مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية
المؤلف: عباسي مدني
التصنيف: كتب أخرى
عرض PDFالوصف:
عباسي مدني، مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية، مكتبة المنارة، الطبعة الثاتية 1409ه الموافق ل 1989م، مكة المكرمة.
مقدمة الطبعة الثانية
حمداً لله على جزيل النعم وصلاةً وسلامًا على من دعا إلى ما هي ورضواناً وتكريماً لصحابته الذين التزموا بسنته وعلى التابعين وتابع التابعين
وبعد :
فهذه طبعة ثانية لكتابنا مشكلات تربوية في البلاد الإسلامية» الذي طبع في مطبعة دار الشهاب بباتنة الجزائر وذلك بعد نفاد جميع نسخ الطبعة الأولى وكثرة الطلب عليه مع الرغبة في تعميم الفائدة على نطاق إسلامي أوسع. والجدير بالذكر أن المشكلات التربوية أخذت صبغة الجدية في الطرح المنهجي على مستوى البلاد الإسلامية وهو ما يفسر مدى الوعي التربوي الذي تزامن مع الوعي الإسلامي الذي أذكته الصحوة؛ فطموح الأمة الإسلامية إلى تحقيق النموذج القرآني والسني جعل الأمة تنتبه إلى القضية التربوية وتدرك تورطها في ما آلت إليه من ضعف وتردي وتخلف وتبعية وهو ما جعل الأمة الإسلامية تدرك حاجتها إلى إصلاح نظمها .التربوية في نطاق النموذج القرآني والرسالي
على أن هذا الموقف الذي أصبح معلماً من معالم التغيرات الكبرى المتوقعة فإن مردّه إلى النظرة الشمولية الإصلاحية السلفية السنية والتي لخصها إمام دار الهجرة مالك بن أنس في قوله : «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وبمقتضى ذلك انطلق المنهج التربوي الإصلاحي عند أبي حامد الغزالي وابن
الصفحة 5
تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبدالوهاب والسنوسي ومحمد عبده والمودودي وحسن البنا وسعيد النورسي ومحمد إقبال وأبي الحسن علي حسن الندوي وابن باديس وغيرهم من أئمة السلف من اعتبار إصلاح الأمة بإصلاح تربيتها. وما دام السلوك المراد إصلاحه مرتبطاً بالتصور ارتباط التصور بالعقيدة فإن العملية التربوية من حيث هي عملية منهجية تبدأ من تزويد الإنسان بالعقيدة الصحيحة إذ بصحتها يصح التصور ويستقيم السلوك هذا على مستوى العملية التربوية . أما على مستوى الكيان الكلي للأمة فإن إصلاح المنظومة التربوية في نطاق الحل الإسلامي الشامل الرسالي الحضاري يأخذ أبعاده المختلفة في نطاق النموذج الإسلامي الأصح والأكمل وهو ما يثبته القرآن الكريم وتقهره السنة المطهرة فيقول الله جل جلاله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِيناً (1) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) فالإسلام الكل هو الحل الشامل المطلوب اليوم لإصلاح الأمة .
ومن ثمة فإن الإصلاح التربوي المطلوب لمواجهة المستجدات لا يتأتى إلا في نطاق البعد الحضاري الشامل.
من خلال هذا التصور الشمولي يعالج هذا الكتاب المشكلات التربوية في البلاد الإسلامية الذي نقدمه لأول مرة على مستوى البلاد الإسلامية بين يدي المهتمين بأمر الأمة الطامحين إلى إصلاحها والعاملين على تحقيق صلاحها كي تدرك فلاحها .
والله ولي التوفيق .
عباسي مدني
14 رمضان 1408 هـ
الهوامش
4 (1) سورة المائدة : الآية
(2)متفق عليه عن عائشة رضي الله عنه
الصفحة 6
مقدمة الطبعة الأولى
أما بعد، حمداً لله على سائر نعمه والصلاة والسلام على نبيه، فإن القصد من هذه الدراسة : معالجة المشكلات التربوية في إطار التغيرات الكبرى التي اجتاحت البلاد الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري، وفي ضوء آفاق المستقبل الذي تتطلع إليه الأمة ومعرفة الجهود المطلوبة في المرحلة الانتقالية الحضارية، والتخلص من آلامها والسعي الحثيث في تحقيق آمالها.
فالتربية كما تكون ضاربة أطنابها في تاريخ الأمة العريق، تكون أيضاً ذات بعد مستقبلي في غاية من الأهمية بحيث تتوقف عليه كل آمال الأمة فبدون التربية تبقى هذه الأمال معلقة. فالتربية إذن بهذا المعنى، لا تستطيع أن تستغني عن الرؤية المستقبلية التي تكون واضحة معالمها، محددة مقاصدها، دقيقة توقعاتها، وهذه الخصائص التي يتميز بها موضوع التربية يجعله يتطلب مناهج ديناميكية تتفاعل مع صيرورة التاريخ أو بمعنى آخر، إن دراسة التربية لا تتأتى خارج كبريات القضايا المستجدة المطروحة على ساحة الصراع بين الأمم لتنازع البقاء، وإن التربية الإسلامية هي الأخرى لا تكون إلا تربية أمة رسالة الهدى ودين الحق جادة في إعداد جيل عبقري يكون في مستوى البناء الحضاري وتطويره باستمرار.
بيد أن الملاحظ لوضع الأمة الإسلامية، لا يحتاج إلى كبير عناء كي يدرك مدى الهامشية التاريخية أو الحضارة التي آلت إليها الأمة، منذ عهد طويل،
الصفحة 7
يلاحظ ما نجم عن هذه الهامشية من تبعية في مختلف مجالات الحياة لم تبق مجرد ولوع بالغالب، كما ذهب ابن خلدن إذ لو كان الأمر كذلك لهان ولوجدنا ما يبررها ولكن الحقيقة غير ذلك .
فالدارس المدقق لحال الأمم المتبوعة يجدها تعاني من الاستيلاب ما جعلها تفقد أهم مبرراتها وغاياتها وصارت الوسائل غايات تطلب لذاتها فتطلب المال للسلطان والسلطان للغلب والاستعمار فتكون مجتمع الاستهلاك بكل ما فيه من تناقضات كالتضخم والبطالة والتبذير والصراع الطبقي والأمبريالية والتسابق على أسلحة الدمار الحضاري والفناء للنوع فحق عليها القول، قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن تُهْلِكَ فَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَ مَرْنَهَا تَمِيرًا ﴾ (الإسراء (١٦) وهو الأمر الذي حمل فلاسفة الحضارة والتاريخ على القول بسقوط الحضارة الغربية. فعلى الرغم من هذه الأمور التي بات مفكرو الغرب والشرق يعترفون بها، ويسلمون بخطورتها ليس فقط على أمم الغرب والشرق وحدهم بل يتعدى خطرها إلى الإنسانية جمعاء زادت التبعية حدة وخطورة ولم يبق على مستوى القسر المادي بل تجاوزته إلى أبعاد جعلتها أكثر تغلغلاً في كيان الأمة وتسرباً في أعماقها .
فإذا ما أمعنا النظر في التبعية بشيء من الموضوعية والعمق، وجدناها قد اتخذت بعداً نفسياً وتربوياً يشكل أخطر حالات التبعية الحضارية، حيث تعمل التربية الاستعمارية أو تربية التبعية على تكوين نفسية الإنسان المتخلف، فتحارب فيه كل محاولة تحررية وتقضي على أي مبادرة استقلالية تربطه بشخصيته الأصلية. وإذا كانت عقدة التبعية هذه تتعدى إلى أكثر من واحد، فإنها سرعان ما تتحول إلى ذهنية تغمر المجتمع وتطبعه ببصماتها البارزة فتنعكس على كل ميادين الحياة وتنشأ فيه ظواهر كالشكلية والتقليد واللامبالاة والتبذير والانحلال الأخلاقي وعدم الانضباط فصار من السهل على العالم النفساني والاجتماعي ملاحظة آثار التبعية منعكسة على سلوك الناس خاصتهم وعامتهم وعلى مواقفهم واتجاهاتهم وقيمهم عند قيامهم بمختلف المهام واتخاذ المواقف فكثيراً ما تظهر الأبعاد النفسية للتبعية في شكل ضياع للوعي الحضاري وضمور
الصفحة 8
للجهد الجماعي الناقد لمبرراته عندما تنشأ في الحياة العامة ظواهر كالتقوقع في الأغراض الشخصية وتفشي اللإنتمائية التاريخية الحضارية، وظهور النزعة العرقية والجهوية والوطنية والقومية بمعانيها الضيقة وغيرها من التناقضات1.
وإذا حاولنا البحث عن أهم عوامل التبعية حتى في أمعن صورها النفسية والاجتماعية والحضارية وما نجم عنها من انعكاسات سلبية لا حصر وجدنا مساهمة التربية في ذلك تجعلها من أشد عوامل التبعية خطراً. والدليل على ذلك أن القهر الاستعماري لم يستطع أن يعطي للتبعية أكثر من حالها المادي الصرف، بينما حققت تربيته ذلك الغرض الثاني بأيسر الجهود، فالمتتبع للتغيرات الكبرى التي غمرت البلاد الإسلامية منذ ظهور ممهدات سقوط الخلافة نجد مخطط الغارة على العالم الإسلامي كان ولا يزال يركز على التربية ويرى مدى خطورة التربية الاستعمارية ومساهمتها في تكوين إنسان التبعية، فدراسة مناهج التربية الاستعمارية وفلسفتها تدل دلالة واضحة على أن هذه التربية كانت تعتبر تكوين الإنسان اللامنتمي ، إنسان التخلف والتبعية أهم أغراضها وغاية غاياتها . على أن المصلحين الإسلاميين قد أدركوا ذلك السر من الوهلة الأولى فركزوا على تربية الطفل المسلم ذي القناعة الإيمانية والشخصية الإسلامية والمناعة العقائدية والوعي الإسلامي النير واستطاعت بالفعل تربيتهم على بساطتها وعلى الرغم من ضعف إمكاناتها أن تحمي شخصية الأمة من الضياع وكونت تربية موازية للمنظومة التربوية الاستعمارية واستطاعت إلى حد بعيد أن تحفز الأمة للعمل الجاد للصمود الحضاري والجهاد المستميت من أجل التحرر إلى تحقيق النصر وبفضل ذلك تصدت الأمة للغزو بكل أشكاله العسكرية والفكرية والحضارية فلولاها ما جاء الشعور بالحاجة إلى الجهاد مصحوباً بالوعي الإسلامي الحضاري الذي أعطى للمقاومة أهم وأقوى مبرراتها وهو ما يفسر من جهة أخرى أهم عوامل الغفوة التي انتابت الأمة في المرحلة الانتقالية فصـور
الهوامش
(1) وذهب إلى هذا القول كثيرون منهم مالك بن نبي، وأرنولد تونبي، وشنبنقل وشنستر
الصفحة 9
الشعور بالحاجة إلى البناء الحضاري الإسلامي في فترة ما بعد الثورات التحريرية يعود بالدرجة الأولى إلى حمول الوعي الإسلامي لدى الأمة في هذه الفترة لأن الجهد الجماعي للأمة مرتبط بالوعي الإسلامي ارتباطاً كلياً فينمو مع نموه ويتقلص بتقلصه حتما والدليل على ذلك وقوع الشعوب فور انتهاء ثوراتها في التبعية ولم يمنعها من التخلف نيلها لاستقلالها فالغموض الذي أسدل على مبررات البناء الحضاري الإسلامي وسائر شروط النهضة ومختلف عوامل الصحوة لم يقصد به غير إخلاء الجو إلى الغزو الفكري وترسيخ دعائم التبعية الحضارية ليحل الغزو الفكري محل الغزو العسكري والاستعمار الحديث مكان الاستعمار التقليدي ويتخذ الأول أمعن صورة في التبعية بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية.
وحتى تتحول التربية إلى عامل استقلال حضاري ووعي إسلامي نير ورقي علمي وتقني وقناعة إيمانية قوية وقيم أخلاقية عالية تحتاج إلى جهود جبارة و دراسات جادة واصلاحات سليمة جذرية شاملة من أجل ذلك حاولت دراسة مشكلات التربية كما هي تواجهنا على مستوى الأحداث الكبرى للتاريخ المعاصر.
على أنني أعترف بأن الموضوع شائك ذو تشعبات لا حصر لها لكن المنهج الذي تبنيته ساعدني على تحديده مهما اتسع ومكنني من التحكم فيه مهما اعصوصب وجعلني أصل إلى نتائج أرجو أن تكون أقرب إلى الصواب، وأبعد ما تكون من الخطأ.
وإذا كان لي أن أذكر الصعوبات التي اعترضت سبيلي في هذه الدراسات فإن أخطرها كان يتمثل في صعوبة التخلص من المفاهيم التي ينضج بها الفكر الحديث، وأصبحت تشكل ذهنية عقلانية ضيقت الخناق على الفكر ولم تقتصر جنايتها على أبناء الغرب بل تعدتهم إلى أبناء الأمة الإسلامية أنفسهم لكن قراءتي المبكرة للقرآن الكريم وشيء من السنة المطهرة، كانت لي درعاً منيعاً احتمیت به من مخاطر ذهنية الفكر الحديث كما ساعدتني الأنوار القرآنية والقبسات السنية على شق حجب التقليد للغرب والنفاذ إلى الحق والحقيقة
الصفحة 10
اللذين اتخذتها ضالتي في هذه الدراسة. وإذا كنت لا أنكر فضل دراستي للفكر الغربي والشرقي ؛ قديمه وحديثه بصفة عامة وعلوم التربية بصفة خاصة فإن المنهج الذي تبنيته لم أتركه كما كان عند علماء التربية المقارنة وعلى رأسهم أستاذي برايند هولمس ولم يتجاوز الحدود المنطقية والشروط المنهجية للبحوث العلمية وتقنياتها التي هي ليست وقفا على أمة من الأمم .
أما المفاهيم والقيم التي اعتمدتها فهي قرآنية الروح وسنية سلفية المنهج الخطأ وإسلامية المنحى على أن جهودي ما تزال في طور المحاولة لا تخلو من وهي في هذا الحال أبعد ما تكون عن الكمال وأحوج إلى الإكتمال .
ورجائي في الله أن يكون عملي هذا نافعاً للعباد والبلاد وشفيعاً لي يوم المعاد.
عباسي مدني
الصفحة 11
المشكلة التربوية وكيف تواجهنا في العصر الحديث
تعد مشكلة التربية من أعقد المشكلات التي تواجه الدولة الحديثة، ويعتبر موضوع التربية من أهم المواضيع التي لا يشغل بال المربين فحسب1)). بل يشغل أيضاً بال المفكرين والمصلحين الإجتماعيين وغيرهم، ويعود هذا الإهتمام إلى شدة ارتباط التربية بالحضارة والثقافة ومدى تأثرها وتأثيرها بالسياسة والاقتصاد وجميع الأوضاع الإجتماعية ...
هذا وأن مشكلات التربية لا يخلو منها مجتمع مهما بلغت درجة بساطته أوتعقيده على أنها لا تواجه الأمم بنفس الدرجة ولا بنفس الوضع على وجه التحديد، لقد واجهت مشكلة التربية الأمم من حيث هي قضية تربوية بحتة غايتها تكوين الفرد تكويناً جيداً جسمياً ونفسياً وعقلياً، لتحقق شخصية الفرد كمال نضجها ونهاية نموها وسلامتها فتحقق بذلك عند تعميمها على جميع الأفراد سلامة المجتمع ذو الشخصية المثلى والخبرة الراقية والرسالة الهادية عبر التاريخ . لقد ظهرت هذه النماذج التربوية مع ظهور الأنبياء والمرسلين، فالمتأمل في تاريخ
الهوامش
(1)يقول بهذا الرأي الذي يقضي بتشعب القضايا التربوية إلى أن تتعامل في أعماق الحياة الاجتماعية وكل أبعاد الحضارة علماء كثيرون منهم على وجه الخصوص ابن خلدون في كتابه المقدمة لكتاب العبر ومصطفى عبد الرزاق في مقدمة له لكتاب التربية في الإسلام لأحمد فؤاد الأهواني والسيد أبو الحسن علي حسن الندوي في كتاب نحو التربية الإسلامية الحرة
الصفحة 13
الرسالات السماوية التي كشف عليها القصص القرآني النقاب في وضوح (1) وجلاء، يدرك أهمية هذه النماذج التربوية وعمق مفهوم الإنسان ورقي القيم التي حددت على أساسها أهداف التربية، وجميع أغراضها الفردية والاجتماعية، وهو ما يلاحظ أيضاً في عهود الخلفاء الراشدين والتابعين إلى العهد الأموي والعباسي بالنسبة إلى الأمة الإسلامية. أما في الأمم الأخرى، فقد عرفت التربية ازدهاراً وتطوراً في عهد كونفيشيوس وأتباعه وسقراط وتلامذته . ، وفي عهد الإصلاح الديني الكنسي بفضل محاولات جون كالفن1509 - 1564 ومارتن لوثر 1483 - 1546 ، وأتباعهما (2). وفي عهد الثورة الفكرية على فلسفة الكنيسة التي اجتاحت العالم الغربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين (3)، وكثيراً ما تطرح مشكلة التربية على هذا المنوال عندما تكون الأمة في حالة التأهب والتحفز لأداء الرسالة أو إقامة حضارة وانبثاق نهضة وانبعاث صحوة .
أما مشكلة التربية إبان ظهور الثورة الصناعية في بريطانيا وأوروبا فقد كانت اقتصادية بالدرجة الأولى؛ وإن انعكست على الأوضاع الإجتماعة والثقافية والسياسية (4). وعندما اندلعت الثورة الفرنسية رفعت شعار الأخوة والمساواة والديمقراطية. وما أن ظهرت النزعة الإمبريالية الإستعمارية في العالم الحديث
الهوامش
(1) القرآن الكريم.
(2)محمد أمدجاء المولى .... قصص القرآن، ط 10 ، المكتبة التجارية بمصر 1389 هـ -1969م ، محمد بيومي صهران دراسات تاريخية من القرآن الكريم، لجنة البحوث والتأليف والترجمة والنشر المكتبة التاريخية،1400هـ -1980 م .
(3)بول مورو المرجع في تاريخ التربية وزارة المعارف دار الترجمة، مكتبة النهضة المصرية،1953م، ج 2 ص :61 -64.
(4)يرى فرنسيس بيكون أن أسباب النزعة الإلحادية هي الإنقسامات في الدين التي كانت عديدة. انظر : قصة الفلسفة ول ديورانت ترجمة أحمد النسياني، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت، ص: 225 ثم انظر يوسف كرم تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط 4 ،1966م، ص: 8 ثم انظر ول ديورانت، قصة الحضارة ترجمة محمد بدران لجنة التأليف والنشر، القاهرة، 1959م، ج 21
الصفحة 14
حتى نشأ التباين الطبقي في المجتمع الليبرالي الرأسمالي وصارت مشكلة التربية سياسية (1) تخضع لاعتبارات من نوع جديد كالصراع الطبقي والطائفي والإيديولوجي .
أما بالنسبة إلى الشعوب المستعمرة فقد اختلفت المشكلة التربوية باختلاف تطور المفاهيم الإستعمارية، فبعد ما كان الاستعمار مجرد غزو عسكري غايته استغلال ثروات البلدان ونهب الشعوب تحول إلى غزو فكري وقهر حضاري (2) .
فحولت السياسة الإستعمارية كسياسة الجزائر فرنسية التربية من عامل بناء إلى عامل هدم حضاري .. ومن وسيلة إصلاح إلى عامل إفساد ومن أداة تحرر بمعناه الكامل إلى أداة تبعية ثقافية وحضارية .
إن التربية الإستعمارية الإنجليزية التي استعملت في آسيا (3) وإفريقيا، لمن
الهوامش
C. Wright Mills. the Power Elite, oxford university Press. P. 269. (1)
George Pickering the challange to Education. Apelican Book, Penguin Books. P. 58-67.
R. Garaudy. l'Alternative. Editions Robert laffont. Paris. 6, P. 11-37.
Radovan Ritcha, la Civilisation au carfous. Editions du seuil. Paris. P. 11-23.
V. Giscard d'Estaing. Democratie Fracaise. Fayard. P. 49-53.
Francois. Dourricaud. Esquisse d'une theorie de l'autorité. Plon: Paris. P. 9-41.
B.R. Cosin. Education structure and society Penguin weth the open University Press. P. 80.
(2) مالك بن نبي . مشكلة الأفكار، ترجمة محمد عبد العظيم علي، مكتبة عمارة .
مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مكتبة دار العروبة 1960 م ، ص : 11 - 81 و 129 .
مالك بن نبي . شروط النهضة، ترجمة عمر كامل السقاوي، دار الفكر، ط ، 1969 م، ص: 129 .
فرحات عباس، ليل الإستعمار، ترجمة أبو بكر رجال، مطبعة فضالة المحمدية، المغرب، بدون تاريخ ص: 23 .
(3) غاندي، حضارتهم وخلاصنا ترجمة نجدة هاجر منشورات المكتب التجاري للطباعة
15 الصفحة
أخطر النماذج التربوية الإستعمارية التي كان لها أسوأ الآثار على الأمم المستعمرة بصفة عامة والأمة الإسلامية بصفة خاصة. وكذلك التربية الإستعمارية الفرنسية التي فرضتها فرنسا على شعوب الشمال الإفريقي وغيرها كالشعوب الفرانكوفونية الإفريقية، فكانت هذه التربية أخطر سياسة تربوية استعمارية تعرضت لها الشعوب (1).
والدليل على ذلك، أنها هي التي أعطت للإستعمار المفهوم الثقافي والبعد الحضاري اللذين لا يزولان بزوال سلطته السياسية وجلاء قوته العسكرية بالإضافة إلى ما حققته في هذه الأقطار وغيرها من تبعية مجحفة وتقليد أعمى ونزعة استهلاكية تواكلية حيال الحضارة، وهو الأمر الذي جعل المشكلة التربوية في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة على درجة من العمق والتعقيد، ولم تطرح كمجرد مشكلة اقتصادية يمكن أن ينطبق عليها التفسير المادي الماركسي كما يدعي البعض (2) ولا هي سياسة حتى بالمعنى الواسع لهذه المشكلة كما يراها
الهوامش
والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1959 م، ص: 131.
الباريغان الثقافة الإنسانية وفلسفة التربية الأونيسكو، دار النشر للجامعيين، تعريب أنطوان فوري، ص : .69
جواهر لال نهرو آراء في قضايا الساعة نقله إلى العربية مروان الجابري، منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، ط 1 ، 1959 م، ص: 16 إلى 23 .
Norman Miller and Rodrik Aya. National libertion in the third World the Free
Pressv, P 1448.
Sir Hamilton A.R.G. BB, the Middle East in transion Edited by, walter. Z. laqueur. Routledye et Regan Paul, london P4-11.
(1) قول الدكتور بوديشون : لا بد لفرنسا أن تفرض فرنسيتها الاستعمارية المقاييس الأخلاقية وقيمها، ولكن الذي يهمنا قبل كل شيء هو تأسيس مستعمرة تملكها بصفة نهائية وتنشر على الشواطيء البردوية المدنية الأوروبية. انظر ليل الاستعمار، فرحات عباس، ص: 73
(2) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ مؤسسة الثقافة الجامعية الإسكندرية، 1975 م، ص :
الصفحة16
هيچل (1) بل هي أعمق من ذلك وأبعد من أن تنحصرفي مجال واحد مهما كانتأهمية ذلك المجال في الحياة الاجتماعية؛ بل هي قضية حضارة برمتها (2) لأمة ذات رسالة (3) جاءت لانتشال العالم من ظلم الكفر وطغيان الجبابرة وخطر الخراب والدمار الناشيء عنهما في إطار حضارة نووية تتحفز أمها للغزو، وتتحمس للقهر والغلبة، حاملة في طياتها بذور الدمار والفناء والشقاء في الدارين. إذن فالمشكلة التربوية كما هي مطروحة الآن على الشعوب العربية والإسلامية؛ هي مشكلة إعداد إنسان الحضارة (4) الإسلامية الذي يكون في مستوى العمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ذلكم الإنسان الذي يجيد توظيف تراثه الثقافي، وثرواته الطبيعية التي تزخر بها بلاده توظيفاً حضارياً وتقنياً انطلاقاً من إعادة الإعتبار للإنسان دينه وعقله، وضميره، وإرادته، وحريته في اعتدال وتوازن بين مختلف حاجاته المادية والروحية، كما جاء ذلك في العقيدة الإسلامية .
فالأمة الإسلامية كأي أمة متحضرة لا يمكن لها أن تعيش خارج نطاق حضارتها، تلكم التي نشأت بفضل جهود أجيالها المتعاقبة وبفضل جهادها المستمر عبر تاريخها الطويل، فالحياة خارج الحضارة عدم وموات وخراب .
والتربية هي الأخرى كما هي في اصطلاح المربين لا يمكن أبداً فصلها عن الحضارة؛ فمنها تستمد مبرراتها ومادتها ومحتواها وأغراضها ووسائلها وجميع أدواتها وتقنياتها ونظمها ومؤسساتها، فحاجة التربية إلى الحضارة كحاجة الشجرة إلى التربة الطيبة، كي تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها على أكمل الوجوه، لا بد ها من البيئة الحضارية الشاملة والمناخ الثقافي المناسب. هذا وإن الوظيفة
الهوامش
(1) مالك بن نبي ميلاد مجتمع مكتبة دار العروبة القاهرة 1962 م، ص: 92.
(2) أبو الحسن علي الحسن الندوي التربية الإسلامية الحرة مؤسسة الرسالة، ط 4، 1403 هـ - 1982 م .
(3) مالك بن نبي شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي داوي، دار الفكر، ط ، 1969 م، ص: 111 - 138
Alan Swingrood, Marx and modern social theory. M P 5887. (4)
-M. Dommanget, les Grandes Socialistes est l'Education, Armand colin, p 302-
الصفحة17
الأساسية التربوية هي وظيفة حضارية رائدة على مر العصور والأزمان في مختلف الظروف والأحوال (1)، أما عزل التربية عن الواقع الثقافي والإجتماعي الذي يعيشه المجتمع وجعل اهتماماتها خارج الأحداث الكبرى التي تسيطر على العالم، فلم يحدث إلا في أحط حالات الانحطاط كما كان الشأن عند المدرسين في القرون الوسطى (2) .
إن التربية التي لا تراعي جميع حاجات الفرد والمجتمع، وحقيقته التاريخية، وآماله المستقبلية هي تربية فاقدة لأهم مبرراتها، فالوقائع التاريخية التي تستمد منها هويتها كماض وحاضر ومستقبل والأوضاع الاجتماعية والإقتصاية والسياسية كما تواجهها الأمة في حياتها الثقافية والحضارية؛ تربية فاشلة، لا تستطيع أن تمكن الفرد ولا المجتمع من التخلص من معضلاته، ولا تضمن له تحقيق آماله في المستقبل، فالوقائع التاريخية والأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية في البلاد الإسلامية تواجه شعوبها كبلاد مغزوة وأمة مظلومة وحضارة مهددة أغنياء لكن ثرواتنا مسلوبة أولي شخصية مميزة لكن أصالتنا مهددة قل فيها الجهد وضعف الجد وانطفأت فيها جذوة العبقرية، ففشى التقليد وقل الإبداع ... ومن ثمة فإن رسالة التربية في هذه المجتمعات تبدأ من مواجهة هذه الظروف وعلاج القضايا بحزم ويقظة وحكمة .
معنى هذا أن التربية عندنا مدعوة إلى أعداد أجيال خالية من عقدة التخلف والولوع بالغالب على حد تعبير ابن خلدون، قادرة على وضع حد للتبعية بكل معانيها الإقتصادية والثقافية . لكن هذا لا يتأتى إلا بإعادة النظر
الهوامش
(1) يقول السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي : فمهمة التعليم في البلاد الإسلامية مهمة عسيرة ومعقدة ... إنه ليس مجرد تعليم العلوم والفنون ولغات وطنية وأجنبية وآداب أهلية وروسية، بل هو إنشاء جيل فكرياً وخلقياً ممتازاً وذلك لا يتم بترجمة الكتب وجلب الأساتذة من الخارج وإنشاء عدد كبير من الكليات والجامعات وإرسال بعثات الطلبة إلى أوروبا وأمريكا إنما تحتاج إلى شيء كبير من النبوغ والابتكار وشيء كثير من التأليف والإنتاج ... ص : 8.
(2) بول مورنو المرجع في تاريخه التربية ترجمة صالح عبد العزيز، مكتبة النهضة المصرية، 1958 م ، ج 1، ص: 218
الصفحة18
في الأوضاع التربوية السائدة من أجل إصلاح تربوي جذري وشامل يحقق النوعية فيشجع العقل والفكر على النبوغ والتفوق والامتياز في مختلف مجالات العلوم والمعارف والفنون والتقنيات وجميع أصناف الخبرات ... أو بتعبير آخر فإنه لا بد من البحث الجاد عن نقطة بداية صحيحة لنهضة أصيلة يكون لها شأنها في المستقبل، ولعل من أهم شروط النهضة الحقة الإصلاح التربوي الذي يقوم على أساس إعادة الاعتبار إلى الإنسان جسمه وعقله وروحه، هذا إن سلمنا بأن مشكلة الحضارة يشكل الإنسان (1) فيها حجر الزاوية (2)
أما ما يدعى اليوم بالنهضة في البلاد العربية والتي تغشى الحياة الثقافية فهي نهضة مزيفة في نظرنا لا تستطيع أن تذهب بعيداً بدليل تقوقعها في دائرة التخلف والقبوع في ظل حضارة الشرق أو الغرب أو هما معاً تستمد منهما ما يسد حاجتها اليومية من المواد الإستهلاكية وهو ما يزيدها ارتباطاً بالدول العظمى وخضوعاً لسلطاتها القاهرة واستسلامها لنظامها الدولي الإمبريالي (۳) الجائر هذا النظام الذي وضع لتزداد الأمم الغنية غنى وقوة، بينما تزيد الأمم الفقيرة فقراً وضعفاً لأن النهضة التي لا تقوم على الأصالة ولا تنشد النبوغ للتفوق على المستوى الحضاري الشامل كما هو الشأن في أغلب الأقطار العربية حالياً، لنهضة شكلية تقضي على كل نزعة استقلالية ابداعية تحريرية فالنهضة القائمة على تربية غربية أو شرقية في روحها وأهدافها وغاياتها ونظمها لا يمكن أن تكون إلا نهضة سطحية الفكرة عقيمة المسعى عديمة الجدوى.
يكتب أحد الأدباء المهتمين بالتربية في مصر في مقدمة لكتاب له قوله : وفي هذا العصر الذي ظهرت فيه تلك النهضة المصرية الفتية، أرجو أن أقدم للمربين والمثقفين من قراء العربية في الشرق عامة وفي مصر خاصة هذا الكتاب
الهوامش
(1) أسوالد شبنقلر تدهور الحضارة الغربية، ترجمة حمد التبياني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ج 3، ص : 240 .
(2) أرنولد توينبي، مختصر دراسات للتاريخ، ترجمة محمد فؤاد شبل، جامعة الدول العربية، ط 1، 1960 م، ج 1 ، ص: 86 - 93
(3) بن جامين ج - كوهين قضية الإمبريالية ترجمة فور الدين الزراري، مؤسسة سجل العرب، 1980 م ، ص : 24 - 85 .
الصفحة19
في - الاتجاهات الحديثة - وهو ثمرة كثير من التجارب، وخلاصة دراسة وافية للتربية النظرية والتجريبية والعملية (1) ويذهب الكاتب إلى القول بأن التربية الحديثة على اختلاف مشاربها روحاً واحدة فيقول : .... فبعد أن كانت تلك الآراء - ويعني الآراء التربوية الحديثة - نظرية أصبحت ممكنة التطبيق بمختلف الوسائل، ومهما اختلفت الطرق الحديثة، وتعددت اسماؤها في أوروبا وأمريكا فأنها متحدة في روحها (2) .
ولو تعمق الكاتب قليلاً في نظريات التربية، لوجدها تختلف في أعماقها باختلاف الإتجاهات الفلسفية أو الدينية والإيديولوجية السياسية والتربوية بالضرورة، ولعل هذا ما جعل الكثير من المهتمين بالتربية يهتمون فقط بنقل النظريات والإكتفاء بعرضها كخبرة ممتازة ويشجعون على استيرادها واقتنائها دون معرفة ما لا يليق فيها بالمنظومات التربوية المستعيرة. وهذا باعتراف بعضهم، نذكر منهم على سبيل المثال حنا غالب في مقدمة كتابه حيث يقول: «ومما يؤسف له أن علم التربية عندنا لا يزال متحفظاً .. فالبحوث والدراسات التربوية لم تبدأ بعد بصورة جديدة ولا يزال الأدب التربوي في اللغة العربية ضئيلاً، وما لدينا منه معظمه مترجم (3) ، أو مقتبس من مصادر غربية شتى (4)، والواقع أن ما لدينا من ركام الكتب المترجمة بالعربية لا يكاد يزيد عن عرض قد يختلف في العمق والدقة والأمانة لمختلف النظريات التربوية خال من التحليل والنقد وإعادة النظر وهو ما حمل الكثير من قراء هذه الكتب والطلاب على الاعتقاد بهذه النظرية بأنها حقائق ثابتة ومباديء مسلمة لا تقبل النقاش ولا تحتاج إلى إعادة النظر، والحال أنها عند أصحابها إن كانوا نزهاء هي أحوج ما تكون إلى الجهود الفاحصة والدراسات الناقدة. فإذا كانت هذه النظريات في رأي
الهوامش
(1) محمد عطية الإبراشي، الإتجاهات الحديثة في التربية، دار لإحياء الكتب العربية، ط 6، ص .
(2) نفس المصدر، ص : 6
(3) ويلاحظ أن هذا الأخير في إدعائه قد أغفل التراث التربوي الإسلامي الزاخر، بكنوز الخبرة التربوية، وحصر همه فقط في التربية الحديثة .
(4) حنا غالب، مواد وطرائق التعليم، بيروت - لبنان، 1966 م، ص: 2 .
الصفحة20
أصحابها تحتاج إلى إعادة النظر فهي بالنسبة إلى غيرهم ممن تختلف دياناتهم وعقائدهم ومذاهبهم أحوج بل يذهب بعض الدارسين للنظريات الحديثة نذكر منهم جون ديوي وجيمس روس إلى أن التربية والفلسفة لشدة ارتباطهما هما شيء واحد (1) ومن ثمة فإنه إذا اختلفت المذاهب الفلسفية اختلفت بالضرورة المفاهيم والمذاهب التربوية. إننا لا ننكر قيمة المحاولات التي قاء بها الكتاب العرب من نقل الخبرات التربوية الحديثة، ومدى مساهمة هذا الانتاج في تعميق النظر في المسائل التربوية في البلاد الإسلامية. لكن توقفها عند هذا الحد من نقل الخبرات دون تمحيص ودراسة وإظهار عواقب انتحالها على علاتها كما هو جاري في أغلب أنحاء البلاد، أمر بات يهدد خطره بالإمعان في التقليد، وينذر بالتزام التبعية للأمم المنتجة لهذه النظريات. مع العلم أن هذه النظريات لم تأت صدفة، بل هي وليدة ظروف تاريخية وثقافية معينة وحضارة متميزة، وظروف اجتماعية خاصة ليست لها أي صلة بالبيئة الثقافية العربية والإسلامية، إلا ما كان مشاعاً بين الأمم والحضارات من علوم وتقنيات و معارف وخبرات يمكن اعتبارها من المحتوى التربوي كإنتاج إنساني مشترك .
هذا من جهة النظرية التربوية. أما النظم التربوية في البلاد الإسلامية وهي أبرز ميدان تتجلى فيه شخصية الأمة وأصالتها وعبقريتها وجميع حظوظها الحضارية فقد تعرضت هي الأخرى للتخريب تحت ستار الإصلاح والتمدين إثر الغزو الاستعماري الذي لم تنج منه ناحية من البلاد الإسلامية (2).
مع العلم أن أي مس لهذه النظم تنجم عنه عواقب وخيمة على كل المستويات الثقافية والحضارية. إن السياسة الاستعمارية استناداً على الوثائق الرسمية والأحداث الأليمة أيام الاحتلال تندرج تحت المخطط الاستعماري الذي تعرضت له البلاد الإسلامية، لم تعرف الإنسانية أخطر منه، فكان مدبروا هذه الخطة الاستعمارية للعالم الإسلامي يعتقدون أنه من المستحيل الإستيلاء
الهوامش
(1) جيمس روس، الأسس العامة لنظريات التربية، ترجمة صالح عبد العزيز، مكتبة النهضة
المصرية، ص : 5 .
(2) ساطع الحصري التربية والاجتماع، دار العلم للملايين، بيروت، 1962 م، ص: 109 .
الصفحة21
على العالم الإسلامي، واخضاعه لنفوذهم ما دام المسلمون أقوياء في عقيدتهم، عاملين بدينهم متشبعين بقيمهم متحلين شمائل أخلاقهم . لذا بات في حسابهم القضاء على الأمة الإسلامية، لا يتأتى إلا بالقضاء على النظم التربوية الإسلامية، وتعويضها بنموذج يتماشى مع أغراض السياسة الاستعمارية (١)، والعمل على تكوين جيل مخضرم ؛ لا هو متشبع بروح دينه ومقتنع بعقيدتنه وأخلاقه، ولا هو متمكن من الروح الغربية أو الشرقية الحضارية. ومن الذي يستطيع أن ينكر آثار هذه المخططات الماكرة في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية، لذا ونحن إذ نحاول أن نعالج في هذه الدراسة مشكلات التربية في البلاد الإسلامية نرى لزاماً علينا أن نحصر المشكلة التربوية التي تعاني منها البلاد الإسلامية في العصر الحديث في البؤرتين الرئيسيتين التاليتين :
أ - الإصلاحات التي تعرضت لها النظم التربوية في البلاد الإسلامية وانعكاساتها الثقافية والحضارية .
ب - النظرية التربوية الحديثة من حيث هي خبرة ذات خلفيات ثقافية وحضارية معينة، إن كان لها فضل النهوض بالعالم الغربي عبر عهود ما بعد الإصلاح الديني، فهي اليوم على ما وصلت إليه من تطور تشكو ضعف خلفيتها الفلسفية وعجزها عن تحقيق السعادة للإنسان الحديث وتحقيق التوازن الروحي والمادي (2) .
إن النظرية التربوية الحديثة حتى في أمعن حالاتها المثالية تعاني من مأزق المادية (3) الحرج وهي مع ذلك تغزو العالم الإسلامي وتجد بابه مفتوحاً على مصراعية ورجال الفكر متفرجون ومنهم من يعتقد أنها بلغت الكمال والنهاية في التمام ! .
الهوامش
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة محب الدين الخطيب، الدار السعودية للنشر، ط 2 ، جدة، 1387 هـ ، ص: 118
(2) السيد ريتشارد لفنجسون التربية لعالم حائر، ترجمة وديع الضبع، مكتبة النهضة المصرية، 1940 م، ص . ك .
(3) نفس المصدر. ص: 2 . 29
الصفحة 22
الإصلاح التربوي في البلاد الإسلامية
يقول لوثروب ستودارد الأمريكي :
إن روح الإصلاح ما فتئت تدب في كل عرق من عروق العالم الإسلامي دبيباً طبيعياً هائلاً تتدفعه إلى الأمام دفعاً متواصلاً (۱) فمنذ القرن الثالث عشر الهجري عند ظهور الحركة الإصلاحية الوهابية (1) كان العالم الإسلامي يتحفز لتغيرات كبرى ويستعد التحولات عظمى : محاولاً التخلص من عوامل الانحطاط والبدء في العمل على إعداد الشروط الأولية للنهضة الإسلامية الحقيقية، وفي الوقت نفسه تكالبت على العام الإسلامي قوى الشر والطغيان والغزو والإستعمار التي كانت تغذيها الأحقاد الصليبية والأطماع التوسعية لاستعمارية. قال رئيس ارساليات التبشير الألمانية في تقريره عن أعمالها : إن نار الكفاح بين الصليب والهلال لا تتأجج في البلاد النائية ولا في مستعمراتنا في آسيا أو أفريقيا، ين ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها
قوته، وينتشر سواء أكان في أفريقيا أم في آسيا " .
على أن هذا الغزو شكل نوعاً من التحدي، كان لا شك من نتائجه تحفيز المسلمين للصحوة ). فعلى الرغم من خطورة المخططات الاستعمارية التي
الهوامش
(1) لوتروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي ترجمة حجج، دار الفكر، القاهرة. ط . .۰ 1973 م. ج 1، ص: 78 .
(2) محمد بن عبد الوهاب صاحب لفرقة الوهابية. ولد 1110 هـ - 1206 هـ . دعان التوحيد ونبذ الخرافات لأنه يعتقد أن إصلاح العقيدة هو أساس كن صلاح .
(3) أ. د. شتنيه الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 242 .
4)) وفي هذا الصدد تكون متفقين مع أصحاب هذا التفسير وخاصة أرتولد توتبي وسينقل ومالك بن نبي .
