فالتجربة الغربية لا يشك أحد في ثرائها وهو ما يمكننا من استخلاص النتائج التي تضيء لنا السبيل وتساعدنا على فهم وتفسير كثير من الظواهر الناجمة عن انتحال هذه المبادىء والإيديولوجيات بالإضافة إلى معرفة التناقضات الناجمة عنها ومعرفة
الصفحة103
مواطن الزلل وهو ما يجعل الأخطاء تقل بكثرة المحاولات ومعرفة الخبرات الأجنبية. إن المجتمع الذكي هو ذلك الذي يستفيد من أخطاء الآخرين بقدر ما يستفيد أيضاً من محاولاته فتنمو معرفته بالصواب وقدرته على التخلص من الخطأ وتصبح الأمور أكثر وضوحاً وهو ما يجعله يقبل على الإصلاح عن بصيرة وقناعة، وذلك ما يضفي على العملية الإصلاحية صبغة الغائية والوعي، ففي هذا الصدد أفاد علم التربية المقارنة فائدة عظمى ساعدت على اكتشاف أسرار العلاقات المختلفة لأغلب العوامل ذات الأثر المباشر أو غير المباشر للظواهر التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
ونظراً لشدّة الارتباط والتداخل بين السياسة التربوية والسياسية العامة التي ينتهجها بلد ما فإن العلاقة بين الديمقراطية بمفهومها الغربي الحديث الإيديولوجي السياسي ومعناها التربوي جد وطيدة لذلك فإننا قبل أن نقدم المفهوم التربوي للديمقراطية سنحاول عرض وتحليل ومناقشة الديمقراطية صيغة ومفهوماً .
الصفحة104
الديمقراطية من الصيغة إلى المفهوم
منذ بيريلكيس BIRIIKIIS إلى اليوم ومدلول الديمقراطية يتطور ويزداد شعبا وتعقيدا، وكانت محاولات الفلاسفة والمفكرين ورجال السياسة والاقتصاد أن تجعل من الديمقراطية النموذج الذي يحتوي على كل فضائل الحكم من عدل ومساواة وحرية وإنسانية. كل ذلك في نطاق فلسفتهم أو إيديولوجياتهم من جهة ومفهومهم للإنسان والمجتمع من جهة أخرى، وعلى الرغم من محاولة الفلاسفة والمفكّرين والمصلحين والعلماء في مختلف العلوم الإنسانية والجهود الجبّارة التي بذلت في نطاق تطوير مفهوم الديمقراطية وإضفاء صبغة الشمولية عليه، فإن المفهوم ما يزال يعاني من التناقض والتطرف في النزعة الفردية تارة أو في النزعة الاجتماعية تارة أخرى. والسبب في ذلك اختلافهم المذهبي والنظري .
فإذا كان بيريلكيس BIRIIKIIS أول من صرّح بالديمقراطية وذلك عندما ألقى خطابه المشهور مؤبَنا ضحايا حرب بولوبوناس POIOPONAS فإن تعريفه للديمقراطية لا يخلو من اعتدال وشمول. قال: «ليست الدولة مسيرة لمصلحة الأقلية، بل هي عندنا - يعني الآتيتين - مسيرة لصالح الجماهير ولذلك أخذ نظامنا اسم الديمقراطية»(١)، بهذا المعنى يتضح بأن الديمقراطية هي حكم لصالح كافة المجتمع على اختلاف طبقاته حيث يتساوى الناس جميعاً أمام القانون قال بيريكليس: ((ففي ما يتعلق بالخصومات بين الخاصة فإن القانون يضمن المساواة بين الأفراد)) . ولما كانت الحياة الجماعية تتطلب المشاركة والتعاون لأن الأفراد يختلفون باختلاف قدراتهم واستعدادتهم ومكانتهم الاجتماعية فإن المشاركة في
الهوامش
(1)
Thucydid, Histoire de la Geurre du peloponnese, livre, 2 Chap.
الصفحة105
الحياة الاجتماعية ضرورية لكل الأفراد والذي يحدّد مكانة الفرد في المجتمع: إما كون المال والثروة أو العراقة العائلية، أو الطبقة الاجتماعية، فبالنسبة لبيريلكيس فإن الذي يحدّد هذه العلاقة هي الكفاءة لا غير، وكل الأفراد مدعوون في النظام الديمقراطي إلى المشاركة في الحياة العامة كل حسب قدرته، لا يخرج الفقير بسبب فقره أو الضعيف بسبب ضعفه فيقول: (وفيما يتعلق بالمشاركة في الحياة العمومية فإنها تكون تبعاً للجدارة وليس حسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. فالحالة الاجتماعية السيئة لا تمنع الفرد ولا تخرجه في تقديم خدمة للمدينة؛ إنه من واجب الدولة الديمقراطية أن تخدم مصلحة أكبر عدد، وتحقق المساواة بين الجميع أمام القانون، واستخلاص حرية المواطن من الحرية العامة ومساعدة الضعيف مع الأخذ بعين الاعتبار الجارة وجعلها في الصف الأول، وتحقيق توازن منسجم بين مصلحة الدولة ومصلحة الأفراد وتحقيق الانطلاق السياسي والاقتصادي والعقلي والفني للمدنية» .
ويفرق بيتر. ر. س(1) بين معنيين للديمقراطية، فبينما يعني الأول المعني الجوهري لماهية الديمقراطية، يعني الثاني المفهوم الأيديولوجي والتشريعي.
لذلك حسب رأي بيتر أنه لا علاقة بين المفهوم الإغريقي القديم والمفهوم الأيديولوجي الحديث. على أن آخرين يرون عكس ذلك تماماً ويذهبون إلى أن المعنى الأصلي الإغريقي ما يزال يكون القاعدة الأساسية للمفهوم الأيديولوجي، ويعتقد هؤلاء أن تطور المفهوم لا يغني عن المعنى الأصلي الأول. إلا أن حجة هؤلاء ضعيفة بدليل أن إدراك المعنى الحديث للمفهوم لا يتوقف على فهم الصيغة اليونانية القديمة، في حين أن الصيغة لا تؤدي إلى المفهوم الحديث الذي صار أكثر تعقيدا وأوسع أبعاداً وأبعد عمقاً، فإذا كانت الديمقراطية تعني عند أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة اليونان: «الحكم للشعب) فإن هذا الحكم في رأيهم هو حكم الرعاع، ومن ثم فإن هذا المفهوم يتضمن حكم قيمة، وبكل وضوح فهو يمثل عندهم أسوأ ما تؤول إليه أحوال التدهور السياسي. في حين أن أحسن النماذج
الهوامش
(1)
Petere. R.s. Ethes and Education, London George Allen Unrn LTD, 1966, P. 299.
الصفحة106
في رأيهم وأليقها للقيادة والريادة السياسية: هي نموذج النخبة التي يمثل الفيلسوف أرقى نوعياتها وأقدر شخصياتها على القيادة الرشيدة والريادة الحكيمة. وأما باقي مستويات الأمة كالجيش الذي يمثل عندهم القوة الغضبية والشعب الذي يشكل في نظرهم القوة الشهوانية، فما عليهما إلا الطاعة والتنفيذ. وإذا تركت هذه وظائفها وتطفّلت على وظيفة غيرها التي لم تخلق لها وسلبت الحكماء وظيفتهم التي لا يقدر عليها سواهم اختل النظام واضطربت الأحوال وتوقفت الوظائف وآل الأمر إلى سلطة الرعاع سلطة الشعب وعندئذ يصبح الحكم في رأيهم ديمقراطياً.
وعلى هذا الأساس نجد الفرق شاسعا بين هذا المفهوم الأول الإغريقي والمفهوم الحديث الذي يعتبر حكم الشعب كأحسن أنواع الحكم وأعدلها.
فلديمقراطية بالمفهوم الحديث الليبرالي والاشتراكي والشيوعي هي النموذج الذي يحتوي على مجموعة المبادىء الأساسية والأخلاقية والاجتماعية التي انتهى إليها التطور الاجتماعي والثقافي والحضاري في العصور الأخيرة.
والحقيقة أنه من العسير جداً على المرء أن يوفق بين مختاف مفاهيم الديمقراطية والتي صارت تختلف من فيلسوف إلى آخر، ومن إيديولوجية إلى أخرى في العصر الواحد، فبالأحرى إذا رجعنا إلى ذلك في مختلف العصور.
بالإضافة إلى جون لوك نذكر جون ستوارت ميل (١) وماتوي أرنولد فهؤلاء جميعاً وغيرهم يرون أن الديمقراطية بالمعنى الحديث تتضمن المفهوم العقلاني والأخلاقي، وعلى هذا الأساس فهي تتضمن إيديولوجية أساسها الحرية والمساواة والتسامح والكرامة(٢). وهذه المبادىء في رأي جون ستوارت ميل وآدم سميث تشكل الخطوط العريضة للاتجاه الإيديولوجي الليبرالي؛ فهي عقلانية لأنها من صنع البشر لا صلة لها بما هو سماوي فمردها دوماً إلى العقل الذي أنتجها وطورها وحدّد أبعادها وأغراضها. أما أخلاقيتها فتتمثل في محاولتها رد
الهوامش
Sorly, W.R.A. History of English Philosophy, Cambridje, at the University Press. 1967. (1)
P. 25 — 27.
Mill, john stuart, Civilisation, P. 42 — 43.(2)
الصفحة107
الاعتبار للإنسان والعمل على تمكينه من فرص العمل كي ينمي إمكاناته ويستخدم كل طاقته وينشط فعاليته ويجتهد من أجل فرض وجوده واستغلال حقوقه في الجماعة. وبهذا المعنى تصبح الأخلاق نفعية تحمي بتحديداتها للعلاقات حقوق الفرد وفي طليعتها حريته .
ومن هنا يبدأ الإشكال لأن المنفعة والأخلاق التي تبني على أساسها لا تكون إلا نسبية، والمنافع تتعارض. وفي هذا الحال كيف يكون الاحتكام إليها إذا كانت على هذه الحال من النسبية؟ وإذا كانت الأخلاق كما بين بينتام فهي أخلاق، ، ، الإنسان الأقوى، أو أخلاق معيارها المردود كما هو الشأن عند وليام جايمس (١) وجون ديوي فما هو حظ الضعيف والفقير من الأخلاق إذن؟ وكيف تكون علاقة الفقير بالغني والقوي بالضعيف ومتى تكون هذه الأخلاق عادلة أو أخلاقاً؟ فالأخلاق التي لا تعدل بين القوي والضعيف ولا تستطيع أن تصوغ العلاقة الاجتماعية صياغة إنسانية مرنة مفعمة بالرحمة والشفقة وروح التعاون إنما تصبح أخلاق الغاب أبعد ما تكون من المدنية لأن المدنية من خصائصها أن تؤمن للإنسان أي إنسان فقيراً كان أم غنياً قوياً كان أم ضعيفاً الضروري من شروط المدنية كالأمن والكسب والحرية والتربية. . .
أما الأخلاق الماركسية فتقوم على أساس مبررات الصراع الطبقي والثورة على الإجحاف الرأسمالي . عندئذ يصبح مبدأ تكافؤ الفرص يمثل أهم أخلاقيات الثورة البيروليتارية، وتصبح الديمقراطية عند ماركس وأتباعه محصورة في العدالة الاجتماعية .
على أن الأخلاق الماركسية الاشتراكية والشيوعية محدودة قاصرة سطحية إلى درجة أنها أعجز ما تكون على أن تحقق للضمير الأخلاقي قناعة اعتقادية ومناعة أخلاقية تسمو إلى أجواء الفضيلة ولهذا السبب بقي مفهوم الديمقراطية يعاني من الضعف الأخلاقي .
الهوامش
(1) وليام جايمس منيحا الأخلاق والدين.
الصفحة108
أما الفكر الديمقراطي الإنجليزي فمليء بمحاولات التوفيق بين النزعة الفردية والاجتماعية، على أن النزعة الفردية لا تزال طاغية فيعتقد جون لوك (1)
وجون ستوارت(2) ميل وويليام جايمس أن الديمقراطية تستوحي الحياة الجماعية المشتركة، ولكن الحياة المشتركة لا تنفي وجود الصراع والتعارض وعدم الإنصاف. لذلك هم لا يخفون من ناحية أخرى تحفظهم وتركيزهم على الحرية من حيث هي مبدأ من مبادئ التنافس الذي يجعل البقاء للأصلح، غير أن ماتوي أرنولد ينادي بضرورة العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص مما كان له الأثر الكبير على التربية البريطانية كما سنبين ذلك بعد حين .
إلا أن المفكّرين الآخرين لم يغفلوا جانب العدل. (فجون ستوارت ميل)) مثلا يرى أن كل الناس لهم نفس الحق والمنفعة في الحكومة العادلة التي تنشد العدالة للجميع، والذين لهم نفس الحاجة إلى الصوت الذي يضمن الحقوق المشتركة، على أن قانون (دعه يفعل)) يتطلب بالضرورة من جهة أخرى التنافس، كي يتم البقاء للأفضل. وهذا ما يجعل مبدأ تكافؤ الفرص لا معنى له .
ولذا يعتقد جون ستوارت ميل أن الديمقراطية أحوج إلى الحرية منها إلى المساواة (٣)، وهذا التناقض في الحقيقة لا يعكس فحسب غموض مفهوم الديمقراطية بل يبين كذلك غموض مفهوم المجتمع الحديث برمته. فشتان بين المجتمع القائم على التنافس وذلك الذي هو قائم على التضامن والتعاون. ففي النموذج الأول تعطى كل أهمية إلى الأقوى حيث يكون الضعيف لا أهمية له على الإطلاق. بينما يكون النموذج القائم على التكامل والتعاون جاعلاً مبدأ تكافؤ الفرص أساسيا لا بدّ منه، والحقيقة أنه لا معنى للديمقراطية ولا مبرر لها إذا لم تضمن المساواة وهذا ما يطرح السؤال التالي: هل يمكن أن ينحصر مفهوم الديمقراطية إلى المعنى السياسي فحسب أم ينعدى إلى المعنى الاجتماعي بالضرورة
الهوامش
Soriey, W.R.A. History of English Philosophy, cambridje, at the University Press. 1937, (1)
P. 121.
(2)
Writing of john stwart Mill, Boston. Beacon Press. 1959 P. 164 — 166. •
(3) نفس المرجع .
الصفحة109
وهل الحكم للنخبة أم للقاعدة؟ ثم ما هي الدولة التي تضمن تكافؤ الفرص لكل مواطنيها؟ فإذا كانت الحكومة الديمقراطية تستلزم الحكم العادل فما هي إذن المعايير التي على ضوئها يتم الاختيار؟ فبالنسبة إلى جون لوك فإن أفضل حكومة هي التي تضمن الحرية والمساواة لكل المواطنين(١) مع ذلك فإن مفهوم الديمقراطية عند لوك أقرب إلى المفهوم السياسي منه إلى المفهوم الاجتماعي .
فإذا كان الناس قد وهبوا مختلف المواهب والقدرات فإن غياب العدالة الاجتماعية يعرقل هذه القدرات ويعوقها على النمو والنبوغ فالدولة التي هي دولة النخبة تكون تربيتها كذلك. ففي هذه الحالة كيف يمكن للفقير أن ينمي مواهبه ويكوّن قدراته؟ وكيف يمكنه أن يصل إلى مراتب الحكم التي تحتكرها الطبقة المحظوظة؟ بينما تكون الدولة التي تضمن تكافؤ الفرص هي دولة الجميع دون أي احتكار؟ فالتعارض بين مفهوم دولة النخبة والعدالة الاجتهاعية واضح في المفاهيم الديمقراطية في الفكر الغربي القديم والحديث.
على أن أغلب المفكّرين الغربيين يميلون إلى الحرية في مفهومهم للديمقراطية. فمنذ أن حاول المصلحون الأوائل الذين كان لهم الأثر البالغ في نطوّر مفهوم الديمقراطية، فالحرية تمثل في الغالب أهم المحاور التي يدور حولها الفكر الديمقراطي، نذكر على سبيل المثال المصلحين الذين كان لهم أثر في تطوّر المجتمع الحديث الليبرالي والإنساني والطبيعي والماركسي، أما بالنسبة إلى رواد الاتجاه الإنساني مثل مارتن لورثر وكالقن وأرار موس فهؤلاء ركّزوا على إعادة الاعتبار إلى العقل والإرادة وأما الاتجاه الطبيعي فيعود في الغالب إلى أصحاب نظريات التعاقد الاجتماعي وخاصة جان جاك روسو، وجون لوك فالحرية عند هؤلاء حق طبيعي أو بتعبير آخر أن الإنسان حرّ بالطبع وإنما الحياة الاجتماعية التي تلزمه قيوداً تكون نتيجة تنازل الفرد عن حريته الوحشية مقابل منافع أخرى لا يمكنه الحصول عليها إِلا بواسطة الجماعة هكذا يرى روسو طبيعة الإنسان ونذا جاء مفهوم الديمقراطية عنده وعند جون لوك مرتبطاً بالحرية ارتباط
(1)
Social Contract. Translated by Tozer, H. London, George Allen. LTD. 1848.
الصفحة 110
الوسيلة بالغاية فالديمقراطية عند الطبيعين عموماً هي مجموعة الشروط التي ضمن حرية الفرد في الجماعة أو الدولة .
فالعهود التي ظهرت فيها نظرية العقد الاجتماعي، كانت عهود ظلم والاستبداد. بدعوة أن الملوك يتمتعون بالحق المطلق لا ينازعهم أحد. وللبرهنة على بطلان ذلك وحيفه أدعى أصحاب هذه النظرية أسبقية وجود الفرد على الجماعة. وأن الإنسان الطبيعي إنسان فرداني وأن نموذجه أمثل النماذج لأسعد إنسان .
فمنذ أن تنازل الإنسان الطبيعي عن حريته المطلقة ليعيش ضمن الجماعة تكوّنت الدولة نتيجة تعاقد الأفراد. ومن ثمة فأعدل دولة على الإطلاق في رأيهم هي الدولة الديمقراطية التي تسير بمقتضى رأي مواطنيها سواء عن طريق الرأي المباشر أو ممثلين شرعيين. ومهما يكن من أمر فإن الإرادة العامة تعتبر نابعة من إرادة انفرد، وبذلك تكون إرادة صادقة تعطي المعنى الحقيقي في رأيهم للذيمقراطية، التي على ضوئها يتحدّد مفهوم السيادة وخصائصها ودورها في الدولة الحديثة، ويصبح النفوذ جماعياً غير فرداني، بيد أن الدولة الحديثة يجب أن تضمن عن طريق التعاقد الاجتماعي، حرية الفرد. وعلى هذا الأساس يرى جون ستوارت ميل أن الحرية ليست مجرد حق طبيعي : بل هي أكثر من ذلك ضمان لاستقلالية الفرد واعتبار هذا الأخير أساسا مبدئيا للدولة الحديثة، ولإدراك الفرق بين الحرية الوحشية وحرية الحياة المدنية يوفق روسو بين المنفعة الفردية والمصلحة العامة وجعل الحكومة الديمقراطية تستمد نفوذها من الإرادة العامة. وردّ الاعتبار إلى الشعب الذي كان لا دخل له في الأمور السياسية بالمرة .
وعلى هذا الأساس حاول روسو بعد دحض حجة الحكم المطلق الذي كان سائداً في عصره، وإبطال مبرراته، أن يقدم نموذجه القائم على أساس نظرية التعاقد الاجتماعي، وكان فعلا لهذه النظرية أثرها الكبير في مفهوم المجتمع الحديث، لكن فكرة التعاقد الاجتماعي سواء أكانت تلك التي جاء بها جان جاك روسو أو تلك التي نادى بها جون لوك لم تقم على فرضية علمية أثبتتها
الصفحة111
التجربة بل هي خيالية المصدر. ومن ثمة فهي أقرب إلى الأسلوب الأدبي الجميل من المنهج العلمي القويم، فبقدر ما هي أقرب إلى العاطفة والفكرة الحماسية فهي أبعد ما تكون في نفس الوقت من الواقع الذي هو محك الحقائق ومعيار الخبرات والتجارب، ويعترف روسو بصعوبة العمل بما دعا إليه من المبادء من ذلك مثلاً تسليمه بمشكلة صعوبة تطبيق الديمقراطية بمعناها الحقيقي الذي جاء في العقد الاجتماعي. لكن هذا لا ينقص من قيمة جهد روسو إِذ عدّه المؤرخون للثورة الفرنسية من المنظرين لها الذين أعطوها البعد الإيديولوجي الذي زودها بالمبررات والأغراض حتى صار لها البعد الإنساني من الحرية والمساواة والأخاء .
أما الاتجاه الليبرالي، كأحد الاتجاهات الديمقراطية، فيعتقد بعض لمفكّرين الفرنسيين والإنجليز وغيرهم أنه كان أحسن الاتجاهات في ذلك العهد الذي كان أحسم عهود البناء الاقتصادي الأوروبي. فيقول جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي السابق: «إِن روحِ التنافس هي التي شجّعتها حرية العمل عملا بمبدأ(١) (دعه يفعل)، ومكّنت الجميع من المشاركة الفعّالة للبناء الاقتصادي الغربي وغيره وحفزت لبذل الجهود الجهيدة التي بفضلها قام هذا البناء الصناعي الهائل)).
فكانت قاعدتها الأساسية الديمقراطية الليبرالية التي جمعت كلا من الحرية والديمقراطية وصارا يكونان شيئاً واحداً. الأمر.. الذي ساعد كل المواطنين على بذل أقصى الجهود من أجل الانتاج مما شجّع على تنشيط الحركة الاقتصادية في أغلب الأقطار الأوروبية وغيرها.
والحقيقة أن الليبرالية التي كان لها هذا الشأن الذي أشار إليه جيسكار ديستان هي ليبرالية المبادئ المذكورة فكان بدافع الإيمان بتلك الشعارات كالحرية والأخوة هو المحرّك الأساسي. ولكن سرعان ما نشط الاقتصاد وتحركت المصانع
الهوامش
Condrect, Exquisse d'une tableau historique des progres de l'esprit humin V.G. de (1)
estaing Democratie Francaise, Paris Fayard, 1976.
الصفحة112
حتى استغلت تلك الحركة الاقتصادية استغلالاً فاحشاً [جعل الاتجاه الليبرالي يخرج من نهجه]، ويتحوّل إلى نظام سياسي طبقي يَبْتَلع فيه القوي الضعيف فضاعت فيه حقوق الضعفاء واستفحلت في مجتمعه التناقضات والصراعات الطبقية وما تعكسه من عدم العمل الاجتماعي والاقتصادي حتى صارت الديمقراطية لا تعني أكثر من شعارات سياسية تجري وراء الأصوات الانتخابية وحتى الانتخاب كان ولا يزال يستغل بشتى طرق الاستغلال. إذن فما معنى الديمقراطية بعد تجريدها من العدل الاجتماعي؟ وعندما لا يتحقق العدل الاجتماعي فما معنى الحرية وما معنى الأخوة؟
كثيرون أولئك المفكّرون الذين يعترفون بالحيف الليبرالي حتى من الليبراليين أنفسهم. فجيسكار ديستان نفسه يعترف(١) بأن الليبرالية التقليدية لم تعد قادرة على مجابهة أزمة المجتمع الحديث. لكنه يعتقد أنه يمكن إصلاحها على ضوء التطور العلمي حتى تستجيب لحاجات المجتمع وإلى تحقيق العدل الاجتماعي وفي هذا الصدد يعترف إذن جيسكار ديستان بعجز الليبرالية على توفير العدل الاجتماعي، وحاول في نفس الوقت تغطية هذا العجز بفتح مجال جديد أمام الليبرالية الحديثة التي تستمد مفاهيمها ومضامينها من العلم بدلاً من الفلسفة، لكن إن عجزت الفلسفة بما تتميز به من عمق النظرة النفسية، فمن يضمن نجاح العلم في تحقيق ذلك وأي علم يعني جيسكار ديستان يمكنه إنقاذ الليبرالية من كبوتها .
بينما روجي جارودي لا يرى ذلك ممكناً إطلاقاً فلا الليبرالية ولا الماركسية في اعتقاده يستطيعان مواجهة المعطيات الجديدة والقضايا المستجدة بمجرد الإصلاح، مهما كان هذا الإصلاح شاملا وجذرياً، ففي رأيه أن الإيديولوجيات القديمة ويعني (الليبرالية والماركسية) لا تستطيع أن تحل المشكلات الجديدة.
ومع ذلك أن كلا من الليبراليين والماركسيين يتفقون على توقع التغير الاجتماعي الذي صار ليس بإمكان إيديولوجياتهم الحالية إدراكه والتماشي معه،
الهوامش
(1) انظر البديل لروجي قارودي .
الصفحة113
لكنهم إن اتفقوا على التسليم بوجوده فقد اختلفوا في طرق مواجهته فعندما يرى الليبراليون الحل في تحديد البنى المختلفة الاجتماعية والاقتصادية فإن الماركسيين على ضوء الجدلية التاريخية يرون أن الثورة هي أحسن طريق لمواجهة التغير المرتقب. ومهما يكن من أمر فإن بعض المفكرين نذكر منهم على سبيل المثال :
بيارفيت والفريد فلوروك يرون أن الأزمة ما تزال قائمة إلى اليوم دون أن تجد طريقها إلى الحل المرضي والعلاج الكافي الشافي .والحقيقة أن المفهوم الليبرالي للديمقراطية وإن حاول أصحابه أن يوفقوا بين الحرية (بمعنى إفساح المجال للتنافس» والعدل الاجتماعي، إِلا أن ذلك لا يتجاوز حدود تلطيف حدّة الصراع الطبقي لكي لا تشعر الطبقة العاملة بالحيف ولا تتحفز للثورة، ومن ثمة فإن طابع التنافس ما يزال طاغياً على العدل الاجتماعي . وما تزال السلطة في يد أصحاب الثروة في أغلب المجتمعات الليبرالية باستثناء بعض الفترات التي تظهر فيها بعض الحكومات اليسارية كالحزب الاشتراكي الفرنسي، والحزب العمالي البريطاني.
أما المفهوم الاشتراكي والشيوعي للديمقراطية إذ ركز أصحابه على العدل الاجتماعي فقد أغفلوا الحرية إلى درجة خنق روح المبادرة، ولئن أدرك بعض الشيوعيين كالصينيين بعد ماوتسيتونك والشيوعيين والاشتراكيين الفرنسيين هذا الواقع، لكن المجتمعات الاشتراكية والشيوعية ما تزال تعاني من خنق الحرية ولم نصل فيها إلى الحد الأدنى من الحرية مما يجب في حق الأفراد ليبرزوا قدراتهم ويوظفوا فعالياتهم على أحسن الوجوه ويكونوا في مستوى الدفاع على حرياتهم.
على أننا نستنتج من كل ما تقدم إن أصحاب النزعة الليبرالية والاشتراكية على حدّ سواء شعروا بضعف وظلم الموقف المتطرّف في الحالتين من الحقوق الفردية والاجتماعية إلا أن هذا الشعور لم يستطع أن يقضي على الحيف سواء في المجتمع الليبرالي أو الاشتراكي والشيوعي لأن تحقيق الاعتدال والعدل في الحالتين وأن بدا ممكنا فذلك فقط في المستوى النظري أما تحقيقة في الواقع ليحتاج إلى أكثر من ثورة على كل من النظام الليبرالي والشيوعي وهذا غير ممكن أما حالة الامتناع في الأول فذكاء الطبقة الثرية الرأسمالية استطاع أن يخفّف من
الصفحة114
وطأة الفوارق الطبقية بتوفير وسائل الرخاء والمعيشة مما يجعل الطبقة الشغيلة المحرومة لا تعي ذاتها بل تكتفي بالحد الأدنى من المعيشة وإِن شعرت أن ذلك الرضا الظاهري على حساب حقوق أخرى ما دامت تلك الحقوق تبدو لها ليست ضرورية، ولذلك فهي لا تشعر بالحاجة الماسة (بفعل التخدير) إلى الثورة لأنها تعرف أن الثورة ستكلفها من التضحيات ما لا يمكن توقّعه وحصره وخاصة عندما ترى أن الطبقة الرأسمالية ما تزال تتمتع بالمكانة والقوة في المجتمع الليبرالي ،
أما سبب امتناع الثورة في المجتمع الاشتراكي والشيوعي فلأن درجة التخدير الإيديولوجي في هذه المجتمعات أعمق وأخطر إذ كيف يعي المجتمع الاشتراكي والشيوعي ضرورة الثورة على الثورة ومتى(1) .
هكذا نجد الديمقراطية بمعناها القديم تعكس أوضاع المجتمع اليوناني الذي يمثّل فيه حكم الشعب أسوأ أنواع الحكم وأردأ النماذج السياسية في حين أصبح المفهوم الحديث للديمقراطية يعني أنها أحسن النماذج وأعدلها وأقومها، لكن هذا لم يمنع من وجود خلاف جذري بين المفهوم الليبرالي للديمقراطية والمفهوم الماركسي سواء كان شيوعياً أم اشتراكياً. ولتطرف المفهومين عجز كل منهما أن يجمع بين الحرية والعدالة الشاملة بمعناها السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وما دام المفهوم الليبرالي والمارسكي للديمقراطية قائما على الصراع فإنه أصبح من المستحيل هذه المفاهيم أن توفق بين الحرية والعدل الاجتماعي...
الهوامش
(1)
Piyre Fitte. A. Le Mal Francaise, Paris. 1976.
الصفحة115
الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية
إِنّ أغلب قادة الغرب والمؤرخين المحدّثين. صفقوا لإِنتصار الحلفاء على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية بحماسة زائدة زاعمين إنه انتصار للديمقراطية ذاتها ووضع حد لعالم الاستبداد واللامساواة والميز العنصري والاستعمار والصراع الطبقي يقول الرئيس الأمريكي روزفالت: (إن الأمم حاربت لإيجاد عالم خال من الاستبداد والعنف؛ عالم مؤسس على الحرية والمساواة والعدل؛ عالم يكون فيه كل الناس بقطع النظر على اللون أو العنصر في أمن وشرف وكرامة»(١) فأين هو هذا العالم الذي حلم به روزفالت؟ فرغم التطور الذي حدث في مجالات كثيرة من مجالات الحضارة المعاصرة، ورغم إلحاح الأمم الصارخ على وجوب العمل من أجل تحقيق المبادىء التي نادى بهاروز فالت؟ ورغم إنسانيتها كما ذكر ذلك ماتوي أرنولد، رغم ذلك كله فالإنسانية ما تزال تعاني الأمرين من جرّاء الصراع الطبقي والظلم والاستعمار. لذلك نجد الحربين العالميين ليستا إِلا حالة من التأزم الحاد التي ظهرت. وما انتصار الحلفاء إِلا نتيجة جزئية لا ترقي إلى الحل الجذري والقضاء التام على الأزمة ودليلنا على ذلك أنه ما كادت الحرب العالمية تضع أوزارها حتى بدأت الحرب الباردة. ولعلّ الفرق الوحيد هو أن الحرب النازية كانت تلتهم ضحاياها من الأقوياء والضعفاء على حد سواء أما الحرب الباردة فأكثر ضحاياها هم الضعفاء، فالأزمة إذاً على مستوى العالم الحديث ما تزال تزداد حدّة، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنعتبر الحرب ونصر الحلفاء وغلب الألمان لم يزد الأزمة إلا حدة والمشكلة إِلا تعقيداً
الهوامش
(1)
Hans Nicholas comparative Education, London of P. 235.
ليكولاماتس، التربية المقارنة، ص: 235 .
الصفحة116
ومع ذلك كان من المتوقع أن الحربين العالميتين وانتصار الحلفاء، حماة الديمقراطية، من شأنهما يمهدان السبيل لتحقيق شعار الديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب .
أما بالنسبة إلى بعض المفكرين فهم لم يكونوا يتوقعون عدم تحقيق الديمقراطية فقط بل صاروا لا يطمئنون أيضا إلى غموض مفهومها. أما البعض الآخر من الشيوعيين(١) الماركسيين، فيعتقدون أنها عدالة اجتماعية بينما يراها الرأسماليون بأنها مساواة سياسية لا غير. والحقيقة أنه لا المعنى الأسمى ولا المفهوم الجزئي ، يستطيع أن يعطي الصيغة النهائية للديمقراطية، وإِن حاول البعض أن يوفق بين مختلف المقاصد المتعارضة، كما بينا فعندما بنى (كارل ماركس) جدليته ليفسر الصراع الطبقي ويضع فرضيته التي تقضي أن يتجاوز الصراع تناقضات المجتمع الرأسمالي ليحقق التسطيح في المجتمع الاشتراكي، فالشيوعي افترض النمو المتوازي للطبقة العاملة ورأس المال في وقت واحد، في حين أن التطور التكنولوجي الذي حدث بعد الحربين العالميتين أتى بنتيجة مخالفة تماماً لفرضية كارل ماركس، لأنه لم يقرأ حساباً ما أحدثته التطورات التكنولوجية من آثار، وهو ما جعل رأس المال ينمو دون أن تنمو معه طبقة العمال لأن الآلة عوضت الطاقة العضلية البشرية وهو ما جعل التنبوء الماركسي لم يتحقق فقط، بل ظهرت طبقة رأسمالية جديدة في بريطانيا، وغيرها، وصار حزب المحافظين يزداد قوة ونفوذاً. فأين هذا مما كان يتوقعه ((كارل ماركس)) من تحقيق المجتمع الشيوعي في بريطانيا. لقد أصبح العالم الحديث يعاني من مشكلات البطالة والتضخم والتبذير وتراكم الأسلحة المدمرة للعالم وغيرها من المفارقات التي هي أخطر بكثير من تلك التي كانت في عهد ماركس. ولئن كان لهذا الأخير فضل كبير في إظهار الحيف الاقتصادي في العالم الليبرالي وإعادة الاعتبار إلى الطبقة العاملة وإلى الإنسان فإن نظريته أصبحت عاجزة أما متطلبات القضايا المستجدة ودراسة المشكلات الجديدة المعقدة حيث الأمم الغنية تزداد ثروة على حساب
الهوامش
(1)
Gribble James. Editor. Mathew Arnold Educational Thinkers series. P. 35.
ماتوي أرنولد، المفكرون التربويون .
الصفحة117
الأمم الفقيرة وهو ما جعل الهوة بين الأمم الضعيفة والأمم القوية تزداد اتساعاً .إنه العالم الحديث في هذه الصورة، صار يعاني من أبشع مظاهر الظلم وأخطر حالاته ثم أن حصر نظرية قيمة العمل عند كارل ماركس فيما يبذله العامل فقط من جهد وغضه الطرف عما سواه من العوامل المساهمة في الانتاج جعل هذه النظرية تفقد صلاحيتها وتعجز بالتالي عن تقديم التفسير الاقتصادي الصحيح. وبطلان نظرية قيمة العمل عند كارل ماركس يترتب عليه بالضرورة كما يقول: ((بهوم باور)) بطلان نظرية فائض القيمة. إن علم الاقتصاد الذي تقوم نظرياته على أساس التوافق مع الواقع أصبح مضطراً إلى التخلص من التصور الميتافيزيقي المغاير كالتحليل الماركسي، فهذا الأخير كما يعتقد ريمون بار يستمد وجوده ليس من توافقه مع الواقع وإنما يستمده من الدور الذي جددته الفلسفة الماركسية، أما دليله على ذلك فهو أن كارل ماركس أخذ نظرية قيمة العمل من المدرسة الكلاسكية الإنجليزية ثم أعطاها مفهوما آخر في إطار للسفته ومفهومه للإنسان وهو ما حمل نقاد الماركسية إلى القول بأنها نظرة ميتافيزيقية أكثر منها نظرة علمية تحليلية. ودليلهم على ذلك أنك إذا حاولت أخذ ما في التحليل الماركسي من ما هو ميتافزيقي لا يتبقى فيه شيء يذكر. لهذا السبب يقول: «شويتار»: إِن نظرية قيمة العمل عند كارل ماركس أصبحت اليوم ميتة ومدفونة على أن علوم السياسة وعلم الاجتماع علوم ما تزال ترفل في ثياب الفلسفة القشيبة تحتاج إلى محاولات نقدية للتخلص من النظريات المغايرة ولن تستطيع ذلك إلا بالعودة إلى المنهج العلمي القائم على أساس الواقع، أن النظرية الماركسية ما تزال تشغل حيزاً من علوم السياسة والاينتماع وهي مع ذلك أبعد ما تكون عن التحليل الموضوعي لأنها فكرة. أيديولوجية أخذت من مظور ميتافيزيقي للواقع أنها نظرة مشبعة بالأحكام المسبقة تستمد مبرراتها من الإطار النظري الفلسفي للمادية التاريخية ومن ثمة فهي فكرة أليق بالحماسة الثورية الحركية منها بالنظرة الموضوعية السليمة والمنهجية العلمية القويمة لدراسة الواقع.
إن إفلاس هذه النظريات نظرياً بما تتضمنه من مفاهيم وقيم .... نجم عليه بالضرورة إفلاس للخطط الإصلاحية التي وضعت على أساسها سواء في
الصفحة118
العالم الغربي أم في غيره من أنحاء العالم الإسلامي، ومن أبرز مظاهر هذا الإفلاس في أمم الغرب انتكاس الفكر الديموقراطي وطغيان النزعة الإمبريالية على العالم الحديث. وأصبح هذا التقهفر للنزعة الديمقراطية يمثل نكسة أخلاقية حضارية سيكون لها أسو الأثر على العالم الحديث. إن الفكرّ الديمقراطي الذي كان ينضح بالعدالة ويطفح بالعاطفة الإنسانية ويتحمس لحرية الشعوب . .. في مرحلة ما بعد الحرب قد خاب أمله وتبددت أحلامه وبدت جهود المعتدلين من المفكرين ورجال السياسة عاجزة على أن توقف التيار الإمبريالي الاستعماري الذي أعاد الكرة من جديد في أيامنا هذه.
إذن إن تأزم الأوضاع في العالم تجاوز التفسير الجدي الماركسي والفهم الليبرالي عند كل المفكرين الليبراليين وجعل بالفعل الأيديولوجيات السائدة عاطلة بالمرة لأن هذه الأيديولوجيات قد دخلت بأصحابها مأزق التبذير الذي لا ستطيع أن تخرج منه أبدا فمجتمع الاستهلاك لا يستطيع أن يرجع إلى التقشف الذي هو شرط للبناء الاقتصادي الذاتي فلا المجتمع الرأسمالي ولا الليبرالي ولا لمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي يستطيع أن يوقف النزعة الإمبرالية الطاغية على العالم الحديث، فأزمة العالم لم تعد خاضعة للتفسير الأيدولوجي والتحليل الميتافيزقي والفكر المغاير للواقع ومعضلات العصر صارت تهدد الحضارة برمتها والإنسانية بأجمعها وأوضاع العالم الحديث ما تزال تبعث على القلق والريبة وما تزال الأيام تزودنا بما لم نكن نتوقع، وكدما انكشف الأسرار يتزايد تساقط الأقنعة وينكشف لنناس زيف الشعرات ويتبين لهم عجز الأيديولوجيات الشرقية والغربية التي طالا خدرت العقول وجمدت الضمائر وخيبت آمال الأجيال .
ما أعظم التاريخ وم أهم دروسه ولكن ما أكثر العبر وما أقل من يعتبر
قال تعان: فِ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُواْ الْأَلْبَبِ).
الصفحة119
الإيديولوجية الديمقراطية في العالم الإسلامي عندما يرى دهاة الاستعمار فشل سياسة القمع، والقهر ويواجهون بثبات المسلمين على دينهم، يلجؤون إلى الدهاء والمكر، ويستخدمون طرقاً لا تثير غيرة الشعوب، ولا تستفز عاطفتهم، ولا تلفت انتباههم بالمرة. فيستعملون التخدير الإيديولوجي والتضليل الدعائي تحت شعار الديمقراطية والمدنية مستخدمين لذلك الغرض مختلف وسائل الأعلام والتربية والتعليم والفساد الأخلاقي ووسائل الترفيه ومختلف الفنون والتقنيات. بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فأسسوا معاهد عليا جامعية وما بعد الجامعة (ككولاج دوفرانس» في باريس ومعاهد الدراسات الشرقية في مختلف الجامعات البريطانية والأوروبية. الغرض منها تكوين وتخريج خبراء وعلهاء متخصصين في العلوم الإسلامية. وفي رأيهم أن محاربة الإسلام لا يتأتى إلا عن طريق معرفته فعلى الرغم من وجود معتدلين منصفين في دراستهم جادين علماء موضوعيين قدموا دراسات خدمت الإسلام والمسلمين فإن أغلبهم كان حرباً على الإسلام والمسلمين لم يعرف لهم مثيلاً في الدهاء والكيد. فوضعوا الإسلام في قفص الاتهام ونسبوا إليه ما هو ليس منه وهو منه براء، فاتهموه بالاستبداد وهو عدل وشورى بصريح القرآن: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا قَوَامِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ أعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (النساء : 135) وقوله تعالى:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ) ووصفوه بالعنف وهو لين ورحمة يقول تعالى : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَا نَفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ)
ونسبوا إليه التأخر الذي آل إليه المسلمون وهو سبيل الهدى ونهج الصلاح والفلاح
الصفحة 120
والصراط المستقيم قال اللّه عز وجل: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاْ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
وقال تعالى: ( دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ) وإذا ضالبتهم بالدليل الذي يثبت زعمهم ردوك إلى حال المسلمين وما آل إليه أمرهم من فساد وتناقضات وضعف ووهن ويتحايلون عن الحقائق التاريخية التي لا تخفي على عاقل من ذلك إن ما أصب المسلمين من تدهور إنما سببه الرئيسي ضعفهم في دينهم وتهاونهم في العمل به كما كان قد عمل به أسلافهم الذين سادوا وبحظ الدارين فازوا ومن ثمة يكون الإسلام حجة عليهم وليس العكس وإلا انقلبت الحقائق ويعود الباطل حجة على الحق والفساد حكما على الإصلاح فتعكس النتائج بعكس المقدمات. عندئذ كيف يستقيم منطق ويصح منهج وكيف يتأتى الوصول إلى حقيقة صحيحة تمكن البرهنة على صحتها؟ وتتأتى لنا الثقة فيها .
إن قصدهم هذا من تزييف الحقائق تضليل الناس وتنفيرهم من الإسلام ونحريض خصومه على محاربته وإخلاء الساحة الثقافية في البلاد الإِسلامية من عقيدته الصحيحة وشريعته السمحاء ومفاهيمه الجامعة المانعة الدقيقة وحكمه البالغة التي تشمل الميادين كلها وتغطي كل مجالات الحياة الروحية والمادية والثقافية والحضارية. فكلما اتجه مفكروا الاستعمار إلى ميدان لإفساده وجدوا الإسلام إمامهم حصناً حصيناً وسداً منيعاً وهذا ما جعل تشرب إديولوجياتهم وتحقيق التغريب كهدف سياسي رئيسي أمراً عسيراً. لكن الطرق الخبيثة التي استخدموها لمحاربة الإسلام وبث الدعايات لتشويهه كادوا يحققون بها غرضهم وهو عزل الإسلام عن الحياة لتخلوا ساحتها لأديولوجياتهم وقيمهم وخاصة في مرحلة الاستعمار الجديد .
كل ذلك ظناً منهم أن الأمة الإسلامية سوف تتحول في يوم ما ناكصة على عقبيها تاركة دينها الذي به عصمة أمرها. وإن حصل ذلك تدريجيا فيميل بعض
الصفحة121
االمغروريين من أبنائها إلى تقليدهم، ويسيرون مطيعين على الدرب الذي قصدوه وأقبلوا على البديل الذي انتحلوه ووقعوا في التبعية لا محالة إلى أجل لأن أعداء الإسلام يعتقدون أن ما يمكن للأمة الإِسلامية أخذه من قشور حضارتهم لا بسمن ولا يغنى من جوع لأن بدائلهم التربوية كانت غايتها تكوين (حرفي الثقافة» على حد تعبير مالك بن نبي ومقلدين لا قدرة لهم على التجديد والإبداع والاختراع إلا في الأمور البسيطة والخبرات العادية والمعلومات السطحية وتعميم المستوى الرديء، واكتساب الثقافة الشكلية اللفظية. لذلك كان حرصهم على تعليم لغتهم نال كل الحرص. ففي الهند وباكستان وإيران وغيرها وجه الناس إلى تعليم اللغة الإنجليزية بينها أجبرت شعوب على تعليم اللغة الفرنسية في أغلب الأقطار التي كانت تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية كالجزائر وتونس والمغرب والنيجر والسنيغال. .. إلى درجة أمسى فيها المسلمون الذين كانت تجمعهم لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة كما جاء في صحيح السنة عندما يلتقون في موسم الحج يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعامل في الغالب باللغة الفرنسية أو الإنجليزية باستثناء القلة القليلة منهم الذين هم يحسنون اللغة العربية فالاستعمار كان يدرك منذ زمن أن جدار اللغة أصعب - من جدار برلين - والحواجز اللغوية أهم من الحدود الاعتبارية التي جزأت العالم الإسلامي . لأن هذه الأخيرة إن جزأت العالم الإسلامي ماديا فاللغات جزأته ثقافياً وفكرياً تمهيداً للتجزئة العقائدية بواسطة الاتجاهات الأيديولوجية العقلانية المختلفة التي تجعل عملية التمزق ذاتية داخلية.
ولما كان عهد مقاطعة الأهالي للتربية الاستعمارية ورفضهم لتسليم أبنائهم إلى مؤسساتها قد طال، وما تبقى من كتاتيب قرآنية وزوايا وجوامع لطلبة العلم لم تعد كافية، طغى الجهل، وانتشرت الأمية، وتحول المجتمع الإسلامي الذي كان ينضح بالثقافة الإسلامية الثرية ويطفح بالمعارف المتنوعة إلى مجتمع يعاني من استفحال الأمية وكانت هذه الأخيرة قبل الاحتلال تكاد تكون معدومة في مختلف الأقطار الإسلامية، فقل العلماء في كل مجالات المعرفة بقلة المؤسسات التربوية العليا بسبب منعها ومضايقة العلماء حيث لم يبق في العالم الإسلامي إِلا الأزهر والزيتونة والقرويين وبعض المعاهد والجوامع في الهند والصين وباكستان وإيران
الصفحة122
بالإضافة إلى مسجد الرسول جع بالمدينة وغيرها من مدائن المشرق والمغرب وكان لا يلتحق بها إلا قلة لبعدها وقلتها على أن بعض الأهاي انصاعوا إلى الضغط الاستعماري تحت وطأة الظروف القاسية فأرسلوا أبناءهم إلى المدارس الاستعمارية وصار في البلاد الإسلامية نوعان من المتعلمين في مؤسسات إسلامية والأخرى غربية فأما المتعلمون في المؤسسات التربوية الإسلامية فهم ينقسمون أن قسمين منهم من حمل لواء الإصلاح وراية الدعوة الإسلامية وتفرع لتوجيه الأمة الوجهة الإسلامية وتصدى للغزو الاستعماري العسكري والسياسي والفكري بكل ما أوتي من علم وفضل وشجاعة وثبات، وهؤلاء بالنسبة إلى غيرهم كثرة، ومنهم من قعد عن ذلك اجهاد وتأخر وامتهن الإمامة والقضاء بدخرهم الرضيف التابع للإدارة الاستعمارة وهؤلاء كانوا قلة .
وأما من كان تعنيمهم في المدارس والمعاهد واجامعات الغربية وعددهم قديل بالنسبة إلى عدد السكان الأهاي في كل قطر من الأقطار الإسلامية كما بينت حصائيت اليونسكو في تلك الفترة وهم أيضا قسمان : منهه من حمل شعل اننضان والدفاع عن حقوق الأمة فأنشأوا الأحزاب السياسية وكونوا مع نعء المسلمين جبهة سياسية وثقافية. فهؤلاء وإن نشبعوا بالفكر الغربي الذي نشوا عليه منذ الصغر فإنه م يمنعهم تقبلهم للثقافة الغربية من التشبث بأهداب دينهم الإسلاء وإن جهلوه. والثبات عليه وإن كلفهم ذلك الكثير من المتاعب خاصة وقت مزاونتهم الدراسة في المؤسسات الاستعمارية لأن محاربة هذه الأخيرة للإسلام م تكن خفية .
أما النوع الثاني فلعدة أسباب وقعوا في أحبولة الاستعمار والتقرب إليه والعمل معه في تحقيق مخططاته الاستعمارية وهؤلاء قلة في أغلب الأقطار الإسلامية مما يدل دلالة واضحة على فشل السياسة التربوية الاستعمارية وعدم قدرتها على استقطاب غالبية المثقفين من أبناء المسلمين .
لكن بواسطة هؤلاء وغيرهم تسرب الفكر الغربي الأيديولوجي وغيره.يقول شوستز صاحب كتاب - خنق العجم -: (وأما المتعلمون الذين طلبوا العلم خارج بلادهم وقاموا بسياحات كثيرة في الممالك الراقية فيعدون بالمئات وقد أظهر
الصفحة123
جميع هؤلاء استعداداً لاقتباس الآراء الغربية والأخذ عن الحضارة الأوروبية وهم الذين قاموا بدك صروح الاستبداد دكاً ورفع علم الدستور والديمقراطية خفاقاً، بعد أن ذللوا الصعب وركبوا الهول وعلى أيدي الجكومة التي أنشؤوها انتشر العدل بين الناس»(١). يتعين من هذا الشاهد أن الذين كان لهم الاستعداد التام لتقبل كل ما جاء به الغرب من مفاهيم وأيديولوجيات هم أولئك الذين تأدبوا بأدب الغرب في المدارس وسائر المؤسسات الغربية التي زرعت في إيران كما زرع في غيرها من باقي الأقطار الإسلامية .
مع العلم أن هؤلاء الذين تثقفوا في المؤسسات الاستعمارية وإن نبه فيهم قلة فأغلبهم لم يكن مستوى تحصيلهم يسمح بالقدرة على النقد والتحليل والمناقشة الموضوعية العميقة لمختلف جوانب هذه الأيديولوجيات واكتشاف نقاط القوة والضعف وما نشأ عنهما من تعارض وتناقض إلى غير ذلك. ويقفون على المسائل التي جدت عند مناقشتها ووضعها في محك التجربة ليعرفوا ما يمكن أخذه عن وعي ودراية وما يجب تركه عن قصد وعلم. وإذا كانوا عاجزين على نقد الفكر الأيديولوجي وتحليله ومناقشته فإنهم لا يقدرون بالطبع على تجاوزه سواء كان ذلك التجاوز عن طريق دراسته هو كفكر أم دراسة التراث الإسلامي يخرجوا منه بجديد بحيث يكون الأخذ والترك عن دراية إلا ما رحم ربك من . أمثال السيد قطب ومالك بن نبي ومحمد إقبال وشكيب إرسلان .
على أن محاولات ظهرت في هذا الصدد نذكر منها محاولة محمود أبو السعود والسيد بدوي وباقر الصدر وغيرهم... وعيسى عبدو ولقد بينت هذه الدراسات أن في الإسلام مفاهيم وقيم اقتصادية كافية لتكوين أسس ومبادئ نظام اقتصادي متكامل، له خصائصه وميزاته التي تتفق مع طبيعة الأمة الإسلامية اتفاقاً لا يشوبه تناقض ولا تضارب، فعلى الرغم من أن هذه المحاولات ما تزال في طورها الأول تحتاج إلى دراسات وبحوث تطورها وتثريها مما يزيدها دقة وشمولاً وقدرة على العمل بها في مجالات الاقتصاد والسياسة فإنها
. The strangling of persia كتاب خنق العجم Shuster سوشتر (1)
انظر كتاب حاضر العالم الإسلامي، ج 4، ص: 62.
الصفحة124
صارت حجة على بطلان القول بالتوفيق وضرورة انتحال الأيديولوجيات كخبرات أجنبية مهما كان مستوى رقيها وتطورها.
أما المنتحلون للأيديولوجية الغربية والشرقية فقد بقي عندهم مفهوم الديمقراطية مرتبطاً بالاتجاه الأيديولوجي كما هو عند أصحابه فالإشتراكيون العرب مسلمون أو غير مسلمين أخذوا بمفهوم الديمقراطية التي قال بها كارل ماركس وأنجلز كما تقدم، في حين التزم كل أصحاب الاتجاه الليبرالي بالمفهوم الليبرالي للديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية. ومن ثم لم نجد أي محاولة أعطت مفهوم الديمقراطية مزيداً من العمق أو الشمول كأن تجمع بين الحرية من حيث هي إفساح لمجال التنافس والعدالة الاجتماعية كما حاول ماثوى أرنولد في بريطانيا والصينيون أخيراً بعد ماوتسيتونغ. بل كثيراً ما نجدها أكثر تطرفاً عند الماركسيين العرب منها عند ماركس نفسه في حين أيضاً تطرف الليبراليون في فكرة التنافس أكثر من آدم سميت ذاته فباستثناء هذا التطرف يمكن القول بأن المفهرم بقي كما هو على المستوى النظري، فهؤلاء ! يتجاوزوا مستوى، تبني فكرة الأيديولوجية على علاتها والدعوة إليها. وكأن الديمقراطية في رأيهم بلغت في نفكر الغربي والشرقي غايتها في العدل ونهايتها في المجال الأيديولوجي والرقي السياسي، وممن يقول بهذا الرأي أحمد حسن هيكل وايلي سالم وسلامة موسى من القومين والإشتراكيين العرب .
ولئن زعم هؤلاء محاولة التكييف والتصرف فلم تتجاوز محاولتهم التغيير انشكي لا يهام الناس مطابقتها للأوضاع الثقافية والاجتماعية المجيبة والقومية، وممن يمثل هذا الاتجاه: سلامة موسى وإيلي سالم وخالد محمد خالد، وعلي عبدالرازق، فهؤلاء زعموا أن ما جاءت به هذه الأيديولوجية من مفاهيم وتصورات، قد فاق الأيديولوجية السابقة وما على الإسلام إلا مواكبتها ومسايرتها، على أن هؤلاء وصلوا إلى هذه النتيجة دون أن يطلعوا على ما في الإسلام من مفاهيم وقيم، والغريب كيف سمح هؤلاء لأنفسهم بالحكم على ما نجهدون والحكم على الشيء فرع عن تصوره وإذا كان هناك من يعرف الإسلام منهم وقال بقابليته لكل الأيديولوجيات والنظم الحديثة على اختلاف أشكالها من أصحاب العمائم فهم في موقفهم هذا لا يخلون من أحد الأمرين .
الصفحة125
إما أن يكونوا جاهلين بحقيقة هذه الأيديولوجية لا يعرفون عنها إِلا الشعارات والمعلومات البسيطة التي لا تساعد على معرفة الأغوار والأسرار. وإما أنهم عالمون بحقيقتها لكنهم متملقون للشرق والغرب ولمن تبعهما من الحكام . وفي الحالتين لا يقبل منهم رأي لأن الرأي للعدول وهم في هذا الحال ليسوا عدولاً بالمرة ويمثل هذا النوع خالد محمد خالد(1) في طور افتتانه بالتغريب وعلي عبدالرازق(2) وأمثالهما الذين لا يخلو منهم قطر على أن البعض الآخر حاول التوفيق بين الإسلام والديمقراطية في الفكر الليبرالي والماركسي بناء على ما في الديمقراطية من جوانب لا تخلو من العدل وإعادة الاعتبار إلى الشعب والحرية . .. فهي في هذه الحال تلتقي مع الإسلام بلا ريب ومن ثمة يمكن القول في رأيهم بإمكانية التوفيق لإظهار ما في الإسلام من محاسن يمكن أن تجعل المنصفين من أصحاب
•الأيديولوجيات الشرقية والغربية يعترفون بما في الإسلام من فضل إذ يحتوي على المرامي التي جعلتهم يعتنقون تلك الأيديولوجيات وإذا ما علموا علم اليقين أن الإسلام قادر على مواجهة القضايا المستحدثة بنفس القوة التي نجابه بها الأيديولوجيات الحديثة من قضايا العصر، أقبلوا عليه كما أقبلوا على الأيديولوجيات الحديثة وخاصة إذا ما وجدوه أحسن وأفضل.
ويمثل هذا الرأي محمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهما والحقيقة أن محاولات التوفيق ليست جديدة في الفكر القديم والحديث. لقد حاول فلاسفة القرن الخامس عشر والسادس عشر التوفيق بين الفلسفات القديمة وفلسفة الكنيسة على ما بينهما من الاختلاف كمحاولة كالقن ومارتن لوثر وغيرهما، وظهرت محاولات من فلاسفة الإسلام كالكندي والفارابي وابن رشد.
أما محاولة الفارابي للتوفيقية فلم تقف عند حد التوفيق بين أفلاطون وأرسطو على ما بينهما من الاختلاف حيث أن أفلاطون مثالي وأرسطو واقعي والتوفيق بينهما من قبيل التوفيق بين الأضداد حاول أيضاً التوفيق بين الفلسفة والدين وأما ابن رشد فقد حاول التوفيق بين العقل والدين في كتابه الذي رد
الهوامش
(1) خالد محمد خالد، من هنا نبدأ .
(2) علي عبدالرزاق، الديمقراطية أبداً .