الصفحة23
أعدت لمواجهة حركة الإصلاح والقضاء على الصحوة، فإن الدعوة التي قام بها جمال الدين الأفغاني 1256 - 1314 هـ ، ومحمد عبده 1266 - 1323 هـ ، وعبد الحميد بن باديس 1308 - 1359 هـ ، وحسن البنا، وغيرهم قد وجدت تأييداً ومساندة من الشعوب الإسلامية مما جعلها تقوى على عنف أعدائها المستعمرين ومن ساروا على ركابهم. ولعل سر هذا النجاح يكمن في أن المنهج الإصلاحي المتبع كان قائماً على إصلاح العقيدة والتعليم، وذلك نظراً لما آل إليه أمر الناس في تلك الظروف من التدهور والتخلف والظلم والفساد . . .
وإذا كانت النظم التربوية هي جزء من كل بالنسبة إلى الحياة الثقافية والإقتصادية والسياسية والحضارية، فإن فساد الكل هو فساد لجميع أجزائه بالضرورة، ومن ثمة فإن النظم التربوية السائدة آن ذاك، كانت في أشد الحاجة إلى الإصلاح التربوي الواعي السليم، وخاصة لما صارت المجتمعات تشكو من عدم جودة التوظيف لكل من التراث الثقافي الحضاري والثروات الطبيعية التي تتمتع بها البلاد الإسلامية .
كالعير في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
فماذا تنفع الطبيعة إذا تجمد الفكر، وماذا يجدي التراث الثقافي الزاخر بكنوز المعرفة إذا حدرت العقول، وتحجر الفكر وعجز الخلف على إعادة صياغته في بناء حضاري يستجيب لمتطلبات التاريخ، وما ذنب الفكر إذا لم تنجب التربية جيلاً أو عدة أجيال يكونون على جانب من النبوغ والعبقرية، ويصبحون في مستوى المهام الكبرى للتاريخ ؟ .
انطلاقاً من هذه الاعتبارات اتخذ الإصلاح في نظر هؤلاء العلماء المصلحين أدق معانيه وأبعد مراميه من حيث هو عملية منهجية للتغير الشامل، القائم على أسس علمية سليمة أبعد ما تكون عن النزوات العاطفية والأغراض الشخصية والمحاولات الإرتجالية، وهو ما جعل منهجهم الإصلاحي إذا ما قورن بالإصلاح عند المصلحين الغربيين أكثر عمقاً وشمولية ودقة وسلامة وصحة وأصالة ... وهذا ما جعل الصحوة مدينة لهم إلى اليوم، فلا تستطيع أن
الصفحة24
تخرج عن هذا المنهج إذا أريد لها الاستمرار إلى أن تحقق أبعد غايتها وأسمى مراميها. وإذا قيل لماذا حققت الإصلاحات الغربية نهضتها وغاية نمو حضارتها وازدهارها، في حين أن الإصلاحات التي دعا إليها علماء الإسلام لم تحقق شيئاً، من ذلك فإن العملية الإصلاحية ذات الأبعاد الشاسعة تقتضي شروطاً، منها بالضرورة مراعاة عامل الزمن، بالإضافة إلى أن الضغوط التي تواجهها حركات الإصلاح الإسلامية لم تواجهها الحركات الغربية وخاصة الغزو(2) الفكري وما يشكله من عراقيل أمام الإصلاح بصفة عامة والإصلاح التربوي بصفة خاصة في البلاد، ولئن حاول زعماء الغزو الفكري الحيلولة دون تبني الشعوب الإسلامية الدعوة الإصلاحية بما يبثونه من شكوك في صحة (3) الإسلام وسلامة نهجه وقدرته على حل مشكلة الإنسان في هذا العصر، فإن الشعوب الإسلامية قاطبة (4) قد استجابت لنداء علمائها ودعوتهم الإصلاحية، وهو ما شجع ظهور مدارس ومعاهد تمثل النموذج الإصلاحي الذي اختاروه، وكانت الشعوب الإسلامية لا تتراخى ولا تتهاون في أمر تدعيمها وتمويلها ولم تبخل بالعزيز لتعزيزها حتى صارت معلماً من معالم الصحوة، فكل ذلك على الرغم من محاولات السلطات الإستعمارية لمنعها وقهر علمائها ودعاتها، فقد كانت الحركة الإصلاحية الإسلامية في أغلب أنحاء البلاد قد أنعشت ضمير الأمة ونشرت الوعي في أرجائها فقل الصبر على الضيم وتاق الناس إلى المعالي، وجدوا في طلب الحرية بكل غال، ودعم تلك الروح أغلب الأقطار الإسلامية، وكان من نتائج ذلك قيام ثورات تحررية تصدت للاستعمار بشجاعة نادرة وبسخاء في التضحية والفداء فأحيت عهود الأبطال من السلف الصالح، أولئك الذين
الهوامش
(1) عمار طالبي ابن باديس آثاره وحياته دار مكتبة الشركة الجزائرية، دار اليقظة العربية، بيروت، 1388 هـ - 1968 م ، ج 1 ، ص: 11 .
(2) مالك بن نبي ، الصراع الفكري، مكتبة دار العروبة، ص : 11 - 13 .
(3) محمد البهي ، الفكر الإسلامي الحديث مكتبة وهبة، ص: 7.
4)) القسيس نالسون، إن حركة هذه الجامعة الإسلامية، قد خضعت في إبعاد وخلع السلطان عبد الحميد، ولكن لا تزال في الأهالي روح تضامن مع ملازمة للإسلام، الغارة على العالم الإسلامي، مصر، ص: 163 .
الصفحة25
دوخوا العالم بتفانيهم من أجل إعلاء كلمة الله، ورفع راية الإسلام خفاقة، وهو ما رفع رأس الأمة بين الأمم، واتخذوا الجهاد حلاً حاسماً لمواجهة الإستعمار وطرده وتحرير البلاد من ربقته .
وإذا كان الناس في معظم أنحاء البلاد الإسلامية على هذا المستوى من السخاء والبذل بالنفس والنفيس من أجل تحقيق حريتهم فذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنهم بحصولهم على الحرية الحقة والاستقلال التام يتم حصولهم على كل المرامي والأهداف وكانت أمنية الأماني عند جلهم أن يحققوا الإصلاحات التي نادى بها العلماء المسلمون المصلحون، فتحقق الأمة صلاحها وتنال عندئذ فلاحها وكأنهم كانوا مقتنعين بأنه لا فلاح بدون صلاح ولا صلاح إلا بالإصلاح. قد يعترض معترض فيقول : إنك تجاهلت تلك الإصلاحات الهامة والجهود الجبارة التي بذلت في هذا الصدد في أغلب الأقطار العربية والإسلامية . فما بال الإصلاحات التربوية التي قام بها رجال السياسة أمثال مصطفى كمال أتاتورك والخديوي إسماعيل ومن سار على منوالهم من دعاة الحداثة .
مع العلم أن جل هذه الإصلاحات قد تحققت بالفعل : وصارت المدارس الابتدائية (1) والتكميليات والمعاهد الثانوية والجامعية، خير دليل على نجاح هذه الإصلاحات التربوية الحديثة، إذ لولاها لبقي تلامذتنا في الكتاتيب القرآنية والزوايا والجوامع، كالأزهر، والزيتونة والقراويين، والجامع الأموي في دمشق، وغيرها من مدائن العالم الإسلامي كقم، واسطنبول، ولاهور... من مؤسسات أصحاب العمائم والحقيقة أن اعتبار ما قام به مصطفى كمال في تركيا والخديوي إسماعيل في مصر وما تم من تغيير للمنظمات التربوية في مختلف الأقطار العربية والإسلامية اصلاحاً تربوياً سليماً لهو قلب للحقائق، وتجن على الحق والحقيقة .
فشتان بين الإصلاح التربوي القائم على الأسس المنهجية السليمة
الهوامش
الصفحة26
الصحيحة تشرف عليه قلة من علماء الأمة الذين هم على بصيرة من الامر أحرار في تفكيرهم، أولو إصالة وحكمة ونفاذ رأي واستقلالية في العزيمة، وبين تلك التطفلات الارتجالية المفروضة بطريقة ما. إن ما قام به مصطفی کمال والخديوي إسماعيل في تلك الظروف الغامضة وما تلاها من محاولات غمرت البلاد الإسلامية قاطبة، جنايتها على الأمة الإسلامية لا تقدر مخاطرها على الأجيال التي تلتها في الماضي والحاضر والمستقبل ما لم يتدارك الأمر. فلو علم هذا أن من مهام هذه الإصلاحات التربوية ترسيخ جذور الاستعمار الجديد وتدعيم الغزو الفكري الذي اجتاح البلاد لعلم أنها كانت أخطر وسيلة للقضاء على الإصلاح الذي نادى به علماء المسلمين في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية . لقد جاء في مقدمة شاتليه عن إرساليات التبشير البروتستانتية ما يلي : «قلنا في سنة 1910 ... في موضوع السياسة الإسلامية : ينبغي لفرنسا أن يكون عملها مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية .. وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المسندة من مدرسة الجامعة الفرنسية (1) .
إن هذه التصريحات الخطيرة لزعماء الكنيسة تكشف النقاب على أسرار الخطط الإصلاحية التي جاء بها دعاة الحداثة، وكأنها من ابتكارهم ومن إبداع عبقريتهم، وهم في الواقع ليسوا إلا واجهة ومجرد أداة جامدة لا تعي شيئاً مما يفعل بها. لقد وجد دهاة الاستعمار في هؤلاء الزعماء كل استعداد لتنفيذ خطتهم، سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا ، وهو ما جعلهم يتلقونها كتعاليم لا مجال لمناقشتها والشك في نفعها، فدعوا إليها بحماسة نادرة (2) وحملوا شعوبهم على العمل بها متعصبين مستبدين . . .
لقد كان المراد بالبديل الذي جاء به هؤلاء هو ترسيخ جذور الاستعمار الحديث ونشر الغزو الفكري للقضاء على كل محاولة اصلاحية إسلامية جاء بها
الهوامش
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، مصر، ص: 13 - 14 .
(2) أبو الحسن علي الندوي الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، دار الندوة للتوزيع، لبنان، ص: ١٦٦ .
الصفحة27
علماء الإسلام ترمي إلى تحقيق نموذج الأمة الإسلامية كما جاء محدداً في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهم يريدون بذلك إيقاظ شعلة الإيمان في صدور الخلف بما نهض به السلف ورفع راية الحرية والحق والعدل وحمل رسالة الهدى ودين الحق التي حملها الأجداد لهدي العباد.
أما نماذج القوم فقد انتحلت من الغرب والشرق، وكان القصد منها سد الطريق أمام النهضة الصحيحة التي بدأت تهدد الكيان الاستعماري في أغلب أنحاء البلاد الإسلامية (1) . ففي الوقت الذي بدأت فيه الأمة تشعر بضرورة العودة إلى دينها القويم واقتداء نهجه السليم لتعيد للعالم الإسلامي حريته ووحدته، يقف أئمة الكفر والاستعمار للحركة الإصلاحية الصحيحة بالمرصاد، ويلبسون سياسة التغريب ثوب الحداثة ويقنعون الغزو الحضاري بخمار التمدين، ويسخرون التربية لتكوين أجيال لا حظ لها في حضارتها إلا التنكر لها لجهلهم بها، ولا حظ أيضاً في الحضارة الغازية التي انتحلوها غير الشكلية والتقليد والإتكالية والإستهلاك التقني؛ هم في الحالتين عالة، ومن الحضارتين في بطالة، ثقافتهم والوقت وقت العلم والتخطيط والتقنية والتنظيم تسابقت الأمم على غزو الفضاء، وتفننت في العلوم والمتاقن وتطورت صناعتها الحربية (٢) ... لكن ماذا يفيد العلم عندما تموت الضمائر وتعمى القلوب والبصائر وتطغى الأهواء، وتسود الغرائز، وتغيب من ساحة الحياة الثقافية والإجتماعية الشيم، فصارت حضارة الشرق والغرب متداعية كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وصارت مصائر منتحلي قشورها مصائر غريق استمسك بغريق . سطحية، وخبرتهم استهلاكية، ومواقفهم ارتجالية .
الهوامش
(1) السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، دار الكتاب، ط ، 1967 م - 1387 هـ .
(2) يقول سلامة موسى في كتابه مشاعل الطريق للشباب دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1962 م ، ص : 80: يجب أن ننظم الإصلاحات في الصحة والتعليم ونظام العائلة والسياسة الخارجية والأمن الداخلي في فلسفة موحدة كالديمقراطية والاشتراكية . . . . .
الصفحة28
أما قولهم لولا الإصلاحات التربوية الحديثة للبثت تربيتنا تربية أصحاب العمائم فهو دليل قاطع شهد به شاهد من أهلها واعتراف بأن نجاح هذه الإصلاحات يعني القضاء على المؤسسات التربوية العتيقة ذات السمعة الاجتماعية، والقيمة التاريخية العالية كالجامع الأزهر والزيتونة وأمثالهما في مختلف الأقطار الإسلامية، ونسى هؤلاء أن هذه المؤسسات على قدمها. كانت تخرج كل عام علماء في مختلف العلوم الشرعية وفنون اللغة العربية، وكانت تربيتها علمية لا علمانية، تعمل دؤوبة على نبوغ الناشئين في كل جيل. يقول أحد المصلحين في المغرب العربي، وهو ابن باديس: إن تربيتنا العلمية الدراسية المبنية على بيان الحقيقة وإجلائها على ما هي عليه حيرتنا لا تستطيع شيئاً من المواربة (1). ففي الوقت الذي كانت التربية في المؤسسات الإسلامية تعمل على تكوين أجيال متشبعين بروح الإسلام عقيدة وتصوراً وقيماً وشريعة وأخلاقاً ونظاماً .... المؤسسات القائمة على الأساس العلماني والعقلاني تعمل جادة في إعداد الإنسان اللامنتمي المتنكر لدينه وقومه حتى لوطنه إن استطاعت. ولئن استطاعت هذه التربية أن تحدث التباساً عند بعض الرجال الذين لا يشك في إخلاصهم ووطنيتهم وذكائهم، ومنهم من وصل إلى درجة القيادة السياسية، فكيف لا تستطيع هذه التربية أن تكون من متوسطي الذكاء والثقافة اللامنتمين. فلمثل هؤلاء وجة عبد الحميد بن باديس كلمة مرة جاء فيها: «نعرف كثيراً من أبنائنا الذين تعلموا في غير أحضاننا ينكرون - وربما عن غير سوء قصد – تاريخنا ومقوماتنا ويودون لو خلعنا ذلك كله واندمجنا في غيرنا (2).
إن هذه المأساة تشخص لنا حقيقة التعليم المنتحل ومخاطره. إذ ما كان للإستعمار أن يحقق حلم تشكيك المسلمين في ضرورة الاستمساك بدينهم والعمل الجاد به إلا بالتعليم الذي لغم عقولهم بما هو أفتك بالضمائر والعقول ؛ في جاء في تقرير الإرساليات التبشيرية التي كانت في طليعة الصراع الفكري
الهوامش
(1) عمار طالبي ابن باديس حياته وآثاره، دار اليقظة العربية، ط 2، 1388 هـ . 1968 م، ج 3، ص: 383
(2) عمار طالبي ابن باديس حياته وآثاره المصدر السابق، ج 3، ص: 383 .
الصفحة29
الحاد . . . ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته .
ذلك بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية (1) أن هذا التقرير ليبين عمق فكرة التخريب الحضاري التي كان يحلم بها قادة الإستعمار وفي مقدمتهم الإرساليات التبشيرية التي كانت تتصدر أحداث الغزو الفكري للعالم الإسلامي، وهذا ما يؤكده أحد علماء الإسلام المعاصرين في قوله: «وقد تجلى هذا الصراع الذي عنف واستفحل في جميع الأقطار الإسلامية، والتي أخذت العلوم الغربية برمتها، والكتب المقررة في البلاد الأجنبية أو الكتب الخالية من روح الدين، على علاتها وطبقات نظام أوروبا أو بلاد أخرى في التعليم في بلادها . . . وقد دفعت لهذا التعليم وما جنت منه من فوائد مادية قيمة غالية جداً من الأخلاق والروح والعقيدة، وقد اتفقت كلمة العقلاء من أهل التجربة على أن حضارة الأمة والبلاد في هذا النظام التعليمي، وفي هذه المعاهد ودور التعليم الحديث كانت أكبر من ربحها» (2)، وفعلاً أن ما حققه هذا التعليم للاستعمار من مطامع خيالية لم يكن ليحققه بغيره من وسائل التخريب الحضاري والغزو الفكري . والدليل على ذلك أنه من كان يتصور أن التربية التي أنجبت مالك بن أنس وأبي حنيفة والشافعي وأحمد (3) بن حنبل والبخاري ومسلم وأبا حامد الغزالي وابن رشد وابن سينا والرازي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن خلدون وابن عربي والشاطبي وغيرهم تربية كهذه يستهان بها وتستبدل بتربية أبعد ما تكون عن حقيقة هذه الأمة وعن شخصيتها وثقافتها وحضارتها؟، ومن كان يصدق أن هذه الأمة يأتي عليها زمان وتصبح إذا احتاجت إلى عالم في الدين
الهوامش
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 13 - 14 . (2) السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي نحو التربية الإسلامية الحرة، المصدر السابق، ص : 8.
(3) أحمد شبلي تاريخ التربية الإسلامية مكتبة النهضة المصرية، 1966 م، 14، 112 .
الصفحة30
أو علوم القرآن أو السنة أو اللغة العربية، لا بد لها من توجيه النبهاء من أبنائها إلى الخارج كجامعة السوربون في باريس، ومعهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن. وحتى الأزهر الذي كان آخر ما تبقى من المؤسسات الإسلامية التي تمد العالم الإسلامي بالدعاة المدرسين صار رئيس شيوخه من خريجي الجامعات الغربية، وهو ما كانت ترمي من ورائه الخطة الإصلاحية التربوية الماكرة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية، وعلى ضوئها تمت الإصلاحات التربوية الحديثة .
لقد كان أعداء الإسلام أمثال زويمر يدركون جيداً خطر الأزهر والزيتونة والقراويين والجامع الأموي ومسجد الرسول ، وغيره، وكانوا أيضاً يدركون أهمية القضاء على هذه المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي (1) وما يحققه من بلبلة فكرية وشك وارتياب في الدين وانحلال في الأخلاق وضعف في الشخصية، فبدون هذا النموذج لا يستطيع العالم الإسلامي النهوض برسالة، والقيام بنهضة تبني الحضارة للعالم الإسلامي وحدته وقوته وعزته ومناعته. على أننا لا ننكر ما كانت تحتاج إليه هذه المؤسسات التربوية الإسلامية من إصلاح، وما كانت تشكو من جمود وتحجر وشكلية . وخير دليل على ذلك روح الإصلاح التي انتعشت في العالم الإسلامي وحركة الإصلاح التي عمت دعوتها وانطلقت صحوتها وهذا ما اعترف به رئيس مؤتمر لكنو في خطبة الافتتاح بقوله : إن الإسلام قد بدأ ينتبه الحقيقة موقفه ويشعر بحاجة إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن بثلاث نهضات إصلاحية : الأولى إصلاح الطرق الصوفية، والثانية تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية والثالثة أفراغ العقائد والتقاليد في قالب معقول (۲). وكأنه في هذه النقاط الثلاث أراد أن يحصر النهضة الإصلاحية في إصلاح العقيدة ومنهجية سياسية وحدة العالم الإسلامية والإصلاح الإجتماعي، ولئن كان صادقاً في ذلك فإنه قد عمد إلى الأسلوب الغامض عند
الهوامش
(1) عن فرحات عباس، في كتابه ليل الاستعماره قول المؤرخ لوتي غاية الاستعمار الفرنسي قوله : حاولنا في الجزائر أن نجعل من أرض شرقية أرضاً غربية، ص : 24 . أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق من ص: 14 إلى 23 .. (2) أ. ل. شاتليه الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص: 154 و 155 .
الصفحة31
الإشارة إلى الإصلاح بصفة عامة والإصلاح الاجتماعي بصفة خاصة؛ ألا وهي مسألة إصلاح التعليم. إن المناهج الإصلاحية كانت في جلها قائمة على اعتبار اصلاح التعليم هو أساس كل إصلاح. يقول العالم المصلح الإمام عبد الحميد بن باديس : «اصلاح التعليم أساس كل إصلاح. هذا ولقد انتبه هؤلاء المصلحون إلى ما كانت تعاني منه المنظومات التربوية من العجز والقصور في مختلف القضايا التربوية الغير سوية، وهو ما يدل على مدى الوعي التربوي الذي كان هؤلاء الرجال يتمتعون به فيقول في هذا الصدد ابن باديس: «لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فلما كان علماؤهم أهل الجمود في العلم وابتداع في العمل، كذلك المسلمون يكونون» (1) ويذهب ابن باديس إلى أن صلاح العلماء مرتبط بالضرورة بصلاح التعليم ويعتبر التعليم أهم عامل يكون على منواله النشيء فهو الوسيلة التي بها نحقق أهدافنا التي ترمي إلى ظهور علماء مسلمين قادرين على تحمل أعباء الدعوة وقيادة الأمة وتخليصها مما هي فيه من الضعف والإستعمار والتخلف فيقول : ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم؛ فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من عمله لنفسه وغيره، فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم (2) وابن باديس شأنه شأن المصلحين الإسلاميين لا يعني بالتعليم إلا التعليم الإسلامي بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويعتقد أن النموذج الذي يتوخاه للإصلاح التربوي ويختاره لهو نموذج التعليم الذي يكون به المسلم عالماً من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به، وقوله : (ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله ومضمونه في مادته وصورته) (2)، والحقيقة أن جميع علماء الإسلام يعتقدون في الرسول ﷺ أنه أرقى
الهوامش
(1) عمار طالبي ، ابن باديس : الصدر السابق، ج3 ، ص: 217 .
(2) ابن باديس المصدر السابق، ص: 217 .
(3) ابن باديس المصدر السابق، ص: 217
الصفحة32
نموذج للمعلم، ودليلهم على ذلك قوله ﷺ في حديث رواه مسلم: «إنما بعثت معلما» .
والجدير بالذكر أن علماء الإصلاح كانوا على بصيرة مما تعانيه المنظومات التربوية من قصور وكانوا يعتقدون أن أي تفريط في إصلاح التعليم ينجم عنه فساد في المجتمع وتقهقر وتخلف للحضارة والحقيقة أن المنظومة التربوية هي خبرة الأجيال قاطبة على أن الخبرة هي وليدة زمانها ومكانها وظروفها التاريخية المعقدة فكلما مر عليها زمان وتغيرت أمامها الظروف دعت الضرورة إلى إعادة النظر في تلك الخبرة والعمل على تهذيبها وتطويرها واثرائها بمجهودات الأجيال المتعاقبة كل ذلك في حدود الأصالة أو بمعنى آخر أن يكون التغير في نطاق حضارتها وثقافتها كجزء أصيل من كيانها التاريخي المستمر عبر العصور والأجيال ، أما إذا فقدت الخبرة القدرة على التغير في نطاق الأصالة، فيتعذر استمرارها وتفقد بذلك مبرر وجودها بالضرورة لأنها فقدت عنصرها الحضاري وتلك هي سنة الله في خلقه : ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تحويلا (
ولعله ليس من العيب أن تظهر تناقضات في الأمة . إنما العيب كل العيب في عدم العمل على التخلص من تلك التناقضات؛ بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، ونعتبر أنه من دلائل عظمة الأمة قدرتها على تجاوز تناقضاتها لتكمل نقصها وتتخلص مما فسد من أوضاعها وتثبت أمام الأزمات والشوائب، كما تبرز عظمتها في الجهود الجبارة التي شيدت حضارتها وأثرت ثقافتها. إن القدرة على. إعادة صياغة معطيات التاريخ في شكلها الأفضل في المستقبل لمن أهم شروط النهضة، ليصبح الرقي عملية مستمرة لتهذيب الخبرة وجودتها .
ومما نأخذه على المتطفلين للإصلاح من دعاة الحداثة أنهم نادوا بالتغير للتغير وإن كان على حساب التاريخ والأصالة، والتغير على حساب الأصالة، يعني الرفض كلياً أو جزئياً للمعطيات الثقافية والحضارية للأمة من حيث هو رفض لخبرتها عبر الأجيال وجهود الأمة المتواصلة عبر القرون، فرفض ثقافة الأمة وحضارتها خسارة لا تقدر بثمن لأن هذا الرفض مفاده أن كل جيل من
الصفحة33
الأمة يبدأ من الصفر، وإذا كانت بداية كل جيل من الصفر تصبح نهاية كل جيل مهما كانت جهوده صفراً من حيث هي بداية أخرى من الصفر كأجيال الحيوانات فمتى أذن تخرج الأمة من حلقتها المفرغة فرفض ثقافة الأمة وحضارتها وتاريخها هو رفض للاستمرار الانتقائي الذكي والسبب في ذلك أن للاستمرار شروطاً ثلاثة هي :
أولاً : عوامل الثبات التي تبقى شاهدة على البداية التي تتعاقب عليها كل أجيال الأمة في طريق الغاية .
ثانياً : عوامل التغير التي تضفي على الركن الثابت ألوان العصور المتعاقبة وميزات كل جيل من الأجيال المتلاحقة .
ثالثاً : القدرة على الإنتقاء والإصطفاء للخبرة التاريخية. ولكي لا يطغى الثابت على المتغير، ويصبح الاستمرار روتينياً، وهو ما يؤدي إلى الركود الحضاري والثقافي، ثم يحدث الانحطاط ، لا بد من الجهود العبقرية التي تعي مواطن القصور في الخبرة وتدرك حاجاتها إلى الإصلاح سواء أكانت هذه الخبرة تربوية أم سياسية أم عسكرية ... كما يجب ألا يتغلب المتغير على الثابت فتميع شخصية وتذهب أصالتها؛ لذلك فإنه الجهد الإنتقائي للخبرة لمن أهم عوامل الإزدهار والرقي في حياة الأمم، ومن ثمة فإننا إذ نعترف بضرورة إصلاح - المنظومة التربوية باستمرار، فإننا أيضاً نعد عدم الشعور بالحاجة إليه في حقبة ما من أخطر عوامل الغفوة، والغفلة التربوية إذا طالت يترتب عليها انحطاط ثقافي وحضاري بالضرورة، والسبب في ذلك أن الشعور بالحاجة إلى الإصلاح الذي اجتاح شعوب العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر ناتج عن صدمة التحدي التي انتبه عليها المسلمون مباشرة في الغزو الاستعماري . فهو بمثابة رد فعل إيجابي لم يكن دهاة الاستعمار يتوقعونه، لكن هؤلاء حاولوا من جهة أخرى اخفاء هذه الحقيقة بتفسير ماكر لظاهرة الصحوة، مدعين أن ما ظهر من شعور بالحاجة إلى الإصلاح التربوي في البلاد الإسلامية مرده إلى الأفكار الغربية التي أنعشت الحياة الثقافية الراكدة آنذاك، فيقول القسيس زويمر: ومصدر هذا
الصفحة34
الشعور بالحاجة إلى الإصلاح واحد وهو التغير الذي حدث في الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الإفرنجية» (1) .
والظاهر من هذا التفسير المتشبع بالأغراض الاستعمارية الماكرة والحقد على الإسلام والمسلمين هو اعتبار النهضة مجرد إقبال على ما أتى به الغرب من أفكار، في حين أن العكس هو الصحيح، إذ النهضة الأصلية تجلت في الاتجاه الذي رفض البدائل الغربية والشرقية، وفي موقف الرفض الذي كان من طرف الشعوب الإسلامية قاطبة .
ومن أبعاد هذا التفسير الماكر جعله النهضة مجرد الشعور بالحاجة إلى تقليد الغالب، والإقبال على ما استورده للعالم الإسلامي من أفكار، لتكون عقدة التقليد الأعمى والتبعية التامة والانصهار في الغرب انصهاراً كلياً، في حين أن علماء الإصلاح كانوا يحاولون اعطاء النهضة صبغة العبقرية الفذة الناقدة والمبدعة اليقظة في انتقاء الخبرات حتى تكون الأمة في صيرورة تاريخية انتقائية على الدوام، ومن ثمة فإن عامل القيم يعتبر من أهم العوامل التي تتميز بها الصحوة كي تعي الأمة ذاتها وتهتدي إلى الأفضل الذي يحقق أكمل صورة عن نفسها، كما يجب أن تكون عليه من حيث هي أمة إسلامية حاملة رسالة الهدى ودين الحق .
وحتى لا نقع في الغموض ومتاهة النسبية، فإن للقيم أصولاً وفروعاً. وإذا كان من أهم خصائص الأصول الثبات، فإن التغير هو الآخر من أهم مميزات الفروع، فالدين الإسلامي مثلاً لا يمكن بحال إلا أن يكون دائماً هو الدين الحق الذي جاء به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، كما هو مبين في القرآن الكريم والسنة. ومن ثمة فإن عقيدته تبقى هي نفسها، وكذلك الشريعة والأخلاق ومختلف المفاهيم والقيم، فهذه تعد من أهم مقومات الأمة الإسلامية، إذ بدونها لا يمكن أن تكون ؛ فوجودها واستمرارها مرتبطان ارتباطاً كلياً بها، وهذه من سنن الله في خلقه لا يدعى عكسها إلا مراوغ، وأما الفروع
الهوامش
(1)أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص: 155 .
35 الصفحة
والتقنيات والحاجيات والتحسينات والكماليات من أمور المعاش المختلفة، فهي الأمور المتغيرة، وهي التي عن طريقها ندرك ما يجب أن يبقى من صالح، وما يجب أن يزال مما طرأ عليه من فساد .
فمن عوامل الفجوة بين ما كانت عليه الأمة في ظروف ما وزمن ما وبين ما يجب أن تكون عليه في المستقبل تتجلى رسالة الجيل الجديد، لأن الظروف لا تسمح دائماً بتحقيق كل ما يطمح إليه الجيل من الأمال إلا نادراً؛ فالتفاوت الذي تدركه الأجيال بين الحاضر كما هو إيجابية وسلبية وبين ما يجب أن تكون عليه الأمة هو مجال الجهود والاجتهاد اللذين تتبلور فيهما عبقرية الجيل الجديد وهو ما يطبع عصره بطابع جهده واجتهاده. وهذا ما يجعل الأجيال في مستوى الاحتفاظ بالتالد والتميز بالطارف كجيل من بناة الحضارة. حيث ترتبط الفروع بالأصول ويكون التنوع في الوحدة والكثرة في الانسجام والاتساق وهو ما يحقق النوعية ويضمن عدم طغيان الكمية على الكيفية في التكامل والتجاوب والتجانس والتفاعل ... وإذا حدث أن فقد هذا الوعي ورضي الجيل بما انتهى إليه سلفه أو تنكر له تقاعس هذا الأخير، وفقد الحافز إلى الجهد الضروري الذي يكون في مستوى متطلبات الحضارة كي تزدهر وساعتئذ يصير هذا الجيل الخامل الفاقد للعزيمة اتكالياً عاجزاً عن الإبداع والانتاج الحضاري الراقي، فينزع بحكم هذا الوضع النفسي المتدهور إلى التقليد فتتدهور الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... ثم يبدأ ظل الحضارة في تقلص مستمر وإذا طال هذا الوضع النفسي بأجيال الأمة تسقط حضارتها، وتصير خبراً بعد عين ... وهذا يفسر ظاهرة الوعي الذي دب في أعماق الأمة الإسلامية فحرك إرادتها وقوى عزيمتها للعمل على التخلص من المأساة، وإعطائها المبررات السليمة التي تعبر عن روح الأمة وذاتيتها الفذة والتي ما فتئت مشاعر الخير تتأجج في أعماقها وتدفعها من الداخل إلى العمل الجاد من أجل القيام برسالتها من حيث هي أمة إسلامية ذات رسالة وصاحبة حضارة إذ منهما تستمد مبرارت وجودها. ولذا نلاحظ أن هذا الوعي لم يكتف بطرح مسألة الإصلاح بل تجاوزه إلى الاقتناع بالحل الإسلامي ورفض الحلول المستوردة التي تحمس لها بعض المعجبين بالغرب ودعا إليها قصيروا النظر في
الأمور. والحقيقة
الصفحة36
أن موقف الرفض للبدائل المستمرة من طرف الأمة الإسلامية ليس بدعة لكن للحضارة فوصفوا الأمة بالهمجية والوحشية. دعاة الاستعمار اعتبروا هذا الرفض لبدائلهم من طرف الأمة الإسلامية رفضا وأضفوا على غزوهم الحضاري طابع التمدين والشرعية في حين أنهم لم يعيبوا على شعوبهم رفض البدائل المستوردة .
* * *
لقد كان من العسير جداً على أمم الغرب والشرق وهم يقدمون على إصلاح نظمهم التربوية أن يوفقوا بين استعارة الخبرات الأجنبية وبين المحافظة على أصالتهم وشخصيتهم وطابعها الثقافي القومي. إن ولوع فرنسا وبريطانيا بالنظام البروسي التربوي ورغبتهما في إصلاح نظامهما في ضوء التجربة البروسية لم يزهد المربين الفرنسيين والأنجليز في إصالة نظامهم التربوي، بل زادهم خوفاً على شخصيتهم من التشويه والتناقض وإفشاء نزعة التقليد للأجنبي، وإن كان أوروبياً لأنهم كانوا يعتبرون المنظومة التربوية ما هي إلا نتيجة لجهاد أجيال الأمة عبر العصور. لذلك لم يسمحوا لأنفسهم بالارتجال والمجازفة في عملية الإصلاح. فالنقاش الشيق الذي أثارته قضية استعارة الخبرة الأجنبية كان على أشده منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم. وعلى الرغم من حدته أحياناً فقد كان مفيداً إلى حد كبير من الناحية النظرية والعملية على حد سواء؛ فمن الناحية النظرية أثمر النقاش الذي كان بين المربين والمفكرين فكراً تربوياً عمق النظر في المسائل التعليمية وغيرهما مما له علاقة بالتربية وتوسيع مجالات التربية النفسية والاجتماعية وغيرها، وطور المناهج وطرق التدريس والوسائل التكنولوجية، إلى جانب مساعدته على ظهور ونضوج علم التربية المقارنة من أهم علوم التربية .
وما أحوج المتحمسين للبدائل الحديثة إلى معرفة هذه الحقائق كي يعرفوا مدى جنايتهم على الأمة الإسلامية وتجنيهم على الحق والحقيقة .
وهكذا يتبين لنا أن رفض الأمة الإسلامية لبدائل الحداثة المستعارة من الغرب أو الشرق هو رفض طبيعي كما يدل هذا الرفض على مدى وعي الأمة
الصفحة37
الإسلامية . حيث أدركت أن خطر الغزو الحضاري أخطر وأكثر عمقاً ودهاء من الغزو العسكري، وإنها إذا استسلمت للغزو الفكري، فلماذا تحارب الغزو العسكري وهو أهون؟ إن ما ظهر من الأمة الإسلامية من عدم الاستعداد للتجاوب مع بدائل الاستعمار، وإن كان في شكل رفض نفسي، فذلك أن الأمة كالأفراد لا تطمئن لما لا يتقبله ضميرها الأخلاقي وحسها الحضاري والتاريخي ترفض رفضاً باتاً كل البدائل التي لا تتفق مع قيمها، ويهدد كيانها ويكون خطراً على مستقبل أجيالها. ومن ثمة فإن الرفض الأخلاقي لا بد من أن يكون متبوعاً بالرفض النفسي، فتصبح القضية قضية أعماق وأغوار سرعان ما تتحول إلى دوافع ومبررات تشكل العوامل الأولية للفعالية العامة للأمة، وتنعكس في سلوك جماعي لنهضة حضارية وثورة فكرية تتحدى كل غزو، فتتفتق القرائح، وتنبه المواهب ومختلف القدرات لفعالية الأمة الواعية ... ومما يؤكد ارتباط الفعالية بضمير الأمة وذاتيتها أن الدوافع المحفزة لبذل الجهد الإبداعي والحضاري تقوى بقوة مبرراتها العقائدية والأخلاقية والنفسية وتضعف بضعفها أو تخمل بخمولها. وإن استقراءنا لتاريخ الحضارات في نشوئها وتطورها وازدهارها وجمودها وانحطاطها، ودراسة الظواهر الثقافية والاجتماعية في مختلف أطوار الحضارة يؤكد ارتباط فعالية الأمم بمدى وعيها لذاتها وقناعتها بعقيدتها وفكرتها المثلى عن نفسها، وهو ما يذكي حسها بالحاجة إلى الحرية والإرادة والفعالية ... وهذه أمور اعتبرها فلاسفة الحضارة من أهم المبررات لنشوء وارتقاء الحضارة، وهو ما يجعل التفسير النفسي (1) لصحوة الأمة الإسلامية وموقف الأمة من البدائل المستوردة يعتبر حتى الآن أقرب محاولات التفسير إلى الصواب، وأنه المنهج المتبع لدراسة هذه الظاهرة لهو أدنى المناهج إلى الحقيقة .
ولعل هذا ما يحملنا إلى القول بأن دراسة مالك (2) بن نبي لواقع العالم
الهوامش
(1) أرنولد توينبي ، مختصر دراسة للتاريخ ، ترجمة محمد فؤاد شبلي جامعة الدولة العربية،1961 م
(2) مالك بن نبي ، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي، دار الفكر.
الصفحة38
الإسلامي ودراسة أرنولد توينبي وشنقلر للحضارة الغربية من أهم الدراسات وأعمقها حتى الآن .
أما الدراسات التي أهملت العوامل النفسية في الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية لهي من أفشل الدراسات وأكثرها سطحية من ذلك تذكر الدراسات القائمة على أساس المادية التاريخية لكارل ماركس وغيرها من دعاة الحداثة، على أن دعاة الإصلاحات التربوية وغيرها التي نادى بها أصحاب الحداثة في البلاد الإسلامية إذ حاولوا اغفال الفروق الموجودة بين الأمة الإسلامية وأمم الشرق والغرب تجاهلوا موقف الرفض الأمة الإسلامية وبالغوا في احتقارهم له ظناً منهم أن فرضها بواسطة السلطة السياسية قد يكفي في إجبار الناس على العمل بها طوعاً أو كرهاً .
فكان من عواقب ذلك أن وجدت هوة سحيقة بين النظم التي تبنت هذه البدائل وبين الشعوب، بالإضافة إلى ذلك ما أحدثته هذه التربية من بلبلة للأفكار (1) وزعزعة للعقائد واضطراب للقيم، فعملية زرع الخبرة الأجنبية في المنظومة التربوية لا بد من أن تكون مصحوبة بردود فعل تنعكس في شكل صراع بين قيم المنظومة الأصلية وقيم الخبرة الأجنبية تظهر من خلالها قضايا جديدة على المجتمع من ذلك مثلاً مشكلة الاختلاط بين الجنسين ومسألة العلمانية أو اللائكية، وقضية التوجيه التربوي ؛ فالتخطيط ومشكلة المرأة . . .
إلى غير ذلك من القضايا المستحدثة والتي في الواقع لا مبرر لها غير الحمى الاجتماعية التي انتابت الأمة عندما غزتها جرثومة الثقافة الأجنبية بواسطة الخبرة المستوردة. وهو ما يؤدي حتماً إلى نشوء تناقضات على مستوى الحياة الثقافية والاجتماعية عندئذ في هذا المجال يفقد المجتمع حتماً انسجامه وتماسكه وتناسقه . ولا تقف حمى التناقضات إلا بأحد الأمرين: فأما الانحلال وأما التمزق من الداخل نتيجة التفكك والتنازع والتعارض والتضارب وهو ما حدث في المشرق وصار يهدد شعوب المغرب .
الهوامش
(1) السيد أبو الحسن علي الحسن الندوي، نحو التربية الإسلامية الحرة، المصدر السابق، ص : ۹
الصفحة39
وهذه النتيجة هي التي كان دعاة الاستعمار يعملون بكل مكر ودهاء للوصول إليها، بدءاً بالقضاء على الخلافة وجعل وحدة العالم الإسلامي أمراً مستحيلاً. والدليل ما قاله القسيس نلسن: «فإنه يستحيل أن يكون من المسلمين عنصر حي حقيقي في استطاعته جمع السنيين والشيعة معاً، ويضم الأتراك والفرس والهنود إلى العرب ليكافحوا ويدافعوا يداً واحدة على اتفاق وثقة متبادلة» (1). هذه هي نتيجة الإصلاحات القائمة على أساس النظم التربوية والسياسية والاجتماعية الغربية والشرقية التي تحمس لها دعاة الحداثة والتي بثت في العالم الإسلامي لتمزيقه من الداخل ومواجهة حركة الجامعة (2) الإسلامية التي كانت تعمل على توحيد العالم الإسلامي وكان يدعو لها فطاحلة علماء البلاد الإسلامية كجمال الدين الأفغاني (3) ومحمد عبده، وحسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، والمودودي ... وكانوا لتحقيق ذلك الغرض قد تبنوا المنهج الإصلاحي السلفي الذي يقوم على اعتبار النموذج الأليق بنهوض الأمة الإسلامية هو النموذج النبوي كما هو في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والإثراء الذي جاءت به قرائح الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام النابهين، واتخذوا التربية أساساً للإصلاح الاجتماعي .