الصفحة126
فيه على تهافت الفلاسفة للغزاني - تهافت التهافت - والسبب في ذلك أنه كثيراً ما يبدو التوفيق ممكنا حتى في اخالات التي يكاد يكون التوفيق فيها من قبيل المستحيل كالتوفيق بين الأضداد فيبدو ممكناً عندما يبحث المقارن على التماثل أو التشابه مع غض للطرف عن وجوه الاختلاف مهما كانت هذه الحالات التماثلية جزئية كأن يكون بها صلة بين الموضوعين الذين هما موضوع المقارنة من أجل نتوفيق وفي هذه الحالة إذا كانت الديقراطية في المفهوم الاشتراكي والشيوعي تعني العدل الاجتماعي كما بينا.
والإسلام يركز بدوره على العدل حتى يجعله أساساً للعلاقات امختلفة بين الحاكم والمحكوم وغيرهما فينطلق المقارن من هذا التماثل اجزئي إن الزعم بأن الديمقراطية بالمفهوم الماركسي الاشتراكي أو انشيوعي يتفق مع الإسلام وكذلك الشأن مع باقي المفاهيم الأخرى. على هذا الأساس الخاطيء منطقياً يصبح الحكم على الجزء حكما على الكل وهذا باطل طلاقٌ لأن اجزء لا يستغرق الكل بينما يستغرق الكل جميع أجزائه ؛ لهذا تكون لحولات الترفيقية قائمة على التصور الذري أو اجزئي لأن التصور الشمولي أنكي يرفض فكرة التوفيق رفضاً تاماً. فالكليات المغايرة بالضرورة لغيرها من الكليات التي ليست من نفس المصدر والمنهج والشريعة فكل كلي في شريعة ما أو منضومة ما يختلف مع كل آخر يناقضه في الأصل .
وهذا ما جعل الجهود التي بذلت من أجل التوفيق بين الإسلام والأيديولوجيات لإ تثمر شيئا والسبب في ذلك أمور منها :
-1 عدم القيام بنقد مرضوعي على مستوى القضايا المستجدة والتي عجها الإسلاء وتناونتها الأيديولوجيات المختلفة وعدم التأكد من طبيعة موقف كل منهما وم إذا كانت مواقفها متكاملة أو مختلفة وأيهما يضطر إلى الأخر .
-2خلو المخاولات التوفيقية من الجهود النقدية الموضوعية لكل من الإسلام والأيديولوجيات موضوع التوفيق ما يجعل الدراسة في مستوى النظرة الكلية الشمولية واكتشاف وجوه الاختلاف والفروق وما إذا كانت الاختلافات
الصفحة127
والفروق على مستوى الفروع فقط أم تمتد إلى مستوى الأصول ثم التأكد من إمكان التوفيق أو عدم الإمكان بنزاهة وأمانة وموضوعية.
- 3عدم إثبات عجز الإسلام وإثبات عدم قدرته على معالجة القضايا المستجدة في العالم المعاصر إلا باستناده على هذه الأيديولوجيات ومبررات افتقاره إليه لأنه ما لم يثبت عجزه وحاجته لغيره زال مبرر التوفيق .
- 4عدم إثبات استحالة البحث والتحقيق للتراث الإسلامي والتوصل إلى اكتشاف نماذج إسلامية يجعل المسلمين في غنى عن انتحال الأيديولوجيات الغربية والشرقية.
أما إذا كان في التراث الإسلامي ما يكفي لقيام نظرية إسلامية كاملة قائمة على أساس الشريعة في مستوى القضايا السياسية والاقتصادية فتصبح القضية إذن قضية بحث ودراسة وتحقيق وتنقيب. .. فهذه المشكلة يمكن حلها مجرد انشاء معاهد للبحوث الإسلامية في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع . . . وعندئذ تصبح المسألة مسألة وقت وجهد منهجي واعي وإذ تخدم هذه الاكتشافات الإسلام والمسلمين تقدم أيضا للعالم الحديث ما هو في حاجة إليه من الحلول لتجاوز أزمته .
- 5إن قيامها على مسلمات خاطئة جعلها تفترض النقصان في الكامل والكمال في الناقص حيث اعتبرت الإسلام لقيامه على الوحي ناقصاً بل غير مقبول بينما افترضت صحة الأيديولوجيات وكمالها وهي قائمة على العقل المتطور والقول بتطور العقل باطراد هو إقرار صريح بنقصانه فإِذا كان المصدر الأيديولوجي هو العقل وهو ناقص فكيف تكون هي كاملة؟ ثم راح هؤلاء يخضعون الإسلام إلى هذه الأيديولوجيات. مع العلم أن إخضاع الكامل للناقص يحول الكامل ناقصاً بالضرورة وهذا عين الخطأ الذي حدث لكل من اليهود والنصارى عند تغيير كتبهم السماوية بدعوى الإصلاح.
- 6إن مجرد الاعتماد على التطابق الجزئي لا يفيد أبداً معنى حقيقة إمكان التطابق الكلي بينما العكس هو الصحيح .
الصفحة128
فالذين يعتبرون أن الإسلام كل لا يقبل التجزئة حجتهم دامغة بصريح القرآن والسنة لا يقبلون التوفيق لأنهم يدركون ما يحدثه التوفيق من التناقض نيس فقط على مستوى الفروع بل كذلك على عمق الأصول التي تعد مخالفتها مخالفة لروح الشرع لأنها قطعية (1).
أما صاحب النظرة الذرية أو الجزئية فيكفي أنهم يعثرون على جزء أو عدة أجزاء متماثلة أو متشابهة بين مجموع القيم ليجرؤوا على ادعاء التماثل والتقارب فيتحول التشابه الجزئي إلى تماثل كلي وهذا عين الخطأ لأن الحكم الجزئي لا يعمم باعتبار اجزئي لا يستغرق الكلي بالمرة بينما العكس هو الصحيح. فاحذر إن كنت أريبا .
أما بالنسبة إلى علهاء الإسلام. فهم لا يشكون في كمال الإسلام، وإنه بقتضى كماله يستلزم بالضرورة كمال عدله، بحيث يجعل الحرية والعدل لاجتماعي اللذين هما على طرفي نقيض في الأيديولوجية الغربية والشرقية شيئا واحداً لا تعرض بينهما. بل كل منهما يكمل الآخر، ولا تتناقض مصلحة الفرد ومصلحة اجمعة، كم تتناقض في المجتمع الاشتراكي والشيوعي والليبرالي، ولا نكون ثروة الأغيناء على حسلب الفقراء. كما هو الشأن عند الليبراليين، ولا نتصارع صبقة غنية مع طبقة فقيرة، كما هو في المجتمع الليبرالي حس التصور مركسي. بل يربط بين المسلمين الإسلام الذي سوى بين الناس جميعاً : «لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى)) فآخى بين سمين جميع لتحقيق التكامل والتعاون والتكافؤ كما آخى الرسول وية بين مهجرين والأنصار .
والحقيقة أن القول بشخصية النموذج الإسلامي المتميزة لا مبالغة فيه فكل الدارسين للإسلام والعالمين بخصائصه والمطلعين على حقيقة الأيديولوجيات القديمة واحديثة لا يختلفون في تميزه عن غيره من الديانات
الهوامش
(1) الشاطبي ، اموافقات، تحقيق عبدالله دراز، المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد علي، مصر .
الصفحة129
والنظريات الفلسفية المختلفة. فهذه حقيقة تدعمها مصادره وخاصة القرآن الكريم والسنة كما يثبتها أيضا تاريخ الفكر البشري القديم والحديث.
وإذ اعتمد الإسلام على كل من الوحي والعقل نلاحظ أن الأيديولوجيات الحديثة رفضت كل ما هو رباني ولا تقبل إلا ما كان مصدره العقل وحده وإن خالف هذا الأخير الشرع وهذا ما نبه إليهِ علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وغيرهم. وإذا كان المشَرّع في الإسلام هو اللّه فإن المشرع في الأيديولوجيات الحديثة هو الإنسان وإذا ظل الإنسان المشرع إنساناً فكيف يشرع الإنسان للإنسان وكيف يكون العدل وأنت الخصم والحكم؟ ولذلك تجد المبرر الأساسي الذي تستمد منه هذه التشريعات الأيديولوجية شرعيتها هو الصراع والتنافس وليس هو أبداً العدل والمساواة. .. بينما أقام الإسلام شريعته على أساس العدل والمساواة بدأ بالقضاء على مبررات الصراع ذاتها من الاحتكار والربا والظلم والاستبداد. .. وضمان الحريات.
من أجل ذلك حددت القيم والمفاهيم تحديدا لا يقبل التبديل في كليات قطعية لا ظنية. كل هذه فروق أساسية لا يمكن تجاهلها بالمرة ولا يستطيع أن ينكرها عاقل عارف بهذه الأمور .
والواقع أن اختلاف الشرائع باختلاف أسسها ومصادرها وأصولها ومقاصدها أمر لا شك فيه وهو ما يصرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى: (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .
أما علم القانون المقارن حسب ما جاء عن أشهر علمائه ونظرياته فبؤكد اختلاف الشرائع باختلاف الأمم في قيمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وظروفها التاريخية والاجتماعية والثقافية والحضارية . .. ولقد أدرك هذه الحقيقة زعماء الاستعمار من قبل ومنهم من اعترف بأن ما حققه الإسلام من العدل والمساواة والأخوة والوئام بين سائر أفراد الأمة لم تصل إليه. النظم الوضعية الشرقية والغربية وإن ما حققه مجتمع الرسول وعاجيخي وخلفائه الراشدين ومن سار لعهم على ذلك المنهج لمن أرقى نماذج الأمم التي عرفها التاريخ .
الصفحة130
على أنهم يعمدون على زرع أيديولوجياتهم على اختلافها كي تحدث هذه الأخيرة تناقضات على مستوى القيمْ، لأن السلوك مرتبط بالتصور فبمجرد ما يتغير التصور بتغير السلوك بالضرورة وسرعان ما تظهر التناقضات على مستوى القيم حتى تنعكس هذه التناقضات على مستوى السلوك ومختلف العلاقات الاجتماعية. ففي هذه الحالة يتعذر الانسجام والاتساق اللذان كانا يطبعان حياة الاجتماعية بطابع الوحدة والتماسك. لأن القيم الإسلامية لا يمكن بحال أن تتفق مع القيم الغربية والشرقية الحديثة التي جيء بها مصحوبة بإيديولوجيات منتحلة. والدليل على ذلك أن الأيديولوجيات ذاتها ما هي إِلا مجموعة تركيبية من القيم التي صيغت في شكل مفاهيم وتصورات. شخصت في نظم سياسية واقتصادية … أما الدليل الثاني فيتمثل في ما تعانيه المجتمعات المنتحلة للأيديولوجيات من تمزق على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة.
والواقع أن كل علماء الإسلام الثقات بنوا مذاهبهم على النظرة الشمولية انتي تقضي بأن الإسلام كل لا يقبل التجزئة ونجد على رأس هؤلاء الأئمة
«مالك بن أنس) «والشافعي» (وأبا حنيفة) «وأحمد بن حنبل)) ((وجعفر الصادق)) . .. وعلى هذا الأساس نلاحظ أن كل علماء الإصلاح في مختلف مراحل وعهود تاريخ الأمة الإسلامية بنوا نماذجهم الإصلاحية على مفهوم الإسلاء الشامل والإسلام الكل هو ما عملوا على تحقيقه أنه الدين الكامل وأدنتهم على ذلك نقلية وعقلية: فالدليل النقلي يتمثل في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَمَ دِينَا) . أما دليلهم العقلي فيتمثل في ما جاء في أصول هذا الدين وفي فروعه من إحاطة لكل قضايا الإنسان ولكل مائه علاقة بشروط صلاحه وفلاحه في الدنيا والآخرة. وعلى هذا الأساس كان موقف «أبي حامد الغزالي» من الفلسفة نيونانية وخاصة في المسائل المتعلقة بما يسمونه بالميتافيزيقيا أي ما وراء الطبيعة هو عدم التنسيق بين الدين والفلسفة وذهب (ابن تيمية)) والمصلحون المخدثون ن رفض فكرة التوفيق بين الإسلام والأيديولوجيات الحديثة: الغربية والشرقية نذكر من هؤلاء «محمد عبده» و «حسن البنا) و «المودودي» و (أبي الحسن
الصفحة131
الندوي» وسعيد النورسي» و ((عبدالحميد بن باديس)) و ((مصطفى السباعي)) و «السيد قطب) ... فهؤلاء جميعاً وغيرهم يرفضون فكرة التوفيق بين الإسلام والأيديولوجيات المختلفة القديمة والحديثة، واعتبروا هذا التوفيق بين الأضداد فهو محال. ويتفقون على أن الحل الأوحد لأزمة العالم الإسلامي هو الحل الإسلامي .
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن العلماء الإسلامين القدامي والمحدثين لم يقعوا في ما وقع فيه رجال الكنيسة من الأخطاء، ولعل الفضل في ذلك يعود إلى التزامهم بالنصوص الشرعية، إذ لم يحيدوا عنها قيد شعرة ففي كل القضايا التي كانت تعرض عليهم يعودون إلى كتاب اللّه وسنة رسوله ية ثم السلف الصالح والتابعين... وإن اجتهدوا فلا يجتهدون حسب أهوائهم بل نقيدوا بالقياس والإجماع وغيرهما من القيود المنهجية الأصولية. بل لم يجرؤوا حتى . على الافتاء دون أن يتقيدوا بالقيود الأصولية المعروفة فكانوا رضي اللّٰه عنهم أجمعين أبعد ما يكونون عن الهوى والميل والتطرف. .. فسجل لهم التاريخ مواقف وقفوها أمام الحكام وغيرهم قائلين كلمة الحق مهما كلفهم الحق من تضحيات كموقف الإمام ((مالك بن أنس» من قضية طلاق المكره(1). وموقف (أحمد بن حنبل» من فتنة خلق القرآن(2) (وأبي حنيفة)) في موقفه من (ابن هبيرة)) عامل الأمويين في العراق(3). .. وبفضل هذه المواقف حفظ الدين بالحفاظ على مصادره وأصوله ولا سيما القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة .
ولنعرف أهمية علماء الإسلام القدامى والمحدثين في أمانتهم العلمية والإصلاحية يكفي أنهم وقفوا موقفهم الذي أشرنا إليه من التيارات الفلسفية القديمة والحديثة وما نشأ من أيديولوجيات أخيراً وتوقعهم فشلها في وقت كان العالم الحديث يتحمس لها ولا يشك في سلامتها.
إن البحوث التي أنتجوها والدراسات التي قدموها جديرة بأن تجعل الإنسانية أكثر وعياً واستعداداً لمعرفة الحق والحقيقة في هذه المجالات الشائكة.
الهوامش
(1) محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، جح، دار الفكر العربية، ص: 292.
(2) المصدر السابق، ص: 154 .
(3) المصدر السابق، ص : 205 .
الصفحة132
أما الأمة الإسلامية وهي في إبان صحوتها فلا يسعها إلا أن تعود إلى هذا التراث قديمه وحديثه المليء بالعبر الغالية والحكم النفيسة والتوجهات القيمة فتتبين طريقها إلى الحل الذي سطروه ونهج الإصلالح الذي بينوه وأهم عوامل نهضته نتي حددوها ومعالمها التي رسموها وخصائصها المميزة كل ذلك بدقة متناهية وطريقة حكيمة وأساليب قويمة. وأخيراً يمكن أن تعتبر انتاجهم ثمرة من ثمرات الصحوة ولبنة من لبنات النهضة لا يستغنى عنها مربٍ ولا رجل سياسة واقتصاد واجتمع. في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية.
الصفحة133
الديمقراطية من وجهة نظر تاريخية في البلاد الإسلامية
من مقتضيات الصراع أن الحروب ذات الدوافع الدينية أو الأيديولوجية سرعان ما تتحول من مجرد الغزو العسكري إلى غزو فكري وحضاري بالضرورة. لأنه سرعان ما يغري الغالب بضرورة مواصلة عملية القهر والفساد والتخريب إلى أن يمحو آثار الحضارة المغزوة ولا يستريح له بال ولا تسكنه له ضغينة ولا تنقى له نكاية لأن قتل الأنفس ونهب الأموال والثروات واحتلال الأوطان سرعان ما ينتهي بنهاية هذه الأغراض وما لم يكن هذا متبوعاً بالغزو الحضاري لا تتم له الغلبة ولا يدوم له مقام فالانتصار العسكري ما لم يكن متبوعاً بالانتصار الحضاري لا يلبث أن يزول ويتحول إلى تبعية وذوبان كلي في أمة الحضارة وهذا ما حدث للمغول الذين جاءوا لتخريب العالم الإسلامي وصاروا مندمجين في أمته وانتهى غزوهم دون أن يطول به الأمد.
أما إذا اتبع الغزو العسكري بالغزو الفكري والحضاري استمر الصراع الحضاري وقد يطول مدة قرون عديدة. كل ذلك حسب قدرة كل حضارة على الصراع والثبات أمام التحدي والاستمرار وطول النفس لما تتمتع به الأمة من الطاقة الروحية الإيمانية وقيم شرعية وأخلاقية لا تبليها السنون ولا تتجاوزها أحداث التاريخ. فبحكم تطور الفكر على مدى العصور طلباً للأفضل فالحضارة التي يتجاوزها تطور الفكر تصبح في حكم تاريخ الحضارات المنقرضة التي فقدت قدرتها على الاستمرار .
وسبب ذلك أن الأحقاد الدفينة لا تقف بأصحابها عند حد قتل الأنفس ونهب الأموال والثروات واحتلال الأوطان بل تتعداه إلى التخريب الحضاري
الصفحة134
كالذي حدث للبزنطيين والقرطاجيين وغيرهما لأن الأحقاد الشريرة لا تنطفيء ناره المنتقدة في القلوب إلا بالتنكيل بالمغلوبين والعمل على إفساد أوضاعهم لاجتماعية والاقتصادية والثقافية وإذاقتهم مرارة الذل والهوان برفع أولى المفاسد والرذائل وتسليطهم على أهل المكارم والأخلاق العالية الذين كانوا أجدر وأحق نناس بالسيادة والريادة والقيادة. فقد قال تعالى على لسان بلقيس ملكة سبأ عند وصون كتاب سيدنا سليمان عليه السلام وعندما قال لها حكماء قومها: (وَالْأَمْرُ يَبَكِ وَنْصّرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعرَّةَ أَهْلِهَا أَزِلَةً) (النمل: 34) ولسداد الرأي ونفاذ الحكمة أوردها القرآن من سنن التاريخ بقوله تعاى : ( وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: 34) فبقيت سنة الكريم ثم أكده التي جعلها اللّه عبرة لمن يعتبر لكل أجيال البشر .
واذا أدى الصراع اخضاري بالحضارتين المتصارعتين المتنازعتين للعالم إلى الغلب. ومحاولة تخريب اخضارة المغلوبة مادياً. فإن الحضارة التي تعرضت متخريب لا تنقضي بالقضاء على هياكلها المادية ما دامت عقيدتها لم تنهزم، وشرعته م تنخره، وأخلاقها لم تنحدر. فسلطانها على القلوب لا ينتزع بانتزاع سفنه المادي العسكري السياسي. لأن قوتها الحقيقة في جانبها الروحي وأن ضعفها في اجنب المادي في فترة ما سرعان ما تستعيده إذا تهيأت لها الأسباب وقبل ذلك تضل طاقتها الروحية كامنة كالسر في أعماق كيان الأمة. أما طغيان اخضارة القاهرة ماديا فأمده قصير وزواله آت لا محالة مباشرة بعد زوال القوة مدية. فهي إذا أمام أزمة منتظرة وإذا لم تجد مخرجاً يهدي دين قويم فمآلها خراب وقد لا ينجو منه قطر ويعم الدمار. أو تعود الحضارة ذات السلطان
• الروحي الكامن في الأعماق إلى النمو والازدهار وتحاول انقاذ البشرية من الدمار نتظر كما أنقذتها يوم بعثة صاحب النبوة وخاتم الرسل قال تعالى : ( لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْدُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَعُ ٱلْمُؤْمِنُونَ 46) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَّهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الروم: 5) . أم اخضارة التي فرغت من الروح ولم يبق ها إلا المقوم المادي فإن الثراء لمدي لا يغني من الفقر الروحي شيئاً ولذلك فهي لا بد هاوية إن قريباً وإن
الصفحة135
بعيداً لأن فراغها من الطاقة الروحية لسبب من الأسباب كأن تنحرف عقيدتها لتي كانت وقت سلامتها تمدها بالطاقة الروحية ولأسس الأخلاقية والشرعية وبضياعها انهارت تلك الأسس التشريعية والأخلاقية وفقدت سلطانها على القلوب وهيمنتها على النفوس وأقبل أهلها على الترف والتبذير والإسراف والظلم عندئذ لم يبق لها إلا الزوال قال تعالى: (وَإِذَآ أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيْهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرُنَٰهَا تَدْمِيرًا ) (الإسراء : 16) ومن ثمة فالترف دليل على الهرم الذي إذا مس حضارة لا يرتفع عنها أبداً . والسبب في ذلك والله أعلم. أن الحضارة التي كانت قائمة على أسس عقائدية، ظهر صعفها أو زيفها في مرحلة ما من مراحل تطورها. فإذا حاول رجالها التخلص منها وتعويضها ببديل يمدها بالطاقة الروحية واليقظة الفكرية، فإن تعذر وجود عقيدة دينية تناسب الذهنية السائدة لأمة الحضارة سد ذلك الفراغ الروحي باكتشاف أيديولوجية عقلانية أو انتحالها وإقامة النظم الاجتماعية والثقافية والسياسية والتربوية والاقتصادية. وحتى التشريعية على غرارها. لكن البديل الأيديولوجية بديل فكري والفكر المادي ليس فيه روح ولذلك إذا كان له سلطان على عالم المادة عالم الطبيعة الفيزيائية فليس له أي سلطان على القلوب فالبديل الفكري سلطانه لا يبقى إلا بالقوة المادية ويضعف بضعفها بالضرورة وهذا هو الذي حدث للحضارة الغربية في سائر أطوارها ومراحل تاريخها.
والدليل على ذلك، أنّنا إذا عدنا إلى. أحداث غزو العالم الأسلامي، التي انتهت بالقضاء على وحدته عن طريق احتلال ما أمكن من أقطاره، ثم إسقاط الخلافة وتهيئة الظروف لتقسيمه بجميع الوسائل العسكرية والسياسية والثقافية، وجدنا أن هذه العملية العدوانية تمت عن طريق حملة الصليب والماسونية . العالمية والصهيونية والإمبريالية بمفهومها الواسع الأيديولوجي الحديث.
بقول أحد رواد الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي يدعى ((المبشر زوير) :إن الجمعيات التبشيرية لا تزال غير قائمة بواجباتها فيما يتعلق بمسلمي بلاد العرب الداخلية، والقوقاس وجبوتي فارس وتركستان وأفغانستان وبلوجستان، والصين وجزر الفيلبيين»، ويشكو مر الشكوى من عدم دخول أرضهم ويقول: (إن
الصفحة136
اجمعية البروتستانية الأمركية قد هيأت برنامجاً لذلك - لدخول أرض الأفغان - وسيجعل مشهداً على شمال أفغانستان مركزاً للحركات»(1) وهذه التقارير إذ تبين مستوى وعي المسلمين ومجاولات سد الطريق أمام الغزو الصليبي بكل حزم وتدن أيضاً على مكر الحركات الكنسية التي استطاعت أن تسخر الإمكانات العالمية وتوجيهها بكل دقة ومهارة للقضاء على ترابط العالم الإسلامي وتفتيت وحدته .
ومما جاء في أحد تقارير زويمر المتأخرة: ((أن الإسلام قد تلاشت فوته، وانهارت دعائمه وسقطت مكانته الأولى ومشت سكة الأجنبي في حقله، فلا تناسب قهره وأعناته والظهور بمظهر الشماتة به لئلا يحرك ذلك من عصبية أهله ويثير من تخوفهم، ويؤجج من نيران أحقادهم فينهضوا سخائم صدورهم، ونتمكن من حرث ذلك الحقل الذي صار مباحا لنا على أنه لا يؤخذ من ذلك نه يجب سلوك مسلك الضعف مع الإسلام والعدول إلى التهيب إذ لا يعقل أنه ذا دعي الإنسان إلى بيت لم يبق له أبواب ولا نوافذ أن يضيع وقته في احتشام أصحاب ذلك البيت. ومعاملته برقة الأدب، والكياسة، إنه يتحتم سوق الحملة حكمة ومهارة. ولكن يتحتم سوقها بشدة»، ويذهب زوير في نهاية تقريره إلى نحفيز الكنيسة لشن آخر غاراتها على العالم الإسلامي بأكمله، فيقول: ((ومما يجب على الكنيسة هو أن تعبيء جميع قواها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال و جنوب تحت راية مؤسسها. وشن هذه الغارة على الإسلام إلى أن تصل إلى غيتها(2) .
وهذه الوثائق وغيرها تكشف على الحقيق الملفوفة في ثياب الباباوية زعيمة اخرب الصليبية التي شنت على الإسلام منذ نهاية القرن الخامس عشر ميلادي بدءاً بالاستيلاء على إنطاكيا. والحقيقة أن القرآن الكريم سبق أن بين ذلك الحقد الدفين للإسلام منذ عهد الرسول في قوله تعالى: ( وَلَن تَرْضَىٰ
الهوامش
(1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي، المرجع السابق، ص: 282 - 281 ، ج 1 .
(2) شكيب أرسلان، حاضر العام الإسلامي، المجلد الأول، ص: 282 .
الصفحة137
عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: ١٢٠) هذه الآيات القرآنية وقوانين الصيرورة التاريخية كلها تدل على عواقب الغزو الفكري والحقيقة أن هذه الأمور لم تكن خفية على المسلمين القدامى فيقول الشاعر :
تخاف على حاكم عادل وترجو فكيف لمن يظلم
إذا جارحكم أمرء ملحد على مسلم هلك المسلم
فهذا التصور لعداء الكفر تنضح به الثقافة الإسلامية في كل أطراف العالم الإسلامي. على أنه بعد تقادم عهود الاستعمار وتغلغل الثقافة الغربية في الأوساط الثقافية التي انتجتها مؤسساتها المزروعة في العالم الإسلامي ساعد على وجود المنخدعين بالشعارات الجوفاء ووعود عرقوب قال تعالى: (يَعِدُهُمُ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَنُ إِلَّا غُرُورًا ) (السماء: 119) . ومن يصدق شعارات الحضارة، والتمدن، والحرية، والديمقراطية، يذهب لا محالة ضحية المراوغة الاستعمارية الخبيثة التي أنشأت جواً من الخلاف بين المسلمين العرب والأتراك وغيرهم ولنا مثل في ذلك مما جاء في بلاغ جورج الخامس ملك بريطانيا وأمبراطور الهند مخاطباً قادة العرب: («لا يداخلكم ريب من جانبنا وترقبوا سنوح الفرصة المناسبة فهي آتية لا ريب فيها وعندها تخلعون عنكم رداء الظلم وتنفضون عن كاهلكم غبار الاستبداد وأنا لا آلو جهدا في مديد المساعدة إليكم كما أنا نعدكم وعدا صادقا بأنكم ستصيرون بحول اللّه وقوته أمة متشبعة بكل معاني الاستقلال. أنتم على شوق إلى معرفة نوايانا من جهة دينكم الكريم فاعلموا أن الديانة الإسلامية قد احترمها الإنجليز أجل الاحترام وأكبرها كل الإكبار والتاريخ أكبر شاهد على صدق ما نقول)
ويمضي الملك البريطاني في وعوده الشيطانية لإغراء قادة العرب السذج بالدخول في مخططهم الاستعماري الذي أعدوه لغزو العالم الإسلامي وإيقاعهم في الفتنة التي أوقدت نارها في الغرب كي يصطلي لها الشرق فيقول: (إنه عند انتهاء الحرب سنجعل من بين شرائط الصلح ومواده الرئيسية أن تكون شبه جزيرة بلاد العرب ترفل في ثياب الحرية وتستعيد رقيها القديم ونظرتها الأولى، بربكم أفلم يكفك ذلك؟ لقد صرح لنا بعض مشايخ العربان برغبتهم في التخلص من
الصفحة138
الأتراك وبعضهم يشد اليوم إزر جيوشنا بحد سيوفهم، أما الذين يرغبون فينا لنكم ويخافون المجاهرة بما في نفوسهم فإليهم نسوق حديثنا هذا) (1) والغريب أن صدق هذا القول عاقل وتعمى البصائر على ما جاء فيه من دس السياسة ومكر السياسة ولكن الغفلة السياسية التي غلبت على شعوب الأقطار سمحت للجاسوسية البريطانية(٢) والنمساوية والألمانية والفرنسية أن تؤلب العرب على الأتراك والأتراك على العرب وضربوا المسلمين بالمسلمين ثم انهالوا من بعد على اجميع واحتلوا العالم الإسلامي بالسهولة التي لم تكن متوقعة وعلى غرار الغزو العسكري حاولوا أن يحققوا الغزو الفكري وجندوا من أبناء الأمة الإسلامية دعاة له وأنصاراً وحقق بهم زعماء الشرق والغرب أكثر مما كان متوقعاً من لصراع الأيديولوجي الذي مزق الأمة الإسلامية من الداخل.
إنه ما أن تم احتلال الأقطار الإسلامية قطراً بعد أخر بالطريقة التي بينا حتى فقد المسلمون حريتهم ويفقدانها حرموا من جميع الحريات الأخرى التي كان قد أقرها الإسلام وكفلها لكل الناس واعتبرها من الضروريات. ولما ضاق الخناق بالمسلمين ولم يعد ثمة طريقة إلى الجهاد لجأ إلى العالم الحر كثير من أبنائهم حيث وجدوا في دار الهجرة متنفسا. وكان أبناء الغرب على قدم وساق نبناء حضارتهم الفتية والعمل على تطوير نهضتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولاحظ المهاجرون المسلمون كغيرهم كيف يتمتع أبناء الغرب باخريات الديمقراطية التي حرموها على غيرهم من أبناء الشعوب المستعمرة المتعطشة للحرية واندهشوا لمبلغهم من احترام حرية التعبير وتشجيع المواهب والقدرات وافساح المجال أمام المبادرات حتى كان لكل مواطن الحق في إبداء الرأي والمشاركة في بناء الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية بناء على ما جاء في الديمقطراطية في مفهومها الليبرالي وهو ما يثير كل إعجاب ويستحق كل إكبار
الهوامش
(1) جورج اخامس ملك بريطانيا وأمبراطور، الهند، 1335 .
(2) رياض نجيب الرئيس جواسيس العرب، مجلة المستقبل، السنة 7، العدد 327، بتاريخ 6 أغسطس، 1983 والعدد 329.
نظر دور لورنس الجاسوس الانجليزي وما كان وراء السيد روناك شتورز. .
الصفحة 139
وهذا أدى بالكثير من أبناء العالم الثالث المهاجرين إلى بلاد الغرب إلى الاعتقاد بأن ما يتمتع به أبناء الغرب من حريات راجع إلى الديمقراطية التي أسسوا على مبادئها أيديولوجياتهم السياسة والاقتصاد والتربوية. فاقتداء بأهل الغرب والشرق راح كثير من المسلمين ينشؤون الأحزاب السياسية للمطالبة بالحريات الديمقراطية» في مختلف أقطار البلاد الإسلامية فمنها ما كان قوميا ومنها ما كان اشتراكياً وشيوعياً ومنها ما جمع بين هذه جميعاً وإن كانت لا تجتمع في أيديولوجية واحدة .
على أن هذه الأحزاب إن كان لبعضها الفضل في زيادة الأحداث السياسية في مختلف أقطار العالم الإسلامي في تحقيق المطالب من حقوق وحريات محدودة وثمرات أدت إلى الاستقلال وإن صوريا وظهور نظم سياسية مضطربة، فإن محاولات أغلب هذه الأحزاب لم تخرج عن نطاق الخطة العامة التي رسمها الاستعمار الحديث. من أسباب ذلك أن أغلب هؤلاء نسوا أن الغرب ما حقق ذلك المستوى من الوعي السياسي والحريات الديمقراطية حتى عانت أممه الأمرين وقدمت تضحيات جسام وأرواح الكثير من أبنائها .
لأن الحرية غالية لا تنال بالشعارات بل كما يقال: «تؤخذ ولا تعطى))
وقال الشاعر :
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
إذن فقضية تحقيق الحريات ليست قضية انتحال نظرية يمكن تحقيقها بمجرد النقل الحرفي لما في الواقع الملموس الذي تعيشه الناس والدليل على ذلك أن هذه الأيديولوجيات قد انتحلت بالفعل إلى العالم الإسلامي بحماسة إذا لم تكن أكثر من حماسة (روز فالت) التي أشرنا إليها فهي ليست أقل منها ولكن نتائجها ليست شيئاً غير الاستبداد والظلم فهل حاول زعماء هذه الأحزاب وقادة النظم مرة أن يعيدوا الاعتبار إلى الشعوب كما فعل رجال الغرب؟ فتراهم قد قلدوهم في كل شيء إلا في هذا الأمر مع العلم أن هذه الشعوب هي صاحبة الفضل في كل شيء يعد اللّه في السلم والحرب والشدة والرخاء، فلا يبنى اقتصاد إلا على كاهلها ولا تشيد حضارة إلا بجهودها ولا تزدهر ثقافة أو عمران
الصفحة 140
إلا بسواعدها ولا تتحقق حرية ولا استقلال إِلا بجهادها إن هذه الحقيقة أقرها تاريخ الأمم جميعاً ولا يجحدها إلا مكابر أو معاند.
فالمسألة إذن، ليست مسألة مفهوم أيديولوجي دخيل كما تصور الكثير من حربي الثقافة السياسية، بل هي واقع تاريخي أليم يتمثل في استبداد مقنع بالديمقراطية وهو ليس من الديمقراطية في شيء، وحرمان من الحريات التي بدونها لا يكون الإنسان انساناً تحت شعار الليبرالية والإشتراكية وتخلف فظيع في أغلب مجالات الحياة الحضارية تحت عنوان التقدم والتقدمية .
وتفسير ذلك أن معظم الحركات السياسية في البلاد الإِسلامية لم تكن في المستوى والوعي السياسي الذي يمكنها من معرفة أبعاد الخطة الاستعمارية الجديدة المحددة في إطار المفهوم الحديث للاستعمار حيث شكل الغزو الفكري أخطر أبعاد هذه الخطة. والدليل على ذلك تفشي النزعة الشعوبية القومية بعد الثورات التحريرية مع أن دور هذه النزعة القومية العربية والهندكية والطورانية والفارسية وغيرها كان بارزاً في عملية تمزيق البلاد الإسلامية والقضاء على وحدة العالم الإسلامي وإسقاط الخلافة والتمهيد للاحتلال بكل أبعاده وأغراضه.
مع العلم أن الشعوب الأوروبية التي كانت أشد الأمم تعصباً للقومية وأكثرها معاناة من ويلات صراعها وحروبها كحرب المائة سنة التي كانت بين فرنسا وإنجلترا ومشكلة الحدود والتنافس على الألزاس ولوران بين فرنسا وألمانيا تخرج من الحربين العالميتين بعزيمة التخلص من النزعة القومية الانفصالية وتعمل بكل جهد وجدية من أجل تحقيق وحدة أوروبا، ولعل الملاحظ للتاريخ الحديث لا يألو جهدا لاستخلاص هذه النتيجة التي خرجت بها أوربا من تجربة الحربين العالميتين وإقبالها على التكتل العالمي وهو ما جعل أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية يتجاوز كل منهما المحيط ويكونا كتلة من أعظم الكتل التي صار لها وزنها الاستراتيجي العسكري والاقتصادي والسياسي والحضاري .
بينما يكون أيضاً باستطاعة الملاحظ للتاريخ الحديث أن يرى كيف صارت شعوب البلاد الإسلامية زاهدة في وحدتها ومضيعة للخلافة بخلافاتها ومستسلمة العزواتها. وكيف أنها على الرغم من مرارة تلك الدروس وقساوة الغلب لم
الصفحة 141
نستفد من ذلك شيئاً وعادت بعد التحرر إلى ما كانت عليه ظروف الاحتلال ولم تتخلص من النزعة الانفصالية والدعوة الشعوبية والحركة القومية، ولم تع أن مصيرها مرتبط بوحدتها وتعاونها وتكاملها وأن مكانتها بين الأمم لا نتخذ إِلا بمقدار تحررها وتخلصها من التبعية التي لا منجاة منها إلا بوحدة البلاد الإسلامية، ومعنى ذلك أن البلاد الإسلامية ما تزال تسير وفق مخطط المبشر زويمر» ما يزال في المرحلة التي آلت إليها البلاد الإسلامية هي «كالبيت الذي لم يبق له أبواب ولا نوافذ عندما تتحتم سوق الحملة بحكمة ومهارة ولكن تتحتم سوقها بشدة»(١) يومئذ قال زويمر هذه القولة كان قادة العالم العربي والإسلامي يغطون في نوم عميق وكأن زويمر يلعب ويحلم وكأنه لم يكن جاداً إذ جند لخطته هذه الكنيسة العالمية وجميع ما كانت أمم الغرب تملكه من رجال ومال وسلاح، ومكيدة يقول المتنبي:
إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظن أن الليث يبتسم والأخطر من ذلك أن النزعة القومية والشعوبية والطائفية ما تزال مسخرة للقيام بدور أخطر من الذي تقدم وتستخدم لتضييق الخناق على كل بادرة تحريرية إسلامية أصيلة، لقد بات دور هذه الأحزاب في تحقيق المخطط الاستعماري الذي لم تعرف بعد كل أبعاده وصارت لا تتحرك إِلا وفق ما تمليه مرامي هذه الخطة الاستعمارية الحديثة التي حددها زعهاء الاستعمار الحديث ورسموا لها معالمها وطرقها وجميع مراحلها، سواء أكان أتباعهم لها عن قصد أم عن غير قصد. وحتى تلك الشعوب التي قدمت الكثير من الشهداء في ثوراتها على الاستعمار لم يكن لها حق في تقرير مصيرها بمحض إرادتها فبعد حصولها على الاستقلال الصوري مما لا يكاد يصدق لم يعد لها شيء من الاعتبار وبقيت محرومة من الحريات الأساسية لذلك لم تنهض وكيف ينهض المكبل بالقيود والأغلال إذ النهضة أي نهضة مرتبطة بالإرادة الحرة وإعادة الاعتبار إلى الإنسان باعتباره حراً ومن الطبيعي أن يكون كذلك حتى يفسح المجال أمام الجهود
الهوامش
(1) شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المصدر السابق، ج 1، ص: 282.
الصفحة 142
الضرورية المنتجة للحضارة ويحقق الإنسان مراميه وغاياته لكي لا تصبح حياته عبثا، لكن على الرغم من التضحيات الجسام لم يتحقق شيء من ذلك. وهذا كله والرايات ترفرف فوق جثث الضحايا في مذبح الحرية وتحت شعار الديمو قراطية على جبهات الشعوب المخدرة بهتافات العناصر المدسوسة وعلى السنة الصحف المأجورة وسائر وسائل الأعلام المسخرة لهذه الأغراض . كل ذلك حسب الأساليب الفنية والحيل التقنية الاستعمارية وهذا ما يريده الاستعمار لحديث بحيث يحقق بأقل جهد وأيسر نفقة ما لم يكن قادراً على تحقيق الاستعمار القديم بطرقه التقليدية من جيوش جرارة وأسلحة، وهذا أيضاً دليل على خطورة الاستعمار الحديث على الشعوب المختلفة ومن أهم أسباب خطورته بالإضافة إنى ما قد سبق ذكره باختصار :
أ _ شدة تعقد السياسة الاستعمارية الحديثة مما جعلها مجهولة عند أغلب الشعوب التي لا تتمتع بمستوى عالي من الوعي السياسي اللازم لأن المخططات اذكرة قد دبرتها عبقرية الاستعمار الحديث بأحكام في غاية من الدقة وهو ما جعل انشعوب لا تفطن لما يعد لها في الخفاء بل تنساق في الطريق المرسوم لها دون أن تعي مصيرها الذي سيقت إليه وتنفذ عمليات الخطة الاستعمارية في فسه دونما وعي منها.
ب - تطور فنيات التحكم في الشعوب وسهولة البطش بها فالأسلحة ازدادت تطوراً وفتكاً من قريب أو من بعيد دون أن تراها الشعوب وإن تعرف مدى فتكها ودون أن تستفزها وتثيرها كمن من سخطها غضبها وثورتها كالصواريخ النووية وصارت هذه الشعوب الضعيفة تقاد بحكام من أبنائها وفنذات أكبادها الذين كانوا هم أولى برحمتها والذود عن حماها والحيلولة دون غزوها والتحكم فيها من طرف أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر وتبقى عرضة للسياسة الإمبرالية العالمية التي وضعت لتضييق الخناق عليها ونهب ثرواته ضبيعية وتسخيرها لبناء حضارة الغزاة، إلا ما رحم ربك.
ج - عدم الوعي الثقافي في أغلب الشعوب الإسلامية وما نشأ عنه من مساعدة غير مقصودة للفكر الغازي وتقبله كأنه جاء لتحرير الفكر وبعث نهضة
الصفحة 143
كما ظن شيوخ العرب وقادة العجم أن جيوش الغرب إنما جاءت لانقاذهم وتحريرهم ونصرتهم. فإن غفلة المثقفين أصحاب الثقافة الحرفية أكبر مصيبة من الأمية لأن خطأ الجاهل لا يتجاوز القضاء على حياته في أخطر الحالات. أما خطأ حرفي الثقافة فيترتب عليه موت شعوب وضياع حضارة بأكملها والقضاء على نهضة برمتها. كما أن الأمي هو أصدق مع نفسه إذ لا ينكر أمام نفسه أنه جاهل لأنه يشعر بأنه أمي حيث تصدمه الأمية عند محاولات التعبير عن الذات كما يصدم الجدار الأعمى الذي لا يرى النور أما حرفي الثقافة فلا يدرك أنه جاهل بل كثيراً ما تسول له نفسه أنه أعلم الناس وهذا الذي يجعله يزداد بعداً عن الحق والحقيقة، كلما زاد غروره (إِنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم(36 :
ومن شدة خطورة الغزو الفكري أنه أداة استخدم للقضاء على الكيان الحضاري الإسلامي المتماسك الأوصال وتخريبه ليصبح كالحطام الذي تناثرت أجزاؤه عن طريق القضاء على المؤسسات التشريعية والتربوية والأخلاقية وبث التناقضات التي سرعان ما تتحول إلى عملية تهدم ذاتي كالسرطان ينهش جسم الإنسان من الداخل، فما تحدثه أشرطة الأفلام التيليفيزيونية والسينمائية من الفتك الحضاري بواسطة الغزو الفكري تعجز القنابل الذرية على تحقيقه.
ويكفينا دليلاً على ذلك أن الاستعمار الحديث صار بهذه الوسائل قادراً على تخدير الشعوب إلى درجة أضحى الناس فيها يقبلون على الفكر الملحد وهم بالألحاد كافرون ويتهافتون على الفساد وهم له منكرون ويعملون على توطيد وتوثيق عرى التبعية وهم لها لاعنون فقدوا القدرة على الاختيار بضياع القيم، وصاروا يأخذون عن الغزاة ما لا يجوز أخذه، ويتركون ما لا يعقل تركه ويرضخون للاستبداد وهم بناره يحرقون. ورغم كل هذه الأدلة يأتي أصحاب التغريب ودعاة سياسته وخاصة زعهاء الحركات القومية كميشال عفلق ويوسف الحوراني في سوريا والعراق وسلامة موسى في مصر وأحمد آغايف وأكرم أقشورة من زعهاء تركيا الفتاة وغيرهم ويزعمون أن الإسلام دين فقط والأحرى به أن يهتم بالأمور المتعلقة بالآخرة والتي تنحصر في العبادات. أما الأمور المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية فهي لعلم الاجتماع والقانون وأما السياسة والاقتصاد فهما
الصفحة 144
للأديولوجية السياسية والاقتصادية الحديثة وأما الأخلاق فهي للعقل والفلسفة. فإذا نزعت هذه المجالات كلها من الإسلام فهاذا يبقى فيه؟ والحقيقة أن دعوة هؤلاء جد خطيرة على الأمة الإسلامية وخطط ها زعماء الاستعمار الحديث، وما هؤلاء إلا منفذون لما بينه أولئك سواء أوعوا ذلك أم لم يعوا فهذه الدعوة تهدف إلى الحيلولة دون تحقيق الحل الإسلامي عن طريق التشكيك في صحته وإيهام الناس باستحالة تطبيقه والعمل به مع أنهم لو كانوا مخلصين لبذلوا نصف الجهود التي بذلوها لتحقيق المخطط الاستعماري لتحقيق البديل الإسلامي وانقذوا الأمة مما تتخبط فيه من نكبات متتالية وفتن محتدمة وأزمات متفاقمة بدلا من ذلك كله راحوا يبثون في ظروف اجتماعية داخل الأمة الإسلامية أفكاراً مضطربة لتحون دون ظهور الصحوة الإسلامية التي بدت في الأفق أنوارها. وهذه الجهود التي تبذها اخركات القومية والشيوعية والليبرالية والأمبرالية من هي إلا في صلح الاستعماز. بل حققت له ما لم يكن يتوقع، ولقد صار يلبس لباسها في كل قضر ويرقص رقصاتها الفلكلورية المختلفة في كل حفا فهو هندوسي في تيار غاندي يرفل في بكستان واهند. وفارسي أو كردي في إيران وضوراني في تركيا وزيفي بربري في اجزائر والمغرب وليبيا وعربي قحطاني جاهي في سوزي والعراق وفرعوني في مصر ... إنه اخرباء التي تظهر بمظهر القرميات على اختلاف هجاتها وأزيائها وأشكان فلكلورها. تعمل جادة للقضاء على معم الانسجاه والوحدة انتي كانت تغضي العام الإسلامي، وتربط بين جزائه وأضرافه امترامية عبر العالم. فرذا يبقى من العاء الإسلامي، إذا نادى اهندين والباكستاني باهندوكية. ويتقوقع التركي في الطورانية، والإيراني في نقارسية. أو الكردية، والعربي في انقحضانية اجاهلية. .. وما يخبيء هؤلاء من هذه النزعة الانفاصلية الذرية في عل ينزع أن التكامل والاتحاد، وكأنهم ! يقرأوا من التاريخ درساً ولا حكمة وكأن م يعرفوا أن الفرقة شتات وأن الشتات صعف وإن مغبة الضعف الاستعمر واهوان. ألم يعلموا أن القوة في الاتحاد وأن العزة في الوحدة؟ فلهذا غفلوا عى يجري حوهم في انعالم؟ فهذه روسيا تتكون من عدة قوميات الاتحاد السوفياتي لولاء لا بتنعها وانقض عليها الأمريكان. ولما
الصفحة 145
كونت هذه القوة العظمى مع حلفائها في أوروبا الشرقية ولما ألفت معهم أعظم كتلة بعد الكتلة الغربية .
وهذه أمريكا قد جعلت كل ولاياتها في اتحاد فيدرالي . وحدت فيه صفها ووظفت ثرواتها واقتصادها وسياستها وثقافتها، وجندت كل إمكاناتها لتشييد عمرانها وازدهار حضارتها التكنولوجية المتفوقة والتي بها سادت العالم وراحت تكون مع أوروبا الغربية أعظم كتلة عالمية واجهت بها أمم العالم القوية والضعيفة أما أوروبا بلد الوطنيات ومرتع الحروب القومية التي كانت على الحدود كحرب المائة سنة بين فرنسا وبريطانيا وحروب الألمانيا وفرنسا على لا لزاس ولالوران والتي تحولت إلى حرب عالمية، رغم كل ذلك فهي تحاول أن تحقق عن طريق وحدة السوق المشتركة وحدة القوى الضاربة لتقي نفساً من روسيا وتستغني عن أمريكا. وصارت تدرك بجلاء ضرورة تخليها عن النزعة القومية فأخذت تجمع شملها كي لا تبقى تحت رحمة المظلة النووية الأمريكية إِن هذه الحقيقة التاريخية كافية لإدانة النزعة الانفصالية للحركات والأحزاب القومية التي ظهرت في العالم الإسلامي قديماً وحديثاً . لقد باتت تمزق العالم الإسلامي بما تسعى إلى إبرازه من الفروق الوهمية الفلكلورية لتصبح فروقاً ثقافية تحول دون أي محاولة لجمع الشمل وتوحيد الصف فهذا هو الغرض الذي أنشئت من أجله الحركة الطورانية(١) في تركيا وهي الغاية التي تأسس من أجلها حزب البعث وهي نفس المرامي التي تعمل على تحقيقها كل هذه النزعات التي ظهرت في آسيا وأفريقيا وباقي الأقطار الإسلامية.
فإذا كانت هذه الأحزاب حركات قومية انفصالية تدعي التحرر والازدهار الاقتصادي والثقافي . .. فهل حققت شيئاً مما تنادي به شعاراتها الكاذبة؟ فماذا حققت تركيا بعد تخليها عن الإسلام غير التبعية والخضوع الكلي للأمريكان وماذا جنت مصر وسوريا وغيرهما وبتفوق الأحزاب القومية والعمل بالأيديولوجية البعثية غير الخضوع لروسيا والتقهقر أمام إسرائيل حاملة لواء العقيدة؟ .
الهوامش
(1) شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المصدر السابق، ج 1، ص: 157 .
الصفحة 146
فعلى الرغم من أن هذه التجربة الفاشلة التي كلفت الأمة ضياعاً وخسارة لا تقدر وعواقب وخيمة لاحد لأضرارها لم يجعل ها حد حتى الآن لتردي هذه الأوضاع التي مزقت العالم الإسلامي شر ممزق تسد الباب أمام كل محاولة جادة للنهوض والصحوة والتحفز لانطلاقة جديدة، فهل بقي بعد كل هذا أي شك في تورط هذه الحركات التي جعلت العالم الإسلامي مفتوحاً أمام أي غاز وقابلاً مستقبلاً كل طارق إلا مَنْ أبى لسبب من الأسباب. كعدم رغبة إسرائيل في احتلال الحجاز وهي قادرة والشام بدون أدنى مقاومة ومصر بابخس الأثمان . .. إن دعوة القومية وحركاتها وأتباعها حاملي شعار التقدمية والليبرالية والتغريب والحداثة كانت وما تزال دعوة الأمم الذاهبة إلى الانقراض ذلك ما يثبته تاريخ الأمم المتحضرة. لكن من يعتبر؟ ونئن حدث كل هذا بعد الثورات العارمة التي اجتاحت العالم الإسلامي وحققت ما حققت من نصر فإن ما حدث من بعد يدل دلالة واضحة على أن الاستعمار قد أعاد الكرة وشن الغارة من جديد وصارت الثورات الماضية وصار مفعولها في حكم التاريخ ولم يبق بعدها غير الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع وصار الاستعمار الجديد في غارته هذه الجديدة على العالم الإسلامي يوهم الشعوب أنها ليست على حق فيما تطمح إليه من عودة الاعتبار إليها وتحقيق الحرية بمعناها الكامل والسيادة التامة بل لا بد لها من التبعية والرضوخ لسلطانه القاهر فبدون الارتباط به لا يستقر نظام ولا يبنى لها عمران، ولا يتقوى على الحكم فيها سلطان فهو يحاول بطرقه الخبيثة التي أشرنا إليها إقناع الشعوب بضرورة الارتباط به والخضوع لسلطانه، وأنه لا سبيل ها إلى الاستقلال الحقيقي لأنها عاجزة عن تحقيق أدنى درجة من الاستقلال السياسي ولاقتصادي والثقافي والتكنولوجي والحضاري.
على أنه نسي أو تناسى بحكم عدم استفادته من تجربة الاستعمار القديم من دروس مفادها أن هذه الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها وأقطارها ذات إمكانات حضارية لا تقهر وخبرة تاريخية ثرية لا تبخل مما يجعلها لا تعدم القدرة على الدفاع عن كيانها والذود عن حماها، والحفاظ على شخصيتها والسعي الجاد من أجل النهوض بحضارتها. فهي إذا لم تنتبه يوماً لما يعد لها من كيد ومكر، ولم
الصفحة 147
نطلع على ما يخطط لها في الخفاء فإن التاريخ قد بين أنه ما دام في الأمة كتاب اللّه وسنة رسوله لعي فضميرها الحي لا يخبو وفكرها الأصيل لا يكبو وإرادتها الجبارة لا تنبو، ولئن حاول الاستعمار الحديث الكرة من جديد بطرقه المستحدثة فلأنه لم يستفد من دروس سابقة أو لم يتعظ بما حدث في الماضي البعيد والقريب من دروس المقاومة وما ظهر منها من عظمة هذه الأمة وقدرتها على الصمود أمام أي تحدي أن مصير الاستعمار هو دائماً مصير الظلم ، والظلم وإن طال زمنه لا شك زائل سلطانه وساقط حكمه ومنته أمره، وإن العاقبة دوماً لأهل الحق إذا استماتوا من أجله وآمنوا واتقوا قال تعالى: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَاكُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَٱصْبِرٌ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (هود: 49) ومن العوامل الدالة على أن الأمة الإسلامية ما تزال تتمتع بأسباب الصمود، هو أن الأجيال المقبلة من أبناء وأحفاد هذه الأمة ليست كأجيال الماضي التي عهدها الاستعمار القديم من الأمية وانتشار الجهل وما نشأ عنهما من غفلة وغفوة وانحطاط وضعف بل فبفضل التعليم الذي انتشر وفكر الصحوة الذي غشى أغلب الأقطار الإسلامية يمكن الجزم بأفلاس الغزو الفكري الذي اجتاح العالم الإسلامي، وفشل الخطط التي تعمل على تحقيق أهدافه، وهو ما يحفز الأمة على العمل بالبديل الإسلامي وتحقيق التغيير ابتداء من الأعماق حيث تكمل النفوس ليتحول الإنسان الأيديولوجي إنسان المشكل إنسان التبعية إلى إنسان عقيدة التوحيد: ((لا إله إلا اللّه محمد رسول الله)» انسان الحل قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) ويقول رسول اللّٰه : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» رواه البخاري بالإضافة إلى مؤشرات الصحوة والنهوض من جديد للعالم الإسلامي إن خيبة الإيديولوجية الحديثة في بلاد الغرب والشرق وعجزها أمام الفقر الروحي وما نجم عنه من ضعف في النفوس والشعور بالقلق والشقاء والتعاسة مما جعل المستشفيات العقلية تغص بالمرضى وانعكاسات ذلك على الأخلاق وتفاقم ظاهرة الانحراف والشذوذ بكل أنواعه وانتشار المخدرات كل هذه تنبيء بدنو انهيار
الصفحة 148
الحضارة وما هذه إلا حالات من حالة الشيخوخة والهرم حلت بهذه الحضارة وصارت تنذر بسقوطها إن عاجلاً أو آجلاً ورغم ما يظهر من محاولات الانقاذ التي تتمثل في محاولات إصلاحية أيديولوجية تدعو إلى الاعتدال والتراجع على كثير من المواقف والعادات السيئة التي باتت راسخة كالتبذير والاستهلاك للاستهلاك والتضخم والبطالة. فإن هذه المحاولات الإصلاحية تبدو جد طفيفة ولئن نجحت في تسكين الآلام وتخدير الناس كي لا يشعروا بمرارة المصير فإنها لا ترقى إلى الدواء الشافي والحل الكافي فهي كالمساحيق التجميلية التي ستخدمها العجائز لإخفاء تجاعيد وجوههن الشاحبة للمحافظة على جمالهن الذابل وصدق في وصف هذه الحالة النفسية الحضارية القلقة التي تخشى فيها الأمم أن ترى معالم شيخوختها على وجهها الحقيقي قول الشاعر :
فإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
ستنتج من كل ذلك أن الاستعمار لارتباطه بالحضارة القاهرة فهو يقوى بقوتها ويضعف بضعفها وإذا كانت الحضارة الحالية قد مسها الهرم الذي لا يرتفع عنها أبداً فإن زوالها لا محالة قادم وإذا زالت الحضارة الغازية زال بزوالها غزاتها بالضرورة ومن استمسك بهم من اتباع في الأمة الإسلامية هم في حكم نغزاة أيضاً زائلون لأنهم ليسوا إلا امتداداً لأهل الغزو فيزولون بزوالهم .
وعندئذ تجعلنا هذه العاقبة أمام أزمة العالم المعاصر وجهاً لوجه فما هو خل إذن؟ .
وإذا توصلنا إلى نتيجة مفادها أنه لا حل أمام الأمة الإسلامية إِلا الحل الإسلامي فما هي أبرز معالم أو خصائص الحل الإسلامي وما هي احتمالات العمل به لإنقاذ الأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء من هذه الأزمة .
الصفحة 149
بعض ملامح الحل الإسلامي
إن العقيدة في الإسلام هي أساس التصور والمفاهيم وما يترتب عليه من سلوك واتجاه في العبادات وسائر المعاملات، فلا تصح نيات ولا أفعال إلا صحتها، فالعقيدة هي المنهج السليم الأوحد الذي يرقى بما هو بشري من عقل ناقص وإرادة محدودة ونزعات فطرية إلى آفاق الهدى الرباني، ولن تبدو ثمة لجوة بين العقيدة باعتبارها موجهة للفطرة نحو الأفضل وبين الظروف الطبيعية النفسية والاجتماعية والثقافية والتي سبق فسادها لعدم بقائها على الفطرة، فإن هذا التباين لا يدل إطلاقاً على عدم قدرة الإنسان على التكيف الراقي الذي تتطلبه العقيدة لأن العقيدة أهم حافز للتغيير النفسي والاجتماعي حتى يقع التعايش الذي يتحقق فيه التطابق النفسي والانسجام الفعلي فالتعايش النفسي والاتساق الاجتماعي هما من فعل العقيدة وما يترتب عليهما من شريعة وأخلاق. لذا تعد من أهم شروط التغيير النفسي والاجتماعي . أما التباين الذي يحدث من أول وهلة بين العقيدة والواقع الذي هو موضوع التغيير فيرجع إلى كون العقيدة تمثل الحل الذي سيغير الأحوال النفسية والاجتماعية كمنهج سليم للتغيير حيال الظروف السائدة وبواسطة هذا التعارض أو التغاير يبدأ الوعي بالمشكلة ثم سرعان ما يتحول الوعي إلى إرادة التغيير ذاتها لتحقيق الحل المرغوب، لأن من مقتضيات المنهج الإسلامي الحرية والاختيار. فلا يقبل أي نوع من الإكراه والقسر قال تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِٱللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَٱللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ ) (البقرة: 256). فبفضل الجهود الجبارة الموفقة في إعادة صياغة المعطيات التاريخية أو الوقائع كما هي في تاريخ الأمة ووثباتها العملاقة التي
الصفحة 150
بواسطتها كانت تحاول التخلص من تناقضاتها وتجاوز كل ما اعترض سبيلها من عوائق وحواجز وتقضي على الفساد على اختلاف مظاهره وأشكاله من ظلم و استبداد وحيف وانحراف وترف وانحلال. عندئذ يتحقق التعايش النفسي الاجتماعي مع العقيدة كهدف أسمى للصيرورة ودليلنا على ذلك أن بعثة الرسول قد أحدثت في المجتمع الجاهلي القرشي العربي الوثني هزة غريبة لم نكد الذهنية الوثنية أن تتحملها فضلا عن صعوبة تقبلها وتصديق صاحبها رغم أنهم لا يعرفون عنه غير الصدق وحتى لقبوه بالأمير، عن علي رضي الله عنه أن أبا جهل قال للنبي : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله تعالى : ( فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِنَايَتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام : .(33
وسأل عنه هرقل أبا سفيان فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ (1)قال: لا، ورغم كل ذلك قضى رسول الله ﷺ ثلاث عشرة سنة وهو يدعو دون أن يؤمن به من قريش إلا قلة وظل يعاني من عنوها وقهرها وظلمها وجبروتها إذ قاسمته العداء وكأنه لم يكن من أشرافها وأعز فلذات أكبادها .
والسبب في ذلك أن عقيدة التوحيد التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانت مغايرة تمام التغاير العقيدة الشرك. وعملية التحول لتحقيق التغيير لم تكن تلقائية حيث يتحول المجتمع الجاهلي الوثني إلى أمة التوحيد مباشرة ولأهمية الأمر احتاج كل تلك الجهود التي بذلها رسون الله ومن آمن معه في مكة والمدينة وما جاورهما، حتى احتاج التغير الاجتماعي حسب مقتضيات العقيدة الجديدة وتطلب كل ذلك الزمن من بعثته إلى وفاته، كل ذلك لنعلم أهمية عامل الزمن بالنسبة للتغير الاجتماعي لأن عملية التحول تبدأ من الفكر إلى التصور فإلى واقع تاريخي عن طريق السلوك المتكيف الراقي، وهذا قد استلزم زمن بعثة رسول الله ﷺ بأكمله في
الهوامش
(1)القاضي عياض، ص164
الصفحة 151
مكة والمدينة في مرحلتين طويلتين مختلفتين في طرق الدعوة والمواقف إلى أن تحقق تدريجياً مجتمع عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله وقضى في النهاية على المجتمع الجاهلي وتحققت بالفعل رسالة النبي ﷺ ابتداء بعمل الرسول الأكرم بالقرآن المجيد، حتى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن أخلاق الرسول ﷺ فقالت: كان خلقه القرآن ولذلك لما تحقق كمال الاهتداء من رسول الله ﷺ وجب الاقتداء به، قال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الأحزاب: (21
وبتحقيق خطوة العمل بالقرآن الكريم غير التقى عنصر الهداية بعنصر الفطرة البشرية وتوفر عنصر الزمان والمكان على خير ما تجتمع هذه العناصر وتتألف لتكون البرعم السليم للحضارة الإسلامية الناشئة آنذاك. وصارت أمة الإسلام داخل حيز التاريخ ويجري عليها ما يجري على غيرها من شروط عالم الأسباب وغيرها . ومهما يكن من أمر فهي بدخولها حيز الزمان وخاصة الزمن النفسي أصبحت
تشكل دليلاً قاطعاً ليس فقط على إمكانية العمل بالقرآن الكريم والسنة بل كذلك على وجوب العمل بهما في كل زمان ومكان كلما أراد البشر خيراً لأنفسهم وسعادة في الدارين الدنيا والآخرة. ومن جهة أخرى تدل معاناة الرسول ﷺ وصحابته الطويلة من أجل تحقيق خير أمة أخرجت للناس على ضرورة مراعاة عامل الزمن في عملية التغير الشامل. ولذلك نزل القرآن الكريم منجماً مقروناً بأسباب النزول وهذا أيضاً دليل آخر على أن القرآن الكريم والسنة على سمو مراميها وشمولية أبعادهما فإنه بإمكان الواقع البشري، التكيف حسب مقتضيات الرقي والسمو القرآني والسني، لأن الله سبحانه لم يرد بإرساله الرسل صلوات الله عليهم أجمعين ليشق على الناس بما هو فوق طاقتهم البشرية من تكليف ومشقة وأعمال لا تمت بصلة لحياتهم وسعادتهم بعد مماتهم، بل العكس فقد ضمن جميع الرسالات السماوية كل ما له علاقة بالإنسان كبشر وأمره بما تقتضيه بشريته من شروط تضمن له سعادة الدارين الدنيا والآخرة دون أن يشق عليه ويرهقه بما لا طاقة به لذلك كان من مقتضيات المنهج الإسلامي ما يلي
مراعاة القدرة في التكليف يقول تعالى في محكم تنزيله: ولا
الصفحة 152
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (البقرة : 286). ومما جاء في تفسير ذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف أحداً فوق طاقته ومن هذا أستنبط الأصوليون القاعدة المنهجية المشهورة لرفع المشقة والخرج : فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا(1) رعاه وبناء على ذلك وجب رفع الخرج قال تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٌ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ منكُمُ الْعُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا يَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (احج : (87). إن هذه القواعد المنهجية كلها تدل على أن الإسلام دين يتجاوب مع قطرة الإنسان يم هو إنسان. فلا ينكر عليه بشريته بل انطلق من مقتضيات هذه الفطرة البشرية ليرتقي بها إلى ما يتم صلاحها لتحقيق فلاحها في الدارين الدنيا والآخرة.
ب - مراعاة الفطرة ومتطلباتها من قدرات عقلية وبدنية ونفسية واجتماعية ومادية قال تعالى : (إِنَّ هَذَا الْقُرْءَ أَن يَهْدِى لِبَتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء : 9
لأن الفطرة السليمة ميزها الله بقدرات عجيبة على التلقي والتكيف وخالقها أعلم بطاقتها وقدرتها. ونقد هياها نفسي وبدنياً واجتماعياً الشقي والتكيف وساعدها بوسائل الاهتداء والنجاة من الوقوع في الضلال والمخاطر برسالة الهدى ودين احق، وهذا الربط بين الفطرة السليمة كاستعدادات وقدرات بشرية ممتازة وبين رسالة احدى وما جاءت به من منهج قويم صالححسب مقتضيات الفطرة البشرية ، يترك أبي تباين وتعارض بين طبيعة الفطرة ومقتضيات الرسالة ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك :14).
ج اليسر ورفع الخرج وعدم التعسير. قال تعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: (١85) لأن المراد بالتكليف، ليس
الهوامش
(1)القاضي عياض، الشقاص :135.
الصفحة 153
المشقة والعقاب والعذاب ؛ بل فبرحمة من الله ولطف منه ، حتى لا نقع في الضلال ومغبته، والظلم وعواقبه والفساد وخبثه والضياع في الدارين. أرسل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين بالهداية ودين الحق، قال تعالى: (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَا بِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) (النساء :
(147) فبناء على ذلك يكون مبدأ التيسير من أخص خصائص المنهج الإسلامي والتوجيه النبوي الحكيم قال رسول الله ﷺ: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا واختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه .. متفق عليه. وفي هذا الحديث لعائشة رضي الله عنها يصبح اليسر منهجاً لرفع الحرج، وليس طلباً للسهولة (1) وإن على حساب الحق، لأن غاية الرسالة التي جاء بها سيدنا محمد ﷺ هي توجيه الناس لما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة، وإخراجهم من دائرة اتباع الهوى كي لا يقعوا في التعارض والتضارب والتنافس فيحققوا سعادتهم في الدارين لذلك فهي لم تنكر حاجاتهم الضرورية التي تقتضيها حاجاتهم البشرية التي أنكرتها بعض الديانات المتطرفة، كالكنيسة وغيرها، بل عدتها من مقاصد (2) الشريعة، كما هي لم تتقوقع في دائرة والغرائز والهوى تقوقع النظريات النفسية الحديثة (3)، بل سمعت بالفطرة من ما يصل بهذه النزعات والميول إلى آفاق الإيمان والتقوى والفضل والفضيلة والتجرد من الهوى، لأنه من الشيطان ومواطن ضعف النفس التي ما اتبعها الإنسان إلا وخاب في الدارين (4) .
د الاختيار وعدم الإكراه قال تعالى : (لَا إِكْرَاهَ فِي الَّذِينَ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ
الهوامش
(1) الشاطبي، الموافقات، ص 22- 119 وأبو زهرة أصول الفقه، دار الفكر العربي. ص317
(2) الشاطبي، الموافقات المصدر السابق، ص: ۸.
(3) كانت الفلسفة الوضعية كتاب قصة الفلسفة، ول ديورانت، ترجمة أحمد النيباني، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، 597
(4) سيقمون فروید، ما فوق مبدأ اللذة.
الصفحة 154
مِنَ الْغَىٰ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة : (256). لأن الحق إذا ما وجد العقل السيد الخالي من الأحكام المسبقة والأغراض المضللة والأهواء، يستجيب بفطرته وسلامة منطقه إلى الحق كما تستجيب العين المبصرة للضوء تلقائياً، ولا تعجز عن استشفاف أنواره إلا إذا مسها الرمد أو حجبته عنها الحجب، فالحق في حد ذاته مقنع للعقل في صوابه وسلامة منحاه ومنهجه. لا يحتاج إلى أي سلطان مادي يفرضه. وهذا عكس ما تتصف به الأيديولوجيات على اختلافها لقد زعم أهلها أنها نتيجة منطقية الصيرورة التاريخ وقد زعم هذا صاحب الفلسفة الوضعية - أوجيست كانت فيما يسميه بقانون الأحوال الثلاثة (1) والبرانية عند كوندورسية وآدم سمیت وجون ستوارت ميل وغيرهم كما ادعى هذا أيضاً بخمسة أكثر إلى حد الغلو كارل ماركس في الجدلية التاريخية، فكأن الإشتراكية والشيوعية نتائج حتمية للصيرورة التاريخية التي ينتهي إليها الصراع الطبقي مع العلم أن المجتمع الإشتراكي أو الشيوعي الذي كان يتوقعه كارل مارکس هو المجتمع البريطاني الذي كان يعاني من
التناقضات والصراعات الصفية. ولكن تحقق في روسيا البلشفينة فذلك لم يكن إلا عن طريق القوة وقهر السلطان. ولم يكن عن طريق تطور تاريخي تلقائي حتمي. وحتى في روسيا وإن فرض النظام الشيوعي، فإن هذا النظام المفروض قد بدا تراجعه تلقائياً بعدما تضح للناس تطرفه، وما نجم عنه من مشقة وتعسف، وهو ما يدل أيضاً على أن الأيديولوجية الشيوعية لا تستطيع أن تبقى بعد زوال الحكم وزوال النظام السياسي الذي فرضها على الناس.
أما الإسلام، وهو إذ يرفض الفسر والإكراه، فقد قرر الحرية والاختيار، لأن الحرية عنده تبدأ من ضرورة إخلاص العبادة الله وحده ومبدأ العبودية الله ، يقتضي عدم الخضوع لغيره ابتداء من نفسه التي لا يطيعها في معصية الله واتباع اهوى، فالإيمان سبيل للتحرر من عبودية الهوى قال تعالى : ﴿أَرَهَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
الهوامش
(1) ابن القيم الجوزية، مدح السالكين، ج1، ص13.
الصفحة 155
إِلَهَهُ هَوَيْهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) (الفرقان :43 -44
وقال رسول الله ﷺ: الا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت يه». إذا فالحرية تبدأ من قدرة التحكم في النفس وأهوائها والزامها اتباع الشرع. فبعد هذا يملك الإنسان عن طريق الإيمان القدرة الذاتية التي تجعله يلتزم حدود الله من تلقاء نفسه التي صارت لا ترغب إلا في ما يتفق مع ما جاء به الشرع، ليضمن لها صلاحها وفلاحها، وعندما يقوى الوازع الباطني الذاتي يصبح الإنسان في غنى عن الوازع الخارجي إن كان لا تعارض بينهما على الإطلاق، بل يصبحان في غاية من التكامل والتعاون. فلا حاجة إذن إلى قهر وإلى قسر فسلطان العقيدة بهذا المعنى يكون أقوى من أي سلطان آخر.
هـ ـ لا مفارقة بين الإيمان والعمل، فالربط بينهما لازم وإلا حصل التناقض، لذلك جاء في أغلب النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الربط بين الإيمان والعمل الصالح واضحاً. إنه لا فجوة بين العقيدة والواقع، بل لا معنى لعمل إن كان على غير إيمان، فالعقيدة هي أساس التصور من حيث هو أول حالات التشكل العقلي للمقولات المنطقية الشرعية التي تصبح أساساً للسلوك يقول تعالى جل شأنه وعظمت حكمته : ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمَا ) (طه:116) وجاء أيضاً في سورة الأنبياء الآية قوله تعالى : ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْبِهِ ، وَإِنَّا لَمُ كَبُونَ ) . فهذه الآية الكريمة تربط ربطاً مباشراً العمل الصالح بالإيمان فقبول الله للعمل مشروط بالإيمان لأن العمل في الإسلام لا يقوم نية ولا نية بدون تصور كما أن التصور لا يكون إلا على أساس العقيدة. فجميع الآيات والأحاديث الواردة في موضوع الإيمان والعمل الصالح تربط ربطاً كلياً بينهما حتى كادا يكونان شيئاً واحداً من ذلك قوله تعالى في سورة التين: ولقد خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَهُ أَسْفَلَ سَفِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرُ غَيْرُ مَمْنُونَ ﴾ (التين : (6). وقوله تعالى : ( وَالْعَصْرِ إِنَّ
الصفحة 156
الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بالصبر) (العصر). ومن الأحاديث النبوية وهي كثيرة حديث أبي عمرو وأبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك قال: قل آمنت بالله ثم استقم، رواه مسلم الواقع أن الربط بين الإيمان والعمل الصالح جاء في أكثر من آية وحديث مفاده أن من مقتضيات الإيمان العمل الصالح وإن قيل قد يصلحالعمل دون الإيمان فإن ذلك العمل إن صلح في أمر الدنيا لا يصلح في أمر الآخرة بالضرورة ومقتضى الربط بين الدنيا والآخرة يجعل المصلحة واحدة فما لا يصح به أمر الآخرة لا يكفي صلاحه في العاجلة وهذا سيأتي بيانه عند مناقشة أصحاب علم النفس في قولهم بالدوافع النفسية في غير هذا المقام .
ويترتب على هذا الربط أمور أهمها أن الأعمال لا تصلح إلا بصحة الإيمان، وهو ما يجعل العمل قائما على النية والقصد، لا على النتيجة والمردود كما جاء في حديث عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه رواه البخاري ومسلم .
وهذه أمور كلها تدل على أهمية العقيدة في الإسلام ذلك لأن عملية التغير ما لم تبدأ بالعقيدة، لا يكون التغير إلا سطحياً أنياً، لا يدوم له استقرار ولا استمرار. أما إذا بدأ التغير من العقيدة باعتبارها ذات ارتباط وثيق بالفكر لأنها هي التي شكلته على أساس قيمها ومفاهيمها لتصبح العقيدة المنهج الضامن للربط بين المفاهيم والمقاصد وفي صوته، توضع القيم مواضعها حسب مقتضيات الترتيب النفسي لشخصية المسلم المتكاملة وسلوكها باعتبار هذا الأخير هو الجانب المشخص للعقيدة.
إذن فقواعد البديل الإسلامي المنهجية في أصولها التركيبية والتحليلية تعود إلى عقيدة التوحيد لتسمو بالعقل السليم إلى آفاق الهدى، وتساعد الفكر
الصفحة 157
على البناء المنهجي للمفاهيم، بناء منسجماً خالياً من التناقضات سواء على مستوى مفهوم الإنسان أم الأمة. وتصبح التربية إذن عناية بالطفل منذ صغره حسب غايات الشرع ومقاصده المحددة في الفقه الإسلامي.
هذا وإن الصياغة المنهجية لمختلف العناصر تتطلب من العقيدة تحديد العلاقات كعلاقة الحق بالحقيقة ابتداء لأن من مقتضيات عقيدة التوحيد تحديد علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، ثم علاقته بالأكوان المسخرة بقدرة الله. فيفضل هذا التوحيد تتوفر الشروط النفسية والاجتماعية التي يتم فيها التعايش بين الفطرة السليمة والعقيدة، حيث تتحول العقيدة إلى تصورات فسلوك أخلاقي وشرعي واعي للحياة بحيث يتم التركيب بين العناصر الأساسية، الإنسان والتراب والزمن، كما يقول مالك بن نبي .
هذا ولقد تبين لنا من خلال مناقشتنا للأيديولوجيات وبينا كيف يكون مصير الفكر التي لا تقوى على القلوب، وإنه وجدت شروط القسر فإن زوالها لا بد منه بزوال ذلك القهر الذي فرضها كأمر واقع، وأن ما تحدثه من تغير فهو لا يتجاوز حدود الظواهر، أما الأعماق النفسية فتبقى بعيدة عن الاكتفاء بذلك الغث لأنها لا تجد فيه جاحتها ولم يعطها قناعة إيمانية كافية .
وأما العقيدة الصحيحة الصادقة فبحكم قدرتها على الإقناع، لأنها تملك شروطه وأسبابه ومختلف عوامله الشرعية والمنطقية، فهي تمتلك أيضاً القدرة على التعايش النفسي واستيعاب المعطيات الفطرية التي ترقي إلى كل مقاصد الشريعة والتي بها تتحقق المصالح دون تضاد وتعارض ثم الصلاح والفلاح.
ولئن يبدو العمل بالعقيدة وما ترتب عليها من شريعة وفضيلة من الصعوبة بمكان، وخاصة إذا ما كانت أوضاع البيئة الاجتماعية والثقافية غير صالحة، فإن ذلك لا يعني اطلاقاً بعد العقيدة من الواقع، بقدر ما يعني فساد الواقع وما يتطلبه من جهود لتغييره والعبرة هنا في معرفة ما يجب أن يتغير في ضوء القرآن الكريم والسنة الصحيحة ليس غير، ولا يجوز أن نغفل هذا المقياس الشرعي الأخلاقي أثناء عملية الإصلاح أو التغير، حتى يصبح التغير
الصفحة 158
غانية واعياً وإلا حدث الفساد، وضاع كل من الدين والدنيا معاً، وهو ما حدث للنصارى واليهود وغيرهما من الأمم القديمة والحديثة.
لقد كان ما اقترفه اليهود والنصارى من تغيير للدين، وإخضاعه لأهوائهم. أعظم ذنب وأخطر انحراف عرفه التاريخ، فضاع منهم الدين وإن الوا نصيباً من الدنيا وحتى نصيبهم هذا الأخير أجله قصير وهو لا يكاد يذكر اده ما ضيعوه بضياع دينهم كل ذلك لأنهم لم يحددوا ما تجب المحافظة عليه وما يجب تغييره عند المحاولات الإصلاحية التي أقبل عليها أسلافهم واستمر عليها خلفهم. فلم تسلم من التغيير العابث فروع ولا أصول وحولوا العقيدة من التوحيد إن الشرك فاضطربت قيمهم باضطراب عقائدهم واختلط النقل بالعقل وسيط النقصان على الكمال.
أم بالنسبة إلى علماء الإسلام فلم يقعوا في مثل خطأ غيرهم، ولم يغيروا شيئاً في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولم يخلطوا بين الشرع والعقل. وم يتزنوا بأنفسهم إلى حضيض الهوى واتباع النفس الأمارة، بل أخضعوا النفس للشرع والزموها حدوده، لأن القرآن حذر من ذلك الزيغ واتباع الأهواء، وأمر باخضاع النفوس وتغييرها حسب مقتضى الشرع كلما بدا منها اعوجاج وانحراف فما لم تتغير النفوس وتخضع لسلطان الشرع لا يتحقق شيء من الإصلاح كتغيير هادف يكون نتيجة لازمة لإصلاح النفس لقوة الترابط بين حان النفوس وضروب السلوك وما نشأ عنها من أحوال في مختلف العلاقات الاجتماعية فيقول الله جلت حكمته : ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيْرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بأنني ، (الرعد: (11) فمهما بدت العقيدة السليمة وما ترتب عليها من شريعة سمحة وأخلاق فاضلة صعبة التطبيق بعيدة التحقيق فإن تقبلها وتبنيها لازه بموجب صحتها وسلامة منحاها وهو ما ساعدها على إيجاد المبررات النفسية الضرورية لقيام الحضارة .
ولما كانت مطالب الجهد وشروط العمل الجاد كثيرة وصعبة في أمور الدنيا والآخرة فإن التعاون والتكامل يحولان الجهود الفردية المبعثرة إلى جهود كلية جماعية تتضاعف فعاليتها فيتحقق عندئذ التغلب على الصعاب مهما كانت.
الصفحة 159
فالمشكلة الأساسية إذن تنحصر في طبيعة العقيدة التي يتم على ضوئها التغير من جهة وطريقة العمل بها من أجل تحقيق مقاصدها والوصول إلى أبعادها المختلفة في الدنيا والآخرة من جهة أخرى فإن كانت الفكرة العقلانية لم تستطع أن تحقق التحفيز المرجو منها في أمة الإسلام بقطع النظر عن اتجاهها الرأسمالي أو الشيوعي فهي إن لم تحقق سعادة الدنيا التي اقتصرت على طلبها فكيف تستطيع أن تحقق سعادة الآخرة وهي كافرة بها؟ هذا ولقد ثبت أن ما لا تضمن به النجاة في الآخرة لن يحقق من مصالح الدنيا إلا أتفهها لأن الدنيا في حد ذاتها تكمن من معظم أسرارها في ارتباطها بالآخرة إذ بدونها تصبح عبثاً ويكفي دليلا على ذلك فناؤها قال عز وجل : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون :116).
وهذا ما يجعل الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تحقق شيئاً إلا إذا انطلقت من منطلقات دينها، الإسلام عقيدته وشريعته ومنهجه. فبدون ذلك لا تكون شيئاً مذكوراً. إذ لا صلاح لها إلا به. وفي هذا الصدد تصبح النظرية السلفية هي الحل الإسلامي الحقيقي. يقول مالك بن أنس رضي الله عنه : ولا يصلحآخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وبناء على هذا فإن الأمة الإسلامية تكون وحدة تاريخية على مر الزمن، وفي هذا الوضع فهي لا تختلف عن غيرها من الأمم. والدليل على ذلك أن الإسلام هو الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه وسيبقى هو نفسه ما يقي القرآن الكريم هو نفسه القرآن الذي نزل على سيدنا محمد إلى يوم الدين، لهذا لا يمكن إلا أن نستنتج من قوله تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ ﴾ (الحجر: (9) تستنتج حفظ الله الإسلام بحفظه للقرآن الكريم لأنه اشتمل على كل مقومات الأمة الإسلامية فمتى تمسك به جيل من أجيالها في أي حقبة من تاريخها حقق صلاحه ونال فلاحه. وإذا ما فرط جيل من أجيالها في الاعتماد على كتابها القرآن الكريم وسنة نبيها انحرف على الصراط وخرج عن المنهج ووقع في الشلال وما يتبعه من خسران في الدارين قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ
الصفحة 160
على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةً انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ، خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج : 11
والجدير بالذكر أن وحدة الأمة الإسلامية التاريخية التي اعتمدناها لمنهجية الحل الإسلامي، تشخص بوضوح طبيعة هذه الأمة المكونة من عنصر الهداية والاستقامة والصحة والسلامة والشمول في وحدة التاريخ. كل هذه المعطيات المنهجية بارزة في القرآن والسنة النبوية، يكفي أن يضاف إليها عامل الزمان والمكان والإنسان كي تتحق الأمة الإسلامية من كل جوانبها وجميع حالاتها وعلى أكمل صورها على أن هذه العناصر الأخيرة وهما عنصري الزمان والمكان لا تحقق تفاعلها النهائي حسب مقتضيات التاريخ إلا بالعقيدة والشريعة وما يؤلفانه من وحدة منهجية تحقق الانسجام والاتساق والحركة والاستمرار على مر التاريخ . فطبيعة هذه العناصر المختلفة لا تتغير في أصولها إذ الإسلام بقي وسيبقى هو الإسلام والزمان هو الزمان والمكان هو المكان وأن تجاوز الإنسان المعمورة إلى غيرها مما خلق الله في أكوانه من أماكن أخرى تكون صالحة للحياة. وإنما الذي يتغير هو الأحوال الطارئة على الأمة عندما لا تثبت على حال عناصرها الطبيعية الأصلية وما يعتريها من فساد نتيجة التقصير والتفريط أما مقتضيات التركيب الطبيعي السليم لعناصر الأمة الإسلامية فلا تخرج عن القوانين التي تتحكم في التاريخ وهذه القوانين التي تدخل في عالم الأسباب وغيرها هي التي تفسر مختلف العلاقات التي تعكس طبيعة العناصر المركبة للأمة في حالتها الكلية والفرعية وخير دليل على ذلك أن المتتبع لأحداث التاريخ يجد الأمة الإسلامية لم تشذ في شيء عن أحوال الأمم الأخرى لا من ناحية أسباب النشوء والنمو والازدهار ولا من ناحية الجمود والتقهقر والتأخر ... لذلك تلاحظ أن الإسلام راعى هذه الأمور بدقة منذ عهد الرسول ﷺ وخلفائه الراشدين عليهم جميعاً رضوان الله، وليس من الصواب أن نتصور أمة الإسلام خارجة عن هذه الشروط، فالدارس للمنهج الإسلامي على اختلاف أبعاده وخاصة من ناحية عالم الأسباب يلاحظ أنه كلما خاطب القرآن الكريم الإنسان خاطبه من منطلق بشريته ولكن حاول السمو به إلى المعالي في أمور العبادة
الصفحة 161
والمعاملات ... فإنه في كل ذلك لا يخرج عن نطاق حاجاته سواء أكانت المتعلقة بالعبادة أم المعاملات المختلفة على أوسع نطاق فالمتأمل للحوار القرآني الشيق يلاحظ ذلك الأسلوب الحكيم في النقاش حيث لم يكلف الإنسان فوق مقولات عالم الإنسان ومنطق التجربة والتأمل.
وهكذا نجد الإسلام في نهجه ينشد الوسطية والإعتدال والعدل واليسر والوضوح والاستقامة والمعقولية في كل شيء، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة : (142). أن الإسلام هو الصراط المستقيم والقسطاس المبين لا يشوبه تطرف ولا إفراط ولا تفريط ولا ضرر ولا ضرار ... فكل الأحكام في فروعها مرتبطة بأصولها، حيث تكون النتائج مرتبطة بالمقدمات ولا تخرج الفروع عن الأصول حتى لا يضل عاقل، ولا يترك للهوى مدخلاً، ولا للمجازفة حظاً فكلما سارت الأمة على هذا المنهج نجت وأفلحت، وكلما حادث عنه خابت قال تعالى : سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (وحزاب :
(63). فهذه هي صيرورة التاريخ وتلك هي شروطها التي هي نفسها قوانين التاريخ لم تتغير، وإنما الذي تغير هو نظرتنا للتاريخ والتي تعود إلى فهمنا له، وطرق تصورنا لأحداثه وتفسيرنا لها : فنظريات الفيزياء وإن اختلفت باختلاف تطور علوم الفيزياء فإن قوانين الفيزياء في حد ذاتها هي نفسها منذ أن خلق الله الطبيعة لم تتغير قط. إذن فالأمة الإسلامية هي الأمة الإسلامية مهما حدث لها من تغير في حدود الزمان والمكان، فهي التي كانت عند البعثة في انبعاثها ونموها قبل اكتمالها، وهي نفسها بعد الهجرة عند اكتمالها باكتسابها عنصر المكان في المدينة بعد ما توفر لها عنصر العقيدة والزمان في مكة قبل الهجرة، فيفضل توفيق الله ونصره لرسوله سارت الأمة في نموها واكتمالها حتى أخذت اكمل صورة وأتم كينونة لكل أبعادها ومجالاتها وذلك يوم كمل القرآن الكريم نزولاً في يوم الحج الأكبر بعرفات: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَنِي ت لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة : (3) ومنذ ذلك الحين بقيت هذه الأمة
الصفحة 162
النموذج الأكمل لكل من أراد الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة في كل زمان ومكان إلى يوم الدين
وسيبقى صلاحها هذا دليلاً على إمكان إصلاح أي جيل من أجيالها في أي عصر من عصور التاريخ إذا وفر أهله ما كان سبباً في صلاح أولها في اتباع كتاب الله وسنة رسوله. يقول رسول الله ﷺ : تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ولقد أثبت التاريخ تحقق نبوة الرسول : فمن يستقريء التاريخ يجد هذه الأمة قوية ذات منعة وعمران ومكانة وسلطان ما دامت هي في قوة من دينها، وإذا ما مسها ضعف فيه مسها الوهن وضاع منها الجد والاجتهاد وذاقت وبال أمرها، لأنها لم تراع شروط الصيرورة التاريخية التي لا تخرج عنها أمة إلا ووقعت في نفس النتائج والظروف والأحوال.
والأدلة على ذلك كثيرة منها أن الأمة الإسلامية إذا ضيعت عنصر العقيدة فهي كالإنسان الذي فقد روحه ولم يبق فيه غير الجثة الهامدة التي فقدت كل عوامل الاستمرار والقدرة على الفعل ورد الفعل لأن العناصر الحية الذاتية التي كانت تحرك الجسم وتغذيه وتنميه وتوعيه .. توقفت وبتوقفها فقد الكائن الحي كل عناصر الحياة والحركة والوعي والفعل ورد الفعل وأصبح في حكم الأموات لا يليق به إلا أن يوارى بالتراب كي لا يلحق الأذى بمن بقي من أهل الحياة.
ولعل ما يثير الدهشة والاستغراب هو زهد الناس في العقيدة وهي أساس الوعي في الأمة ومنطلق الطاقة الإيمانية وهدي السبيل فإن فقدت أنهار كل ما بني على أساسها من قيم وأعمال وعلاقات، وكل ما ترتب عليها من شريعة وقيم وأخلاق وحضارة. فهذه أمور تكون في الأساس أهم مقومات الأمة، فإذا ضعفت فقدت الأمة حيويتها ووعيها وقدرتها على الفعل ورد الفعل وانهارت حضارتها وسارت نحو الانحلال والضعف والوهن.
إن العوامل المذكورة آنفاً في العوامل الذاتية لكيان الأمة وهي تسبق العوامل الموضوعية والشروط المادية والتي ما هي في الحقيقة إلا مكملة تابعة
الصفحة 163
للعوامل الذاتية فالمال والعمران وما ينشأ عنها من وسائل فهي مرهونة بالغايات والدوافع الأساسية الذاتية التي يتوقف كل شيء على قدرتها وقوتها ومدى التحول الذي تدخله على النفوس.
1 وبهذه الأسباب يتميز الحل الإسلامي ويتمحور فيما يلي
2 القدرة على الارتقاء بالفطرة إلى الفضيلة
3 ضمان العدل الشامل لجميع الناس وكفالته
4 لا غنى للأمير عن الشورى لضمان مصالح الناس ومراعاة حدود الشريعة في سياستهم
الصفحة 164.
من الفطرة إلى الفضيلة
إن الإسلام عن طريق التربية ينطلق من الفطرة فيصيغها في إطار أخلاقه الفاضلة بالتهذيب الذاتي القائم على القناعة الإيمانية والإرادة الحرة فهو في هذا الصدد أقدر من غيره على التعايش النفسي العميق وأقوى على صقل النفوس وتهذيبها وإمدادها بالقناعة الإيمانية ثم يرقى بها من حال الإلهام والتلقي - كتقبل ذاتي - إلى حال الاقتناع والاختيار فإلى الاطمئنان والسكينة حيث يصل بها إلى قمة الإخلاص والإحسان وعندئذ تستقر النفس على بساط الفضيلة قال تعالى :
َنَفْسٍ وَمَا سَوَّنَهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَنَهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّنَهَا وَقَدْ خَابَ من دستها ) (الشمس7 8 9.
أما حال الفطرة وهي تمثل سلامة السجية التي تساعد على التأهب النفسي والقدرة على اكتشاف أنوار الهداية فهي غابة الاستعداد للتلقي والرغبة في التوجيه، لأن الإسلام يرهف شعورها بالحق وما ترتب عليه من واجب وينشط إرادتها الخبرة بالتقوى، ويشجع سلوكها الأخلاقي الراقي بالإحسان، فيصبحالواجب بغيتها والعمل الصالح مرتعها ورضي الله غاية غاباتها وأقصى أمانيها ومطامحها، فتتشبع بسلامة أحكامه وتتعود على استقامة نهجه البصائر، وتتكون من عبرة الخبرة فتتكامل هذه القدرات العقلية والنفسية في شخصية مستنيرة ذات اعتدال لا يشوبه تطرف، وصدق لا يخالطه تكلف، وتواضع لا يشينه كبر ولا غرورة، فتلين عندما يجب اللين ويفضل وتتصلب عندما تلزم الشدة والصرامة، وترحم عند القدرة والتفوق فلا الشدائد تثنيها عن العزم، ولا النعماء تلهيها عن مواصلة الجد والجهد. فلا تطمئن إلا للهدى والصدق
الصفحة 165
وطاعة الله والرسول ﷺ وعمل الخير والإحسان، قال تعالى: ولا أَقيم يوم الْقِيمَةِ الوَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوْامَةِ ) (1) قال ابن جرير: «إنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات وهذا النموذج للنفس المهذبة من أهم خصائصه القدرة الذاتية التي تحرك الإرادة من الأعماق فلا تبالي بمفاتن المحيط بل تحاول تحديها وتجاوزها وعدم الوقوع في إشراكها، وهو ما يصطلح عليه اليوم فلاسفة الأخلاق بالضمير وتصبح هذه القوة فضلاً عن كونها وازعاً ذاتياً باطنياً فهي أيضاً عامل رقي وسمو أخلاقي بصل بصاحبه إلى أرقى درجات الصفاء والإخلاص، لتحقيق التعايش الباطني بين العقيدة والفطرة النفسية، يكون فيها المرء قد وحد تماماً ما تلقاه من تعاليم دينه وسلوكه العملي حتى يحقق التطابق الكلي بين قناعته الذاتية وأعماله في مواقفه، فيحقق بهذا التطابق الراحة النفسية والسعادة ولئن كانت هذه الدرجة تمثل بدء مرحلة الميل إلى الخير والرضى به وغاية النفور من الشر وبغض العودة إليه، فهي أهم أشواط التربية الذاتية في بداية الهداية (1(
أما أرقى درجات التهذيب الذاتي فيتمثل في النفس المطمئنة يقول تعالى : يَتَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (الفجر : (30) وما كانت هذه النفس لتصل إلى هذه الدرجة من رضي الله، واتهامها هي نفسها لذاتها لو لم تستقم على الطريقة عن رغب لا يشوبه رهب، وعن عز الطواعية الخالي من ذل الإكراه، لأنها تحررت من شوائب البداية فأدركت مرامي الغاية، فيقول صاحب المنازل في المدارج (3وهو تصفية القصد من ذل الإكراه وتحفظه من مرض النفور وتصرفه على منازعات العلم.
الهوامش
القرآن الكريم القيامة، 1 و2 ابن كثير مختصر ابن كثير للصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، ط ، ج3، ص 574
أبو حامد الغزالي، بداية الهداية.
صاحب منازل السائرين هو أبو إسماعيل عبدالله بن محمد بن علي الهروي الحنبلي الصوفي.
الصفحة 166
ويرى ابن القيم الجوزية أن الإنسان لا يسوق نفسه إلى الله كرهاً كالأجير المسخر المكلف بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعاً محبة وإيثاراً (1)لأن التهذيب قد بلغ بالنفس أرقى حالات الوعي وأسمى درجات صفاء العاطفة وأقوى صفات الإرادة الخيرة فتخلو الحياة النفسية من التردد والملل والضجر والنكوص والنكس، أما قوله: نصرت قصده على منازعات العلم فيقول ابن القيم : معنى ذلك نصرة خاطر العبودية المحضة، لأن العلم غايته عمل العبد للرغبة وخوفه من الرهبة وهذه حالات من المستوى الثاني التي أشرنا إليها في موضوع النفس اللوامة. أما النفس المطمئنة فهي التي نالت حظها من التطابق الكلي مع مقاصد الشرع وجميع أغراضه واستوت أغراضها على مقاصده إنها أرفع حالات النفس وأسعدها بقربها من الله خالقها الذي أكرمها بمرضاته وأدخلها فسيح جنانه جعلنا الله من أهل هذا الحظ وتلك هي غاية التهذيب ومنتهى الطلب في تحقيق سعادة الدارين و يتأيتها النفس المُطْمَينَةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِندِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (الفجر :30
والجدير بالذكر أن التهذيب من بدايته إلى آخر مراحله، بعد أهم خطوة وأنجع عوامل نجاح الحل الإسلامي باعتباره يكون نقطة التحول من الإنسان الذي بدأ عملية التكليف الذاتي من العقيدة كنصور حددت بمقتضاه علاقة بربه وهي الأساس الأول، وعلاقته بالآخرين وهي الأساس الثاني، ثم علاقته بالأكوان وهي مجال سعيه. وهكذا تصبح مرحلة التحول الذاتي هي أول وأساس المراحل اللاحقة بعملية التغير الشامل. أما تغير الأوضاع المحيطية الخارجية، فما لم يكن معتمداً أساساً على التغير الذاتي الباطني، فيكون غير كاف بالمرة، ومن ثمة فإن الطريقة التي اعتمدتها النظريات التربوية الحديثة من حيث هي طريقة ظاهرية بدائية ، طريقة فاشلة، والسبب في ذلك أنها تقوم على اعتبار
الهوامش
(1)ابن القيم الجوزية مدارس السالكين دار الكتاب العربي، ص :103.
الصفحة 167
الإنسان تابعاً لمحيطه المادي وإن هذا الأخير هو العامل الأساسي في عملية التغير.
ويرى أنجلز وكارل ماركس إن الفكر وليد الأداة والحقيقة أن المحيط المادي لا ينكر تأثيره بالمرة على الحياة العضوية والنفسية للكائن الحي، ولكن ما جاء في مفهوم الأداتية المادية مبالغ فيه حيث يجعل الفكر مادياً في شكله ومضمونه ومادته وصورته. ويذهب دور كايم مذهباً آخر في عملية التغير حيث يجعل الضمير الجماعي يكون أقوى سلطة على الحياة النفسية والثقافية والاجتماعية بصفة عامة، ويرجع عملية تشكل الضمير الجماعي في شكله النمطي إلى قانون توزيع العمل، فكما يكون هذا القانون، يكون الضمير الجماعي، وفي كل هذه الحالات يخضع الإنسان إلى بيئته ولا يكون إلا ثمرة لها، وأبرزت هذه الطريقة أهمية المحيط في عملية التهذيب والتكوين والتكيف، في حين تغفل غيره من العوامل الذاتية وهي إذا لم تكن أهم هذه العوامل التي لها ارتباط بعملية التغير الجماعي فهي لا تقل فعالية وأهمية عن عوامل المحيط
أما المنهج الإسلامي فيقضي أن عوامل البيئة لا يستهان بها بل لا بد من مراعاتها لضمان سلامة الفرد والمجتمع فوضع الحدود لضمان الصلاح ابتداء من الأسرة فإلى المجتمع والدولة، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً وهو ما يقوم به نظام الحسبة بالإضافة إلى نظام القضاء الذي يصهر على تطبيق الحدود الشرعية بحيث يكفل الأمن والأمان على الدين والنفس والنسل والعقل والمال (1)؛ لكن المحيط ليس إلا عاملا من عوامل المحافظة على الأخلاق والنظام والمصالح المشتركة. في حدود الظاهر أما ما هو أهم منه فهي الجوانب الباطنية الذاتية التي لا يصلح مجتمع مهما أوتي هذا الأخير من قدرة القهر والضغط على الأفراد إلا بصلاحها بل يذهب المنهج الإصلاح الإسلامي إلى أبعد من ذلك ويقرر أن عملية التغير إذا لم تبتدىء من التهذيب الذاتي الذي عن طريق ما تعطيه العقيدة السليمة من قناعة روحية إيمانية، فهي عملية
لم تهة لا يكون لها الأثر البالغ المطلوب، لأن المنهج الإسلامي يقتضي أن
الهوامش
(1)الشاطبي، الموافقات، المصدر السابق، ص:10.
الصفحة 168
الحياة الاجتماعية بما فيها من ثقافة وسياسة واقتصاد. فما هي إلا امتداد للحياة الباطنية الذاتية فتصلح بصلاحها وتفسد بفسادها قال تعالى : وذلك بات اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيْرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عليم ) (الأنفال :53).
فالنعمة حالة موضوعية بيئية لا يغيرها الله إلى نقمة إلا إذا فسدت أحوال ندس البطنية التي يؤاخذهم الله على فاسدها باعتبار فاسدها فساد للكل وليس للمجزء بما في ذلك فساد الأمور الاجتماعية البيئية، فلهذا نجد أن عملية التغير إذ بدأت بعاء الأشياء والمحيط المادي عند الفلاسفة الماديين ومن سار على دربهم من المربيين المحدثين فإنها تبدأ حسب المنهج الإسلامي بالإنسان من أعماقه ابتداء، كالإرادة الحرة الخيرة التي تتكون عن طريق القناعة الإيمانية. فالإنسان هو المغير للمحيط وليس المحيط هو الذي يغير الإنسان، ولا يقوى الإنسان على تغيير محيطه ما لا يقوعلى تغير نفسه، وهذا هو مفهوم الحرية في الإسلام لأن الله كرم الإنسان وسخر له الأكوان لكى يعمرها ويصلحها بمحض إرادته البحرة التي بمقتضاها استحق مسؤولية الاستخلاف في الأرض وحمله في البر والبحر ورزقه من الطبيبات قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْتَهُم
من الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) (الإسراء: (80). ومن مقتضيات هذا التكريم أن الله أعطى للإنسان ما يساعده على التفوق على المحيط المادي وتجاوزه وإخضاعه المتطلبات حضارتهم.
وهكذا تتضافر العوامل الذاتية والبيئية الاجتماعية والطبيعية من أجل تحقيق الأفضل. فلا تقوم أخلاق بدون قيم وعقيدة، ولا تتحقق العقيدة ولا الأخلاق وما ينشأ عنهما من خبرات نفسية وانطباعات راقية ذاتية، دون شريعة تحدد علاقات الناس فيما بينهم، لضمان المصالح الخاصة والمشتركة، فتصبحالرغبة في الصلاح والعمل على تحقيق المصالح الذاتية ابتداء، قال تعالى : ( فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (النساء : 64). وهكذا ترقى
الصفحة 169
الفضيلة بالفطرة فتهيئها لأرقى درجات التسامي الروحي والاطمئنان النفسي والانسجام الاجتماعي حيث تستلزم قبول العدل وعدم الرغبة في الظلم وتصبحالحياة النفسية بالفضيلة مهيأة للحياة الاجتماعية العادلة
الصفحة 170
العدل في الإسلام
لقد تبين مما تقدم كيف أن للإسلام سلطاناً على النفوس وكيف يرقى بالفطرة إلى أعلى مراتب الفضيلة من تقوى وإخلاص وإحسان ورأينا أيضاً مدى آثار الإيمان على السلوك والعلاقات والمعاملات بصفة عامة حتى أن الرسول ﷺ جعل المعاملة هي الدين فقال: «الدين المعاملة.
وفي هذه الفقرة ستحاول أن تعرف كيف يرقى الإسلام بالعلاقات المختلفة لتحقيق المساواة والحرية والتكامل الاجتماعي والتكافل والتعاون دون أن يقع في التعارض الذي وقع فيه غيره من الديانات والأيديولوجيات والنظم السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية .
هذا ولقد تبين لنا من خلال العرض والتحليل والمناقشة المفهوم الديمقراطية الليبرالي والاشتراكي والشيوعي. وعلمنا كيف كان من الصعوبة بمكان التوفيق بين الحرية من حيث هي تنافس حسب قاعدة ودعه يعمل، وتكافؤ الفرص كمجال من مجال المساواة والحرية وإذا كانت محاولات التوفيق هذه لم تنجح في المستوى النظري فكيف بها في الواقع العملي بإن خيبة السياسيين ورجال الاقتصاد الليبرالي والاشتراكي والشيوعي تكمن في عدم قدرتهم على التخلص من التناقضات التي تجعل الظلم نتيجة حتمية لا ينجو منها أفراد ولا مجتمعات وما دامت الليبرالية لا تستطيع أن تتخلص من الملكية المطلقة وما ينشأ عنها من التنافس بالضرورة مما يؤدي حتماً إلى تفاقم التفاوت والصراع الطبقي ... وما دامت الماركسية سواء أكانت في شكلها الاشتراكي أم الشيوعي، لا تستطيع أن تتخلص من خنق الحرية والقضاء على روح المبادرة في الأفراد، فإن هاتين
الصفحة 171
الأيديولوجيتين لا تستطيعان أن تتخلصا من الظلم وما ينشأ عنه من التناقضات ولا تستطيعان أن يحققا للناس العدل الكامل بالمرة.
والحقيقة أن المشكلة أعقد بكثير مما تبدو، لأن التناقضات التي تعاني منها الأيديولوجية الليبرالية والماركسية هي تناقضات، ليس فقط على مستوى الفروى بل هي نابعة من أعماقها وأغوارها وأسسها ، ولذلك هي غير قابلة للحلول الجذرية والتغيرات الأصولية الكلية الشاملة، لأنها إذا تعرضت إلى تغيير الأصول تصبحأيديولوجيات أخرى بالضرورة. وإذن فالقضية أصبحت قضية بديل كلي وتغير جذري شامل، على أن الذي يهمنا هنا هو أن نبحث ما إذا أكان الإسلام قادراً فعلا على تحقيق العدل الكامل الذي لا تتعارض فيه المصالح ولا تتناقض فيه بين الحرية من حيث هي إفساح المجال لروح المبادرة وبذل أقصى ما يمكن من الجهود للبناء الحضاري من جهة وتحقيق تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات من جهة أخرى، والمعرفة ذلك لا بد من التعرف على مفهوم العدل في الإسلام وخصائصه وأبعاده وشروطه. والبحث عن الطرق التي استطاع بها الإسلام أن يجمع بين الحرية والتكافل الاجتماعي دون أن يقع في التناقض الذي وقع فيه غيره من الديانات والأيديولوجيات بالإضافة إلى معرفة ما إذا كان المفهوم العدل في الإسلام أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية؟ وكيف استطاع الإسلام أن يواجه مختلف أصناف الظلم ؟.
إن من يعود إلى الشريعة الإسلامية السمحة يجد للعدل في الإسلام
مميزات كثيرة نجمعها في ثلاث خصائص هي :
ا - الصبغة التعبدية العقائدية.
ب - الصبغة الشرعية التشريعية.
ج - الصبغة الأخلاقية والنفسية.
أ - البعد التعبدي :
فمن جملة ما تميز به مفهوم العدل في الإسلام أنه ينطلق من أساس متلادی تعبدي تقوم عليه باقي المفاهيم الأخرى الشرعية والأخلاقية.
الصفحة 172
أما مجالاته وأبعاده فهي تشمل كل أصناف المصالح سواء أكانت تلك التي تتعلق بالدنيا أم تلك المتعلقة بالآخرة يقول تعالى في محكم تنزيله : ( فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (النساء: 64). فالربط واضحبين وجوب تحكيم الرسول وصحة الإيمان، والحقيقة أنه يترتب على هذا أن الذي لا يسلم بأنه لا حكم أعدل من حكم الله ولا يرضى بما قضي الله لا يبقى له من الإيمان وصحة الاعتقاد شيء؟ لأنه ثابت في الشرع إن من مقتضيات الإيمان التسليم الكلي بقدرة الله وعظمته وكماله . ومن مستلزمات كمال الله عدله في قضائه وفي حكمه فهو : وَاللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبَرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر : (23). ومما جاء في تفسير ابن كثير : هو الله الذي لا إله إلا هو الملك أي المالك الجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة ويرى ابن كثير في قوله تعالى : السلام) أي من جميع العيوب والخصائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله وجاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (الْمُؤْمِنُ) أي أمن خلقه من أن يظلمهم .
فهذه الصفات القدسية الربانية تجعل العدل في القضاء والقدر والحكم من صفات كمال الله عز وجل والتسليم بهذه الأمور من الشروط العقائدية الضرورية التي لا يصح الإيمان بدونها. وبهذا يصبح الغرض من الحكم ليس فقط الحصول على نتائجه من حيث هو حكم ليزيد على عمر بقدر ما هو البحث عن احق والعدل والإنصاف يقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وأما بعد، فإنه أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشترى وبسطو الجور حتى اقتدى (1) لأن الدافع الإيمان لهو أعمق الدوافع وأقواها على النفوس وهذا ما يجعلها أكثر طواعية للحق وإقبالاً على العدل وتجاوباً مع روحالشرعة التي اقتنع الناس بأنها ما أوحي بها لشقائهم وإنما هي نهج سعادتهم في
الهوامش
(1) ابن كثير، مختصر تفسير ابن كثير، محمد على الصابوني، ج ۳، ص: 479، دار القرآن
الصفحة 173
الدنيا وفي الآخرة ولا شريعة تستطيع أن تحقق لهم ذلك غير شريعة الإسلام وهذا ما جعل المرء لا يخشى من العقاب الذي يسلط عليه إن تعدى الحدود بقدر ما يخاف على نفسه من عذاب الآخرة الذي هو أشد وأبقى، وهذا ما جعل الناس تقبل على إقامة الحد عليهم حتى ينجوا من عذاب تلك الدار الآخرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : أتى رجل من المسلمين رسول الله ﷺ وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله : إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاء رسول الله ﷺ فقال أبك جنون؟ قال : لا . فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله ﷺ : اذهبوا به فارجموه والحقيقة فإن قصة ماعز هذه ذات دلالات من ذلك أن الإيمان لا يسمح لصاحبه أن يستريح ضميره وقد اقترف إثماً كالزنا ولا يخاف على نفسه من عذاب الآخرة دار القرار الذي يجعله يستهين بعقاب الدنيا ولو كان الرجم وهو إذ يعتقد أن الآخرة خير وأبقى فإنه قد ضحى بالدنيا من أجل الآخرة دار القرار.
وهكذا يصبح الخوف من الله أعظم من الخوف من أي نوع من العقاب المترتب على تطبيق الحدود ولو كان الرجم فالدنيا إذا ما قورنت بالآخرة لا تساوي شيئاً في نظر المؤمن؛ فالبعد العقائدي يضفي على العدل الصبغة التعبدية التي تجعله من العمق، بحيث يصبح طلبه ليس فقط من قبل القاضي أو الخليفة بل كذلك هو غاية المحكوم عليه ذاته مما يجعل كلا من المتخاصمين لا يهمه على من سيكون الحكم بقدر ما يهمه أمر نجاتهم من النار ببعده من الظلم والخوف من الوقوع فيه، وهنا يتبين إلى أي حد يصبح العدل مرغوباً فيه: محترماً مهيباً عند المؤمنين جميعاً على حد سواء ابتداء من القاضي والمحكوم عليه والراعي والرعية، ويصبح الوازع الذي يزع الناس من الوقوع في الظلم هو الوازع العقائدي الباطني.
أما السلطة السياسية والقضائية فهي الحارس الذي يقوم على تطبيق الحدود وخاصة عندما يضعف الدافع العقائدي والتعبدي والأخلاقي. يقول
الصفحة 174
الإمام علي كرم الله وجهه الملك والدين إخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر؛ فالدين أمن والملك حارسه، ما لم يكن له أمن فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع (1) وهكذا تتضافر العوامل الذاتية العقائدية والعوامل الموضوعية الشرعية ؛ فالجانب العقائدي يقتضي بأن الحكم الله من حيث هو المشرع، وإن الراعي ما هو إلا حارس على تطبيق الحدود التي أمر بها الحماية المصالح، وعلى هذا الأساس العقائدي يصبح من يرفض الحكم بما أنزل الله في حكم الظالم لأنه وضع الخالق موضع المخلوق والمخلوق في حكم الخالق وهذا محال وعين الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، قال تعالى ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، لِيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُّعْرِضُونَ الله وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقِّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ لا أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَو أَرْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أَوْلَيْكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (النور: 48 - 49 - 50 في هذه الآيات الكريمة وصف للذين يتحايلون على الشرع فإذا كان لصالح غيرهم راحوا يتحاكمون إلى الطاغوت وهم مطالبون بالكفر به وإذا كانت لهم الحكومة يأتوا إلى حكم الله مذعنين. ولقد ذكرت الآية الكريمة أسباب ذلك منها مرض القلوب الذي يعميها عن الحقيقة فلا تدركها كما هي فتصبح بذلك في حكم المنكر لها فتشك في الدين وهذه أمور كلها ذات الاتصال الوثيق بضعف الاعتقاد وما يعكسه من حال نفسية مرضية يصبح فيها الإنسان يسلك طوع هواه .
ويتيين من الأدلة السابقة أن العدل في الإسلام يقوم على أساس عقائدي متين مما يجعل الرافض لحكم الله والتحكيم بما أنزل الله هو في حكم الكافر والمنافق والفاسق والظالم لأن الإيمان هو الذي يجعل الإنسان لا يرضى بغير حكم الله بديلا. فالرضى به فوز عن النفس والهوى وعلى الظلم والحيف وكل ما ينشأ عنها من مفاسد من الحالات التي لا تليق بخير أمة أخرجت للناس أمة المعروف والنهي عن المنكر وأمة الإيمان بالله فيفضل هذا البعد العقائدي لم تشريع الإسلامي قائما على الوعي والإرادة والاختيار لأن الوازع الباطني
الهوامش
(1) ابن عبد البر بهجة المجالس، ص:.334 ج 1
الصفحة 175
يشكل أقوى دافع من الدوافع النفسية التي تجعل الإنسان لا يهدأ له بال ولا برتاح له ضمير إلا إذا سار على الصراط المستقيم وإلا فكيف يفسر اعتراف الغامدية أمام رسول الله ﷺ فتأتي وتطلب إقامة الحد عليها دون إكراه أو قسر بل باختيارها وبمحض إرادتها، وطالبت بإقامة الحد عليها، روي سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي ﷺ جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني، فقال: ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال: وما ذاك، قالت أني حبلى من الزنا قال: أنت؟ قالت نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك، قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال: فأتى النبي ﷺ فقال : قد وضعت الغامدية، فقال: أذن لا ترجمها وتدع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله قال: «ارجمها، رواه مسلم والدارقطني. فهذه القضية تشخص لنا حقيقة الصراع النفسي وحالة غلبة الضمير على صاحبه وحمله على طاعة الله ورسوله عن رغبة ومحض اختيار تلك هي حالة الإيمان القوي وما ينتج عنه من استعداد نفسي لتقبل العدل وجعله موضع الرضى والرغبة. وهذه كلها أدلة تثبت أهمية المفهوم العقائدي للعدل في الإسلام ومكانته في التشريع الإسلامي القويم.
ب - الصبغة الشرعية والتشريعية :
أما المفهوم الشرعي للعدل فينحصر في الحكم بما أنزل الله إذ الحكم بغيره هو اتباع للهوى وإن الحاكم بغير ما أنزل الله واقع في الظلم لا محالة ولئن قبل أن الحكم بالقانون الوضعي هو حكم بغير ما أنزل الله ولكنه عادل ولا يمكن أن ندعي أن كل الأحكام حسب القانون الوضعي هي أحكام جائرة وإلا كيف يتحاكم الناس له وتبني على أساسه نظم تشريعية وسلطات سياسية ومؤسسات اقتصادية واجتماعية ......