إذن هذه هي حقيقة المحاولات الإصلاحية التي قام بها دعاة الحداثة وما نجم عنها من عواقب وخيمة كان من نتائجها تمزيق شمل المسلمين والبلبلة الفكرية والعقائدية والانحلال الأخلاقي وتعميق هوة التبعية للشرق أو الغرب للوصول في النهاية إلى جعل عودة المسلمين إلى دينهم الصحيح الذي يجتمع عليه شملهم أمراً مستحيلاً كما قال القسيس نلسن في مؤتمر الإرساليات التبشيرية في العالم الإسلامي، وهو ما جعل أيضاً علماء الإسلام يشعرون أكثر
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 164 .
(2) ومما قاله القسيس نالسون في هذا الصدد: اسمحوا لي أن أقول لكم أنه يظهر أن اجتماع المسلمين بجامعة الإسلامية بكل المعنى الذي يدل عليه هذا اللفظ هو أمر وهي لا ثمرة له غير توليد أحلام تقلق رجال السياسة»، ص: 164 .
(3) علي عبد الرحمن وافي أصول التربية ونظام التعليم، ص: 181 - 192 .
الصفحة40
فأكثر بضرورة القيام بالحركة الإصلاحية والعمل على تخليص الأمة الإسلامية من براثن الغزو الفكري وذلك بالعودة إلى الأصل والعمل على إصلاح المجتمع الإسلامي عن طريق التربية الإسلامية (1) التي حددوا معالمها ومبادئها وجميع
خصائصها .
يتبين مما تقدم أن البلاد الإسلامية وهي تستعد للوثبة الحاسمة في حياتها للتخلص مما هي فيه من ضعف وتخلف وقصور وتقصير في أمور دينها ودنياها نتيجة لعدة أسباب أهمها الغزو الفكري والاستعمار بشكليه التقليدي القديم وثوبه البراق الحديث عانت من محاولات إصلاحية زائفة وهو ما عرقل المحاولات الإصلاحية الاجتماعية الإسلامية بمعناها الواسع والتي نادى بها علماء الإصلاح الإسلاميون، وإذ تصدى هؤلاء العلماء إلى مهمة إصلاح الأمة اتخذوا الإصلاح التربوي أهم وسيلة لتحقيق مراميهم للوصول إلى أبعد غايتهم وأهدافهم، ومن ثمة ظهرت الحاجة إلى الإصلاح التربوي حيث هي أساس كل إصلاح كما جاء ذلك في خطاب ابن باديس .
الهوامش
(1) عمار طالبي ابن باديس حياته وآثاره 32 ص 217
الصفحة41
حاجات النظام التربوي إلى الإصلاح
إن الحضارة أي حضارة إذا فقدت عنصر التجدد لسبب ما فإنها تهدد بالركود ثم الانحطاط وإذا كان للإصلاح عدة أغراض، فمن أهمها شحذ عبقرية الأمة ودفعها إلى الإبداع والتجديد انطلاقاً من خدمة التراث الأصيل، فإلى اكتشاف لمجاهل الكون، وإثراء للمعرفة والمنظومة التربوية بحكم موقعها كالعمود الفقري من كيان الأمة الحضاري الشامل المتكامل تحتاج إلى الإصلاح لتساهم بدورها في عملية التغير المطلوب بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك عندما نعتبر التربية من أهم وسائل الرقي الحضاري والازدهار الثقافي لذلك فهي مطالبة بسبق كل المحاولات الحضارية في عملية التغير وإلا تعذر أن تكون في مستوى وظيفتها الإصلاحية الحضارية الشاملة .
فالتغير الحضاري ليس أبداً بالتغير العفوي الذي يأتي صدفة بل هو عملية طبيعية تخضع لشروط تاريخية في غاية من التعقيد، والتربية من أهم الوسائل أو الشروط التي يمكن بواسطتها التحكم في عملية التغير بطريقة أكثر مباشرة وفعالية وانتظاماً . بل إن النمو الحضاري وما يحتاج من رعاية وعناية لجميع المواهب والاستعدادت والقدرات والمهارات يشكل أهم أغراض التربية في الأمة المتحضرة ذات الرسالة التي جاءت لتحقق للناس سعادة الدارين .
بيد أن التربية لا تحقق سبقها للحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلا بقدر نجاح إصلاح نظامها باستمرار.
وعملية الإصلاح المستمر تهدف بالضرورة إلى التكيف للأوضاع المتجددة والتوظيف الجيد لكل الإمكانيات والمعطيات الذاتية والموضوعية البشرية
الصفحة42
والطبيعية على المستوى الحضاري في الجملة ، ومن ثمة فهي ضرورة تمليها حاجة الأمة المتحضرة التي وعت رسالتها وهيأت نفسها من جديد للصدارة التاريخية والريادة الحضارية .
لقد أصبحت سرعة التغير الحضاري والتطور التكنولوجي من أعقد المشكلات وأعوصها أمام التربية وصار ليس من السهل على التربية إدراك التطور التكنولوجي فضلاً عن تجاوزه، وهذا ما يعطي لعامل الزمن أهميته القصوى في الإصلاح للتحكم في التغير الاجتماعي، لهذا يحتاج المصلح الاجتماعي إلى دقة التنبوء وحدس صادق يتجاوز بهما حدود الحاضر الذي يسيطر على تصوراتنا، ويتحكم في تفكيرنا إلى أبعد الحدود، ومعنى هذا هل يمكن للعلم أن يطمح إلى فهم صيرورة الظواهر، فضلاً عن فهمه للظواهر ذاتها ويحول موضوعه من اللامتغير إلى المتغير؟ .
ما أعقد الأمور في علاقاتها المتشعبة، وما أبسط معارفنا أمام إغوار الحقائق، وما أضيق عقولنا حيال هذه الأكوان الشاسعة، وما أضيق آفاق علومنا وتصوراتنا؟ قال الله تعالى : ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء : 85) .
وإذا لم تحقق التربية غلبتها على عامل الزمن تتقهقر وتتخلف وتصير تابعة لا متبوعة وتعجز عندئذ عن ضمان حاجة الحضارة إلى التجديد والنمو، فالإنسان هو صانع الحضارة وكل شيء في الحضارة يتوقف عليه والإنسان بدوره أيضاً يتوقف مصيره إلى حد بعيد على التربية من حيث هي التي تكون البيئة التي تترعرع فيها مواهبه ومختلف قدراته وخبراته. فكلما ازدهرت التربية ازدهرت الحضارة واتسعت أمامها آفاق الصيرورة وكذلك العكس . فكلما ضاقت آفاق التربية ضاقت أيضاً آفاق الإنسان. وما التفاوت الذي حدث للتربية المدرسية الكنسية في القرون الوسطى (1) إلا خير دليل على خطورة تخلف التربية عن ركب
الهوامش
(1) وهيب إبراهيم سمعان الثقافة والتربية في العصور الوسطى دار المعارف بمصر، 162 ، ص: 195 .
الصفحة43
الحضارة، كما أن مجهودات المصلحين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين خير دليل على أهمية التربية بالنسبة إلى نشأة النهضة وازدهارها .
ولعل أخطر حالات التفاوت بين الحياة والتربية هي عندما يكون التباين بين مطالب الحياة والمحتوى التربوي وخبراته وجميع أهداف التربية وأغراضها.
لأن التربية التي لا تتمتع بالرؤية الواضحة عن الحاضر بكل جوانبه، والمستقبل بكل أبعاده لا تعرف كيف تواجههما، وكيف تعد الأجيال لهما بالضرورة. لأن تحديد موقف التربية منهما لا يكون سليماً في المستوى المطلوب إلا بقدر تغلغلها في أسرار الواقع التاريخي المتغير وإلا تصبح الأجيال التي تربيها والخبرات التي تعلمها غير مطابقة لمتطلبات العصر، فلا تفيد أصحابها في حياتهم الحضارية، أو تكون غير مناسبة لمقومات الأمة وقيمها . ...
هذا ولقد أثار هذه القضية مربون كثيرون أذكر منهم هالبارت سبنلتر وجون ديوي، فبالنسبة إلى سبنلتر (1) يرى لزاماً على التربية أن تقيم محتواها تقييماً موضوعياً بحيث تستطيع أن تعرف أهمية كل مادة من مواد التعليم، ذلك لأنه لاحظ أن تعليم اللغة اللاتينية كمادة أساسية في المحتوى التربوي في كل مستويات التعليم، في حين أن اللغة اللاتينية لم تكن مستعملة في الحياة العملية، الأمر الذي دعا إلى التساؤل عن قيمة هذه المادة الصعبة التي يعاني المتعلمون الكثير من أجل تعلمها، وإذا ما عادوا إلى الحياة العملية لا تجديهم نفعاً .
أما جون ديوي فيرى أن المدرسة (2) كبيئة تربوية كما تتكون فيها القدرات والميول الفردية تنمو فيها كذلك وتترعرع الميول الاجتماعية. فإذا كانت المدرسة في شكلها التقليدي أبعد ما تكون عن الصورة الحقيقية في الحياة الاجتماعية الناجحة فكيف تستطيع هذه أن تحقق الميول الاجتماعي الممتاز عن الطفل؟
(1) بول منرو، الرجع في تاريخ التربية مكتبة النهضة المصرية، 1953 م، ج 2 ، ص: 309 - 311
(2) جون ديوي، الخبرة والتربية
الصفحة44
وينتهي جون ديوي بنقده هذا إلى إقامة الحجة على فشل ذلك النموذج التربوي الأمريكي التقليدي ويقدم بديلاً يتمثل في التربية التقدمية» التي كان قد نادى بها باركر ووليام جايمس كمدرسة تقوم على أساس الفلسفة البرجماسية روحها الديموقراطية بمعناها الليبرالي الواسع .
واحقيقة أن محاولات ربط التربية بالحياة عند كل من سبنسر وديوي إن كانت ذات أهمية في عصرهما وبلديهما فإن ذلك الربط يبدو بسيطاً ممعناً في السطحية، والدليل على ذلك أنه إذا كانت الحضارة برمتها في حاجة إلى تربية تكون في مستوى انقاذها من كبوة المادية فإن المشكلة لا تقف عند حد تربية تساير الحياة بقدر ما هي مسألة تربية تنقذ الحياة ذاتها من صميم والتعاسة اللتين صار يعاني منها إنسان المجتمعات الحديثة . الشقاء
لقد كان على اتباع ديوي من فلاسفة التربية البرجماسية أن يستفيدوا من دراسة أرنولد توينبي كفيلسوف في تاريخ الحضارة التي كشفت القناع عن أزمة الحضارة، حيث تكنولوجية الحياة صارت من أهم ميادين المعرفة التي تساعد علوم التربية على تحديد مهمتها التاريخية والحضارية، كما تساعد المربين على إدراك الفروق الزمانية واختلاف الظروف والأوضاع الحضارية ومختلف شروط الصيرورة التاريخية .
لقد كانت التربية في عهد ديوي تعيش في أحضان الفلسفة الوثيرة متقوقعة لا تخرج عن دائرتها متقيدة بدروب مذاهبها المتشعبة، وتتشكل حسب مقتضيات مدارسها المختلفة، جاء ديوي وحاول قلب المعادلة، وزعم أن التربية هي التي تكون (1) الفلسفة، وليس العكس. على أنه إن ذهب ديوي هذا المذهب واعتبر الفلسفة تابعة للتربية فهو كبرجماتي يحاول أن يهون من شأن الفلسفة أكثر من أن يحاول النظر إلى التربية من خلال نظرة أشمل على مستوى حضاري أوسع بالإضافة إلى ذلك أنه نسي أن التربية التي نادى بها فهي في حقيقتها تنتسب
الهوامش
(1) جايمس دوبي الأسس العامة لنظريات التربية، ترجمة صالح عبدالعزيز، مكتبة النهضة المصرية .
الصفحة45
إلى فلسفته البرجماسية ولا تنتسب فلسفته إلى تربيته بالإضافة إلى ذلك أن ديوي لم ينتبه إلى بوادر أزمة الحضارة، ولعله لم يلاحظ بوادر فشل البدائل التي عم العمل بها وغطت أغلب المجتمعات الحديثة. والحقيقة أن ذاكرته ما تزال عالقة بظروف أواخر القرن التاسع عشرة وأوائل القرن العشرين حين كانت هذه البدائل محط آمال المفكرين على اختلاف مذاهبهم وفلسفاتهم، بحيث لم يكن من السهل على ديوي توقع خيبتها والتنبوء بفشلها في أي مجال من مجالات الحياة الروحية والمادية الحضارية.
على أن بعض المفكرين الغربيين قد انتبهوا إلى ذلك بعد الحربين العالميتين، منذ ذلك الحين حاولوا أن يربطوا التربية بالحياة أكثر من ارتباطها بالفلسفة. كما أدرك هؤلاء أهمية التربية بالنسبة إلى التطور التكنولوجي الذي صار يشكل أهم قضية في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين .
ولئن صارت مراكز النفوذ في العالم المعاصر تحددها مرتبة الدولة في السباق على التسلح، فإن التطور السريع للأسلحة الحديثة يتوقف إلى حد بعيد على مستوى التطور التكنولوجي الذي حققته تلك الدولة. ولكن التطور التكنولوجي لا يتحقق إلا بقدر ما أحرزته الأمة من التطور التربوي الذي توصلت إليها منظومتها التربوية. فمنذ ذلك الحين شعرت هذه الأمم بضرورة إصلاح منظوماتها التربوية، فترى فرنسا التي كانت تحت الاحتلال الألماني وحكومتها في المهجر لم تشغلها الحرب ولم تلهها أهوالها عن إعداد الخطة الإصلاحية التربوية، فكونت في تلك الظروف القاسية لذلك الغرض لجنة من أساتذة جامعة الجزائر في ذلك الوقت حيث كانت الجزائر مقراً للحكومة الفرنسية وديجول في المهجر يشرف على تلك الخطة التي شرع في تطبيقها بعد الحرب. أما بريطانيا فقررت مبدأ ديمقراطية التعليم الثانوي بقرار ١٩٤٤ الشهير واقتصادها محطم وعمران مدائنها مخرب. .. والمانيا المهزومة، واليابان المحروقة، كل هذه الأمم وغيرها أدركت حاجتها إلى إصلاح نظمها التربوية حتى تكون في مستوى مرحلة ما بعد الحرب، ومتطلبات النمو الحضاري السريع مرحلة السباق على التطور التكنولوجي، واستطاعت بالفعل النظم التربوية التي كانت موضوعاً للإصلاح الجاد أن تحقق نتائج مذهلة في الميدان التكنولوجي .
الصفحة46
على أن التربية في هذه الأمم بعد ما تأكد لمعظم أهلها فشل البدائل الفلسفية وبعد أن سحبوا ثقتهم منها ركزوا على العلم وعلقوا عليه كل آمالهم دون أن يضعوا في حسابهم أدنى احتمال للخيبة مع أن العلوم الإنسانية ما تزال تكبو وما فتئت شعلة ذكاء أصحابها تخبو وبدا عالم الإنسان أعقد عوالم مخلوقات الله وأعظمها شأناً، وأرقاها شأواً وأعقدها سراً وأدقها تركيباً وأعجبها خلقة فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) .
أما النظم التربوية في العالم الإسلامي فهي منذ عهد طويل تشكو من تخلفها عن ركب الحياة إلى درجة أنها صارت غير قادرة على أن تلبي حاجات المجتمعات الإسلامية إلى تربية تحقق لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة. وخاصة بعد أن تعرضت لاصلاحات فاشلة قام بها أهل الدخل ومتطفلون من أصحاب الدجل وصارت هي في وادي ومطامح الأمة ورغباتها وإصالتها ووحدتها في واد آخر، فلا على التالد حافظت ولا في الطارف أنجبت سجت العقول بثقافة دخيلة، وخدرت الضمائر بمفاتن سخيفة وثبطت العزائم بخيبات أمل متتالية، وبدأ شعور الناس يشك في قدراتهم التي وهبهم الله إياها، وقلت ثقتهم في أنفسهم فزاد إعجابهم بمن تفوق عليهم وغلبهم ... وأوشكت أن تخبو شعلة العبقرية التي وهبها الله كل جيل من الناس من كل الأجناس فضاقت آفاق المعرفة الواسعة بضيق العقول وقصر الباع بقصر الهمم . . . فإذا لم يستدرك الأمر بالإصلاح الجاد السليم لمنظوماتنا التربوية، تبقي الأمور على ما هي عليه بل تزداد سوءاً يوماً بعد يوم .
ويرى بعض من المتأثرين بالفكر الحديث العلماني المادي أن تخلف المنظومات التربوية في العالم الإسلامي راجع إلى كونها في الأصل دينية ولا يمكن في رأيهم بأية حال أن تصلح للمجتمعات الحديثة التي ينادون بها القائمة مفاهيمها على العقل وحده أساسها أيديولوجي فلسفي لا علاقة له بدين، وهؤلاء في الحقيقة لم يأتوا بهذه الأفكار من تلقاء أنفسهم وجهد تفكيرهم وإنما تقلوها نقلاً حرفياً لما قاله دوركايم وأصحاب هذه النزعة في فرنسا في محاضراته
الصفحة47
التي ألقاها في السربون تحت عنوان: «التربية الأخلاقية»(1) ونسي هؤلاء أمرا في غاية الخطورة وهو أن الأمة الإسلامية أمة قائمة مفاهيمها وقيمها كلها على الدين فإذا حذف منها الدين لم يبق للأمة الإسلامية شيء، وزعم هؤلاء أن أمم الغرب لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطور حضاري إلا بعد ما نفضت يدها من الدين ومن كل ما جاء به وتبنو فصل الدين عن الدولة تبنى لائكة التربية والحداثة فلسفة والديمقراطية أديولوجية . ويعتقد هؤلاء أنه إذا لم يتجه المسلمون اتجاه الغرب ويسلكوا نهجه لا يمكنهم أن ينهضوا، وينصح هؤلاء باتباع الغرب لتحقيق ما حققه من تطور ورفاهية وازدهار وتفوق . . . ويمثل هذا الرأي أدباء ومفكرون وغيرهم في كل بلد من العالم الإسلامي كطه حسين وميشال عفلق والخديوي إسماعيل ومصطفى كمال، وأمثال هؤلاء من الذين تكونوا في المؤسسات التربوية الغربية المزروعة في أهم العواصم العربية والإسلامية، كالجامعة الأمريكية في بيروت، بالإضافة إلى الخريجين من مختلف الجامعات الأجنبية في أوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها، يقول لو تروب (2) :
وأظهر ما يكون المتغربون في الطبقة العليا والوسطى ولا سيما في أولئك المهذبين على الطراز الغربي فمهمة المدارس والمعاهد والجامعات الاستعمارية ما هي إلا تكوين تربوي موازي للنظام التربوي الإسلامي الأصيل لتنشئة وتكوين جيل غربي في ثقافته وإعداده للقيام بحملة على كل ما هو إسلامي (3) حتى يحارب الإسلام بأبناء المسلمين ولقد أدرك المستعمرون بما عندهم من دهاء ومكر السياسة وتقنية الدساسة أنهم لن يصلوا إلى الإصرار بالإسلام والمسلمين ما لم يجدوا من أبناء المسلمين من يسخر لضرب الإسلام عن غير وعي . إن ما حققه المتحمسون للفكر الغربي من أحلام الاستعمار كطه (4) حسين وسلامة موسى
الهوامش
(1) أميل دور كايم التربية الأخلاقية، ترجمة محمد بدي، مكتبة مصر، ص : 6.
(2) لوتروب ستودار حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نويهض، ج 4 ، ص : 4 ، ط 4 ، دار الفكر العربي .
(3) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص : 55 .
4) ) انظر مستقبل الثقافة في عصر طه حسين
الصفحة48
وتوفيق الحكيم وغيرهم ... لم تستطع أن تحققه جموع المستشرقين الذين كرسوا حياتهم وشحذوا ذكائهم وجندوا عبقرياتهم لضرب الإسلام والتحامل عليه .
والحقيقة أن نموذج سلامة موسى وطه حسين وتوفيق الحكيم لا يكاد يخلو منه بلد من العالم الإسلامي، لقد كانت لهم نفس المهمة سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا ، لقد نشروا الفكر الغربي وسموم السياسة الاستعمارية كداعاة الطورانية ومجاهدي خلق وأصحاب النزعة القومية، وانخدع الناس بهم وانشغلوا عن أولى الأصالة الفكرية ونباهة السجية كمصطفى صادق الرافعي وحسن البنا ومصطفى السباعي وسعيد النورسي ومحمد إقبال والندوي وابن باديس ومالك بن نبي . من أقطاب الصحوة والحركات الإسلامية الرشيدة .
أما الرد على ما ذهب إليه أصحاب البدائل الحديثة فمجمله أن زعمهم باطل لا سند له من أدلة النقل ولا براهين العقل أحكامهم ذاتية، ومزاعمهم ادعائية، أبعد ما يكونون عن موضوعية العلم وحكمة العلماء والدليل على ذلك أنهم ربطوا بين الإسلام وظاهرة التخلف بمعناها الواسع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ولو أنصف هؤلاء الحق والحقيقة لاعترفوا بما أقره التاريخ من أن الناس كلما كانوا حنفاء مؤمنين صادقين عاملين بكتاب الله وسنة رسوله، سائرين على نهج الرسول وخلفائه الراشدين، كانت أحوال الأمة الإسلامية على أحسن ما تكون عليه السلامة والصحة والصواب والقوة والمنعة والعزة، كما كان الشأن في عهد الرسول وخلفائه الراشدين، وما أن دب في الأمة الضعف في دينها كما كان الشأن في ما بعد عهود بني أمية والعباسيين، حتى دب الضعف في كل شيء إلى أن آل الأمر إلى ما آل إليه حال الأمة اليوم، فكيف يفسر هؤلاء إذن قدرة الأمة الإسلامية على الإبداع في ميادين المعرفة من علوم وفنون؟ ألم تنجب هذه الأمة أئمة الفقه وأصوله أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وجعفر الصادق، وعلماء اللغة كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء والمازني، وجهابذة العلم كجابر بن حيان والحسن بن الهيثم والخوارزمي وابن سيناء وابن رشد و ابن خلدون ... وغير هؤلاء من الذين تزخر بهم دائرة المعارف الإسلامية. فما الذي يمنع إذا ما تهيأت الشروط التربوية والثقافية ظهور
الصفحة49
عباقرة مجدين مبدعين لا مقلدين في إطار الحضارة الإسلامية الواسع، أليس من الأصح أن تكون التربية جيلاً أصيلاً في ثقافته مجداً في إنتاجه، مستقلاً في تفكيره عن أي تيار فكري غربي أو شرقي بدلاً من أن تدعوا إلى التقليد، والتقليد ضعف وتبعية وتخلف ؟ .
إن الربط المنهجي لدراسة التاريخ يدل دلالة واضحة على أن الإسلام هو الدين الذي شملت شريعته واحتوت على الحكم والأحكام. وهو ما يجعلها تضمن للعامل بها عن قناعة إيمانية صادقة سعادة الدارين الدنيا والآخرة. وهو الذي كان شرط الرقي والازدهار الحضاري والصلاح الاجتماعي من قبل ومن بعد .
أما قولهم : إن نظم الغرب التربوية لم ترق رقيها الحضاري، ولم تثر ثراءها الثقافي والتكنولوجي في هذا العصر إلا بعد تخلصها من الدين فهو ادعاء باطل ..إن هذا الزعم قد يصح لو كانت كل النظم التربوية التي تتمتع بسمعة أكاديمية هي النظم اللائكية. أما وقد كان العكس حيث نجد النظم التربوية اللائكية تعد على الأصابع ولم تتفوق بحال من الأحوال على النظم التربوية الأخرى البروستنتية والكاثوليكية والإنجلكائية فالجامعات والمعاهد اليهودية في أمريكيا وغيرها من الدول الأوروبية تتمتع بشهرة كبرى لا تضاهيها جامعات أخرى في العالم .
والحقيقة أن لائكية التربوية ظهرت في فرنسا في عهد جول فيرييه حلا لمشكلة الصراع المذهبي الذي مزق فرنسا بين الكاثوليك والبروستان، الأمر الذي جعل ديموقراطية التعليم الذي تبنته السياسة التربوية غير ممكنة التطبيق إلا إذا كانت المدارس الحكومية لائكية تستطيع أن تجمع كل أبناء فرنسا بقطع النظر عن النزعة المذهبية التي ينتمون إليها حيث يجلس الطفل الكاثوليكي بجانب الطفل البروستاني واليهودي (1) وغيرهم .
هذا وإن المعاهد الخاصة التي تنشئها الطوائف للمحافظة على تربيتها ومكانتها الاجتماعية منتشرة على ربوع التراب الفرنسي لأنه من الطبيعي أن لا
الهوامش
P. Cnevallier. Enselgnement Francais. Mouton. 1974, P. 344. (1)
الصفحة50
تعتمد الطائفة أو الملة على غيرها في تنشئة أبنائها ومساعدتهم على تحقيق نبوغهم وتفوقهم، لذلك نجد المعاهد الخاصة وحتى الجامعات في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، تحتل مكانة هامة فكل مذهب يريد أن يحتل مكان الصدارة للحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية لا بد له من مؤسسة تربوية ولما كانت هذه المكانة (1) مرتبطة بالكفاءة وجودة التحصيل صاروا يركزون على التربية التي خصصوا لها معاهد ومدارس لتكوين النخبة المتفوقة من رجال الأعمال والعلوم والسياسة. وبذلك تصدروا الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في أغلب الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية. وصارت هذه المؤسسات التربوية التي تشرف عليها الكنيسة أو الهيئات اليهودية تحتل الصدارة، وتتمتع بسمعة أكاديمية عالية. وجعلت التزاحم المدارس والمعاهد والجامعات التي كان يحتكرها الأرستقراطية وأهل الطبقة العليا في المجتمعات الليبرالية في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرها .
وأما فصل الدين عن الدولة الذي حدث بعد الثورة الفرنسية فهي قضية في حقيقة أمرها سياسية محضة لا علاقة لها بالتربية والنهضة، وأما المقصود بها فقد كان دعاة فصل الدين عن الدولة في فرنسا وروسيا البلشفية يريدون أضعاف سلطة الدين التي كانت تجابههم وتشكل على ثوراتهم خطراً. لأن المذاهب الدينية والطوائف والملل لا ترضى إلا بالحكم الذي يتفق مع دينها ومن ثمة فإن الطابع المسيحي لا ينكر بالنسبة إلى الحضارة الغربية يقول هتلر في مستهل برنامجه الوزاري يوم ولي رئاسة الوزراء : «إن أول واجب ستقوم به الحكومة القومية الألمانية هو العمل من أجل الوحدة الروحية وإحياء العقيدة النصرانية في الأمة والتقاليد المجيدة في الملة (2) وغير هتلر من الساسة الأوربيين أقواهم كثيرة صريحة الدلالة على تشبع الثقافة الغربية بالروح النصرانية التي تشربوها مع لبان أمهاتهم منذ نعومة أظافرهم .
الهوامش
Machael Yang the Rise of the Merito Cracy Aplican. Book. P. 19 - 39. (1)
(2) شكيب أرسلان حاضر العالم الإسلامي ، ج 3، ص : 363، دار الفكر، ط 4 ، 1973 م .
الصفحة51
إن البيئة الأوروبية على ما انتابها من الإنحلال والميوعة والتسامح ما تزال تنضح بالروح النصرانية على اختلاف مذاهبها . ونتيجة لاجتياح المذاهب الفلسفية المادية لساحتها الفكرية، لقد صارت تشكو فقرها الروحي وحاجتها إلى دين يروي شعثها الروحي ويلقي الروح في كيانها المادي ... وهذه كلها أدلة تقضي بخطأ دعاة اللائكية وفصل الدين عن الدولة في نظمها التربوية وغيرها، وخطر هذه الدعوة وفداحة نتائجها التي ترتبت على العمل بها في المجتمعات الإسلامية، إنه إذا كان من مقتضيات الشريعة الإسلامية السمحاء، والعقل السليم أن تكون الحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها التقطها فإنه ليس من الشرع ولا من العقل أن نتبع الغرب والشرق فيما وقعوا فيه من أخطاء، فصوابهم في علوم الطبيعة والرياضيات لا يلزمنا اتباعهم فيما زلت فيه قدمهم في باب العقائد والمفاهيم والقيم . ونحن إن كنا ننشد الحكمة والعلم والتجارب الصحيحة، فيجب أن نتوخى الصواب في كل الأمور والحق والهدى، فأهل الخطأ والزيغ والضلال أحوج إلى اتباع أهل الصواب والحق وليس العكس .
إن المنظومات التربوية الإسلامية ما تأخرت عن ركب الحياة وعجزت عن تحقيق ما تتم به سعادة الدارين إلا لما صارت تفتقر الأمة إلى حكمة العلماء فالإشراف على الإصلاح من هم أبعد الناس عنه ؛ عرض الأمة لهدم مبيت وإفساد تحت شعار الإصلاح .
أما قولهم : إن النظم التربوية الإسلامية أصولية همها الأوحد الدين وأخلاقه ومن ثمة فهي لا تليق بمجتمع اليوم في عصر غزو الفضاء وازدهار التكنولوجيا، فهي من حيث هي إسلامية تربية أصولية أساسية تهتم أول ما تهتم بالدين وأخلاقه، باعتبارها أمة الرسالة تطمح إلى الدعوة إليها والعمل إلى نشرها في ربوع العالم، هذا العالم الذي صار يعاني من الفقر الروحي والانحلال الأخلاقي والتقوقع الفكري في دائرة المذاهب الفلسفية التي تحجرت، وهو ما يدفعها أيضاً إلى أن تهتم بمطالب عالم الأسباب من العلوم ومبادئها على اختلاف ميادينها ومناهجها، والتكنولوجيا وفنونها فلا تعارض بين متطلبات عالم
الصفحة52
الأسباب ومتطلبات العقيدة والشريعة والقيم والمفاهيم الإسلامية، وبكل ماله علاقة بشخصية الأمة الإسلامية، فهذه غاية والأخرى وسائل لا بد من توفرها التحقيق الغاية. إنه لا تعارض بين الغاية والوسيلة اطلاقاً لدى المفاهيم الإسلامية ولا يدعى ذلك إلا حاهل للإسلام أو جاحد للحق والحقيقة .
هذا ولقد حددت المفاهيم والقيم إلى درجة لم يبق بعدها أي مجال للتناقض والتفريط أو الإفراط ، وهو ما لم تحققه ديانة غير الإسلام ولا فلسفة . ولن تستطيع أمم الغرب والشرق أن يحصوا على ما هم عليه من ازدهار حضاري تكنولوجي إلا بعد نجاح إصلاح نظمهم ، وما نجحت إصلاحاتهم إلا بفضل مستوى وعيهم الذي انعكس في تكامل العلماء ورجال السياسة وتضافر عوامل الكفاءة التي يتمتع بها العلماء ورجل السياسة، وهو ما ساعد على نمو الشعور بالحاجة إلى إصلاح نظمها التربوية وتطويرها لتكون في مستوى القدرة على إعداد ما تحتاج إليه الحضارة من العلماء وكبار الخبراء ورجال الأعمال وعباقرة - العصر ؛ فلم تمنعهم لتحقيق ذلك ظروف الحرب القاسية، والهزيمة النكراء لأنهم أدركوا أن مصيرهم مرتبط بالتفوق التكنولوجي أكثر مما تتوقف على نتائج الحرب التي خرجوا منها غالبين كأمريكا وروسيا ووبريطانيا وفرنسا، أو مغلوبين كالألمان واليابان لا الغلب يبطرهم ولا النصر يلهيهم، فشمروا على ساق الجد وركزوا على مطامح المجد لا يلوون على شيء إلى أن حققوا ما هم عليه الآن من ازدهار ورخاء ولولا هذه الإصلاحات التي تجاوزت المحيط إلى أمريكا الشمالية، حيث عرفت التربية الأمريكية هي الأخرى تحولات كبرى لولاها ما عرف العالم الجديد هذا الازدهار الثقافي والتطور التكنولوجي المذهلين، وما كان لهذه الإصلاحات أن تحقق هذا المستوى من النجاح ولا أدنى منه إلا أنها كانت اختيارية خالية من أي نوع من القسرية، شرعية منهجية لا يخالطها ارتجال، لم تفرض على أمة من أمم أبداً، ولم تغفل حاجة لطائفة أو فئة من الفئات الاجتماعية والطوائف والملل والنحل والطبقات لم تكن الصالح مجموعة على حساب مجموعة أخرى إلى درجة أن الصراع الطبقي الذي لا تخلوا آثاره ولا ينجو من ضغوطه قرار، فإن مفعوله وتدخله في توجيهه الخطة الإصلاحية التربوية التي عمل بها في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين كان
الصفحة53
ضئيلاً، ففي بريطانيا البلاد الرأسمالي الذي يعيش صراعاً طبقياً رهيباً حيث لم يحدث مرة في التاريخ البريطاني العريق أن خرجت السياسة التربوية عن قبضة الطبقة الأرستقراطية، مع ذلك يعترف رجالها بعد الحرب العالمية الثانية بفضل جميع الأنجليز على اختلاف طبقاتهم على ما أحرزته بريطانيا من النصر، ويقولون في مسودة إصلاح التعليم 1944: «إن مصير الأمة البريطانية مرتبط برجالها كل رجالها دون استثناء أو تمييز .
نستنتج من ذلك أن العملية الإصلاحية التربوية معقدة لا يجوز تركها للصدفة والمخاطرة والارتجال، ولكي تنجو من الأخطار ومن الوقوع في الهوى والأغراض الشخصية، إنه لا بد أن تكون العملية الإصلاحية علمية في منهجها ودقتها وموضوعيتها وهذا ما يجعل الأمانة العلمية جد صعبة ومعقدة ؛ وحتى يكون العلماء في مستوى المسؤولية العظمى ، يطلب أن تكون العملية الإصلاحية على الأسس التالية :
أ - الأسس المنهجية .
ب - الأسس الشرعية .
ج الأسس الغائبة
الصفحة54
العملية الإصلاحية عملية منهجية
أن تغلغل النظام التربوي في أعماق حياة الأمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية ووضعه منها موضع العمود الفقري في اجسم، جعل عملية تبادل التأثير والتأثر بينه وبين مختلف مجالات الحضارة في حالة من التفاعل الوظيفي. المستمر. وبهذا صار الإصلاح التربوي في غاية من التعقيد، فأي خطأ ارتكبه المصلحون في أي مرحلة من المراحل النظرية أو الإجرائية تترتب عليه عواقب ومشكلات قد لا يكون من السهل تصحيحها بعد فوات الأوان هذا ومن الحقائق التي أثبتتها التجارب الإصلاحية التي قام بها المصلحون في مختلف النظم التربوية إنه وراء كل خلفية إشكالية تترتب عليه عند تزامنه كمتغير مع الثابت، الأمر الذي سيحدث من التناقضات ما يفوق الحصر، وحتى يمكن للمصلحين التحكم والضبط والتحديد للفروض التي لا بد أن تحصر نتائجها حصراً دقيقاً عن طريق التنبؤ ولا بعد للعملية الإصلاحية من منهج تحدد في ضوئه مشكلاتها ومفاهيمها وأبعادها ومختلف عواملها بالإضافة إلى اخل المنطقي والمراحل الإجرائية التي تمر بها إلى عملية التطبيق ثم اختباره لمعرفة مدى صحة الفروض وما يترتب عليها من النتائج فإذا تأكد لنا أنه لرفع مستوى التحصيل لا بد من رفع مستوى ثقافة المعلم وتحسين خبراته، فإن هذا اخل يستلزم توفير شروط ذلك الأعداد، وإلا تعذر الحل، فالعملية الإصلاحية عملية تنصب على معطيات الحاضر لتصيغها صياغة جديدة مستقبلية قابلة للعمل الإجرائي في الميدان، لأن الحاضر في حكم الماضي والماضي لا يغير أبداً على أن هذا لا يعني اطلاقاً الانتقاص من قيمة التاريخ، لأنه هو الذي يجمع معطياته ويمثل الكيان الموضوعي الذي تم تشكينه النهائي داخل الصيرورة،
الصفحة55
وصار يمثل الصورة الحقيقية لحال من أحوال الأمة في زمن محدد، وهذا يعني أنه لا بد من المعطي التاريخي الذي يكون موضوع الصياغة المستقبلية من حيث هي صميم العملية الإصلاحية، فالإصلاح ليس أبداً انطلاقاً من لا شيء بل هو انطلاق من التاريخ كشيء موضوعي لواقع الأمة وبه يتحقق كمالها في المستقبل باستمرار لأنه عملية اصطفاء وترقي لخبرة الأمة الحضارية باستمرار، فالمناهج التاريخية حسب رأي برايند (۱) هولمس مناهج مفيدة لكنها ناقصة، والدليل على ذلك أنها ركزت على الماضي وتوقعت فيه دون الإهتمام بالمستقبل، مع أن المستقبل هو موضوع التغير وليس الماضي لأن هذا الأخير ثابت لا يقبل التغير. فالإشكالية عند «هولمس تكمن في تزامن المتغير وهو ما يجب أن تكون عليه الأوضاع والأحوال للمنظومة التربوية مع اللامتغير وهي الأحوال الثابتة للمؤسسات التربوية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية. فالتقاء الصورة المثلى التي يريد الإصلاح تحقيقها في زمن واحد مع الثوابت يحدث التناقض والأشكال، وحتى يتحقق التطابق بينهما، أنه لا بد من دراسة عميقة دقيقة لمختلف العوامل لتحديد تأثيرها ومدى تأثرها ضمن العملية الإجرائية الإصلاحية، فالحل إذن يقتضي تحقيق التطابق بين المتغير واللامتغير في المستقبل وإزالة التناقضات التي تتعارض مع الحل أو بمعنى آخر يكون الحل متمثلا في حالة التطابق الخالية من التناقضات، وهذا ما يجعل العملية الإصلاحية قائمة على أساس منهجي تحدد بواسطة العلاقات المختلفة للظواهر .
إذن لا بد من تحدد الخطة الإصلاحية في ضوء المعطيات التاريخية، التي تنصب عليها العمليات الإصلاحية، في إطار منهج يساعد على إعادة صياغة المعطي التاريخي صياغة نظرية تسمح بتحديد المشكلة والتوصل إلى تحليلها وتفسير مختلف أوضاعها، ووضع الفروض المناسبة وتحديد المراحل الإجرائية العملية عن طريق التنبوء. فالتاريخ إذن هو أهم وسيلة لنقل مكتسبات جهد وجهاد الأجداد باستمرار، لولاه ما تحقق التطور الفكري ولا الحضاري باعتبار التطور هو بداية كل جيل من حيث انتهى سلفه وهو الجهد المستمر عبر الزمن .
Brian Holmes Problems in Education. P. 911. (1)
الصفحة56
زد على ذلك أن مطالب الحضارة تنمو باستمرار وتن طال قصير والعوائق كثيرة، ونوائب الدهر لا يخلو منها عصر، ولا يبخل بها دهر، منها ما أمكن للأجداد التغلب عليه ومنها ما لم يمكنهم تجاوزه أو تحقيقه من الآمال .
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فينبغي للخلف استكمال واستدراك ما فات السلف، لأن الإنتاج الحضاري ليس وقفاً على جيل دون جيل، وليس اختكاراً لعصر دون عصر، فلكل جيل جهوده و مجال جهاده واجتهاده بالإضافة إلى ذلك عامل الزمن الذي يجب أن يقرأ له ألف حساب . أنه يزداد في كل عهد خطورة وأهمية فقد كان كالسيف يومئذ، كان السيف أحسم سلاح في الهيجاء، أما اليوم فقد صار الوقت كالصاروخ النووي سرعة وخطراً وفصل خطاب .
إن عامل الزمن في وقت الأقمار الصناعية ومضاعف سرعة الصوت والعقول الإلكتورنية لا تدانيها سرعة الحصان على أن التطور التكنولوجي لا ينسينا فضل السلف الصالح وجهده وجهوده واجتهاده مما يجعلهم لنا دوما قدوة حسنة لا بد من التوقان إلى اتباعهم والسير على نهجهم. إلا أنه إذا كان لا بد من حكمة الأجداد وحسن الاقتداء بهم فإنه من الحكمة أيضاً معرفة الأحفاد ما يمكن أن يضاف من جديد لجهود واجتهاد الأجداد.
ومن أهم وظائف التربية المحافظة على ما تجب المحافظة عليه كالدين وشريعته السمحة وأخلاقه الفاضلة وقيمه النبيلة، إلى جانب ذلك فهي مطالبة أيضاً بأن تجدد الفكر وتطور العلم وأن تجعل الجيل بطل عصره وعبقري زمانه ينشد الصواب والحق والخير والفضيلة متخلصاً من الضلال والزيف، وتكون فيه القدرة على الانتقاء وتنمي عنده ملكة الاصطفاء ليكون دوماً عنصر صلاح وسعادة وفلاح .