والحقيقة هذه قضايا جد معقدة لأن ادعاء العدل والانصاف بواسطة القانون الوضعي يحتاج إلى مناقشة لأن القانون الوضعي بحكم أن الإنسان هو الذي وضعه يجعل من صلاحيات الإنسان التشريع، وهذا يعني حتماً أن الإنسان
الصفحة 176
يشرع للإنسان أو بمعنى آخر أن الإنسان يشرع لنفسه أو الإنسان الأقوى يشرع للإنسان الأضعف وفي كل هذه الحالات كيف يتحقق العدل؟ وهكذا نجد من أشهر الحرف حديثاً حرفة التحايل على القانون باسم القانون والصراع الطائفي والحزبي الأيديولوجي من أجل المشاركة في التقنين والتشريع والتي هي موضوع التنازع في المجتمعات الحديثة. هذا ولقد أصبحت السياسة التشريعية من الفنون السياسية المستحدثة بل أصبح لا بد منها لكل نظام سياسي وإذا كان التشريع سياسياً يصبح يختلف باختلاف الأيديولوجيات السياسية وعندئذ كل نظام سياسي يستحدث ما بدى له من التشريع ليبرر ظلمه وحيفه وضرورة قيام حكمه والإذعان السلطانه وصار القانون نسبيا لا يخضع المقياس ثابت ولا لقيم أصولية أساسية تسمو إلى آفاق العدل الكامل الذي هو حق لكل الناس على السواء فيعطي الحق لأهله ولا فرق في ذلك بين الولي والعدو وهكذا يتبين كيف أن القانون الوضعي تتحكم فيه الأهواء أكثر مما يتحكم هو فيها بل هو خاضع ه وما تواضع الناس إلا من أجلها وعلى أساسها وعلى الجملة أن المزالق التي يقف أمامها القانون الوضعي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها من ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
ا - مشكلة الحاكمية .
ب - عدم شمولية العدل للمفهوم الوضعي .
ج فقره للوازع الذاتي النفسي.
د ضعفه العقائدي الأيديولوجي .
فلهذه الأسباب وغيرها اقتضت حكمة الله أن تكون الحاكمية الله وحده وليست من حق أحد من البشر. ومن ثمة يصبح المشرع أبعد ما يكون عن التحيز والميل فسبحان الله عما يصفون. فهو لا يستفيد شيئاً مما شرع لنا قال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَا بِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عليما) (النساء: (46). وبهذه الميزة وغيرها يكون العدل الرباني هو العدل الكامل الذي لا يشوبه عرض ولا يصيبه ميل ولا حيف.
الصفحة 177
ج - البعد الأخلاقي
أما البعد الأخلاقي فيجعل العدل في الإسلام يستلزم المساواة بين الناس. وأن تكون الحرية لازمة، فهي حق من حقوق كل إنسان، ولما كانت الملكية من نتائج السعي والكسب والمبادرة فلا بد من تشريعها والحفاظ على ما تنتجه من مال كلما كانت هذه المبادرات والنتائج لا تكون على حساب الآخرين ولئن عد الإسلام المال من الضروريات التي أوجب حمايتها وضمانها لكل الناس، ومن الحقوق التي يجب أن تراعى ؛ فما ذلك إلا ليجعل الإنسان يشعر بكرامته ومسؤوليته ومكانته في الأمة وفي الوجود ولئن قرر الإسلام العدل فقد جعل الأخلاق أيضاً من أهم أغراض بعثة الرسول ﷺ وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق عن أحمد والبيهقي والحاكم وصحيح فالآيات الكريمة والأحاديث النبوية التي تربط بين العدل والفضيلة كثيرة مما يدل على أن غاية العدل والفضيلة واحدة وهي تحقيق الصلاح والفلاحفي الدنيا والآخرة وهكذا يكون كل من العدل والفضيلة وسيلتين مرتبطتين حيث تكون الأولى شرطاً لتحقيق الثانية، إذ لا فلاح بدون صلاح ولا صلاح بدون عدل وفضيلة فإذا كانت غاية الفضيلة الإخلاص الله في السر والعلانية لتحقيق رضاء وهو وحده العالم بالنفوس فإن الإخلاص يجعل الرقيب الذاتي (وهو الله ) أقوى من الوازع الخارجي الذي يصهر على تطبيق الحدود ؛ والدليل على ذلك أن الغامدية تأتي وتعترف للرسول وتطالب بتطهيرها مما وقعت فيه من الزنا وكذلك ماعز بن مالك. إن هذا الاستعداد النفسي لتقبل الحكم والرضى بالحدود لم يكن يتحقق بهذا الشكل لو لم يكن الدافع الأخلاقي الوجداني أو ما يسمى بالوازع الشرعي والوازع الوجداني فالمراد في الحالتين هو صلاح حال النفس في الباطن والظاهر على السواء. وهكذا صارت غاية الأخلاق الإسلامية هي نفسها غاية الأحكام الشرعية في النظام الاجتماعي والنسق القيمي. فالأولى تعني بالخبرة النفسية فتقومها وتخضعها لطاعة الله ورسوله وتوجهها نحو ما يقربها من خالفها العالم بخفاياها لتنال رضاه وتطعمها حلاوة الإيمان وحب الله وحب رسوله وحب من أحبهما من المؤمنين، وتطعمهما حلاوة السعادة وتشوقها السعادة
الصفحة 178
الآخرة في حين تفسح الثانية لها المجال الموضوعي الاجتماعي بمكان حدد من علاقات وقيم ونظم تشريعية شرعية كي يجد السلوك الأخلاقي البيئة التي تناسبه وتشجعه وتنقبله دون أن تجد العراقيل والعوائق في الساحة الاجتماعية فالصلاحالباطني إذا ما وجد أمامه في الساحة الاجتماعية ما يسانده من عوامل الصلاحازداد صلاحاً وإذا ما وجد أمامه بيئة فاسدة يزداد شعوراً بالضيق والقلق وقد يقضيان به إلى الضعف ولذا إذ يعتبر العدل أهم عوامل الإصلاح الصلاحالمحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي فهو في آن واحد أكبر مساعد على نمو الفضيلة لأن الحياة البيئية لها انعكاسات نفسية لا محالة، أن كانت البيئة صالحة شجعت الخبرة النفسية السوية التي صفلتها قيم الفضيلة في الداخل منصهرة في قيمها المشاعر والتصورات والحياة النفسية والعاطفية برمتها متكاملة
وبذلك اشتهرت وبرزت في نماذج راقية من السلوك المتكيف المتوافق.
فضلاً على ما تقدم هناك مباديء مشتركة بين العدل والفضيلة تذكر منها على سبيل المثال، «الأمانة : إذ هي من ناحية الصدق والإخلاص حالة باطنية أساسية في بناء الخلق الفاضل وهي شرعية من حيث هي حفاظ على حقوق الناس ومصالحهم يقول : إن الأمانة إلى من ائتمنك ولا تحن من خانك. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الصدق أمانة والكذب خيانة، ومن ثمة تجد في الشرع وجهان للأمانة وجه أخلاقي نفسي باطني يتجلى في الصدق؛ وعده الكذب، لأن عدم الصدق مع الذات في الحق خيانة ليس للنفس ذاتها فحسب بل هي خيانة للحق كذلك والحق أمانة وحمايته واجبة باعتبار الكذب خيانة وهكذا لا تضيع المصالح الأدبية المعنوية الفكرية كما لا تضيع المصالحالمادية الحسية.
ومن المباديء الخلقية الشرعية التي تجتمع فيها الأبعاد الأخلاقية والأبعاد الشرعية الاجتماعية والسياسية الاقتصادية .... المسؤولية وهي من أهم المقومات الأساسية للحياة الجماعية لأن المصالح في أغلبها وإن كانت خاصة وعامة فإن مسؤولية الحفاظ عليها مسؤولية مشتركة لأن وضعهما في الإسلام واحد ، كالملكية مثلاً فهي خاصة وعامة ومسؤولية الحفاظ على الملكية الخاصة والعامة مسؤولية
الصفحة 179
مشتركة، بحيث لا تكون الملكية الخاصة على حساب الملكية العامة والعكس لا يجوز، فالمحافظة عليهما واجب تقتضي المسؤولية المشتركة، من ذلك أمور كثيرة تدخل في هذا الحكم منها :
أ - تربية الأولاد.
ب - حماية المؤسسات العامة كالدولة والإدارة والمرافق العمومية .
ج الأسرة وحاجاتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
فيقول الرسول ﷺ: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع عليهم ومسؤول والمرأة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عنه فبمقتضى هذا الحديث تتعين المسؤولية في كل مستويات الحياة الاجتماعية ابتداء من الأسرة فإلى مختلف المؤسسات الثقافية والتربوية والاقتصادية والإدارية، فإلى الدولة على اختلاف مهمامها الإدارية والسياسية وغيرها وفي هذه الأحوال يصبح الشعور بالمسؤولية في أعماقه قائماً على الأسس الأخلاقية البعيدة الأغوار في النفوس كما تكون ذات البعد الشرعي الاجتماعي والثقافي والسياسي فهكذا تتكامل الفضيلة والعدل تكامل الأخلاق والشريعة لتكون خير أمة أخرجت للناس.
العدل والمساواة :
إن من استقرأ الشريعة يلاحظ كيف تتضافر الأدلة على إقرار العدل من حيث هو حق لا بد منه لجميع الناس على حد سواء. قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِ مَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) . هذا و أن الآيات الواردة في هذا الصدد كثيرة وكلها تفيد أن العدل في الإسلام حق يكفل لكل الناس حتى للأعداء إذ ليس من العدل أن تكون الأحكام مكانة الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أو العاطفية، بل الناس م سواسية أمام حكم الله فالغني والفقير والقوي والضعيف هم
الصفحة 180
سواسية، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إن امرأة من بني مخزوم سرقت فقالوا »، من يكلم النبي فيها، فلم يحترى، أحد أن يكلمه فكلمه أسامة بن زيد . فقال : إن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه لو كانت فاطمة لقطعت يدها رواه البخاري .
فبمقتضى ضرورة المساواة بين الناس في العدل تقرر القصاص قال تعالى : يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْخَرُّ بِالْحُرُ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنى فَمَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَأَنْبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءَ إِلَيْهِ
بإحسان ) (البقرة : (178) وإذ يسوي الشارع الحكيم بين الناس فلا يشذ عن هذا المبدأ رعاة ولا رعية، سئل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أمام القاضي بجانب اليهودي الذي وجد عنده الدرع الضائع من سيدنا علي، ولما كانت أدلة المدعي أقل من أن تثبت أن الدرع لصاحبه لعدم توفر شروط الشهود حكم القاضي بأن الدرع لليهودي دون أن يكون من علي رضي الله عنه أي اعتراض على الحكم وسلم الدرع لليهودي بدون أدنى تردد أو صعوبة ولما رأى اليهودي ذلك الاستلام للحكم وذلك العدل فيه والمساواة التي كانت بينه وبين علي كرم الله وجهه اعترف بأن الدرع ليست له وأنها لعلي رضي الله عنه، وأعلن إسلامه.
أن العدل في الإسلام يقتضي مساواة الناس أمامه فلا يراعي مال ولا جاه ولا سلطان وبهذا يكون العدل في الإسلام قد حقق أغراض الأنصاف في الأمة وضمنها في الملة حتى اقتنع الناس به، وجدوا من أجل كفالته فضمنت كرامة الإنسان وحريتهم وأمنه على نفسهم ودينهم وتسلهم وعقولهم.
الصفحة 181
العدل والحرية
من المسلمات العقائدية والشرعية الإسلامية أن الله كرم بني آدم وميزهم عن غيرهم من المخلوقات بالقدرة على التعقل والفهم والتذكر وإدراك الفروق واستيعاب المعاني والأحكام وتصور العلاقات الحسية والمعنوية، كل هذه الصفات التي يتميز بها الإنسان جعلته يعي ذاته وما حوله بل ومصيره في الدارين الدنيا والآخرة وزوده بالإرادة عن طريق القدرة على الاختيار حسب القيم التي يكونها لنفسه عن نفسه ومحيطه المادي والثقافي والحضاري.
وبمقتضى هذه القدرات يصبح الإنسان قادراً على الاختيار ومسؤولاً عليه بالضرورة وهكذا خلق الله الإنسان وكرمه بمسؤولية الاستخلاف في الأرض وهو باعتباره مسؤولاً فهو حر. لكن حريته في حقيقة أمرها هي حرية نفسية واجتماعية قائمة على أساس الشعور الاجتماعي الناشيء عن القيم الاجتماعية المشتركة التي تضفي على الحرية المسؤولية الاجتماعية الواعية، ومن ثمة فإن الإنسان الذي لا يدرك شخصيته الاجتماعية لا يعى مجال حريته إذ لا حرية خارج المجتمع بل الحرية تبدأ بالشعور الاجتماعي عند الكائن البشري وتنعدم بانعدامه، وهنا يتعين أن ما قاله: روسوه بالحرية الوحشية لا معنى لها على الامانة لأن الإنسان الوحشي إذا وجد، فإنه يكون فاقداً وعيه الاجتماعي أي لايدرك بعده الللاجتماعي وحاجته إلى التفاعل والتكيف مع الآخرين ومن ثمة فهو
لا ييدن بي جهد من أجل ذلك، كالذي هو خارج الماء لا يشعر بالحاجة إلى العوم ولا يحاول بذل أقصى جهوده كي لا يغرق، فكذلك الإنسان ينمي وعيه الاجتماعي عن طريق احتكاكه المباشر بالمجتمع وتشربه للقيم الاجتماعية فالارتباط لازم بين الشعور الاجتماعي والإرادة والحرية لكن الشعور الاجتماعي
الصفحة 182
والإرادة والحرية أمور كلها تحتاج إلى المجال الثقافي الذي يحتضنها وبواسطة التعامل والتفاعل معه يحقق نموها على أكمل الوجوه والأحوال ويفعل هذه العوامل تتكون الشخصية الاجتماعية عند الطفل وتحقق تمييزها وانسجامها في طريق الوعي الاجتماعي تنمو ميوله الاجتماعية وشعوره بالمسؤولية وبهذه العوامل الأخيرة تتحقق الحرية بمعناها النفسي والاجتماعي وعلى غرارها يحصل التكيف السليم فيحقق عندئذ التشارك والتعامل والتعاون والتكامل ويزول التفاوت والتضارب والتناقض والانزواء والتقوقع في نزواته الأنانية، والنزعة الفردية وهذه كلها شروط اجتماعية ونفسية عن طريقها يدرك الإنسان الحدود التي تقف عندها حريته ومجالات المصالح وأبعادها ضمن مختلف العلاقات، وهذا ما يجعل الحرية لا تتحقق بدون عدل ولا معنى للعدل إذ لا تحمي هذه الحريات وتؤمن لأصحابها كي يقوموا بمختلف المهام والوظائف الاجتماعية التي تقتضيها طبيعتهم الاجتماعية وشروط الحضارة.
فالإنسان إذن كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش خارج المجتمع. وهذا ما يجعله لا يشعر بأنه كائن اجتماعي يعي الضرورة الاجتماعية التي بمقتضاها تكون حريته محدودة ومصالحه محدودة وعلاقته بغيره أيضاً مقننة مضبوطة وفق قيم محددة إذ يعي أنه كائن اجتماعي في كيان أكبر يتطلب منه هذا الوعي أن يعي حقوقه ضمن ذلك الكيان الأكبر وواجباته نحوه أو بمعنى آخر أنه يدرك ذاتيته الاجتماعية لأن حياة الأفراد وما تقوم عليه من المصالح كالتربية والأمن والشغل والانتاج والملكية، تحتاج إلى مختلف الجهود المشتركة الضرورية لإقامة احضارة كما تحتاج بالضرورة إلى ما هو خاص وعام وما هو مشترك وما هو غير م مصلحة خاصة ضمن مصلحة عامة ولا تضيع المصالحح الخاصة، وكل مصلحة لها حدودها ولها وظيفتها وبالتالي لها قيمتها الاجتماعية. وبهذا استطاع الإسلام أن يجعل الحرية ضرورية تكفل لكل إنسان حتى يشعر بكرامته وتكريم الله له، ولكن الحرية إذ ضمنها الإسلام وجعلها الجميع الناس فهي في ذلك حق وواجب في آن واحد، فإذا كان لكل إنسان الحق في الحرية فلا يجوز للحرية أن تكون على حساب حريات أخرى،
الصفحة 183
ففي هذا المجال يقضي العدل بأن تكون الحرية محدودة حيث تنتهي عند حد حرية الآخرين. ولما كانت المساواة من مقتضيات العدل، فإنه أيضاً من مقتضيات العدل الحرية ؛ فالإنسان المظلوم لا يعشر بالحرية. ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفعت مظلمة من قبطي مصري اعتدى على ابن العمرو بن العاص الذي كان والياً على مصر في ذلك العهد. ولما قدمت المظلمة الأمير المؤمنين أمرهم بالحضور جميعاً وأوقف ابن القبطي مع ابن الوالي في صف واحد أمام ابن الخطاب وقضى بضرب ابن الوالي، وقال كلمته المشهورة: ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراه.
فالرابط بين الحرية والعدل في حكمه أمر واضح وله أكثر من دلالة من ذلك أن الأمير الذي لا يحمي حقوق الناس، لا يحمي حرياتهم. ومن اعتدى على حقوق الآخرين فقد اعتدى على حرياتهم ومن ثمة فالعدل حام الحمى الحرية والأمير مسؤول على ضمان حرية الناس وحرياتهم وتأمين الاستقرار والأمن للحياة الكريمة لكل إنسان حتى يشتمل في ذلك كل الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. لأن صلاح الأمة الإسلامية مرهون باتباع الشرع نهجه وقيمه وأخلاقه وحدوده فالأمة لا تفضل النصيحة إلا بالتزامها المعروف الذي أمرت بفعله وتجنبها المنكر الذي نهيت عن فعله وتحقيق الإيمان بالله الذي يضفي عليها صبغة النصيحة الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أن القرآن الكريم يرقى بالأمة الإسلامية ويسمو بها الى اعلى مراتب الصلاح بفضل تركيزه على العدل والفضيلة والحريةو جميع مقتضيات التكريم للإنسان.
الصفحة 184
المفهوم السياسي للعدل
قال النبي : من ولى من أمور المسلمين شيئاً قولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله وقال عمر رضي الله عنه : من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة فقد خان الله ورسوله والمسلمين وبناء على ما تقدم فإن أمر الأمة الإسلامية لا بد أن يوكل به أقدرهم على المسؤولية والقيام بريادة الأمة في معترك التاريخ باعتبارها ذات رسالة شاملة والدين الكامل، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولن يقيم أمر الناس إلا امرؤ حصيف العقدة بعيد الغور لا يطلع الناس منه على غوره، ولا يخاف في الله لومة لائم، لأن من أهم وظائف الأمير الزام الناس حدود الله وإقامة العدل بينهم، لذا يجب أن يكون هو أحرص الناس على طاعة الله ورسوله لتقتدي به الرعية .
ولما كان رسول الله ﷺ هو النموذج الكامل للقيادة في الأمة كان أعدل الناس وأنفاهم وأكثرهم التزاماً بما أمر الله به والحكم به، وفي الصحيحين قال رسول الله ويحك فمن يعدل؟ حيت وخسرت إن لم أعدل .. ويقول القاضي عياض: وأما عدله وأمانته وصدق لهجته، فكان أمن الناس وأعدل الناس وأعف الناس وأصدقهم لهجة منذ كان(1) واقتداء به كان صحابته رضي الله عنهم أجمعين أكثرهم حرصاً على العدل حتى سمي عهدهم دين لاجتهادهم في الالتزام بحدود الشرع من كتاب وسنة واتباعهم في ذلك الأئمة وقضاة الملة وهذا ما جعل الفقه الإسلامي من أغنى الحنور الشرعية والتشريعية حدد فيه العدل على أبعد معانيه السياسية
الهوامش
(1) القاضي عياض الشافي، ج1، ص: 133
الصفحة 185
وأشملها، وقيدت على أساسه الحدود والحريات والمصالح وجميع المعاملات ومختلف العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. وعلى هذا الأساس يكون الحكم حكمين عادلاً أو جائراً ولا توسط بينهما فالحكم العادل هو الذي تكون فيه الحاكمية الله وحده لا شريك له، وأما الجائر فهو ما كانت الحاكمية لغير الله والدليل على عدل الأول أن الأمير لا يحول صلاحية الحكم المطلق بل هو ليس إلا خليفة لصاحب الحكم المطلق وهو الله، لأن قدرة الأمير مهما كانت سلطنه ومهما قوي سلطانه وانتشر حكمه وأحكم نظامه، فهو ذو نفوذ محدود، وكيف تحول صلاحية الحكم المطلق لصاحب النفوذ المحدود وهذا الدليل يثبت ضرورة إسناد الحكم المطلق لصاحب القدرة المطلقة وهو نفسه دليل على جور المدعي للحاكمية وهو لا يقدر على شيء منها أما الدليل الثاني فإن جار الحاكم والجور من الحكام ليس غريباً فإلى من يكون الاحتكام إذا لم تكن الحاكمية الله الواحد القهار.
إذ كيف يحكم على الحاكم الجائر بالجور وعلى الظالم بالظلم إذا لم تكن هناك سلطة ربانية فوق الجميع وإذا لم تكن هناك قوة عظمى يصغر أمامها كل جبار وتتضاءل أمامها كل قوة بشرية مهما كانت فإن العدل لا يضمن وهذا ما يضفي على المفهوم الإسلامي للقيادة والإمارة صبغة خلافة الله صاحب الحاكمية فالراعي أو الخليفة مقيد بطاعة الله ورسوله وهذا ما يجعل أمر القيام بمهام الأمة من سلطة، ومسؤوليات سياسية وإدارية وغيرها قائمة على أساس الأمانة والنصح ... قال رسول الله ﷺ : كل أمير لم يحط رعيته بالنصيحة لم يسرحرائحة الجنة، فأحفظ منهج لأصحاب الإمارة يقيهم شر الوقوع في الزيع والضلم والاستبداد طاعة الله ورسوله ولذلك تعلق أمر وجوب طاعتهم ورسوله فإذا عضوا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وبهذا يكون الخوف من الله أقوى دافع وأهم وازع يزع أهل الإمارة وقد توفرت لديهم القوة التي تخشى ولم تبق لهم مهابة من أحد غير الله. وهكذا كان الجانب التعبدي والدافع الإيماني أهم أغراض القائم بأمر الأمة فقد جعلهم النبي ﷺ يرتفعون يوم القيامة فيحملون على منابر من النور فقال : «المقسطون يوم القيامة على
الصفحة 187
منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين لا يفزعون إذا فرع الناس، فهذا هو فضل المقسطين أهل العدل أهل خوف الله سبحانه تبارك وتعالى فيقول این خلدون وإذا كانت السياسة مفروضة من الله يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنها كلها عث وباطل إذ غايتها الموت والفناء والله يقول: وَأَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَنا فالمقصود هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم (1) وهنا يعلم الأمير والإمام وكل من يوكل بأمر الأمة ورعايتها في جميع مستويات الحكومة والإدارة ومختلف المصالح، إنهم أولا وقبل كل شيء مسؤولون أمه الله ومهما يكن أمر الحكم والسلطة والمسؤولية من قوة صاحبها ، فلا ينسى إن كان عاقلاً أن ثمة قوة فوق قوته وإرادة فوق إرادته فلا بد من الخضوع لها وطاعتها ومراعاتها في تسيير أمر الناس: فإذن هو ليس بالحاكم بل ما هو إلا محكوم كغيره من المحكومين بقدرة الله سبحانه وتعالى فلا بدله من طاعة الله ورسوله ومراعاة ما أنزل الله والسير وفقه، حتى يفوز بجزائه يوم لا جزاء إلا جزاؤه فلا معنى لطلب الحكم والسلطة للسلطة في الإسلام بل من واجبات السرعية عدم طاعة الأمير في معصية الله ورسوله ويقول الخليفة الأول الرسول الله : أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدقت فقوموني هكذا تكون العلاقات على أساس العدل. بين الراعي والرعية وتكون طاعة الراعي مشروطة بطاعته الله والرسول فإذا حاد عنب يجد الأمة بأكملها تقف ضده ولا أحد يسانده على الباطل.
وإذا كانت الأمة ذات حق في مراقبة الحاكم باعتبارها مسؤولة عنه شرعاً وعليها نصحه ونقده (2) فإن حصل بينها وبين الحاكم تباين فما هو الحل؟ فإذا رجعنا إلى القوانين الوضعية فإنها بمقتضى جعل السيادة للأمة ترجع القضية للأغلبية الغالبة وما تستلزمه من صراع سياسي قد يصل أحياناً إلى الثورة أما
الهوامش
(1) ابن خلدون المقدمة ص 149.
(2)إن عمر بن الخطاب رضى الله وهو في مجمع قبل له اتق الله، قال: ولا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم تقبلها..
الصفحة 187
الشرع الإسلامي فيقضي أن يكون الحكم هو الله بما شرع وحدد من حدود وقوانين يخضع لها الجميع (1). ومن ثمة تكون السلطة التشريعية والقضائية في الأمة الإسلامية هي أعلى سلطة على الإطلاق، حيث يخضع إليها الراعي والرعية في وقت واحد، فهذه الأمة الحريصة على العمل بما أنزل الله لهي أحق أمة بنصرته ورحمته وعزته : وَاللَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَعْلَمُونَ المنافقون : (8). وما تمسكت هذه الأمة بتشريعاتها وحققت بها نظامها السياسي العادل القائم على الحاكمية الله ووجوب طاعته وطاعة رسوله لا ترهقها ذلة ولا تخزيها خية ولا تضيع منها مهابة ؛ وكلما حادث عن شريعتها يكون ضعفها على قدر مستوى بعدها من كتابها وسنة نبيها في الدارين: الدنيا والآخرة، ومن الأدلة على ذلك مفهوم العمل في الإسلام بفضل الأساس العقائدي والبعد التعبدي جعل مبرر العمل ليس مجرد وسيلة لكسب الحلال في هذه الدنيا، بل هو كذلك وسيلة لنيل الجزاء الأولى في الآخرة، وهو خير عند المؤمن. وهذا ما يشجع من جهة أخرى على بذل الجهد والإخلاص في العمل من أجل إجادته واعطائه ما يستحق من العناية والاتقان والجهد لأن الجهود الجبارة تعجز المكافأة مهما كانت باهظة الثمن عن أن تفي بالحق المقابل لها وهذا ما يجعل الجزاء الأوفى عند الله أهم من المقابل المحدود في الدنيا فربط العمل بالنية من حيث هو المبرر الأهم وللجزاء يجعل للشغل قيمة تعبدية وعملية تفوق القيم الأيديولوجية التي زعم أصحابها أنهم يقدمون على أساسها العمل وينصفون العامل كزعم الماركسيين والليبراليين على اختلاف مشاربها الاشتراكية والشيوعية والليبرالية. وهذا المفهوم الإسلامي للعمل مرتبط بمفهوم الإنسان في العدل.
غير ان الذي يهمنا في هذه الفقرة أن مفهوم العدل الاقتصادي الإسلامي
الهوامش
(1) يقول الله في محكم تنزيله: يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن لَنَتَزَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخر
الصفحة 188
فهو إذ يكتسي الطابع العقائدي التعبدي والشرعي، فضلا عن الطابع الاقتصادي والسياسي، وهو مرتبط بمفهوم الإنسان في الإسلام.
ولهذا يكون من الخطأ أن تحاول فهم الإسلام عن طريق الماركسية على اختلاف الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية أو الليبرالية، سواء أكانت بالمفهوم التقليدي أم العلمي لأنه إذا كان من البديهي رفض فهم الليبرالية عن طريق الماركسية فكيف يعقل أن يفهم الإسلام عن طريق مفاهيم أيديولوجية مخالفة جذرية، وأخيراً فالعدل في الإسلام قائم على أساس عقيدة التوحيد ولذا وجدنا بعده التعبدي في كل مجالاته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وذلك ما يضفي عليه صبغة العمق والشمول والاعتدال والتوسط مما يضمن الحياة الاجتماعية الكريمة الخالية من التعارض والصراع والقلق والخوف على النفس والدين والعقل والنسل والمال، فلا تعارض بين الحرية والتعاون والتكافل، إنه التشريع الكامل، صاحب العلم المطلق، والقدرة الكاملة قال تعالى في محكم تنزيله : وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَأَحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا حامل من الحَةَ لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة واحدة لكن ليبلو كمْ فِي مَا اتَنكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فيستلم بما هو فيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (المائدة : (48
فيمقتضى هذه الأسس العقائدية والشرعية والأخلاقية، تحققت للنموذج الإسلامي كل خصائص الصلاح، واجتمعت عنده كل أسباب النجاح؛ على أن توفير أسباب الصلاح واكتمال جميع المفاهيم العقائدية والشرعية والخلقية للعدل، كي تتحدد بمقتضاها القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، إن كانت ضرورة لتحقيق الحالة السوية للأمة الإسلامية فهي غير كافية إذا لم تتوفر لدى الأمة الشروط الوقائية من الفساد والظلم.
لأن المجتمع الصالح تهدده دائما المفاسد، ولذلك فهو كي يحافظ على حالة الصلاح الناشئة عن اتباع الشرع والعمل بالأخلاق الإسلامية فلا بد له
الصفحة 189
أيضا من الوقاية الذاتية والموضوعية التي تحميه من الآفات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والظلم من أخطر المنافذ التي يأتي عن طريقها الفساد بمعناها العام، والدليل على ذلك أنه ما ظهر في أمة إلا ووجد معه الفساد على اختلاف أشكاله ابتداء من الرشوة والبيروكراسية واحتكار المصالح العامة والخاصة لفئة دون سائر أفراد الأمة. ولذلك يتساوى الإسلام بين جميع الناس ويحرم الربا والاحتكار ويحقق ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما أسس لهما من مؤسسات شرعية كالنظام القضائي : فهي من أروع المؤسسات وأرقاها لم يعرف لها مثيل في الأمم القديمة والحديثة، وذهب الشارع الكريم إلى أبعد من ذلك، إذ جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات كل فرد في الأمة قال تعالى : ﴿وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأَوْلَتَيْكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (آل عمران: (104)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم.
فبهذه المسؤولية المشتركة يتكون عند الأمة الشعور بالمسؤولية نحو الحفاظ على صلاحها بدفع الأذى والشر والفساد، ويكون العدل من أهم العوامل التي تشجع المبادرات الأخلاقية والشرعية حتى لا تطغى مصلحة على أخرى، فلا الضعيف يستهان به حتى يطمع القوي في مصالحه ولا القوي يخشى على ما اكتسبه من المال الحلال وكسب وملكية، فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما جعل لهما من نظم كنظام الحسبة ضمن العدل، لأن هذه المؤسسات بفضلها تستطيع أن تراقب كل أجهزة الأمير نفسه فلا تعطل مظلمة ولا تستطيع أن تنفلت وتتسرب في المجتمع مفسدة، لأنه بمقتضى هذه الأسس تصبح الأمة مسؤولة أمام الله والحق على تفريط الأمراء والمسؤولين إذ من واجبها محاسبتهم ومراقبتهم وعدم الخوف منهم في أمر يهم المسلمين وما يتعلق بشؤون الدين والاقتصاد والاجتماع كالتربية والثقافة والسياسة. فإذا لاحظوا من أمير أو رئيس أو قاضي زيعاً عن الحق وبعداً عن الشرعة الزموه طاعة الله ؛ وحق لهم عزله إن تبين ظلمه واستبداده
الصفحة 190
وفساده، لأن ضمان العدل والحريات والمصالح والأمن والأمان كلها مسؤوليات مشتركة أنه لا حق لأحد أياً كان أن يعتدي على أحد من المسلمين أو غير المسلمين في ديار الإسلام
ومما جاء في خطاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه : .... الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي حتى أخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف حتى أخذ الحق منه إن شاء الله .
فبحكم التشارك والتعاون والتكامل من جهة وتصادم وتعارض المصالح من جهة أخرى في الحياة الاجتماعية لا بد من وازع يزع الناس ويجعلهم يقفون عند حدود حريتهم فلا تكون مصلحة القوي على حساب الضعيف ولا تتعارض مصلحة الضعيف مع مصلحة القوي فهم أمام الحكم وتكافؤ الفرص سواسية . فإن حدث تفوق فيعود ان ختلاف القدرات والخبرات ، لأن طبيعة الانتاج أو المردود كثيراً ما يتوقف على مستوى الجهد ونوعية الخبرة ومدة الجهد والناس في هذه الأمور مختلفون حسب اختلافها، وتختلف أيضاً الأجور والنتائج، وبهذا يخلو المجتمع الإسلامي من التناقضات التي تعج بها المجتمعات الأخرى حيث تكون ثروة الأغنياء على حسب الفقراء وهو ما يؤدي بالضرورة إلى التفاوت الطبقي المفضي إلى الصراع حتى وحتى المجتمع الشيوعي الذي وصل حسب زعم كارل ماركس درجة التسطيح التي تذوب فيها الطبقة الرأسمالية في الطبقة الشغيلة حتى في مثل هذه یرا ضارب أطنابه لأن الطبقة الشغيلة إذا سلبت المال والسلطة وكل شيء من الطبقة الرأسمالية فقد سلبت هي الأخرى كل شيء وحتى السلطة من ضيف الطبقة البيروقراضية وغيرها من طرق النفوذ، وسلطة النخبة هذا بالإضافة إلى خلق اخريات وحرمان الفرد والجماعة. أما الأمة الإسلامية فالعلاقة بين الغني والفقير فيها علاقة أخوة في الله يسودها العدل الرباني والفضيلة الأخلاقية التي ترتقي بالعلاقات الإنسانية إلى أرقى درجات الخير والفضيلة.
ولغلبة القيم الروحية والأخلاقية والشرعية على الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، أغلق باب الاحتكار وامتنع يمنع أسبابه، ومن أهم عوامل الطبقة
الصفحة 191
الاجتماعية بمعناها الاصطلاحي : احتكار مجموعة معينة لأسباب الثروة والسلطان دون سائر المجتمع، فهذا الباب في الأمة الإسلامية مغلق ولقد حذر منه الشارع، وما حذر الشارع من شيء إلا لحكمة قال تعالى: و كن لا يَكُونَ دُولَةٌ بَيْنَ الْأَغْنِبَاءِ مِنكُمْ وَمَا عَالَنَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: (7) حيث يستطيع العاقل أن يستنبط من شدة الوعيد الذي جاء في الآية الكريمة خطورة المنهي عنه فهذه الآية الكريمة تحذر من احتكار الثروة والمال بين جماعة وتشكل دائرة مغلقة للثروة في الأمة، وهذا ما ينشأ عنه بالضرورة التفاوت الطبقي المفضي إلى الصراع كما هو الشأن في المجتمعات الليبرالية وغيرها، تحتكر السلطة وتستخدم من أجل استغلال أكثر لصالح الطبقة أو الفئة الحاكمة.
ولذلك فإنه أجاز الشارع الحكيم للأفراد الملكية الخاصة فإنه منع أصحاب الملكية الخاصة وغيرهم احتكار مصادر الثروة العامة والتي هي من حقوق الأمة برمتها بما في ذلك الدولة والجدير بالذكر أن الإسلام إذ منع الاحتكار على الأفراد منعه أيضاً على الجماعات وحتى على الدولة ذاتها . إن الدولة في الإسلام لا يحق لها أن تستعمل سلطتها على الأمة فتحتكر التجارة والصناعة أو غيرها من طرق الكسب العامة، فإذا جازلها أن تتصرف في الموارد والأملاك العامة، فإن هذا التصرف لا يكون على حساب الحياة الاجتماعية والقضائية والاقتصادية والسياسية، بل لا بد من مراعاة العدل والتكافل الاجتماعي وتكافؤ الفرص وكل ما من شأنه أن يحفظ الأمة من الآفات الاجتماعية والثقافية السياسية.
الصفحة 192
العدل الاجتماعي
من الخصائص المميزة للأمة الإسلامية العدل الاجتماعي بمعناه الشامل والسبب في ذلك أمور منها: أن الأمة الإسلامية في حقيقة أمرها مرتبطة برسالتها في التاريخ، وهذا يعني أن وجودها لم يكن لذاته. بيد أنها عندما تنحط فيها مستويات الوعي وتفقد إدراكها للوظيفة التاريخية من حيث هي أمة الرسالة ففي هذه الحالة لا تفقد الحوافز لبذل أقصى الجهود المشتركة المعنوية والمادية فحسب، بل تفقد كذلك مبررات وجودها الأمر الذي يجعلها تتقهقر أمام أبسط العوائق والأحداث التي لا تخلو منها فترة من التاريخ .
لكن الشعور بالجهد المشترك مرتبط حتماً بالشعور بالحاجة إلى الفعالية المطلوبة للقيام بمهمة من المهام التاريخية الكبرى تحمل رسالة الهدى ودين الحق للناس، قصد إنقاذهم ما هم فيه من زيغ وضلال وظلم وجور واستعمار، أو بناء حضارة تزدهر فيها الحياة الغنية بالمقاصد النبيلة والأغراض الشريفة والمرامي البعيدة وكل ما من شأنه أن يسمو بالإنسان إلى مراتب الرقي وآفاق الحق والفضيلة، لأن الشعور بالتعاون مقرون حتماً بالشعور بالحاجة إليه.
إن الشعور بضرورة الدعوة إلى الله وعرض الرسالة التي بعث من أجلها ا ترتب عليها من متاعب ومشاق وجهود وجهاد، هو الذي دفع بالمؤمنين في كل من مكة والمدينة وفي طليعتهم الرسول ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم اجمعين إلى الالتحام والاتحاد والتكامل والتكافل إلى درجة كان فيها المسلمون جسداً واحداً تسودهم الأخوة في الله والمحبة والشفقة والرحمة مما جعلهم موضوع ثناء من الله إذ قال : وتُحمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاهُ عَلَى الكفار رحماء بينهم ) (الفتح : (39) فهذه الآية الكريمة تصف لنا العلاقات
الصفحة 193
المتبادلة التي كانت بين جميع أعضاء الأمة على اختلافهم بدءاً بالرسول إلى أي عضو من أعضاء الأمة الإسلامية في تلك الأيام الذهبية في حضرة صاحب الرسالة، صدق رسول الله ﷺ إذ قال: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم علاقة تسوها الرحمة واللين.
والحقيقة إن ما وصل إليه المسلمون في عهد الرسول ﷺ من انجام وتكامل وتكافؤ يعود إلى عدة عوامل منها: إن التوجيهات التي جاءت في القرآن الكريم والسنة، كلها كانت تقع على ضوء التعاون والتضامن قال تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَنِ﴾ (المائدة: (2) ويقول - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه - ومثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، رواه البخاري .
فما أبعد هذه الأمة عن الصراع والتباين الطبقي، لقد استطاع الإسلام أن يذيب جميع الفوارق والاعتبارات ووفر كل الشروط التي تحقق المساواة الفعلية حيث لا يشعر الفقير بأي خوف من الغني ما دام الغني قد حددت له كل الشروط التي تجعل الكسب حلالاً من ذلك أنها لا تكون على حساب الآخرين سواء أكانوا ضعفاء أم أقوياء. وحتى لا تكون دولة بين الأغنياء من المسلمين حرم الإسلام الاحتكار والربا والغش والسرقة، وكل ما من شأنه أن يجعل الكسب بطريقة غير شرعية، كما وفر أسباب الرزق وكفلها للجميع دون أي احتكار وعلى هذا الأساس شجع الملكية الخاصة والعامة وجعلهما في وضع متكامل تكامل المصلحة الخاصة والعامة فلكل منهما وظيفتها الأساسية في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وكما لا يخاف الغني على ماله لا يخاف أيضاً الفقير من الفقر، لأن التكافل الاجتماعي ضمن له الحياة الكريمة ضمن الجماعة فلا يعتدي غني على فقير بل لا يفضل غني على فقير لأن التفاضل في الأمة لا يكون إلا في ما يصلح به حالها أي التقوى قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَنْقَلَكُم لقد كان الغني يبذل ماله من اجل تحريرالعبيد كما فعل ذلك مرات عديدة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما
الصفحة 194
كان كفار قريش يعذبون كل من أحسوا به أنه قد آمن بسيدنا محمد ﷺ كما حدث ذلك لبلال بن رباح وغيره فحررهم أبو بكر بحر ماله. هذا ولقد بقيت حادثة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار مثلاً يضرب للتضامن والتكافل الاجتماعي فيذوب الفرد في الأمة الإسلامية وينعدم التباين والتناقض والصراع الطبقي. كل ذلك في الحقيقة مرده إلى التكافل الاجتماعي الذي جعل التوزيع العادل للثروة على قيم إسلامية عالية، بحيث لا يشوبها جور ولا احتكار ولا ظلم، لأن الكسب الحلال قائم على الجهود ونوعية الخبرة واحتمالات الخسارة والمخاطرة وشقة. أما ....
فقد حددت طرق توزيعه في ضوء الحدود الشرعية التي وضعت له هذا وجعلت بيت المال لتغطية مختلف الحاجات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الأمة. لقد كان الرسول ﷺ لا يصل وراء ميت قبل أن تسدد ديونه ولما صار المسلمين بيت الله صار النبي يسدد ديون من عاجلته المنون قبل أن يسدد ديونه. أم العجزة والفقراء والضعفاء على اختلاف حالاتهم، أمن هم الإسلام عن طريق الزكاة وطرق الإحسان ما يدون به حاجاتهم دون المس بكرامتهم .
وعلى الجملة أن المجتمع الإسلامي مجتمع قائم على التضامن والتعاون والتكامل لا يشوبه قلم ولا حيف ولا عين ولا احتكار، فحقوق الرعاية مكفولة وواجبات النفقة محددة وطرق البر فسيحة غنية في الأمة هكذا يؤمن الإسلام احية الكريمة في الأمة الخالية من التناقضات، وبذلك تحققت شروط سعادة الدارين الدنيا والآخرة، قال تعالى : فأما من طعى امن و اثر الْحَيَوةَ الدُّنيا لا فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (3) وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هي المأوى ) (النازعات : ۳۷ - ۳۸ - ۳۹ - 40 - 4١). فالآيات الكريمة إذ ان جزاء ظلمهم وطغيانهم؛ فهي تبشر أهل خوف الله وطاعته المتغلبين على أهوائهم والتزامها حدود الشرع بالجنة وسعادة الدارين ... وإذا توفرت شروط العدل انعدمت أسباب الظلم بالضرورة ، إلا إذا فرطت الأمة في شيء من أخلاقها وشريعتها، فعندئذ تقع في التناقص حتماً
الصفحة 195
والتناقضات التي تظهر في الأمة بمجرد تركها لكتاب الله وسنة رسوله يجعل الظلم والحيف وما ينشأ عنها من مفاسد أمراً لا مفر منه. وهذا ما ستحاول التعرض له في الفقرة القادمة بحول الله
الصفحة 196
.الظلم الاقتصادي والاجتماعي وموقف الإسلام منه
إن من استقرأ تاريخ الأمة الإسلامية وجد ظاهرة الظلم تأتي مقرونة دوماً يعهود يظهر فيها ولاة أمورها من طلاب الدنيا وأهل مفاتنها وزخرفها، وأن عهودهم هذه بمقتضى تأثيره في الرعية يغلب عليها التكالب والتنافس على المال والجاه والسلطان وكان أغلب همهم في ما يحقق رغباتهم ويشبع شهواتهم وقد يؤدي بهم طلب الدنيا إلى الأفراط فيطلبونها حتى على غير ما أحل الله فيقعون في الظلم وفي ظله تكثر المفاسد ويستخدم السلطان لتلبية داعي الأهواء فنزل عندئذ قده الولاة وحاشيتهم من بطانة السوء التي تحيط بهم وتنشط الشهوات فيود الضم أرجاء الدولة وبالظلم تتدهو أحوالها ويحرب العمران وينتشر الفساد وقد يؤدي ذلك الفساد إن طال به العهد إلى ذهاب الملك يقول عبد الرحمن بن خلدون: فإن الملك إذا كان قاهراً باطشا بالعقوبات منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا به بالكذب والمكر والخديعة فتخلفوا وقدت بصائرهم وأخلاقهم وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات تفسدت الحماية بفساد النيات ، وربما أجمعوا على قتله لذلك فسدت الدولة وتخرب ج وإن دام أمره عليهم فسدت العصبية 1)) فالارتباط بين الظلم والفساد بين في كل الشواهد والأدلة ، فليس هناك ما هو أخطر على الدولة والعمران من ضم السلطان وفساد المجتمع، وإذا كان الظلم يفضي بالدولية والعمران إلى الفساد والضياع فإن العدل هو خير واق من هذه الظواهر وأقوى حامي الحمى
الهوامش
(1)عبد الرحمان ابن خلدون المقدمة المصدر السابق، ص: 149
الصفحة 197
الشرع والدولة، ولذلك تجد الشارع لا يسمح بالظلم والاعتداء ولو على حرمة نفس واحدة واعتبر الاعتداء على نفس واحدة اعتداء على الأمة كلها وجعل الإفساد في حكم القتل فقال تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعا) (المائدة : (33
فالعدل حق الجميع الناس على السواء في الأمة، فإن من واجبات الأمير والدولة والأمة حماية كل الناس من الظلم كما يجب على كل فرد في المجتمع حماية الأمة من الفساد ويعتبر المفسد مجرماً فلا بد من تطبيق الحد عليه كائناً من كان ولو هو الأمير ذاته، وإذا كان من مقتضيات العدل أن يسهر الأمير على مصالحالرعية، فإن من أخطر حالات الظلم ونتائجه عدم ضمان حريات الناس الضرورية التي كفلها الإسلام للناس جميعاً فمن الظلم خوف الناس على الدين والنفس والعقل والنسل والمال وهنا تكون وجوه الظلم كثيرة بكثرة وجوه العدل لأنها نقائصه .
يقول ابن خلدون معرفاً بالظلم ولا تحسين الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك وكل من أخذ ملك أحد أغصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه، فجاة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كلها عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله. واعلم أن هذه الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم هو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهو الحكمة العامة المراعاة الشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة: من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال (1). فالمس بهذه الجوانب ظلم على أوسع معانيه واختلاف أشكاله وأعظم البلايا أن تظلم الأمة في دينها الذي
الهوامش
(1)من خلدون المقدمة، ص: 227
الصفحة 198
به عصمة أمرها فكل عدوان أو اعتداء على الدين ظلم والسكوت عنه أكثر منه ومن يعود إلى تاريخ هذه الأمة الكريمة يجدها من أسخى الأمم في التضحية عندما تشعر بالخوف على دينها ولا تكون مبالغين عندما نقول إن التاريخ لم يشهد لأمة قدمت الشهداء من أجل دينها كالأمة الإسلامية لأنها تعلم أنه لا بقاء بها بعد ذهابه وهي إذ تعتبر الدين أول الضروريات تجدها تحترم أهل الذمة وتنصفهم وتعدل معهم ومن مقتضيات عدلها احترامها لدينهم وإن كان مخالفاً لدينها، وكذلك حماية الأنفس وتكريمها والحفاظ عليها عد من الحقوق الضرورية التي لا بد من توفيرها لأن الذي لا يشعر بالأمن على نفسه لا تستقر له نفس ولا برتاح له بال فلا يقبل على كسب ولا يشعر بضرورة بذل الجهد إلا من أجل حماية نفسه مما يجابهه من الأخطار، فالأمن والأمان من شروط الحضارة فإذا انعدما أنعدمت واستحال وجودها بالضرورة، وفقدان الأمان على النسل والمال كالخوف على الدين والنفس لأن كل هذه من ضروريات البقاء فمن الظلم عدم ضمانها وعدم توفرها لكل الناس مهما كان شأنهم فالظلم عدو للإرادة الحرة فالذي لا حرية له لا إرادة له ومن لا إرادة له لا رغبة له في الحياة، ومن ثم يفقد هذا الشعور إلى الحاجة إلى بذل الجهد من أجل الكسب وازدهار العمران بل كثيراً ما تتكون عنده النزعة الانتقامية من الناس والحضارة ذاتها ويصبح عنصراً مخرباً مفسدا
يقول ابن خلدون واعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بأماهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه عندئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت أمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيراً وعاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود على الكسب كذلك بذهابه بالأمال جملة (1)
وهكذا يربط ابن خلدون بين مستوى الظلم وما ترتب عليه من نهب
الهوامش
(1) ابن خلدون المقدمة، مصر، ص: 227
الصفحة 199
السلطان الأموال الرعية وما ينجم عنه من انقباض الناس عن الكسب ما دام الكسب لا يخولهم الانتفاع بمالهم الذي نالوه بكد جهودهم وعرق جبينهم وهذه القاعدة الاقتصادية من أخطر الشروط الاقتصادية والعمرانية حتى الآن، فعدم مراعاتها يترتب عليه أثارة سيئة على مستوى الدولة والحضارة بصفة عامة فعدم ضمان حقوق الناس يذهب برغبتهم واستعدادهم لأداء الواجبات بالضرورة والعدل بهذا المعنى هو الوازع الشرعي الذي يزع السلطان أو الأمير عن الاعتداء على أموال الناس وأملاكهم المشروعة لأن الكسب مرتبط بالجهد والجهد مرتبط بما ينتج عنه من مصالح وفوائد فإذا انعدمت غاياته ضعفت دوافعه وقل الجهد وضعف المردود بالضرورة في نوعه وكمه، أن المجتمع الذي لا تضمن فيه الحريات الضرورية تضعف فيه الهمم بل تقعد عن الكسب وتقل المواد الاستهلاكية الضرورية وتضطرب أحوال العمران وقد يكون سبباً في سقوط الدولة وهكذا يصبح العدل كما هو حق للأفراد والجماعة هو حاجة ضرورية لإقامة العمران وازدهار الحضارة وقيام الدولة، هذا وأن الجهود المنتجة في الغالب لا تكون إلا في ظل الحكم العادل ولذلك يحرص الإسلام على العدل حتى تكفل الحقوق وتضمن الواجبات فلا تضيع بضياع الجهود فيقرر إعطاء الجهود حقها وحرم بخس الناس أشياءهم وعد عملية البخس من الفساد فقال تعالى : ( ويقوم أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَ هُمْ وَلَا تَعْثَوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين) (هود: (85) ومن مقتضيات العدل أن تكون المعاملة قائمة على المصلحة المتبادلة القائمة على اعتبار القيم الثابتة للجهد وما تنشأ عنه من مكتبات لأن قيمة الشيء في ما استلزمته من جهود وما ينجم عنها من مخاطر ومتاعب مما يتطلب الخبرة والمهارة والإتقان والشغل أو العمر يعتبر من أهم الجوانب التي تراعي في تحديد قيم الأشياء. لذلك جعل الشارع من مقتضيات العدل اعطاء الأجير حقه وفي وقته يقول الرسول : اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرفه، وهذا الحديث إذ يقرر حق العامل يضع أيضاً الميزان الذي لا يترك عملية تبادل المصالح تجور فيصير صاحب العمل يغني على حساب الأجير ويقع الحيف والشطط فتتألف طبقة محظوظة على حساب طبقة محرومة، حقوق العمال كما ضمن مصلحة صاحب العمل. وحتى لا
الصفحة 200
يحدث الأجحاف حيث يستغل الجهد الجماعي ثم تحوله إلى فائدة فردية وعين الإسلام وظائف الملكية وحدودها وفرض الزكاة وفتح أبواب الإحسان إلى غير ذلك من حقوق الجماعة في الجهد الجماعي. فلا ضرر ولا ضرار
وبهذه المعايير لا يوجد أي مجال لاستغلال الإنسان للإنسان واحتكار حظ في الدولة أو في احياة الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية والسياسية وهذا السبب حرم الإسلام الاحتكار على اختلاف أنواعه وحرم الربا، والسبب في ذلك أن الإسلام إذ ضمن الخريات وشجع روح المبادرة في كل مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية جعل هذه الحريات حدوداً حتى لا يطغى بعضها على بعض ولا تتعارض مما جعل حرية كل واحد تنتهي حيثما تبتدي حرية الآخرين وحتى لا تكون حرية على حساب حريات أخرى، فإن الحرية مرتبطة بالإرادة وإذا كانت الإرادة مرتبطة بالقدرة وكانت القدرة محدودة، فإن الحرية أيضا يجب أن تكون محدودة وفي هذا لا يكون التعارض ولا التناقض بين الحريات اطلاقاً.
والحقيقة أن المفاهيم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية للعدل دئمة على أساس مفهوم الأمة ككل ومفهوم الإنسان، ومن مقتضيات مفهوم أمة لإسلام التكريم حيث ترتفع القيم الإنسانية وترتقي إلى مراتب عالية تتجاوز الأبعاد المادية إلى الأفاق التعبدية حيث لا يفضل إنسان على إنسان بماله كما هو الشأن عند الكثير من المجتمعات، بل المال والجاه والسلطان أمور كلها لا تعني شيد إذا لم يكن المرء تقياً ويتقوى الله يتصرف فيها حسب مرضانه فلا تكون موضوع احتكار الجماعة دون أخرى أو طبقة.
ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الشارع تحريم الاحتكار في الأمة فإن من أهم وظائف العدل ضمان كرامة الإنسان
والحقيقة أن هذه المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعدل في الإسلام قائمة كلها لتضمن الحياة الكريمة لكل أفراد الأمة الإسلامية. لأن مجتمع التعاون والتكافؤ والتكامل وضعت حدوده وقيمه ومصالحه على هذه الأسس، كي تؤدي في النهاية وظيفتها الأساسية لتكون نظاماً عادلاً خير أمة أخرجت للناس، فمما أثنى به الله على المؤمنين أن في ما هم حقاً للمسائل والمحروم
الصفحة 201
قال تعالى : ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّابِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (الذاريات: (19)، وصار من وظائف العدل ضمان كرامة الناس جميعاً لأنه جعل ليحقق بالتعاون والتكامل والتكافل ضمان حقوق الضعفاء والفقراء والمحرومين ... فكل هؤلاء يعيشون على قدرهم، لكنها حياة عزيزة شريفة ليس فيها عين ولا ضيم ولا حيف ولا شطط فالكتب وما ترتب عليه من مال عن طريق الجهد والانتاج لا يطلب لذاته وإنما يطلب ليؤدي وظيفته في الأمة، إذ المراد به في النهاية التقرب إلى الله وهو ما يكسبه حسن توظيفه وجودة استغلاله وانفاقه في سبيله .
فالمال عند المؤمن لا يراد به غير وجه الله؛ فكان المسلمون بهونه لتجهيز الجيش وتحرير العبيد وبناء الجوامع والمستشفيات والخدمات العمومية، لتبقى صدقة جارية تلحقهم بعد مماتهم، لأن الإنسان منقطع عمله إلا من ثلاث : قال الرسول ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث (رواه مسلم). وذكر منها صدقة جارية، ومن المعاني والمفاهيم الإقتصادية الإسلامية العقائدية أن صاحب المال مستخلف فيه فهو مسؤول عن حفظه وحسن توظيفه واستثماره، قال تعالى: ﴿وَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ تُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَيْرٌ ) ( الحديد: (7) في هذه الآية الكريمة يأمر الله المؤمنين أن يؤمنوا بالله وبالرسول وينفقوا في سبيله؛ فالمال في عقيدة المسلم ليس ملكاً له بالأصالة وإنما مستخلف فيه وفق شرع الله .
ولئن كان الإنسان لينال المال لا بد له من السعي لكسبه بطرق الحلال، فالسعي لا يخلو من الجهد المبرر لكسبه على أن هذا المبرر لا يتعدى عالم الأسباب المسخر من الله صاحب القدرة المطلقة، فإن الأسباب بحكم نسبيتها وعدم ضمانها للنتائج غير كافية، بدليل أنها تصح وتبطل وتنتج وتضيع فهي من حيث قبولها للحالتين في السلب والعطاء هي بحكم ذلك خاضعة الله خضوع الضرورة، لا خضوع السبب، ومن ثمة فالسلب والعطاء الله صاحب القدرة المطلقة، فإذا سعي الإنسان لكسب المال، فلأن السعي واجب بمقتضى الشرع والعدالة وليس أبداً بمقتضى الضرورة ...
فما يناله المسلم نتيجة سعيه فهو جزاء، ولكنه عطاء من الله ومنه،
الصفحة 202
ولذلك وجب الحمد والمنة الله على فضله وإحسانه، ومن مقتضيات الحمد للنعمة، حسن التصرف في المال وجودة توظيف أرزاقه التي رزقه الله بها كان المال ماله واستحق جدارة الاستخلاف فيه والتصرف فيه بطرق الحلال التي بينها الشرع، وينال به صاحبه الدنيا والآخرة، أما إذا ضيعه وأهمله ولم يقد به نفسه وغيره على قدر ما أمكنه ذلك من طرق الاستفادة من المال والمكاسب : فهو يسأل
عنه يوم القيامة
وروى مسلم عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يقول: إلهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو ليست فأبليت؟ أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس(1 )بين الحديث قيمة المال وما يمكن أن يستخدم فيه ، فالانتاج الصالح القائم على النية التي تجعله خالصاً لوجه الله يصبحمردوده في العاجلة أجراً زهيداً إذا ما قورد بثواب الله في الدار الآخرة وهنا لا تبقى المصالح في حدود العادات الضيفة بل تتعداها إلى أبعاد تعبدية راقية .
ومن أخطر حالات الظلم ذلك الظلم الذي يمس بحرية العقل، والعقل هو القدرة التي ميز بها الله فعالية الإنسان كي يتفوق على ما خلق الله من حيوان وضيعة، ومن أهم وظائف العقل التعلم واكتساب الخبرات والتفكير وما ينشأ عنه من علوم ومعارف، فنستنتج أن الظلم العقلي هو ظلم نفسي واجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي وحضاري، فمن حرم التعلم فقد كل الفعاليات التي من شأنها أن تجعله يشارك في كل مجالات الحضارة ومسؤوليته نحو الرسالة ؛ فالأمية ما هي إلا مظهر من مظاهر الظلم الذي حرمه الإسلام وحاربه بكل الطرق والوسائل، من ذلك جعل التعليم واجباً على كل من المجتمع والفرد، وخطورة هذا الواجب الأمر الأول الذي بدأ فيه الوحي في قوله تعالى : ( أَقْرَأْ بِأَسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خلق الْإِنسَانَ مِنْ عَلَي أقرأ وربك الأكرم ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَى الْإِنسَانَ مَا م يعلم ) وتفسير هذه الآية أن إكرام الله للإنسان ليس فقط بالإيجاد والخلق، بل
الهوامش
(1) أخرجه مسلم والإمام أحمد.
الصفحة 203
كذلك بالقدرة على التعلم التي تميز بها الإنسان دون غيره من الموجودات. وإذا كان بدء الوحي هو بدء الرسالة وبدء الرسالة هو بده لوجود أمة محمد بن عبد الله فإن ميلادها اقترن بوجوب التعليم اقتران العضو بالوظيفة وهذا يعني من جملة ما يعني أن هذه الرسالة لا تستطيع أن تحملها أمة جاهلة فاقدة لأعظم الفعاليات وهي فعالية التفكير والعلم والمعرفة.
أما حالات الظلم الأخرى المتعلقة بالعقل فتتجلى في عدم كفالة حرية أعمال العقل. وهو ما يسمى بلغة العصر وحرية التعبير سواء على مستوى التعليم أو الحياة الثقافية العامة .
فبالنسبة إلى التعليم فلا يجوز منع التلميذ من إعمال عقله في السؤال والمناقشة وإبداء الرأي، وأما بالنسبة إلى الجهد الفكري الثقافي فيتمثل في منع المفكر من إبداء آرائه وإعمال عقله في المعقولات وشؤون العمران من علوم و معارف وقنون وخبرات سواء.
الصفحة 204
موقف الإسلام من الرق الجماعي والاستيلاب
إن من أهم مبررات وجود الدولة قديماً وحديثاً ، حاجة الناس إلى مؤسسة شرعية تضمن هم كرامتهم وتحفظ مصالحهم وحرياتهم وتسمو بهم إلى أرقى ضروب علاقات التكافل والتكامل والتعاون وتحسن التنسيق وتحكم التخطيط من أجل تشييد عمراني وبناء حضاري، وكل ما من شأنه يحقق الحياة الكريمة السعيد.
فالدولة التي لا تستطيع أن تؤمن لمواطنيها حرياتهم وحقوقهم في حياة كريمة . يسودها الرخاء والاحترام والأخوة والرحمة والاستقرار النفسي والاجتماعي ؛ دولة لا مبرر لوجودها بالمرة. لعل أغلب النظريات السياسية لنظم الحكم الحديثة على اختلافها، قامت أول ما قامت الضمان العدل والحرية لكل الأفراد ولكن ما ليث أن انحرفت وصارت بعيدة عن العدل والحرية الحقة، وحتى الماركسية التي ما قامت إلا على أساس الثورة على الظلم الرأسمان وانقاذ الطبقة الشغيلة المحرومة ولكن ما أن تحققت الدولة الشيوعية البلشفية، حتى ضيقت الحريات إلى درجات الاختناق وصار الإنسان أحط القيم وأبخسها في المجتمع الشيوعي، وهذا الاستيلاب السياسي الذي حدث لكل من النظم الليبرالية والاشتراكية والشيوعية لأكبر حجة على خيبة الأيديولوجيات التي أقيمت هذه النظم على أساسها ويعني من جملة ما يعني هذا الاستيلاب أن الدولة التي جعلت الصيانة الحريات وضمان الحياة الكريمة للإنسان صارت بنظامها البوليسي الرهيب خطراً على المواطن وعلى حريته وكرامته وعلى شرفه ، فمن الذي يجهل اليوم خطورة لعبة الكاجبي والسيجا وغيرهما من أشكال النظم البوليسية في العالم، أين حقوق الإنسان حتى عند تلك النظم التي تعد نفسها أكثر النظم السياسية اعتدالاً
الصفحة 205
واعترافاً بحقوق الإنسان تجلى ذلك في عدم ضمان شروط التكوين والتعليم في مختلف المستويات والخبرات والفنون والتقنيات أم في أعمال الرأي والتعبير عن الذات بكل ما لهذه من دلائل فالإسلام منح حرية العقل وجعلها من الضروريات باعتبارها أهم فعالية من فعالية الإنسان، لولاها ما عاش مكرماً ولا استطاع أن يشد حضارة، وأن يكون تاريخاً إن فاقد حرية العقل محروم من المشاركة في كنوز الثقافة والحضارة بحكم هامشيته أنه يعيش خارج التاريخ والأمة المتكونة من هذا الصنف من الناس الهامشيين هي أمة هامشية بالضرورة .
فالذي يعود إلى القرآن الكريم يجد أن الإسلام يشيد بالعقل والعقلاء والعلم والعلماء، إلى درجة لم يجاريه فيها دين ولا فلسفة ولا نظام حياة على الإطلاق، ولذلك أعتبره من الضروريات الخمس التي لا يقوم للإنسان قائمة بدونها ولا يزدهر عمران بغيرها ولا ترقى حضارة إلا بها.
لقد صارت فيها قيمة الإنسان لا تساوي الآلة التي ما صنعت إلا الخدمته، والسبب في ذلك أن قيمة كل شيء عندهم هي حسب مردوده ولو كان هو الإنسان، وإذا كانت الآلة أكثر مردوداً من الإنسان صارت هي أهم عند أصحابها من الإنسان ذاته الذي هو في نظرهم مجرد أداة بدائية في عصر التكنولوجية، وهكذا يحدث الاستيلاب في العصر الحديث في شكل تحول جهاز الحكم وأداة العمل من حال إلى نقيضه، فبعد ما كانت في خدمة الإنسان صارت تسترقه وتستعبده بل تقهره وتجرده من قيمه، وصار هو في خدمتها ورهن إشارتها طوعاً أو كرهاً، ثم ازداد مفهوم الاستيلاب عمقاً في تطور الرق والمفهوم الإمبريالي الحديث.
فإذا كان الرق في القديم لا يتعدى استعباد أفراد واسترقاقهم، فقد صار اليوم استرقاقاً للشعوب واستغلالاً لها ولتروتها، وصارت المدنية بعدما كانت تعني التعاون والأمن والأمان والتكامل وتكريم الإنسان، صارت تعني التفوق المفضي حتماً إلى استغلال أكثر الثروات المغلوبين - المتخلفين - وأمسى مبدأ حقوق الإنسان الذي تمجده الأمم المتحدة مجرد شعار لأكبر الدول شراسة وجشعاً وامتصاصاً لدماء الأبرياء والضعفاء في العالم الحديث.
الصفحة 206
والأخطر من ذلك أنه من أبعاد الاستيلاب؛ تبرير الجشع الإمبريالي الاستعباد الشعوب والأمم بالتفوق التكنولوجي وتطور الأسلحة وسائر وسائل التحكم في الشعوب وتسخير النظم السياسية في أغلب الأقطار والأمصار الضعيفة، للمزيد من التحكم فيهم والسيطرة عليهم واسترقاقهم بدافع الإستيلاب الأمر الذي أدى إلى حرمان الملايين من حرياتهم الضرورية واستعبادهم عن طريق كسب لقمة العيش، وصار الشغل الذي كان من أهم وسائل استقلالية الشخصية وحرية التعبير عن الذات صار وسيلة عبودية ومبرر استرقاق، وذلك أن الدولة صارت تتحكم في كل نشاط اقتصادي وثقافي وسياسي، فاحتكرت الصناعة والتجارة وحتى الفلاحة فضاق الخناق بالمواطن وسدت أمامه كل أبواب الحرية وحالت دون إقدامه على كل مبادرة مبدعة ومحاولة حرة ليؤمن قوته وعيشه بطريقة نظامية. كل ذلك لتقييده وإذلاله ولقد تحولت الدولة بعدما استحدثت الخدمة الإنسان إلى جبار عنيد سلبته حريته وجردته من كرامته وقيدت إرادته وسلبت قيمه، ثم حاولت ماكرة القضاء على وعبه، ليتم هذا الاستيلاب بمعناه الشامل.
أما موقف الإسلام من الاستيلاب والسرق بالمعنى الذي مر ذكره فهو موقف المقاوم لهما، أنها من قبيل الظلم، والإسلام والظلم خصمان لا يلتقيان بالمرة قال تعالى : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: (83) . فإذا كان الإسلام ثورة على الرق بمعناه البسيط عندما كان يعني استرقاق الأفراد فكيف لا يكون ثورة على الرق الذي بات خطراً عن النوع البشري برمته، أما موقفه من الإستيلاب فهو بين أن الإسلام جاء لتكريم الإنسان وجاء الاستيلاب السلبيه تلك الكرامة والقضاء المبرم على القيم الإنسانية الإسلامية، ولذلك فهو ثورة على الظلم وكل منا من شأنه يعمل على إهانة الإنسان والضرر به بأي حال من الأحوال.
أما مفهوم هذه الثورة الإسلامية على الإستيلاب والرق بالمعنى الحديث فهو موقف المغير الذي يحقق للإنسان التخلص من الإستيلاب والقضاء على أهم العوامل التي ساعدت على ظهوره في المجتمع الحديث، وأن الإسلام في الحقيقة
الصفحة 207
يتضمن أنجح الحلول لكبريات القضايا ذات العلاقة بظهور الإستيلاب والرق الفردي والجماعي والجدير بالذكر أن الحلول الإسلامية وهي في حقيقتها حلول جذرية تنطلق من تغير الإنسان بدءاً بأعماقه فإلى المحيط الاجتماعي وغيره ويتميز هذا الحل بالشمول والاعتدال والبساطة والواقعية البشرية الفطرية، وذلك بما للإسلام من قدرة على التعايش النفسي والاجتماعي، والدليل على ذلك أن نظم الإستيلاب - الرق على اختلاف أشكالها وأنماطها - شيوعية كانت أم ليبرالية، لا تخلوا من مشكلات مستعصية الحل، وقف أصحابها موقف المستسلم أو المتفرج بعد ما خانتهم الحيل وضاع منهم الأمل في حلها أو تجاوزها .
فالليبراليون لا ينكرون أن مجتمعهم صار مجتمع الاستهلاك الذي لا يستطيع أن يتراجع إلى الخلف ويعود إلى التقشف بعدما تعود البذخ والترف والتبذير، على أنهم يعتقدون أنه إذا كان لا يمكن التحكم في الحاجات المتزايدة بحكم الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية بطريقة مباشرة، يمكن التحكم فيها بطرق أخرى غير مباشرة من ذلك يرون أن التفاوت الموجود بين النمو الديمغرافي والنمو الاقتصادي المفضى إلى الأزمة، حله الوحيد الذي بدا لهم حتى الآن لتحقيق التوازن بين العاملين المتناقضين النمو الديمغرافي والنمو الاقتصادي ، هو تحديد النسل. فمنذ أن نادي توماس ملتس 1798 في كتابه محاولة المبدأ السكاني أقبلت أوروبا على اختلاف نظمها على تحديد النسل لتفادي الأزمة على أن هذه الطريقة فضلا على عدم إنسانيتها وفظاعتها، فقد نجمت عنها عواقب جعلت معظم شعوب أوروبا اليوم تعاني من التقلص الديمغرافي بشكل بدء يهددها بالانقراض، فمحاولة العمل بالحل المالتوسي قد باتت من قبيل الانتحار، لما نجم عنه من عواقب وخيمة على الصعيد الاجتماعي.
أما الإسلام فيرى أن عملية تحديد النسل ظلم في حق النوع البشري لا مبرر له لعدة أسباب، من ذلك أن الرزق كالحياة ليس بيد المخلوق وإرادته بل هو في قبضة الخالق وخاضع لقدرته قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رزقها) ( هود: 6 (فعندما يولد الإنسان يولد مزوداً ليس بقم وبطن فقط، بل زوده خالقه بقدرات عقلية وفعاليات قد لا تتوقف عند حد قدرته العضلية
الصفحة 208
بل تتعداها إلى استخدام القوى الطبيعية التي كثيراً ما ساعده الله على اكتشافها واستعمالها لاستثمار أجود الثروات الطبيعية التي لا حصر لها.
فالمشكلة حسب التصور الإسلامي إذن ليست في المحيط الطبيعي كما يراه ملتس وغيره بل تكمن في الإنسان ذاته ومدى نمو فعاليته وتهذيبه النفسي وقوة إرادته. فالكون وما فيه من أسرار وإمكانات تتسع باتساع عقل الإنسان وتضيق بضيقه فالإسلام إذن يتصور المشكل في الإنسان ذاته بدءا من تغير الإنسان نفسه كي يكون في مستوى تغيير العالم يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيْرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: (11). أما ماركس وأتباعه فيرون أن المشكلة تكمن في حيف الرأسمالية وما نشأ عنها من ظلم، وأما حلها فلن يكون إلا عن طريق الصراع الطبقي الذي ماله الحتمي هو التسطيح وتحقيق الشيوعية عن طريق الإشتراكية حيث يتم الغلب للطبقة الشغيلة. ولكن وقد تحققت الاشتراكية، والشيوعية بطريق أو بآخر وقد حدث الإستيلاب كما بينا فكيف يكون الحل ؟ أو بتعبير آخر، كيف تكون الثورة على الثورة؟ فما هو البديل الذي يكون ويجب أن يكون في مستوى القضاء على ما ظهر من تناقضات في المجتمع الإشتراكي والشيوعي فبطبيعة الحال لا يكون الحل الماركسي هو البديل المطلوب بمجرد ظهور الإستيلاب في المجتمع الماركسي بات هذا الأخير في حكم الأشكال وئيس في حكم الحل.
أم الإسلام فيما يزال أقدر على الحل الجدري الشامل ويقدم تبديل الكامل الذي هو الثورة الإسلامية على الثورة الماركسية وغيرها التي آلت إلى الإستيلاب ففي الوقت الذي يرى فيه كارل ماركس وأتباعه أن الحل أو الطريق إلى الحل هو الصراع، وما الصراع في الواقع إلا بعد من أبعاد التفاوت الطبقي، وبالتالي فهو جزء من المشكل فكيف إذن يكون هو الحل؟ ولذلك نجد الموقف الإسلامي هنا أسلم منطقياً ومنهجياً بحيث يتصور الحل في إزالة العوامل الأساسية التي ساهمت في وجود المشكل من البداية، بينما وقفت محاولة الحال الماركسي عند حد الصراع وهو في الحقيقة ناشيء عن التفاوت الاجتماعي الاقتصادي الطبقي الذي نجم عن عدم عدالة توزيع الثروة والقول
الصفحة 209
بالملكية المطلقة التي سبق الحديث عنها، وهو ما يجعل أيضاً الوضع الليبرالي في وضع إشكالي : والدليل على ذلك وجود التناقضات التي أدت إلى التفاوت في الصراع، ولذا نجد الإسلام يبدأ من العدل الرباني القاضي بإعادة الأمور إلى نصابها، ابتداء من إصلاح القيم على أساس العقيدة وما ترتب عليها من أخلاق ومفاهيم، ليعيد للإنسان اعتباره ويجعله هو حجر الزاوية في حال الأشكال والحل في آن واحد.
إن نموذج الإنسان في القرآن الكريم والسنة ومفهوم الأمة ما تفرع عنها من قيم ونظم اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، يميزها الاعتدال والعدل والتكافل والتعامل والتعاون في ظل الأخوة في الله، والحياة السعيدة في مرضاة الله وطاعته وطاعة رسول الله ، والطمع في رضى الله لنيل سعادة الآخرة، فأول الحقوق التي يجب توفيرها للإنسان هو حقه في الوجود والمجتمع الذي لا يوفر لأفراده حق الوجود، حكم على نفسه بعدم الحق في الاستمرار والديمومة أما الرزق وأسباب كسبه فتلك قضية يعالجها الإسلام من طريق آخر، هو إقرار العدل بكل أبعاده بدءاً بإقرار حق الرعاية والتكوين والتربية والتعليم، وكل ما من شأنه ينتمي فعالية الإنسان وسائر الإمكانيات البشرية والطبيعية لبناء العمران في نطاقة التاريخي والجغرافي الذي نشأ فيه أو بتعبير آخر، إن نظرة الإسلام إلى المشكلة، نظرة مغايرة تماماً لنظرة أهل مجتمع الاستهلاك، ولئن كان أولئك ينصورون المشكلة من حيث تتعلق بالشروط الموضوعية البيئية الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ابتداء، فإن الإسلام يتصور المشكلة من حيث هي كامنة في الأعماق النفسية؟.
وبمعنى آخر هي تتعلق بالإنسان ذاته، تصوره ونظرته لنفسه ولما حوله وعلاقته بربه وإخوانه البشر والطبيعة، هذا وأن علاقته بالطبيعة وبالآخرين تبدأ من ظروفه الذاتية النفسية. فإذا كان مفكرو مجتمع الاستهلاك ينظرون إلى أن الإنسان ابن بيئته، أو بتعبير آخر هو انعكاس للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجغرافية بمعناها الواسع، فإن هذه النظرة حسب التصور الإسلامي نظرة ممعنة في السلبية لأنها سلبت الإنسان إرادته فجعلته ظلا أو امتداد للوضع
الصفحة 210
المحيطي على اختلاف أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أما التصور الإسلامي فيقوم على أساس أن الحياة الباطنية الشعورية أو النفسية بمعناها الكامل، هي الأساس وأن عملية التكيف تكمن في التصور الإسلامي أنها ليست عملية خضوع للمحيط، بل هي عملية قائمة على الجهد الذاتي الذي يبذله الطفل ليحقق تكييفه ثم سرعان ما يظهر في شكل تغير بيئي حضاري يعود إلى قدرة الإنسان على استغلال الإمكانات الذاتية والموضوعية من أجل تحقيق تكيف أرقى وأفضل .
ومن ثمة اعتبر التصور الإسلامي ثورة على التصور الاستهلاكي لأنه يتصور المشكلة من حيث تبدأ بضرورة إعادة الاعتبار إلى الإنسان، فإذا لم يتغير الإنسان بدءاً بمفاهيمه وتصوراته ونمو ذاته ووعيه لا ينفع أي تغيير محيطي، فإذا أردنا أن تغير المحيطات فلا بد من التغير الباطني، أو ما في الأعماق البشرية من أسرار وخبرات شعورية، لأن السلوك مرتبط بالتصور، والتصور مرتبط هو الآخر بالتفكير، والتفكير بدوره مرتبط بالاعتقاد فإن انحراف الاعتقاد يترتب عليه انحراف في الباقي وهنا تطرح من جديد قضية البديل الإسلامي من حيث هو قائم على الدعائم التالية :
أ - العقيدة.
ب - العبادة.
ج الشريعة .
د الأخلاق.
فإذا صحت العقيدة صحت العبادة وصحت الشريعة وسلمت الأخلاق وبهذه الشروط الذاتية يتم التغير الواعي الغائي، وعن طريقه مباشرة تتغير الأوضاع الموضوعية البيئية على اختلافها في أيسر وقت وأبسط حال، لأن الشروط النفسية والموضوعية صارت على أهمية الاستعداد، فالإنسان حسب المنهج الإسلامي الذي لا يستطيع أن يغير نفسه لا يستطيع أبداً أن يغير العالم.
الصفحة 211
هكذا ليتم التغير الجذري فيحقق للإنسان أسعد أمنياته ، بدءاً بإعادة الاعتبار إليه وإلى قيمه من حيث هي مبرر وجوده ، ومحرك لإرادته وملهمة لوعيه وذكائه وعبقريته ومحركة لفعاليته.
فلا الصراع الطبقي الذي يراه الماركسيون هو البديل ولا تحديد النسل الذي يقترحه الليبراليون هو الحل الحتمي، فالثورة الإسلامية قادرة على انقاذ البشرية من كل ذلك دون أن تكلفها أكثر من العودة إلى الحق والهدى، لتتبين طريقها الأصوب، وحلها الأنجح ومصيرها الأفضل، فتتخلص من الإستيلاب.
وإذا كان الإسلام أقر العدل بمعناه الشامل والذي بمقتضاه يجب الحكم بما أنزل الله على رسول ﷺ، فكيف يكون موقف الأمير أو الإمام أو الخليفة إذا ما اعترضت سبيله أمور لم يرد فيها نص ولا إجماع ؟ فهذه قضية تطرح مشكلة الشورى في الإسلام وهو ما تخصص له الفقرة التالية بحول الله .
الصفحة 212
الشورى
لقد تبين أن الحكم في الإسلام يقوم على أساس العدل والفضيلة، وإذا كان من مقتضيات العدل اتباع الشرع والعمل بما جاء في القرآن الكريم والسنة والإجماع، فإنه من مقتضيات العدل والفضيلة أيضاً عدم الإستبداد بالرأي فيما ليس فيه نص ولا إجماع، ففي هذا الحال يصبح الأمير في حاجة إلى معرفة رأي أهل الحل والعقد، قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ في الأمر، وكذلك الشأن من ناحية أخلاقية الحكم الإسلامي، فهي الأخرى تقتضي ضرورة التشاور بين المسلمين في مختلف شؤونهم والقضايا التي تعرض لهم والتي جعلتهم يستحقون ثناء الله عز وجل في قوله: ﴿وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبِيرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا عَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَوَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْتَهُمْ يُنفِقُونَ ) الشورى36 37 38:)
إن من جملة صفات الثناء على المؤمنين صفة الشورى التي كان يتحلى بها صحابة الرسول رضي الله عنهم. والحقيقة أن البعد الأخلاقي المبدأ الشورى بناء على ما جاء في القرآن الكريم والسنة ليس أقل عمق من البعد التشريعي السياسي لأن الخليفة في حاجة دوماً إلى معرفة رأي من لهم دخل في قضايا الأمة لاكتشاف وجوه الصواب والصلاح، وحسب مقتضيات الأحوال ومتطلبات الأمور من الناحية الشرعية والعملية أو الفنية التقنية في مختلف العلاقات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية والسياسية وما تتطلبه من مواقف، فكل هذه الجوانب الشرعية والأخلاقية تجعل الشورى من مقتضيات المنهج الإسلامي
الصفحة 213
الكامل الذي يضمن السالكين الصواب والصلاح والفلاح. أما الأدلة على ذلك فكثيرة منها
أولا : أن الخليفة أو الأمير في الدولة الإسلامية لا بد أن تقيد صلاحياته بالشرع فيما فيه نص أو إجماع، وبالشورى فيها ليس فيه نص ولا إجماع لأنه ليس هو الحاكم ولا صاحب الحاكمية، فهذان الأمران هما من خصائص الربوبية وليس من صلاحيات البشر على الإطلاق كالعبادة التي هي حسب عقيدة التوحيد لا تكون إلا الله قال تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيْمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (يوسف: (40) فكما لا تكون العبادة إلا الله لا تكون الحاكمية لغيره.
وعلى أن موضوع الحاكمية - خاصة في فكر النهضة الغربية - خاض فيه كثيرون وخاصة الذين اهتموا بمفهوم الدولة الحديثة، نذكر منهم على سبيل المثال: جان جاك روسو وجون لوك وأدم سميت وجون استوارت ميل وغيرهم ولئن اتفقوا على الحاكمية كما جاء في علوم السياسة فإنهم لم يتفقوا على حقيقتها والسبب في ذلك عدم الوجود الفعلي لصاحب السيادة الذي تتوفر فيه شروطها فهي تطلق عندهم على السلطة المطلقة العليا ذات الصلاحيات التامة اللامحدودة والنفوذ المطلق فينفذ حكمها في أفراد الدولة، وما على المواطنين إلا السمع والطاعة سواء أكان ذلك عن رغب أم رهب، ويعتقد المودودي كما يرى ذلك غيره أن هذه السلطة المطلقة ذات السلطات العليا والتي لا يعرب عن نفوذها شيء لا وجود لها في المماليك على الإطلاق، فالوجود الأسمى للحاكمية لا يكفي لتبريرها، لأن النفوذ كالحرية مرتبط بالقدرة فلا تكون الحاكمية المطلقة لصاحب القدرة المحدودة.
أما الإسلام فقد حددت فيه هذه الأمور تحديداً عقائدياً في غاية الوضوح والصرامة ، وهو أن صاحب السلطة المطلقة لا يكون إلا صاحب القدرة المطلقة وهو الله الذي خلق الإنسان وسخر له الأكوان : ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) سبحانه، وقال تعالى أيضاً : إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الصفحة 214
الدين القيم. إذن فبناء على هذا فالمفهوم للحاكمية الربانية يكون الأمير صاحب سلطة محدودة، إذ لا يجوز له أن يشرع كما لا يجوز له أن يتجاوز الحدود الشرعية التي حددها الشارع، وبمقتضى ذلك يكون أيضاً ملزماً بالشورى فيها ليس فيه نص أو إجماع، كي لا يقع في الاستبداد، لأن هذا الأخير طريق للظلم والفساد لا يليق بخير أمة أخرجت للناس تنشد العدل والحق والفضيلة والصواب.
ثانياً : أن الأمير ملزم برأي أهل الحل والعقد بدليل قوله تعالى : ( فَاعْفُ عنهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (آل عمران (1۵۹) قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في أبي بكر وعمر وكانا حواريتي رسول الله ﷺ ووزيريه وأبوي المسلمين، وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ﷺ عن العزم فقال: مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم كل هذه الأدلة وغيرها كثيرة في القرآن والسنة تدل على وجوب التزام الأمير بالشورى هي من العزم وهذا مما يجعل الأقوال التي تقول بعدم وجوب الالتزام بها ضعيفة فسندها صريح القرآن الكريم، وقد أمر الله في صريح القرآن نبيه بالمشورة، وإذا كانت واجبة في حق الرسول وهو المعصوم فما بال غيره، وهذا هو القول الأرجح عند الأئمة.
بخلاف من زعم أن الشورى معلمة للأمير وليست ملزمة، فإن هذا الرأي ولضعف أدلته نطرحه على أن القول به في حالات الضرورة كما ذهب ابن تيمية وغيره، فمعقول، لأن هناك استثناءات تحدث فيضطر فيها الأمير إلى الأخذ بعدم الشورى في حالات ضرورية يتعذر فيها العمل بالشورى شريطة ألا يكون الأمير قاصداً تجاوز أهل الحل والعقد وعدم احترامه للشوري كمبدأ أساسي من مباديء هذا الدين الحنيف، لأن عدم القول بالشورى يتناقض مع صريح القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
وفي حالة اختلاف أهل الحل والعقد في أمر فهناك حلان: الأول أن يقاس الأمر بقربه إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فما كان هو الأقرب إليهما كان
الصفحة 215
الأولى بالاختيار والوقوف عنده بناء على ما جاء في قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن لَنَتَزَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخر ) (النساء :(59) إن صريحالآية يدل على وجوب الاتفاق على أن ترد الأمور عند الاختلاف إلى مقابلتها ومطابقتها لوجوه التشبه والاتفاق مع الكتاب والسنة، وعند الوصول إلى ما هو أقرب إليهما فيدخل في حكم ما جاء فيهما من لزوم العمل به بموجب عقائدي لا يجوز العدول عنه في أي حال من الأحوال..
الثاني: الاتفاق على رأي الأغلبية لكن فيها ليس فيه مجال للتطابق بينه وبين ما يماثله في الكتاب والسنة، لأنه لا مجال للأغلبية فيما فيه نص، أو ما هو قريب مما فيه نص، لأنه داخل في حكمه، والأغلبية المقصودة هنا هي أغلبية أهل الحل والعقد من أهل الشورى، وهم الذين توفرت عندهم شروط الشورى لقد قام مرة أعرابي لسيدنا عمر معترضاً عليه في أمر كان قد حصل عليه اتفاق، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجلس إنما أنت من الأعراب (1) لأن للشورى أصحابها الذين هم على علم بالأمور وثقة وجدارة شرعية وأخلاقية وعلمية.
الهوامش
(1) سعيد حوى دروس في العمل الإسلامي، ص48:
الصفحة 216
اختيار الخليفة
لقد تبين مما تقدم أن أمر الإسلام والمسلمين مهما كان من البساطة والتعقيد لا بد له أن يكون شرعياً أي قائماً على أساس من الشرع أو المنهج العام الذي تنضبط به الأمور، كي لا تخرج عن جادة الشرع والصواب، وحرصاً على التزام الشرع ومنهجه العام ردت الأمور كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والإجماع وبناء على ذلك فلا حكم ولا موقف إلا إذا كان على أساس الشرع . أما إن كان الأمر يتعلق في ما ليس فيه نص ولا إجماع فيلزم فيه أمر الشورىوإذا كان أمر تعيين الأمير من الأمور التي لا يستهان بها، قد يترتب عليها أمور تعود على الدعوة الإسلامية برمتها، لذلك أوجب الشارع أن يكون اختيار الأمير على أساس الشورى، ولقد تبيين في السنة أن رسول الله ﷺ قد انتقل إلى الرفيق الأعلى دون أن يعين من يستخلفه، وعدم تعيين النبي لمن يخلفه إلا في الصلاة، دليل على تركه الأمر إلى الشورى هذا ولقد عين أبو بكر كما عين عمر بن الخطاب وعين من بعده على أساس الشورى في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين..
أما طرق الاختيار «الشورى» قلم تحدد بل تركت للظروف والأحوال التي قد تختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى مكان .(1)
إن الخليفة أو الأمير إذا تعرض لقضايا لم يرد فيها نص أو إجماع احتاج إلى التقيد برأي أهل الحل والعقد اللذين توفرت فيهم شروط الشورى كالإخلاص
الهوامش
(1)محمد أبو زهرة تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، مطبعة السعادة.ص 94
الصفحة 217
والمكانة والقدرة والكفاءة، لأن شؤون العمران في تعقيد متزايد ولا يستطيع أحد مهما أوتي من حصافة الرأي وسعة العلم أن يحيط بها كلها بالإضافة إلى ذلك ما تستلزمه شؤون الدولة على اختلاف مستوياتها وميادينها المدنية والعسكرية بل حتى على المستوى الاجتماعي العام من تعامل وتكامل وتكافؤ لأن المشورة على هذا الأساس تساعد على تنمية الثقة بين الأمير والأمة وسائر المكلفين بشؤون الدولة وجميع العلاقات الاجتماعية كما تشجع روح المبادرة سواء على مستوى تبني الفكرة أو الموقف الذي هو موضوع الشورى أو العمل به والسهر على تحقيقه ونجاحه لأن كل الأمة تشعر في هذا الحال بمسؤوليتها نحو القضايا المطروحة ثم إغلاق الباب أمام الهوى والنزعة الاستبدادية وما ينشأ عنها من ظلم وفسادنه لا تقوم دولة إسلامية على غير الشورى إلا وتقع في الانحراف والاستبداد والظلم وتعد بذلك منحرفة لخروج الأمير عن حكم الشورى التي أمر الله بها نبيه وما أمر به النبي فهو ملزم الجميع المكلفين القادرين من أمنه وأما كونها تقع في الاستبداد فإن الرافض للشورى رافض الرأي جماعة المسلمين والمعرض عن رأي الجماعة مستبد برأيه إلا في حالات الضرورة
إنه بموجب النصوص الشرعية في القرآن والسنة وما جاء في سيرة الخلفاء الراشدين، فإن العلاقة بين الخليفة أو الأمير والأمة هي علاقة رحمة ورفق قال تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم ) (الفتح 29وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا يصلح هذا الأمر إلا الشدة في غير عنف، ولين في غير ضعف (1) إن العلاقة التي رسمها القرآن الكريم ترقى بأخلاقيات السياسة إلى قمة الفضيلة والتواضع والتعاون والصراحة والصدق وعدم المجاملة في الحق لأن في مثل هذا الجو النفسي فقط يتحقق مجتمع التعاون والتعامل والتشارك والتكافل قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة : (128).
الهوامش.
(1)ابن عبد البر: بهجة المجالس الدار المصرية للتأليف والترجمة، ص331
الصفحة 218
بهذا يكون الإسلام قد قدم أرقى نموذج للقيادة الرشيدة هذا وإن نتائج هذه الأخلاقيات السياسية الإسلامية لا حصر لها أهمها الثقة المتبادلة بين الراعي والرعية، ولها من الآثار النفسية وما ينشأ عنها من محبة وشفقة ورحمة وطمأنينة وأمن وأمان وسلم ورخاء وهذه الظروف النفسية هي التي تحول الصراع الذي هو من طبيعة المجتمعات الأخرى القائمة على التنافس وغيرها إلى تكامل وتعاون وتقضي على التناقضات التي كثيرا ما تكون هي السبب في ظهور الصراع الطبقي أو غيره إن هذا النموذج هو الذي يكون فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ منه الحق والضعيف قوياً حتى يعطي له حقه يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه : «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي حتى أخذ له حفه، والقوي فيكم ضعيف حتى أخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصیت الله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله (1 ).وبهذا العدل وهذا الحزم وتواضع الخلفاء والأمراء ونزولهم عند الحق وعدم مداراة الأقوياء في غير الحق وانصاف الضعفاء من الأقوياء يضمن الإسلام الشروط الضرورية لنشوء الحضارة ورقيها وازدهارها وما تحققه من أمن وأمان على أن منطق القرآن الكريم والسنة وما نشأ عنه من فكر إسلامي أصيل عند الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والتابعين وعلماء الإسلام صار عند أصحاب العلوم السياسية الحديثة غير مفهوم. من ذلك الفكر الاشتراكي والشيوعي والبرجماسي فهؤلاء لا يصدقون بوجود أخلاقيات سياسية من هذا الطراز ولا يستطيعون التسليم بنموذج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي خال من الصراع. وهؤلاء إذ لا يستطيعون أن يتصوروا حقيقة هذا النموذج الإسلامي لأنهم لم يحاولوا ولو مرة أن يتجردوا من ذهنيتهم المتخلفة ويتخلصوا من عقدة التعالي على الحق والحقيقة وأن يدرسوا، ولو حاولوا مرة واحدة دراسة المفاهيم الإسلامية والمنهج الإسلامي بموضوعية لكان لحكمهم الجائر هذا على الإسلام ما يبرره، ولأدركوا
الهوامش
(1)أبو الأعلى المودودي، نظريات الإسلام، ص293
الصفحة 219
قصور منهجهم وبطلان تعميمه على كل القضايا وفي مختلف المجتمعات أما نظرياتهم فهي لا تنطبق إلا على مجتمعاتهم القائمة على ذهنية ثقافية ومفاهيم منهجية مغايرة تماماً للمنهج الإسلامي.
ونحن نعتقد جازمين بعد الاطلاع على الفكر المادي بشكليه الشرقي والغربي أن جنايته على الفكر الحديث لا تقل عن جناية الفكر الأرسطي عن العهود الطويلة التي سيطر فيها منطقه. إن الإسلام وما اشتمل عليه من مفاهيم وقيم ليعد ثورة فكرية قد ينشأ عنها انقلاب ثقافي وحضاري على المستوى العالمي الواسع وإعطاء نفس جديد للثقة والحضارة. وقد تبين أن المفاهيم القائمة على مقولات هي ليست بالضرورة كما يتصورها بعض الفلاسفة فطرية تولد مع الإنسان، بل يمكن القول بأن الإنسان هو صانع المقولاته وذلك عن طريق احتكاكه بعامل الزمان والمكان بواسطة الحركة. ولكن سرعان ما يتحول شعوره بأنه لا يستطيع أن يتصور الوجود إلا عن طريقها، وفي الواقع في هذه الحالة يكون فكر الإنسان سجين خبراته التي انعكست على مقولاته على أن احتمال التخلص منها يمكن إذا كان الفكر ديناميكياً حراً، لكن إذا كان الفكر في حقيقته متحجرا فإن المقولات التي بنت على أساسها تصوراته ومفاهيمه وقيمه تكون من قبيل الساكن اللامتحرك، ولذا لا يكون من السهل على أصحاب الفكر المادي الشرقي والغربي أن يتخلصوا من ذهنيتهم. ومن ثمة فهم لا يتقبلون إلا ما جاء بمقولاتهم كما لو كان منطقهم هو المنطق الوحيد الذي بدونه لا يستقر الرأي عند حقيقته. وهذا محال وظلم في حق الدين والعلم معاً، والدليل على ذلك أنهم إذ يتصورون ضرورة وجود الصراع في كل مجتمع فقد نسوا أن الصراع ليس طبيعياً، إذ ما كان ليحدث في المجتمع إلا بسبب الظلم أو الاستبداد أو الفساد.
لأن نظمهم السياسية كما تبين من قبل والاقتصادية والتربوية والاجتماعية لم تخل من حيف وظلم. وهذا ما جعل المجتمعات الحديثة لا تستطيع أن تعيش بدون صراع، بالإضافة إلى ذلك أن هذه المجتمعات قائمة على فلسفات أصبحأصحابها هم أنفسهم لا يشكون في فشلها وعدم قدرتها على تقديم بديل يخرج الحضارة من أزمنها، ومن دلائل خيبتها أنها ضيعت الغاية والغائية وحدث لها من
الصفحة 220
الاستيلاب ما جعلها تتصور الوسائل غايات، الأمر الذي ساعد على ظهور قيم هامشية طغت عليها النزعة المادية وصارت الوسائل تطلب لذاتها بدلاً من أن يكون تحققها طلباً لتحقيق غايات تسمو إلى الأبعاد النفسية والروحية السامية لكن وقد قبعت في دائرة الوسائل ضاع منها كل شيء وعجزت على تحقيق أدنى شعور بالطمأنينة والسكينة والسعادة لدى الإنسان، ولما أصبحت السياسة للحكم وصار الحكم للمال والجاه والسلطة والمكانة الاجتماعية، فقدت السياسة عندهم أخلاقياتها وصارت الحيل والمكائد والخداع من أجمل ما يتحلى به السياسي بمفهوم مقولة الصراع وضرورة التفوق على الخصم بأي وسيلة . وسادت الفكر السياسي الحديث الماكياقلية التي تمثل أحط مستويات السياسة اللاخلاقية..
ومن أبشع معالم الاستيلاب في الفكر السياسي الحديث، مقولة الحاكمية المطلقة في مفهوم الدولة الحديثة، إذ كيف تكون السلطة العليا والمطلقة للبشر وهم أولي القدرة المحدودة. وعندما صارت الحاكمية للبشر صار الحكم كذلك وضعياً وأصبح البشر الأقصى يستعبد الأضعف فهي مثل هذا الحال كيف ومتى أذن تتحقق العدالة؟ بل إن مقولة الحكم للبشر جعلت الحكم للسلطة والسلطة للمال والمال للقوة وأصبح النفوذ في المجتمع الرأسمالي للأقوياء وضاع فيه حق الضعفاء، أما في المجتمع الشيوعي فتحتكر السلطة الشيوعية النخبة الذكية التي تحسن المراوغة وتجيد تسلق كراسي الحكم في ظل النظم البوليسية الرهيبة وتسلب أجهزة المخابرات النفوذ والسلطة وتصبح بذلك هي المحرك للأمور السياسية لكن من وراء الستار
فما أبعد هذه عن الإسلام ومنهجه وما أبعدها عن عدله واعتداله وانصافه ومساواته ووضوحه وفطرته ، قال تعالى : ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لا مُنسِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوادِ بَنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلِّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِي بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم : 31 32. 33) حيث تقوم الدولة على أساس الحاكمية الله وحده؛ وما الخليفة أو الأمير
الصفحة 221
إلا موكل في الأمة بتنفيذ الأحكام الشرعية لا تتجاوز صلاحياته تسيير الدولة على أساس الشرع الذي به تضمن مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وتتحقق مصالحهم دون تعارض وتناقض وسد باب الفتنة والصراع. إن المسؤولية أمانة فلا بد من السهر على تأديتها وبذل الجهود من أجل الحفاظ عليها وهي من ثمة تكليف لا تشريف لقوله عز وجل : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ بَعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ منكُمْ فَإِن لَنَتَزَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء58 فغاية الحكم هنا واضحة هي أن تؤدي الأمانة، بأن يقوم كل مسؤول بما كلف من مهام على مختلف مستويات الدولة والأوضاع الاجتماعية قال رسول الله ﷺ: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع عليهم مسؤول عنهم، والمرأة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عنهاء. وإذ تكون المسؤولية أمانة الله ورسوله والأمة الإسلامية فاداؤها أعظم عمل يتقرب به العبد إلى ربه قال عليه السلام: الإمام العدل لا تكاد ترد دعوته. ففي هذا الحال يختفي ظل الحكم للسلطة بل يصبح عبادة وجهاداً يتقرب به الإنسان إلى مولاه طمعاً في رضاه وحتى يحقق تلك الغلة القصوى يحاول ألا يترك للهوى منفذاً إلى نفسه كي لا يقع في أشراك الغرور والاستبداد والظلم بل يلزم نفسه بالمنهج الأساسي في الحكم وتسيير أموره وتحقيق أغراضه المحدودة في الشريعة والوقوف عند حدود الصلاحيات التي خولها الشرع إياها، فهو في ذلك مطالب بالمحاسبة وحتى المحاكمة إذا ما خرج عن الحدود وخصص لذلك نظاماً كامل التأسيس من مهامه مراقبة الأمراء والقضاة وغيرهم وهو نظام الحسبة (1).
إن الأمة الإسلامية كما حددت مفاهيمها في القرآن الكريم والسنة لهي أمة العدل الكامل والفضيلة والشورى وبمقتضى ذلك فهي تتضمن الهوامش
(1)الماوردي الأحكام السلطانية، شركة نور الثقافة الإسلامية، ص240
الصفحة 222
الشروط المادية والنفسية والروحية التي تجعل الدولة لها مؤسساتها التشريعية والقضائية والأخلاقية ، لتكون في مستوى ضمان الحريات التي يعدها الإسلام من الضروريات والمصالح التي يعتبرها من الحاجات والتحسينات ويكفل العدل سواء أكان بالمعنى الاجتماعي كتكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات كل حسب قدراته ومواهبه وإمكانياته الفطرية والمكتسبة دون أي احتكار أو العدل السياسي بكل معانيه من حفظ الحرية بمعناها الكامل من تعبير، ومسؤولية وملكية خاصة واستقلالية في إطار فردي واجتماعي وخاص وعام دون أي تعارض ولا تضارب .
بهذه المباديء يحقق الإسلام أهم الشروط الشرعية لبناء نظامه الشامل ونموذجه الكامل الخير أمة أخرجت للناس، وبحكم هذه الخصائص تكون الأمة في مستوى رسالة الهدى ودين الحق.
فهذه بعض ملامح الحل الإسلامي الذي تعتقد جازمين أنه في مستوى مواجهة مطالب انسان اليوم، كما كان في مستوى مطامح انسان الأمس، وحل كبريات القضايا المطروحة على الساحة العالمية والتي تعاني منها الحضارة الحديثة فضلا عن المشكلات التي تخص العالم الإسلامي على أن الحل الإسلامي من مقتضياته الاقتناع والاختيار على أساس الوعي والحرية والإرادة الخيرة، فعلى قدر مستوى وعي واقتناع الأجبال بضرورة الحل الإسلامي، يكون الإقبال عليه عن طواعية ورغبة وتتحفز الهمم وتنمو فيهم إرادة التغيير وفق المنهج الإسلامي القائم حسب نظرية الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».
ولئن كان الوعي بضرورة الحل الإسلامي يعد من الشروط الأساسية للعمل به، فإن التربية تعد من مستلزمات الوعي عامة والوعي الإسلامي أو التبصر خاصة، لذلك نجد الدعوة المحمدية تستفتح بقوله تعالى : ( أقرأ بأسيد ربِّكَ الَّذِي خَلَقَ الخلق الإنسَانَ مِنْ عَلَى أقرأ ورَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَى بِالْقَلَمِ علم الإنسان ما لم يعلم (العلق(5_1) فلهذه البداية أكثر من معنى، من ذلك أن هذه الرسالة العظيمة ما جاءت به من هداية وحكمة وعبر وآيات ربانية
الصفحة 223
وكونية يحتاج الإنسان كي يعي بعض أبعادها ويكتشف بعض أسرارها وأنوارها، لا بد له من القراءة على أبعد معانيها وأوسع نطاق مراميها وآفاق توجيهها الرباني ومنهجها القويم لتسديد خطى العقل البشري إذ بالقراءة تتكون مجموعة الإدراكات الحسية والعقلية وبمجموعة الإدراكات تتألف التصورات فالمفاهيم والقيم، ثم سرعان ما تتألف عن الطريق بعض هذه الأمور العقلية والنفسية أنماط السلوك والعلاقات التي بدورها تتحدد المواقف المنهجية الواعية القائمة على القناعة الإيمانية والمفاهيم المنهجية والقيم الروحية والمادية والاجتماعية والحضارية، ثم تؤلف هذه كلها منظومة الحل الإسلامي في تفاعله الوظيفي الزمني أو التاريخي وذلك عندما يصبح الإسلام ممثلاً في حياة الناس ومختلف سلوكاتهم وعلاقاتهم ومواقفهم تأسياً بالرسول ﷺ وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن ثمة فإن أكبر معضلة تواجهنا هو الجهل عموماً، والجهل بالإسلام خصوصاً، ذلك الجهل الذي عم العالم الإسلامي بعد احتلاله والقضاء على مؤسساته، لأن الرغبة في الشيء مرتبطة بالعلم به والاقتناع بضرورته، ولعل هذا ما جعل القضية التربوية هي أول قضية تعترض صاحب الدعوة باعتباره مصلحاً بأوسع ما في هذا المدلول القرآني من معنى، ولذلك نجد كل المصلحين الإسلاميين عبر تاريخ هذه الأمة يتخذون التربية منهجاً أو وسيلة لتحقيق التغير الاجتماعي الذي عزموا عليه ودعوا الأمة الإسلامية إلى القيام به في عصرهم. إذن من هذه الناحية تصبح المشكلة التربوية لا تواجهنا كقضية اجتماعية واقتصادية قد تنحصر في تحقيق الأهداف الأولية الثقافية كما يفهمها الكثير، بقدر ما هي مشكلة عقائدية أخلاقية وحضارية أو بمعنى آخر إنها لا تواجهنا كحاجة من حاجات الأفراد بل هي ضرورة حضارية بمعناها الواسع.
الصفحة 224
ديمقراطية التعليم
العلاقة بين سياسة التربية والسياسة العامة.
إن السياسة التعليمية مرتبطة ارتباطاً كلياً بالسياسة العامة للدولة، وإذا كانت الدولة الحديثة لا تخلو من أيديولوجية تقيم على أساسها فلسفتها العامة، وتحدد منهجها السياسي لتحقيق مختلف أغراضها وغاياتها في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، فإن الأيديولوجية السياسية تتضمن بالضرورة السياسية التربوية كما يتضمن الكل سائر أجزائه والأصل كل فروعه ليتم كماله ولذلك تختلف السياسة التربوية باختلاف الأيديولوجية السياسية، فإذا تبنت دولة الأيديولوجية الديموقراطية وسلكت منهجها السياسي العام، فإن هذه الدولة تضطر إلى اتخاذ ديمقراطية التعليم سياسة تربوية تحقق بها القضاء على التفاوت الاجتماعي والتناقضات لتحقيق العدالة السياسية لارتباطها بالعدالة الاجتماعية. أما إذا تبنت دولة الديمقراطية كعدالة سياسية دون أن ندعهما بديمقراطية التعليم فإن الديمقراطية السياسية تبقى شكلية لا ترقى إلى مستوى العدالة الحقة ولنبين كل ذلك ومدى صعوبة تحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها من الأغراض المختلفة وهو الأمر الذي أدى إلى تأخير تحقيق العدالة الاجتماعية ، وما تنشأ عنه من تفاوت طبقي وتناقضات ستحاول التعرف على ذلك عن طريق معرفة وتطور التعليم في كل من فرنسا وبريطانيا، والمراحل التي مرت بها ديمقراطية التعليم في العالم الإسلامي
الصفحة 225
التجربة الفرنسية
ففي فرنسا لاحظ مؤرخو التربية أن التعليم في عهد الأمبراطورية الأولى كان تحت هيمنة الطبقة الارستقراطية، ولئن انتزعت التربية بعد الثورة من سلطة الكنيسة فإن النظام التربوي لم يقع عليه تغيير جذري بالجملة.
على أن كوندرسيه ألح على ضرورة تبني ديمقراطية التعليم وضمان حق التربية للجميع. فالديمقراطية من حيث هي تساو أمام القانون لا تكفي ، بل لا بد من وضع حد للحرمان التربوي الذي كانت تعانيه القاعدة الشعبية الفرنسية وحتى الديمقراطية من حيث هي تخول لكل فرنسي الحق في الانتخاب بالتساوي فكما تعطي الحق لكل مواطن في الانتخاب يجب أن تعطي أيضاً الحق لكل مواطن في الترشيح، وهذا الأخير إذا كان مرتبطاً بالكفاءة من حيث هي من نتائج التربية فإن الحرمان التربوي حرمان في الحقوق السياسية التي يجب أن تضمن لكل المواطنين بدون استثناء. ولئن كان كوند رسيه من طلائع المفكرين الذين دعوا إلى ديمقراطية التعليم ليس في فرنسا فحسب بل في العالم المعاصر فإن تبني هذا المبدأ الاجتماعي السياسي قد تأخر نسبياً. ومن أسباب ذلك التأخر الصراع الطبقي ، فالارستوقراطيون الفرنسيون فسروا ديمقراطية التعليم بتعميم هذا الأخير بالقدر الذي يضمن لهم تكوين القدر الكافي من المهارات التي هم في حاجة إليها هذا من جهة، والحصول على النخبة التي تساعدهم على الاحتفاظ بمكانتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فوضعوا لذلك سلما من الامتحانات الصعبة التي لا تسمح للقاعدة باجتياح المستويات العليا لمختلف التخصصات والمجالات، هذا ولم تأخذ ديمقراطية التعليم مفهومها الحقيقي الذي هو تحقيق التكافل الاجتماعي عن طريق التعليم ولم يصبح مبدأ التكافؤ الفرص من مبادى.
الصفحة 226
السياسة التعليمية إلا بعد الحربين العالميتين عندما صارت القاعدة الشعبية في الحكم، وذلك عند ظهور الجبهة الشعبية ففي هذا العهد فقط أخذت ديموقراطية التعليم مفهومها الواسع الذي وصل إليه التطور السياسي التربوي في العالم الحديث. لكن هذا المفهوم بقي فقط على المستوى النظري ، فعلى الرغم من مساندة اليسار وجميع الاتجاهات التقدمية الفرنسية فإن مشروع لا نجوفان ووالون الذي وضع على أساس العدالة الاجتماعية لم يطبق ، لأن الميدان السياسي الذي يعكس الصراع الطبقي الذي تشهده فرنسا أنذاك لم تظهر فيه الجبهة الشعبية إلا مجرد اتحاد انتخابي كما يعتقد تاليوت، لقد كان الصراع بين مختلف الأحزاب السياسية في فرنسا على أشده وكانت التربية من أهم أغراض الشعب وخاصة تلك الطبقة التي كانت تشعر بالحرمان، أما اليمينيون فبعد فهمهم المطالب القاعدة وتأكدهم من أهميتها الانتخابية فإنهم لم يعترضوا على ديمقراطية التعليم وتبنوها سياسة تربوية، لكنهم ما يزالون مصرين على أن يبقى النظام التربوي انتقائياً، حريصاً على تكوين النخبة لأن تعليم القاعدة في رأيهم تدعيم لليسار ولذا فالخلاف بينهم وبين اليساريين ليس حول المبدأ ذاته وإنما في كيفية فهمه والعمل به من أجل تحقيق الأغراض السياسية بالدرجة الأولى التي تجعل كل اتجاه يحافظ على سلطته ومكانته .
ولذلك نجد اليمنيين يربطون ديمقراطية التعليم بالحداثة بمعناها الواسع الإبراز حاجات جديدة للمجتمع وشغل القاعدة(1) الشعبية بالعمل على تحقيق تلك الحاجات، وهذه الحيلة يمكنها أن تنجح لكن بشرط أن تكون حاجات الشعب مشبعة أو إذا كان الشعب في غفلة وجهل بحيث لا يفقه أبعاد هذه السياسة التي تشغله بمشاكل مزيفة عن مشاكله الأساسية، لكن تجاهل أو جهل الأزمة لا يعني عن حلها لأنه لا يوقف استفحاف والمزيد من تفاقمها، والسبب في ذلك أن قضية ديمقراطية التعليم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمفاهيم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ويعتقد دينت
الهوامش
Talbot. 1. the Politics of Educational reform in France, 1980, 1948. P. University 1969 p208. (1)
الصفحة 227
فورست أن كلا من ديمقراطية التعليم والمفاهيم الاقتصادية والسياسية مرتبطة بالآخر ارتباطاً لا يقبل الانفصال بالمرة.
وهذا الارتباط بين التربية والاقتصاد والسياسة جعل موضوع ديمقراطية التعليم في فرنسا يتخذ بعده الجدي، لأن فرنسا كغيرها من الشعوب الأوروبية أدركت ضرورة التطور الاقتصادي وما دام هذا الأخير مرتبطاً بالكفاء التقنية والتي لا بد لها من خبرات عالية، فالتخطيط التربوي أصبح جزءاً من الخطة الإنمائية، ولذلك تلاحظ دولاً كبريطانيا والمانيا وروسيا اتخذت من التربية أهم شروط التنمية الاقتصادية، والدليل على ذلك أن كل المشاريع الإصلاحية التربوية التي قدمت في هذه الأقطار المذكورة أكدت ضرورة العناية بالتوجيه منذ 1914 ، على أن اليمينيين في فرنسا وبريطانيا وألمانيا يريدون التوجيه الانتقائي والتركيز على تكوين النخبة التي في رأيهم هي أساس الخطة الإنمائية، بالإضافة إلى التنسيق بين الحاجات والتمويل، وفي الجملة فإن المفهوم في فرنسا وغيرها قد عرف تطوراً ملحوظاً حتى صار يعني ويشمل التوجيه وتمديد الفترة التعليمية إلى أقصى ما يمكن من مراحل التعليم الثانوي والتحديث هذا بالنسبة إلى تطور مفهوم ديمقراطية التعليم في فرنسا، أما المراحل الإجرائية التي قطعها المفهوم التربوي في المنظومة التربوية الفرنسية فنلخصها فيما يلي:
ولكن عرفت السياسة التربوية تطوراً مذهلاً في السنوات الأخيرة منذ الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، فإن ذلك التطور راجع إلى الإصلاحات التشريعية التي عرفتها المنظومة التربوية الفرنسية، لقد كان للقوانين الصادرة في شأن ديمقراطية التعليم وتعميمه وتمديد مدة الدراسة إلى آخر مراحل التعليم الثانوي، وتنويع شعب الدراسة لمواجهة مختلف القدرات والمواهب الأثر الكبير في تحقيق الازدهار التربوي الذي تزخر به المنظومة التربوية حالياً وهذا ما خونها القدرة على المساهمة الفعالة في التطور الصناعي والتكنولوجي الذي تشهده فرنسا حالياً .
إن تخفيف التفاوت بين الطبقتين الشعبية والرأسمالية ورفع مستوى معيشة الأولى، وتحسين ظروف الحياة مادياً واجتماعياً يعود بالدرجة الأولى إلى
الصفحة 228
الإصلاحات التربوية التي حدثت في إطار العمل على تحقيق ديمقراطية التعليم باعتبار هذه الأخيرة هي أهم الوسائل للقضاء على التفاوت الطبقي والحرمان الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية .
على أن هذا التطور لم يكن ليتحقق إلا بعد صراع مرير ونضال طويل الأمر الذي جعل ديمقراطية التعليم تتأخر في التطبيق، فعلى الرغم من المناداة بالمبدأ والاقتناع بعدالته ووجاهته وشرعيته منذ أن نادت به الثورة الفرنسية التحقيق مبادئها الثلاثة التالية : الحرية المساواة الأخوة، فإن تبنيه للعمل به تأخر إلى عهد الجمهورية الثالثة اند بقي التعليم تحت إشراف الكنيسة ورجالها المحترفين، ولم تتحق مجانية التعليم الإبتدائي وعلمانيته إلا في عهد جول فيري بمجانية التعليم لذلك فإن صدور القرار في عهد جول فيريه وزير التعليم الإبتدائي بالجمهورية الثالثة بعد من أخطر الأحداث التاريخية في النظام التربوي الفرنسي، إذ بهذا القرار اتخذ النظام التربوي الفرنسي أهم خصائصه، وهي مجانية التعليم وعلمانيته ومركزيته، ويعتقد المؤرخون للتربية الفرنسية أنه بفضل هذا القرار عرف النظام التربوي تغيراً كبيراً، من هؤلاء شوقلييه وهولس وكروسبيرين وجان ديسي. واعتبر هؤلاء قانون 1881 القاضي بمجانية التعليم الإبتدائي والتزاميته خطوة عملاقة نحو تحقيق ديمقراطية التعليم في فرنسا على أن رجال الكنيسة وأصحاب اليمين المتطرف اعتبرو هذا القرار تدخلا في شؤون الأسرة والكنيسة ومساً مباشراً بالحريات.