وليحقق التغير أغراضه وينشد الإصلاح مراميه التي تحدد في إطاره التاريخي، لا بد من منهج يضع الأمور مواضعها فلا تطغى الوسيلة على الغاية ولا البداية على النهاية، ولا تسبق التحسينات الضروريات والحاجات. لذا
الصفحة57
فالتحليل المنهجي للأغراض والمرامي التربوية وغيرها لا يكون إلا نتيجة للتصور المنهجي لمعطيات التاريخ مصوغة صياغة مستقبلية إصلاحية .
لأن التصور لمعطيات التاريخ يطلب أن يكون تصوراً واضحاً صحيحاً مطابقاً للحقائق تطابقاً لا يشوبه زيف، ولا تشويه؛ مما يجعل عملية الإصلاح جد معقدة ؛ فالكل يعلم ما يدور في الساحة الثقافية وغيرها من انتاج مغرض يقبح المحاسن، ويحسن المساويء مضفياً على التراث غموضاً، وعلى الحقائق التاريخية التباساً، قصد تضليل وتحريف الجيل الجديد وتنفيره من التراث .
وهذا كله من شأنه أن يجعل عملية جمع المعلومات تحتاج إلى منهجية محددة ذات ضوابط علمية وقيم. فإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة لجمع المعلومات الصحيحة عن معطيات التاريخ لأخذ صورة صحيحة يمكن الاعتماد عليها في بناء التصور المنهجي للرؤية المستقبلية، فكيف بالمراحل التي تمتد بالعملية الإصلاحية التي تتطلع إلى آفاق ما يجب أن تكون عليه وفق توقعات لا سبيل لنا إلى ضبطها إلا عن طريق الاحتمالات المبنية على التنبوء؟ إذن لا بد من منهج ضابط للمعطيات محقق للنتائج والمقدمات، مقنناً للعلاقات رابطاً بين العوامل مفسراً للأحداث والمواقف والحالات لتكن عندئذ الرؤية المستقبلية رؤية علمية تبدأ بالمشاهدة فالملاحظة فالتحليل فالمقارنة فالتفسير فالحكم فالبرهنة عليه . .. ثم التحقق من صدق الفرضية والعمل على ضبط الاحتمالات عن طريق الربط التجريبي أو المنطقي بين مختلف العوامل للتوصل إلى الصورة الواضحة الكاملة على النموذج الإصلاحي ثم إلى المراحل الإجرائية التي تمر بها العملية الإصلاحية، كعملية منهجية أبعد ما تكون عن الارتجال والصدفة.
ولكي لا تقع الخطة الإصلاحية في الظلم لا بد من مراعاة العدالة والتقيد بها تقيداً تاماً كشرط من الشروط المنهجية اللازمة .
الصفحة58
مراحل إعداد الخطة الإصلاحية
إن إرادة الأمة هي أول ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إعداد الخطة، لأن إرادة الأمة أساسية أيضًا في مرحلة تبنيها والعمل بها. إذ بدونها لا يتحقق أمر ذوبال من الإصلاح، ويصبح هذا الأخير تعسفاً واضطهاداً. وإذا كانت إرادة الأمة مرتبطة بالاختيار، فإنه لا اختيار بغير حرية، فالأمة الحرة هي التي تقرر مصيرها بنفسها، وذلك عندما تكون متحكمة في أمورها وتمارس مسؤولياتها وتقرر ما بدا لها أنه الأصلح والأفضل في ضوء قيمها دينها وأخلاقها وفكرها الأصيل .
لأن الإصلاح يبدأ قبل كل شيء من وعي الأمة لذاتها عندما تدرك بوضوح من هي وكيف هي؟ وماذا يجب أن تكون عليه ؟ ومن ثمة فإن أسوأ الأخطاء وأعظم الجرائم التي يمكن أن ترتكب في حق الأمم هي أن تفرض البدائل الإصلاحية على الأمة فرضاً، وتقسر على العمل بها قسراً ، كالذي حدث للبلاد المستعمرة، وفي تركيا أيام مصطفى كمال وغيرها من الأقطار الإسلامية،
والتي ما تزال الأمة تعاني من آثارها إلى اليوم. لأن العملية الإصلاحية هي عملية شرعية وأخلاقية؛ فهي عملية شرعية لأنها تستلزم الاختيار وإرادة الأفضل والاقتناع بأنه كذلك باتفاق. وهي أخلاقية لأنها تقوم على شعور الأمة بمسؤولياتها نحو ما تختاره أمام أجيالها المتعاقبة وبالنسبة أيضاً إلى عقيدتها ورسالتها ودعوتها كل ذلك عن طواعية واقتناع وتتبناه عن رضا وحرية، لأن الإرادة مرتبطة بالحرية فلا إرادة لمن لا حرية له، وإلا فما الفرق بين الخطة الإصلاحية الشرعية، والخطة الاستعمارية القسرية لأن القهر عدو للإرادة وسالب للحرية وخصم للأخلاق والشرعية، ومخرب للحضارة. فمنذ أن فقدت الشعوب الإسلامية حقها في اختيار نموذج الحياة في ضوء عقيدتها وأخلاقها
الصفحة59
وشريعتها وخبرتها التاريخية ومستقبلها توقفت على الانتاج الحضاري لأن هذا الأخير يحتاج إلى جهود مبدعة ولا إبداع بدون إرادة واعية ولا إرادة واعية بدون اقتناع ولا اقتناع بدون حق وعدالة وحرية .
فاقتناع الأمة الإسلامية بسلامة دينها الحنيف وشريعته السمحة وأخلاقه الفاضلة وعلمها بقدرته على ضمان سعادة الدارين الدنيا والآخرة في كل زمان ومكان جعلها بالضرورة ترفض ما عداه من البدائل والنماذج الإصلاحية الأخرى وإن فرضت عليها فرضاً وأجبرت عليها قسراً .
لذلك ساءت عواقب التغيير القسري، وخابت خططه إلا في ما أفسدته من أوضاع اجتماعية وثقافية وتربوية، وما أحدثته من تناقضات وما بثته من اتجاهات وانحرافات وتشويه للمنظومات التربوية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي . دليلنا على ذلك أن الفرض لبدائل الحداثة لم يحقق النهضة المرجوة بل عمل على تزييفها وتحريف اتجاهها والسبب في ذلك أن النهضة لا تحققها العزائم المحطمة والذكاء المجمد والعبقرية المغمورة والضمائر المخدرة. فالذي يعود إلى التاريخ يجد أن النهضة وليدة العزائم المحفزة والذكاء المتقد والعبقرية الملهمة والضمائر اليقظة والفكر الحر . . . لقد كان لانعدام مراعاة إرادة الأمة في الخطة الإصلاحية التربوية أن زادت المشكلات تعقيداً والأزمات تفاقماً وحدة، ولا يمكن لأي خطة إصلاحية أن تنجح ما لم تراع الشروط المنهجية كالعدالة ببعديها الشرعي والأخلاقي مروراً بالمراحل المنهجية الإجرائية اللازمة حسب ما جاء عند علماء التربية المقارنة ، ويرى «هولمس» وغيره من علماء هذا العلم أن الخطة الإصلاحية الناجحة تمر في الغالب على المراحل التالية :
أ - مرحلة الإعداد.
ب - مرحلة التبني .
ج مرحلة التطبيق .
وتشمل عندهم كل مرحلة مجموعة من الإجراءات المنهجية بحيث كل مرحلة تكتسب فيها الخطة الإصلاحية الخصائص المنهجية اللازمة. وأي تقصير
الصفحة60
أو نقص أو خطأ يقع في المرحلة من هذه المراحل تنجم عنه عراقيل من شأنها أنها تعوق السير الطبيعي للعملية الإصلاحية، ولأهمية هذا التقسيم الإجرائي للعملية الإصلاحية سنعمل على مراعاته مع إضافة مرحلة ما قبل الإعداد وذلك نظراً لما يحدث من أخطاء ليس لها فقط انعكاسات على مرحلة الإعداد بل تؤثر في كل المراحل اللاحقة أيضاً وقد لا نكون مبالغين عندما نعتبرها مرحلة مصيرية للخطة الإصلاحية برمتها وفي كل مراحلها .
أ ـ مرحلة ما قبل الإعداد :
ونظراً لأهمية اختيار الأشخاص الفنيين الذين يعدون الخطة الإصلاحية إعداداً فنياً أولياً، ونظراً لتأثير هؤلاء في اتجاه الخطة ومفاهيمها وغاياتها ومراميها ... مهما كانت طريق الإعداد تبدو فنية صرفة فإن مرحلة ما قبل الإعداد مرحلة أساسية لا بد من مراعاة أمور كثيرة من ذلك إدخال هذه المرحلة في نطاق الشرعية، فعند تعيين هيئة الإعداد فما هي المعايير أو الطرق التي يتم على أساسها تعيين هذه الهيئة ؟ لا شك أن ثمة معايير فنية تشترك فيها أغلب الهيئات التي يجب أن تكون في مستوى من المؤهل العلمي المتخصص . لكن التخصص سوف لا يكون ذا مجال واحد فهناك الجانب الإداري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ... زيادة على ذلك مراعاة الشروط البيداغوجية المعقدة، ومن جهة أخرى فإنه لا بد من أن تكون هيئة الإعداد ممثلة لكل فئات المجتمع لتكون هي الأخرى شرعية، أو بمعنى آخر فإن الهيئة المكلفة بإعداد مشروع الخطة هي في ذاتها يجب أن تكون ممثلة للأمة بأسرها تمثيلاً عادلاً وصادقا . وأما إذا كانت المعايير التي تعين على أساسها هيئة الإعداد مجرد معايير فنية تقنية صرفة، فإن الأمة نكون حينئذ تحت سلطة التكنوقراطيين والبيروقراطيين، فتعطي هؤلاء كل الصلاحيات الفنية والإدارية والسياسية وغيرها . ففي هذه الحالة يأتي المشروع حسب اتجاه هؤلاء البيروقراطيين والفنيين بقطع النظر عن رأي الأمة وإراداتها. وفي حالة ما إذا تعددت الطوائف والديانات والملل والنحل والإيديولوجيات، وكان التكنوقراطي من طائفة أو نحلة أو اتجاه جاءت الخطة لصالح تلك التي ينتمي إليها التكنوقراطي وفي هذه
الصفحة61
الحالة تصبح الخطة أبعد ما تكون عن الشرعية والعدل؛ ففي البلاد التي يقل فيها الوعي التربوي والسياسي تسند أمور إعداد الخطة الإصلاحية إلى أشخاص لا تتوفر فيهم الشروط المذكورة كالشرعية والعدالة والأمانة العلمية، عندئذ يتصرفون كما لو كان الأمر أمرهم هم وحدهم ، وفي هذا الحال تسير الخطة من أول وهلة على غير الشرع، أبعد ما تكون عن العدالة والفضيلة، فتنعدم الموضوعية وتختل أدق القواعد الفنية، فتطغى الأهواء على العقول وتجمح العاطفة بأصحابها، فيقعون في الشطط والتطرف وسواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا .
ففي مثل هذه الأمور العظيمة والمهام الخطيرة التي يتوقف عليها مصير أمة بأكملها وترتبط به مصلحة الأجيال المتعاقبة، فلا بد من الموضوعية الكاملة والأمانة التامة والعدالة. إن الأمة التي وقعت تحت سيطرة البيروقراطيين التكنوقراطيين؛ أمة محرومة من حرية القرار والعدالة الاجتماعية، فتصير شرذمة من الناس تتحكم في مصيرها وتعبث بأمال أبنائها ومستقبلها، ومن ثمة فإنه يمكن القول بأن مرحلة ما قبل الإعداد لا تقل أهمية عن التي تليها إذا لم تكن أحسم منها، وحتى تختار العناصر التي تشكل منها لجنة الإعداد على أساس العدالة يجب أن تتوفر الموضوعية والكفاءة والتمثيل مبعدين الأهواء والعواطف والأغراض. ولشدة تعقد الأمور لا بد أن تعين لجنة الإعداد على ضوء الشروط التالية :
أ ـ أن تكون لجنة الإعداد ممثلة أصدق تمثيلاً، فلا تكون لائكية، والمجتمع متدين ولا تشكل من تشكيلة دينية واحدة، والمجتمع متعدد الديانات، ولا يجوز العكس .
ب - لا تتألف اللجنة من خبراء أجانب يجهلون الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والحضارية، أو يتجاهلونها لأمر ما .
ج ـ أن يكون اختيار الفنيين من مختلف التخصصات التربوية والثقافية والإدارية والسياسة لمختلف المؤسسات على أن تكون تحت إشراف محكم يضمن تكاملها وتعاونها في إطار منهجي موحد .
الصفحة62
د- أن تكون التخصصات في تنوعها ونوعيتها في المستوى المطلوب إلى جانب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية.
هـ ـ أن توفر اللجنة الفنية كافة الشروط المنهجية والظروف المناسبة اللازمة لإعداد مثل هذه الخطة على أكمل الوجوه وأتمها .
مع العلم أن كل هذه الاحتياطات قد لا تكفي إلا إذا تدخلت الحكمة التي ترتفع إلى مستوى المسؤوليات التاريخية وتتجاوز الاعتبارات الشخصية من الهوى والزيغ والشطط والضلال والتحيز والميل معنى هذا أنه لا بد من لجنة الحكماء للإشراف على عملية الإعداد عن كتب ووضع الأهداف الكبرى للسياسة التعليمية حتى تكون المنظومة التربوية في مستوى آمال أجيال الأمة المتعاقبة، وحسب متطلبات زمانهم الذي خلقوا له، وقد يختلف كثيراً عن زماننا، وهذه من أعوص مشكلات السياسة التربوية في مرحلة الإعداد.
ب ـ مرحلة الإعداد :
من أهم مميزات هذه المرحلة معرفة أهم الأغراض الإصلاحية التي تتخذها العملية الإصلاحية هدفاً لها، ولذلك تعد الغائية من أهم الشروط المنهجية للعملية الإصلاحية التربوية، فهي التي تضفي على الإصلاح التربوي صفة الوعي والعمق والجدة والأصالة والفعالية حيث تبرز العملية الإصلاحية في إطار منهجي متكامل، فلا تتعارض الوحدة والتنوع ولا الجدة والأصالة ولا الكمية والكيفية .. إذ من المتطلبات المنهجية عند إعداد الخطة الإصلاحية، معرفة ما انتهى إليه النظام التربوي من أوضاع المختلف المؤسسات والمستويات من كل الجوانب الإيجابية والسلبية ومعرفة الأسباب والعلل عن طريق التقويم الموضوعي الدقيق والتتبع الإجرائي للحياة التربوية .
إن التقويم التربوي لمستوى التحصيل في مختلف المستويات والمؤسسات يساعد دوماً على معرفة مستوى التطور التربوي للمنظومة التربوية، وكذلك الشأن بالنسبة إلى اختيار الوسائل الفنية التي تتم بواسطتها العملية التربوية، فإنه دوماً مطلوباً للتأكيد من نجاعتها وسلامتها والعمل على تطويرها، ويدخل
الصفحة63
في هذا الإطار المعلم وظروفه النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى وظيفته ورتبته و درايته ومدى مردودها على مستوى معيشته ومكانته في المجتمع. لعله ليس من نافلة القول ضرورة التركيز على الظروف التي تجري فيها العملية التربوية وطرق التعليم ومدة التمرين وطرق التصحيح والترسيخ للخبرات التربوية. وكذلك مدى العناية بشخصية المتعلم ككل والفروق الفردية، ومدى قدرة المحتوى التربوي على تشجيع القدرات المختلفة والهام والمواهب المتنوعة وتوجيه الميول المختلفة، واتقان الخبرات ....
إن اختيار مدى القناعة الشخصية الإيمانية والخلقية والقيم الجمالية والفنية، تساعد على التتبع الإجرائي لنمو الشخصية بالطرق السوية للتأكد من سلامة ونجاعة العناية والرعاية في تهيئة الشروط البيئية اللازمة للنمو السوي لشخصية المتعلم، على أن هذا كله لا يكفي بل لا بد من مقارنة مستوى التحصيل بمستوى الجهد المبذول لتحقيق النوعية التربوية المطلوبة. فإذا كنا قد عرفنا مقدار الجهد المبذول في مختلف المستويات الدنيا والعليا فإن هذه النتيجة لا تكون ذات دلالة إلا إذا ربطنا بين الحدين الأدنى والأقصى من الجهد وبين مردود كل منهما فلتقدير قيمة النتائج بقيمة الجهود لا بد من هذه المقارنة، فإن كان المردود أكثر من الجهد علمنا أن الطريقة التي تم بها العمل التربوي ناجحة، وإن كان العكس أدركنا خطأ التوجيه لأن الحكمة التربوية تقتضي توظيف الجهود أثناء العملية التربوية توظيفاً جيداً. ولئن قامت العملية التربوية على الجهد ولن تقوم إلا عليه فإن توجيه الجهد التربوي يعد من أهم الوسائل التربوية التي على ضوئها تتحدد النوعية التربوية ومن ثم فإن العملية التربوية عملية منهجية بالدرجة الأولى وهادفة .
وحتى في هذا الحال من بذل الجهد الأقصى والوصول إلى أعلى النتائج بالنوعية التربوية المحلية لا يكفي ما لم يقارن المستوى المحلي بمستويات أخرى بنفس المستوى التعليمي لأرقى النظم التربوية في العالم، وهو ما يساعد إلى حد بعيد على تطوير العملية التربوية والوصول بها إلى المستوى الأعلى من النوعية التربوية العالمية المتفوقة. فإذا كانت معرفة الفروق الفردية تفيد المعلم عند وضع
الصفحة64
الخطة العملية التربوية وإعدادها قبل التطبيق لتكييف المادة التربوية حسب متطلبات المواهب والقدرات والاستعدادات المختلفة فإنه أيضاً بات من الضروري إدراك مستوى الخبرة النوعية عند أنجح النظم التربوية في العالم وأسباب ذلك التفوق أو عكسه. وهذه المعايير الفنية لكل جوانب العملية التربوية تساعد إلى حد ما على إدراك ما يمكن تعديله وتطويره، وتحقيق تلك المستويات من الخبرات الجدية دون أي مساس بما له علاقة بالشخصية التي لا بد للنظام أي نظام تربوي أن يحافظ عليها لأنها تمثل جوهر أصالته .
أما التقنيات التربوية البيداغوجية فهي ليست وقفاً على أحد بل تعد القاسم المشترك بين مختلف النظم التربوية المتطورة، بحيث يمكن قياسها واختبارها وتعديلها وتطويرها بدون حد ولا انقطاع . إنها نتيجة العبقرية التربوية على مستوى العالم كجهد مشترك بين الناس، وهذه المعايير الفنية التربوية هي التي بواسطتها نستطيع أن نعرف ما يمكن استعارته مما لا يجوز أخذه، ومما لا يكون مشاعاً بين الحضارات والنظم التربوية كالدين ومختلف القيم مما هو خاص بالأمة. فالمواد العلمية مثلاً والتقنية والخبرات التكنولوجية موجودة في كل المحتويات التربوية على الإطلاق باستثناء المؤسسات الدينية ومعاهد العلوم الإنسانية المختصة فهي لا تحتاج في تخصصاتها إلى هذه المواد العلمية، باستثناء معهد علوم التربية الذي لا بد له من كل هذه العلوم والمعارف لأنها تكون. المحتوى التربوي في جملته .
ما طرق مقارنتها فكثيرة تختلف باختلاف المناهج وطرق البحث في علم التربية المقارنة والتي لا يسمح المقام بذكرها، وعلى الجملة فإن وضع رسم بياني لمستوى التحصيل أو النوعية التربوية ليس بالعسير، حيث يمكن أن تعطي صورة واضحة على الأوضاع التربوية المراد معرفتها كالرسم التالي :
الصفحة65
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 66 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
تقارن على هذا الأساس كل المواد العلمية في كل المستويات المعرفة الفروق النوعية لمستوى التحصيل من مختلف النتائج في منظومات تربوية مختلفة .
ثم تأتي مرحلة المقارنة بين مختلف الرسوم البيانية حسب التدرج للقيم المحددة لكل من النوعية التربوية ومردودها في كل من المؤسسات التربوية والتقنية والحياة العملية في المعامل وغيرها كمردود للفرد والأمة ؛ فمقارنة « أ » في الجزائر بـ «أ » في بلد كألمانيا الغربية واليابان أو غيرهما في مستوى التحصيل لنفس الدرجة والمستوى والمادة تكشف على مجموعة من العوامل التي تتحكم في الظواهر التربوية، سواء أكانت تتعلق بالمحتوى أم الطرق ومختلف الوسائل البيداغوجية .
فإذا وجدنا مثلاً لـ « أ » في ألمانيا يساوي مستوى التحصيل لـ «ب» أو (جـ) في الجزائر أو اليابان، فإن هذا الفرق ذا دلالة تربوية في غاية الأهمية، لأن الفرق الكبير بين المستوى الواحد في مختلف البلدان أو النظم التربوية يعد مؤشراً خطيراً يساعد إلى حد كبير على معرفة العلاقات بين مختلف العوامل التي لها تأثيرها المباشر أو غير المباشر في الظواهر المراد دراستها؛ وهذه النتيجة إذا ساعدت على معرفة الفروق بين مختلف المنظومات التربوية فهي ساعدت أيضاً
الصفحة66
على اكتشاف أسبابها وطرق معالجتها. وهذا ما يجعل الخطة الإصلاحية الجادة تتميز بالتحديد والدقة أبعد ما تكون عن الارتجال.
إن معرفة العوامل التي تتحكم في مستوى التحصيل في مؤسسة تربوية معينة ومنظومة ما في شروط ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية نتيجة لها شأنها في علوم التربية وغيرها من العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلوم السياسة والاقتصاد. وهكذا ترقى العلوم بدقة البحث والتحكم في الظواهر عن طريق التحكم في عواملها والقوانين التي لها الظواهر فضلاً عن تفسيرها . لكن الدراسة المقارنة لا تنتهي عند حد الكشف عن الفروق التي توجد بين المنظومات التربوية بل تطمح إلى ما هو أهم من ذلك أي تطمح إلى اختيار الحلول اختياراً واعياً مبنياً على بصيرة من الأمر وعلم بدقائق المسائل ومختلف أسرارها وتوقع نتائجها ... إلى غير ذلك مما يعطي الإصلاح صبغة غائية منهجية واضحة . فلا يكون الحل أسوأ من حال المشكل، لأن وراء كل حل خلفية إشكالية لا بد من معرفتها وإلا يصبح الإصلاح عبثاً لا غاية له. فإذا علمنا مثلاً أن مستوى التحصيل «جـ) في الجزائر في مادة الرياضيات = مستوى التحصيل «ب» في ألمانيا أو سويسرا، ورحنا نرفع مستوى المحتوى التربوي في مادة الرياضيات أو بحسب مستوى ( أ ) و «ب» في ألمانيا وسويسرا . . . دون أن نفكر في العوامل الأخرى ذات العلاقة المباشرة وتغيرها؛ كالمعلم ومستواه الثقافي والتربوي والبيداغوجي، فإن مجرد تغيير المحتوى التربوي لا يفيد شيئاً، بل قد يزيد المشكلة تعقيداً، فالمعلم الذي لم يكن له نصيب من الرياضيات غير نصيب الثقافة العامة لا يستطيع أن يتقن تدريسها، كالمعلم الألماني المتخصص بالإضافة إلى المدة الطويلة التي يقضيها في الإعداد والتربص التربوي في دور المعلمين المتطورة .
مع العلم أن الدراسات المقارنة بينت أن بعض النظم التربوية قد وصلت في تطور مؤسساتها إلى وضع برامج تخصصية للمتعلمين المتفوقين من الصفوف الابتدائية. ولكي يشجعوا القدرات التي قد يقضي عليها في المعهد إذا لم تجد العناية منذ المراحل المبكرة الأولى من التعليم يخصصون لهؤلاء الموهوبين عناية
الصفحة67
فائقة؛ فما أكثر الموهوبين الذين ضاعوا بسبب سوء حظهم في المرحلة الابتدائية التي لم يصادفوا فيها معلماً في المستوى المطلوب .
وهكذا الشأن في كل المستويات ومختلف مجالات المعرفة والتكنولوجية فضحايا التخلف البيداغوجي الذين يترسبون في مختلف مستويات التعليم خسارة لا تقدر بثمن. وإن ما نضيعه من مواهب ثرية ما أحوجنا إليها لبناء حضارتنا لا يعرف لها حد.
فالدراسة التي عالجت موضوع التسرب التربوي في كثير من النظم التربوية تبين بوضوح مقدار جناية النظم التربوية الفاشلة على نسبة عالية من الأجيال .
ومن جهة أخرى فإن النظم التي وسعت آفاق التربية وآثرت محتوياتها بالتنوع وطورت طرقها ووسائلها وأعطت المعلمين ما يستحقونه من جدية التكوين وفائق الاحترام الأدبي والمادي، وحسنت الظروف الاجتماعية المدرسية وفتحت الأبواب أمام المبادرات التربوية والمواهب المختلفة، لم تقض فقط على ظاهرة التسرب بل استطاعت أن تحصل على نتائج تربوية غير متوقعة .
إن من أهم النتائج التي توصل إليها علم النفس الحديث إن القدرات العقلية التي يتمتع بها الإنسان السوي لا حد لها ؛ على إنها تحتاج إلى البيئة التربوية التي تكون في مستوى ثقافي يبرر المواهب ويلهم العبقرية ويشجع على أن تساهم في تطور الفكر والعلم والتكنولوجيا، وذلك ما يجعلها تساهم بصفة أكثر فعالية ونجاعة في الرقي الحضاري الشامل .
فالدراسة الدقيقة للوضع التربوي للمنظومة سواء من الناحية النظرية أم العملية تصبح شرطاً من شروط الوعي والغائية الإصلاحية التربوية الضمان التطور السليم باستمرار، فبدونها لا يستطيع المصلح أن يعرف ما يجب تغييره وما يجب الإبقاء عليه، وعلى الجملة فإن التقنيات البيداغوجية ووسائلها والعلوم والتكنولوجيا انتاج للعبقرية البشرية المشتركة بين سائر الأمم دون تمييز أو فروق، ومن يدعي غير ذلك لا يستطيع أن يكذب التاريخ إذ لم توجد حضارة
الصفحة68
في التاريخ بدأت من الصفر. بل كل واحدة انطلقت من حيث انتهت سابقتها .فإن كان للأواخر حظ المواصلة في تقرير الأصول وتطوير الفنون وتوسيع آفاق المعرفة على اختلاف ميادينها، فإن للأوائل على الأواخر فضل السبق وشرف البدء : فتاريخ الفكر لا شك يذكر لكل أمة فضلها، ويسجل لكل جيل جهوده، وما تميزت به عبقرية الإنسان في كل عصر ومصر .
على أن بعض المؤرخين بدافع العنصرية ينكرون جهود بعض الأمم المساهمة في البناء الحضاري الإنساني : فلا يعترفون بما أنتجته أمة من الأمم، كنكران بعض مؤرخي الفلسفة والعلوم والتربية لما بذلته الأمة الإسلامية وما نبغ فيها من علماء وعباقرة نابهين ومجتهدين في كل ميادين المعرفة : لولاها ما عرفت الحضارة الحالية هذا التطور، مع العلم أن إنكارهم هذا لا يستطيع أن يغير من الحقيقة التاريخية شيئاً، فهذا انتاجهم وهذه آثارهم في من جاء بعدهم من مفكرين وعلماء ستبقى حجة على المنكرين ودليلاً على المزيفين لتاريخ الفكر والعلوم والفنون، ولئن خدعوا أنفسهم فلن يخدعوا التاريخ . يقول شوقي :إخدع الأحياء ما شئت فلن تجد التاريخ في المنخدعين فبدافع التعصب يدعي البعض أن شعوباً أذكى من شعوب وإن العبقرية الفذة فهي للإنسان الأوروبي دون غيره، فهذا ادعاء لا دليل له فما أتى به علم النفس وما جاء في تاريخ الحضارات لا يترك لهذا القول أي سند يذكر أو دليل مقنع. إن تفاوت الناس بحكم الفروق الفردية من أنواع الذكاء ودرجاته حسب الشروط البيولوجية والبيئية لا علاقة له باللون أو العنصر أو الجنس. فإن ما وهبه الله للإنسان في كل جنس وكل جيل من استعدادت وقدرات ومواهب تفوق الحصر وتتجاوز حدود إمكانيات التربية، ومهما حاولت هذه الأخيرة أن ترقى إلى مستوى تنوع هذه القدرات والمواهب لا تستطيع . ولهذا فإذا كان هناك قصور في مستوى تحصيل للمتعلمين فإن ذلك ليس أبداً نقصاً في الفطرة وإنما هي نقص في العناية والرعاية والتربية والتكوين؛ فالتربية مدعوة إلى أن تسمو إلى العدالة، وأن تنشد الخير للجميع دون ميز أو فرق أو تعصب، فتتخذ الحكمة ضالتها والهدي دليلها والحق والحقيقة غاية لها .
الصفحة69
ونظراً لتزايد تعقد الحضارة ونمو مطالبها وخاصة حاجتها إلى أرقى المواهب والخبرات، فإن الإنسانية أحوج ما تكون إلى أجود تربية للموهوبين والعبقريات التي لا تخلو منها فطرة بشرية سليمة في كل أمة، بقطع النظر عن اللون أو العنصر أو الجنس أو الطبقة، بالإضافة إلى لزوم العناية بالعاديين حتى لا تكون العناية بفئة على حساب الأخرى حسب مقتضيات العدالة كما أسلفنا، دون أن ننسى المتخلفين أولى صعوبات التحصيل والمعوقين .
ولعل ظهور مؤسسات تربوية عالمية كاليونيسكو والإسسكو، دليل قاطع على النضج التربوي والوعي الإنساني اللذين بفضلهما يمكن القضاء على النزعة العنصرية العرقية، وظاهرة الحرمان التربوي المجحف الذي لا يزال يسيطر على عالم العنصرية والاستعمار.
إن الحرية حق لكل إنسان، وواجب على كل أمة من الأمم، بل هي حق إنساني يتجاوز كل الاعتبارات العرفية والعنصرية . ...
فتبادل الخبرات التقنية والعلمية والوسائل التكنولوجية، لمن علامات النضح الثقافي والحضاري والوعي التربوي الإنساني، ولكن في حدود ما يمكن أن يكون فيه التبادل بين الأمم والخبرات دون أن يكون متبوعاً بعقدة النقص، والميل إلى التقليد والاتكالية أو عقدة الاستعلاء، لأن الإعجاب بالآخرين قد تنشأ عنه عقدة الشعور بالنقص، كما أن الإعجاب بالنفس يتولد عنه الغرور، وكلاهما آفة للعلم .
وفي الجملة أن تداخل شؤون الثقافة والحضارة يجعل المصلح الاجتماعي والتربوي مضطراً إلى مراعاة كل العلاقات والأبعاد التي لها ارتباط بالعملية الإصلاحية، وهو يعد الخطة الإصلاحية. ومن ثمة فلا بد من تحديد أهم العوامل وضبطها في مرحلة الإعداد، مما يجعل تبنيها من طرف الأمة أيسر وأقرب .
جـ ــ مرحلة التبني :
فإذا كانت المراحل الإجرائية للعملية الإصلاحية عادلة، يطلب أن تعقب ۷۰
الصفحة70
مرحلة الإعداد للمشروع مرحلة أخرى تفرضها طبيعة العدالة الاجتماعية بمعناها الشامل، ويعتبر الأستاذ هو لمس هذه المرحلة من المراحل الهامة التي لا يتوقف عليها مصير الخطة الإصلاحية فحسب، بل يتوقف عليها أيضاً مصير التربية برمتها .
إن عرض المشروع الإصلاحي على الأمة على اختلاف فئاتها حق من حقوقها، وفرصة ثمينة لجلب انتباهها إلى مختلف القضايا التربوية التي يرتبط بها مصيرها، وعليها تبني آمالها، وتحقق ازدهارها ورقيها، فمن حق كل مواطن أن يناقش بكل حرية كل بنود المشروع، وأن يقترح ما يبدو له أنه الأصلح والأصوب والأفيد. بالإضافة إلى جعل الأوضاع التربوية موضع إعادة النظر وإخضاعها للملاحظة والنقد والدراسة والتقويم وعرض الحلول وإفساح المجال إلى انتقائها واصطفائها على بصيرة من الأمر، وقياسها واختيارها على ضوء المعطيات التاريخية، فلا تكن غريبة عنه وبعيدة عنه، ثم يهيء المناخ الاجتماعي والثقافي والظروف الاقتصادية والسياسية المناسبة : زد على ذلك أن عرض الخطة الإصلاحية على الأمة، يساعد على تحفيزها وإعدادها للعمل بها عن طريق مشاركتها في المناقشة في مرحلة التبني ؛ فتبدي رأيها من جهة وتقتنع بمبررات الإصلاح التربوي فتتبناها عن رغب لا يشوبه رهب.
ومن ثمة فإن عرض المشروع على الأمة ضرورة تشريعية منهجية إجرائية تستلزمها طبيعة العدالة الاجتماعية، كما تستلزمها خاجة الخطة الإصلاحية إلى مساهمة الأمة في تحقيقها، وهذا الغرض يطلب توفير الشروط التالية :
أ ـ حق الأمة في اختيار البديل التربوي لتشعر بمسؤوليتها نحو الخطة الإصلاحية المعروضة، ويمارس حقوقها في تقرير مصيرها بنفسها كنتيجة من نتائج حريتها وبعد من أبعادها .
ب ـ إعداد الأمة للمساهمة في مرحلة التطبيق، ورفع وعيها التربوي كأهم عامل من عوامل الإصلاح التربوي .
ج ـ اعتبار العدالة الاجتماعية حقاً من حقوق الأمة، ومبدأ من المبادىء
الصفحة71
الأساسية للخطة الإصلاحية تذوب أمامه كل الفروق، ويعمل على تحقيق التكامل الاجتماعي. يقول رسول الله ﷺ : الناس سواسية كأسنان المشط».
د ـ إلقاء الأضواء على السلبيات والإيجابيات التي تشكل الحياة التربوية بما في ذلك المؤسسات والمنظومة التربوية برمتها .
هـ ـ نقد المفاهيم التربوية والمناهج والطرق والسياسة التربوية بأجمعها والإحاطة بكل ما له علاقة بالتربية والثقافة، مع العناية التامة بمختلف المسائل التربوية والوعي اللازم، واتباع الخطة الإصلاحية للواقع ولجميع المعطيات الموضوعية التاريخية واختيارها قصد تكييفها بقدر ما يحقق للخطة من النجاح في مرحلة التطبيق .
فإذا تحققت هذه الشروط في مختلف المراحل وبعرض الموضوع على الأمة بحرية وجدية فإن مرحلة التطبيق سوف لا تكون صعبة. ومما يساعد على سير الأمور سيرها الطبيعي كلما أخذت مرحلة الإعداد والتبني ما تستحقه كل مرحلة من العناية والجدية والشرعية والمنهجية، على أن طرق التبني كثيراً ما تختلف باختلاف النظم السياسية، ولذلك فإنه لا داعي لتحديدها .
الصفحة72
السياسة التربوية في العالم الإسلامي وبعض النظم الغربية
لقد ذهب ذلك العهد الذي كانت فيه التربية لاتهم إلا الأسرة والقرية أو المسجد ... لأن الحضارة الحديثة أثقلت كاهل الأسرة بمشكلات استغرقت كل اهتماماتها واستنفذت جل طاقاتها وملأت كل أوقاتها كمشكلة الكسب والسكن وسائرك متطلبات الحياة التي ما فتئت تزداد تعقيداً على مر الزمن؛ من هذه الأمور وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره كالهجرة والطلاق والبطالة وانتشار الأمية، وما نشأ عنها من فقر وجهل ومرض بالإضافة إلى غياب التكافل الاجتماعي ؛ وهو ما جعل الأسرة تعجز عن القيام بمهمة التربية التي كانت من أهم مهامها .
على أن اهتمام الدولة صار يتزايد مع زيادة شعورها بالحاجة إلى فنيين ورجال السياسة والإدارة والريادة والقيادة . لتحريك الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وتطوير الحضارة وتكوين رجال الجيش «حماة الحمى. فهذه الحاجات جعلت الدولة مضطرة إلى أن تتخذ ليساستها منهجاً يتفق مع مبادئها الأساسية كالعدالة الاجتماعية وما تقتضيه من ضمان تكافؤ الفرص وتكوين النخبة، وما تحتاج إليه من عناية خاصة في كل مراحل التعليم وتسيير التربية وتمويلها وإصلاح نظمها وتحديد أهدافها وتكييف محتواها ومادتها وطرقها وسائر وسائلها وإعداد المعلمين لمختلف مراحل التعليم والخبراء والمسيرين الإداريين ... وإنشاء المؤسسات التربوية لطفولة ما قبل المرحلة الابتدائية والمدارس والتكميليات والمعاهد الثانوية والجامعات والمعاهد العليا لما بعد الجامعة. وللبحوث في مختلف مجالات المعرفة والتكنولوجيا .
الصفحة73
لعل هذا ما جعل السياسة التربوية من أحدث ميادين التربية وأهمها. أما المهتمون بها فكثيرون يتسع نطاقهم مع اتساع العلوم الإنسانية وتداخلها، على أن التربية المقارنة صارت هي أهم العلوم التي تهتم بسياسة التربية، ثم يأتي بعدها علم الاجتماع السياسي وعلوم السياسة والاقتصاد . . . ..
والسياسة التربوية كالخطة الإنمائية والإصلاحية والاجتماعية تنصب على الحاضر مضيفة إليه الأبعاد المستقبلية التي تمثل الغد الأفضل الذي تطمح الأمة لتحقيقه، ومن ثمة فهي نظرة مستقبلية استبصارية واضحة المعالم تقوم على البصيرة النافذة، والإرادة الخيرة الحرة، والنية الخالصة، والحكمة البالغة، والخبرة الراقية لتكون في مستوى متطلبات تنشئة الإنسان وفق سائر مميزاته الشخصية الفردية والاجتماعية والحضارية وحاجات العصر العلمية والتكنولوجية والفنية . ليكون الجيل متفوقاً على أنداده من أجيال الأمم ومتميزاً، وليكون في مستوى المهام الجسام التي تنتظره في السلم والحرب، وفي كل الظروف .
وأخيراً لا بد من تجنّب أجيال الأمة الوقوع في المأزق التي مر بها سلفه كالتخلف والتبعية والتقليد والولوع بالغالب ... ليصبح ما تعانيه الأمة من هذه الأمور في حاضرها قضية جيل تنتهي معه ولا تتعداه إلى ما بعده من أجيال.
على أن هذه الأمور لا تتأتى إلا إذا كانت سلطة العلم فوق سلطة العاطفة . وسلطة الشرع فوقهما أي عندما تكون السياسة تخضع للشرع والعلم الضمان المصلحة العامة وما وضعت الشرائع وما اخترعت العلوم إلا لذلك. فالسياسة التربوية مدعوة إلى التقيد بالشرع والعلم وسائر متطلبات مصالح الأمة للنهوض والرقي والازدهار ؛ ومعنى هذا أن مسؤولية العلماء من الأمة تتجاوز الاعتبارات السياسية العابرة، ففي هذه الحال تكون السياسة التربوية هي التي تفرض نفسها على السياسة العامة. أما إذا كان العكس وطغت السياسة العامة على السياسة التربوية فتصبح هذه الأخيرة لا تتحدد إلا في ضوء أغراض السياسة العامة واتجاهها فتلتزم حدودها وميادينها مع العلم أن السياسة العامة آنية، متغيرة، وتهتم أول ما تهتم بالحاضر الذي هو تحت سيطرتها ومسؤوليتها
الصفحة74
وصلاحيتها المحدودة، أما السياسة التربوية فهي المستقبل الذي هو في الحقيقة من حق الأبناء والأحفاد وحدهم، ولذلك فهي نظرة مستقبلية ترتكز على ما سوف يأتي من مطالب الجيل لإعداده لزمانه والمهامه التاريخية التي تنتظره دون عقدة ضعف أو تخلف أو وهن .
وكلما نضجت هذه الفكرة المستقبلية للسياسة التربوية قويت عند الأمة إرادة المستقبل، وأخذ هذا الأخير أولويته على الحاضر، وتضاءلت الحاجات الآنية في عينيها واختارت سياسة التقشف كطريقة أو سياسة للتحكم في الحاجات العاجلة من أجل توفير طاقات الأمة وإمكاناتها لحاجات الأجيال المقبلة الآجلة، وبذلك تصبح السياسة العامة في خدمة السياسة التربوية، لأنه لا مستقبل لأمة لا تعتبر قضية إعداد الأجيال إعداداً يؤهلهم لما يستقبلهم من الزمن أهم قضية تواجهها في الحاضر على الجملة. فالأمة التي تعيش ليومها لا مستقبل لها. إن الأمة التي تجهل كل همها تجعل ليومها وإن كان على حساب غدها أمة حكمت على نفسها بالشقاء والتخلف والانهيار الحضاري .... فتكون بذلك قد أوصدت أبواب الخير والازدهار والسعادة في وجه أبنائها. أن طريق العلم والهدى هو وحده طريق الاستمرار والفوز والنجاة في الدارين وطريق الجهل والجاهلية طريق مسدود لا يؤدي إلا للخيبة والفشل والاضمحلال. إن الأمة التي تشتري يومها بغدها أمة منتهية لا أمل لها في المستقبل تسير أمورها من سيء إلى أسوأ ويصير ما تستدبره خيراً مما تستقبله .