لكن العوامل الجديدة التي دفعت بالجمهورية الثالثة للقيام بهذا الإجراء الخطير وتحقيق هذه الخطوة العملاقة من حياة النظام التربوي الفرنسي، كانت في صالح معارضيه من ذلك ظهور الصناعة وتطورها السريع وحاجة هذه إلى الخبرات والإطارات الفنية والنمو الاقتصادي الذي عرفته البلاد بسبب اتساع رقعة الأراضي المستعمرة الخاضعة للهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وما تدره هذه الأقطار من خيرات تحتاج إلى توظيفها لصالح البناء الاقتصادي الهائل زد على ذلك التطور الاجتماعي الذي جاء نتيجة لهذا الوضع الاقتصادي والسياسي المحلي والعالمي ، ثم إن النظام التربوي الذي كان تحت سيطرة الكنيسة كان يعاني
الصفحة 229
من الصراع المذهبي الذي كان بين البروتستينين والكاثوليكين؛ بحيث لم يكن من الممكن جمع تلميذين من مذهبين في قسم واحد، على أن علمانية التعليم الإبتدائي كانت لا تتعدى مفهوم لائكية التعليم الإبتدائي حتى يمكن أن يجمع أبناء مذاهب متعددة وطوائف مختلفة في مدرسة واحدة وقسم دراسي واحد. كما يعني كذلك عدم تدخل المدرسة في أمر الدين والوقوف أمام هذه القضية موقف الحياد. أما المدارس الخاصة والمعاهد الكاثوليكية والبروتستانية واليهودية فكانت تحت سلطة أصحابها وبقيت كذلك حتى اليوم، وقد تسعى المدرسة اللائكية الرسمية من وراء ذلك إلى العمل على تقريب وجهات النظر وعلى الأقل إيجاد جو اجتماعي يسوده الوئام والتعاون بدلاً من الصراع والتطاحن.
وهكذا منذ ذلك الحين صارت المدرسة الواحدة في إمكانها أن تستقبل الكاثوليكي والبروتستنتي واليهودي والمسلم فمدرسة كهذه إذ تفتح بابها لكل التلاميذ على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم في رأي جول فيري لا بد لها من علمانية التعليم، والجدير بالذكر هنا أن تحول السلطة التربوية من يد رجال الكنيسة إلى رجال الدولة كسلطة مركزية وعلمانية التعليم لا تعني إطلاقاً كما يظن الكثير ما بالكنيسة ولا هي حرب على الدين، إن الدين والكنيسة التي تمثله ما يزالان معتبرين والعمل بالدين ما يزال سائر المفعول إلا فيها أظهره الدين من عجز أو تناقض في معالجة ما جد من القضايا أو ما وقع فيه رجاله من ضعف وقصور في اجتهاداتهم ...
على أن الصراع الذي كان وما يزال بين الكنيسة والإتجاهات الفكرية المتحررة والملحدة كان على أشده، ومن ثمة فإنه لا يمكن تجاهل آثار الثورة الفكرية التي ظهرت منذ القرن الثامن عشر فإلى التاسع عشر والعشرين إن هذه الثورة الفكرية على الكنيسة على اختلاف مذاهبها هونت من أمور الدين وزحزحته عن مكانته السياسية والاقتصادية والثقافية. وصارت حياة الفرنسيين كغيرهم من الأوروبين، والأمر كان بمعزل عن دينهم وما تزال الشقة بين الكنيسة والحياة تزداد بعداً يوماً بعد يوم، فالذي تجدر الإشارة إليه في هذا الغرض هو أن الثورة الفرنسية إن نجحت سياسياً نجاحاً تاماً وأحدثت
الصفحة 230
التغيرات السياسية الكبرى وحقق للفرنسيين حلم الجمهورية فإنها لم تحقق العدالة الاجتماعية إلا بعد حين. والسبب في ذلك كثرة المواقع التي منها :
ا - الكنيسة، لأنها اعتبرت ذلك تدخلا في شؤونها.
ب - الطبقة الارستقراطية التي كانت تحتكر التعليم في جملة لأبنائها دون غيرهم للمحافظة على مكانتها الاجتماعية.
ج التوزيع غير العادل للثروة
د احتكار الطبقة الارستقراطية للحكم وما نجم عنه من حرمان للقاعدة.
هذا وإن الظروف المستجدة فرضت التغير، وكانت في صالح المبدأ والإصلاح التربوي الجذري لتحقيق القدر الممكن من العدالة الاجتماعية، فكل المؤرخين للتربية بفرنسا يرجعون سبب تأخر العمل بمبدأ ديمقراطية التعليم على الرغم من ظهورها المبكر، إذا ما قيس بظهوره في غير فرنسا إلى الموقف المتشدد من أصحاب الطبقة الارستقراطية والبرجوازية الفرنسية بالإضافة إلى النزعات المذهبية الكاثوليكية البروتستينية وعدم استسلامها رغم ظهور عوامل جديدة تلحعلى ضرورة إجراء الإصلاح التربوي لتحقيق العدالة الاجتماعية ولم تترك المشاريع الإصلاحية التي وضعت لتحقيق ذلك المبدأ والسبب في ذلك في رأي مؤرخي التربية في فرنسا، أن خصوم المبدأ يعتقدون تبني ديمقراطية التعليم سيكون حتماً على حساب مصالحهم بقطع النظر عن المصالح العامة التي تتعلق بالأمة بأسرها، لكن القيم القديمة التي كانت تتمثل في عراقة الأسرة ونبل الطبقة تقهقرت أمام القيم الجديدة التي حلت محلها، وهي الجدارة والكفاءة والعدالة والتعاون والتكامل وحسن توظيف كل الطاقات على اختلافها المادية والبشرية لتحقق في النهاية التطور الحضاري الذي فرض نفسه بحكم التطورات التاريخية الكبرى العالمية.
وفي هذا الصدد لقد كان السياسيون الفرنسيون ورجال الكنيسة على اختلاف اتجاهاتهم في سباق كل يريد تحقيق تغير شامل يساعده على الحفاظ على مكانته الاقتصادية بالدرجة الأولى والسياسية والاجتماعية والذي زاد هذا
الصفحة 231
السباق حدة وسرعة التطور الحضاري والتكنولوجي اللذان فرضا نفسهما على الأمة فرضاً.
ولهذا أصبح لا بد من تطوير التربية، وإذا كان لا بد للتربية كعامل أساسي في التطور الصناعي والتكنولوجي من تطور، فإن الإصلاحات التربوية تجعل النظام التربوي في المستوى الوظيفي الاقتصادي والتقني والحضاري لا يد منها الأمر الذي يجعل معارضتها والعمل على تأجيلها مهما كانت قوية لم تستطع أن تقع أمام الزحف الحضاري الجارف لأن الشعور بقصور النظام التربوي وعدم مسايرته للتطور التكنولوجي الحضاري ظل يحفز الإدارة الفرنسية من أجل تحقيق التغيرات الكبرى التي جاءت بها هذه الإصلاحات، والدليل على ذلك أنه على الرغم من مجهودات جول فيرى من أجل تحقيق ديمقراطية التعليم الإبتدائي ومجانيته، فإن القاعدة الشعبية المحرومة من التعليم الثانوي والعالي اللذين كانا محتكرين من طرف الطبقة الارستقراطية والرأسمالية، فإن وعي هذه الطبقة لم يسمح بوجود تعليم إبتدائي شعبي وتعليم ثانوي وعالي انتقائي تحتكرهم طبقة أو نخبة، واعتبرته دليلا صارخاً على تناقضات لا يمكن أن تضمن الاستقرار الاجتماعي الذي لن يتحقق إلا بالعدالة الاجتماعية الكاملة فالحرمان من التعليم الثانوي والعالي بات ظلماً وأصبحت الطبقة المحرومة منه تتوق إلى الوصول إليه مهما كلفها الأمر وتظهر نتيجة لذلك المطالبة بتوحيد التعليم إذ نادى البعض بالمدرسة الموحدة والجامعة الجديدة يقول لوك دوكوناس وبيار شوقالبيه - إن التربية الفرنسية كانت على ثلاثة أشكال لعهود مختلفة من تاريخ الأمة الفرنسية، وكل شكل تطور في اتجاهه. وكانت نفس الملاحظات قد تقدم بها اتحاد شباب المعلمين عندما هتفوا بضرورة إصلاح التعليم لما قدموا مشروع المدرسة الموحدة والجامعة الجديدة 1918 1914ركزوا على نقاط الضعف التالية :
ا تخلف نظام التعليم عن التطور التكنولوجي ونادوا بضرورة إعادة بناء النظام التربوي الفرنسي في ضوء التطورات التي طرأت على الحياة الصناعية والتكنولوجية والقضاء على الحرمان التربوي .
الصفحة 232
ب - تخلف المدارس والمعاهد التقنية، مما جعلها ليست في مستوى التطور التكنولوجي الذي تشهد البلاد وغيرها من أقطار العالم المصنع.
ج - حاجة التعليم العالي إلى نوعية جديدة من الأساتذة
د عدم وجود تنسيق بين مستويات التعليم الإبتدائي والثانوي والعالي.
لكن على الرغم من حماسة شباب المعلمين، ووجاهة دعوتهم الإصلاحية، فإن حملتهم هذه لم تتجاوز المستوى النظري ولم يتحقق منها شيء، على أن تأثيرها في ما جاء بعدها من المشاريع الإصلاحية بقي بارزاً فالإصلاحات التي حدثت بين 1۹۳۸ - 1۹۵۹ كلها في الحقيقة تكاملت وأعطت ثمرة متكاملة بفضلها وصل النظام التربوي إلى ما هو عليه الآن بحيث يعد من أهم النظم التربوية تطوراً في العالم الحديث: فمحاولة (جون زابي) الإصلاحية مثلث تكامل المشاريع الإصلاحية، وكان أول مشروع إصلاحي شمل كل مجالات التربية وجميع مراحل التعليم الإبتدائي والثانوي والعالي. قال وزير التعليم سنة 1۹۳۷ : إن عهد صدور قانون تربوي عام للتعليم الإبتدائي والثانوي والعالي قد حان، ولقد وجدت بالفعل هذه المحاولة واستطاعت أن تعطي النظام التربوي صبغته الكلية الشمولية لأول مرة في التاريخ الفرنسي وزادت فيه شعباً تربوية أخرى على الشكل التالي :
الشعبة التقليدية التربوية.
الشعبة التربوية الحديثة.
الشعبة التربوية التقنية.
مع السماح للتلاميذ بالانتقال من شعبة إلى أخرى حسب مواهبهم وميولهم ومختلف قدراتهم، غير أن مشروع جون زاي كان كغيره لا يخلو من نقص، وأهم الملاحظات التي وجهت له نزعته الانتقائية أو نظام الامتحانات الإنتقائي التي تخللت جميع مراحل التعليم وشعبه المختلفة.
ولكن مهما يكن من أمر، فإن ديمقراطية التعليم في فرنسا حديثاً صارت تشمل التعليم الإبتدائي والإعدادي والثانوي فالتلميذ أصبح مجبراً على المرور
الصفحة 233
بكل هذه المراحل كي يتخرج فسياسة تمديد إلزامية التعليم الإبتدائي والإعدادي والثانوي ساعدت إلى حد كبير على الازدهار التكنولوجي والحضارة بصفة عامة، لكن العدالة التامة لا أحد يستطيع أن يزعم تحقيقها والقضاء الكامل على الحرمان التعليمي، لم تبلغه بعد لا فرنسا ولا غيرها من الأمم.
إن التجربة الفرنسية لمن أغنى التجارب التي يمكن الاستفادة منها عند محاولات الإصلاح التربوي ، مع الفارق ووجود وجوه الاختلاف التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند تقييم التجربة التربوية في غير فرنسا.
الصفحة 234
التجربة الإنجليزية
أما التجربة الإنجليزية فهي الأخرى وإن كانت لا تختلف كثيراً عن التجربة الفرنسية إلا أنها ذات خصائص قد تفيدنا كثيراً عند المقارنة .
إن المصلحين الإنجليز يكادون لا يختلفون في أن كل تغير اجتماعي جذري لا يمكن أن يحصل دون الإصلاح التربوي وإذا كان التفاوت الطبقي الاجتماعي من معضلات المجتمع البريطاني الحديث، فإن ديمقراطية التعليم في رأيهم تعني ضرورة القضاء على هذا التفاوت، فتكافؤ الفرص عندهم هو أهم عامل لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن هؤلاء المفكرين الذي ذهبوا إلى هذا المنحى الإصلاحي تذكر هـ. س دانت، وهـ ل الفن وتييرال بورجا) و «روبین بادلي» و «ليستيره، ودليل هؤلاء على أن الإصلاح التربوي هو أساس الإصلاح الاجتماعي وأن المشكلة الاجتماعية تكمن في عمق المشكلة التربوية ولذلك يعتقدون الإصلاح التربوي هو الإصلاح الاجتماعي الجذري، وما المشكلات الاجتماعية والتناقضات التي صار يعج بها المجتمع الإنجليزي إلا نتيجة من نتائج التربية التي يقدمها النظام التربوي التقليدي.
يقول دانت:
إن المشكل الاجتماعي هو في الحقيقة مشكل تربوي، فكل ما أصاب المجتمع من فوضى يعود إلى افتقارنا إلى تربية سليمة (1) وبناء على ذلك فإن ديمقراطية التعليم تأخذ المفهوم الشامل والعميق للإصلاح التربوي الذي يهدف إلى التخلص من التناقضات الاجتماعية التي يشكوا منها المجتمع البريطاني
الهوامش
Dent. H.G.A. New ondr In English Education Universty of London. Press. 1942.(1)
الصفحة 235
وتحقيق الديمقراطية بمعناها الواسع فتصبح هذه الأخيرة ليست مجرد مبدأ أو شعار يردد في المحافل السياسية والحملات الانتخابية بل يصبح حياة عملية يعيشها الطفل في البيت والمدرسة وينمي شخصيته الاجتماعية على أساسها، ولهذا يرى دانت وغيره أن الوقت قد حان لإنشاء نظام تربوي جديد في ضوء المعطيات الجديدة، بيد أن تحقيقه بالفعل ليس بالأمر السهل فهو لأهميته يتطلب تجنيد كل الطاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتمتع بها الأمة البريطانية بأسرها، والجدير بالذكر أن (دانت) برى ضرورة الإسراع بذلك، لأن الوقت قد حان، ولا يجوز التماطل والتراخي من أجل تحقيق حياة الرفاهية والإزدهار. على أن حماسة هؤلاء المفكرين وحرصهم الشديد من أجل الإصلاح الاجتماعي وتحقيق الديمقراطية والوصول إلى حياة أكثر عدالة وازدهاراً الأمر الذي يجعل الإصلاح الشامل الذي تطلبه هذه المباديء في المجتمع ما يزال أميل إلى المحافظة منه إلى التجديد فالفلاسفة وعلماء الاجتماع والمربون الإنجليز يرون أن الإصلاح التربوي الشامل يؤدي بالضرورة إلى التغير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إلا أنهم وإن اتفقوا على أن الديمقراطية هي أمن الطرق وأسلمها التحقيق العدالة فإنهم اختلفوا في طرق تحقيقها وتكييفها مع الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية السائدة، فهم يريدون أن تأخذ رغم مفعولها الرجعي التفسير الشامل للعملية الإجرائية الإصلاحية، لأن المهم عندهم ليس الحكم على الماضي وإنما هو معرفة الطريقة المؤدية إلى المستقبل والوصول إلى المقاصد والغايات المحددة
إن عهد احتكار المناصب التعليمية وغيرها للأسرة العريقة قد انتهى وحل محله عراقة الأسرة والكفاءة والجدارة العلمية هكذا يقول: (روبين بادلي) وهذا التحول الذي عرفه المجتمع البريطاني خطوة في غاية الأهمية نحو حالة أعدل منذ ١944، عرف النظام التربوي البريطاني تغيرات كبرى تتلخص كالتالي :
- تمديد مرحلة التعليم الإجباري حتى الثانوي.
2 - المركزية .
الصفحة 236
- المدرسة الشاملة.
أما تمديد التعليم الإجباري إلى الثانوي فقد كان استجابة لحاجة الفرد والمجتمع إلى كفاءات وخبرات تساعد على مسايرة التطور التكنولوجي والحضاري الذي تشهده البلاد، وحاجة المؤسسات الصناعية إلى خريجي التعليم الثانوي، لأن التعليم الإبتدائي الذي كان نهاية التعليم الإلزامي قبل صدور قرار 1944 القاضي بإلزامية التعليم الثانوي لا يستطيع أن يزود التلميذ بالمعلومات والخبرات الكافية لتأهيله لخوض غمار الحياة الثقافية والاجتماعية والمساهمة في البناء الاقتصادي الذي تحتاج إليه بريطانيا ما بعد الحربين العالمينين. إن العهود السابقة لـ ١1944 كان التعليم الثانوي في بريطانيا خاصاً للمحظوظين ولم تفتح أبواب الثانويات للجميع إلا بعد صدور قرار 1944. فمنذ ذلك الحين أصبح النظام الإنجليزي التربوي يمنح كل أبناء الأمة، بل يلزمهم مواصلة التعليم إلى آخر مراحل التعليم الثانوي وما جاء في القرار. وبعد سن الحادي عشرة التعليم الثانوي على اختلاف شعبة ووحدات مستوياته سيضمن الجميع أبناء الأمة (1).
الواقع أن بريطانيا ما بعد الحربين العالميتين كانت أمام أمرين أحدهما أن تبقى ذات الدولة التقليدية التي تحت سيطرة الطبقة الارستقراطية. أو تختار أن تكون دولة الجميع، يمكن لكل أبنائها على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية المساهمة في الحقوق والواجبات ابتداء من الحق في التعليم الإبتدائي والثانوي لأن تربية الدولة الأرستقراطية لن تكون إلا تربية للنخبة بينما تكون في الدولة الديمقراطية تربية للجميع، لا يحرم من الاستفادة منها أحد من أبناء الأمة يقول: نيقولا هانس إن بريطانيا لا تستطيع إطلاقاً البقاء على ما كانت عليها أحوالها السياسية في عهود ما قبل الحربين العالميتين. ومن ثمة فلم يبق لها إلا السبيل الديمقراطي ومحاولة الاستفادة من كل طاقاتها وإفساحالمجال للتكوين أمام كل أبنائها دون استثناء، لكن الأوضاع الجديدة وإن
الهوامش
(1) Madure, j. stuart, Educational Documents. England and wales. 1816, 1968. London Education paper Zehs. P 207.
الصفحة 237
ساعدت على ظهور أهمية جهود القاعدة في الحياة الاقتصادية والسياسية وقدرة استقطابها من طرف حزب العمل فإن المحافظين وفي طليعتهم الحزب الذي يمثلهم، ما يزالون يتمتعون بنفوذ اقتصادي وسياسي ملحوظين.
هنا يتبين أن يربطانيا ما بعد الحربين العالميتين يتصدرها حزبان كلاهما يتمتع بقدرة انتخابية هائلة حزب المحافظين وحزب العمال، لكن الصراع بينهما لم يكن بالحدة التي يوجد عليها الاتجاه اليساري الفرنسي واليميني، لأن حزب العمال وإن يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، شأنه شأن الأحزاب السياسية، لكنه يريد أن يحقق ذلك عن طريق التطور التدريجي فهو في ذلك لا يقبل فكرة الثورة وهذا ما جعل الصراع بينه وبين منافسه الأكبر حزب المحافظين من الحدة بمكان، مع أن المحافظين يميلون إلى تربية النخية بقدر ما يميل العماليون إلى تربية القاعدة والعدالة الاجتماعية، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تتحق في رأيهم إلا بواسطة التربية التي بنيت على أساس تحقيق التكافل الاجتماعي. ولهذا الغرض تبني حزب العمال فكرة المدرسة الشاملة، في حين يتشدد حزب المحافظين في أمر التوعية وضرورة تكوين النخبة والعمل بجد من أجل المحافظة على المؤسسات التربوية ذات السمعة كأكسفورد، وكمبريج
وفي ضوء هذا الاختلاف تحقق للنظام التربوي البريطاني ما كان له أثره في إثراء التربية وتحدد في التعليم الإلزامي حتى شمل كل المراحل الابتدائية والثانوية وحقق إلى جانب الحفاظ على المدارس الخاصة التي تخرج النخبة مؤسسات تربوية للقاعدة، حيث يضمن فيها التعليم المجاني، ولكن التفاوت الطبقي ما يزال فارضاً نفسه، والنزعة الانتقائية الممعنة في التشديد وخاصة في التعليم العالي ما تزال سائرة المفعول، ولكن هذا لا ينقص من قيمة التجربة البريطانية في الإصلاح التربوي ولا من أهمية التطور الذي شهده النظام التربوي الإنجليزي الحديث
وبناء على ذلك نستنتج ما يلي:
إن طرح قضية ديمقراطية التعليم في كل من فرنسا وبريطانيا إن كان
الصفحة 238
المقصود به تحقيق المجتمع الديمقراطي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وصناعياً في إطار دولة الرفاهية والاستقرار، فإن رجاحة المبدأ وعدالته وأخلاقياته لم تمنع من التعثر والتردد والتأخر إلى عهود قريبة، ليصبح سائر المفعول كما هو الحال في هذين البلدين، بالإضافة إلى الصعوبات التي واجهته على مستوى تبنيه والعمل به، والسبب في ذلك أن تبني المبدأ يستلزم رؤية شاملة للمتحول الاجتماعي، كما يطرح مجموعة من المشكلات نوجزها فيما يلي
1-إ ن العمل بديمقراطية التعليم من حيث هي تكافؤ للفرص في فرنسا استلزم مجانيته وإلزاميته وعلمانيته للأسباب التي ذكرت تتعلق بطبيعة الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي الفرنسي.
2- من أجل أن يجتمع أبناء الديانات والطوائف والمذاهب المختلفة في مدرسة واحدة اضطرت فرنسا إلى علمانية التعليم في حين أن بريطانيا ذات المذهب الواحد هو المذهب الإنجلوكان فإن التعليم فيها وإن طبقت فيه ديمقراطية التعليم إلى المستوى الثانوي يتبنى دين الأغلبية على أنه يحترم ديانة الأقليات التي ضمنت لها هي الأخرى شروط وحقوق وممارسة دينها، وهذا مما ید. دلالة واضحة على عدم وجود الحاجة إلى علمانية التعليم في المجتمعات التي لا تتعدد دياناتها .
3- إن الإصلاحات التي عرفها كل من النظام الفرنسي والبريطاني كانت دائماً في ضوء الأصول الاجتماعية الثابتة والقضايا المستجدة المواكبة التطور الصناعي والتكنولوجي الحضاري دون أن يكون ذلك التطور على حساب شخصية الأمة وقيمها الأصولية الثابتة أو بتعبير آخر فإن المحاولات الإصلاحية كانت تتمتع بيقظة ممتازة، ومن دلائل ذلك أن العلماء والمربين في البلدين كانوا هم أهل المبادرة الإصلاحية، وكان رجال السياسة من ورائهم تابعين مدعمين ومساندين.
4 كل الإصلاحات التربوية بدأت من منطلقها الأيديولوجي والفكري إلى التشريعي فالسياسي.
الصفحة 239
5 التوفيق بين حاجة القاعدة الشعبية إلى العدالة الاجتماعية وحاجة البلاد إلى النخبة نشأ عن ذلك ظهور التوفيق بين الكم والنوع حتى لا يكون الأول على حساب الثاني وكذلك لا يكون العكس.
6- اعتبار الإصلاح التربوي أهم عامل للإصلاح الاجتماعي وأهم وسيلة لتحقيقه على أسلم الوجوه وأصحها.
7 ربطا المدرسة بالمجتمع والحضارة، الأمر الذي جعل النظام التربوي يغطي كل حاجات الأمة والدولة في مختلف مجالات التكوين وحقق الاستقلال التربوي، بحيث لا تحتاج بريطانيا ولا فرنسا إلى دولة أخرى لتكون إطرها العلمية أو التقنية، بل كل الشعب والميادين التعليمية والعلمية والمستويات متوفرة، وهو ما حقق لكل منهما استقلالاً فكرياً وثقافياً وحضارياً .
8 تطوير النظامين لم يكن على حساب التاريخ ولا على حساب القديم، بحيث حافظوا على القديم الصالح وأضافوا إليه الجديد النافع فحافظوا بذلك على كل مصالحهم القديمة والحديثة دون تعارض أو تناقض .
9- إن الإصلاحات المختلفة والمحاولات التي ظهرت في تاريخ التربية من أجل الإصلاح التربوي في مختلف العهود في فرنسا وبريطانيا استفادت من بعضها، وتكاملت في منحاها، وقلما تعارضت أو لم تؤخذ بعين الاعتبار.
وإذا كانت بريطانيا وفرنسا من أكبر الدول المستعمرة التي كان السياستها التربوية أثر كبير في الشعوب المستعمرة فإن السياسة التربوية التي شكلها الإنجليز والفرنسيون في غير بلادهم، فهي وإن حملت طابع تربيتها العام فهي سياسة استعمارية بحتة تختلف في أغراضها وأهدافها وفي الكثير من مسائلها عن السياسة التربوية في البلاد الأم.
ومن ثمة فإن ديمقراطية التعليم في البلاد المستعمرة لم تتجاوز حدود التعليم الإبتدائي والعمل على وجود كفاءات متوسطة من أهل البلد لتوظيفهم في الوظائف الأهلية الضرورية في بعض الإدارات والشرطة والجيش. بالإضافة إلى نشر ثقافتهم عن طريق تعليم لغتهم وإيجاد جيل مخضرم لا هو أصيل في
الصفحة 240
إسلامه ولا هو متمكن مما انتحل من حضارة المستعمر، لأن التربية الحرة التي جد الفرنسيون والإنجليز وغيرهم من الأمم الحرة من أجل تطويرها وإثرائها وحسن توظيفها قصد البناء الاقتصادي والحضاري ؛ غير التربية الاستعمارية التي وضعوها للشعوب المستعمرة لتزداد ارتباطاً بها وخضوعاً وتبعية إذا كانت التربية الحرة استعملت من أجل البناء كما استعملت التربية الاستعمارية للهدم هدم الحضارة المغزوة وخاصة الحضارة الإسلامية .
ومن هنا يتيين البون الشاسع بين التربيتين التربية الحرة والتربية الاستعمارية ويخطيء الكثير الذين اغتروا بالشكل، لأن شكلها واحد ومظهرهما واحد ولغتهما واحدة، لكن المحتوى والمقاصد مختلفة تماماً، والذين لم يدركوا الاختلاف الجوهري اعتدوا للمظهر وتبنوا التربية الاستعمارية بدون أدنى تحفظ في العالم الإسلامي.
ومن هنا بدأت المأساة في العالم الإسلامي: إنه تبني المدرسة التي كانت سليلة المدرسة الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الإيطالية الاستعمارية التي است على مفاهيم وقيم أبعد ما تكون عن القيم الإسلامية الأصلية وللحرية والعدل وعن المنظومة التربوية الإسلامية الأصيلة، بل تبنوها وهي تتضح بثقافة الغرب وما فيها من خلاعة وانحلال وعلمانية وتغريب.
الصفحة 241
ديمقراطية التعليم في البلاد الإسلامية
لقد بات من المؤكد أن جميع أمم العالم اليوم تشهد إقبالاً على التعليم لم تعرفه من قبل وإن الأهمية التي صارت للتربية لم تكتسبها من قبل وصارت حظوظ الأمة في الحضارة نقاس بالمقدار الذي تمنحه الجميع أفرادها من الرعاية والعناية والتكوين والخبرات مما جعل أخطر أنواع التفاوت بينها هو التفاوت في الخطوة التربوية.
إن الفجوة التي صارت تفصل بين الأمم التكنولوجية والأمم الهامشية السحيقة وجد واسعة، فبينما تتطور الأولى بسرعة الصاروخ تتطور الثانية بسرعة الجمل، ولعل الوسيلة الوحيدة التي بواسطتها تنشط الفعاليات وتوظف الطاقات وتنظم وتتطور الإمكانات هي التربية؛ فالواقع المر الذي يعرفه العالم اليوم في وضعه على أسس سياسية واقتصادية مفادها أن الأقوياء تنمو قوتهم على حساب الضعفاء ويزداد الضعفاء ضعفاً على قدر ما يزيد الأقوياء قوة. وهذا ما يجعل ثروات العالم من سهم الأقوياء ويحرم من الانتفاع بها أغلب الضعفاء فالظلم الإمبريالي صار يشكل أفظع أنواع الظلم الذي عرفته البشرية حتى الآن. لأن استغلال ثروات العالم من طرف واحد جعل الأمم الضعيفة في حرمان جردها من الفعاليات وأفرغها من الطاقات وركنها إلى الحياة الهامشية خارج الحضارة وهذا الحكم القاسي والوضع الجائر لا يسمح أبدأ بوجود عالم أمن وسلام وطمأنينه واستقرار، فالجور والحرب مرتبطان ارتباط النتيجة بالمقدمة. فكلما كان الحيف كان بجانبه خطر الحرب وخاصة أن الحروب اليوم أصبحت أخطر على الأقوياء منها على الضعفاء لأن وسائل الدمار قد حشدت في قلب الأقطار الغنية التي تخاف على ضياع مكاسبها وفقد مركزها الاستراتيجي في العالم.
الصفحة 242
ومن هنا يبدأ التناقض ويتجاوز حدوده، وصار خطراً ليس كما كان على الضعفاء فقط بل صار أيضاً يشكل خطراً أدهى وأمر على الأقوياء أنفسهم وليس أدل على ذلك من شعور أوروبا مهد الحضارة المعاصرة بعجزها عن مواجهة الخطر النووي الروسي وحاجتها إلى المظلة النووية الأمريكية وتوزيع صواريخ والبار شنغ على أهم القواعد الاستيراتيجية في مختلف أنحاء أوربا الغربية .
فالنضج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي أو الحضاري برمته والعدل الكامل هو الحل الأسلم المعضلة هذا العالم الذي أصبح قائما على بركان نووي إذا تفجر قضى على الأخضر واليابس، وفتك بالقوي والضعيف، إن النضج الحضاري يقضي بالاعتدال والتوسط في الأمر ونشدان الهدى في التصورات والمفاهيم والعقائد والقيم والعودة إلى الصواب والحق والعدل حيث يكون العالم عالم الجميع وثروته للجميع وحضارة تحمي الجميع وترعاه دون ميز عنصري أو عرقي أو طبقي يقول رسول الله ﷺ: كلكم لأدم وآدم من تراب. فلا بد أن يأتي اليوم الذي يكون فيه العالم للإنسان كيف ما كان لونه و عنصره أو قطره، وتتحقق فيه عدالة الله أو تأكل الحضارة الطاغية العالم فتهدم نفسها بنفسها .
معنى هذا أن الوعي الإنساني الذي لم تحققه بعد الحضارة مرتبط بالوعي التربوي وكذلك العكس. لقد انتهى ذلك العهد الذي كانت فيه التربية وسيلة للخلاص كما كان الشأن في التربية الكنيسية في القرون الوسطى وتربية الإنسان الطبيعي الذي يخدم شهواته ويركز على إشباع رغباته كما هو الشأن عند روسو و داروين وفريد، وانقضى العهد الذي ترعى فيه التربية الفرد القوي الذي تتألف منه دولة الأقوياء النخبة التي توجه الأمة إلى خوض غمار الصراع من أجل نهب القسط الأوفر من ثروات الآخرين في عالم الصراع. وكذلك انتهى عهد التربية التي تعمل على جعل الشعوب أكثر قابلية وخضوع وتبعية للأقوياء والرضا بالضعف والتسليم به كأمر واقع وطبيعي، وكأن الله خلقهم ليكونوا كذلك، وانقضى العصر الذي كانت تمارس فيه التربية كحاجة أو وسيلة
الصفحة 243
الإخضاع الفرد للجماعة ويتم تكيفه الاجتماعي، ويصبح أداة فقط للتمويل الإقتصادي والاجتماعي يخضع للتخطيط الصارم ولمقتضياته، سواء في الكم أو الكيف، عملاً بنظرية (مالتوس) و (كارل ماركس). وتعده لتحقيق القوة والانتصار في حلبة الصراع الطبقي.
فالتربية الحقيقية هي تلك التي تعمل على تكريم الإنسان الواعي المسؤولية استخلافه في الأرض، ليصلح فيها ويعمرها ويقيم عدل الله فيها فتضمن الحقوق والواجبات وتؤمن الحريات.
والتربية الذاتية هي التي تقوم على الوعي والحرية والاستقامة والهدى والصدق والإخلاص والوفاء للحق والحقيقة في كل مجالات الفكر والعمل. إن العالم الحديث إذ هو في حاجة إلى منقذ من الأزمة هو في حاجة إلى التخلص من التربية الحديثة التي أفدت فطرة الإنسان ووسيلته وإرادته وإذابت ضميره مقابل إشباع مفرط لرغباته وشهواته .
إن التربية التي تقوم على أساس الوعي الإنساني في معناه العميق، هي التي تعمل على تحقيق سعادته الباطنية النفسية والروحية وإعطاء نفس جديد للحضارة التي صارت أحوج ما تكون إلى الشحنة الروحية التي تزرع فيها الحياة وتعيد لها حال الاعتدال والعدل والحق والخير والجمال.
إن تقارير اليونيسكو تفيد أن انتشار التعليم يكاد يكون عاماً في كل الأقطار الإسلامية وخاصة التعليم الإبتدائي والثانوي على أن التعليم العالي ما يزال لم يعط كل حاجات البلاد بحيث أصبح من الملاحظ افتقارها إلى الاستعانة بالنظم التربوية الأجنبية، وهو ما جعلها تضطر إلى إرسال البعثات الطلابية للحصول على الكفاءات العالية في مختلف ميادين المعرفة والتخصصات التقنية والعلمية وحتى في العلوم والآداب العربية والإسلامية وصار المع مشائخ الأزهر من خريجي الجامعات الغربية
وهذا يفسر أن الجامعات التي شيدت في الأقطار الإسلامية لم تصل بعد إلى استيعاب كل الطلبة وتقديم النوعية المطلوبة لمواجهة التطور التكنولوجي
الصفحة 244
والصناعي العالمي، بالإضافة إلى انخفاض النوعية التي كانت وما تزال تعاني منه أغلب الجامعات في العالم الإسلامي.
كما تفيد هذه التقارير أن السياسات التربوية في دول العالم الإسلامي يلتقي جلها في الأهداف التربوية التالية .
ا تعميم التعليم وتوفيره لكل الأطفال بنين وبنات على أن الزامية التعليم في أكثر أنحاء العالم الإسلامي لم يتجاوز حد التعليم الإبتدائي ..
ب - القضاء على الحرمان الثقافي وتحقيق العدل الاجتماعي .
ج - إعداد الإطارات الإدارية والسياسية والتقنية في إطار النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المسايرة التطور.
د تلقى الآداب الإسلامية وتعليم المباديء الأولية للعقيدة والشريعة والأخلاق الإسلامية .
هـ ـ إضفاء الطابع القومي والوطني وتحقيق الأغراض السياسية الكبرى الأيديولوجية كالحداثة والرخاء والعدل.
و إعداد المعلمين وأساتذة التعليم الإعدادي والثانوي.
ز - محاربة الأمية بواسطة التعليم المعمم وغيره.
خ مركزية التعليم على اختلاف مستوياته وشعبه وإشراف الدولة عليه .
ي - العناية بالتربية الريفية وتطويرها.
ك - تطوير التعليم التقني حتى يكون في مستوى النهضة الصناعة التي تتأهب لها أغلبية البلدان الإسلامية.
ل - تكوين النخبة الممتازة في مختلف الميادين لتغطية حاجة الجامعة والإدارة والدولة إلى أولى الكفاءات الممتازة.
م - توحيد التعليم وتعميمه لمحو الفوارق الجهوية والإقليمية.
الصفحة 245
ن - إنشاء كليات الشريعة وعلوم الدين.
ع - العناية بالكتاتيب القرآنية والزوايا.
ف - القضاء على التعليم الخاص والتخفيف من وطأته عن طريق المراقبة الصارمة لتحقيق التحكم والسيطرة على المراكز الثقافية وتوحيد التوجيه التربوي والأيديولوجي
هذه معظم الأهداف التربوية التي تلتقي عندها السياسة التربوية في العالم الإسلامي كما جاءت في تقارير اليونيسكو والأليسكو
والجدير بالذكر أن وجوه الاتفاق ونقاط الالتقاء أكثر بكثير من حالات الاختلاف وإن وجد اختلاف إنما يكون في الدرجة وليس في الكيف وذلك بحكم الاختلاف النسبي للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولأهمية هذه المحاور ستحاول الوقوف عندها لتوضح أبعادها وأهميتها السائدة وما يمكن أن يكون لها من نتائج على مستوى الأوضاع العامة .
1 تعميم التعليم وضمانه لكل الأطفال والحقيقة أن انتشار المدارس الابتدائية حتى عمت المدن والقرى والأرياف بات أمراً ملحوظاً في أغلب البلاد الإسلامية والإقبال على هذه المدارس أيضاً صار لا يخفي على أحد ومن دلائل ذلك أن الدول العربية والإسلامية على اختلاف اتجاهاتها الأيديولوجية وأنظمتها السياسية صارت تولي التربية اهتماماً خاصاً وليس أدل على اهتمامات الدول ما ترصده من ميزانية تنفقها على التربية ونسبة ميزانية التربية من ميزانية الدولة جد مهمة عند أغلب الدول الإسلامية فالتقارير السنوية التي توجد عند اليونيسكو واليسكو تدل على تزايد هذا الاهتمام مع مر الزمان إذا أخذنا فترة بين سنوات 1997 1998 ، 1999 تبين لنا مقدار ما توليه الدولة من عناية للتربية وفي الجدول القادم يوجد عرض للنفقات العمومية في مجال التربية كما جاءت في تقارير الدول المنخرطة في اليونيسكو.
على أن النسبة التي جاءت في تقارير اليونسكو إذ تبين نسبة ما ترصده الحكومة في معظم أنحاء العالم الإسلامي للتربية بالنسبة إلى الدخل القومي من
الصفحة 246
جهة وما تنفقه الدولة على التربية خاصة بالنسبة إلى ما تنفقه على غيرها من النفقات العمومية، تدل على الاهتمام النسبي بالتربية، هذا أمر أصبح لا شك فيه بل يفسر أن الاهتمام بالتربية بات ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية سيكون لها تأثيرها على كل مجالات التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، وهو ما يفسر هذا الاهتمام بوجود بوادر الوعي والصحوة والنهوض بالأمة من كبوتها ومحاولة انتشالها من الحياة الهامشية الحضارية التاريخية التي حوصرت فيها منذ أمد بعيد، كما يفسر أيضاً بإدراك الدول لحاجتها وحاجة شعوبها إلى الكفاءات العليا التي تمكنهم من الاستفادة من الحضارة هذا من جهة، وحاجة العالم الإسلامي إلى الاستفادة من ثروته الطبيعية التي تزخر بها بلاده المترامية الأطراف من جهة أخرى.
فإذا ما قيس العالم الإسلامي بثروته الطبيعية يعد من أغنى أنحاء العالم ، لكن إذا ما قيس بمستوى الاستفادة من الثروة يعد من أفقر بلاد العالم فالتباين الموجود بينه وبين الأمم المصنعة ما يزال يشكل أبشع حالات التناقض السياسة توزيع الثروة الدولية، وأخطر حالات الحرمان والحيف والظلم بالمعنى الإمبريالي الحديث ومن ثمة فإن الاهتمام بالتربية في هذه الظروف قد يفسر انتباه الشعوب الإسلامية إلى أهمية الإنسان في بناء الحضارة ووعيها، أن المشكلة الرئيسية التي تواجهها هي مشكلة الإنسان فكرته وعقيدته وخبرته وفعاليته. إن إنسان اليوم هو إنسان المشكل وحتى يتحول إلى إنسان الحل لا بد من إصلاحتربوي جذري للمنظومات التربوية كي تكون في مستوى إعداد إنسان الحل إنسان الإيمان والتقوى والعلم والتقنية إنسان الفعالية بمعناها الحضاري الشامل والعميق .
إلا أن التخلف الذي تشهده كل الدول في العالم الإسلامي في المجال التكنولوجي والعلمي تخلف ملحوظ سواء في التكوين أو التعليم أو في التربية فضلا من التسيير والتوجيه في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهذا أهم دليل على قصور النظم التربوية وعجزها وتخلفها .
الصفحة 247
أما أسباب ذلك فكثيرة نجملها فيما يلي
1- ضعف المحتوى التربوي وعجز المناهج التربوية على مواكبة التطور العلمي والتقني وغيرهما اللذان يشهدهما العالم المعاصر.
2- تخلف طرق التربية وعدم النجاح في إصلاحها ورفع مستوى فعاليتها وضمان سلامة منهجها ووضوح أهدافها.
3- انخفاض مستوى خبرة المعلم الإبتدائي والثانوي والعالي وذلك إذا ما قيس بالمستويات التي حصلت عليها النظم التربوية في الأمم المتفوقة .
4- عدم جدية الإشراف الفني والإداري ..
5- وضع المعلمين المادي والاجتماعي والأدبي.
6- شكلية الامتحانات وعدم تركيزها على الخبرات النوعية التي تزود الخريجين بأعلى الفعاليات وإمكانات النجاح في الحياة العلمية والعملية وعموماً مما جعل البطالة تهدد كثيراً من الخريجين في وقت فيه الأمة أحوج ما تكون إلى أولى الخبرات العالية والكفاءات المختلفة.
7- عدم التنسيق الجيد بين متطلبات الظروف الحضارية التي تواجه المتخرج فور اندماجه في الحياة العملية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وما يحصل عليه في المؤسسات التربوية.
8 طغيان الحياة العامة والذهنيات السائدة على المنظومة التربوية ؛ فإذا كان الناس ينشدون حاجاتهم ويحصلون على الكثير منها بدون جهد وبأيسر المحاولات فإنهم يميلون إلى السهولة والارتخاء وطلب العلم والحصول على الخبرات الراقية لا تكون إلا بالجهد الشاق المستمر، وإذا كانت البيئة العامة السائدة تغلب عليها حياة السهولة فإن هذه الحياة لها انعكاسات على الحياة التربوية، فالكسل التربوي الذي يتعلمه التلاميذ في المدارس الإبتدائية ويتعودون عليه في مختلف مراحل نموهم لبعد من أخطر السلبيات التي تتصف بها المدارس والمؤسسات التربوية الحديثة، فالجدية في العمل التربوي تعود التلاميذ على بذل
الصفحة 248
الجهد وتساعدهم على نبذ الكسل والنفور من حياة الارتخاء والسهولة. إن ما تعلمه لأطفالنا من السلبيات لأكثر بكثير من الإيجابيات التي نعودهم عليها. ولعل من أهم عوامل هذا الارتخاء عدم وجود الحوافز أو ضعفها، لأن الحافز التربوي مرتبط بالحافز الحضاري العام.
وإذا كان الحافز الحضاري مرتبطاً بالوعي الحضاري فإن انعدام الثاني ينتج عنه بالضرورة انعدام الأول. وهذا يرجع إلى مشكلة فلسفة التربية، لأن الأمة إن وعت أن المشكلة التربوية تواجهها على مستوى حاجاتها الضرورية الاستهلاكية للمنتوج الحضاري فإنها لم تع بعد أن المشكلة التربوية، تواجهها على مستوى حضاري أي كأمة ذات حضارة ورسالة ودعوة ومهمة في التاريخ ومن ثمة فالحافز العقائدي الإيماني يعد من أهم الحوافز الضرورية للنهضة.
إن التكافل الاجتماعي مبدأ إسلامي أصيل أصبح من أهم أغراض السياسة التربوية للقضاء على ما يسمى بالتفاوت الاجتماعي الذي بات تعاني منه المجتمعات الحديثة، لأن وجود فئة محرومة بينما تتمتع الأخرى بكامل حقوقها وحظوظها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمر يرفضه الإسلام لأن الأمي لا يستطيع أن يتمتع بحقوق المواطنة يحكم عجزه وقصوره الثقافي فضلا عن ما تتطلبه عقيدته وشريعته ورسالته والدعوة إلى الله من علم وقناعة ومناعة وحرية ..
فالحرمان الثقافي يترتب عليه حتماً الحرمان الاقتصادي والسياسي والحضاري والتاريخي ، لأن من يعيش على هامش الأحداث لا حظ له في التاريخ فالدراسات الاجتماعية الجادة كشفت على أن من أهم أسباب التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري الحرمان من التربية، ولذلك فإن التربية في رأيهم هي الوسيلة الأساسية للقضاء على التفاوت الاجتماعي، على أن التفاوت الطبقي الذي يعرفه الغرب راجع إلى أيديولوجيته السياسية ونظمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فهو من سمات المجتمع الغربي وحده ومن سار على منواله وانتحل أيديولوجياته من شعوب العالم. أما المجتمع الإسلامي كما رسم مبادئه القرآن الكريم والسنة فهو أبعد ما يكون عن هذه المعضلات ولكن بعد غزو المفاهيم الغربية والقيم والأيديولوجيات جاء معها الظلم والحيف
الصفحة 249
والتفاوت الطبقي وغيره فالتعليم للجميع ليس قضية مستحدثة في الأمة الإسلامية بل المستحدث فيها هو الأمية والجهل والظلم وما تتصف به الأمة من السلبيات التي علقت بها نتيجة للسياسة الاستعمارية التي تعرضت لها بالإضافة إلى ظروف الانحطاط والتخلف والتبعية فتعقد الأمور في الدولة الحديثة بحكم التعقد المتزايد للحضارة التكنولوجية جعل من الخبرات العالية والكفاءات الممتازة المختلفة شروطاً ضرورة للإزدهار الإجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والحضاري ويقدرهما تتحدد مكانة الفرد في المجتمع والدولة كما تتحدد مكانة الأمة في العالم بين الأمم المعاصرة لها، فالتفوق المطلوب في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية صار قضية مطروحة على عدة مستويات ابتداء من الأسرة فإلى الدولة والكتلة الدولية على مستوى الصراع الحضاري الدولي العالمي فالسباق التكنولوجي القائم على أشده بين الأمم وما له من أبعاد أيديولوجية وعقائدية وأغراض حضارية بانت من مقتضيات توسع دائرة التعليم في الأمة لتوسيع القاعدة الإصلاحية وتحقيق نمو الخبرات المختلفة اللازمة لتحقيق التفوق بكل معانيه وأبعاده.
لقد انتهى ذلك العهد الذي كان يقدر فيه المرء بحسبه ونسبه وعراقة أسرته بل صارت تقدر قيمة المرء بما حصل عليه من تقوى وطاعة الله ورسوله، وما يتقنه من علوم وفنون ومعارف وخبرات راقية، وقيمة المرء ما يتقنه من أعمال ويقوم به من مهام في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والحضارية، بل يمكن أن تذهب إلى أبعد من ذلك إذا ما اعتبرنا الفجوة السحيقة الموجودة اليوم بين الأمم المستغلة والأمم المستغلة وهو ما يسمونه بالأمم النامية والأمم التي هي في طريق النمو أو والمتخلفة لو وجدنا من عواقب عدم القدرة على توظيف ثروات البلاد الطبيعية وعدم استغلالها لبناء اقتصادها وحضارتها، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى ما تعانيه من أمية مستفحلة وثقافة شكلية وخبرات بسيطة محدودة، وعدم قناعة إيمانية عميقة وميوعة أخلاقية خطيرة وبلبلة فكرية رهيبة؛ فهذه الحالات المذكورة وغيرها تعطي السياسة التعليمية مفاهيم عملية خطيرة وهو ما جعلها تفقد مبرراتها في العالم الإسلامي وتعجز عن اتخاذ المدرسة وسيلة للقضاء على الفوارق
الصفحة 250
الجهوية وغيرها وتحقيق التكافل الاجتماعي والنهوض الحضاري
أما المدارس التبشيرية فهي أبعد ما تكون عن هذه المقاصد كالمعاهد التي هي بصدد الانتشار في أفريقيا وآسيا والتي تحت إشراف المبشرين المنصرين)، فهي إذ تستغل تعطش الناس إلى التعليم وإدراكهم لحاجتهم إليه تريد وراء ذلك مواصلة الحملة والغارة على الإسلام وسد الطريق أمام انتشاره والدليل على ذلك ما جاء في التحقيقات الأخيرة من تقهقر نسبة المسلمين في كثير من الأقطار الأفريقية والأسيوية، أن المؤسسات التربوية الكنسية كانت وما تزال تشكل أخطر سلاح وجه للإسلام حتى اليوم .
فسياسة الكنيسة التربوية سياسة تنصرية استعمارية خبيثة تعمل على إعداد أبناء الإسلام لمحاربة الإسلام والمسلمين، وقد يكونون أشد على الإسلام والمسلمين من غيرهم، وإن ما يعانيه الإسلام من أبناء المسلمين لأخطر بكثير مما يعانيه من أعدائه التقليدين المعروفين معنى هذا أن الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان والتي يولد عليها لهي تقربه إلى ما في الإسلام من حق وصواب وصدق وخير وإيمان وبر وتقى، ولكن التربية السيئة هي التي تحوله إلى النفور منه ومن شرعته ومنهجه ومن قيمه، بل قد يصبح عدوا لدود أو خصما عنيداً. أما إذا أصلحت تربيته واستقامت سجيته صلح هو الآخر واستقام عوده وسلم طبعه وسار على الدين الحنيف دون عناء أو تكلف.
ج إعداد الإطارات التقنية والإدارية والسياسية والاقتصادية اتخذت هدفاً من أهداف التربية حسب السياسة التربوية في أغلب أنحاء البلاد الإسلامية لأن هذه الدول انتبهت إلى أهمية النوعية وحاجتها للنخبة من الكفاءات والخبرات العالية فتعقد الأمور المتزايد مع تعقد الحضارة من جهة وتطور أحداث التاريخ وميادين الصراع الدولي والحضاري من جهة أخرى زاد في فرض مشكلة النخبة عند كل الأمم في العالم الحديث، فالبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي يتوقف على هذه النوعية الممتازة من الناس أكثر مما يتوقف على الشروط المادية .
الصفحة 251
ومن ثمة صارت الشعوب الإسلامية وحكوماتها تواجه مشكلة التربية كحاجة ضرورية لكل أفرادها كل حسب قدراته واستعدادته كتربية قاعدية من ناحية وتربية نوعية راقية تناسب حاجة النخبة الممتازة التي يتمتع أفرادها بالقدرة على اكتساب أرقى الخبرات وأعلى مراتب العلم من ناحية أخرى.
والحقيقة أن مشكلة تربية القاعدة وتربية النخبة إن طرحت كمشكلة أمام المربين في العالم الإسلامي فقد طرحت أيضاً على المربين في غيره على أن طريقة طرحها ليست واحدة بالمرة ففي حين كان ظهورها في الدول الغربية والشرقية الحديثة كمشكلة لها علاقة مباشرة بالصراع الطبقي قد يتبناه أصحاب الطبقة الثرية كما هو الشأن في بريطانيا وفرنسا وأمريكيا وألمانيا الغربية وإيطاليا وإسبانيا وغيرها كسياسة تربوية تخدم بالدرجة الأولى الطبقة الرأسمالية على حساب تربية القاعدة، فإن طرحها في الشعوب الإسلامية كان على مستوى حاجة الأمة الإسلامية إلى أولى الخبرات الراقية التي تواكب بها التطور الحضاري العالمي فالمصلحة التربوية في المجتمعات الغربية والشرقية التي هي مجتمعات الصراع الطبقي مصلحة متعارضة متناقضة مما جعلها موضوع نزاع ، بل هي محور من أهم محاور الصراع الطبقي في هذه المجتمعات كما بين العرض السابق السياسة التربية في كل من بريطانيا وفرنسا، وحتى مفهوم النخبة كان يكتسي صبغة هذا الصراع.
والجدير بالذكر أن هذا بعيد كل البعد عن المجتمعات الإسلامية التي تواجهها مشكلة النخبة، كحاجة للصراع أمام التحدي العالمي الذي تواجهه الأمة الإسلامية، فالعلماء الذين تنشدهم الأمة هم الذين يأتون على غرار أسلافهم الذين كانوا أشد غيرة على دينهم وشريعتهم وأخلاقهم وقيمهم، حريصين على إنقاذ أمتهم من ماهي فيه من التردي والتخلف والقهر الاستعماري والأمبريالي والحضاري.
والحقيقة أن مفهوم النخبة هو الآخر عرف تطوراً كبيراً في المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء، وذلك يرجع إلى تطور المفاهيم الإقتصادية والسياسية .
الصفحة 252
حتى أن مفهوم النخية كما جاء في الدراسات السياسية والاجتماعية لقد حدد في ضوء الصراع الطبقي الذي تعيشه المجتمعات الغربية والشرقية فبالنسبة إلى الارستقراطيين الأنجليز والنبلاء الفرنسيين والأغنياء الأمريكان والألمان فيربطون النخبة بعراقة الأسرة ونيلها ومكانتها الاجتماعية، وعلى هذا الأساس برروا احتكارهم للمؤسسات التربوية ذات الشهرة العالمية والسمعة العالية وهو ما جعل الانتساب إليها عسيراً لأسباب أهمها كلفة التسجيل الباهظة الثمن التي لا يقدر عليها إلا الأغنياء، أما أبناء الأسرة العريقة فيكفي أن المترشح يكتب اسمه على ورقة الامتحان فيغنيه ذلك عن كل شيء فيضمن ه اسم عائلته الدخول بدون أية صعوبة، يقول تشرشل: بينما كنت على طاولة امتحان الدخول حاولت أن أكتب شيئاً حول الموضوع المطروح لاختيار المترشحين، لكن لا أفهمه ولم أضع شيئاً على ورقة الامتحان التي كانت أمامي غير اسمي ولقبي على أن عدم كتابتي للموضوع لم يحل دون دخولي للمؤسسة، لأن العبرة بالنسبة إلى هذا النموذج من المؤسسات البريطانية ليست بالكفاءة بقدر ما هي بعراقة الأسرة ونبلها؛ كأن مصير الأمة مرتبط فقط بأبناء هذه الأسرة العريقة دون غيرهم، لكن هذا الزعم كذبته الظروف القاسية التي مرت بها بريطانيا، التي أثبتت أن مصيرها مرتبط ومتوقف على كل أبنائها دون استثناء، وهذا ما جاء في المسودة التاريخية للمنظومة التربوية التي أعدت القرار ديمقراطية التعليم الثانوي1944.
والأمر نفسه حدث لفرنسا وأمريكا وغيرها ونتيجة لذلك التغير للقيم الاجتماعية تغير مفهوم النخبة عند علماء الاجتماع وفلاسفة الفكر السياسي والاقتصادي المحدثين وحلت الجدارة العلمية والكفاءة محل العراقة والطبقة مما في ذلك ما جاء عند باريطو في مفهوم النخبة فهى عنده تتكون من أولى الكفاءات والقدرات والاستعدادات الممتازة المتفوقة في أي مجال من مجالات التسيير والأعمال، وتتجلى في أصحاب القيادة السياسية والعسكرية، وهي عنده تتحلى بالصفات النوعية التي لا علاقة لها بالعرقية والطبقية، على أن هذا المفهوم الجديد للنخبة عند بريطو يتميز بتجريد النخبة من الادعاء العرقي العنصري
الصفحة 253
لأن القدرات العقلية الموروثة لا يمكن ادعاء حصارها في أصل أو عنصر أو طبقة، ويؤيد هذا الرأي ما ذهب إليه علماء النفس، فلقد نفوا هم الآخرون نسبة الذكاء إلى العنصر والعرقية والطبقية غير أن هذا المفهوم يطرح من جديد قضية النخبة من حيث هي قضية تربوية اجتماعية سياسية. أما من حيث هي تربوية فتثير حق الفطرة السليمة في التربية السليمة التي تساعد قدراتها على الظهور والتفوق، وهذا الحق إن كان يتمتع به إلى حد الاحتكار أبناء الأغنياء والنبلاء، فإن أبناء الشعب الفقراء كانوا وما يزالون محرومين منه، ومن ثمة تعد قضية إعداد النخبة مشكلة اجتماعية، أما من حيث هي مفهوم سياسي و اقتصادي فيتحدد في ضوء ذلك أهمية عناصر النخبة السياسية والاقتصادية لأن القضايا الاقتصادية ما تزال تزداد تعقيداً كلما زادت الحضارات تطوراً وزادت التكنولوجيات تعقيداً هي الأخرى.