بينما تجعل هذه همها في الحاضر تكون أمة أخرى قد جعلت همها في المستقبل وسخرت سياستها العامة في خدمة سياستها التربوية الخاصة وجندت كل ما تملكه من إمكانات مادية وبشرية لتحقيق الغد الأفضل تتحسن أمورها تدريجياً يوماً بعد يوم وتتطور مؤسساتها في كل حين وتنمو إمكاناتها الحضارية باستمرار ... عاملة على تنفيذ خطتها الإصلاحية بحزم ودقة وانتظام وأخذت تسير بخطوات نحو المستقبل وهي كلها ثقة وإيمان : «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .
فما أعقد أمور الإنسان وما أهمها في بناء حضاري وإصلاح اجتماعي
الصفحة75
وإيقاظ نهضة فالإنسان هو باني الحضارة ومنشيء النهضة ومشيد الاقتصاد. على أنه في كل ذلك مرتبط بنوعية التربية التي يتلقاها في كل مراحل نمو شخصيته. فبقدر ما استطاعت هذه الأخيرة إلهام مواهبه الفردية وقدراته وخبراته وتشجيع عبقريته على الإبداع واكتشاف أسرار الأكوان والقرآن الكريم تزدهر الثقافة والحضارة وينمو العمران .
ولما صارت التربية من أهم مهام الدولة ومن متطلبات أداء هذه المسؤولية الثقيلة جودة التسيير والتمويل والتوجيه والمراقبة . وهذه مهام كلها تحتاج إلى بنيات إدارية وتربوية . فإما أن تخضع لسلطة مركزية مطلقة أو محلية مطلقة أم هما معاً، ولهذا السبب اختلفت النظم التربوية في هذا الحال وعانت أغلب النظم من هذه المشكلة ولأهميتها نتعرض لها بشيء من الإيجاز.
الصفحة76
المركزية واللامركزية
للتربية تشريع حددت قوانينه ومواده ومبادئه في ضوء المصلحة العامة ومجموعة المبادىء لتحديد العلاقات الإدارية والتربوية ومختلف المسؤوليات وتنظيم وضبط المستوى التحصيلي لكل رتبة تعليمية في كل مرحلة من مراحل التعليم الرسمي، فمنذ تدخل الدولة في شؤون التعليم صار لا بد لكل نظام تربوي من أسس تشريعية في غاية من الدقة والتحديد لضمان السير المحكم، والتسيير المنظم القائم على العدل والإنصاف والتقويم الموضوعي للخبرات، والترتيب التصاعدي للمهام والوظائف.
وحسب هذه تختلف النظم التربوية في كثير من الأمور منها أنه في حين تكون بعض النظم التربوية مركزية كما هو الشأن بالنسبة للنظام الفرنسي منذ عهد نابوليون تكون أخرى ممعنة في اللامركزية تعتمد على السلطة المحلية أو غيرها كما هو الشأن في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية .
إلا أنه في الأصل كانت السلطة المحلية التربوية سابقة للسلطة المركزية وكانت النظم التربوية في أغلبها لا مركزية النشأة وما تحولت إلى المركزية إلا بعد تحولات كبرى حدثت المجتمعاتها ونتيجة لتغيرات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية؛ فعندما كانت التربية تحت إشراف الأسرة أو المسجد في البلاد الإسلامية أو الكنيسة في المجتمعات النصرانية كانت السلطة المحلية التي تشرف على نظام الأحباس هي المسؤولة وعلى رأسها علماء الأمة .
فأهم المراكز التربوية كانت تتمثل في المراكز الدينية وكانت التربية ذاتها مرتبطة بالدين وكان هذا الأخير هو أهم غاياتها وأغراضها، على أن العناية بعلوم الدنيا لم تكن قليلة في أغلب الجوامع في مختلف عهود التاريخ الإسلامي .
الصفحة77
ولما ظهرت الدولة كأكبر تشكيلة ، أو جهاز سياسي فرضته طبيعة تطور الأمم وتعقد المهام الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية من جهة وتطور الحضارة وتشعب شروطها من جهة أخرى ظهرت الحاجة إلى سلطة مركزية تستجيب للمهام الكبرى التي لا تستطيع أي سلطة محلية تغطيتها مهما كانت عليه من الثروة المادية والسلطة الإدارية، على أن تدخل الدولة في شؤون التربية قد أثار عدة قضايا وتخوفات على الحريات الأساسية للأمة. لقد كان من نتائج تدخل الدولة هذا أخذ مسؤولية الإشراف والتسيير والتوجيه وربط هذه المهام بالسياسة وهو ما يثير لا شك مشكلات لا حصر لها وينشىء تناقضات لا يتسع المقال لذكرها .
ففي عهد نابليون بونابارت لأول مرة عهد للسلطة المركزية تسيير شؤون التربية في فرنسا ثم سايرتها دول كثيرة بعد ذلك وتبنت المركزية كسلطة تربوية منها تذكر روسيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وتركيا . . . لكن هناك دول أخرى أنشأت سلطة مركزية وخصصت للتربية وزارة أو عدة وزارات، فإنها أبقت على السلطة المحلية، ولم تمعن في تدخلها في شؤون التربية إمعان الدولة المركزية من هذه الدول بريطانيا وأمريكا الشمالية .
ولا عطاء فكرة واضحة على النموذجيين نرى لزاماً علينا عرض النموذج البريطاني كعينة للنظم التربوية اللامركزية في حين نقدم النموذج الفرنسي كعينة للنظام التربوي المركزي ثم النموذج الإسلامي الذي له خصائصه المميزة قصد إدراك الفروق التي لا يمكن إغفالها .
الصفحة78
مركزية النظام الفرنسي التربوي
في العاشر من ماي 1906 أنشأ «نابليون» نوعاً من هيئة إحتكارية إدارية تحت اسم : «الجامعة الأمبراطورية».
فمنذ ذلك العهد طبعت المركزية النظام التربوي الفرنسي بطابعها وصار لا يمكن لأي مؤسسة تربوية أن تظهر إلى الوجود إلا بإذن من الجامعة المذكورة .ولا أحد يستطيع أن يزاول التدريس ما لم يكن ممنوح الإجازة فعلى رأس كل ناحية عينت أكاديمية تحكم على المؤسسات التربوية، وكل أكاديمية يسيرها سلك تفتيشي أكاديمي، وقبل الجمهورية كانت السلطة التربوية مكونة من مجلسين، ففي حين كان الأول يشرف على التعليم العام ويشرف الثاني على التعليم التقني .
أما في الجمهورية الرابعة فقد جمع المجلس في مجلس «التربية الوطنية» وأما مهمته فكانت استشارية محضة. لكن القضايا التربوية حول هذا الأخير حق المشاركة الاستشارية لمجلس التعليم الابتدائي والثانوي والعالي والعمومي .
فمنذ أن تحول المجلس الملكي التربوي إلى المجلس الأعلى للتربية الرسمية في الخامس عشر من ماي ١٨٥٠ عند ثورة ١٨٤٨ أخذ هذا الأخير الشكل الملائم للحكم الجمهوري لذلك نجد أرنولد بلانشار» يربط بين استقلالية الجامعة ومشكلة السلطة والنفوذ. فالإصلاح الأخير الذي حدث عام ١٩٦٤ ينهي التجربة التاريخية للمجلس. وادخلت عناصر جديدة من خارج الجامعة من الإداريين والمعلمين وممثلي أهالي التلاميذ ونقابة المعلمين بصفتهم معنيين بكل قضايا التربية. ولكي يضم المجلس كل هؤلاء الأعضاء أخذ شكله الثلاثي، فلمجموع أعضائه الذين عددهم ۷۷ أو ۸۳ في مجموعات ثلاثة وكل
الصفحة79
مجموعة تتألف من 25 عضواً ففي الوقت الذي تختص فيه المجموعة الأولى بالتسيير الإداري من حيث هي تشتمل على عضوين على الأقل ممن لهم خبرة في التدريس شكلت الثانية من اثني عشر عضواً يمثل مختلف المصالح الإدارية للقضايا التربوية بالإضافة إلى الآخرين الذين يمثلون كفاءات مختلفة ولهم ارتباط بالنشاط التربوي . أما المجموعة الثالثة فتتكون من أعضاء تنتخبهم المجالس الابتدائية والثانوية والعليا. فشارلز فرانكل و آرمون بلانشاري، وهالزم وففريزار، وآخرون يرون أن السلطة المركزية صارت ضرورية تمليها الحاجة إلى التنسيق والتنظيم والانسجام، فهذه وغيرها كانت حاجات ضرورية للسياسة التربوية الفرنسية. ويعتبرونها مبدئياً من الحاجات الجماعية، لذلك يرون أن المركزية في فرنسا مزيلة لأي سلطة محلية جهوية ويجملون مقاصد مركزية النظام الفرنسي التربوي في الأمور التالية :
مساعدة الدولة على ضمان الاتساق داخل المنظومة التربوية وضمان وحدة قياس المحتوى التربوي لكل مستوى تعليمي وتحديد نظام الامتحانات في المستويات المختلف الإيجازات والشهادات ومستوى التحصيل، فتكون قيمها التربوية محددة يتعين من خلالها مستوى التحصيل لكل مرحلة تعليمية .
والجدير بالذكر أن جل المفكرين الفرنسيين يعترفون بأن مركزية النظام التعليمي الفرنسي كان له الأثر الكبير في تطوير التربية وضمان الانسجام على مستوى كل المراحل التعليمية والتخطيط من أجل تحديد حاجات التربية إلى التمويل حسب إمكانات اقتصاد البلاد من جهة والحاجات التربوية والاجتماعية من جهة أخرى.
على أن هؤلاء لا ينكرون الآثار السيئة للبروكراسية التي صار يعاني منها النظام التربوي الفرنسي نتيجة للمركزية وعلى الرغم من المجهودات الجبارة المبذولة من أجل تسهيل سير الأمور بشكل طبيعي ملائم، كما يعترف هؤلاء أن المركزية شكلت عائقاً خطيراً أمام روح المبادرة التي كان يتمتع بها النظام التربوي الفرنسي من قبل، ومن أجل ذلك فهم لا ينكرون أن حلّ هذه المشكلات وغيرها لا تكون إلا في اللامركزية .
الصفحة 80
نستنتج مما تقدم أن النظام التربوي الفرنسي قد انتهى إلى الشعور بضرورة الإصلاح الجذري للتخلص من المشكلات الناجمة عن المركزية فإنه لا بد من اللامركزية وللتغلب على البروقراطية ولإفساح المجال لروح المبادرة وتحقيق الحرية الأكاديمية فإنه لا بد من إعادة النظر في السياسة المركزية .
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 81 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
الصفحة81
لامركزية النظام البريطاني
إن الأسرة والمعلم هما اللذان يشكلان السلطة التربوية التقليدية ثم الكنيسة والسلطة المحلية. ففي البيئة تسيطر عليها فلسفة: دعه يفعل لا يليقبها إلا نموذج السلطة المحلية لأن أغلب الحاجات التربوية كانت تستجيب . السلطة المحلية وكانت في نظر المجتمع الانجليزي المحافظ مبادىء أساسية لا غنى عنها بالمرة. إن روح المبادرة هي التي كان لها الفضل في ازدهار التربية البريطانية وتطورها إلى اليوم. وكذلك الحرية الأكاديمية التي تتمتع بها معظم الجامعات .
على أن التمويل المحلي صار غير كاف بعد النمو العمراني الذي عرفته بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد البدء بالعمل بديمقراطية التعليم الثانوي وعلى وجه الخصوص النواحي الفقيرة من الجزيرة .
في هذا الصدد اعترف مربون كثيرون من الإنجليز بعجز السلطة المحلية في مواجهة مشكلات الإدارة التربوية وما تحتاج إليه من تقنيين مختصين من أولي الخبرة الإدارية التربوية ومسيرين كما اعترفوا أيضاً بعجزها عن التمويل الكافي للحاجات التربوية المتزايدة من هؤلاء نذكر - (ع. فيزي وليستر سميث - وغيرهما فهؤلاء يعتقدون أن ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تسمح بقدرة السلطة المحلية على تسيير التربية دون مساعدة السلطة المركزية وأوضح
«فيزي».
أن السلطة المحلية تعاني عجزاً خطيراً من الناحية المالية كما أنها تفتقر إلى الإشراف الإداري الكفء، لكنه يعترف من ناحية أخرى أن السلطة المحلية
الصفحة82
التربوية نجحت إلى حد بعيد في إعطاء النظام التربوي ثروة في التنوع والاختلاف الأمر الذي ساعد على مواجهة مطالب الحياة المتنوعة. غير أنه سلم بتناقضات الوضع التقليدي حيث إنه كلما كانت السلطة المحلية التربوية في حاجة إلى المزيد من التمويل كانت هذه الأخيرة في حاجة أيضاً متزايدة إلى الرقابة المالية والإشراف المباشر. فالمالية التربوية تزيد بزيادة الإنفاق ومن ثمة فتدخل الحكومة كسلطة مركزية صار أمراً لا مفر منه وخاصة بعد قرار 1944 القاضي بديمقراطية التعليم الثانوي ومجانيته .
أما «ليستر سميث، فيرى أن السلطة المركزية مقبولة وهو في هذا يبدي تحفظاً يعكس طبيعة الإنجليز وميلهم للمحافظة وهم أخوف ما يكونون على المساس بالحرية الأكاديمية التي يقدسونها ولذلك يحدّد مستوى تدخل السلطة المركزية في أمور التربية ويرى أن هذا التدخل يجري دوماً على حساب الحرية التربوية وإذا كان الإنجليز لا يقبلون لأي سلطة مهما كانت أن تمس بالحرية الأكاديمية فإن ليستر سميث هو الآخر يخشى أيضاً أن ينشأ عن تدخل السلطة المركزية تقوقع الأغراض التربوية في دائرة سياسة الدولة الآنية فتصبح التربية تخدم النظام السياسي كما كان الحال في ألمانيا النازية وروسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية. ففي هذه النظم تصير السياسة التربوية خاضعة لسياسة الدولة الحاكمة. ومن النتائج السيئة للمركزية في رأي ليستر سميث البيروقراطية والتوزيع السيء لكنه يسلم بأنه على المدى البعيد سيؤول الأمر إلى مركزية التربية بعد سلسلة من الإصلاحات، لذلك يرى أنه يستحسن التوفيق بين السلطتين المركزية واللامركزية وضرورة تنسيق الأمور على مستوى الخطة التربوية على النطاق الوطني فيقول: أن التخطيط التربوي مبدأ مقبول من طرف الدولة من حيث هو مخطط رئيسي لكن تدخل الدولة لا يجوز أن يكون على الشكل الاستبدادي وإنما تتدخل كالأخ الأكبر مع مجموعة المعنيين بأمر التربية لا لأنه يحق للدولة أن تستبد بطرق الحياة (1) .
(1)
Padley Robin the comprehensive school.
الصفحة83
ومهما يكن فإن العلاقة بين السلطتين المركزية والمحلية ما تزال غامضة غيرأن تزايد الإنفاق التربوي مصحوب دوماً بتزايد الحاجة إلى المساعدة المركزية وهذا ما جعل عملية التغير في صالح السلطة المركزية على حساب السلطة المحلية .
والجدير بالذكر أن أغراض التربية وأهدافها في بريطانيا تشمل المقاصد الوطنية والمحلية دون تعارض كما تتفق السلطتان على ضرورة حاجات الطفولة للرعاية والعناية .
فظهرت المركزية في بريطانيا بمفهوم التنسيق والتخطيط وجودة التوزيع وعدالته بواسطة البرلمان مفسرة ومطبقة من طرف الحكومة بمشاركة السلطة
المحلية. لكن تفسير القرار يؤدي في الغالب إلى مخاطر لأن ترجمة المبدأ بالمعنى الأدبي وتفسيره قد يؤدي إلى غير ما كان قد وضع من أجله في حالة التطبيق .
كل هذه المسائل طرحت في النقاش الدائر حول العلاقة بين السلطة المركزية والمحلية إلى أن استقر الأمر في النهاية على الإبقاء على السلطتين المركزية والمحلية والعمل على تعايشهما في النظام التربوي الإنجليزي. ومن ثمة فالنظام البريطاني لا هو بالمركزي البحث كما هو الشأن في فرنسا ولا هو محلي لا مركزي تماماً كما كان النظام البريطاني القديم قبل الإصلاح.
ومن أهم الأسباب التي جعلت الإنجليز يحتفظون بالسلطة المحلية، وأن يدبروا لهم أمر تدخل السلطة المركزية ضرورياً هي المحافظة على الحرية الأكاديمية وروح المبادرة والتنوع التربوي ... وحتى تبقى التربية تخضع لإرادة الأمة فلا تتغير بتغيير الحكومات وسياستها .
ففي ضوء الخبرتين الفرنسية والإنجليزية في موضوع مركزية النظام التربوي واللامركزية تبين أن المركزية الصرفة كما كان الشأن في فرنسا وروسيا وألمانيا في عهد هتلر وإيطاليا في أيام موسليني تنجم عنها عواقب منها القضاء على حرية التربية والحد من حرية العلماء والمربين والمصلحين وكل من يهمهم أمر التربية بالإضافة إلى تضييق الخناق أمام روح المبادرة وما ينشأ عنها من تنوع
الصفحة84
ثقافي ضروري لازدهار النهضة الثقافية والحضارية وظهور البروكراسية الممعنة في الروتين الإداري المعرقل للحركة التربوية النشيطة، بينما تبدو أيضاً السلطة المحلية وحدها عاجزة على مواجهة مشكلات التمويل والتوجيه والإشراف والتسيير الإداري المحكم....
بينما تشجع اللامركزية روح المبادرة وتيسر الأعمال الإدارية وتقضي على الروتين البيروقراطي الذي يشكل أخطر العوائق أمام السير الطبيعي للأمور التربوية وتساعد على التنوع الذي يعد من أهم شروط الازدهار الحضاري، تعتبر المركزية هي الأخرى حلا لمشكلات كبرى كالتمويل والإشراف المباشر والتسيير المحكم.
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 85 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
الصفحة85
)انظر الشكل الموجود في الصفحة 86 ضمن النسخة الورقية بدف اعلاه(
الصفحة86
النظام الإسلامي التربوي
أما بالنسبة إلى النظام الإسلامي، فكان قبل الاحتلال أكثر النظم التربوية تحرراً واستقلالاً بفضل نظام الأحباس»، لذلك فإن قضية التمويل التي كانت أهم مبررات المركزية لم تطرح بالمرة على الساحة التربوية في العالم الإسلامي، لقد كانت المساجد والجوامع والزوايا والكتاتيب والمستشفيات.. تمول من الأموال (۱) التي حبست لذلك الغرض. يفضل هذا النظام الفريد من نوعه كانت السلطة التربوية محلية تحت رعاية العلماء وإدارة محلية خصصت لتسيير الأرزاق المحبسة .
فبفضل نظام الأحباس هذا كانت السلطة التربوية محلية ومستقلة وكانت تحت رعاية العلماء والإدارة المخصصة لتسيير الأرزاق المحبسة من أراضي خصبة ومزارع غنية ومتاجر وحمامات . وإذا أراد الخليفة أو الأمير أن يشارك في ذلك فيتبرع من حر ماله لوجه الله لا يريد بذلك أي نوع من السلطة لقد ساهم الأمويون في بناء جامع دمشق وبنى الفاطميون الأزهر والمرابطون الجامع الكبير في الجزائر العاصمة. فمنذ عهد المأمون صار الأمراء والخلفاء، وكبار الأغنياء يتنافسون على مساندة المؤسسات التربوية بالأوقاف التي يوقفونها على المدارس والمعاهد والجوامع ... لقد أشاد بهذه الجهود مؤرخون وعلماء كثيرون، نذكر من نقلا عن «شلبي»، قول ابن جبير وتكثر الأوقاف على طلاب العلم في البلاد الشرقية كلها وبخاصة دمشق فمن شاء الفلاح من نشيء مغربنا فليرحل إلى هذه البلاد، فيجد الأمور المعينات كثيرة وأولها: فراغ البال من أمر
الهوامش
(1) أحمد شلبي ، تاريخ التربية الإسلامية ، مكتبة النهضة المصرية 1966 م ص 365 .
الصفحة87
المعيشة، إذ لا يتفرغ طلاب العلم إلا إذا ضمنت لهم معيشتهم، فبفضل الأوقاف لم تطرح إطلاقاً مشكلة التمويل التربوي كما لم تظهر الحاجة إلى سلطة مركزية تفرضها حاجات المنظومة التربوية إلى التسيير والتمويل والتوجيه ... كما حدث ذلك في المجتمعات الحديثة الغربية والشرقية .
لهذه الأسباب كانت المنظومة التربوية في كل أنحاء العالم الإسلامي تقوم على أساس حرية التربية، التي كانت تتبلور في مكانة العلماء من الأمة، كما ساعد نظام الأحباس على ضمان حرية العلماء واستقلالية التربية إلى درجة لم
تعرفها مؤسسة تربوية ولا منظومة في العالم القديم ولا الحديث. وإذا قدر للأوقاف عجز في بلد ما يجد نظام الزكاة مؤازراً له، فبيت مال المسلمين تدر على كل المشاريع التي من شأنها خدمة الصالح العام كالمؤسسات التربوية . والمستشفيات ودور الرعاية ....
ومن ثمة السياسة التربوية الإسلامية كانت لا مركزية في جملتها الأمر الذي ساعد على ظهور تنوّع في مناهج التعليم فكانت هذه تختلف باختلاف البيئات الاجتماعية والثقافية وغيرهما. وكانت التربية إلى حد بعيد تتكيف. الأوضاع المحلية، غير أن الطابع الإسلامي العام يشمل كل النظم التربوية التي كانت تغطي العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه الأمر الذي جعل التربية في مختلف النواحي أكثر نجاعة وفعالية وثراء كل ذلك بفضل تشجيع روح المبادرة وسواء أكان ذلك في العلوم أم في غيرها. لقد كان للعلماء فضل كبير على تلك النهضة التربوية وكان للامركزية مزايا لا تعد أهمها حرية العلماء ومكانتهم ومساعدتهم على أداء رسالتهم دون أن يتقيدوا بنظام سياسي أو سياسة حاكم. ولأهمية ذلك لا بد من تخصيص فقرة لمكانة العلماء في الأمة كنموذج يزال له اعتباره في التربية المقارنة يمكن في ضوئه حل كثير من المشكلات المستعصية التي تعاني منها كثير من النظم التربوية في البلاد الإسلامية وغيرها .
الصفحة88
مكانة العلماء في النظام التربوي الإسلامي
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العلماء ورثة الأنبياء. فالمتأمل في هذا الحديث يلاحظ أن مكانة العلماء في الأمة الإسلامية ترتفع إلى أرقى ما يمكن أن يصل إليه محظوظ من البشر هي مرتبة الأنبياء.
وإذا كان أول الأنبياء - حسب العقيدة الإسلامية - هو آدم عليه السلام وآخرهم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب الرسالة الكاملة الشاملة التي جعلها الله لكل البشر من بعده إلى يوم الدين فإن أولى الناس الذين هم أولى بتحملها بعده ، هم العلماء. فإذا اختار الله سبحانه وتعالى وجعلت حكمته خيار خلقه لرسالته، هم الأنبياء - لما اتصفوا به من الحكمة والعصمة واتباع الحق . اختار ها أيضاً من يكون في مستوى الرسالة من الأمانة والصدق والإيمان والتقى والورع … لورع .... ممن حباهم الله وجعلهم خالصين له الدين عاملين مجاهدين من العلماء العاملين لأن مقتضى استمرارية الرسالة من جهة، وختم سلسلة النبوة بسيدنا محمد من جهة أخرى، أوجب قيام العلماء بالرسالة من بعده وهم أجدر الناس بذلك لأنهم أقذرهم على معرفة الشرع وإقناع الناس بضرورة اتباعه اقتداء بالرسول وخلفائه وصحابته والتابعين نستنتج من ذلك أن الخلافة الحقة لرسول الله هي خلافة العلماء ابتداء من صحابته والتابعين، وللقيام بمهمة الرسالة العظيمة وأداء الوظيفة الصعبة ميزهم الله في كتابه العزيز بميزة الحكمة وسلامة العقل وعدم اتباع الهوى فقال تعالى : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَ مَا يَذَكَرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَب ) (البقرة : (۲۶۸) فالعلماء هم الذين منحهم الله نعمة الحكمة وهي كما عرفها ابن عباس رضي الله عنهما معرفة الشرع. فهذه المواصفات القرآنية
الصفحة89
لنموذج العلماء لها أكثر من دلالة تربوية منها ضرورة الجمع بين العقل والشرع فكلاهما له أهميته في مساعدة العالم للفهم الصحيح للشريعة وغيرها والعمل القويم بها مما يتعلق بأمور الدارين الدنيا والآخرة .
والجدير بالذكر أن العلماء والفقهاء الذين تعرضوا لموضوع العالم والعلماء في الملة كثيرون وكلهم يجمعون على المواصفات التالية :
أ ـ وجوب ربط قيمة العالم المحقق ـ على حد تعبير الشاطبي - بمن أخذ عنهم كأخذ الصحابة رضوان الله أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو النموذج الأكمل للمعلم في الإسلام وصحابته هم النموذج الأمثل للمتعلمين في الأمة ثم يليهم التابعون وتابعوا التابعين إلى يوم الدين .
ب - ضرورة الملازمة والأخذ المباشر عمن صح علمهم وصلح عملهم ولزم الاقتداء بهم كجعفر الصادق والإمام مالك وسائر أئمة الإسلام في كل زمان ومكان رضي الله عنهم أجمعين.
ج - لزوم العمل بما علم كي يطابق فعله قوله إذ لا يؤخذ العلم عندهمعمن تخالف أفعاله أقواله ومما ينصح به الغزالي المتعلم في كتابه بداية الهداية أن يعمل المتعلم ألف مرة بما كان قد تعلمه مرة ليكون في بداية الهداية .
د -ألا يكون قاصداً بتعليمه العلم الدنيا وحدها والوصول إلى المكانة عند الناس والشهرة والسلطان قال تعالى: ﴿ قُلْ أَو نَيْتُكُم بِخَيْرِ مِن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَجُ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَاتٌ مِّنَ اللَّهُ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ ) (آل عمران : 15).
هــ -الا يكثر التردّد على الأمراء والملوك والسلاطين قال حذيفة رضي الله عنه : إياكم ومواقف الفتن»، قيل وما هي ؟، قال: «أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه».
أما سعيد بن المسيب فيقول : إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص». وقال بعض السلف: «إنك لا تصيب من دنياهم أفضل منه .
الصفحة90
ويرى الشاطبي أن طاعة الأمة للعلماء واجبة كطاعة الله ورسوله، فهم أولوا الأمر الذين وجبت طاعتهم بموجب صريح القرآن الكريم. يقول تعالى : و يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) . (النساء : 59) .
فالمتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية يلاحظ منذ العهود الأولى صدارة العلماء في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والدليل على ذلك ملاحظة الدارسين للتاريخ الإسلامي من المستشرقين يذكر أبو القاسم سعد الله منهم ليبايز وهميلتون حبيب ويرى هؤلاء حسب ما أورده سعد الله أن السلطة في الدولة الإسلامية كانت إلى عهد العثمانيين تنقسم إلى قسمين: «قسم الحاكمة وهي السلطان والوزير والجيش والولاة وغيرهم من الإداريين
والعسكريين»، و«النظم الإسلامية التي جعلوا على رأسها العلماء ورجال الدين بصفة عامة. ويرى سعد الله أن مكانة العلماء ودورهم في الدولة الإسلامية لا يستطيع أن يهون من شأنه أحد. لقد كان شيخ الإسلام على حد تعبير سعد الله : في الدولة العثمانية مقدماً على الوزير الأول، وكانت كلمته ضرورية لإعلان الحرب وعقد السلم وقبول أو رفض نظام معين (1).
والحقيقة أن ما زاد العلماء مكانة في الأمة، أنهم كانوا ربانيين مخلصين الله لا يريدون إلا وجهه، حريصين على التمسك بأهداب الدين الحنيف مجدين في إتباع الرسول . كانت الآخرة هي همهم الأكبر عازفين عن الدنيا ومفاتنها لا يتركون للهوى منفذاً سواء أكان في أمر الدين أم الدنيا، جادين في طلب الحق والحقيقة فكانوا علماء في بحوثهم حازمين غاية الحزم في دقة مناهجهم، متشددين في وجوب صحة الخبر والتأكد من صحة الرواية فضبطوا لذلك قواعد في علم الجرح والتعديل، فكانوا محققين في أمور النقل منهجيين في مسائل العقل، صارمين في أحكامهم لا يجدون للشك منفذاً إلا وسدوه باليقين، ولا يعثرون على الزيف إلا وأزاحوه بالصحة والصواب، ولا يلقون ميلاً إلا وأعادوه
الهوامش
(1) أبو القاسم سعد الله ، تاريخ الجزائر الثقافي الشركة الوطنية للتوزيع والنشر، ج 1، ص: 394 .
الصفحة91
إلى العدل والاعتدال، فكانت مناهجهم سليمة، وعلومهم صحيحة، واجتهاداتهم موفقة ... وهذا ما جعل الأمة لا تطمئن إلا لرأيهم، ولا تجد مضاضة في طاعتهم، ولا تتردد في العمل بنصائحهم وتوجيهاتهم، في أغلب أمورها وأهم قضاياها وألم ملماتها وأحلك ظروفها، لذلك كان أمر الدنيا لا يطغى على الآخرة، وكان أمر السياسة خاضعاً للدين وعدله، لا يجرؤ على حماه سلطان قاهر أو ملك جبار، لأن من مقاصد الشريعة صلاح أمور الناس وفلاحهم في الدنيا والآخرة ومن ثمة وجب بمقتضى الشريعة حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء، ومن قام مقامهم وهم الخلفاء، إذ من أهم أغراض الخلافة سياسة الأمة حسب المنهج القرآني والنبوي السني وما تفرع عنها من مصادر التشريع كالإجماع والقياس ... لضمان صلاح الأمة وفلاحها.
من وصايا الرسول و التي كان لها الأثر الكبير عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعين والعلماء المسلمين هي وجوب الاستمساك بالقرآن والسنة. روي عن الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي»، ومن النتائج العظمى لهذه الوصية الحرص على حفظ القرآن الكريم الذي أدّى إلى جمعه في عهد أبي بكر وعمر
وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ثم تدوين السنة بعد ذلك في عهد عمر بن عبدالعزيز، وحفظ الدين الإسلامي الحنيف بالحفاظ على أصليه الأساسيين، وهما الكتاب والسنة، ولما اتسعت رقعة العالم الإسلامي بعد الفتوحات ودخلت الإسلام أمم من العجم وغيرهم وشعر الناس بالحاجة إلى المزيد من الضوابط في علوم الدين والفنون اللغوية لضمان الفهم الصحيح لكل من القرآن والسنة، شمر العلماء على ساعد الجد والاجتهاد فكتب في الأصول الفقهاء الأعلام كالإمام الشافعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل وآخرين رضي الله عنهم أجمعين وظهرت علوم القرآن والحديث واللغة العربية.
ولما كانت الشريعة الإسلامية لا تقوم على النقل دون العقل، فكان لهذا الأخير شأنه في كل من أمور الدين والدنيا الأمر الذي ساعد على ظهور فكر
الصفحة92
إسلامي واضحة مفاهيمه، معتدلة أحكامه، متزنة قيمه، عميقة الأغوار حكمته، أبعد ما يكون عن الزيغ والضلال والشطط والتطرف، والميل إلى اهوى سليم منطقه، صحيحة مناهجه، متسعة آفاقه ومتشعبة ميادينه، أصيلا في مجدداً في فروعه متنوعة أغراضه، فجمعت له الدرر الغالية التي تزخر بها حضارته وشيدت بها صروح مدنيته، وكان في كل حقبة من تاريخه ينجب للعالم قماً في العلم والشيم، كالإمام أبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وفخر الدين الرازي وابن سيناء والخوارزمي وابن رشد والشاطبي وابن العربي والخليل بن أحمد وأبي حيان التوحيدي وسيبويه وابن خلدون وغيرهم كثير.
فالمتتبع لتاريخ المجتمعات الإسلامية يجد أهم الإصلاحات التي حدثت في العالم الإسلامي والتي كان لها آثار نهضة أو يقظة هي تلك التي قام بها العلماء، ودعوا إليها، وجندوا أنفسهم من أجل تحقيقها، وكانت من ورائهم الأمة مؤيدة ومؤازرة ومشجعة بكل ما تملك.
وما أن طغى سلطان الهوى على النفوس حتى غلبت العاطفة العقل، وفشى في الناس الفساد ومال الحكام إلى الاستبداد وضعف سلطان العقيدة في القلوب، فوهنت العزائم حتى خارت القوى. عندئذ تزعزعت مكانة الأمة بين الأمم وجرأ الناس الذين كانوا يخافونها وغزوها في عقر دارها، وعلى الرغم من الجهد الجهيد والجهاد الكبير، وقع العالم الإسلامي في قبضة الاستعمار قطراً بعد آخر وقارة بعد أخرى وما إن انتهى الأمر إلى الغزاة بالاحتلال حتى شرعوا في قتل العلماء وتشريد طلاب العلم وهدم المساجد أو تحويلها إلى كنائس، ونهبوا الأموال الطائلة والأراضي الشاسعة التي كانت للأوقاف لتمويل
التعليم المجاني وكفالة السكن والمعيشة . . . لكل طالب للعلم . وما أن حل الاستعمار حتى فرض سلطته المركزية ليتحكم في المنظومة التربوية وفرض سياسته التعليمية. لكن الأمة لم تستسلم لضغطه ولم تخضع لسياسته بل أصرت على بقاء المؤسسات التربوية الإسلامية الحرة سواء أكانت من المساجد والجوامع والزوايا والكتاتيب القرآنية أم المدارس التي أسسها العلماء
الصفحة93
المصلحون في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، ولقد كانت طيلة الفترة الاستعمارية هذه المؤسسات الحرّة هي معقد آمال الأمة ومعقل الثقافة الإسلامية الأصلية، لولاها ما كانت ،صحوة، ولا تحرك ضمير ولا حدثت ثورة للتحرر، ولا قام للجهاد قائم، لقد كانت تبث الروح في الأجيال واليقظة بعد الصبوة وعقد العزم على الجهاد التحرري للبلاد.
لقد ظهرت محاولات في المشرق والمغرب، وقامت ثورات وأخذت الأقطار والأمصار تتحرك الواحدة بعد الأخرى، وما أن تحقق النصر على الأعداء وظفر من ظفر بالاستقلال حتى استقبل الناس العهد الجديد، بأمال طامحة إلى تحقيق الأمثل. على أن المنظومة التربوية لم تعد إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال ولم يقع لها من الإصلاح الجذري الشامل إلا ما ظهر من التغييرات الشكلية، وورثت أغلب النظم التربوية من النظم الاستعمارية الكثير من الخصائص منها المركزية والتعليم المختلط والمفاهيم والنظريات الحديثة . وفتح باب استيراد الخبرات التي أنتجها علماء الأمم في أوطانهم واستغني عن علماء الأمة هؤلاء الذين لم يبق لهم أي ذكر ولم تعد لهم أية مكانة في الإصلاحات التربوية وغيرها، وهو ما جعل وطأة التبعية الثقافية تزداد يوماً بعد يوم، وتزيد مع زيادتها عقدة النقص وفقدان الثقة في النفس.
الصفحة94
النظام التربوي الإسلامي لا مركزي في أصله
لقد كان من أهم الأغراض التي أوقفت لها الأحباس ضمان مجانية التعليم ونعميمه وضمان حرية العلماء والحفاظ على مكانتهم في الأمة وتشجيعهم على القيام بالمبادرات الإصلاحية والمهام الاجتماعية والثقافية. .. ولذلك أصبح من الملاحظ أن النظم التربوية التي أزيل منها نظام الأحباس قلت فيها المؤسسات الحرّة أو انعدمت تماماً وبانعدام التعليم الحر حرمت مجموعات كثيرة من شباب الأمة من التعليم في مراحل مبكرة خاصة أولئك الذين لم يجدوا مكانا في المدارس الرسمية من جهة ولم يجدوا مؤسسة تربوية حرة تأويهم وتساعدهم على ستدراك ما أصابهم من تخلف من جهة أخرى والحقيقة أن فائدة نظام الأحباس وتشجيعه للمشاريع الخيرية لا حصر لنتائجها ومن هنا ندرك أهمية حرص أجدادنا على إبقاء نظام الأحباس والمؤسسات التربوية الحرّة، ولقد فطن الاستعمار إلى ذلك السر ولذلك بذل كل ما في وسعه للقضاء على نظام الأحباس والوصول إلى أغراضه .
ومن العواقب الوخيمة التي نجمت عن غياب الأوقاف صار العلماء يتقاضون أجورهم كعمال وموظفين في سلك الوظيف العمومي وهو ما أفقدهم حريتهم الأدبية وصار الرأي لمن يحكمه وليس لمن يراه، وغدت السلطة السياسة فوق السلطة العلمية وأداة طيعة لأغراضها ونفوذها . .. فإذا كانت السياسة العامة آنية زمانية تركز في الغالب وتهتم بالعاجل على حساب الأجل ويشغلها الحاضر الذي يعج بالمشاكل على المستقبل المتوقف على الحلول الصحيحة للقضايا الكبرى فإن السياسة التربوية لا بدّ أن تحظى بأهل الحكمة والنزاهة والإخلاص من أصحاب النظرة البعيدة والآفاق الشاسعة . . . لتركز على
الصفحة95
المستقبل بكل أبعاده. لذا نجد الانعكاسات السياسية العامة بارزة. أما انعكاسات الواقع السياسي على التربية فكثيرة أولها تأثيرها على سلم الأولويات مما جعل الخطة الإصلاحية التربوية خاضعة للسياسة العامة والتي هي بدورها تحدّد سياسة الأولويات. لأن وراء كل سياسة تربوية خلفية اقتصادية، فتمويل التربية أمر أصبح لا بدّ منه بعد القضاء على نظام الأحباس. وصار أمر التمويل يقرأ له ألف حساب عند إعداد الخطة الإصلاحية التربوية وإلا تبقى هذه الخطة حبراً على ورق يكاد يجمع أصحاب التربية المقارنة على أن نجاح الخطة تربوية يتوقف إلى حد بعيد على سياسة التمويل وأمسى من المتفق عليه عند المربين المحدثين أن النوعية التربوية مرتبطة إلى حد بعيد بسياسة التمويل التربوي، وهذا ما يدل على أن أجدادنا الذين كانوا يوقفون أجود الأراضي وأخصبها وأعزك الأملاك ذات المردود المالي الذي كان يفوق أحيانا ميزانية الدولة ذاتها على التربية والتعليم لم يكونوا عابثين فما أحوج الأحفاد إلى حكمة الأجداد.
ولما صارت السياسة التربوية مركزية وصارت اقتصاديات التربية جزء من السياسة الاقتصادية العامة فإنه لا بد لهذه الأخيرة من تحقيق التوازن بين التمويل الذي غالباً ما يكون محدوداً والحاجات التي تكون في الغالب غير محدودة.
وفي هذه الحالة تصبح الدولة أمام وضع اقتصادي حرج لا تستطيع أن تخرج منه إلا بوضع سلم للأوليات على أساسه يتم توزيع ميزانية الدولة لتؤمن لمشاريعها ومخططاتها الإنمائية سيراً طبيعياً سليماً من جهة، وتوظف مواردها الطبيعية وغيرها من جهة أخرى، لكن المشاريع تتعارض مطالبها وتضطر الدولة إلى إعطاء الأولوية إما للتربية وإما للمشاريع الاقتصادية، ففي حالة ما إذا أعطيت الأولوية للمشاريع الاقتصادية الصناعية لاضطرار الدولة إلى التصنيع والإنتاج للحاجات الاستهلاكية التي ما تزال تستورد من الخارج فتنشىء المصانع الكبرى والمركّبات الصناعية الضخمة. لكن إنشاءها لا يكون إلا عن طريق المساعدة الفنية فالخبراء الذين يقومون ببناء المعامل والمركبات الصناعية الضخمة هم من أولى الخبرات المعقدة الراقية ممن تكونوا في مؤسسات تربوية ثرية،
الصفحة96
وكذلك الشأن بالنسبة إلى من يقوم بتسييرها وتشغيلها على الوجه الأكمل فإن هذه المهام لتعقدها تحتاج إلى من يكون في مستواها التقني والإداري والاقتصادي .... حتى وإن بنيت المؤسسات الاقتصادية بمساعدة الخبراء الأجانب فإلى متى وهي تسير من طرف هؤلاء الخبراء الأجانب وما فادئة المعامل التي يبنيها الأجنبي ويشغلها؟ هذا بالإضافة إلى حاجة المعامل إلى صيانة وتطوير باستمرار. إن الصناعة التي لا تبني ولا تسير من أبناء الأمة ذاتها ولا تقوم على خلفية تكنولوجية تنتجها المنظومة التربوية محكوم عليها بالفشل، والتكنولوجيا التي لا تتمثل في خبراء من أبناء الأمة ستبقى تكنولوجية مستعارة لا تزيد الأمة إلا تبعية، والاقتصاد إِلا إفلاساً والأمور إلا تعقيداً. ففي هذه الجال يتعطل كل شيء فلا التربية أصلحت ولا الاقتصاد بني ولا الصناعة نجحت.
وهكذا يكون أمر من أعطى الأولوية لغير التربية لأنه كمن ربط الأحصنة وراء العربة في العقبة فالنتائج لا تكون إِلا من جنس المقدمات.
أما إذا حدث العكس كما كان الشأن في فرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان وإيطاليا . .. بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة واختارت هذه الأمم أولوية التربية وأسبقية حاجاتها إلى التمويل على الميادين الأخرى كالصناعة والتجارة والفلاحة . .. وإن استلزم ذلك فرض سياسية تقشفية في مدّة معيّنة لأن الأزمة حكم هذا الاختيار صارت مؤقتة محصورة في جيل الحرب فسرعان ما كونت أبناءها حتى قام هؤلاء ببناء الصناعة والفلاحة والتجارة على علم ودراية وخبرة وتقنية راقية فتحرك عندئذٍ اقتصادها إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم من الازدهار. لقد نجحت هذه الأمم لعدّة أسباب لكن أهمها كان يكمن في سرّ بدئها بالتربية قبل كل شيء وإعطائها ما تستحق من العناية والإصلاح والتمويل مما جعلها مساهمة فعالة ليس فقط في النمو الاقتصادي بل تعدّته إلى البناء الحضاري على المدى البعيد .
فالمشكل التربوي هنا مشكل حضاري في أعماقه لأنه يتعلق بالإنسان. وإنما تتعقد المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية عندما تكون مرتبطة بالإنسان فتكوين الإنسان يحتاج إلى عمر بأكمله وجيل من الناس في
الصفحة97
عصر الحضارة له أهميته التاريخية إنه في الإمكان بناء أضخم المعامل في مدّة لا تزيد على خمس سنوات لكن ليس في إمكان أحد غير اللّٰه أن يكون الإنسان تكويناً كاملا في مدة أقل من عشرين سنة على الإطلاق .
ولذلك إذ نلاحظ طرح قضايا تربوية كتلك التي طرحت في المجتمعات الغربية والشرقية الحديثة في مجتمعات البلاد الإسلامية كمجانية التعليم وتعميمه وحرية العلماء ... فإن هذه القضايا لا تعود في الأصل إلى تاريخ نظام التربية الإسلامية بقدر ما تعود إلى تبني النظم الغربية أو الشرقية عند المحاولات الإصلاحية الحديثة .
الصفحة98
ديمقراطية التعليم والإيديولوجية الديمقراطية
لما كان الإنسان كائناً حضارياً، فإن اللّه قد خصّه بالحاجة إلى التعلُّم أكثر من غيره من المخلوقات. وهذه الحاجة مرتبطة بقدرته الفائقة على التعلّم، فالمخلوقات الحيوانية وإن كانت لها قدرة على التكيُّف الذي يجعلها تستطيع أن تتجاوب مع البيئة بالغريّزة فإن القدرات الغريزية محدودة. حتى تلك الحيوانات لتي وهبها اللّٰه قسطاً من الذكاء مما جعلها تكتسب مرونة وقدرة نسبية على التكيُّف والتعلُّم فإن تكيُّفها هذا غريزي أكثر منه مكتسب بخلاف الإنسان فإن التعليم بالنسبة إليه أمر ضروري وتختلف هذه الضرورة باختلاف الظروف البيئية الثقافية والحضارية. لقد خلقه اللّٰه وزوّده بالقدرات التي جعلته أقدر المخلوقات على التعلُّم واكتساب الخبرات على اختلاف مستوياتها في التعقيد والتنوّع .
والثقافة هي البيئة الحضارية التي تنمو فيها شخصية الطفل، وتترعرع من كل جوانبها الجسمية والنفسية والاجتماعية والعقلية. وأول متطلبات هذه التربية التعليم، بأدق معانيه السيكولوجية والبيداغوجية. فالقدرات العقلية والخبرات النفسية، لا تنمو بطريقة سوية إِلا في بيئة ثقافية وتربوية، وحسب مقدار هذه البيئة من الثروة الثقافية تتكوّن ثروة الطفل الثقافية وعلى قدر فقرها وضحالتها ضعف خبرته الثقافية والتربوية، وهذا ما يجعل التربية ضرورية للكائن البشري وهي حق من حقوقه الحضارية وواجب من واجباته نحو أمته والإنسانية جمعاء.
فالأمة التي لا تؤمن لأجيالها ما تحتاج إليه من الرعاية والعناية ليست أمة متحضرة لأن الحضارة إذا لم تكن بمعنى ضمان الأمن وتأمين حاجة الإنسان إلى
الصفحة99
العناية والرعاية لا معنى لها على الإطلاق، إنه لا سبيل إلى البناء الحضاري غير سبيل التعليم.
فمنذ أن ابتليت الأمة الإسلامية بالاستعمار وهي تعاني من سياسة التجهيل عن طريق حرمان الأجيال المتعاقبة من حقهم في التربية، فقل العلم بقلة العلماء وضحلت الثقافة بضحالة المحتوى التربوي . ولما كانت الأمة الإسلامية أمة متحضرة شعرت بوطأة الحرمان من العلم والمعرفة، لأنها كانت في أجيالها السابقة كما يشهد بذلك تراثها تؤمن لكل راغب، وطالب على قدر رغبته وقدراته واستعداداته للتعلُّم الذي كان مجاناً في كل مستوياته، ومكفولاً لكل الناس وكان نظام الأحباس ضامناً لكل حاجات تمويلية، فلا يوجد جامع إلا وجمع من طلاب العلم على اختلاف تخصّصاتهم ما يدل على تأمين الأمة لحاجة أجيالها إلى التربية والتعليم .
ولما شرد طلاب العلم، ونفي العلماء، وهم روّاد التربية في الملة، خلت الزوايا والمساجد والجوامع، ومنعت المدارس والمعاهد من التدريس، ولم يبق في أغلب الأقطار الإسلامية إِلا المدارس والمعاهد الرسمية التي تموّلها وتراقبها السلطات الاستعمارية لخدمة سياستها، وتسيرها على نهجها، وتعمل على تحقيق أغراضها وأهدافها المختلفة .
فعن طريق هذه المؤسسات التربوية التي تشكّل امتداداً للمنظومة التربوية الاستعمارية جاءت مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي سنحاول التعرف عليها في الصفحات القادمة، ومن بينهما ديمقراطية التعليم .
ولما كانت الأمة بطبيعتها الحضارية تشعر بالحاجة إلى التعلُّم وترغب أن بكون التعليم وترغب أن يكون التعليم ذلك الذي يخدم أغراضها ويحفظ لها شخصيتها ودينها وأخلاقها وثقافتها وحضارتها. لذلك لقد وجدت نفسها أمام أمرين: الحرمان من العلم ومعارفه أو السياسية الاستعمارية التربوية وما تبثّه من سموم وما تنطوي عليه من غش ومكر. .. ولعل هذا ما يساعد على وجود مستوى من الوعي التربوي والسياسي فعندما تشرد طلبة العلم من الجوامع والمعاهد ومختلف المراكز التربوية الإسلامية، وحاول الاستعمار أن يرغم الناس
الصفحة100
على توجيه أبنائهم إلى مدارسه ومؤسساته قاطع الناس المؤسسات التربوية الحديثة الاستعمارية كالذي حدث في الجزائر، وغيرها حيث اختارت الأمة الأميّة على تعليم أبنائها الثقافة الغربية التي وضعت لها المدارس الرسمية. ولقد دام هذا الصراع مدة طويلة، وكان من نتائج صمود الشعوب المسلمة في وجه السياسة الاستعمارية التربوية بقاء الدروس المسجدية والجوامع والزوايا والمعاهد الإسلامية إلى اليوم. عندئذ صار في المجتمع الواحد نظامان تربويان متوازيان نظام استعماري حكومي والآخر أهلي، كما كان الشأن بالنسبة إلى مصر والسودان وباكستان وإيران وغيرها.
لقد جابهت المجتمعات والشعوب المسلمة سياسة التغريب والحداثة بالرفض لكل ما جاءها من الغرب والإعراض عن كل ما جاء به الاستعمار. إن تقارير الجيوش الغازية وبحوث المستشرقين تعترف بهذه الحقيقة وصارت خير شاهد على شدّة خوف الأمة على دينها وسائر مقوماتها الثقافية والحضارية، وصلابة موقفها من الغزو الفكري الذي لم يقل عن صلابتها أمام الغزو العسكري؛ ويصف هذا الموقف الواعي للأمة الإسلامية أحد المستشرقين، وهو «ڤالنتين تشيرول)) بقوله: «أمواج وغمار تتلاطم وينكسر بعضها على بعض ومتناقضات تتناحر، وآراء وأفكار غربية تتدفق من الغرب على حضارة قديمة بنت أجيالاً طوالاً ، فبعض يأخذ ولا يحسن الأخذ، وبعض يعرض ويلعن، وعقائد تتبدّد ثم تعود فتحيا، ونظم اصطناعية مضطربة1) .
إن هذه الملاحظة التي قدمها «ڤالنتين» تكشف بوضوح آثار الإيديولوجية الغربية على العالم الإسلامي وما كوّنته من ردود أفعال على مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية . .. إن ساسة الغرب لم يكونوا متوقعين أبداً صمود الشعوب الإسلامية أمام قهرهم الحضاري وشدة ثباتها على الإسلام وخاصة العوام من الأمة وأغلب علماء الإسلام. لقد كان أكثر رجال الغرب يظنون أن الغزو الحضاري سيتم بمجرد الانتهاء من الاحتلال العسكري، مع
الهوامش
(1) انظر حاضر العالم الإسلامي، ج 4، ص: 5، المصدر المذكور.
الصفحة101
أن المعارك المريرة التي انتهت بالسيطرة الاستعمارية لم تطل ولم تزد عن أربعين سنة أو خمسين سنة على الأكثر في البلاد التي كانت أشد مراساً وأقوى قدرة على الحرب. بينما المعركة الحضارية غطت كل عهود الاحتلال بل استمرّت إلى يوم الناس هذا في أغلب الأقطار الإسلامية. هذا وإن جهاد الشعوب المسلمة الذي خاضته من أجل بقائها على الإسلام ليعد من أنصع صفحات التاريخ للأمة الإسلامية، فاتخاذ الأمة هذا الموقف إلى النهاية أمام زحف حضاري عالمي طاغ لم يكن من السهل اتخاذه والصمود عليه إلى النهاية، لقد كان فعلًا من العسير على السلطات الاستعمارية فرض نظمها السياسية والتربوية والتشريعية على الشعوب الإسلامية، يقول ((اهلا بارير» في مقال له منذ ١٩١٠ : «قال بعضهم أما تركيا لم تكن على استعداد لتحيي الدستورية النيابية بعد الثورة. إنما ذلك وهم شديد. .. إن النظم التشريعية المدنية التي كانت عليها تركيا إنما هي أفضل أسس يشيد عليه الحكم النيابي. كان محمد يخي صاحب الرسالة الإسلامية يجعل الحكم شورياً بينه وبين صحابته، وقد جرى العلماء المسلمون وهم أقطاب الدين وذاته الشرع الشريف على هذا المنهج وما برحوا هكذا حتى اليوم يتشاورون ويستقرىء بعضهم بعضاً في شؤون مصالح المسلمين. فالشريعة الإسلامية هي ديمقراطية وشورية بطبائعها وجوهرها وعدو شديد للاستبداد) (١) .
إن قناعة المسلمين بسلامة دينهم وشموليته وسموه إلى أرقى مراتب العدل والمساواة والحكمة . .. جعلتهم في غنى عما جاء به الغرب من إيديولوجيات سياسية وتربوية وتشريعية. .. لذلك عند محاولة هذه الشعوب للرفض الفعلي عانت بسببها من مختلف ضروب القهر فقد انعكس هذا الرفض الفعلي على ما هو أعمق وأخطر، وأعني من ذلك أن القهر حول الرفض الفعلي إلى رفض نفسي، وهو ما جعل سياسة فرض البدائل الدخيلة تبوء بالفشل الذريع. إنه كلما كانت العملية الإصلاحية عملية قهرية قسرية كانت عملية سطحية تقوم على القوى الفعلية، وهو نفسه ما يحوّل الرفض الفعلي إلى رفض نفسي الذي لا سلطان عليه للبشر لذا فإن تمّ زرع الإيديولوجيات الحديثة على اختلاف
الهوامش
(1) انظر كتاب حاضر العالم الإسلامي، نفس المصدر، ج 4، ص: 59.
الصفحة102
أشكالها وفرضت النظم السياسية والتشريعية والتربوية على طريق السياسة الاستعمارية، فإن الرفض النفسي كان له أقوى مفعول على مر الزمن . إد حال دون نجاح السياسة الاستعمارية بأية حال من الأحوال، وحول موجة الإعجاب السطحي الآني بهذه الإيديولوجيات وغيرها إلى نقيضه أي الرفض. وبدأ هذا الأخير يأخذ أوضح حالاته في الأجيال الأخيرة التي تعيش مأساة خيبة الأمل الناشيء عن فشل هذه الإيديولوجيات.
ومهما يكن من أمر فإن الإزال على التعليم على اختلاف شعبه في السنوات الأخيرة يفسر ويعكس مدى وعي الشعوب الإسلامية بحاجتها إلى مضة حضارية شاملة وهو ما يفسر مدى عمق الصحوة التي بدأت تدب في العالم الإسلامي .
ولئن كان تعميم التعليم وتبني ديمقراطية التربية كوسيلة لتحقيق التكافل الاجتماعي وهو ما ساعد على انتشار المؤسسات التربوية عبر العالم الإسلامي، فإن هذه النظرة تبدو جد سطحية بدليل أنها تقف عند حد محاربة الأمية التي انتشرت في العالم الإسلامي مباشرة بعد الاحتلال وإعداد الكفاءات الفنية والسياسية والإدارية، والحل أن المشكلة هي أعقد بكثير مما تبدو من حيث هي مشكلة تربوية تعيد إلى الأمة اعتبارها كأمة ذات دين ورسالة ودعوة وحضارة، فالصراع العقائدي والغزو الفكري اللذان تعرضت لهما الأمة الإسلامية في هذه العهود جعلت مشكلة التربية من أعمق وأعقد المشكلات الثقافية والاجتماعية والحضارية تتجلى فيها حدة الصراع على اختلاف أبعاده الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذا السبب تمتزج المبادىء التربوية والسياسية وتتخذ ديمقراطية التعليم بعدها السياسي. من أجل ذلك وجدنا أنفسنا مضطرين إلى إعطاء فكرة ولو موجزة عن تطور مفهوم الديمقراطية في الغرب وأهم المشكلات التي نشأت عن تبنيها للمبدأ أو العمل به في أحدث النظم السياسية فالتجربة الغربية لا يشك أحد في ثرائها وهو ما يمكننا من استخلاص النتائج التي تضيء لنا السبيل وتساعدنا على فهم وتفسير كثير من الظواهر الناجمة عن انتحال هذه المبادىء والإيديولوجيات بالإضافة إلى معرفة التناقضات الناجمة عنها ومعرفة
الصفحة103
مواطن الزلل وهو ما يجعل الأخطاء تقل بكثرة المحاولات ومعرفة الخبرات الأجنبية. إن المجتمع الذكي هو ذلك الذي يستفيد من أخطاء الآخرين بقدر ما يستفيد أيضاً من محاولاته فتنمو معرفته بالصواب وقدرته على التخلص من الخطأ وتصبح الأمور أكثر وضوحاً وهو ما يجعله يقبل على الإصلاح عن بصيرة وقناعة، وذلك ما يضفي على العملية الإصلاحية صبغة الغائية والوعي، ففي هذا الصدد أفاد علم التربية المقارنة فائدة عظمى ساعدت على اكتشاف أسرار العلاقات المختلفة لأغلب العوامل ذات الأثر المباشر أو غير المباشر للظواهر التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
ونظراً لشدّة الارتباط والتداخل بين السياسة التربوية والسياسية العامة التي ينتهجها بلد ما فإن العلاقة بين الديمقراطية بمفهومها الغربي الحديث الإيديولوجي السياسي ومعناها التربوي جد وطيدة لذلك فإننا قبل أن نقدم المفهوم التربوي للديمقراطية سنحاول عرض وتحليل ومناقشة الديمقراطية صيغة ومفهوماً .
الصفحة104
الديمقراطية من الصيغة إلى المفهوم
منذ بيريلكيس BIRIIKIIS إلى اليوم ومدلول الديمقراطية يتطور ويزداد شعبا وتعقيدا، وكانت محاولات الفلاسفة والمفكرين ورجال السياسة والاقتصاد أن تجعل من الديمقراطية النموذج الذي يحتوي على كل فضائل الحكم من عدل ومساواة وحرية وإنسانية. كل ذلك في نطاق فلسفتهم أو إيديولوجياتهم من جهة ومفهومهم للإنسان والمجتمع من جهة أخرى، وعلى الرغم من محاولة الفلاسفة والمفكّرين والمصلحين والعلماء في مختلف العلوم الإنسانية والجهود الجبّارة التي بذلت في نطاق تطوير مفهوم الديمقراطية وإضفاء صبغة الشمولية عليه، فإن المفهوم ما يزال يعاني من التناقض والتطرف في النزعة الفردية تارة أو في النزعة الاجتماعية تارة أخرى. والسبب في ذلك اختلافهم المذهبي والنظري .
فإذا كان بيريلكيس BIRIIKIIS أول من صرّح بالديمقراطية وذلك عندما ألقى خطابه المشهور مؤبَنا ضحايا حرب بولوبوناس POIOPONAS فإن تعريفه للديمقراطية لا يخلو من اعتدال وشمول. قال: «ليست الدولة مسيرة لمصلحة الأقلية، بل هي عندنا - يعني الآتيتين - مسيرة لصالح الجماهير ولذلك أخذ نظامنا اسم الديمقراطية»(١)، بهذا المعنى يتضح بأن الديمقراطية هي حكم لصالح كافة المجتمع على اختلاف طبقاته حيث يتساوى الناس جميعاً أمام القانون قال بيريكليس: ((ففي ما يتعلق بالخصومات بين الخاصة فإن القانون يضمن المساواة بين الأفراد)) . ولما كانت الحياة الجماعية تتطلب المشاركة والتعاون لأن الأفراد يختلفون باختلاف قدراتهم واستعدادتهم ومكانتهم الاجتماعية فإن المشاركة في
الهوامش
(1)
Thucydid, Histoire de la Geurre du peloponnese, livre, 2 Chap.
الصفحة105
الحياة الاجتماعية ضرورية لكل الأفراد والذي يحدّد مكانة الفرد في المجتمع: إما كون المال والثروة أو العراقة العائلية، أو الطبقة الاجتماعية، فبالنسبة لبيريلكيس فإن الذي يحدّد هذه العلاقة هي الكفاءة لا غير، وكل الأفراد مدعوون في النظام الديمقراطي إلى المشاركة في الحياة العامة كل حسب قدرته، لا يخرج الفقير بسبب فقره أو الضعيف بسبب ضعفه فيقول: (وفيما يتعلق بالمشاركة في الحياة العمومية فإنها تكون تبعاً للجدارة وليس حسب الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. فالحالة الاجتماعية السيئة لا تمنع الفرد ولا تخرجه في تقديم خدمة للمدينة؛ إنه من واجب الدولة الديمقراطية أن تخدم مصلحة أكبر عدد، وتحقق المساواة بين الجميع أمام القانون، واستخلاص حرية المواطن من الحرية العامة ومساعدة الضعيف مع الأخذ بعين الاعتبار الجارة وجعلها في الصف الأول، وتحقيق توازن منسجم بين مصلحة الدولة ومصلحة الأفراد وتحقيق الانطلاق السياسي والاقتصادي والعقلي والفني للمدنية» .
ويفرق بيتر. ر. س(1) بين معنيين للديمقراطية، فبينما يعني الأول المعني الجوهري لماهية الديمقراطية، يعني الثاني المفهوم الأيديولوجي والتشريعي.
لذلك حسب رأي بيتر أنه لا علاقة بين المفهوم الإغريقي القديم والمفهوم الأيديولوجي الحديث. على أن آخرين يرون عكس ذلك تماماً ويذهبون إلى أن المعنى الأصلي الإغريقي ما يزال يكون القاعدة الأساسية للمفهوم الأيديولوجي، ويعتقد هؤلاء أن تطور المفهوم لا يغني عن المعنى الأصلي الأول. إلا أن حجة هؤلاء ضعيفة بدليل أن إدراك المعنى الحديث للمفهوم لا يتوقف على فهم الصيغة اليونانية القديمة، في حين أن الصيغة لا تؤدي إلى المفهوم الحديث الذي صار أكثر تعقيدا وأوسع أبعاداً وأبعد عمقاً، فإذا كانت الديمقراطية تعني عند أفلاطون وأرسطو وغيرهما من فلاسفة اليونان: «الحكم للشعب) فإن هذا الحكم في رأيهم هو حكم الرعاع، ومن ثم فإن هذا المفهوم يتضمن حكم قيمة، وبكل وضوح فهو يمثل عندهم أسوأ ما تؤول إليه أحوال التدهور السياسي. في حين أن أحسن النماذج
الهوامش
(1)
Petere. R.s. Ethes and Education, London George Allen Unrn LTD, 1966, P. 299.
الصفحة106
في رأيهم وأليقها للقيادة والريادة السياسية: هي نموذج النخبة التي يمثل الفيلسوف أرقى نوعياتها وأقدر شخصياتها على القيادة الرشيدة والريادة الحكيمة. وأما باقي مستويات الأمة كالجيش الذي يمثل عندهم القوة الغضبية والشعب الذي يشكل في نظرهم القوة الشهوانية، فما عليهما إلا الطاعة والتنفيذ. وإذا تركت هذه وظائفها وتطفّلت على وظيفة غيرها التي لم تخلق لها وسلبت الحكماء وظيفتهم التي لا يقدر عليها سواهم اختل النظام واضطربت الأحوال وتوقفت الوظائف وآل الأمر إلى سلطة الرعاع سلطة الشعب وعندئذ يصبح الحكم في رأيهم ديمقراطياً.
وعلى هذا الأساس نجد الفرق شاسعا بين هذا المفهوم الأول الإغريقي والمفهوم الحديث الذي يعتبر حكم الشعب كأحسن أنواع الحكم وأعدلها.
فلديمقراطية بالمفهوم الحديث الليبرالي والاشتراكي والشيوعي هي النموذج الذي يحتوي على مجموعة المبادىء الأساسية والأخلاقية والاجتماعية التي انتهى إليها التطور الاجتماعي والثقافي والحضاري في العصور الأخيرة.
والحقيقة أنه من العسير جداً على المرء أن يوفق بين مختاف مفاهيم الديمقراطية والتي صارت تختلف من فيلسوف إلى آخر، ومن إيديولوجية إلى أخرى في العصر الواحد، فبالأحرى إذا رجعنا إلى ذلك في مختلف العصور.
بالإضافة إلى جون لوك نذكر جون ستوارت ميل (١) وماتوي أرنولد فهؤلاء جميعاً وغيرهم يرون أن الديمقراطية بالمعنى الحديث تتضمن المفهوم العقلاني والأخلاقي، وعلى هذا الأساس فهي تتضمن إيديولوجية أساسها الحرية والمساواة والتسامح والكرامة(٢). وهذه المبادىء في رأي جون ستوارت ميل وآدم سميث تشكل الخطوط العريضة للاتجاه الإيديولوجي الليبرالي؛ فهي عقلانية لأنها من صنع البشر لا صلة لها بما هو سماوي فمردها دوماً إلى العقل الذي أنتجها وطورها وحدّد أبعادها وأغراضها. أما أخلاقيتها فتتمثل في محاولتها رد
الهوامش
Sorly, W.R.A. History of English Philosophy, Cambridje, at the University Press. 1967. (1)
P. 25 — 27.
Mill, john stuart, Civilisation, P. 42 — 43.(2)
الصفحة107
الاعتبار للإنسان والعمل على تمكينه من فرص العمل كي ينمي إمكاناته ويستخدم كل طاقته وينشط فعاليته ويجتهد من أجل فرض وجوده واستغلال حقوقه في الجماعة. وبهذا المعنى تصبح الأخلاق نفعية تحمي بتحديداتها للعلاقات حقوق الفرد وفي طليعتها حريته .
ومن هنا يبدأ الإشكال لأن المنفعة والأخلاق التي تبني على أساسها لا تكون إلا نسبية، والمنافع تتعارض. وفي هذا الحال كيف يكون الاحتكام إليها إذا كانت على هذه الحال من النسبية؟ وإذا كانت الأخلاق كما بين بينتام فهي أخلاق، ، ، الإنسان الأقوى، أو أخلاق معيارها المردود كما هو الشأن عند وليام جايمس (١) وجون ديوي فما هو حظ الضعيف والفقير من الأخلاق إذن؟ وكيف تكون علاقة الفقير بالغني والقوي بالضعيف ومتى تكون هذه الأخلاق عادلة أو أخلاقاً؟ فالأخلاق التي لا تعدل بين القوي والضعيف ولا تستطيع أن تصوغ العلاقة الاجتماعية صياغة إنسانية مرنة مفعمة بالرحمة والشفقة وروح التعاون إنما تصبح أخلاق الغاب أبعد ما تكون من المدنية لأن المدنية من خصائصها أن تؤمن للإنسان أي إنسان فقيراً كان أم غنياً قوياً كان أم ضعيفاً الضروري من شروط المدنية كالأمن والكسب والحرية والتربية. . .
أما الأخلاق الماركسية فتقوم على أساس مبررات الصراع الطبقي والثورة على الإجحاف الرأسمالي . عندئذ يصبح مبدأ تكافؤ الفرص يمثل أهم أخلاقيات الثورة البيروليتارية، وتصبح الديمقراطية عند ماركس وأتباعه محصورة في العدالة الاجتماعية .
على أن الأخلاق الماركسية الاشتراكية والشيوعية محدودة قاصرة سطحية إلى درجة أنها أعجز ما تكون على أن تحقق للضمير الأخلاقي قناعة اعتقادية ومناعة أخلاقية تسمو إلى أجواء الفضيلة ولهذا السبب بقي مفهوم الديمقراطية يعاني من الضعف الأخلاقي .
الهوامش
(1) وليام جايمس منيحا الأخلاق والدين.
الصفحة108
أما الفكر الديمقراطي الإنجليزي فمليء بمحاولات التوفيق بين النزعة الفردية والاجتماعية، على أن النزعة الفردية لا تزال طاغية فيعتقد جون لوك (1)
وجون ستوارت(2) ميل وويليام جايمس أن الديمقراطية تستوحي الحياة الجماعية المشتركة، ولكن الحياة المشتركة لا تنفي وجود الصراع والتعارض وعدم الإنصاف. لذلك هم لا يخفون من ناحية أخرى تحفظهم وتركيزهم على الحرية من حيث هي مبدأ من مبادئ التنافس الذي يجعل البقاء للأصلح، غير أن ماتوي أرنولد ينادي بضرورة العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص مما كان له الأثر الكبير على التربية البريطانية كما سنبين ذلك بعد حين .
إلا أن المفكّرين الآخرين لم يغفلوا جانب العدل. (فجون ستوارت ميل)) مثلا يرى أن كل الناس لهم نفس الحق والمنفعة في الحكومة العادلة التي تنشد العدالة للجميع، والذين لهم نفس الحاجة إلى الصوت الذي يضمن الحقوق المشتركة، على أن قانون (دعه يفعل)) يتطلب بالضرورة من جهة أخرى التنافس، كي يتم البقاء للأفضل. وهذا ما يجعل مبدأ تكافؤ الفرص لا معنى له .
ولذا يعتقد جون ستوارت ميل أن الديمقراطية أحوج إلى الحرية منها إلى المساواة (٣)، وهذا التناقض في الحقيقة لا يعكس فحسب غموض مفهوم الديمقراطية بل يبين كذلك غموض مفهوم المجتمع الحديث برمته. فشتان بين المجتمع القائم على التنافس وذلك الذي هو قائم على التضامن والتعاون. ففي النموذج الأول تعطى كل أهمية إلى الأقوى حيث يكون الضعيف لا أهمية له على الإطلاق. بينما يكون النموذج القائم على التكامل والتعاون جاعلاً مبدأ تكافؤ الفرص أساسيا لا بدّ منه، والحقيقة أنه لا معنى للديمقراطية ولا مبرر لها إذا لم تضمن المساواة وهذا ما يطرح السؤال التالي: هل يمكن أن ينحصر مفهوم الديمقراطية إلى المعنى السياسي فحسب أم ينعدى إلى المعنى الاجتماعي بالضرورة
الهوامش
Soriey, W.R.A. History of English Philosophy, cambridje, at the University Press. 1937, (1)
P. 121.
(2)
Writing of john stwart Mill, Boston. Beacon Press. 1959 P. 164 — 166. •
(3) نفس المرجع .
الصفحة109
وهل الحكم للنخبة أم للقاعدة؟ ثم ما هي الدولة التي تضمن تكافؤ الفرص لكل مواطنيها؟ فإذا كانت الحكومة الديمقراطية تستلزم الحكم العادل فما هي إذن المعايير التي على ضوئها يتم الاختيار؟ فبالنسبة إلى جون لوك فإن أفضل حكومة هي التي تضمن الحرية والمساواة لكل المواطنين(١) مع ذلك فإن مفهوم الديمقراطية عند لوك أقرب إلى المفهوم السياسي منه إلى المفهوم الاجتماعي .
فإذا كان الناس قد وهبوا مختلف المواهب والقدرات فإن غياب العدالة الاجتماعية يعرقل هذه القدرات ويعوقها على النمو والنبوغ فالدولة التي هي دولة النخبة تكون تربيتها كذلك. ففي هذه الحالة كيف يمكن للفقير أن ينمي مواهبه ويكوّن قدراته؟ وكيف يمكنه أن يصل إلى مراتب الحكم التي تحتكرها الطبقة المحظوظة؟ بينما تكون الدولة التي تضمن تكافؤ الفرص هي دولة الجميع دون أي احتكار؟ فالتعارض بين مفهوم دولة النخبة والعدالة الاجتهاعية واضح في المفاهيم الديمقراطية في الفكر الغربي القديم والحديث.
على أن أغلب المفكّرين الغربيين يميلون إلى الحرية في مفهومهم للديمقراطية. فمنذ أن حاول المصلحون الأوائل الذين كان لهم الأثر البالغ في نطوّر مفهوم الديمقراطية، فالحرية تمثل في الغالب أهم المحاور التي يدور حولها الفكر الديمقراطي، نذكر على سبيل المثال المصلحين الذين كان لهم أثر في تطوّر المجتمع الحديث الليبرالي والإنساني والطبيعي والماركسي، أما بالنسبة إلى رواد الاتجاه الإنساني مثل مارتن لورثر وكالقن وأرار موس فهؤلاء ركّزوا على إعادة الاعتبار إلى العقل والإرادة وأما الاتجاه الطبيعي فيعود في الغالب إلى أصحاب نظريات التعاقد الاجتماعي وخاصة جان جاك روسو، وجون لوك فالحرية عند هؤلاء حق طبيعي أو بتعبير آخر أن الإنسان حرّ بالطبع وإنما الحياة الاجتماعية التي تلزمه قيوداً تكون نتيجة تنازل الفرد عن حريته الوحشية مقابل منافع أخرى لا يمكنه الحصول عليها إِلا بواسطة الجماعة هكذا يرى روسو طبيعة الإنسان ونذا جاء مفهوم الديمقراطية عنده وعند جون لوك مرتبطاً بالحرية ارتباط
(1)
Social Contract. Translated by Tozer, H. London, George Allen. LTD. 1848.
الصفحة 110
الوسيلة بالغاية فالديمقراطية عند الطبيعين عموماً هي مجموعة الشروط التي ضمن حرية الفرد في الجماعة أو الدولة .
فالعهود التي ظهرت فيها نظرية العقد الاجتماعي، كانت عهود ظلم والاستبداد. بدعوة أن الملوك يتمتعون بالحق المطلق لا ينازعهم أحد. وللبرهنة على بطلان ذلك وحيفه أدعى أصحاب هذه النظرية أسبقية وجود الفرد على الجماعة. وأن الإنسان الطبيعي إنسان فرداني وأن نموذجه أمثل النماذج لأسعد إنسان .
فمنذ أن تنازل الإنسان الطبيعي عن حريته المطلقة ليعيش ضمن الجماعة تكوّنت الدولة نتيجة تعاقد الأفراد. ومن ثمة فأعدل دولة على الإطلاق في رأيهم هي الدولة الديمقراطية التي تسير بمقتضى رأي مواطنيها سواء عن طريق الرأي المباشر أو ممثلين شرعيين. ومهما يكن من أمر فإن الإرادة العامة تعتبر نابعة من إرادة انفرد، وبذلك تكون إرادة صادقة تعطي المعنى الحقيقي في رأيهم للذيمقراطية، التي على ضوئها يتحدّد مفهوم السيادة وخصائصها ودورها في الدولة الحديثة، ويصبح النفوذ جماعياً غير فرداني، بيد أن الدولة الحديثة يجب أن تضمن عن طريق التعاقد الاجتماعي، حرية الفرد. وعلى هذا الأساس يرى جون ستوارت ميل أن الحرية ليست مجرد حق طبيعي : بل هي أكثر من ذلك ضمان لاستقلالية الفرد واعتبار هذا الأخير أساسا مبدئيا للدولة الحديثة، ولإدراك الفرق بين الحرية الوحشية وحرية الحياة المدنية يوفق روسو بين المنفعة الفردية والمصلحة العامة وجعل الحكومة الديمقراطية تستمد نفوذها من الإرادة العامة. وردّ الاعتبار إلى الشعب الذي كان لا دخل له في الأمور السياسية بالمرة .
وعلى هذا الأساس حاول روسو بعد دحض حجة الحكم المطلق الذي كان سائداً في عصره، وإبطال مبرراته، أن يقدم نموذجه القائم على أساس نظرية التعاقد الاجتماعي، وكان فعلا لهذه النظرية أثرها الكبير في مفهوم المجتمع الحديث، لكن فكرة التعاقد الاجتماعي سواء أكانت تلك التي جاء بها جان جاك روسو أو تلك التي نادى بها جون لوك لم تقم على فرضية علمية أثبتتها
الصفحة111
التجربة بل هي خيالية المصدر. ومن ثمة فهي أقرب إلى الأسلوب الأدبي الجميل من المنهج العلمي القويم، فبقدر ما هي أقرب إلى العاطفة والفكرة الحماسية فهي أبعد ما تكون في نفس الوقت من الواقع الذي هو محك الحقائق ومعيار الخبرات والتجارب، ويعترف روسو بصعوبة العمل بما دعا إليه من المبادء من ذلك مثلاً تسليمه بمشكلة صعوبة تطبيق الديمقراطية بمعناها الحقيقي الذي جاء في العقد الاجتماعي. لكن هذا لا ينقص من قيمة جهد روسو إِذ عدّه المؤرخون للثورة الفرنسية من المنظرين لها الذين أعطوها البعد الإيديولوجي الذي زودها بالمبررات والأغراض حتى صار لها البعد الإنساني من الحرية والمساواة والأخاء .
أما الاتجاه الليبرالي، كأحد الاتجاهات الديمقراطية، فيعتقد بعض لمفكّرين الفرنسيين والإنجليز وغيرهم أنه كان أحسن الاتجاهات في ذلك العهد الذي كان أحسم عهود البناء الاقتصادي الأوروبي. فيقول جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي السابق: «إِن روحِ التنافس هي التي شجّعتها حرية العمل عملا بمبدأ(١) (دعه يفعل)، ومكّنت الجميع من المشاركة الفعّالة للبناء الاقتصادي الغربي وغيره وحفزت لبذل الجهود الجهيدة التي بفضلها قام هذا البناء الصناعي الهائل)).
فكانت قاعدتها الأساسية الديمقراطية الليبرالية التي جمعت كلا من الحرية والديمقراطية وصارا يكونان شيئاً واحداً. الأمر.. الذي ساعد كل المواطنين على بذل أقصى الجهود من أجل الانتاج مما شجّع على تنشيط الحركة الاقتصادية في أغلب الأقطار الأوروبية وغيرها.
والحقيقة أن الليبرالية التي كان لها هذا الشأن الذي أشار إليه جيسكار ديستان هي ليبرالية المبادئ المذكورة فكان بدافع الإيمان بتلك الشعارات كالحرية والأخوة هو المحرّك الأساسي. ولكن سرعان ما نشط الاقتصاد وتحركت المصانع
الهوامش
Condrect, Exquisse d'une tableau historique des progres de l'esprit humin V.G. de (1)
estaing Democratie Francaise, Paris Fayard, 1976.
الصفحة112
حتى استغلت تلك الحركة الاقتصادية استغلالاً فاحشاً [جعل الاتجاه الليبرالي يخرج من نهجه]، ويتحوّل إلى نظام سياسي طبقي يَبْتَلع فيه القوي الضعيف فضاعت فيه حقوق الضعفاء واستفحلت في مجتمعه التناقضات والصراعات الطبقية وما تعكسه من عدم العمل الاجتماعي والاقتصادي حتى صارت الديمقراطية لا تعني أكثر من شعارات سياسية تجري وراء الأصوات الانتخابية وحتى الانتخاب كان ولا يزال يستغل بشتى طرق الاستغلال. إذن فما معنى الديمقراطية بعد تجريدها من العدل الاجتماعي؟ وعندما لا يتحقق العدل الاجتماعي فما معنى الحرية وما معنى الأخوة؟
كثيرون أولئك المفكّرون الذين يعترفون بالحيف الليبرالي حتى من الليبراليين أنفسهم. فجيسكار ديستان نفسه يعترف(١) بأن الليبرالية التقليدية لم تعد قادرة على مجابهة أزمة المجتمع الحديث. لكنه يعتقد أنه يمكن إصلاحها على ضوء التطور العلمي حتى تستجيب لحاجات المجتمع وإلى تحقيق العدل الاجتماعي وفي هذا الصدد يعترف إذن جيسكار ديستان بعجز الليبرالية على توفير العدل الاجتماعي، وحاول في نفس الوقت تغطية هذا العجز بفتح مجال جديد أمام الليبرالية الحديثة التي تستمد مفاهيمها ومضامينها من العلم بدلاً من الفلسفة، لكن إن عجزت الفلسفة بما تتميز به من عمق النظرة النفسية، فمن يضمن نجاح العلم في تحقيق ذلك وأي علم يعني جيسكار ديستان يمكنه إنقاذ الليبرالية من كبوتها .
بينما روجي جارودي لا يرى ذلك ممكناً إطلاقاً فلا الليبرالية ولا الماركسية في اعتقاده يستطيعان مواجهة المعطيات الجديدة والقضايا المستجدة بمجرد الإصلاح، مهما كان هذا الإصلاح شاملا وجذرياً، ففي رأيه أن الإيديولوجيات القديمة ويعني (الليبرالية والماركسية) لا تستطيع أن تحل المشكلات الجديدة.
ومع ذلك أن كلا من الليبراليين والماركسيين يتفقون على توقع التغير الاجتماعي الذي صار ليس بإمكان إيديولوجياتهم الحالية إدراكه والتماشي معه،
الهوامش
(1) انظر البديل لروجي قارودي .
الصفحة113
لكنهم إن اتفقوا على التسليم بوجوده فقد اختلفوا في طرق مواجهته فعندما يرى الليبراليون الحل في تحديد البنى المختلفة الاجتماعية والاقتصادية فإن الماركسيين على ضوء الجدلية التاريخية يرون أن الثورة هي أحسن طريق لمواجهة التغير المرتقب. ومهما يكن من أمر فإن بعض المفكرين نذكر منهم على سبيل المثال :
بيارفيت والفريد فلوروك يرون أن الأزمة ما تزال قائمة إلى اليوم دون أن تجد طريقها إلى الحل المرضي والعلاج الكافي الشافي .والحقيقة أن المفهوم الليبرالي للديمقراطية وإن حاول أصحابه أن يوفقوا بين الحرية (بمعنى إفساح المجال للتنافس» والعدل الاجتماعي، إِلا أن ذلك لا يتجاوز حدود تلطيف حدّة الصراع الطبقي لكي لا تشعر الطبقة العاملة بالحيف ولا تتحفز للثورة، ومن ثمة فإن طابع التنافس ما يزال طاغياً على العدل الاجتماعي . وما تزال السلطة في يد أصحاب الثروة في أغلب المجتمعات الليبرالية باستثناء بعض الفترات التي تظهر فيها بعض الحكومات اليسارية كالحزب الاشتراكي الفرنسي، والحزب العمالي البريطاني.