ومن هذه الوجوه وغيرها تطرح قضية النخبة على الأمة الإسلامية، لأن النظام التربوي الذي لا يستطيع أن يؤمن للأمة هذه الحاجة الضرورية للنهوض والبناء الحضاري بكل أبعاده نظام قاصر، والجدير بالذكر أن علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وغيرهما قد أعطوا المفهوم النخبة مفهوماً أشمل وأعمق بكثير ومما جاء عند غيرهم
هذا وأن النظم الأجنبية لا يمكن أن يعول عليها في هذا المضمار الأسباب كثيرة منها :
أ - قدرة المجتمعات الصناعية على كسب هذه العناصر من أبناء البلاد الإسلامية وجلبها برفاهيتها، ولسعة مجال الحريات بها وسهولة العيش وحسن المعاملة والاحترام بين أهلها.
ب - ضعف المجتمعات في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية وفقرها الحضاري وسوء معاملة هؤلاء الممتازين ونظرة العداء والبغضاء لهم. كل هذه الأسباب ساعدت على تغير هؤلاء وهروبهم إلى حيث يجدون حسن الاستقبال وجودة التوظيف ومجال العمل الجاد والميادين التي تترعرع فيه عبقريتهم وتزداد قوة وفعاليه .
الصفحة 254
ج - التوجيه الثقافي والعقائدي والأيديولوجي والاجتماعي الذي كثيراً ما لا يليق بنخبة أصيلة متشبعة بقيم الإسلام وعقيدته ووعي لرسالته والمتحمس الدعوته، فهذه النوعية لا يمكن أن تكون إلا في البيئة الطاهرة النقية السليمة التربيتها الأصيلة وقيمها ومبادئها وثقافتها.
د إن المواهب والعبقريات تنمو وتظهر في ثقافة الأمة وحضارتها، فإذا ما فقدت الثقافة المحتوى الثري وضيعت الحضارة قدرتها على التجدد والشمول والازدهار ماتت وبعد ظهور العبقرية في هذا الموات الحضاري أمراً مستحيلاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه .
وإذا كانت البيئة في تفتيق الذكاء وإبراز المواهب ونمو القدرات لم تعد موضوع نقاش عند المربين وغيرهم فإن تربية النخبة تطرح مشكلة التكاليف الباهظة وما تتطلبه من إمكانات مختلفة ومن ثمة فإذا كانت هذه الأخيرة محدودة مهما كانت استعدادت الدولة، فإنها لا تستطيع أن توفر هذه الشروط لكل المواطنين. وإذا كانت لا بد من تربية النخبة لأن الدولة والأمة يفتقران إليها بالضرورة، فإن تخصيص النخبة من فئة معينة أو طائفة أو طبقة بعد حرماناً صريحاً للفئات الأخرى وباقي الطبقات، وهذا هو الإشكال الذي حدث في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وغيرها : قديمقراطية التعليم كانت في رأيهم وما تزال هي الحل الأوحد حتى الآن للقضاء على الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي كما بينا .
أما بالنسبة إلى الأمة الإسلامية فإن مسألة النخبة تطرح بشكل مغاير تماماً إذ تواجهها على مستوى الحرمان الذي بانت تعاني منذ أن عرفت الاحتلال فالمؤسسات التربوية كانت تتخرج منها نخبة العلماء من أبناء الأمة بقطع النظر عن فقرهم أو غنائهم وسمعتهم أو عدمها، أما أنها قد أخليت من العلماء وطلاب العلم كما حدث لكثير من الجوامع في تركيا والجزائر وغيرهما ضعفت عن تكوين النخبة التي كانت تكونها في الماضي واقتصرت الإصلاحات التربوية على تعميم التعليم وبقيت المؤسسات تعاني من الضغط والإنزواء كما حدث للأزهر والزيتونة والقراوين وجامع دمشق إن افتقار الأمة الإسلامية إلى الإصلاحالجذري في هذه العهود الأخيرة بات مخيفاً يهدد بدوام الانحطاط في وقت تتأهب
الصفحة 255
فيه الأمة إلى الصحوة وينذر بالخراب وهي أحوج ما تكون إلى البناء الحضاري القوي الدعائم. لقد كان لعهود الاستعمار الأثر الكبير في هذا الصدد والوصول بالأمة إلى هذه الحالة من ندرة العلماء فيقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً بنزعه من النفوس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء.
هذا ولقد حذر الرسول من الوقوع في هذه الحالة من التخلف وطغيان الجهل، وذهاب العلم بذهاب أهله، إن أمة الإسلام لهي أحوج الأمم إلى العلماء كي تكون في مستوى رسالتها ودعوتها ومكانتها بين الأمم وهي إذ تتهيأ للانطلاق من جديد ستجد شعورها بالحاجة إلى النخبة ينمو مع نمو وعيها الإسلامي والتربوي والحضاري. أما الإصلاحات التربوية التي حدثت حتى الآن فهي إذا ركزت على القاعدة وتعميم التعليم الإبتدائي والثانوي فإن اهتمامها هذا بالقاعدة كان على حساب النخبة، والسبب في ذلك أن الوعي بالحاجة إلى النخية تأخر ولم يظهر حتى الآن على ساحة الحياة السياسية والاقتصادية التي تهم الحكومات بالدرجة الأولى، أما حاجة الشعوب فلم ينظر إليها بعد بعين الجد ولم يقرأ لها أي حساب بل ظهرت نزعة الخوف من أولى الكفاءات خاصة على الساحة السياسية والاقتصادية ومن نتائج الخوف من النخبة المضايقة عليها وإجبارها على الهجرة إلى الغرب حيث تستغل المواهب ويحترم أصحابها وتوفرت لهم سبل النشاط العبقري والعمل الجاد والبيئة المناسبة للتفوق. إن نسبة النخبة التي توزعت على العالم من أبناء الأمة الإسلامية لها دلالة واضحة على ما لهذه الأمة من إمكانات وطاقات ما تزال تضيعها وهي في أشد الحاجة إليها.
إن ظاهرة بعض النخية ومضايقتها من أجل تهجيرها تدل على تأثير الأجانب على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، والدليل على ذلك أمور منها:
أ - أنه إذا كان من تقاليد الأمة الإسلامية حب علمائها وشدة التعلق بهم والثقة فيهم وطاعتهم، لأنهم من أولي الأمر، فإن ما هو جار اليوم دخيل عليها وغريب عنها، ليس له أي علاقة بقيمها وعاداتها وتقاليدها وطبيعة ثقافتها، وهو
الصفحة 256
ما يحمل إلى القول بأن ما يعانيه العلماء في أغلب الأقطار الإسلامية خارج عن نطاق الأمة.
ب - أن الخسارة المترتبة على هجرة النخبة لا تقدر بثمن. من ذلك افتقارها إلى النخبة الأجنبية ودورها في فرض التبعية النفسية والاقتصادية والثقافية، بالإضافة إلى تغلغل هؤلاء في أعماق الأمة والتدخل في مختلف ميادينها الاقتصادية والثقافية والسياسية حتى العسكرية فضاع السر وفشي وأصبحالأجانب أعلم وأدرى بحالتها من أبنائها وصار مصيرها بين يدي أعدائها.
ج إذا كانت الهجرة غياباً والغياب كالعدم فتعويض النخبة من أبناء الأمة بالأجانب كون عند الأجيال عقدة النقص نحو أنفسهم وأمام الأجانب وصاروا يفهمون أن العبقرية منهم ولهم دون غيرهم وهذه المشاعر النفسية صارت تكون العمق البعيد الأغوار في الحياة النفسية والاجتماعية والثقافية نجم عنه عدم الثقة بالنفس وكون عقدة الاعتماد على الأجانب وصارت مجموعة العقد تشكل أعقد مفهوم للتبعية والولوع بالغالب والميل إلى تقليده ومحاكاته في كل تصرفاته وضروب سلوكه .
وإذا كانت هذه الخسارة الفادحة ليست تشكل خطراً على حرية الأمة واستقلالها الاقتصادي والثقافي والسياسي والتكنولوجي فهي أيضاً على قدر ما تكون خسائر للأمة الإسلامية هي فوائد الخصومها الذين تتعامل معهم بحكم الحاجة وقد قال الشاعر من قبل:
مصائب قوم عند قوم فوائد.
د إن النخبة المهاجرة وهي تعاني من حرمان العيش في وطنها الأصلي وتتجرع مرارة الغربة تترك فراغاً هائلاً في مجالات العمل الجاد المثمر المنتج للحضارة. ومن نتائج ذلك الفراغ الرهيب غلبة المستوى السطحي على الساحة الثقافية العامة والكفاءات البسيطة والثقافة اللفظية الشكلية فقل الإبداع والاختراع ونما العجز على التجديد والتحقيق، فضاع التراث على الأمة وقوت على الأمة فرص الاجتهاد وطغت المشاكل وفقد الجهد الذي يكون في مستوى الحلول
الصفحة 257
اللائقة بالبيئة والمناسبة للأوضاع وأخذت الأزمة في التفاقم والوقت الغالي يفوت ويسير بسرعة أصبح من الصعب التحكم فيها ، لأن سرعة الوقت مرتبطة بسرعة التغير الحضاري وبهذا يكون معلم قياس السرعة هو الصاروخ بدلاً من الحصان بحكم مفهوم السرعة الجديد فالزمن الحضاري التكنولوجي اليوم صار يفوق سرعة الصوت للفعالية سواء أكانت فعالية الهدم أم فعالية البناء وصارت مصائر أمة أو عدة أمم معلقة على دقائق معدودات إذا غفلت غزيت أو هلكت.
فغياب النخبة من الساحة السياسية والاقتصادية والثقافية يشكل ضعفاً خطيراً أمام تفاقم المشكل والأحداث التاريخية الكبرى التي يعيشها العالم فالتحكم في المعضلات والأحداث التاريخية الكبرى التي يعيشها العالم فالتحكم في المعضلات والأحداث يتطلب قدرة ممتازة ونخبة متفوقة تكون في مستوى وعي القضايا وعللها وأسبابها وشروط التحكم فيها والهيمنة عليها .
وإذا فقدت الأمة هذه النخبة فقدت بالضرورة الهيمنة على شؤونها وظروفها وأصبحت في حكم التبعية والانصياع للظروف والأحداث وصارت الأمة لا تقوى على مواجهتها، والدليل على ذلك فإن الأمة الإسلامية اليوم لا تشكو من فقر الطبيعة وضيق أقطارها وإنما تشكو من قلة أو انعدام الرجال الذين يكونون في مستوى الأحداث التاريخية الكبرى، واستغلال ثروتها واستثمارها وتوظيفها في البناء الحضاري المنتظر.
إن انعدام المعاهد العليا في مختلف الفنون والعلوم والتقنيات في جميع أنحاء العالم الإسلامي أو قلة انتشارها أقوى دليل على ضعف الشعور بالحاجة إلى الكفاءات الممتازة، بالإضافة إلى عدم تشجيع الممتازين وإفساح المجال للعمل والبحث والاكتشاف والإصلاح أمامهم وتأمين الحريات والحقوق ليكونوا في مستوى المهام والواجبات والمسؤوليات الكبرى التي تناط بهم. لا شك أن الاضطرابات التي تجتاح العالم الإسلامي وعدم الاستقرار لا تسمح بوجود هذه الشروط الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وهذه أيضا من العوامل التي ما تزال تشجع هجرة العبقريات إلى الأوطان التي هي قادرة على توفير الحد الأدني من هذه الشروط.
الصفحة 258
ومهما يكن فإن حرمان الأمة الإسلامية من نبوغ النخبة ليعد حرماناً من حقها في أن تكون في مستوى عقيدتها ورسالتها ودعوتها بالإضافة إلى حقها في إعداد العدة وتكوين القدرات والمواهب والعبقريات التي تكون في مستوى بناء حضارتها، وهو أيضاً حرمان من حقها في المشاركة في حلية التاريخ التي أخرجت منها منذ أن صارت على الهامش.
فإذا كان للأمة حق في حياة الحرية والاستقلال والكرامة وما يرقي إليه إنسان الحضارة من قيم ودين ورسالة ودعوة وازدهار حياة فإن هذا الحق مرتبط بحقها في الرقي بأبنائها إلى أعلى وأرقى مراحل التكوين والتعليم والتهذيب والتفوق والامتياز
ولكن قيل أن الإصلاحات التي حدثت في هذه العهود المتأخرة في أغلب الأنحاء من العالم إسلامي قد ساعدت على تطور المنظومات التربوية وظهور مؤسسات تربوية جديدة هو بمثابة البدائل التي استحدثت ومن ذلك المدارس والمعاهد والجامعات، ولقد حاولت هذه المؤسسات أن تعمم التعليم وفوائده وبفضلها تقلص حجم الأمية في الملة وظهرت بوادر النهضة الثقافية التربوية ....
الواقع أن ظهور المبادرات الإصلاحية كتلك التي قام بها الخديوي إسماعيل 1864 - 1879 ، ومصطفى كمال أنا تورك 1881 - 1934 ، وغيرهما والتي اجتاحت العالم الإسلامي على أساس الحداثة لا تنكر، فإليها يعود فضل وجود المؤسسات التربوية ذات الطابع الغربي، ونجاح هذه المؤسسات في نشر الثقافة والمعارف على اختلاف ميادينها وخاصة العلوم العصرية والفنون المستحدثة لأن المؤسسات التربوية القديمة صارت بحكم المضايقة التي كانت عليها من المستعمرين وغيرهم والحيلولة دون نموها وانتشارها وتطويرها، صارت عاجزة على استيعاب الأجيال، كما كانت قبل الاحتلال بالإضافة إلى ما تشكوه من جمود المحتوى التربوي الذي صار لا يتجاوز الحفظ الآلي للقرآن الكريم والسنة النبوية والمتون النحوية والفقهية على أن الإصلاحات التي حدثت أن استحدثت الجامعات فقد قضت على الجامع دون أن يكون الجامع مانعاً الوجدوها، واتخاذ إنشاء المدارس الحديثة مبرراً لمنع المعاهد الإسلامية، والزوايا،
الصفحة 259
والكتاتيب القرآنية، مع أن إنشاء المدارس والمعاهد لا يعوقه وجود المؤسسات الإسلامية القديمة؛ بل كان من المفروض أن ينظر إليها من حيث هي مؤسسات تتكامل وتتضامن وتنسق لتؤلف في مجموعها منظومة تربوية واحدة، لأن التنوع ضروري للإثراء الثقافي.
فكلما كان مطلوباً شرعاً وعقلاً كان مطلوباً ضرورة، فكانت الأولى أصلا والثانية فرعاً، فيترتب على ذلك إخضاع الفرع للأصل وليس العكس وهذا يعني أن المدارس والمعاهد والجامعات، لا تأتي لتجابه وتحارب التربية التي هي في الأصل التربية الإسلامية، كالذي حدث في العهد الاستعماري، إن المساجد والجوامع والكتاتيب القرآنية والزوايا والمعاهد مراكز ثقافية لولاها ما حققت شيئاً. ولذلك كان لها شأنها عند الأمة، فالمدارس المستحدثة والمعاهد والجامعات هي مؤسسات تربوية ليست التربية أخرى وأمة أخرى وأجيال أخرى وضع بينها وبين الماضي سد منبع، وحاجز سميك. وهذا ما كان بالضبط يطمح إليه الاستعمار الإنجليزي في مصر والهند وباكستان وغيرها وهو نفس ما كان يسعى إليه الاستعمار الفرنسي في أفريقيا الشمالية والشعوب الفرنكوفونية وسورية ولبنان.
أن النظرة العدائية المؤسسات الأمة التربوية القديمة كانت نظرة معادية للتربية الإسلامية التي كانت هذه المؤسسات على قصورها وضعفها تغذي الأمة الإسلامية، مما كان في أشد الحاجة إليه من العقيدة والشريعة والآداب الإسلامية العالية بالإضافة إلى مختلف المعارف ومجالات الفكر والعلم والأدب والفنون إن هذه المؤسسات هي التي جعلت ثقافة تلك العهود تتضح بالقيم الإسلامية الرفيعة والمفاهيم الإسلامية الأصلية وعلوم القرآن الكريم واللغة العربية وآدابها، والدليل على ذلك أن التكامل والتنوع لا يتعارضات بالمرة وكلاهما لازم للأمة فماذا يمنع لو تركت الجوامع تعمر بمجالس العلم وتنشط في تخريج العلماء النابغين في علوم الدين واللغة والأدب إلى جانب المدارس التي تعلم مختلف العلوم والمعارف وتربي الناشئة على الدين الإسلامي وعقيدته وقيمه وشريعته وعلومه ومعارفه ؟
الصفحة 260
مع العلم أن المؤسسات التربوية الإسلامية القديمة على ما كانت تعانيه من مصاعب كانت جادة في تعليم القرآن الكريم وعلومه والسنة النبوية وتخريج علماء في هذه الميادين مما جعل تعطيلها يكون فراغاً رهيباً وفجوة خطيرة بين الأمة وبين دستورها ومصدر الحكمة والهداية ورمز الرسالة التي بدونه لا يكون للأمة أي معنى لوجودها، وهذا وأن النخبة من العلماء النابهين الذين كانوا يتخرجون من الأزهر وجامع المدينة المنورة وجامع دمشق وقم ولاهور والزينونة والقراوين في سنة لم تخرجهم المعاهد والجامعات المستحدثة منذ ظهورها إلى اليوم، معنى هذا أن ما هدمته هذه الإصلاحات التربوية وقضت عليه من المؤسسات أهم بكثير من الذي بنته أقل ما يلاحظ على هذه الإصلاحات أنها فتحت الباب للغزو الفكري وضيقت الخناق على ظهور النخبة الممتازة في علوم الدين والدنيا وغلبت المستوى السطحي الثقافي على المستوى النوعي الممتاز الجيد.
وهذه أمور تعود في الحقيقة إلى السياسة الاستعمارية العالمية التي تعرضت لها البلاد من الاحتلال وضعت هذه من أجل تضييق الخناق على التربية الإسلامية الحرة حتى لا تتيح ظهور العبقريات فتقلت بذلك الأمة من قبضتهم إن منع التنوع في التربية يكون نظم متحجرة جامدة لا تترك أي مجال للتحرر الثقافي والإبداع الفكري والاختراع العلمي والتقني لذلك يعتبر أخطر الأساليب الاستعمارية للسياسة التربوية التي تعرضت لها البلاد الإسلامية، وإلا فلماذا يسمح في البلاد الغربية للمعاهد الدينية والمدارس والجامعات بالنشاط والعمل بينهما تمنع في أقطارنا الإسلامية بدعوى توحيد التعليم بالإضافة إلى ذلك أن النظرة الضيقة التي كانت عند أصحاب المحاولات الإصلاحية جعلت الأخطاء والسلبيات أكثر بكثير من المحاسن والإيجابيات، وهذا يعود في الحقيقة إلى نزعة التقليد للغرب وشدة الإعجاب به باعتباره المتفوق والغالب والمغلوب مولع باتباع الغالب كما يقول ابن خلدون .
وإلا فما مبرر العلمنة التي فرضت على مؤسساتنا التربوية وما مبرر وجود الاختلاط والسفور وعدم التفكير في مجالات المؤسسات الممتازة لتكوين النخبة في كل مجالات العلوم والفنون والتقنيات ..
الصفحة 261
إن الوضع التربوي الذي نتج عن هذه الإصلاحات يحتاج بالضرورة إلى إعادة النظر بكل جد وحكمة ويقظة وعدل واعتدال وخاصة في النقاط التالية :
ا - إعادة النظر في أهداف التربية من أجل تحقيق وضبط خطة تربوية شاملة متكاملة يبرز فيها الوعي بالحاجة إلى النخبة إلى جانب العناية بالقاعدة دون تعارض ولا تناقض، وهذا يعني الحاجة إلى فلسفة للتربية تكون أكثر شمولية واتساعاً عمت بحيث تستطيع أن تصوغ مفاهيم التربية صياغة أقرب إلى عدل الإسلام واعتداله وشموليته فتبرز فيه هذه الحاجات في إطار منهجي سليم خال من رواسب الفكر الغربي والشرقي على السواء وما تتصف به هذه الرواسب من تناقضات وضعف وظلم وتطرف إن النخبة حاجة ضرورية للأمة فبدونها تبقى عالة على غيرها تابعة تفتقر دائماً إلى الكفاءات الأجنبية وعندئذ لا تجد سبيلا للخروج من حلقة التبعية المفرغة.
ب - إعادة النظر في السياسة التربوية برمتها، ووضع معايير تربوية متكاملة تجعل النوعية في الوحدة والجدة مع الأصالة، والكيفية مع الكمية وتنشد الصواب في كل حال والمصلح في جميع الجوانب والإمكانيات فلا نزهد في قديم صالح ولا في جديد مفيد تأكد نفعه وتبين عدم ضرره فلا تكون الوحدة على حساب التنوع والثراء والعمق ولا الجدة على حساب الإصالة.
ج - إحياء بعض المؤسسات القديمة كالجوامع والكتاتيب القرآنية والزوايا والمدارس والمعاهد الدينية إلى جانب كليات الشريعة والجامعات الإسلامية وتزويدها بالكفاءات الممتازة والإمكانات اللازمة ومساعدتها بكل الوسائل المادية والأدبية .
د إنشاء مؤسسات ابتدائية وثانوية وجامعية وما بعد الجامعية للمتفوقين من أولي القدرات العالية في مختلف مجالات العلوم والمعارف والتكنولوجيا والصناعات ..
هـ ـ إنشاء معاهد عليا لعلوم الدين والقرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والأصول والتاريخ الإسلامي.
الصفحة 262
و وضع سياسة خاصة للعناية بالنخبة للعمل على توفير الجو السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي لتشجيع النخبة المهاجرة على العودة إلى بلادها بالإضافة إلى إفساح مجال العمل والنشاط في مختلف مجالات الحياة في الأمة ووضع قوانين الحماية نشأتها والحفاظ عليها ووضع خطة لحسن استغلالها وتوظيفها في إطار النمو الاقتصادي والثقافي وإعادة البناء الحضاري.
ز إنشاء قسم دراسي في كل مستويات التعليم ومؤسساته الخاص بالمتفوقين ووضع مناهج وطرق خاصة بهم
ح إعادة النظر في كل مناهج التربية وطرقها وإعداد المعلمين والأساتذة من أجل تحقيق النوعية التربوية والعمل باستمرار على التخلص من السلبيات التي ورثناها من التجارب السابقة القديمة والحديثة.
ط - إعادة النظر في إصلاح العملية التربوية بحيث تصبح أكثر جدية وفعالية ومنهجية لاستغلال طاقات الطفل والمراهق والراشد وتوجيه الفعالية العقلية لما هو أنجح وأصح وأدق وأصلح، وهذا يستلزم فتح مراكز تجريبية تربوية تقوم باستمرار بالبحث من أجل تطوير العملية التربوية بصفة دائمة في كل مستويات التعليم وفروعه ومن أجل تطور علوم التربية في حد ذاتها.
ك - العناية الكافية بالشخصية من الناحية الجسمية والنفسية والأخلاقية السلوكية كي تكون شخصية الطفل ممتازة في دينها وأخلاقها وعلومها وفنونها وخبراتها حتى تكون في مستوى المهام الكبرى التي تنتظرها.
لأن الإنسان اللامنتمي ليس إلا وسيلة لا يعول عليه بالمرة، فالتربية الحية هي التي تكون الشخصية السليمة التي تكون في مستوى ثقة الأمة وأمالها فلا خير في عالم بدون دين لأن من مهام النخبة القدوة والحسنة والقيادة الرشيدة والزيادة الممتازة ديناً وعلماً، وسلوكاً، بل تذهب إلى أبعد من ذلك، وتحاول أن تضع التربية للإنسان الذي يجد في طلب العلم من منطلق تعبدي عقائدي لا من منطلق نفى مادي محدود
ل - تمديد إلزامية التعليم إلى الثانوي والعناية بالنوعية حتى في تعليم
الصفحة 263
القاعدة بالإضافة إلى شمولية العناية بكافة جوانب الشخصية فينمو الطفل جسمياً وعقلياً وروحياً نمواً متكاملاً لا يشوبه تناقض ولا تعارض سواء في أمور دينه أم دنياه.
م - إنشاء مؤسسات للأطفال المعوقين والتلاميذ المتخلفين، وتخصيص لهم عناية تربوية تكون في مستوى تعقد العمليات التربوية الفنية الممتازة حتى تكون في مستوى التخفيف من وطأة تخلفهم ولئن كان من العسير أن يكون منهم ممتازين في الميادين المجردة المعقدة فإنه في إمكاننا أن تجعلهم متفوقين في صناعات وحرف ومجالات تكون الفرد حسب إمكاناتهم وميولهم وقدراتهم.
الصفحة 264
المركزية والتسيير والتمويل والمراقبة والتوجيه
لقد كان النظام التربوي في الملة لا مركزياً وكان تمويل التربية مضموناً عن طريق نظام الأحباس كما أشرنا سابقاً وكان الاشراف من وظيفة العلماء في كل مؤسسات التربية، تلك التي كانت في الغالب تابعة للجامع أو المسجد أو المعهد وكذلك التسيير والمراقبة والجديد بالذكر أن بعض المؤسسات التربوية الحرة ما تزال في الهند وباكستان وأفغانستان ومصر والسودان والأردن وفلسطين وإيران والجزيرة العربية واليمن والمغرب الأقصى وغيرها. وما تزال هذه المؤسسات تمول من طريق البر والإحسان وما حبس له من أموال المحبسين. أما تسييرها والاشراف عليها والمراقبة لضمان حسن سيرها والمحافظة على تحقيق أهدافها . التي أسست من أجلها - التربوية والثقافية الإسلامية كل هذه الوظائف منوطة بالعلماء الذين يشرفون عليها .
أما المدارس الحكومية والمعاهد والجامعات التي جيء بها واستحدثت أيام الاستعمار فبقيت على حالها ولئن غيرت في بعض موادها فإن الدولة هي التي تشرف عليها وتمولها وتسيرها إدراياً وتربوياً .
وحتى يتحقق القيام بهذه المهام الجسام لا بد من سلطة مركزية تكون في مستواها من ناحية التمويل والتسيير الإداري والتربوي .
إن انتشار التعليم في شكله الجديد وتعميمه على كل أنحاء البلاد وعملية تطويره والإشراف عليه .. كلها أمور أصبحت فوق طاقة الأسرة والجمعيات المحلية .
على أن إشراف الدولة ومركزية السلطة والتمويل نشأ عنها حاجة النظام التربوي إلى الإشراف المركزي وما نجمت عنه من سلبيات كانت خطيرة على
الصفحة 265
روح المبادرة والحرية الأكاديمية والتربوية وارتباط المدرسة والمعهد بالأسرة والمجتمع المحلي وأصبحت هذه المؤسسات أكبر تركيزاً على الأهداف السياسية التي تتفق مع أيديولوجية النظام أكثر منها حرصاً على تحقيق أغراض الشعب وإذا كانت أغراض الحكم هي أغراض الشعب فلا تعارض إلا أن هذا شاذ فلا يقاس عليه في عدة أمور منها أن السلطة التربوية إذا لم تكن سلطة محلية وشعبية تصبح التربية على معزل من اهتمامات الشعب وأبعد ما تكون عن واقعه سواء أكان هذا الواقع اقتصادياً أو اجتماعياً أم ثقافياً حضارياً.
وفي هذا الحال يقل شعور الشعب بمسؤولياته التربوية فيغفل وينحدر وعيه التربوي الذي ينعكس بالضرورة على الوعي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي مع العلم أن الدولة ليست إلا جهازاً وظيفياً سياسياً يقوم بالإشراف على مصالح الأمة بالقدر الذي تضمن فيه هذه المصالح حتى إذا ما عادت هذه المصلحة مصلحتها دون مصلحة الأمة حصل الاستلاب وصارت الدولة بعدما كانت وسيلة في خدمة الأمة غاية في حد ذاتها .
إن مهمة الدولة كجهاز مركزي لا تتعدى الإشراف والتمويل والتنسيق بالقدر المطلوب لضمان حسن سير المؤسسات التربوية لتؤدي مهمتها ووظيفتها على أكمل الوجوه، فيقدر ما تخف تدخلات السلطة المركزية ويسمح للسلطة المحلية والأسرة بالمشاركة في مختلف المهام الثقافية والتربوية وتشجيع المبادرات الإصلاحية والمحاولات الإبداعية تقل وطأة البيروقراطية وفي هذا الحال لا تتعارض المركزية مع اللامركزية وكما لا يتعارض الإشراف وروح المبادرة الحرة،،،، والاتساق والانسجام والتكامل.
لقد سبق الكلام عن المركزية ولقد تبين لنا من ذلك في ضوء التجربة البريطانية التي كانت قد انتقلت بحكم الظروف من اللامركزية إلى المركزية مع اعتدال وتعاون مع السلطة المحلية إلى درجة صار فيها النظام البريطاني يجمع بين المركزية واللامركزية ؛ أما فرنسا فقد تحولت من النظام المركزي إلى اللامركزية بحكم الاصلاحات التي استجدت وصار النظام الفرنسي يجمع أيضاً المركزية واللامركزية.
الصفحة 266
في حين أن معظم النظم التربوية في البلاد الإسلامية ما تزال تعاني من المركزية المفرطة أو اللامركزية التامة وعملية التوفيق والجمع بينها ممكنة إذا لم تكن ضرورية وهذه التجارب في الحقيقة دليل على إمكانية الجمع بين المركزية واللامركزية كما تدل أيضاً على أن الأخذ بواحدة دون الأخرى تطرف لا يخفى ضرره بالمنظومة التربوية التي صارت لا تستطيع أن تستغني لا عن المركزية ولا عن السلطة المحلية ومشاركة المجتمع الفعالة في مستوى التربية، لأن مشاركة الشعب في شؤون التربية تؤدي حتماً إلى الوعي عن طريق الاهتمام كما أن أبعاده وحرمان التربية من مساهمته ظلم اجتماعي وثقافي واعتداء على حرية المجتمع وحقه في المسؤولية التربوية لأن قضية التربية تعد من أقرب القضايا الاجتماعية والثقافية إلى الشعب وأهمها بالنسبة إليه.
الصفحة 267
التربية من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية
إن حاجة الدولة إلى الإطار التقني والإداري والسياسي أصبحت ذات أهمية متزايدة مع تطور الحضارة والمزيد من التعقد الذي تشهده قضايا العالم الحديث وإذا كانت التربية من أهم العوامل الحضارية لإبراز القدرات وتنمية خبراتها فإن السياسة التربوية تقتضي أن تتخذ التربية من إعداد الإطارات أحد أهدافها الرئيسية لتغطية حاجة المؤسسات للإشراف والتسيير والشغل في مختلف شؤون الأمة والدولة. وهذا لا شك مما يزيد العملية التربوية ارتباطاً بالواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري.
بيد أن الشعور بالحاجة إلى الكفاءات ظهرت قبل وجود المؤسسات التربوية التي تكونها لأن التطور الذي طرأ على الاستهلاك تسرب مع الغزو الحضاري حسب الخطة الاستعمارية التي كانت قد جعلت ساحة البلاد الإسلامية سوقاً لمنتوجاتها بينما ركزت على التطور الصناعي في البلاد الأم حيث صارت هذه تنتج بينما الأخرى تستهلك، وإذا حاول الاستعمار تطوير منظوماته التربوية حسب حاجة التطور الصناعي والتكنولوجي في بلاده فإنه منع في نفس الوقت كل المحاولات الإصلاحية الرامية إلى تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والثقافية في البلاد المستعمرة، كي تبقى تابعة اقتصادياً وحضارياً ولذلك لم يكن طغيان الحضارة الغربية مجرد احتكاك بين الأمم وتفاعل وتكامل قد يستفيد منه الناس جميعاً بقدر ما كان يهدف إلى تحقيق تقدم أمم على حساب تأخر أمم أخرى، وما إن بدأت شعوب العالم الإسلامية تشق طريقها نحو الحرية حتى بدأت هي الأخرى تشعر بالحاجة إلى التصنيع وهو ما جعل دول البلاد الإسلامية تهتم بالتربية التقنية حسب أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
الصفحة 268
وإمكاناتها الطبيعية والجغرافية كما ظهرت الحاجة إلى النمو الاقتصادي لمواجهة الصراع الإمبريالي ووضع حد لاستغلال الثروات فمنذ اكتشاف أهمية البترول والغاز وغيرهما من موارد الطاقة في عالم الصناعة والتكنولوجيا زادت حدة السباق على استغلال هذه الثروة والاستحواذ على أكبر قسط منها. كل هذه الظواهر وغيرها ساعدت على نمو الوعي الاقتصادي خاصة في أكثر الدول رقياً وتطوراً حضارياً.
فالتمويل الاقتصادي في مثل هذه الظروف العالمية اتخذ شكل الضرورة التي تتوقف عليها حياة الأمم وتطورها وازدهارها وتحديد مكانتها بين الدول.
على أن الشعور بالحاجة إلى النمو الاقتصادي والاجتماعي ... كما أسلفنا سبق التوقع والاستعداد اللازم له، وهذا يعني أن صيرورة التاريخ تكون أحياناً أسرع من الحدس الفكري، لكن علماء النفس لا يعتقدون ذلك لأنهم يرون أن الذكاء هو القدرة على التوقع ..
ومهما يكن فإن التفاوت بين الأحداث وما نتج عنها من تطور سريع وبين تجاوز الذهنية السائدة للكثير من الأمم، ومن بينها الأمة الإسلامية، وهو ما جعلها تتخلف في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتطوير منظوماتها التربوية كي تتصدر أحداث التاريخ والتطور السريع للحضارة، وهذا من أهم أسباب التخلف في مجال إعداد الكفاءات المطلوبة في الوقت اللازم بل نلاحظ أن أغلب المنظومات صارت أعجز ما تكون عن مواكبة التطور السريع الذي حدث على مستوى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما إن انتبهت الحكومة لهذا التفاوت حتى وجدت نفسها أمام أمرين الاستعانة بالمساعدة الفنية الأجنبية ريثما تعد الإخصائيين من أبنائها النابهين منهم إلى الخارج حيث توجد معاهد وجامعات يتخرج منها هذا النوع من المختصين وتحاول أن تصلح نظامها التربوي حتى يكون في مستوى تخرج هذه الكفاءات والخبرات في مختلف التخصصات.
أما الاستعانة بالخبراء والتقنيين الأجانب فقد كان أمراً على مرارته وسوء عواقبه الزم المواجهة الحاجات المستعجلة. وأما إصلاح التعليم في ضوء التغيرات
الصفحة 269
التي اجتاحت العالم فهو أمر لا بد منه لكن نتائجه لن تكون إلا في المستقبل البعيد وينطلب تحقيقها جهوداً كان ليس من السهل تقديمها وشروطاً اقتصادية وسياسية كان ليس من اليسر توفيرها في الوقت المقرر بالقدر الكافي. ولهذا السبب فإن أكثر الدول استجابت للحل الأول وألقت بثقلها على كاهل غيرها وإلا استعانت بالخبراء الأجانب في كل شيء حتى في أكثر الأمور خصوصية وسرية كالشؤون العسكرية والتخطيطات الإنمائية المدنية والعسكرية، وتوظيف الأجانب في المراكز الحساسة ذات الطابع السياسي والدبلوماسي المعقد. ولعل من أخطر النتائج لهذه السياسة :
ا إطلاع الأجانب على الأسرار السياسية والاقتصادية والعسكرية .
ب - الاتكالية على النظم الأجنبية كد الحاجات الضرورية من الإطارات الفنية .
ج التقاعس عن بذل الجهد اللازم لإصلاح المنظومة التربوية. وعدم التعجيل بتطورها وجعلها في مستوى حاجات الأمة للنوعية التربوية في مختلف مجالاتها التربوية والتكوين والبحث.
د استنزاف العملة الصعبة لتسديد أجور الفنيين الأجانب ومنحالبعثات الطلابية في الخارج ورسوم التسجيل في الجامعات الأجنبية التي صارت تتخذ من هذا الباب مواردها الرئيسية.
هـ - تضييع وظائف هامة وإعطائها لعمال أجانب في حين أن البطالة عندها تشكل أخطر العوامل السلبية على التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على أن هذه الظروف لم تمنع الدول في العالم الإسلامي من الإسراع النسبي بإصلاح النظم التربوية ولذلك عرفت معظم هذه النظم تطوراً جعلها تواجه حتى تلك التخصصات التي هي يكثر الخبرات تعقيداً وصارت تتخلص تدريجياً من المتعاونين لكن هذا لا يعني أن التطور الذي حدث صار كافياً بل التفاوت بين هذه النظم التربوية وبين النظم الأجنبية الراقية ما يزال شاسعاً، وبسبب التأخر الذي حدث للاصلاحات التربوية صار أغلب
الصفحة 270
الإطارات التي تحتاج إليها الدولة لتسيير أمور البلاد على اختلاف الوظائف المعقدة هي من خريجي الجامعات الأجنبية فكلما زاد الشعور بالحاجة إلى الإطارات العليا، زاد عدد البعثات الطلابية إلى الخارج وأصبح معظم دخل الجامعات الأمريكية والإنجليزية من الطلاب الوافدين، لأن هذه الدول حريصة على استغلال كل ظاهرة ضعف يظهر فيها العالم الإسلامي فعندما شعرت بحاجة الدول التي تخلفت منظوماتها التربوية وعجزت على مواجهة حاجة المجتمع إلى خريجي العلوم والتكنولوجيا زادوا في رسومات التسجيل على الطلبة الأجانب دون غيرهم، وهذا ما جعل عملية استنزاف العملة ينمو مع نمو عدد الوافدين إلا أن هذه مسألة جانبية مؤقتة إذا وعى طلابها ما ينبغي أخذه وتعلمه وما لا ينبغي انتحاله مما يجب تركه إذا وعوا الفروق الموجودة بين أمتهم والأمم الأخرى التي هاجروا إليها طلباً للعلم.
بالإضافة إلى أن كثيراً من الطلاب المتفوقين الذين تستهويهم الحياة الغربية فيتزوجون هناك ويوظفون فيختارون الحياة في المهجر على الحياة في الموطن. وأصبح هذا ضياعاً للكفاءات باعتبار أنه لا يرسل من الطلبة إلا أنجبهم وأكثرهم تفوقاً كما هو ضياع للمال لأنه تكون على حساب ميزانية دولته وضياع لفلذات الأكباد وقيمة الإنسان لا تقدر بثمن كل هذه الخسارة ما كانت لتحدث لو شمرت الأمة على ساعد الجد وأصلحت النظم التربوية كما هو مطلوب لتصبح في مستوى تخرج النخبة التي تحول أكثر الأبناء تفوقاً ونبوغاً ولعل من أسباب تخلف النظم التربوية في أغلب أنحاء العالم الإسلامي أن العناية كانت بغير التربية كالصناعة والفلاحة والتجارة، لأنهم يعتبرون التربية ميداناً سلبياً عالة على الاقتصاد وغيره وهم لذلك تراهم أكثر اهتماماً بالميادين الاقتصادية كالصناعة والتجارة والزراعة، وهذا خطأ ارتكب في حق التربية لأن الصواب هو العكس، إذ الاستثمار الاقتصادي لا يخلو من عامل الإنسان ومن ثمة فإن التربية لا تعد استثماراً اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً فحسب بل هي استثمار حضاري لا بد منه، لأن الحضارة التي لا تبنيها عبقرية أبنائها لا تشيدها على الإطلاق يد الأجانب وقد قيل من اتكل على زاد غيره طال جوعه .
الصفحة 271
على أن ما تشهد معظم الدول في اهتمام بالتربية وإصلاح نظمها يبشر بخير وقرب نهضة وازدهارها والدليل على ذلك وجود التركيز على إعداد الإطارات الفنية والكفاءات المختلفة كهدف من أهداف التربية. لكن هذه الغاية تبدو قريبة المنال غير أنها ليست كافية لأن المشكلة تتطلب وعياً وعملاً أكثر جدية وفعالية لأن الإطار المطلوب يجب أن يكون في مستوى الإبداع والإختراع والتفوق وإدراك التفاوت العالمي في هذا المضمار.
ومن ثمة فإن التربية وهي إذ تتخذ الخبرة التقنية من أهدافها فهي مدعوة أيضاً إلى تكوين ميولات تقنية وتنمي المواهب العلمية لبعث ثقافة تقنية علمية على مستوى ثقافي أوسع، وهذا لا يتحقق إلا إذا شيدت نوادي تقنية ومخابر تكنولوجية تلحق بالمدارس يشرف عليها مربون فنيون يجيدون التوجيه ويتقنون التشجيع وإنشاء المعاهد التقنية.
وهذا ما يفسر مستوى تعقد السياسة التربوية، لأنها إن كانت تتكون من معطيات الحاضر رؤيتها الواضحة فإنها تنشأ دقيقة للمستقبل عن طريق الاحتمالات والفروض الصحيحة فإعداد الأجيال يجب أن يكون مناسباً لعصرهم الحضاري وعهدهم التاريخي وهذا لن يكون إلا إذا كانت المعارف والخبرات والتقنيات التي يتعلمونها ويجدونها مناسبة لزمانهم وعصرهم.
وإذا نظرنا إلى سرعة تطور العلوم والفنون والتقنيات علمنا مدى صعوبة إعداد الأجيال حيث النوعية المطلوبة والمخرج الأوحد من هذا المأزق هو أن تركز العملية التربوية على الخبرة والمهارة وإفساح المجال للإكتشاف والمبادرة وتشجيع الأطفال عليها من الصغر.
وأخيراً فإن في كل هذه المجالات تحتاج الأمة إلى نوعية تكون أصلا للريادة والقيادة في السلم والحرب في الحاضر والمستقبل، تلك النوعية التي تكون في مستوى المهام التاريخية والحضارية حيث تجمع إلى التفوق العلمي والتقني قناعة إيمانية تامة، واستقامة خلقية رائدة وقدرة على مواجهة الأحداث فائقة فيكونون للمسؤولية أهلاً، وللرسالة جنداً، وللدعوة رواداً.
الصفحة 272
إصلاح المعاهد التقنية
إن المعاهد التقنية والمؤسسات التي لها تأثير مباشر على الهدف السابق الذكر المتعلق بمساعدة التربية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإعداد الكفاءات اللازمة لسد حاجات الأمة والدولة على حد سواء من فنيين وتقنيين والإداريين ومختلف التخصصات التكنولوجية.
فإذا تخلفت هذه المعاهد الثانوية والجامعية التقنية عن الركب العالمي والفني، فإن هذا العجز ينعكس على الحياة الاقتصادية والسياسة في الأمة. إن الوضعية التي كانت عليها هذه المعاهد تنفر أولى التفوق والممتازين من التلاميذ مما يفقرها إلى المستويات الضعيفة من التلاميذ الذين لم يكن لهم الحظ المتابعة التعليم الثانوي والعام، لأن أغلب الطلبة كانوا وما يزالون حسب التوجيه القديم يميلون إلى شعب التعليم العام والطب، وأما الهندسة والعلوم التقنية فإن الإقبال عليها ضعيف. وهو ما جعل هذه المؤسسات لا تأخذ حظها من العناية والإصلاح، في حين أن الكثير من الدول الحديثة منذ الحربين العالميين الأولى والثانية، أولوا هذه المعاهد عناية خاصة وصار إلى اليوم لا يوجهون إلى المعاهد المتعددة التقنيات إلا الصفوة الممتازة والنخبة المتفوقة من التلاميذ، وهذا لا يعني أننا ملزمون بتقليدهم بقدر ما تعني إن خبرتهم دلت على أن ميادين التفوق الصناعي لتعقدها صارت تستقطب النخبة من التلاميذ والطلاب. ونظراً للأهمية التي صار يتمتع بها الميدان الصناعي والتكنولوجي صار التكوين التكنولوجي يحتاج إلى التلاميذ أولي كفاءات ممتازة، وإذا ما عدنا إلى النظم التربوية في أغلب أنحاء البلاد الإسلامية حسب إحصائيات التلاميذ والطلاب الجامعيين من جهة وحسب المناهج التربوية والتوجيه التربوي والسياسي من جهة
الصفحة 273
أخرى، نلاحظ أن هذه المؤسسات ما تزال تشكو تأخراً ملحوظاً على أن المحاولات الإصلاحية التي ظهرت في بعض النواحي تستحق الذكر والتنويه. لأنها أحدثت شيئاً من اليقظة في هذا المضمار لكنها ما تزال في المهد، وما تزال الإمكانيات التي استخدمت سواء من الناحية السياسية أم التربوية ليست كافية بالمرة والسبب في ذلك ما يلي:
أ - الذهنية الثقافية السائدة ما تزال تنظر إلى التكوين التقني والفني نظرة استخفاف مما جعل أغلب الطلبة يميلون إلى التعليم العام تاركين المعاهد التقنية، وإن أدى هذا إلى إغراق معاهد التعليم العام في كثافة طلابية تجاوزت طاقات وإمكانات هذه المعاهد بالإضافة إلى وجود بطالة مخيفة من خريجي هذه المعاهد وتبدو هذه الظاهرة أمعن صورها في مصر والهند وباكستان ونيجيريا والسودان والمغرب.
ب - افتقار المعاهد التقنية إلى وسائل تقنية كالمخابر والمعامل والأساتذة الممتازين كل هذه الأمور من شأنها جعلت الطلاب يفرون من هذه المؤسسات وينفرون من هذا النوع من التخصص، إلى جانب افتقارها إلى المواد الأدبية الروحية والعامة التي تهتم بالحياة النفسية والاجتماعية وجميع جوانب الشخصية. لأن هذه المعاهد إن كانت تعد أصحاب الحرف والمهن والخبرات التكنولوجية على اختلاف مستوياتها وفي جميع شعبها فهي تعد إنساناً جسماً وعقلاً وروحالآلة ... فكل هذه الجوانب الشخصية تحتاج إلى عناية ورعاية وتربية، ولعل هذه الحالة تكاد تكون عامة باستثناء الكويت والسعودية، وبعض البلدان الإسلامية.
ج المردود الشخصي الذي يتقاضاه الجميع ويعود إليه خاصة من الناحية المادية لم يكن في مستوى تشجيع التلاميذ ليقبلوا على تعلم المواد التقنية على انتقائها والتفوق فيها وهذا أمر له اعتباره أما الحلول المطلوبة فيمكن تلخيصها كالآتي :
1- إعادة النظر في السياسة التربوية في موضوع التطور الحضاري العام من أجل إعادة الاعتبار إلى المؤسسات التربوية التكنولوجية، ورفع مستوى الوعي
الصفحة 274
التربوي التكنولوجي الذي صار ضرورياً من أجل تكوين نهضة صناعية تعتمد على خبرات وقدرات أبناء الأمة ومواهبهم وعبقريتهم وقدراتهم.
2- إعادة النظر في سياسة التوجيه التربوي في ضوء حاجات الأمة المستجدة والتطور الحضاري، فهناك مواد كالمواد التقنية التي كانت في زمن لا يقرأ لها أي حساب أصبحت اليوم في المرتبة الثانية بعد مادة العقيدة أو الشريعة والأخلاق والضروريات الجسمية والنفسية والاجتماعية من الرعاية والعناية، فإذا كانت الأمة تطمح إلى الخروج من ورطة التخلف والتبعية الحضارية، فلا بد لها من نهضة شاملة وفي طليعتها العلوم والتكنولوجيا.
3 ضرورة توجيه التلاميذ النابغين إلى المعاهد التقنية والعلمية على الا يكون هذا التوجيه فيه شيء من القر والإجبار
4- إصلاح المؤسسات التكنولوجية إصلاحاً شاملاً لمناهج وطرق التدريس والوسائل كالمخابر والمعامل ونوادي الهواة وربطها بالمؤسسات الصناعية والتكنولوجية الراقية في البلاد حتى تتأثر بها وتؤثر، ويحدث التفاعل المطلوب بين التربية والحياة مع ضرورة التركيز على مقومات شخصية المسلم المنتمي .
5- تأسيس معاهد ومدارس متعددة التقنيات الجامعية وإلحاق مؤسسات تكنولوجية وصناعية كبرى لإجراء البحوث المتطورة والاكتشافات المبدعة في الميدان .
6 تزويد هذه المعاهد العليا بالعلماء والأساتذة المتخصصين الممتازين.
7 إنشاء معاهد البحوث التي تمد المعامل والمصانع المدنية والعسكرية بأحدث ما أنشأ، واختراع في الميدان المواكبة التطور من جهة، كما تمد معاهد البولي فيكنيك بالعلماء والأخصائيين ومختلف أنواع الكفاءات .
الصفحة 275
مناهج التعليم وطرقه
من مستلزمات العملية التربوية، تحديد المستوى المطلوب من الخبرة العقلية أو النفسية أو العلمية في كل مرحلة من مراحل النمو.
وهذا ما يجعل العملية التربوية عملية غائية منهجية، ليكون المحتوى التربوي انتقائياً متجدداً متنوعاً تكاملياً، أو بمعنى آخر أنه إذا كان من أهداف التربية أن يحقق الذكاء تكيفه الثقافي، فإن العملية التربوية تشمل البيئة الثقافية المنتقاة، التي تساعد الذكاء على أن يحقق أحسن حالات التجاوب والتفاعل مع البيئة الثقافية بمعناها الواسع. ومعنى هذا أن الذكاء كي ينمو لا بد له من أن يكون حيال الموضوع الثقافي، وأن يتفاعل معه كعنصر موضوعي حيال القدرة العقلية التي يتمتع بها الإنسان، وبفضلها يكون عن طريق الاحتكاك بالبيئة الثقافية منطقه وخبرته وقيمه المختلفة التي يحقق عن طريق بنائها التكاملي المتجدد وتكيفه العقلي والاجتماعي، وفي هذا الصدد أننا لا تعلم التلميذ المنطق ومختلف العلاقات والقيم بقدر ما تساعده بواسطة الاحتكاك بالموضوع الثقافي على أن يكون هو بنفسه وبفضل جهوده العقلية منشىء منطقه وإدراكه للعلاقات وللأحكام، وانتقائه للقيم، ومن ثمة فإن المحتوى التربوي لا يتجاوز كونه يمثل البيئة الثقافية المنتقاة التي تساعد الذكاء على تحقيق تكيفه. فكلما تجدد الموضوع ونسق المحتوى ساعد على تكوين العقل تكويناً أكثر تنوعاً وثراء واتساقاً.
وإذا كانت العملية التربوية تقوم على أساس الجهد الذاتي القائم على القدرات الذاتية بواسطة احتكاكها بالمحيط الثقافي الموضوعي، فإن القدرات العقلية مختلفة بين الأفراد من جهة وحسب مستوى النضج العقلي من جهة أخرى. ومن ثمة فإن عملية وضع المحتوى التربوي وتحديده تخضع بالضرورة
الصفحة 276
إلى عملية معقدة فنية، يراعى فيها مستوى الذكاء والخبرة والنضج، بالإضافة إلى الجوانب النفسية المختلفة كالرغبة والاهتمام والتركيز، وكل ما من شأنه أن يحفز العزيمة ويلهم الذكاء وينشط العقل وينمي الفعالية العقلية.
فمنذ القديم أشار ابن خلدون (1) إلى ضرورة التدرج في التعليم ومراعاة مستوى قدرة المتعلم بدءاً بالأصول قبل الفروع والإجمال قبل التفصيل والكليات قبل الجزئيات حتى تحصل الملكة وتتكون الخبرة وينمو بالتدريج إلى أن يصبح الدارس قادراً على الفهم والاستيعاب راغباً في المزيد، بيد أننا إذا اتفقنا مع الأقدمين على ضرورة مراعاة مستويات الذكاء أو القدرة على التحصيل والبدء بالشخص قبل المجرد والبسيط قبل المركب والحكم العام قبل الخاص، ولا يكون التفرع إلا على قدر ما تتطلبه قدرات المتعلم، فإننا لا نتفق معهم في كثير من الأمور أهمها نزعتهم الموسوعية بحكم بساطة تفرع العلوم في عهدهم، وقلة تعددها وتشعبها، فكانوا يسلكون مسالك الإحاطة بكل العلوم أو جلها، وبذلك كان منهجهم منهجاً موسوعياً عاماً جمع أطراف المعارف وأصنافها، فنجد الرجل منهم مطلعاً على علوم الدين والدنيا، وجمع مع الفلسفة والفقه والرياضة والطب والفلك والطبيعة. فكانوا في هذا النوع من التحصيل عباقرة في ما جمعوا وأفذاذاً فيها برعوا فيه من العلوم والفنون كالغزالي وابن سينا وابن رشد، وفخر الدین الرازي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية.
لكن العلوم لم تبق على حالها التي كانت عليها في عهودهم والتي جاءت بعدهم. لقد زادت في التفريع والانقسام وصار التخصص من ضروريات العلم الحديث.
لقد انفصلت جل العلوم عن الفلسفة وظهرت علوم لم يكن لها وجود في الماضي وكل العلم هو اليوم في تفرع وتجدد حتى صار يتفرع على علوم لا حصر لها وكلما زاد الإنسان اكتشافاً جديداً لأسرار الطبيعة الكونية والفطرة البشرية زاد رغبة في البحث والتنقيب، وصارت التخصصات تتعدد في العلم الواحد ولم يبق أحد يستطيع أن يلم بكل أطراف العلم الواحد فضلاً عن جمع العلوم جميعها
الهوامش
(1)ابن خلدون المقدمة، ص: 447
الصفحة 277
ومن ثمة فإن طغيان المنهج الموسوعي على التربية في جل الأقطار الإسلامية صار لا يناسب تطور العلوم وسرعة تفرعها والإكثار من التخصصات فيها.
والحل الوحيد الذي بقي أمامنا هو المنهج الوظيفي التكنولوجي وهو المنهج الذي يقوم على أساس الخبرات النوعية والتخصصات الضرورية والمناهج التجريبية العملية، حيث يتكامل النظر مع العمل، ويتفاعل الذكاء مع الموضوع الفعلي الذي هو موضوع الدراسة والتعليل والبحث والتنقيب، فيصبح العلم قائماً على مناهجه عوض قيامه على معلومات أو شتات موضوعاته وصارت العملية التربوية منذ الوهلة الأولى في مستوى التعليم الابتدائي عملية استكشاف للعلاقة، وتحديد وتحليل للقضايا والأحكام حسب مقتضيات علاقة النتائج بالمقدمات والفروع بالأصول والعلة بالمعلول.
إن انتشار المنهج التجريبي جعل المناهج التربوية أكثر فعالية ووظيفية وموضوعية، وتحول الجهد في العملية التربوية من المعلم إلى جهد المتعلمين، ومن التلقين إلى المحاولة لتحقيق إحتكاك الذكاء بالموضوع وصارت العملية التربوية تنصب على الموضوع لاكتشاف ما ظهر وما خفي من علاقات وإبعاد عن طريق التحديد والتحليل والمقارنة والتجريب والاستنتاج والحكم والاستدلال والبرهنة، وأصبحت المخابر العلمية جزءاً من الأقسام الدراسية، وصارت حياة الدراسة جزءاً من الحياة العامة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. وكان على المدرسة أن لا تكون المجتمع المصغر فحسب كما قال جون ديوي بل تكون عينه ممثل في العالم في شكله المصغر لتساعد المتعلم على اكتشاف وإدراك مكانته منه، ولقد ساعد تطور الأجهزة الإلكترونية على تصغير العالم وتيسير الاتصال به كالمذياع والتلفزة والفيديو، والعقل الإلكتروني وغيرها من الوسائل السمعية والبصرية، شريطة حسن توظيفها وجودة استعمالها.
وإذا كانت المدارس والمعاهد الثانوية تتمحور أنشطتها حول المخابر العلمية؛ فإن المعاهد الجامعية والجامعات المتخصصة صارت تحتاج إلى معامل تخصص للبحث من أجل تطوير الصناعة والتكنولوجيا، لأن
الصفحة 278
الجامعة التي لا تحتوي على معامل مختلفة، أو لا تتعامل مع المعامل، ولا تتفتح على الحياة الصناعية والتكنولوجية والثقافية تنعزل ولا تستطيع أن تتفاعل مع الحياة العامة بالثاني لا تستطيع أن تقودها نحو الأفضل. ومن ثمة فإن الجامعة مطالبة بزيادة الأحداث العلمية والتكنولوجية. وأن تقود الزحف نحو اكتشاف مجهيا الأكوان والإنسان وتحقيق أفضل والبحث عن أسرار القرآن الكريم.
وإذا كان الذي لا ينمو إلا بقدر ما تواجهه الحقائق وتتعقد أمامه سبل الوصول إليها يطرق أكثر دقة وثقة وضبطاً. فإن الضمير كغيره من العوامل النفسية لا يحقق أسمى مراتب نضجه وأعمق خيراته السليمة ولا تكتسب الشخصية أرقى مميزاتها ولا تسمو الخبرة النفسية إلى كمال تطابقها مع الحق والخير واجمل إلا إذا صممت العملية التربوية الأخلاقية والجمالية حسب القواعد التربوية السليمة.