أما المفهوم الاشتراكي والشيوعي للديمقراطية إذ ركز أصحابه على العدل الاجتماعي فقد أغفلوا الحرية إلى درجة خنق روح المبادرة، ولئن أدرك بعض الشيوعيين كالصينيين بعد ماوتسيتونك والشيوعيين والاشتراكيين الفرنسيين هذا الواقع، لكن المجتمعات الاشتراكية والشيوعية ما تزال تعاني من خنق الحرية ولم نصل فيها إلى الحد الأدنى من الحرية مما يجب في حق الأفراد ليبرزوا قدراتهم ويوظفوا فعالياتهم على أحسن الوجوه ويكونوا في مستوى الدفاع على حرياتهم.
على أننا نستنتج من كل ما تقدم إن أصحاب النزعة الليبرالية والاشتراكية على حدّ سواء شعروا بضعف وظلم الموقف المتطرّف في الحالتين من الحقوق الفردية والاجتماعية إلا أن هذا الشعور لم يستطع أن يقضي على الحيف سواء في المجتمع الليبرالي أو الاشتراكي والشيوعي لأن تحقيق الاعتدال والعدل في الحالتين وأن بدا ممكنا فذلك فقط في المستوى النظري أما تحقيقة في الواقع ليحتاج إلى أكثر من ثورة على كل من النظام الليبرالي والشيوعي وهذا غير ممكن أما حالة الامتناع في الأول فذكاء الطبقة الثرية الرأسمالية استطاع أن يخفّف من
الصفحة114
وطأة الفوارق الطبقية بتوفير وسائل الرخاء والمعيشة مما يجعل الطبقة الشغيلة المحرومة لا تعي ذاتها بل تكتفي بالحد الأدنى من المعيشة وإِن شعرت أن ذلك الرضا الظاهري على حساب حقوق أخرى ما دامت تلك الحقوق تبدو لها ليست ضرورية، ولذلك فهي لا تشعر بالحاجة الماسة (بفعل التخدير) إلى الثورة لأنها تعرف أن الثورة ستكلفها من التضحيات ما لا يمكن توقّعه وحصره وخاصة عندما ترى أن الطبقة الرأسمالية ما تزال تتمتع بالمكانة والقوة في المجتمع الليبرالي ،
أما سبب امتناع الثورة في المجتمع الاشتراكي والشيوعي فلأن درجة التخدير الإيديولوجي في هذه المجتمعات أعمق وأخطر إذ كيف يعي المجتمع الاشتراكي والشيوعي ضرورة الثورة على الثورة ومتى(1) .
هكذا نجد الديمقراطية بمعناها القديم تعكس أوضاع المجتمع اليوناني الذي يمثّل فيه حكم الشعب أسوأ أنواع الحكم وأردأ النماذج السياسية في حين أصبح المفهوم الحديث للديمقراطية يعني أنها أحسن النماذج وأعدلها وأقومها، لكن هذا لم يمنع من وجود خلاف جذري بين المفهوم الليبرالي للديمقراطية والمفهوم الماركسي سواء كان شيوعياً أم اشتراكياً. ولتطرف المفهومين عجز كل منهما أن يجمع بين الحرية والعدالة الشاملة بمعناها السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وما دام المفهوم الليبرالي والمارسكي للديمقراطية قائما على الصراع فإنه أصبح من المستحيل هذه المفاهيم أن توفق بين الحرية والعدل الاجتماعي...
الهوامش
(1)
Piyre Fitte. A. Le Mal Francaise, Paris. 1976.
الصفحة115
الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية
إِنّ أغلب قادة الغرب والمؤرخين المحدّثين. صفقوا لإِنتصار الحلفاء على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية بحماسة زائدة زاعمين إنه انتصار للديمقراطية ذاتها ووضع حد لعالم الاستبداد واللامساواة والميز العنصري والاستعمار والصراع الطبقي يقول الرئيس الأمريكي روزفالت: (إن الأمم حاربت لإيجاد عالم خال من الاستبداد والعنف؛ عالم مؤسس على الحرية والمساواة والعدل؛ عالم يكون فيه كل الناس بقطع النظر على اللون أو العنصر في أمن وشرف وكرامة»(١) فأين هو هذا العالم الذي حلم به روزفالت؟ فرغم التطور الذي حدث في مجالات كثيرة من مجالات الحضارة المعاصرة، ورغم إلحاح الأمم الصارخ على وجوب العمل من أجل تحقيق المبادىء التي نادى بهاروز فالت؟ ورغم إنسانيتها كما ذكر ذلك ماتوي أرنولد، رغم ذلك كله فالإنسانية ما تزال تعاني الأمرين من جرّاء الصراع الطبقي والظلم والاستعمار. لذلك نجد الحربين العالميين ليستا إِلا حالة من التأزم الحاد التي ظهرت. وما انتصار الحلفاء إِلا نتيجة جزئية لا ترقي إلى الحل الجذري والقضاء التام على الأزمة ودليلنا على ذلك أنه ما كادت الحرب العالمية تضع أوزارها حتى بدأت الحرب الباردة. ولعلّ الفرق الوحيد هو أن الحرب النازية كانت تلتهم ضحاياها من الأقوياء والضعفاء على حد سواء أما الحرب الباردة فأكثر ضحاياها هم الضعفاء، فالأزمة إذاً على مستوى العالم الحديث ما تزال تزداد حدّة، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنعتبر الحرب ونصر الحلفاء وغلب الألمان لم يزد الأزمة إلا حدة والمشكلة إِلا تعقيداً
الهوامش
(1)
Hans Nicholas comparative Education, London of P. 235.
ليكولاماتس، التربية المقارنة، ص: 235 .
الصفحة116
ومع ذلك كان من المتوقع أن الحربين العالميتين وانتصار الحلفاء، حماة الديمقراطية، من شأنهما يمهدان السبيل لتحقيق شعار الديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب .
أما بالنسبة إلى بعض المفكرين فهم لم يكونوا يتوقعون عدم تحقيق الديمقراطية فقط بل صاروا لا يطمئنون أيضا إلى غموض مفهومها. أما البعض الآخر من الشيوعيين(١) الماركسيين، فيعتقدون أنها عدالة اجتماعية بينما يراها الرأسماليون بأنها مساواة سياسية لا غير. والحقيقة أنه لا المعنى الأسمى ولا المفهوم الجزئي ، يستطيع أن يعطي الصيغة النهائية للديمقراطية، وإِن حاول البعض أن يوفق بين مختلف المقاصد المتعارضة، كما بينا فعندما بنى (كارل ماركس) جدليته ليفسر الصراع الطبقي ويضع فرضيته التي تقضي أن يتجاوز الصراع تناقضات المجتمع الرأسمالي ليحقق التسطيح في المجتمع الاشتراكي، فالشيوعي افترض النمو المتوازي للطبقة العاملة ورأس المال في وقت واحد، في حين أن التطور التكنولوجي الذي حدث بعد الحربين العالميتين أتى بنتيجة مخالفة تماماً لفرضية كارل ماركس، لأنه لم يقرأ حساباً ما أحدثته التطورات التكنولوجية من آثار، وهو ما جعل رأس المال ينمو دون أن تنمو معه طبقة العمال لأن الآلة عوضت الطاقة العضلية البشرية وهو ما جعل التنبوء الماركسي لم يتحقق فقط، بل ظهرت طبقة رأسمالية جديدة في بريطانيا، وغيرها، وصار حزب المحافظين يزداد قوة ونفوذاً. فأين هذا مما كان يتوقعه ((كارل ماركس)) من تحقيق المجتمع الشيوعي في بريطانيا. لقد أصبح العالم الحديث يعاني من مشكلات البطالة والتضخم والتبذير وتراكم الأسلحة المدمرة للعالم وغيرها من المفارقات التي هي أخطر بكثير من تلك التي كانت في عهد ماركس. ولئن كان لهذا الأخير فضل كبير في إظهار الحيف الاقتصادي في العالم الليبرالي وإعادة الاعتبار إلى الطبقة العاملة وإلى الإنسان فإن نظريته أصبحت عاجزة أما متطلبات القضايا المستجدة ودراسة المشكلات الجديدة المعقدة حيث الأمم الغنية تزداد ثروة على حساب
الهوامش
(1)
Gribble James. Editor. Mathew Arnold Educational Thinkers series. P. 35.
ماتوي أرنولد، المفكرون التربويون .
الصفحة117
الأمم الفقيرة وهو ما جعل الهوة بين الأمم الضعيفة والأمم القوية تزداد اتساعاً .إنه العالم الحديث في هذه الصورة، صار يعاني من أبشع مظاهر الظلم وأخطر حالاته ثم أن حصر نظرية قيمة العمل عند كارل ماركس فيما يبذله العامل فقط من جهد وغضه الطرف عما سواه من العوامل المساهمة في الانتاج جعل هذه النظرية تفقد صلاحيتها وتعجز بالتالي عن تقديم التفسير الاقتصادي الصحيح. وبطلان نظرية قيمة العمل عند كارل ماركس يترتب عليه بالضرورة كما يقول: ((بهوم باور)) بطلان نظرية فائض القيمة. إن علم الاقتصاد الذي تقوم نظرياته على أساس التوافق مع الواقع أصبح مضطراً إلى التخلص من التصور الميتافيزيقي المغاير كالتحليل الماركسي، فهذا الأخير كما يعتقد ريمون بار يستمد وجوده ليس من توافقه مع الواقع وإنما يستمده من الدور الذي جددته الفلسفة الماركسية، أما دليله على ذلك فهو أن كارل ماركس أخذ نظرية قيمة العمل من المدرسة الكلاسكية الإنجليزية ثم أعطاها مفهوما آخر في إطار للسفته ومفهومه للإنسان وهو ما حمل نقاد الماركسية إلى القول بأنها نظرة ميتافيزيقية أكثر منها نظرة علمية تحليلية. ودليلهم على ذلك أنك إذا حاولت أخذ ما في التحليل الماركسي من ما هو ميتافزيقي لا يتبقى فيه شيء يذكر. لهذا السبب يقول: «شويتار»: إِن نظرية قيمة العمل عند كارل ماركس أصبحت اليوم ميتة ومدفونة على أن علوم السياسة وعلم الاجتماع علوم ما تزال ترفل في ثياب الفلسفة القشيبة تحتاج إلى محاولات نقدية للتخلص من النظريات المغايرة ولن تستطيع ذلك إلا بالعودة إلى المنهج العلمي القائم على أساس الواقع، أن النظرية الماركسية ما تزال تشغل حيزاً من علوم السياسة والاينتماع وهي مع ذلك أبعد ما تكون عن التحليل الموضوعي لأنها فكرة. أيديولوجية أخذت من مظور ميتافيزيقي للواقع أنها نظرة مشبعة بالأحكام المسبقة تستمد مبرراتها من الإطار النظري الفلسفي للمادية التاريخية ومن ثمة فهي فكرة أليق بالحماسة الثورية الحركية منها بالنظرة الموضوعية السليمة والمنهجية العلمية القويمة لدراسة الواقع.
إن إفلاس هذه النظريات نظرياً بما تتضمنه من مفاهيم وقيم .... نجم عليه بالضرورة إفلاس للخطط الإصلاحية التي وضعت على أساسها سواء في
الصفحة118
العالم الغربي أم في غيره من أنحاء العالم الإسلامي، ومن أبرز مظاهر هذا الإفلاس في أمم الغرب انتكاس الفكر الديموقراطي وطغيان النزعة الإمبريالية على العالم الحديث. وأصبح هذا التقهفر للنزعة الديمقراطية يمثل نكسة أخلاقية حضارية سيكون لها أسو الأثر على العالم الحديث. إن الفكرّ الديمقراطي الذي كان ينضح بالعدالة ويطفح بالعاطفة الإنسانية ويتحمس لحرية الشعوب . .. في مرحلة ما بعد الحرب قد خاب أمله وتبددت أحلامه وبدت جهود المعتدلين من المفكرين ورجال السياسة عاجزة على أن توقف التيار الإمبريالي الاستعماري الذي أعاد الكرة من جديد في أيامنا هذه.
إذن إن تأزم الأوضاع في العالم تجاوز التفسير الجدي الماركسي والفهم الليبرالي عند كل المفكرين الليبراليين وجعل بالفعل الأيديولوجيات السائدة عاطلة بالمرة لأن هذه الأيديولوجيات قد دخلت بأصحابها مأزق التبذير الذي لا ستطيع أن تخرج منه أبدا فمجتمع الاستهلاك لا يستطيع أن يرجع إلى التقشف الذي هو شرط للبناء الاقتصادي الذاتي فلا المجتمع الرأسمالي ولا الليبرالي ولا لمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي يستطيع أن يوقف النزعة الإمبرالية الطاغية على العالم الحديث، فأزمة العالم لم تعد خاضعة للتفسير الأيدولوجي والتحليل الميتافيزقي والفكر المغاير للواقع ومعضلات العصر صارت تهدد الحضارة برمتها والإنسانية بأجمعها وأوضاع العالم الحديث ما تزال تبعث على القلق والريبة وما تزال الأيام تزودنا بما لم نكن نتوقع، وكدما انكشف الأسرار يتزايد تساقط الأقنعة وينكشف لنناس زيف الشعرات ويتبين لهم عجز الأيديولوجيات الشرقية والغربية التي طالا خدرت العقول وجمدت الضمائر وخيبت آمال الأجيال .
ما أعظم التاريخ وم أهم دروسه ولكن ما أكثر العبر وما أقل من يعتبر
قال تعان: فِ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُواْ الْأَلْبَبِ).
الصفحة119
الإيديولوجية الديمقراطية في العالم الإسلامي عندما يرى دهاة الاستعمار فشل سياسة القمع، والقهر ويواجهون بثبات المسلمين على دينهم، يلجؤون إلى الدهاء والمكر، ويستخدمون طرقاً لا تثير غيرة الشعوب، ولا تستفز عاطفتهم، ولا تلفت انتباههم بالمرة. فيستعملون التخدير الإيديولوجي والتضليل الدعائي تحت شعار الديمقراطية والمدنية مستخدمين لذلك الغرض مختلف وسائل الأعلام والتربية والتعليم والفساد الأخلاقي ووسائل الترفيه ومختلف الفنون والتقنيات. بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فأسسوا معاهد عليا جامعية وما بعد الجامعة (ككولاج دوفرانس» في باريس ومعاهد الدراسات الشرقية في مختلف الجامعات البريطانية والأوروبية. الغرض منها تكوين وتخريج خبراء وعلهاء متخصصين في العلوم الإسلامية. وفي رأيهم أن محاربة الإسلام لا يتأتى إلا عن طريق معرفته فعلى الرغم من وجود معتدلين منصفين في دراستهم جادين علماء موضوعيين قدموا دراسات خدمت الإسلام والمسلمين فإن أغلبهم كان حرباً على الإسلام والمسلمين لم يعرف لهم مثيلاً في الدهاء والكيد. فوضعوا الإسلام في قفص الاتهام ونسبوا إليه ما هو ليس منه وهو منه براء، فاتهموه بالاستبداد وهو عدل وشورى بصريح القرآن: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا قَوَامِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُواْ أعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (النساء : 135) وقوله تعالى:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ) ووصفوه بالعنف وهو لين ورحمة يقول تعالى : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَا نَفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلْأَمْرِ)
ونسبوا إليه التأخر الذي آل إليه المسلمون وهو سبيل الهدى ونهج الصلاح والفلاح
الصفحة 120
والصراط المستقيم قال اللّه عز وجل: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاْ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
وقال تعالى: ( دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ) وإذا ضالبتهم بالدليل الذي يثبت زعمهم ردوك إلى حال المسلمين وما آل إليه أمرهم من فساد وتناقضات وضعف ووهن ويتحايلون عن الحقائق التاريخية التي لا تخفي على عاقل من ذلك إن ما أصب المسلمين من تدهور إنما سببه الرئيسي ضعفهم في دينهم وتهاونهم في العمل به كما كان قد عمل به أسلافهم الذين سادوا وبحظ الدارين فازوا ومن ثمة يكون الإسلام حجة عليهم وليس العكس وإلا انقلبت الحقائق ويعود الباطل حجة على الحق والفساد حكما على الإصلاح فتعكس النتائج بعكس المقدمات. عندئذ كيف يستقيم منطق ويصح منهج وكيف يتأتى الوصول إلى حقيقة صحيحة تمكن البرهنة على صحتها؟ وتتأتى لنا الثقة فيها .
إن قصدهم هذا من تزييف الحقائق تضليل الناس وتنفيرهم من الإسلام ونحريض خصومه على محاربته وإخلاء الساحة الثقافية في البلاد الإِسلامية من عقيدته الصحيحة وشريعته السمحاء ومفاهيمه الجامعة المانعة الدقيقة وحكمه البالغة التي تشمل الميادين كلها وتغطي كل مجالات الحياة الروحية والمادية والثقافية والحضارية. فكلما اتجه مفكروا الاستعمار إلى ميدان لإفساده وجدوا الإسلام إمامهم حصناً حصيناً وسداً منيعاً وهذا ما جعل تشرب إديولوجياتهم وتحقيق التغريب كهدف سياسي رئيسي أمراً عسيراً. لكن الطرق الخبيثة التي استخدموها لمحاربة الإسلام وبث الدعايات لتشويهه كادوا يحققون بها غرضهم وهو عزل الإسلام عن الحياة لتخلوا ساحتها لأديولوجياتهم وقيمهم وخاصة في مرحلة الاستعمار الجديد .
كل ذلك ظناً منهم أن الأمة الإسلامية سوف تتحول في يوم ما ناكصة على عقبيها تاركة دينها الذي به عصمة أمرها. وإن حصل ذلك تدريجيا فيميل بعض
الصفحة121
االمغروريين من أبنائها إلى تقليدهم، ويسيرون مطيعين على الدرب الذي قصدوه وأقبلوا على البديل الذي انتحلوه ووقعوا في التبعية لا محالة إلى أجل لأن أعداء الإسلام يعتقدون أن ما يمكن للأمة الإِسلامية أخذه من قشور حضارتهم لا بسمن ولا يغنى من جوع لأن بدائلهم التربوية كانت غايتها تكوين (حرفي الثقافة» على حد تعبير مالك بن نبي ومقلدين لا قدرة لهم على التجديد والإبداع والاختراع إلا في الأمور البسيطة والخبرات العادية والمعلومات السطحية وتعميم المستوى الرديء، واكتساب الثقافة الشكلية اللفظية. لذلك كان حرصهم على تعليم لغتهم نال كل الحرص. ففي الهند وباكستان وإيران وغيرها وجه الناس إلى تعليم اللغة الإنجليزية بينها أجبرت شعوب على تعليم اللغة الفرنسية في أغلب الأقطار التي كانت تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية كالجزائر وتونس والمغرب والنيجر والسنيغال. .. إلى درجة أمسى فيها المسلمون الذين كانت تجمعهم لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة كما جاء في صحيح السنة عندما يلتقون في موسم الحج يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعامل في الغالب باللغة الفرنسية أو الإنجليزية باستثناء القلة القليلة منهم الذين هم يحسنون اللغة العربية فالاستعمار كان يدرك منذ زمن أن جدار اللغة أصعب - من جدار برلين - والحواجز اللغوية أهم من الحدود الاعتبارية التي جزأت العالم الإسلامي . لأن هذه الأخيرة إن جزأت العالم الإسلامي ماديا فاللغات جزأته ثقافياً وفكرياً تمهيداً للتجزئة العقائدية بواسطة الاتجاهات الأيديولوجية العقلانية المختلفة التي تجعل عملية التمزق ذاتية داخلية.
ولما كان عهد مقاطعة الأهالي للتربية الاستعمارية ورفضهم لتسليم أبنائهم إلى مؤسساتها قد طال، وما تبقى من كتاتيب قرآنية وزوايا وجوامع لطلبة العلم لم تعد كافية، طغى الجهل، وانتشرت الأمية، وتحول المجتمع الإسلامي الذي كان ينضح بالثقافة الإسلامية الثرية ويطفح بالمعارف المتنوعة إلى مجتمع يعاني من استفحال الأمية وكانت هذه الأخيرة قبل الاحتلال تكاد تكون معدومة في مختلف الأقطار الإسلامية، فقل العلماء في كل مجالات المعرفة بقلة المؤسسات التربوية العليا بسبب منعها ومضايقة العلماء حيث لم يبق في العالم الإسلامي إِلا الأزهر والزيتونة والقرويين وبعض المعاهد والجوامع في الهند والصين وباكستان وإيران
الصفحة122
بالإضافة إلى مسجد الرسول جع بالمدينة وغيرها من مدائن المشرق والمغرب وكان لا يلتحق بها إلا قلة لبعدها وقلتها على أن بعض الأهاي انصاعوا إلى الضغط الاستعماري تحت وطأة الظروف القاسية فأرسلوا أبناءهم إلى المدارس الاستعمارية وصار في البلاد الإسلامية نوعان من المتعلمين في مؤسسات إسلامية والأخرى غربية فأما المتعلمون في المؤسسات التربوية الإسلامية فهم ينقسمون أن قسمين منهم من حمل لواء الإصلاح وراية الدعوة الإسلامية وتفرع لتوجيه الأمة الوجهة الإسلامية وتصدى للغزو الاستعماري العسكري والسياسي والفكري بكل ما أوتي من علم وفضل وشجاعة وثبات، وهؤلاء بالنسبة إلى غيرهم كثرة، ومنهم من قعد عن ذلك اجهاد وتأخر وامتهن الإمامة والقضاء بدخرهم الرضيف التابع للإدارة الاستعمارة وهؤلاء كانوا قلة .
وأما من كان تعنيمهم في المدارس والمعاهد واجامعات الغربية وعددهم قديل بالنسبة إلى عدد السكان الأهاي في كل قطر من الأقطار الإسلامية كما بينت حصائيت اليونسكو في تلك الفترة وهم أيضا قسمان : منهه من حمل شعل اننضان والدفاع عن حقوق الأمة فأنشأوا الأحزاب السياسية وكونوا مع نعء المسلمين جبهة سياسية وثقافية. فهؤلاء وإن نشبعوا بالفكر الغربي الذي نشوا عليه منذ الصغر فإنه م يمنعهم تقبلهم للثقافة الغربية من التشبث بأهداب دينهم الإسلاء وإن جهلوه. والثبات عليه وإن كلفهم ذلك الكثير من المتاعب خاصة وقت مزاونتهم الدراسة في المؤسسات الاستعمارية لأن محاربة هذه الأخيرة للإسلام م تكن خفية .
أما النوع الثاني فلعدة أسباب وقعوا في أحبولة الاستعمار والتقرب إليه والعمل معه في تحقيق مخططاته الاستعمارية وهؤلاء قلة في أغلب الأقطار الإسلامية مما يدل دلالة واضحة على فشل السياسة التربوية الاستعمارية وعدم قدرتها على استقطاب غالبية المثقفين من أبناء المسلمين .
لكن بواسطة هؤلاء وغيرهم تسرب الفكر الغربي الأيديولوجي وغيره.يقول شوستز صاحب كتاب - خنق العجم -: (وأما المتعلمون الذين طلبوا العلم خارج بلادهم وقاموا بسياحات كثيرة في الممالك الراقية فيعدون بالمئات وقد أظهر
الصفحة123
جميع هؤلاء استعداداً لاقتباس الآراء الغربية والأخذ عن الحضارة الأوروبية وهم الذين قاموا بدك صروح الاستبداد دكاً ورفع علم الدستور والديمقراطية خفاقاً، بعد أن ذللوا الصعب وركبوا الهول وعلى أيدي الجكومة التي أنشؤوها انتشر العدل بين الناس»(١). يتعين من هذا الشاهد أن الذين كان لهم الاستعداد التام لتقبل كل ما جاء به الغرب من مفاهيم وأيديولوجيات هم أولئك الذين تأدبوا بأدب الغرب في المدارس وسائر المؤسسات الغربية التي زرعت في إيران كما زرع في غيرها من باقي الأقطار الإسلامية .
مع العلم أن هؤلاء الذين تثقفوا في المؤسسات الاستعمارية وإن نبه فيهم قلة فأغلبهم لم يكن مستوى تحصيلهم يسمح بالقدرة على النقد والتحليل والمناقشة الموضوعية العميقة لمختلف جوانب هذه الأيديولوجيات واكتشاف نقاط القوة والضعف وما نشأ عنهما من تعارض وتناقض إلى غير ذلك. ويقفون على المسائل التي جدت عند مناقشتها ووضعها في محك التجربة ليعرفوا ما يمكن أخذه عن وعي ودراية وما يجب تركه عن قصد وعلم. وإذا كانوا عاجزين على نقد الفكر الأيديولوجي وتحليله ومناقشته فإنهم لا يقدرون بالطبع على تجاوزه سواء كان ذلك التجاوز عن طريق دراسته هو كفكر أم دراسة التراث الإسلامي يخرجوا منه بجديد بحيث يكون الأخذ والترك عن دراية إلا ما رحم ربك من . أمثال السيد قطب ومالك بن نبي ومحمد إقبال وشكيب إرسلان .
على أن محاولات ظهرت في هذا الصدد نذكر منها محاولة محمود أبو السعود والسيد بدوي وباقر الصدر وغيرهم... وعيسى عبدو ولقد بينت هذه الدراسات أن في الإسلام مفاهيم وقيم اقتصادية كافية لتكوين أسس ومبادئ نظام اقتصادي متكامل، له خصائصه وميزاته التي تتفق مع طبيعة الأمة الإسلامية اتفاقاً لا يشوبه تناقض ولا تضارب، فعلى الرغم من أن هذه المحاولات ما تزال في طورها الأول تحتاج إلى دراسات وبحوث تطورها وتثريها مما يزيدها دقة وشمولاً وقدرة على العمل بها في مجالات الاقتصاد والسياسة فإنها
. The strangling of persia كتاب خنق العجم Shuster سوشتر (1)
انظر كتاب حاضر العالم الإسلامي، ج 4، ص: 62.
الصفحة124
صارت حجة على بطلان القول بالتوفيق وضرورة انتحال الأيديولوجيات كخبرات أجنبية مهما كان مستوى رقيها وتطورها.
أما المنتحلون للأيديولوجية الغربية والشرقية فقد بقي عندهم مفهوم الديمقراطية مرتبطاً بالاتجاه الأيديولوجي كما هو عند أصحابه فالإشتراكيون العرب مسلمون أو غير مسلمين أخذوا بمفهوم الديمقراطية التي قال بها كارل ماركس وأنجلز كما تقدم، في حين التزم كل أصحاب الاتجاه الليبرالي بالمفهوم الليبرالي للديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية. ومن ثم لم نجد أي محاولة أعطت مفهوم الديمقراطية مزيداً من العمق أو الشمول كأن تجمع بين الحرية من حيث هي إفساح لمجال التنافس والعدالة الاجتماعية كما حاول ماثوى أرنولد في بريطانيا والصينيون أخيراً بعد ماوتسيتونغ. بل كثيراً ما نجدها أكثر تطرفاً عند الماركسيين العرب منها عند ماركس نفسه في حين أيضاً تطرف الليبراليون في فكرة التنافس أكثر من آدم سميت ذاته فباستثناء هذا التطرف يمكن القول بأن المفهرم بقي كما هو على المستوى النظري، فهؤلاء ! يتجاوزوا مستوى، تبني فكرة الأيديولوجية على علاتها والدعوة إليها. وكأن الديمقراطية في رأيهم بلغت في نفكر الغربي والشرقي غايتها في العدل ونهايتها في المجال الأيديولوجي والرقي السياسي، وممن يقول بهذا الرأي أحمد حسن هيكل وايلي سالم وسلامة موسى من القومين والإشتراكيين العرب .
ولئن زعم هؤلاء محاولة التكييف والتصرف فلم تتجاوز محاولتهم التغيير انشكي لا يهام الناس مطابقتها للأوضاع الثقافية والاجتماعية المجيبة والقومية، وممن يمثل هذا الاتجاه: سلامة موسى وإيلي سالم وخالد محمد خالد، وعلي عبدالرازق، فهؤلاء زعموا أن ما جاءت به هذه الأيديولوجية من مفاهيم وتصورات، قد فاق الأيديولوجية السابقة وما على الإسلام إلا مواكبتها ومسايرتها، على أن هؤلاء وصلوا إلى هذه النتيجة دون أن يطلعوا على ما في الإسلام من مفاهيم وقيم، والغريب كيف سمح هؤلاء لأنفسهم بالحكم على ما نجهدون والحكم على الشيء فرع عن تصوره وإذا كان هناك من يعرف الإسلام منهم وقال بقابليته لكل الأيديولوجيات والنظم الحديثة على اختلاف أشكالها من أصحاب العمائم فهم في موقفهم هذا لا يخلون من أحد الأمرين .
الصفحة125
إما أن يكونوا جاهلين بحقيقة هذه الأيديولوجية لا يعرفون عنها إِلا الشعارات والمعلومات البسيطة التي لا تساعد على معرفة الأغوار والأسرار. وإما أنهم عالمون بحقيقتها لكنهم متملقون للشرق والغرب ولمن تبعهما من الحكام . وفي الحالتين لا يقبل منهم رأي لأن الرأي للعدول وهم في هذا الحال ليسوا عدولاً بالمرة ويمثل هذا النوع خالد محمد خالد(1) في طور افتتانه بالتغريب وعلي عبدالرازق(2) وأمثالهما الذين لا يخلو منهم قطر على أن البعض الآخر حاول التوفيق بين الإسلام والديمقراطية في الفكر الليبرالي والماركسي بناء على ما في الديمقراطية من جوانب لا تخلو من العدل وإعادة الاعتبار إلى الشعب والحرية . .. فهي في هذه الحال تلتقي مع الإسلام بلا ريب ومن ثمة يمكن القول في رأيهم بإمكانية التوفيق لإظهار ما في الإسلام من محاسن يمكن أن تجعل المنصفين من أصحاب
•الأيديولوجيات الشرقية والغربية يعترفون بما في الإسلام من فضل إذ يحتوي على المرامي التي جعلتهم يعتنقون تلك الأيديولوجيات وإذا ما علموا علم اليقين أن الإسلام قادر على مواجهة القضايا المستحدثة بنفس القوة التي نجابه بها الأيديولوجيات الحديثة من قضايا العصر، أقبلوا عليه كما أقبلوا على الأيديولوجيات الحديثة وخاصة إذا ما وجدوه أحسن وأفضل.
ويمثل هذا الرأي محمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهما والحقيقة أن محاولات التوفيق ليست جديدة في الفكر القديم والحديث. لقد حاول فلاسفة القرن الخامس عشر والسادس عشر التوفيق بين الفلسفات القديمة وفلسفة الكنيسة على ما بينهما من الاختلاف كمحاولة كالقن ومارتن لوثر وغيرهما، وظهرت محاولات من فلاسفة الإسلام كالكندي والفارابي وابن رشد.
أما محاولة الفارابي للتوفيقية فلم تقف عند حد التوفيق بين أفلاطون وأرسطو على ما بينهما من الاختلاف حيث أن أفلاطون مثالي وأرسطو واقعي والتوفيق بينهما من قبيل التوفيق بين الأضداد حاول أيضاً التوفيق بين الفلسفة والدين وأما ابن رشد فقد حاول التوفيق بين العقل والدين في كتابه الذي رد
الهوامش
(1) خالد محمد خالد، من هنا نبدأ .
(2) علي عبدالرزاق، الديمقراطية أبداً .
الصفحة126
فيه على تهافت الفلاسفة للغزاني - تهافت التهافت - والسبب في ذلك أنه كثيراً ما يبدو التوفيق ممكنا حتى في اخالات التي يكاد يكون التوفيق فيها من قبيل المستحيل كالتوفيق بين الأضداد فيبدو ممكناً عندما يبحث المقارن على التماثل أو التشابه مع غض للطرف عن وجوه الاختلاف مهما كانت هذه الحالات التماثلية جزئية كأن يكون بها صلة بين الموضوعين الذين هما موضوع المقارنة من أجل نتوفيق وفي هذه الحالة إذا كانت الديقراطية في المفهوم الاشتراكي والشيوعي تعني العدل الاجتماعي كما بينا.
والإسلام يركز بدوره على العدل حتى يجعله أساساً للعلاقات امختلفة بين الحاكم والمحكوم وغيرهما فينطلق المقارن من هذا التماثل اجزئي إن الزعم بأن الديمقراطية بالمفهوم الماركسي الاشتراكي أو انشيوعي يتفق مع الإسلام وكذلك الشأن مع باقي المفاهيم الأخرى. على هذا الأساس الخاطيء منطقياً يصبح الحكم على الجزء حكما على الكل وهذا باطل طلاقٌ لأن اجزء لا يستغرق الكل بينما يستغرق الكل جميع أجزائه ؛ لهذا تكون لحولات الترفيقية قائمة على التصور الذري أو اجزئي لأن التصور الشمولي أنكي يرفض فكرة التوفيق رفضاً تاماً. فالكليات المغايرة بالضرورة لغيرها من الكليات التي ليست من نفس المصدر والمنهج والشريعة فكل كلي في شريعة ما أو منضومة ما يختلف مع كل آخر يناقضه في الأصل .
وهذا ما جعل الجهود التي بذلت من أجل التوفيق بين الإسلام والأيديولوجيات لإ تثمر شيئا والسبب في ذلك أمور منها :
-1 عدم القيام بنقد مرضوعي على مستوى القضايا المستجدة والتي عجها الإسلاء وتناونتها الأيديولوجيات المختلفة وعدم التأكد من طبيعة موقف كل منهما وم إذا كانت مواقفها متكاملة أو مختلفة وأيهما يضطر إلى الأخر .
-2خلو المخاولات التوفيقية من الجهود النقدية الموضوعية لكل من الإسلام والأيديولوجيات موضوع التوفيق ما يجعل الدراسة في مستوى النظرة الكلية الشمولية واكتشاف وجوه الاختلاف والفروق وما إذا كانت الاختلافات
الصفحة127
والفروق على مستوى الفروع فقط أم تمتد إلى مستوى الأصول ثم التأكد من إمكان التوفيق أو عدم الإمكان بنزاهة وأمانة وموضوعية.
- 3عدم إثبات عجز الإسلام وإثبات عدم قدرته على معالجة القضايا المستجدة في العالم المعاصر إلا باستناده على هذه الأيديولوجيات ومبررات افتقاره إليه لأنه ما لم يثبت عجزه وحاجته لغيره زال مبرر التوفيق .
- 4عدم إثبات استحالة البحث والتحقيق للتراث الإسلامي والتوصل إلى اكتشاف نماذج إسلامية يجعل المسلمين في غنى عن انتحال الأيديولوجيات الغربية والشرقية.
أما إذا كان في التراث الإسلامي ما يكفي لقيام نظرية إسلامية كاملة قائمة على أساس الشريعة في مستوى القضايا السياسية والاقتصادية فتصبح القضية إذن قضية بحث ودراسة وتحقيق وتنقيب. .. فهذه المشكلة يمكن حلها مجرد انشاء معاهد للبحوث الإسلامية في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع . . . وعندئذ تصبح المسألة مسألة وقت وجهد منهجي واعي وإذ تخدم هذه الاكتشافات الإسلام والمسلمين تقدم أيضا للعالم الحديث ما هو في حاجة إليه من الحلول لتجاوز أزمته .
- 5إن قيامها على مسلمات خاطئة جعلها تفترض النقصان في الكامل والكمال في الناقص حيث اعتبرت الإسلام لقيامه على الوحي ناقصاً بل غير مقبول بينما افترضت صحة الأيديولوجيات وكمالها وهي قائمة على العقل المتطور والقول بتطور العقل باطراد هو إقرار صريح بنقصانه فإِذا كان المصدر الأيديولوجي هو العقل وهو ناقص فكيف تكون هي كاملة؟ ثم راح هؤلاء يخضعون الإسلام إلى هذه الأيديولوجيات. مع العلم أن إخضاع الكامل للناقص يحول الكامل ناقصاً بالضرورة وهذا عين الخطأ الذي حدث لكل من اليهود والنصارى عند تغيير كتبهم السماوية بدعوى الإصلاح.
- 6إن مجرد الاعتماد على التطابق الجزئي لا يفيد أبداً معنى حقيقة إمكان التطابق الكلي بينما العكس هو الصحيح .
الصفحة128
فالذين يعتبرون أن الإسلام كل لا يقبل التجزئة حجتهم دامغة بصريح القرآن والسنة لا يقبلون التوفيق لأنهم يدركون ما يحدثه التوفيق من التناقض نيس فقط على مستوى الفروع بل كذلك على عمق الأصول التي تعد مخالفتها مخالفة لروح الشرع لأنها قطعية (1).
أما صاحب النظرة الذرية أو الجزئية فيكفي أنهم يعثرون على جزء أو عدة أجزاء متماثلة أو متشابهة بين مجموع القيم ليجرؤوا على ادعاء التماثل والتقارب فيتحول التشابه الجزئي إلى تماثل كلي وهذا عين الخطأ لأن الحكم الجزئي لا يعمم باعتبار اجزئي لا يستغرق الكلي بالمرة بينما العكس هو الصحيح. فاحذر إن كنت أريبا .
أما بالنسبة إلى علهاء الإسلام. فهم لا يشكون في كمال الإسلام، وإنه بقتضى كماله يستلزم بالضرورة كمال عدله، بحيث يجعل الحرية والعدل لاجتماعي اللذين هما على طرفي نقيض في الأيديولوجية الغربية والشرقية شيئا واحداً لا تعرض بينهما. بل كل منهما يكمل الآخر، ولا تتناقض مصلحة الفرد ومصلحة اجمعة، كم تتناقض في المجتمع الاشتراكي والشيوعي والليبرالي، ولا نكون ثروة الأغيناء على حسلب الفقراء. كما هو الشأن عند الليبراليين، ولا نتصارع صبقة غنية مع طبقة فقيرة، كما هو في المجتمع الليبرالي حس التصور مركسي. بل يربط بين المسلمين الإسلام الذي سوى بين الناس جميعاً : «لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى)) فآخى بين سمين جميع لتحقيق التكامل والتعاون والتكافؤ كما آخى الرسول وية بين مهجرين والأنصار .
والحقيقة أن القول بشخصية النموذج الإسلامي المتميزة لا مبالغة فيه فكل الدارسين للإسلام والعالمين بخصائصه والمطلعين على حقيقة الأيديولوجيات القديمة واحديثة لا يختلفون في تميزه عن غيره من الديانات
الهوامش
(1) الشاطبي ، اموافقات، تحقيق عبدالله دراز، المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد علي، مصر .
الصفحة129
والنظريات الفلسفية المختلفة. فهذه حقيقة تدعمها مصادره وخاصة القرآن الكريم والسنة كما يثبتها أيضا تاريخ الفكر البشري القديم والحديث.
وإذ اعتمد الإسلام على كل من الوحي والعقل نلاحظ أن الأيديولوجيات الحديثة رفضت كل ما هو رباني ولا تقبل إلا ما كان مصدره العقل وحده وإن خالف هذا الأخير الشرع وهذا ما نبه إليهِ علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وغيرهم. وإذا كان المشَرّع في الإسلام هو اللّه فإن المشرع في الأيديولوجيات الحديثة هو الإنسان وإذا ظل الإنسان المشرع إنساناً فكيف يشرع الإنسان للإنسان وكيف يكون العدل وأنت الخصم والحكم؟ ولذلك تجد المبرر الأساسي الذي تستمد منه هذه التشريعات الأيديولوجية شرعيتها هو الصراع والتنافس وليس هو أبداً العدل والمساواة. .. بينما أقام الإسلام شريعته على أساس العدل والمساواة بدأ بالقضاء على مبررات الصراع ذاتها من الاحتكار والربا والظلم والاستبداد. .. وضمان الحريات.
من أجل ذلك حددت القيم والمفاهيم تحديدا لا يقبل التبديل في كليات قطعية لا ظنية. كل هذه فروق أساسية لا يمكن تجاهلها بالمرة ولا يستطيع أن ينكرها عاقل عارف بهذه الأمور .
والواقع أن اختلاف الشرائع باختلاف أسسها ومصادرها وأصولها ومقاصدها أمر لا شك فيه وهو ما يصرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى: (لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) .
أما علم القانون المقارن حسب ما جاء عن أشهر علمائه ونظرياته فبؤكد اختلاف الشرائع باختلاف الأمم في قيمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وظروفها التاريخية والاجتماعية والثقافية والحضارية . .. ولقد أدرك هذه الحقيقة زعماء الاستعمار من قبل ومنهم من اعترف بأن ما حققه الإسلام من العدل والمساواة والأخوة والوئام بين سائر أفراد الأمة لم تصل إليه. النظم الوضعية الشرقية والغربية وإن ما حققه مجتمع الرسول وعاجيخي وخلفائه الراشدين ومن سار لعهم على ذلك المنهج لمن أرقى نماذج الأمم التي عرفها التاريخ .