إلى العناية بالمواد العلمية التي من الحديث عنها إن كانت لازمة وضرورية حسب قدرة المتعلم ومقدار استعداداته وميوله وطاقته، فإن التربية الإسلامية التي تنصب على الذات وجميع الجوانب النفسية لتحقق عن طريق التدريب والتعود والتهذيب أقوى حالات الاقتناع والإيمان والتقوى ولكي تتكامل الجهود وتنمو جميع الجوانب المختلفة للشخصية فإن العناية باجوانب العقائدية والسلوكية النظرية والعملية لا تقل أهمية عن المواد العلمية المعرفية، بل إن فترة الطفولة تبدأ بالتركيز على تكوين شخصية المسلم في القناعة العقائدية والشحنة الإيمانية والقوة الأخلاقية بحيث تكون الرعاية شاملة كل جوانب الشخصية، بينما تكون العناية بالمعلومات جداً بسيطة، لأن الطفل الذي شب على المكارم وتشرب الفضيلة من الصغر، يكون أكثر قوة وسلامة في الشخصية على أن المراحل الأخرى التي تكتمل فيها هذه التربية العملية تكون أكثر تفضيلاً وتوسعاً في مختلف مجالات الدين كتاباً وسنة وسيرة وتاريخاً وحضارة والعلوم النظرية التجريبية والفنون التكنولوجية.
إن المناهج الموجودة في أغلب النظم التربوية في البلاد الإسلامية تغفل
الصفحة 279
هذه التربية، وخاصة في المراحل المتقدمة وتنحط بعض المناهج إلى الإقلال من شأن التربية الإسلامية في التعليم الإبتدائي والإعدادي والثانوي، وهي أهم المراحل التي يمر بها نمو الطفل في بناء شخصيته ويسمونها بالتربية والدينية والخلقية لا تتجاوز هذه الحصة مقدار مرة في الأسبوع، لا تزيد حصتها على نصف ساعة، مع العلم أن البيئة الثقافية في البيت والمدرسة والشارع أصبحت تنضح بالفساد والقيم الدخيلة الغربية التي تتنافى مع الأخلاق الإسلامية. إن غياب الأمر بالمعروف والنهي عن(1) المنكر والقضاء على نظام الحسبة (2) أفقد الشوارع العمومية في المدن الإسلامية طابعها الأخلاقي ونسقها الجمالي، ودبت الفوضى في المجتمع حتى صارت أبشع البيئات وأقدرها، وانعكس ذلك على الأسرة وكدر صفاءها وأفسد حالها. ومما زاد هذه الوضعية تفاقماً غزو الأدوات الإلكترونية السمعية والبصرية من تلفزة وفيديوا وما فيها من أفلام اللهو والمجون، وكان السبب في ذلك عدم الوعي الثقافي والتربوي، والجهل والأمية والفراغ، إذ لو وجد أقل مقدار من الوعي الحولت هذه الوسائل السمعية والبصرية إلى وسائل تربوية وتعليم، لأن انتقاء الأفلام العلمية والأخلاقية التاريخية يساعد على تيسير العملية التربوية إلى حد كبير، وعلى ربح وقت الفراغ الضائع، على أن الانتاج السينيمائي ما يزال يغلب عليه الطابع الغربي، والأفلام العربية كغيرها لم تتحرر بعد من النزعة اللا أخلاقية الإباحية، والنزعة اللاتربوية التي لا تليق بالصغار ولا بالكبار وهذا يدل على ما تعانيه ثقافتنا من افتقار إلى المنتجين المؤمنين الصالحين، وإلى الانتاج السينيمائي الإسلامي الذي يغذي الروح ويطهر النفوس ويحيي الضمائر ويغرس الشيم في نفوس الأبناء. إن الشريط أو الفيلم أصبح كالكتاب بل صار أكثر فعالية وأهمية منه، فالثقافة التي لا تستخدمه تعزل عن ركب الحياة، ويقل تأثيرها ويضعف مفعولها في النفوس، لقد أصبح لا بد للأديب المسلم والمفكر والمصلح والمربي من التفكير
الهوامش
الصفحة 280
في سد هذا الفراغ المهول الناشيء عن عدم استخدام الأفلام كوسيلة تثقيفة وتربوية، بل صارت قنوات التلفزة والإذاعة تشكل ثغرة ثقافية يتحدان من خلالها الغزو الثقافي الذي اجتاح البلاد وأفسد العباد.
إن طغيان الجانب التعليمي على الجانب التربوي في مناهج التربية أصبحيشكل فراغاً روحياً وأخلاقياً ملحوظاً، وصارت المدارس والمعاهد مصانع للإنسان الآلي الذي لا روح له ولا عقل ولا ضمير، إذ اهتمت بالمعلومات والخبرات التي تحتاج إليها ليضمن الفرد قوته ويحتل منصبه في الحياة الاقتصادية، فقد ضيعت العناية بشخصيته ووعيه، فكانت تعلمه الخبرة العلمية لا غير وكأنه الإنسان الصناعي، مع أن الجانب الذاتي والجانب البدني كلاهما ضروري ؛ فالعناية بجميع جوانب الشخصية هي أسلم ضروب التربية. لقد كان أسلافنا أكثر حكمة وأكثر عمقاً منا في تربيتهم وفي نظرتهم للإنسان والحاجاته لضروب العناية والرعاية في مختلف مراحل النمو.
إن القرآن الكريم والسنة وما جاء عن تربية السلف الصالح من علماء الإسلام قدموا مفاهيم عن الإنسان وعن نموذج الرعاية والعناية التي يحتاج إليها كي تحقق شخصيته كمال نضجها ونموها وتكاملها، وقدموا بذلك أغنى النماذج التربوية وأسلمها وأثراها وأعمقها، حيث كانت تراعي جسم الإنسان وعقله وروحه ونفسيته وحاجته إلى التكيف الثقافي والاجتماعي بمعناه الحضاري الراقي .
ففي ضوء هذا نستنتج حاجة مناهج التعليم في معظم البلاد الإسلامية إلى إعادة النظر وإعادة الاعتبار إلى التربية الذاتية لتزويد التلميذ والطالب بأكبر قسط من القناعة الإيمانية والفضيلة الأخلاقية والنسق الجمالي، وتدريبه على الصعاب قصد تنمية روح الشجاعة والقدرة على التحمل والصبر والمثابرة والاستمرار والثبات إن قلة حصص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف جعلت مناهج التربية في البلاد الإسلامية تشكل عامل إبعاد الأجيال عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، لأن الكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان لثقافتنا، فعدم التشبع بهما يعكس بالضرورة ضعفاً في تكوين شخصية المسلم. ولذلك نجد
الصفحة 281
الأسلاف في تركيزهم على القرآن والسنة، قد بلغوا القمة ما يثير الإعجاب والتقدير لقد كانوا يربون الأطفال على الارتباط بالقرآن الذي فتحوا عليه بصائرهم ومتعوا أذواقهم بسر بيانه وأنعشوا ضمائرهم بحكمه وأحكامه، وفقهوا عقولهم بعيره ومفاهيمه وسلامة منهجه، حتى إذا شبوا على الطوق ونبهوا، سهل عليهم العمل به بعد الاقتناع والدعوة إليه.
أما من ناحية تعليم المواد العلمية، فقد ظهر المحتوى التربوي في أغلب المناهج التربوية في البلاد الإسلامية، كما لو كانت المعلومات ثابتة وحقائقها مطلقة، وهذه أمور لا يختلف في أمر بطلانها عالمان، بل أصبح جل المربين يسلمون بضرورة التجدد للمعرفة العلمية، سواء في مناهجها أم في محتواها، وهذا ما يجعل العملية التربوية عملية جادة متجددة ومجددة في آن واحد، كان تبدأ بطرح المشكلة على التلاميذ والطلاب، وبعد أن تزودهم بالمنهج الذي يساعدهم على تحديدها وتحليلها ومحاولات التفسير لضبط مختلف العلاقات التي يجتهد الباحث ويعمل على اكتشافها بمحض إدراكه وقدراته، عندئذ يصبحالمتعلم هو قطب العملية التربوية ومحورها الأساسي.
كما تصير العملية التربوية قائمة على جهد المتعلم والذي يستخدم فيه خلاصة خبراته ومجموع قدراته ومواهبه ومهاراته حتى يبلغ على قدر ذلك قصده من الاكتشاف والاختراع وتجديد معلوماته.
وقد يكون من أعقد المشكلات التربوية التي تجابه المربين هي أن مناهج التربية بحكم الحاجة إلى تحديدها وضبط مراحلها تجمد محتواها حتى تتحكم فيه وتخضعه لطلب أو حاجة المتعلم وهذه الحالة السكونية للمحتوى التربوي تتناقض مع نزعة التجديد التي يميل إليها المحتوى الثقافي العلمي، ولكي يتخلص المربون من هذه الورطة اعتمدت طرقهم على الملاحظة، والحدس وفرض الفروض ووضع الاحتمالات وتحديد المناهج للفهم أو التفسير، ثم الاستنتاج، سواء أكان ذلك عن طريق التجربة أم المقارنة ثم الحكم فالبرهان ... معرضين عن الطرق التقليدية والمناهج الموسوعية.
الصفحة 282
بناء على ذلك تصبح العملية التربوية عملية متجددة تسعى لتصل إلى النتائج الجديدة باستمرار، وهكذا فبعدما كانت العملية التربوية تقوم على جهد المعلم وحده صارت عملية ديناميكية تقوم على جهد التلميذ أو الطالب وحده مع الاستعانة بالمعلم. ولكن لا بد من المعلم، إذ العلم لا يؤخذ إلا من أفواه رجاله .
ومن ثمة فإن مهمة المعلم قد تغيرت تغيراً جذرياً، فبعدما كانت مهمته لا تزيد عن تلقين المعارف الجاهزة التي يتلقاها المتعلم على علاتها كما لو كانت حقيقة مطلقة، صارت هذه المهمة أعقد من ذلك، إذ تسعى لتوجيه العملية التربوية توجيهاً منهجياً فنياً، يقود المتعلم إلى السير والبحث والدراسة بطرق أكثر حكمة ووعياً وفعالية وانتقاءاً إلى أن يحقق بمحض إرادته، وبكامل حريته غايته المنشودة من الاكتشاف والربط بين مختلف العلاقات والحكم، على أساس الأدلة القوية والحجج الدامغة
فما أخطر مهمة المعلم اليوم وما أعظم فضل المعلمين على المتعلم والأمة والإنسانية جمعاء؟
و - إعداد المعلمين وتكوين أساتذة التعليم المتوسط والثانوي .. إن العناية بالتربية يترتب عليها بالضرورة العناية بالمربي، لأن قضية التعليم تتضمن قضية المعلم، والسبب في ذلك أن جل المفكرين والعلماء والمربين يعتقدون أن المعلم الجيد من أهم شروط النوعية التربوية. يقول ابن خلدون: ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق وجيل 1)) والتعليم عنده صناعة لا يقدر على اتقانه إلا أرباب تلك الصناعة ودليله على ذلك اختلاف العلماء والمعلمين في اصطلاحاتهم، ويذهب ابن خلدون إلى أبعد من ذلك ويعتبر ظاهرة العناية بالتعليم واتقانه والتمعن فيه ظاهرة حضارية، فإذا كانت الحضارة في حال ازدهارها كان التعليم فيها مزدهراً. أما إذا اعتراها خمول أو ضعف انحط التعليم وضعف هو الآخر وقل الإقبال عليه والانتفاع به على مستوى الأفراد والأمم.
الهوامش
(1) عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص 341
الصفحة 283
والحقيقة أن من يعود إلى التراث الحضاري لهذه الأمة العظيمة، وقارنه بما ظهر في مختلف أجيال حضارتها من علماء معلمين قل نظيرهم في الأمم وما آلت إليه الأمور بعد ضعف الحضارة من ندرة العلماء والمعلمين الأفذاذ، أدرك سر تفسير ابن خلدون لهذه الظاهرة الخطيرة، ولعل عودة الاهتمام بالتعليم في هذا العصر هو كذلك معلم من معالم النهوض الحضاري الذي بدأت روحه تدب في كيان الأمة الإسلامية من جديد، فظهور الاهتمام بالتعليم في البلاد الإسلامية إذ يدل على بوادر الصحوة يجعل من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الاهتمام بدور المعلمين في المخطط الإصلاحي، لأن الإصلاح الذي لا يأخذ بعين الاعتبار تكوين المعلم الناجح تعتبر خطة إصلاحه غير كاملة. لأن المعلم هو أهم عنصر لتحقيق الخطة الإصلاحية ونهجها، ويتوقف عليه بالدرجة الأولى تحقيقها
وإذا كانت العملية التربوية عملية هادفة فإنه في أهدافها تنشد الصواب والحق والحقيقة، وإذا كان المتعلم عرضة للخطأ والزلل، فإن العملية التربوية تستلزم الإشراف الذكي الحكيم الذي يجنب المتعلم الوقوع في الخطأ والضلال ... وإلا تصبح التربية عملية قائمة على الصدفة والمحاولة والخطأ. لأن التعلم عن طريق المحاولة والخطأ، كما يتصوره ثورندايك لا يمكن أن نعتبره عملية تربوية بالمفهوم الإصلاحي باعتبار المحاولة والخطأ قائمة على الصدفة، في حين أن العملية التربوية عملية منهجية محددة لا يقبل فيها ارتجال أو ما يدخل في حكمه.
ولقد سبق أن خاص في هذا الموضوع جل علماء الإسلام وجعلوا إصلاح العالم شرطاً من شروط الأخذ منه والتعليم على يده، وحذروا من الأخذ عن العلماء الذين لا تتوفر فيهم الشروط الأخلاقية الإسلامية، فضلا عما في تحصيلهم من عيب أو ضعف. لقد كان تشدّد أسلافنا في أمر اختيار المعلم له دلالاته منها: أنهم بفضل ذلك حصلوا على النوعية التربوية التي مكنتهم من تحقيق تلك النماذج الراقية من أهل الفضل والعلم والحكمة ما أحوجنا إلى وعيهم وجدهم واجتهادهم، ونحن في هذا المنطلق الجديد للبناء الحضاري.
الصفحة 284
إن استقراء الأوضاع التربوية المتزايدة في مختلف النظم في البلاد الإسلامية، يدل على شدة انعكاسات المعلم الفاشل على المتعلمين بصفة خاصة، وعلى التعليم بصفة عامة. كما دلت أيضاً على أن نسبة نجاح المتعلمين الذين تحت إشراف معلمين ناجحين ذوي خبرات عالية ومهارات تربوية ممتازة أعلى من غيرها، وهذا ما جعل السياسة التربوية في المجتمعات الحديثة تأخذ بعين الاعتبار تكوين المعلمين وخصصت لهم دوراً ومعاهد وتربصات أثناء الخدمة لتطوير طرق التربية ووسائلها التكنولوجية. ومن أهم الأدلة على ذلك انتشار دور المعلمين والتي كانت تزخر بها بروسيا في القرن التاسع عشر، ثم اجتاحت فرنسا بعد زيارة فيكتور كوزان بروسيا وإعجابه بها 1841 إلى أمريكا بواسطة هو راسما فمنذ ذلك العهد بلغت العناية بإعداد المعلمين مبلغاً جعل كل سياسة تربوية وعملية إصلاحية تجعل من مراكز اهتمامها في تطوير التربية مراكز إعداد المعلمين إلى اليوم وصارت دور المعلمين في العصر الحديث من أهم المؤسسات التربوية التي من مهماتها تطوير فنيات التربية، فضلاً عن إعداد المعلمين للمدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية، هذا وإن أغلب المؤهلين للمعاهد التكنولوجية لأعداد المعلمين والأساتذة يختارون من نخبة التلاميذ الحاصلين على أعلى الدرجات في تعليمهم الثانوي والجامعي لإعدادهم إعداداً تربوياً وخلقياً.
أما الأستاذ الجامعي فيتم تخرجه مباشرة من التعليم العالي. على أن بعض النظم التربوية الحديثة قد خصصت لأعداد الأساتذة معاهد عليا يتم فيها إعدادهم وتكوينهم الأكاديمي من جهة، كما تعمل هذه المعاهد على تطوير العلوم والمعارف عن طريق تطور البحث العلمي من جهة أخرى، وصارت لهذه المعاهد وظيفة مزدوجة تكوين النخبة من الأساتذة من جهة، وتطور العلوم والمعارف من جهة أخرى، وهو ما جعلها تعد من أهم عوامل تطور العلوم والتكنولوجيا في العصر الحديث، مما ساعدها على اكتساب سمعة مرموقة في العالم.
وهنا قد يعترض أحد ويقول : إن هذا النوع من الانتقاء والاصطفاء للنخية الممتازة من الجامعيين لهذا النوع من المؤسسات التربوية العالية لهو من قبيل
الصفحة 285
التفاوت والسماح بوجود نخبة محظوظة لهو مما يتناقض مع مبدأ تكافؤ الفرص. والحقيقة أن النظم التي اعتنت بالنخبة النابهة من طلاب العلوم كالنظام الروسي والسويدي والبريطاني ... فهذه النظم لا يستطيع أحد أن ينكر مدى اهتمامها أيضاً بالقاعدة، إذ توصلوا إلى إلزامية التعليم الثانوي، ومنهم من صار يفكر في الزامية التعليم العالي إن التربية مهما كانت ثرية هي عاجزة على تغطية كل هذه المواهب والقدرات وهذا ما جعل المربين المحدثين يلحون على ضرورة التنوع وإفساح المجال لاختيار المتعلم والإكثار من شعب التعليم الثانوي وتسهيل الانتقال وجعله عند رغبة المتعلم وإزالة الحواجز التي تحول دون انتقال المتعلمين من شعبة إلى أخرى. لقد طبقت هذه الاقتراحات والآراء التربوية في السويد وفي المدرسة الشاملة في بريطانيا وأنت بنتائج مفيدة كل ذلك لكسب المتعلمين وجعلهم يواصلون تعليمهم إلى أعلى مستوى ممكن.
على أن هذه المساعدات إن خففت على التلاميذ وطأة التعلم ومساعدتهم على اكتشاف شخصيتهم وميولهم ومواهبهم لم تستطع أن تلبي رغبة الجميع مهما حاولت هذا ولا تستطع أن تكون من الجميع عباقرة ومتفوقين.
إن العناية التربوية يجب أن تكون عامة بحيث لا يكون ثمة أي حرمان فالتربية حق وواجب على كل أحد من أفراد الأمة، على أن القدرات عند الناس متفاوتة، وميولهم مختلفة، وبالتالي حاجاتهم إلى العناية والرعاية والتربية والتكوين تكون أيضاً مختلفة، وهذه الظاهرة في طبيعة الخليقة وتنوعها لها فضل كبير على الحضارة، إذ لولاها ما حققت الإنسانية هذه الثروة الفكرية والحضارية إلى هذا التنوع الخصب والتطور الراقي. ثم إننا لا ننكر مدى أهمية المحيط في تكوين الميول والرغبات وإنماء المواهب ومختلف القدرات، ولكن المحيط وحده أيضاً غير كاف لعدة أسباب منها أن اختلاف المتعلمين في مستوى الذكاء أصبح أمراً ثابتاً اتفق عليه أغلب علماء النفس، وكذلك مختلف القدرات وينشأ عن هذا أيضاً اختلاف في الميول والاستعدادات. فبينما يعترف المربون بهذا القصور فهم يعترفون أيضاً بأن ديمقراطية التعليم إذ تركز على القاعدة فهي لا تهمل النخبة لأنها هي الأخرى حاجة من حاجات الأمة والحضارة، ولذلك
الصفحة 286
تراهم يعممون العناية ولا يقصرونها على أحد كما كانت من قبل فإذا ظهرت مواهب وبرزت استعدادات عند أي متعلم كيف ما كانت طبقته أو نفسيته لا بد من العناية به ومساعدته حتى ينبغ ويحقق طموحه وتفوقه في أي مجال من مجالات العلوم والمعارف، ومن هنا نتبين أنه لا تناقض إطلاقاً بين العناية بالقاعدة والعناية بالنخبة.
إلا أنه قد يطرح بشكل آخر يتعلق بما قلناه من ضرورة وجود المعلم وأهمية مهمته، بيد أن بعضهم يرى هذا الرأي مبالغ فيه ويعتقدون إمكان الاستغناء كلياً على المربي أو المعلم، والحقيقة إن معلم التربية القديمة الذي كان قطب العملية التربوية مما جعل المتعلم ها مشياً سلبياً فما عليه إلا أن يحسن السماع والتلقي والحفظ والفهم ... كل ذلك بصمت وخجل رهيبين. فهذه الحالة التي كانت عليها العملية التربوية تعود في الحقيقة إلى طريقة التعلم التي كانت تلقينية محضة. وغايتها لا تتعدى نقل المعلومات نقلاً أميناً، وكأن المعارف ثابتة. أما اليوم وقد تغيرت المفاهيم وتطورت المعرفة ومن ثمة صارت العملية التربوية هي الأخرى عملية متجددة متغيرة كما أسلفنا وبذلك صار المتعلم هو محور العملية التربوية على أن مهمة المعلم إن تغيرت من عملية التلقين إلى عملية التوجيه، فلقد بقيت ذات أهمية معتبرة إذ بدونه تصبح العملية التربوية قائمة على الارتجال والصدقة.
في حين أن العملية التربوية عملية هادفة تستلزم الإشراف الحكيم الذي يجعل نسبة الخطأ قليلة أو شبه معدومة، وهذا ما يجعل الإشراف لا يكون إلا من أولى الكفاءة التربوية والمتخصصين الذين بفضلهم يربح المتعلم أعماراً من الخبرة وجهود المحاولات ونماذج من المثل العليا الحية، إذ لولا المعلم ما عرفنا الهدى، ولما وصل أحد إلى قمة الحكمة وآفاق المعرفة الشاسعة، ولما عرفت الإنسانية هذه السلسلة الطويلة من الحضارات المتتالية المتكاملة بدءاً من الحضارة الصينية القديمة والهندية والمصرية واليونانية والإسلامية إلى الغربية التي تلخصت فيها كل هذه الخبرات وانتقيت في شكل علوم ومعارف وفنون وخبرات وصناعة وتكنولوجيا.
الصفحة 287
على أن بعض المربين المحدثين حاولوا أن يهونوا من قيمة المعلم إلى درجة أدعى فيها البعض إمكانية الاستغناء عن المعلم كما أسلفنا، وذهب إلى هذا الرأي جماعة التربية التقدمية الأمريكية (كارلتون) و (آشیورن) و (جون ديوي)؛ والواقع أن العملية التربوية على شكلها التلقيني الحرفي كما كانت في العصور الوسطى رغم محاولات (كالفن) و (لوثر)، وغيرهما كانت تجعل المعلم كل شيء، وكان المتعلم متفرجاً في غاية السلبية، وصار حظه من العملية التربوية ثانوياً باستثناء ما يقوم به من حفظ آلي ونقل حرفي للمعلومات؛ فلا يناقش ولا يحلل ولا يقارن ولا يحكم ولا يبرهن على أن هذا الوضع مهما كان سيئاً ليس حجة على عدم جدوى المعلم إن كلياً وإن جزئياً، لأن التربية وإن كانت تقوم على أساس جهد المتعلم ومحاولاته النظرية والعملية التطبيقية فإنها تحتاج إلى إشراف المعلم عن كتب، مما يجعل سير العملية سيراً محكماً ومقتناً تقنياً فنياً تربوياً يضمن تحقيق الأهداف المرجوة، لأن عملية الانتقال من المقدمة إلى النتيجة، ومن الأصل إلى الفرع، ومن المجمل إلى المفصل، ومن المشخص إلى المجرد، ومن الخاص إلى العام؛ لا بد من ضابط منهجي يمكن للعملية من أدائها إلى آخرها، وفي جميع مراحلها المختلفة، إذا كان من أهم شروط الخبرة التربوية أنها ذات استمرار وانتقاء ونمو، فإن هذه الصفات والخصائص لا يمكن تحقيقها بدون معلم بارع في تعليمه ومناهجه يحيط بالعملية التربوية من جميع جوانبها النظرية والعملية. وهذا ما يحملنا على القول بأن مصائر الأجيال مرتبطة بنوعية المعلمين الذين نختارهم لتعليم أبنائنا.
لعل أكبر كارثة حضارية تعرفها أمة ما هي عندما ينعدم فيها العلماء الأكفاء المصلحون الصالحون، ولقد ذهب ابن باديس بعيداً عندما اعتبر أن صلاح الأمة يرتبط بصلاح المعلمين وفسادها بقادهم.
غير أن مهنة التعليم في البلاد الإسلامية إذا ما قورنت بالأصل الذي عرف عند الملة لا تستطيع أن تقول أنها في المستوى المطلوب، والسبب في ذلك طغيان الذهنية المادية على القيم والمفاهيم التربوية، ولقد أصبحت مهنة التعليم حرفة كسائر الحرف، وتقنية كسائر التقنيات لا يريد منها صاحبها سوى
الصفحة 288
كسب المال والجاه وغيرهما من أغراض الدنيا، وهو في هذا لا يطالب إلا بما يحقق له ذلك الغرض لا غير مقابل أجر مهما كان غالياً فهو رهيد. إذا ما قيس بثواب الآخرة عندما يكون تعليمه العلم يريد به وجه الله .
لقد كان علماء الإسلام في القديم يؤكدون على هذا الجانب العقائدي التعبدي الأخلاقي لطلب العلم وتعليمه من ذلك يرى الغزالي أن من دلائل الهداية أن يخلص المتعلم علمه الله، فيزداد به قرباً منه سبحانه عز وجل. ويرى ابن جماعة إن من خصائص المعلم الذي يجب الأخذ عنه هو الذي لا يقصد بتعليمهم وتهذيبهم غير وجه الله تعالى ونشر العلم وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها واغتنام ثوابهم وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعضهم (1). ومذهب علماء الإسلام هذا في تعليم العلم راجع إلى توجيه الرسول ﷺ في قوله: إن الله تعالى وملائكته وأهل السماوات والأرض وحتى التملة في جحرها يصلون على معلم الناس الخير». وهذا الإجلال للمعلم لا يمكن أن يدركه في أي ملة غير الملة الإسلامية وهو ما يجعله جديراً بأن يكون مثلاً عالياً في دينه وسلوكه وجده واجتهاده وإخلاصه وصلاحه وفلاحه إن نموذج المعلم في الأمة الإسلامية لمن أرقى النماذج التي عرفها تاريخ التربية قديماً وحديثاً، إذا ما قيس وضع المعلمين والأساتذة اليوم في الملة، وما آلت أحوالهم بما كانوا عليه في الماضي، فإننا ندرك بجلاء مدى الهوة التي تفصلنا عن المطلوب، لأن فساد العلماء في الأمة أخطر من فساد الحكام وهذا ما يجعل الإصلاح التربوي الذي لا يراجع هذا الوضع يعمل على أن يعيد للمعلم عهده الذهبي وقيمته العالية ومكانته السامية وجدارته العلمية والتربوية اللازمة إصلاحاً ناقصاً لا يرجى منه صلاح.
توحيد التعليم:
تنزع النظم السياسية خاصة ذات الاتجاه الاستبدادي والشيوعي
الهوامش
(1) ابن جماعة آداب المتعلمين تحقيق أحمد عبد الغفور، ص: 2، بیروت 1997م، ص: 194
الصفحة 289
والطائفي والنازي ... إلى الوحدة وتحاول أن تجعل من الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وحدة صارمة الحدود مركزة التمحور في السلطة المركزية، وهذا النوع من النظم تتمحول سياستها التربوية والثقافية حول المركز الإيديولوجي المسيطر على كل مجالات الحياة في مثل هذا الحال ينظر إلى التعليم الحر نظرة الخصيم المناوى للتربية الرسمية لعدة أسباب منها :
ا الرغبة في السيطرة على كل المؤسسات الثقافية والتربوية وإخضاعها للاتجاه الإيديولوجي للدولة وهذا إجحاف في حق الأمة لأن الثقافة كي تزدهر لا بد لها من التنوع.
ب - القضاء على التنوع بدعوى محاربة التفاوت الاجتماعي وتحقيق العدل ومجانية التعليم لأنهم يخلطون بين حاجة السياسة إلى الوحدة وحاجة الثقافة إلى التنوع لأن أهم وظائف السياسة التوحيد ووظيفة الثقافة الإثراء والتنوع.
ج - تحقيق الخطة الإنمائية بالطريقة التي رسموها وعلى الوجه الذي أراده بقطع النظر عن الشروط الموضوعية التاريخية وهو خطأ منهجي واضح .
د التحكم في طريق الكسب والوظائف وغيرها.
على أن الحياة الاجتماعية والثقافية مرتبطة بالحياة الاقتصادية ارتباطاً قوياً؛ بحيث إذا تنوعت طرق الكسب والمعاش، تعددت سبل الحياة وتعددت الحاجة إلى الخبرات المتنوعة، ويذهب إلى هذا علماء ومفكرون في عصور مختلفة من بينهم ؛ ابن خلدون فيربط هذا الأخير بين الحضارة والتعليم إلى درجة يصير فيها خصب الحضارة وازدهارها منعكساً على ازدهار التربية والتعليم بحيث تتنوع التربية بتنوعها وتضحل بضحالتها، وأما دور كايم فيرى أن قانون توزيع العمل هو العامل الرئيسي في التنوع الثقافي والتربوي وغيرهما، فكلها تجانست طرق الكسب تجانت الحياة وإذا تنوعت شهدت الحياة في كل أشكالها الثقافية والتربوية تنوعاً ثراء خصباً فإذا كانت ظروف الحضارة تجنح إلى التنوع فإنه من العبث أن يجنح التعليم إلى عكس ذلك، وهذا ما يجعل هذه السياسة التربوية
الصفحة 290
تنشد تحقيق الوحدة على حساب التنوع وهذا أمر يخالف طبيعة الحياة وصيرورة التاريخ على أن التنوع ليس بالضرورة نقيضاً للوحدة؛ بدليل أن نظماً كالنظام البريطاني والسويدي استطاعا أن يحققا التنوع في إطار سياسي وحضاري موحد.
فالإطار الحضاري العام يمكن أن يكون واحداً مميزاً عن غيره من الأطر الحضارية الأخرى لكن هذا لا يمنع إطلاقاً وجود تنوع في الثقافة وما تحتاج إليه الشخصية الحضارية للأمة.
بل الذي يلاحظ اليوم للمنظومات التربوية هو هذه النزعة السكونية التي لا تليق بحاجة الثقافة والحضارة إلى التنوع والديناميكية، والمفروض هو أن نشجع كافة المحاولات الإبداعية التي تساعد على فتح آفاق جديدة في الحقل التربوي والثقافي والاقتصادي والحضاري، وإذا كانت التربية هي صانعة الحضارة وإذا كانت الحضارة تحتاج دوماً إلى المزيد من الجهود وإمكانات الإبداع والتنوع لتزداد ثراء وخصباً فإن التربية لا يجوز أن تكون حكراً على الدولة بل يترك أمرها لكل الطاقات والفئات والجماعات بالإضافة إلى مجهودات الدولة والكل يعمل باتساق وتعاون وتكامل من أجل الصالح العام وخير الناس جميعاً.
ولهذا السبب نلاحظ في العالم الإسلامي كما هو الشأن في غيره مرونة في السياسة التربوية وتنوعاً في المؤسسات الرسمية والحرة والخيرية. لقد كان إلى عهود قريبة جدا في البلد إلى جانب الجامع الزاخر بحلقات العلم كتاتيب ومدارس ومعاهد ... وكان نظام الأحباس كما أشرنا سابقاً يشجع على هذا التنوع، وكانت الجمعيات الخيرية التي لا حصر لها تمول مشاريع البر حتى عم التعليم وازدهرت التربية وتنوعت ميادينها كل ذلك في إطار الحضارة الإسلامية الموحد.
إن المعاهد الإسلامية التي كانت تأوى أبناء الفقراء والمحتاجين في المدارس الحرة التي كانت تفتح أبوابها لكل طالب علم، كيف ما كان سنه أو وضعه الاجتماعي أنقذت الكثير من الذين رمى بهم نظام الامتحانات إلى الشارع، وكان قد قل من يضيع من المتخلفين من غير المحظوظين ونجح جميع
الصفحة 291
الأبناء على اختلاف قدراتهم واستعداداتهم، فبهذا قل التسرب والحرمان والشذوذ والجناح إن الدراسات التي أجريت في هذا الصدد بينت نجاعة المدارس والمعاهد الحرة في تقليل عدد المجرمين والمشردين والجانحين، في حين أن البلدان التي منعت كل المدارس والمعاهد الحرة لم يبق عندها إلا المدارس الرسمية والمعاهد التي يخضع الانتساب إليها لقانون الامتحان والمسابقات من أجل الانتقال من صف إلى آخر وإلى سياسة التوجيه التربوي، ومن ثمة يكثر عندها المتسربون وبكثرة المتسربين تزداد نسبة المتشردين والجانحين بالإضافة إلى زيادة البطالة وانتشار الأمية في صفوف الشباب وانخفاض المستوى الثقافي.
إن هذا الحرمان لا مبرر له وليس من الحكمة أن تغلق أبواب المدارس وحشد شبابها في سجون إعادة التربية مع أن التربية أحسن من إعادة التربية وأيسر بتكاليفها، لقد بات من المعروف أنه من أغلق مدرسة أو مسجداً قد فتحسجناً أو سجوناً وكذلك العكس.
وفي الجملة إن التوجيه نوعان :
ا - توجيه تربوي ينصب على الجوانب التربوية البحثة قصد التعرف على قدرات الطفل وإمكاناته العقلية وغيرها ليكون توجيهه على أساس معرفة المجال الذي يليق بميوله وقدراته ومواهبه وخبراته الأساسية التي سبق أن حصل عليها في المراحل السابقة من سلم التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، وهذا النوع من التوجيه ضروري حتى في أعلى المستويات الجامعية فيما أكثر الطلبة والتلاميذ الذين يلقون أنفسهم في ميدان لا تربطهم به أي علاقة نفسية أو عقلية أو خبرة. وكثيراً ما يتجه الطالب إلى علم ما لمجرد سمعه ذلك العلم ولكن ما أن يجد في طلبه حتى يجد نفسه تنفر منه ولم يجد ما يرغبه في التخصص فيه بعدما أطلع على ميدانه ومنهاجه ومردوده في الحياة العملية العامة وما أكثر أولئك الطلبة الذين يضيعون الأعوام ثم يجدون أنفسهم بعدها مضطرين إلى إعادة التخصص وتغييره، ومنهم من يجد أن الوقت قد فاته إما إنه يستمر مكرها في دراسته في ذلك التخصص وإما يتوقف عن الدراسة تماماً وفي الحالتين لا يستطيع الطالب أن يذهب بعيداً في علم لا يرغب فيه ولا يطمح في الوصول إلى مستوى أعلى فيه
الصفحة 292
لأن التخصص يتطلب جهوداً لا حد لها والذي لا رغبة له ولا قدرة له على بذل هذه الجهود إن أغلب أنواع التسرب في الأقسام الجامعية تعود إلى هذا السبب، من أجل ذلك بعد التوجيه التربوي من أهم الشروط التربوية لكل مرحلة من مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي وما بعدها.
ويشترط في هذا النوع من التوجيه ما يلي:
ا معرفة مواهب المتعلم وقدراته بالإضافة إلى ميوله وإمكاناته. إن المتعلم قد يميل إلى مادة لكن إمكاناته لا تسمح له بدراسة تلك المادة أو ذلك التخصص كان يتطلب التخصص لغة أجنبية أساسية والمتعلم لا يعرفها أو التفوق في الرياضيات والتلميذ ضعيف جداً في هذه المادة.
ب - دراسة أهمية مجال التخصص بالنسبة لمستقبل المتعلم من جهة والحياة الثقافية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جهة أخرى وفي هذا الحال لا بد من رؤية مستقبلية واضحة حتى لا يعد المتعلم لزمن وظروف تختلف عن زمانه وظروفه متطلبات عهده وجيله.
ج دراسة الشروط الموضوعية في مجال التخصص كأن ندرس إذا وجد في التخصص من علماء نابهين تربوياً واجتماعياً أولي خبرة جيدة.
أما النوع الثاني فهو التوجيه السياسي وذلك عندما يكون للدولة خطة إنمائية فتدرس ضمن تلك الخطة الإنمائية حاجة الدولة والمجتمع إلى الإطار المتخصص ونوعيته هذا من جهة، ودراسة قدرة الاستقبال عند كل تخصص بحيث إذا كانت أقسام التخصص محدودة لا تستطيع أن تستوعب أكثر من اللازم، ففي هذه الحالة يكون التوجيه حسب الأماكن الشاعرة في التخصص.
والحقيقة أن ترك الأمور إلى الصدفة إن أفاد بعض الشيء فالضرر فيه أكثر لعدة أسباب منها :
ا إن كثرة الإقبال على التخصص الواحد يؤدي إلى الاكتفاء فإلى الفائض وهذا يعود على المؤسسة التربوية بالتعب وكثرة المشكلات التربوية
الصفحة 293
والمادية كما يؤدي إلى كثرة المتخرجين البطالين حين يصير عدد الموظفين أكثر من الوظائف الشاغرة أو المطلوبة .
ب - إن كثرة الطلبة في تخصصات معينة تفضي إلى قلتهم وندرتهم في تخصصات أخرى، وعندئذ تكثر البطالة في تخصصات في حين يوجد فراغ في الوظائف الأخرى التي لم يهتم بها المتعلمون وهذا يكلف الدولة والمجتمع وحتى المتعلم نفسه خسارة ومتاعب لا حصر لها .
من أجل هذه الأسباب وغيرها بعد التوجيه التربوي السياسي ضرورياً لكن على أن يكون التوجيه مرناً لا يضيع مصلحة المتعلم ولا يكون على حساب مستقبله باعتباره المعني الأول بالتوجيه.
وهناك أيضاً موضوع الامتحانات الذي لا شك له ارتباط وثيق بالتوجيه بنوعيه التربوي والسياسي. إن الامتحان قد يكون في بعض الحالات ضرورياً المعرفة قدرات المتعلم وتحديد العملية التربوية ومحتواها من الخبرة حسب قدرته على أن المبالغة في تقدير الامتحان والثقة به يؤدي حتماً إلى كثرة التسرب وعدم الإنصاف بل يفضي بالوضع إلى الحرمان التربوي فإلى التفاوت الاجتماعي تترتب عليها مخاطر كثيرة هذا وإن بعض النظم التي يكتسبها الطابع الانتقائي تتخذ الامتحانات وسيلة للتخلص من التلاميذ المتخلفين وهم كثرة وهذه النظم لكثرة التسرب الناشيء عن الامتحانات الانتقالية تشكل خطراً على العدل الاجتماعي قد يتسبب هذا في التفاوت الاجتماعي المنافي لقيم العدالة في النظم الاجتماعية لذلك ترى نظماً تخلصت من هذه الامتحانات وعوضتها بالتوجيه الذي صار الوسيلة الأساسية لانتقال التلاميذ من قسم إلى آخر ولم تبق إلا الامتحانات الرسمية التي تحدد المستويات العامة كالبكالوريا والليسانس وغيرهما، ويتزود بها المتخرج ليعتمد عليها في توظيفه في المؤسسات العمومية أو الخاصة.
ولئن كانت امتحانات البكالوريا تفسح المجال أمام حاملها المواصلة الدراسات الجامعية فإن ارتباط هذه الإجازة بالجامعة كثيراً ما يعطيها صبغة الانتقاء ويتحول الامتحان في هذه الحالة إلى مسابقة فيحرم أصحاب المستوى المطلوب في الشهادة من نيلها وتصبح هذه الامتحانات وسيلة حرمان من
الصفحة 294
الوظيف فصلاً عن الحرمان من مواصلة الدراسة الجامعية وفي هذا الحال يكون اخل الأوحد هو الإنصاف والموضوعية حتى تصبح البكالوريا امتحاناً بقطع النصر عن أي اعتبار آخر فيحدد مستواه تحديداً موضوعياً يتفق مع سائر مستويات البكالوريا في العالم.
أما المعاهد الجامعية إذا قلت وسائل الاستقبال أو أرادت أن تنتقي النخبة الممتازة من حملة البكالوريا فلها أن تجري مسابقات للانتقاء وهكذا يتحقق الغرض دون ضرر في الحالتين.
التربية في الأرياف :
إن ازدهار الحواضر جعل أهل المدن يستمتعون بحظوظ كثيرة وغالباً ما تكون على حساب مناطق أخرى من البلاد وكان حظ أهل البادية من الحقوق العمرانية قليلاً وانعكس ذلك على الضروريات كالتعليم والصحة ومختلف المرافق والتربية إذ تمثل أهم الضروريات فإن عدم توفيرها لكل أبناء الأمة ظلم وحرمان والسبب في ذلك أمور منها :
أ - قلة المدارس وبعدها عن بعضها وعدم وجود وسائل النقل وعجز الأهالي على توفير ذلك لأبنائهم لفقرهم وعدم قيام البلديات والسلطات المحلية بذلك الواجب فنجد الطفل في سن السادسة يقطع يومياً أكثر من خمسة كلم متعرضاً للبرد الشديد وإلى المخاطر.
ب - عدم رغبة المعلمين في التعليم الريفي لما يجدونه من صعوبة العيش والاتصال وعدم توفير المرافق الضرورية كالكهرباء والماء والسكن المريح.
فعلى الجملة إن مناطق الريف تعاني من الحرمان التربوي الذي بسببه تفقد الأمة إمكانات بشرية هي أحوج ما تكون إليها، لأن المحروم من التربية سيكون عالة على غيره وإن سعى وعمل وأنتج لأن مستوى الانتاج لا يمكن أن بتضاعف بالطرق التقليدية، فقد تدخلت أمور تكنولوجية ضاعفت منه وساعدت الإنسان ومكنته من التغلب على الطبيعة وتذليلها في الزراعة والصناعة وجميع مجالات الانتاج وهذا ما يجعل الإنسان صاحب الخبرة أكثر فعالية
الصفحة 295
وصلاحاً لنفسه ولامته، وإذا ما علمنا أن الحرمان من التربية حرمان في كل مجالات الحياة علمنا مقدار انعكاسات الحرمان التربوي الريفي على البلاد. وعلمنا لماذا يقي مستوى استغلال الأرياف بدائياً تقليدياً وإذا كان أغلب البلاد الإسلامية أريافاً فإنها أكثر البلدان حرماناً والدليل على ذلك أن التفاوت بينها وبين الأمم المتقدمة صناعياً بات أمراً خطيراً، والذي زاد في خطورته، أنه يزداد بعداً وعمقاً، وأهم مقياس لذلك الفرق فيها تنفقه على شبابها وما تنفقه شعوبنا على أبنائها في مجال التربية ومما جاء في تقرير اليونيسكو إن مبلغ ما أنفقته الأمم المتقدمة سنة 1۹۹۸ 1۲۰ مليار دولار بينما لم يتجاوز ما أنفقته الأمم المتخلفة في نفس السنة ١2 مليار دولار مع أن نسبة الشباب في البلاد النامية أكثر من شباب العالم في حين لا يزيد شباب الأمم المتقدمة في الربع ومعنى هذا أن ما تنفقه الأمم المتقدمة على شبابها أكثر من عشرة أضعاف ما تنفقه شعوب العالم الإسلامي على شبابها والرسم البياني التالي يبين ذلك بوضوح.
(انضر الشكل الموجود ضمن النسخة pdf اعلاه)
أيد جازفون - تعلم لتكون - ترجمة حنفي عيسى، أنيوسكو الشركة الوطنية للنشر والتوزيع -الجزائر، ص / 98
الصفحة 296
مقارنة واستنتاج
إن دراسة المشكلات التربوية بالطرق الجزئية الممعنة في التبسيط هي دراسة سطحية لا تفيد والسبب في ذلك إن هذه المشكلات مهما تبدو جزئية فهي ليست كذلك، فيحكم تعدد أبعادها واختلاف ميادينها وشدة تفاعلها مع مختلف جوانب الحضارة لا تعالج إلا في نطاق حضاري واسع بالإضافة إلى تعقد مسائلها وتعدد شروطها وقوة ارتباط عواملها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسة في إطار الخبرة التاريخية التي اكتسبتها الأمة أثناء جهادها الطويل من أجل تحقيق الأفضل كل هذه الأمور وغيرها تجعل النظرة الشاملة لكل الأصول وجميع علاقاتها بالفروع ضرورية إلى جانب مراعاة الظروف المستجدة والتوقعات المحتملة والتغيرات الكبرى التي لولاها ما عرفت الأمة نهضة ولا بنت حضارة ولا ارتقت إلى مصاف الأمم المتحضرة.
على أن بعض المربين يعتقدون أن دراسة المشكلات التربوية في نطاق خبرة أمة واحدة غير كافية مهما حاولت أن تنصف بصبغة الشمولية بل لا بد من مراعاة مدى تطور النظم التربوية عند أرقى الأمم وأكثرها از درهاراً قصد الاستفادة من خبراتها لتصبح الإصلاحات التربوية في ضوء التطور الحضاري العالمي ومنهم من ذهب إلى القول بإمكان استخلاص وانتقاء التجارب والخبرات الأجنبية لمواجهة المشكلات التربوية بحلول سبق أن جربها الآخرون وأكدت تجربتهم صلاحها مما يقوي ثقة العمل بها ويثبت نجاعتها من هؤلاء نذكر هانري بيرنارد وفيكتور كوزان وهو راسمان وآخرين لا يتسع المقام لذكرهم اشتهروا في التربية المقارنة بمحاولاتهم الإصلاحية التي كان لها أثر في تطوير النظم التربوية الحديثة في فرنسا وبريطانيا وأمريكا الشمالية .
الصفحة 297
على أن آخرين لا يتفقون مع هؤلاء ويعتقدون أن انتحال الخبرة الأجنبية لهو من قبيل العبث لعدم صلاحها وكثرة ضررها وخطورتها على النظام المستعير الذي هو موضوع الإصلاح. ودليلهم على ذلك أن المنظومة التربوية مرتبطة ارتباطاً عضوياً وظيفياً بثقافة الأمة وطابعها الحضاري الأصيل الذي أنشأته التجربة التاريخية غير مختلف العهود والعصور وذهب السيد مايكل سادلار المصلح الإنجليزي المشهور إلى اعتبار المنظومة التربوية لشدة ارتباطها وتفاعلها مع مختلف الأبعاد الحضارية للأمة وليدة الطابع الثقافي والحضاري وأن أي زرع للخبرات الأجنبية يعرض كل شخصية الأمة إلى التشويه والضرر هذا وإن الخبرة المنتحلة لا تصلح في رأيه إلا في منظومتها ومناخها الثقافي والحضاري، أما انتحالها للأسباب المذكورة فلا يفيد شيئاً لأن نقلها يفقدها حيويتها وفعاليتها وتفاعلها الوظيفي التي كانت تتمتع به قبل انفصالها من منظوماتها الأصلية ويرى مايك سادلار أن عملية الإصلاح للنظام التربوي بواسطة الخبرات الأجنبية يؤدي حتماً إلى تشويه المنظومة التربوية الذي سرعان ما ينعكس على شخصية الأمة برمتها كما يؤدي إلى تشجيع التقليد الأجنبي لأن الإعجاب بالآخرين كثيراً ما يصحبه شعور بالضعف والعجز على الإتيان بالمثل فضلا عن انتاج ما هو أفضل منه وهذا القصور إذا ما استفحل في جيل من الأجيال أسرع إليها الفناء.
لكن بعض علماء التربية المقارنة إذ يعترفون بوجود فروق بين النظم التربوية وحالات كثيرة من الاختلاف لا تسمح بتقبل أي محاولة إصلاحية مهما كانت بل لا بد من مراعاتها وأن التربية المقارنة علم غايته مساعدة المصلحين على تطوير نظمهم في ضوء التطور التربوي العالمي دون أي مساس بشخصية النظام الذي هو موضوع الإصلاح ولا يستطيع هذا العلم أن يخرج من ورطته هذه المتعلقة بالاستعارة للخبرات الأجنبية إلا إذا طورت التربية المقارنة مناهجها ونظرياتها وصارت ذات القدرة على تحقيق الحلول في ضوء الخبرات الأجنبية دون مساس بالخصائص الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية في الجملة .
هذا بالنسبة إلى أمم الغرب والشرق التي طورت نظمها في ضوء الخبرات الأجنبية بالإضافة إلى إمكاناتها الذاتية أما بالنسبة إلى البلاد الإسلامية فقد عانت
الصفحة 298
وما زالت تعاني من نفس المشكلات فهناك مصلحون يرون أن النظم التربوية الحالية لا تخلو من قصور وضعف مما يجعلها في أشد الحاجة إلى الإصلاح لكنهم إن يجمعوا على ضرورة الإصلاح فإنهم لا يتفقون على الطريقة التي يتم على أساسها الإصلاح المنشود فمنهم من يرى أن الإصلاح يكون في ضوء تطور النظم التربوية في أرقى الأمم ومن هؤلاء من ذهب إلى الإبقاء على شكل المؤسسات التربوية التي أسسها الاستعمار أيام احتلاله للبلاد مع محاولة إدخال بعض التعديلات المتعلقة بالمناهج وأهداف التربية وأغراضها في ضوء مرحلة الاستقلال والحرية وما تضمنته من مشاريع للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وحجة هؤلاء أن المؤسسات التربوية القديمة كالكتاتيب والزوايا والجامع لم يبق صالحاً لمقتضيات العصر الحديث لا بد من مدارس ومعاهد وجامعات.
أمن آخرون فيرون عكس ذلك ويعتقدون أن التربية في كل حالاتها هي مشكلة حضارية ولن تعالج إلا في إطارها الحضاري الأصيل ومن هؤلاء نذكر مثلا مالك بن نبي صاحب مشكلات الحضارة ووجهة العالم الإسلامي فإنه في دراساته توصل إلى أن عملية انتحال الخبرة الأجنبية هي مجرد عملية - تكديس شيء - المنتوج حضاري أجنبي لأنه يرى أن الحضارة بروحها وحقيقتها الأصلية لا تنقل ولا يمكن أن تستورد ولعاً من نتائج هذا الاستيراد لعالم الأشياء أنه لا يزيد إلا شعوراً بالحاجات الاستهلاكية التي تزيد في شدة الارتباط الأجنبي والتبعية. ويعتقد ابن نبي في هذا الصدد إن التبعية ليست إلا مشكلة حضارة لأن الأمة التي تفقد القدرة على الانتاج الحضاري ترتبط حتماً بالأمم المنتجة للحضارة وتتبعها الأمر الذي يجعلها تابعة قابعة خارج حلية التاريخ. ويذهب ابن نبي إلى أبعد من ذلك في تحليل علمي دقيق لأوضاع العالم الإسلامي ويحدد مشكلته التي هي في نظره لا تتعلق أبدا بعالم الأشياء وهذا عكس ما سارت عليه الأمور حيث ذهب الناس في أيامه إلى اليوم يستوردون التكنولوجية الحديثة على اختلاف أنواعها الحربية والمدنية في حين يرى أن ما كدس وجمع من أدوات وآلات ومعامل ومصانع وأسلحة ما هو إلا للاستهلاك الآني أبعد ما يكون عن المحرك الأساسي للحياة الصناعية والتكنولوجية الحقة فما هو إلا من قبيل
الصفحة 299
تكديس الأشياء لأن بؤرة المشكلة ليست كما تبدو للكثير هي الاقتصار إلى الاسياء وإنما تكمن في الافتقار إلى صانع الأشياء إنها مشكلة الإنسان صانع الحضارة.
ومن ثمة فالمشكلة التربوية في رأيه أنها تتمثل في الإنسان المنتج للحضارة كهدف أساسي للتربية وأن التربية التي تعد الإنسان المستهلك للحضارة ما هي إلا تربية تعمل على استمرار التخلف والتبعية .
ومن ثمة فإن المشكلة التربوية إذ تعالج على المستوى الحضاري الشامل لا يد من أن تحدد في ضوء المعطيات المعيارية والموضوعية.
أما المعطيات الحضارية فتتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما أثر عن الصحابة والتابعين والعلماء المسلمين النابهين في مختلف العصور وذلك في أمور المفاهيم سواء أكان مفهوم الإنسان أم الأمة والقيم والغايات والخصائص المتعلقة بالتربية الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية الإسلامية وكذلك الشأن في العقيدة الشرعية والأخلاق.
وأما المعطيات الموضوعية التاريخية فتتمثل في الواقع كما هو في كل أبعاده الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية هذا من جهة ومن ناحية أوضاع العالم المعاصر من التقنية والبيداغوجية التكنولوجية الصرفة من جهة والتي يمكن استخدامها دون ما تأثير على ما له علاقة بالجوانب المعيارية المتعلقة بشخصية المنظومات التربوية الإسلامية.
ومن هذه الناحية تكون قد حاولنا الاستفادة من كل جانب ومن خبرات كل عهد ولم تكتف بالخبرة الذاتية بل تجاوزناها إلى الاستفادة بحذر من تجارب الآخرين وبناء على ذلك أوردنا ذكر الخبرة الفرنسية كنماذج المنظومة أوروبية فرونكوفونية حديث كما أوردنا النموذج البريطاني باعتباره نموذجاً تربوياً أنجلوسوكسونياً لإظهار ما توصلت إليه النظم الحديثة من تطور من جهة وما تعانيه من المشكلات من جهة أخرى وما لهذه النظم من سمات خاصة شخصية حضارية تتميز بها .
ولعل أول القضايا التي عولجت في أول الباب هي التي تتعلق بتبني
الصفحة 300
الإيديولوجية الديمقراطية في النظم السياسية التربوية في البلاد الإسلامية المعاصرة الأمر الذي أدى إلى انتحال مبدأ تكافؤ الفرص والعمل به على سعة العالم الإسلامي وأغلب دعاة هذه الإيديولوجيات يعتقدون أن تبنيها كخبرة كان لها الفضل الكبير في تحقيق ما وصل إليه أغلب النظم السياسية والتربوية الحديثة من عدل وهم إذ دعوا إلى انتحال الإيديولوجية الديمقراطية فهم لا يشكون في أنها تؤدي إلى نفس النتائج التي نتجت عن تبنيها والعمل بها في الأمم الحديثة الشرقية والغربية ومن يعود إلى كتاباتهم في الموضوع يلمس شدة تعلقهم بمبدأ الديمقراطية في شكلها الإيديولوجي السياسي العام والتربوي، وإذا كانت مدة تبني هذا المبدأ والعمل به قد مر عليها زمن فيحق لنا أن نتسائل عما إذا حقق نفس النتائج السياسية والتربوية التي حققها في بلاد الشرق والغرب؟ فإذا كان الجواب نعم فلا داعي للبحث عن بديل أما إذا كان الجواب بالسلب فعندئذ يحق لنا أن تشاءل لماذا؟ لم يحقق العمل بالمبدأ النتائج المرجوة كما حققها في البلاد الشرقية والغربية؟ وإذا كان الجواب - بلا - فلا يحتاج إلى نقاش لأن وضع البلاد الذي يشكو من التبعية التي ما تزال تزداد ارتباطاً والتفاوت بين البلاد الإسلامية المحرومة والبلاد الغربية ينمو بشكل مفرط، إذن فما هي أسباب هذا التخلف والتبعية والتفاوت؟
العمل من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل أن ما حصل عليه الغرب والشرق من تطور حضاري وتقدم تكنولوجي ملحوظ لم يعد فقط إلى مدأ الديمقراطية كمبدأ أو إيديولوجية سياسية عامة وتربوية بقدر ما يعود إلى مجموعة من العوامل تفاعلت مع مبدأ الديمقراطية وكونت في مجموعها البديل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي في الأطار الحضاري العلمي والصناعي والتكنولوجي الحديث.
إن تفاعل هذه العوامل وتكاملها بالإضافة إلى ظروف تاريخية استعمارية جعلت البلدان الغنية تستحوذ على معظم ثروات العالم وتوظفها في نطاق التنمية الاقتصادية السريعة التي عرفتها بلاد الغرب منذ أكثر من قرن على أن ما كانت تعانيه أمم الغرب من تفاوت طبقي اجتماعي واقتصادي وسياسي وما نشأ عنه
الصفحة 301
من صراع طبقي شجع على تبني الديمقراطية لإعادة الاعتبار إلى الشعوب فقد شجع العمل الجاد من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والجدير بالذكر أن حكماء الشرق والغرب الذين كان لهم الفضل في بناء الحضارة العظيمة ما فتئوا يوجهون الطاقات الكبرى وتوظيف المشاعر المكبوتة في الطبقات الشعبية لتخفيف حدة الصراع الداخلي بين الطبقة الفقيرة والطبقة الغنية بأحداث حروب خارجية مع الشعوب الأخرى ومنها شعوب العالم الإسلامي فهي بهذه الحروب تقضي على الخلافات الداخلية والاضطرابات السياسية من جهة لتوجه الطاقات إلى البناء الاقتصادي والحضاري وتعمل على تحقيق مخططاتها التوسعية في العالم وتزيد في نهب الأرزاق والموارد من جهة أخرى.
إن الصراع مع الاستعمار في نطاق التحرر ما لم يعد الاعتبار إلى الشعوب فإن المعركة التي تحولت إلى المستوى الإمبريالي الدولي لوضع حد لابتزاز أرزاق الضعفاء والقضاء على التبعية بكل معانيها الاقتصادية والثقافية والحضارية لا يتحقق إلا بمشاركة الشعوب بكل ما لها من قدرة على الاتفاق والاتحاد والتضامن والتعاون والتكامل ....
ولعل هذا ما يجعل الوعي الذي هو إدراك جماعي لما يجب أن تكون عليه الأمة من حيث هي أمة إسلامية ذات حضارة ورسالة في التاريخ من أهم أغراض التربية المثلى التي تنشدها.
الصفحة 302