الصفحة130
على أنهم يعمدون على زرع أيديولوجياتهم على اختلافها كي تحدث هذه الأخيرة تناقضات على مستوى القيمْ، لأن السلوك مرتبط بالتصور فبمجرد ما يتغير التصور بتغير السلوك بالضرورة وسرعان ما تظهر التناقضات على مستوى القيم حتى تنعكس هذه التناقضات على مستوى السلوك ومختلف العلاقات الاجتماعية. ففي هذه الحالة يتعذر الانسجام والاتساق اللذان كانا يطبعان حياة الاجتماعية بطابع الوحدة والتماسك. لأن القيم الإسلامية لا يمكن بحال أن تتفق مع القيم الغربية والشرقية الحديثة التي جيء بها مصحوبة بإيديولوجيات منتحلة. والدليل على ذلك أن الأيديولوجيات ذاتها ما هي إِلا مجموعة تركيبية من القيم التي صيغت في شكل مفاهيم وتصورات. شخصت في نظم سياسية واقتصادية … أما الدليل الثاني فيتمثل في ما تعانيه المجتمعات المنتحلة للأيديولوجيات من تمزق على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة.
والواقع أن كل علماء الإسلام الثقات بنوا مذاهبهم على النظرة الشمولية انتي تقضي بأن الإسلام كل لا يقبل التجزئة ونجد على رأس هؤلاء الأئمة
«مالك بن أنس) «والشافعي» (وأبا حنيفة) «وأحمد بن حنبل)) ((وجعفر الصادق)) . .. وعلى هذا الأساس نلاحظ أن كل علماء الإصلاح في مختلف مراحل وعهود تاريخ الأمة الإسلامية بنوا نماذجهم الإصلاحية على مفهوم الإسلاء الشامل والإسلام الكل هو ما عملوا على تحقيقه أنه الدين الكامل وأدنتهم على ذلك نقلية وعقلية: فالدليل النقلي يتمثل في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَمَ دِينَا) . أما دليلهم العقلي فيتمثل في ما جاء في أصول هذا الدين وفي فروعه من إحاطة لكل قضايا الإنسان ولكل مائه علاقة بشروط صلاحه وفلاحه في الدنيا والآخرة. وعلى هذا الأساس كان موقف «أبي حامد الغزالي» من الفلسفة نيونانية وخاصة في المسائل المتعلقة بما يسمونه بالميتافيزيقيا أي ما وراء الطبيعة هو عدم التنسيق بين الدين والفلسفة وذهب (ابن تيمية)) والمصلحون المخدثون ن رفض فكرة التوفيق بين الإسلام والأيديولوجيات الحديثة: الغربية والشرقية نذكر من هؤلاء «محمد عبده» و «حسن البنا) و «المودودي» و (أبي الحسن
الصفحة131
الندوي» وسعيد النورسي» و ((عبدالحميد بن باديس)) و ((مصطفى السباعي)) و «السيد قطب) ... فهؤلاء جميعاً وغيرهم يرفضون فكرة التوفيق بين الإسلام والأيديولوجيات المختلفة القديمة والحديثة، واعتبروا هذا التوفيق بين الأضداد فهو محال. ويتفقون على أن الحل الأوحد لأزمة العالم الإسلامي هو الحل الإسلامي .
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن العلماء الإسلامين القدامي والمحدثين لم يقعوا في ما وقع فيه رجال الكنيسة من الأخطاء، ولعل الفضل في ذلك يعود إلى التزامهم بالنصوص الشرعية، إذ لم يحيدوا عنها قيد شعرة ففي كل القضايا التي كانت تعرض عليهم يعودون إلى كتاب اللّه وسنة رسوله ية ثم السلف الصالح والتابعين... وإن اجتهدوا فلا يجتهدون حسب أهوائهم بل نقيدوا بالقياس والإجماع وغيرهما من القيود المنهجية الأصولية. بل لم يجرؤوا حتى . على الافتاء دون أن يتقيدوا بالقيود الأصولية المعروفة فكانوا رضي اللّٰه عنهم أجمعين أبعد ما يكونون عن الهوى والميل والتطرف. .. فسجل لهم التاريخ مواقف وقفوها أمام الحكام وغيرهم قائلين كلمة الحق مهما كلفهم الحق من تضحيات كموقف الإمام ((مالك بن أنس» من قضية طلاق المكره(1). وموقف (أحمد بن حنبل» من فتنة خلق القرآن(2) (وأبي حنيفة)) في موقفه من (ابن هبيرة)) عامل الأمويين في العراق(3). .. وبفضل هذه المواقف حفظ الدين بالحفاظ على مصادره وأصوله ولا سيما القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة .
ولنعرف أهمية علماء الإسلام القدامى والمحدثين في أمانتهم العلمية والإصلاحية يكفي أنهم وقفوا موقفهم الذي أشرنا إليه من التيارات الفلسفية القديمة والحديثة وما نشأ من أيديولوجيات أخيراً وتوقعهم فشلها في وقت كان العالم الحديث يتحمس لها ولا يشك في سلامتها.
إن البحوث التي أنتجوها والدراسات التي قدموها جديرة بأن تجعل الإنسانية أكثر وعياً واستعداداً لمعرفة الحق والحقيقة في هذه المجالات الشائكة.
الهوامش
(1) محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، جح، دار الفكر العربية، ص: 292.
(2) المصدر السابق، ص: 154 .
(3) المصدر السابق، ص : 205 .
الصفحة132
أما الأمة الإسلامية وهي في إبان صحوتها فلا يسعها إلا أن تعود إلى هذا التراث قديمه وحديثه المليء بالعبر الغالية والحكم النفيسة والتوجهات القيمة فتتبين طريقها إلى الحل الذي سطروه ونهج الإصلالح الذي بينوه وأهم عوامل نهضته نتي حددوها ومعالمها التي رسموها وخصائصها المميزة كل ذلك بدقة متناهية وطريقة حكيمة وأساليب قويمة. وأخيراً يمكن أن تعتبر انتاجهم ثمرة من ثمرات الصحوة ولبنة من لبنات النهضة لا يستغنى عنها مربٍ ولا رجل سياسة واقتصاد واجتمع. في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية.
الصفحة133
الديمقراطية من وجهة نظر تاريخية في البلاد الإسلامية
من مقتضيات الصراع أن الحروب ذات الدوافع الدينية أو الأيديولوجية سرعان ما تتحول من مجرد الغزو العسكري إلى غزو فكري وحضاري بالضرورة. لأنه سرعان ما يغري الغالب بضرورة مواصلة عملية القهر والفساد والتخريب إلى أن يمحو آثار الحضارة المغزوة ولا يستريح له بال ولا تسكنه له ضغينة ولا تنقى له نكاية لأن قتل الأنفس ونهب الأموال والثروات واحتلال الأوطان سرعان ما ينتهي بنهاية هذه الأغراض وما لم يكن هذا متبوعاً بالغزو الحضاري لا تتم له الغلبة ولا يدوم له مقام فالانتصار العسكري ما لم يكن متبوعاً بالانتصار الحضاري لا يلبث أن يزول ويتحول إلى تبعية وذوبان كلي في أمة الحضارة وهذا ما حدث للمغول الذين جاءوا لتخريب العالم الإسلامي وصاروا مندمجين في أمته وانتهى غزوهم دون أن يطول به الأمد.
أما إذا اتبع الغزو العسكري بالغزو الفكري والحضاري استمر الصراع الحضاري وقد يطول مدة قرون عديدة. كل ذلك حسب قدرة كل حضارة على الصراع والثبات أمام التحدي والاستمرار وطول النفس لما تتمتع به الأمة من الطاقة الروحية الإيمانية وقيم شرعية وأخلاقية لا تبليها السنون ولا تتجاوزها أحداث التاريخ. فبحكم تطور الفكر على مدى العصور طلباً للأفضل فالحضارة التي يتجاوزها تطور الفكر تصبح في حكم تاريخ الحضارات المنقرضة التي فقدت قدرتها على الاستمرار .
وسبب ذلك أن الأحقاد الدفينة لا تقف بأصحابها عند حد قتل الأنفس ونهب الأموال والثروات واحتلال الأوطان بل تتعداه إلى التخريب الحضاري
الصفحة134
كالذي حدث للبزنطيين والقرطاجيين وغيرهما لأن الأحقاد الشريرة لا تنطفيء ناره المنتقدة في القلوب إلا بالتنكيل بالمغلوبين والعمل على إفساد أوضاعهم لاجتماعية والاقتصادية والثقافية وإذاقتهم مرارة الذل والهوان برفع أولى المفاسد والرذائل وتسليطهم على أهل المكارم والأخلاق العالية الذين كانوا أجدر وأحق نناس بالسيادة والريادة والقيادة. فقد قال تعالى على لسان بلقيس ملكة سبأ عند وصون كتاب سيدنا سليمان عليه السلام وعندما قال لها حكماء قومها: (وَالْأَمْرُ يَبَكِ وَنْصّرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعرَّةَ أَهْلِهَا أَزِلَةً) (النمل: 34) ولسداد الرأي ونفاذ الحكمة أوردها القرآن من سنن التاريخ بقوله تعاى : ( وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: 34) فبقيت سنة الكريم ثم أكده التي جعلها اللّه عبرة لمن يعتبر لكل أجيال البشر .
واذا أدى الصراع اخضاري بالحضارتين المتصارعتين المتنازعتين للعالم إلى الغلب. ومحاولة تخريب اخضارة المغلوبة مادياً. فإن الحضارة التي تعرضت متخريب لا تنقضي بالقضاء على هياكلها المادية ما دامت عقيدتها لم تنهزم، وشرعته م تنخره، وأخلاقها لم تنحدر. فسلطانها على القلوب لا ينتزع بانتزاع سفنه المادي العسكري السياسي. لأن قوتها الحقيقة في جانبها الروحي وأن ضعفها في اجنب المادي في فترة ما سرعان ما تستعيده إذا تهيأت لها الأسباب وقبل ذلك تضل طاقتها الروحية كامنة كالسر في أعماق كيان الأمة. أما طغيان اخضارة القاهرة ماديا فأمده قصير وزواله آت لا محالة مباشرة بعد زوال القوة مدية. فهي إذا أمام أزمة منتظرة وإذا لم تجد مخرجاً يهدي دين قويم فمآلها خراب وقد لا ينجو منه قطر ويعم الدمار. أو تعود الحضارة ذات السلطان
• الروحي الكامن في الأعماق إلى النمو والازدهار وتحاول انقاذ البشرية من الدمار نتظر كما أنقذتها يوم بعثة صاحب النبوة وخاتم الرسل قال تعالى : ( لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْدُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَعُ ٱلْمُؤْمِنُونَ 46) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَّهُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الروم: 5) . أم اخضارة التي فرغت من الروح ولم يبق ها إلا المقوم المادي فإن الثراء لمدي لا يغني من الفقر الروحي شيئاً ولذلك فهي لا بد هاوية إن قريباً وإن
الصفحة135
بعيداً لأن فراغها من الطاقة الروحية لسبب من الأسباب كأن تنحرف عقيدتها لتي كانت وقت سلامتها تمدها بالطاقة الروحية ولأسس الأخلاقية والشرعية وبضياعها انهارت تلك الأسس التشريعية والأخلاقية وفقدت سلطانها على القلوب وهيمنتها على النفوس وأقبل أهلها على الترف والتبذير والإسراف والظلم عندئذ لم يبق لها إلا الزوال قال تعالى: (وَإِذَآ أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيْهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرُنَٰهَا تَدْمِيرًا ) (الإسراء : 16) ومن ثمة فالترف دليل على الهرم الذي إذا مس حضارة لا يرتفع عنها أبداً . والسبب في ذلك والله أعلم. أن الحضارة التي كانت قائمة على أسس عقائدية، ظهر صعفها أو زيفها في مرحلة ما من مراحل تطورها. فإذا حاول رجالها التخلص منها وتعويضها ببديل يمدها بالطاقة الروحية واليقظة الفكرية، فإن تعذر وجود عقيدة دينية تناسب الذهنية السائدة لأمة الحضارة سد ذلك الفراغ الروحي باكتشاف أيديولوجية عقلانية أو انتحالها وإقامة النظم الاجتماعية والثقافية والسياسية والتربوية والاقتصادية. وحتى التشريعية على غرارها. لكن البديل الأيديولوجية بديل فكري والفكر المادي ليس فيه روح ولذلك إذا كان له سلطان على عالم المادة عالم الطبيعة الفيزيائية فليس له أي سلطان على القلوب فالبديل الفكري سلطانه لا يبقى إلا بالقوة المادية ويضعف بضعفها بالضرورة وهذا هو الذي حدث للحضارة الغربية في سائر أطوارها ومراحل تاريخها.
والدليل على ذلك، أنّنا إذا عدنا إلى. أحداث غزو العالم الأسلامي، التي انتهت بالقضاء على وحدته عن طريق احتلال ما أمكن من أقطاره، ثم إسقاط الخلافة وتهيئة الظروف لتقسيمه بجميع الوسائل العسكرية والسياسية والثقافية، وجدنا أن هذه العملية العدوانية تمت عن طريق حملة الصليب والماسونية . العالمية والصهيونية والإمبريالية بمفهومها الواسع الأيديولوجي الحديث.
بقول أحد رواد الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي يدعى ((المبشر زوير) :إن الجمعيات التبشيرية لا تزال غير قائمة بواجباتها فيما يتعلق بمسلمي بلاد العرب الداخلية، والقوقاس وجبوتي فارس وتركستان وأفغانستان وبلوجستان، والصين وجزر الفيلبيين»، ويشكو مر الشكوى من عدم دخول أرضهم ويقول: (إن
الصفحة136
اجمعية البروتستانية الأمركية قد هيأت برنامجاً لذلك - لدخول أرض الأفغان - وسيجعل مشهداً على شمال أفغانستان مركزاً للحركات»(1) وهذه التقارير إذ تبين مستوى وعي المسلمين ومجاولات سد الطريق أمام الغزو الصليبي بكل حزم وتدن أيضاً على مكر الحركات الكنسية التي استطاعت أن تسخر الإمكانات العالمية وتوجيهها بكل دقة ومهارة للقضاء على ترابط العالم الإسلامي وتفتيت وحدته .
ومما جاء في أحد تقارير زويمر المتأخرة: ((أن الإسلام قد تلاشت فوته، وانهارت دعائمه وسقطت مكانته الأولى ومشت سكة الأجنبي في حقله، فلا تناسب قهره وأعناته والظهور بمظهر الشماتة به لئلا يحرك ذلك من عصبية أهله ويثير من تخوفهم، ويؤجج من نيران أحقادهم فينهضوا سخائم صدورهم، ونتمكن من حرث ذلك الحقل الذي صار مباحا لنا على أنه لا يؤخذ من ذلك نه يجب سلوك مسلك الضعف مع الإسلام والعدول إلى التهيب إذ لا يعقل أنه ذا دعي الإنسان إلى بيت لم يبق له أبواب ولا نوافذ أن يضيع وقته في احتشام أصحاب ذلك البيت. ومعاملته برقة الأدب، والكياسة، إنه يتحتم سوق الحملة حكمة ومهارة. ولكن يتحتم سوقها بشدة»، ويذهب زوير في نهاية تقريره إلى نحفيز الكنيسة لشن آخر غاراتها على العالم الإسلامي بأكمله، فيقول: ((ومما يجب على الكنيسة هو أن تعبيء جميع قواها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال و جنوب تحت راية مؤسسها. وشن هذه الغارة على الإسلام إلى أن تصل إلى غيتها(2) .
وهذه الوثائق وغيرها تكشف على الحقيق الملفوفة في ثياب الباباوية زعيمة اخرب الصليبية التي شنت على الإسلام منذ نهاية القرن الخامس عشر ميلادي بدءاً بالاستيلاء على إنطاكيا. والحقيقة أن القرآن الكريم سبق أن بين ذلك الحقد الدفين للإسلام منذ عهد الرسول في قوله تعالى: ( وَلَن تَرْضَىٰ
الهوامش
(1) شكيب أرسلان. حاضر العالم الإسلامي، المرجع السابق، ص: 282 - 281 ، ج 1 .
(2) شكيب أرسلان، حاضر العام الإسلامي، المجلد الأول، ص: 282 .
الصفحة137
عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: ١٢٠) هذه الآيات القرآنية وقوانين الصيرورة التاريخية كلها تدل على عواقب الغزو الفكري والحقيقة أن هذه الأمور لم تكن خفية على المسلمين القدامى فيقول الشاعر :
تخاف على حاكم عادل وترجو فكيف لمن يظلم
إذا جارحكم أمرء ملحد على مسلم هلك المسلم
فهذا التصور لعداء الكفر تنضح به الثقافة الإسلامية في كل أطراف العالم الإسلامي. على أنه بعد تقادم عهود الاستعمار وتغلغل الثقافة الغربية في الأوساط الثقافية التي انتجتها مؤسساتها المزروعة في العالم الإسلامي ساعد على وجود المنخدعين بالشعارات الجوفاء ووعود عرقوب قال تعالى: (يَعِدُهُمُ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَنُ إِلَّا غُرُورًا ) (السماء: 119) . ومن يصدق شعارات الحضارة، والتمدن، والحرية، والديمقراطية، يذهب لا محالة ضحية المراوغة الاستعمارية الخبيثة التي أنشأت جواً من الخلاف بين المسلمين العرب والأتراك وغيرهم ولنا مثل في ذلك مما جاء في بلاغ جورج الخامس ملك بريطانيا وأمبراطور الهند مخاطباً قادة العرب: («لا يداخلكم ريب من جانبنا وترقبوا سنوح الفرصة المناسبة فهي آتية لا ريب فيها وعندها تخلعون عنكم رداء الظلم وتنفضون عن كاهلكم غبار الاستبداد وأنا لا آلو جهدا في مديد المساعدة إليكم كما أنا نعدكم وعدا صادقا بأنكم ستصيرون بحول اللّه وقوته أمة متشبعة بكل معاني الاستقلال. أنتم على شوق إلى معرفة نوايانا من جهة دينكم الكريم فاعلموا أن الديانة الإسلامية قد احترمها الإنجليز أجل الاحترام وأكبرها كل الإكبار والتاريخ أكبر شاهد على صدق ما نقول)
ويمضي الملك البريطاني في وعوده الشيطانية لإغراء قادة العرب السذج بالدخول في مخططهم الاستعماري الذي أعدوه لغزو العالم الإسلامي وإيقاعهم في الفتنة التي أوقدت نارها في الغرب كي يصطلي لها الشرق فيقول: (إنه عند انتهاء الحرب سنجعل من بين شرائط الصلح ومواده الرئيسية أن تكون شبه جزيرة بلاد العرب ترفل في ثياب الحرية وتستعيد رقيها القديم ونظرتها الأولى، بربكم أفلم يكفك ذلك؟ لقد صرح لنا بعض مشايخ العربان برغبتهم في التخلص من
الصفحة138
الأتراك وبعضهم يشد اليوم إزر جيوشنا بحد سيوفهم، أما الذين يرغبون فينا لنكم ويخافون المجاهرة بما في نفوسهم فإليهم نسوق حديثنا هذا) (1) والغريب أن صدق هذا القول عاقل وتعمى البصائر على ما جاء فيه من دس السياسة ومكر السياسة ولكن الغفلة السياسية التي غلبت على شعوب الأقطار سمحت للجاسوسية البريطانية(٢) والنمساوية والألمانية والفرنسية أن تؤلب العرب على الأتراك والأتراك على العرب وضربوا المسلمين بالمسلمين ثم انهالوا من بعد على اجميع واحتلوا العالم الإسلامي بالسهولة التي لم تكن متوقعة وعلى غرار الغزو العسكري حاولوا أن يحققوا الغزو الفكري وجندوا من أبناء الأمة الإسلامية دعاة له وأنصاراً وحقق بهم زعماء الشرق والغرب أكثر مما كان متوقعاً من لصراع الأيديولوجي الذي مزق الأمة الإسلامية من الداخل.
إنه ما أن تم احتلال الأقطار الإسلامية قطراً بعد أخر بالطريقة التي بينا حتى فقد المسلمون حريتهم ويفقدانها حرموا من جميع الحريات الأخرى التي كان قد أقرها الإسلام وكفلها لكل الناس واعتبرها من الضروريات. ولما ضاق الخناق بالمسلمين ولم يعد ثمة طريقة إلى الجهاد لجأ إلى العالم الحر كثير من أبنائهم حيث وجدوا في دار الهجرة متنفسا. وكان أبناء الغرب على قدم وساق نبناء حضارتهم الفتية والعمل على تطوير نهضتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولاحظ المهاجرون المسلمون كغيرهم كيف يتمتع أبناء الغرب باخريات الديمقراطية التي حرموها على غيرهم من أبناء الشعوب المستعمرة المتعطشة للحرية واندهشوا لمبلغهم من احترام حرية التعبير وتشجيع المواهب والقدرات وافساح المجال أمام المبادرات حتى كان لكل مواطن الحق في إبداء الرأي والمشاركة في بناء الحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية بناء على ما جاء في الديمقطراطية في مفهومها الليبرالي وهو ما يثير كل إعجاب ويستحق كل إكبار
الهوامش
(1) جورج اخامس ملك بريطانيا وأمبراطور، الهند، 1335 .
(2) رياض نجيب الرئيس جواسيس العرب، مجلة المستقبل، السنة 7، العدد 327، بتاريخ 6 أغسطس، 1983 والعدد 329.
نظر دور لورنس الجاسوس الانجليزي وما كان وراء السيد روناك شتورز. .
الصفحة 139
وهذا أدى بالكثير من أبناء العالم الثالث المهاجرين إلى بلاد الغرب إلى الاعتقاد بأن ما يتمتع به أبناء الغرب من حريات راجع إلى الديمقراطية التي أسسوا على مبادئها أيديولوجياتهم السياسة والاقتصاد والتربوية. فاقتداء بأهل الغرب والشرق راح كثير من المسلمين ينشؤون الأحزاب السياسية للمطالبة بالحريات الديمقراطية» في مختلف أقطار البلاد الإسلامية فمنها ما كان قوميا ومنها ما كان اشتراكياً وشيوعياً ومنها ما جمع بين هذه جميعاً وإن كانت لا تجتمع في أيديولوجية واحدة .
على أن هذه الأحزاب إن كان لبعضها الفضل في زيادة الأحداث السياسية في مختلف أقطار العالم الإسلامي في تحقيق المطالب من حقوق وحريات محدودة وثمرات أدت إلى الاستقلال وإن صوريا وظهور نظم سياسية مضطربة، فإن محاولات أغلب هذه الأحزاب لم تخرج عن نطاق الخطة العامة التي رسمها الاستعمار الحديث. من أسباب ذلك أن أغلب هؤلاء نسوا أن الغرب ما حقق ذلك المستوى من الوعي السياسي والحريات الديمقراطية حتى عانت أممه الأمرين وقدمت تضحيات جسام وأرواح الكثير من أبنائها .
لأن الحرية غالية لا تنال بالشعارات بل كما يقال: «تؤخذ ولا تعطى))
وقال الشاعر :
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
إذن فقضية تحقيق الحريات ليست قضية انتحال نظرية يمكن تحقيقها بمجرد النقل الحرفي لما في الواقع الملموس الذي تعيشه الناس والدليل على ذلك أن هذه الأيديولوجيات قد انتحلت بالفعل إلى العالم الإسلامي بحماسة إذا لم تكن أكثر من حماسة (روز فالت) التي أشرنا إليها فهي ليست أقل منها ولكن نتائجها ليست شيئاً غير الاستبداد والظلم فهل حاول زعماء هذه الأحزاب وقادة النظم مرة أن يعيدوا الاعتبار إلى الشعوب كما فعل رجال الغرب؟ فتراهم قد قلدوهم في كل شيء إلا في هذا الأمر مع العلم أن هذه الشعوب هي صاحبة الفضل في كل شيء يعد اللّه في السلم والحرب والشدة والرخاء، فلا يبنى اقتصاد إلا على كاهلها ولا تشيد حضارة إلا بجهودها ولا تزدهر ثقافة أو عمران
الصفحة 140
إلا بسواعدها ولا تتحقق حرية ولا استقلال إِلا بجهادها إن هذه الحقيقة أقرها تاريخ الأمم جميعاً ولا يجحدها إلا مكابر أو معاند.
فالمسألة إذن، ليست مسألة مفهوم أيديولوجي دخيل كما تصور الكثير من حربي الثقافة السياسية، بل هي واقع تاريخي أليم يتمثل في استبداد مقنع بالديمقراطية وهو ليس من الديمقراطية في شيء، وحرمان من الحريات التي بدونها لا يكون الإنسان انساناً تحت شعار الليبرالية والإشتراكية وتخلف فظيع في أغلب مجالات الحياة الحضارية تحت عنوان التقدم والتقدمية .
وتفسير ذلك أن معظم الحركات السياسية في البلاد الإِسلامية لم تكن في المستوى والوعي السياسي الذي يمكنها من معرفة أبعاد الخطة الاستعمارية الجديدة المحددة في إطار المفهوم الحديث للاستعمار حيث شكل الغزو الفكري أخطر أبعاد هذه الخطة. والدليل على ذلك تفشي النزعة الشعوبية القومية بعد الثورات التحريرية مع أن دور هذه النزعة القومية العربية والهندكية والطورانية والفارسية وغيرها كان بارزاً في عملية تمزيق البلاد الإسلامية والقضاء على وحدة العالم الإسلامي وإسقاط الخلافة والتمهيد للاحتلال بكل أبعاده وأغراضه.
مع العلم أن الشعوب الأوروبية التي كانت أشد الأمم تعصباً للقومية وأكثرها معاناة من ويلات صراعها وحروبها كحرب المائة سنة التي كانت بين فرنسا وإنجلترا ومشكلة الحدود والتنافس على الألزاس ولوران بين فرنسا وألمانيا تخرج من الحربين العالميتين بعزيمة التخلص من النزعة القومية الانفصالية وتعمل بكل جهد وجدية من أجل تحقيق وحدة أوروبا، ولعل الملاحظ للتاريخ الحديث لا يألو جهدا لاستخلاص هذه النتيجة التي خرجت بها أوربا من تجربة الحربين العالميتين وإقبالها على التكتل العالمي وهو ما جعل أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية يتجاوز كل منهما المحيط ويكونا كتلة من أعظم الكتل التي صار لها وزنها الاستراتيجي العسكري والاقتصادي والسياسي والحضاري .
بينما يكون أيضاً باستطاعة الملاحظ للتاريخ الحديث أن يرى كيف صارت شعوب البلاد الإسلامية زاهدة في وحدتها ومضيعة للخلافة بخلافاتها ومستسلمة العزواتها. وكيف أنها على الرغم من مرارة تلك الدروس وقساوة الغلب لم
الصفحة 141
نستفد من ذلك شيئاً وعادت بعد التحرر إلى ما كانت عليه ظروف الاحتلال ولم تتخلص من النزعة الانفصالية والدعوة الشعوبية والحركة القومية، ولم تع أن مصيرها مرتبط بوحدتها وتعاونها وتكاملها وأن مكانتها بين الأمم لا نتخذ إِلا بمقدار تحررها وتخلصها من التبعية التي لا منجاة منها إلا بوحدة البلاد الإسلامية، ومعنى ذلك أن البلاد الإسلامية ما تزال تسير وفق مخطط المبشر زويمر» ما يزال في المرحلة التي آلت إليها البلاد الإسلامية هي «كالبيت الذي لم يبق له أبواب ولا نوافذ عندما تتحتم سوق الحملة بحكمة ومهارة ولكن تتحتم سوقها بشدة»(١) يومئذ قال زويمر هذه القولة كان قادة العالم العربي والإسلامي يغطون في نوم عميق وكأن زويمر يلعب ويحلم وكأنه لم يكن جاداً إذ جند لخطته هذه الكنيسة العالمية وجميع ما كانت أمم الغرب تملكه من رجال ومال وسلاح، ومكيدة يقول المتنبي:
إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظن أن الليث يبتسم والأخطر من ذلك أن النزعة القومية والشعوبية والطائفية ما تزال مسخرة للقيام بدور أخطر من الذي تقدم وتستخدم لتضييق الخناق على كل بادرة تحريرية إسلامية أصيلة، لقد بات دور هذه الأحزاب في تحقيق المخطط الاستعماري الذي لم تعرف بعد كل أبعاده وصارت لا تتحرك إِلا وفق ما تمليه مرامي هذه الخطة الاستعمارية الحديثة التي حددها زعهاء الاستعمار الحديث ورسموا لها معالمها وطرقها وجميع مراحلها، سواء أكان أتباعهم لها عن قصد أم عن غير قصد. وحتى تلك الشعوب التي قدمت الكثير من الشهداء في ثوراتها على الاستعمار لم يكن لها حق في تقرير مصيرها بمحض إرادتها فبعد حصولها على الاستقلال الصوري مما لا يكاد يصدق لم يعد لها شيء من الاعتبار وبقيت محرومة من الحريات الأساسية لذلك لم تنهض وكيف ينهض المكبل بالقيود والأغلال إذ النهضة أي نهضة مرتبطة بالإرادة الحرة وإعادة الاعتبار إلى الإنسان باعتباره حراً ومن الطبيعي أن يكون كذلك حتى يفسح المجال أمام الجهود
الهوامش
(1) شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المصدر السابق، ج 1، ص: 282.
الصفحة 142
الضرورية المنتجة للحضارة ويحقق الإنسان مراميه وغاياته لكي لا تصبح حياته عبثا، لكن على الرغم من التضحيات الجسام لم يتحقق شيء من ذلك. وهذا كله والرايات ترفرف فوق جثث الضحايا في مذبح الحرية وتحت شعار الديمو قراطية على جبهات الشعوب المخدرة بهتافات العناصر المدسوسة وعلى السنة الصحف المأجورة وسائر وسائل الأعلام المسخرة لهذه الأغراض . كل ذلك حسب الأساليب الفنية والحيل التقنية الاستعمارية وهذا ما يريده الاستعمار لحديث بحيث يحقق بأقل جهد وأيسر نفقة ما لم يكن قادراً على تحقيق الاستعمار القديم بطرقه التقليدية من جيوش جرارة وأسلحة، وهذا أيضاً دليل على خطورة الاستعمار الحديث على الشعوب المختلفة ومن أهم أسباب خطورته بالإضافة إنى ما قد سبق ذكره باختصار :
أ _ شدة تعقد السياسة الاستعمارية الحديثة مما جعلها مجهولة عند أغلب الشعوب التي لا تتمتع بمستوى عالي من الوعي السياسي اللازم لأن المخططات اذكرة قد دبرتها عبقرية الاستعمار الحديث بأحكام في غاية من الدقة وهو ما جعل انشعوب لا تفطن لما يعد لها في الخفاء بل تنساق في الطريق المرسوم لها دون أن تعي مصيرها الذي سيقت إليه وتنفذ عمليات الخطة الاستعمارية في فسه دونما وعي منها.
ب - تطور فنيات التحكم في الشعوب وسهولة البطش بها فالأسلحة ازدادت تطوراً وفتكاً من قريب أو من بعيد دون أن تراها الشعوب وإن تعرف مدى فتكها ودون أن تستفزها وتثيرها كمن من سخطها غضبها وثورتها كالصواريخ النووية وصارت هذه الشعوب الضعيفة تقاد بحكام من أبنائها وفنذات أكبادها الذين كانوا هم أولى برحمتها والذود عن حماها والحيلولة دون غزوها والتحكم فيها من طرف أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر وتبقى عرضة للسياسة الإمبرالية العالمية التي وضعت لتضييق الخناق عليها ونهب ثرواته ضبيعية وتسخيرها لبناء حضارة الغزاة، إلا ما رحم ربك.
ج - عدم الوعي الثقافي في أغلب الشعوب الإسلامية وما نشأ عنه من مساعدة غير مقصودة للفكر الغازي وتقبله كأنه جاء لتحرير الفكر وبعث نهضة
الصفحة 143
كما ظن شيوخ العرب وقادة العجم أن جيوش الغرب إنما جاءت لانقاذهم وتحريرهم ونصرتهم. فإن غفلة المثقفين أصحاب الثقافة الحرفية أكبر مصيبة من الأمية لأن خطأ الجاهل لا يتجاوز القضاء على حياته في أخطر الحالات. أما خطأ حرفي الثقافة فيترتب عليه موت شعوب وضياع حضارة بأكملها والقضاء على نهضة برمتها. كما أن الأمي هو أصدق مع نفسه إذ لا ينكر أمام نفسه أنه جاهل لأنه يشعر بأنه أمي حيث تصدمه الأمية عند محاولات التعبير عن الذات كما يصدم الجدار الأعمى الذي لا يرى النور أما حرفي الثقافة فلا يدرك أنه جاهل بل كثيراً ما تسول له نفسه أنه أعلم الناس وهذا الذي يجعله يزداد بعداً عن الحق والحقيقة، كلما زاد غروره (إِنَّ ٱلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم(36 :
ومن شدة خطورة الغزو الفكري أنه أداة استخدم للقضاء على الكيان الحضاري الإسلامي المتماسك الأوصال وتخريبه ليصبح كالحطام الذي تناثرت أجزاؤه عن طريق القضاء على المؤسسات التشريعية والتربوية والأخلاقية وبث التناقضات التي سرعان ما تتحول إلى عملية تهدم ذاتي كالسرطان ينهش جسم الإنسان من الداخل، فما تحدثه أشرطة الأفلام التيليفيزيونية والسينمائية من الفتك الحضاري بواسطة الغزو الفكري تعجز القنابل الذرية على تحقيقه.
ويكفينا دليلاً على ذلك أن الاستعمار الحديث صار بهذه الوسائل قادراً على تخدير الشعوب إلى درجة أضحى الناس فيها يقبلون على الفكر الملحد وهم بالألحاد كافرون ويتهافتون على الفساد وهم له منكرون ويعملون على توطيد وتوثيق عرى التبعية وهم لها لاعنون فقدوا القدرة على الاختيار بضياع القيم، وصاروا يأخذون عن الغزاة ما لا يجوز أخذه، ويتركون ما لا يعقل تركه ويرضخون للاستبداد وهم بناره يحرقون. ورغم كل هذه الأدلة يأتي أصحاب التغريب ودعاة سياسته وخاصة زعهاء الحركات القومية كميشال عفلق ويوسف الحوراني في سوريا والعراق وسلامة موسى في مصر وأحمد آغايف وأكرم أقشورة من زعهاء تركيا الفتاة وغيرهم ويزعمون أن الإسلام دين فقط والأحرى به أن يهتم بالأمور المتعلقة بالآخرة والتي تنحصر في العبادات. أما الأمور المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية فهي لعلم الاجتماع والقانون وأما السياسة والاقتصاد فهما
الصفحة 144
للأديولوجية السياسية والاقتصادية الحديثة وأما الأخلاق فهي للعقل والفلسفة. فإذا نزعت هذه المجالات كلها من الإسلام فهاذا يبقى فيه؟ والحقيقة أن دعوة هؤلاء جد خطيرة على الأمة الإسلامية وخطط ها زعماء الاستعمار الحديث، وما هؤلاء إلا منفذون لما بينه أولئك سواء أوعوا ذلك أم لم يعوا فهذه الدعوة تهدف إلى الحيلولة دون تحقيق الحل الإسلامي عن طريق التشكيك في صحته وإيهام الناس باستحالة تطبيقه والعمل به مع أنهم لو كانوا مخلصين لبذلوا نصف الجهود التي بذلوها لتحقيق المخطط الاستعماري لتحقيق البديل الإسلامي وانقذوا الأمة مما تتخبط فيه من نكبات متتالية وفتن محتدمة وأزمات متفاقمة بدلا من ذلك كله راحوا يبثون في ظروف اجتماعية داخل الأمة الإسلامية أفكاراً مضطربة لتحون دون ظهور الصحوة الإسلامية التي بدت في الأفق أنوارها. وهذه الجهود التي تبذها اخركات القومية والشيوعية والليبرالية والأمبرالية من هي إلا في صلح الاستعماز. بل حققت له ما لم يكن يتوقع، ولقد صار يلبس لباسها في كل قضر ويرقص رقصاتها الفلكلورية المختلفة في كل حفا فهو هندوسي في تيار غاندي يرفل في بكستان واهند. وفارسي أو كردي في إيران وضوراني في تركيا وزيفي بربري في اجزائر والمغرب وليبيا وعربي قحطاني جاهي في سوزي والعراق وفرعوني في مصر ... إنه اخرباء التي تظهر بمظهر القرميات على اختلاف هجاتها وأزيائها وأشكان فلكلورها. تعمل جادة للقضاء على معم الانسجاه والوحدة انتي كانت تغضي العام الإسلامي، وتربط بين جزائه وأضرافه امترامية عبر العالم. فرذا يبقى من العاء الإسلامي، إذا نادى اهندين والباكستاني باهندوكية. ويتقوقع التركي في الطورانية، والإيراني في نقارسية. أو الكردية، والعربي في انقحضانية اجاهلية. .. وما يخبيء هؤلاء من هذه النزعة الانفاصلية الذرية في عل ينزع أن التكامل والاتحاد، وكأنهم ! يقرأوا من التاريخ درساً ولا حكمة وكأن م يعرفوا أن الفرقة شتات وأن الشتات صعف وإن مغبة الضعف الاستعمر واهوان. ألم يعلموا أن القوة في الاتحاد وأن العزة في الوحدة؟ فلهذا غفلوا عى يجري حوهم في انعالم؟ فهذه روسيا تتكون من عدة قوميات الاتحاد السوفياتي لولاء لا بتنعها وانقض عليها الأمريكان. ولما
الصفحة 145
كونت هذه القوة العظمى مع حلفائها في أوروبا الشرقية ولما ألفت معهم أعظم كتلة بعد الكتلة الغربية .
وهذه أمريكا قد جعلت كل ولاياتها في اتحاد فيدرالي . وحدت فيه صفها ووظفت ثرواتها واقتصادها وسياستها وثقافتها، وجندت كل إمكاناتها لتشييد عمرانها وازدهار حضارتها التكنولوجية المتفوقة والتي بها سادت العالم وراحت تكون مع أوروبا الغربية أعظم كتلة عالمية واجهت بها أمم العالم القوية والضعيفة أما أوروبا بلد الوطنيات ومرتع الحروب القومية التي كانت على الحدود كحرب المائة سنة بين فرنسا وبريطانيا وحروب الألمانيا وفرنسا على لا لزاس ولالوران والتي تحولت إلى حرب عالمية، رغم كل ذلك فهي تحاول أن تحقق عن طريق وحدة السوق المشتركة وحدة القوى الضاربة لتقي نفساً من روسيا وتستغني عن أمريكا. وصارت تدرك بجلاء ضرورة تخليها عن النزعة القومية فأخذت تجمع شملها كي لا تبقى تحت رحمة المظلة النووية الأمريكية إِن هذه الحقيقة التاريخية كافية لإدانة النزعة الانفصالية للحركات والأحزاب القومية التي ظهرت في العالم الإسلامي قديماً وحديثاً . لقد باتت تمزق العالم الإسلامي بما تسعى إلى إبرازه من الفروق الوهمية الفلكلورية لتصبح فروقاً ثقافية تحول دون أي محاولة لجمع الشمل وتوحيد الصف فهذا هو الغرض الذي أنشئت من أجله الحركة الطورانية(١) في تركيا وهي الغاية التي تأسس من أجلها حزب البعث وهي نفس المرامي التي تعمل على تحقيقها كل هذه النزعات التي ظهرت في آسيا وأفريقيا وباقي الأقطار الإسلامية.
فإذا كانت هذه الأحزاب حركات قومية انفصالية تدعي التحرر والازدهار الاقتصادي والثقافي . .. فهل حققت شيئاً مما تنادي به شعاراتها الكاذبة؟ فماذا حققت تركيا بعد تخليها عن الإسلام غير التبعية والخضوع الكلي للأمريكان وماذا جنت مصر وسوريا وغيرهما وبتفوق الأحزاب القومية والعمل بالأيديولوجية البعثية غير الخضوع لروسيا والتقهقر أمام إسرائيل حاملة لواء العقيدة؟ .
الهوامش
(1) شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المصدر السابق، ج 1، ص: 157 .
الصفحة 146
فعلى الرغم من أن هذه التجربة الفاشلة التي كلفت الأمة ضياعاً وخسارة لا تقدر وعواقب وخيمة لاحد لأضرارها لم يجعل ها حد حتى الآن لتردي هذه الأوضاع التي مزقت العالم الإسلامي شر ممزق تسد الباب أمام كل محاولة جادة للنهوض والصحوة والتحفز لانطلاقة جديدة، فهل بقي بعد كل هذا أي شك في تورط هذه الحركات التي جعلت العالم الإسلامي مفتوحاً أمام أي غاز وقابلاً مستقبلاً كل طارق إلا مَنْ أبى لسبب من الأسباب. كعدم رغبة إسرائيل في احتلال الحجاز وهي قادرة والشام بدون أدنى مقاومة ومصر بابخس الأثمان . .. إن دعوة القومية وحركاتها وأتباعها حاملي شعار التقدمية والليبرالية والتغريب والحداثة كانت وما تزال دعوة الأمم الذاهبة إلى الانقراض ذلك ما يثبته تاريخ الأمم المتحضرة. لكن من يعتبر؟ ونئن حدث كل هذا بعد الثورات العارمة التي اجتاحت العالم الإسلامي وحققت ما حققت من نصر فإن ما حدث من بعد يدل دلالة واضحة على أن الاستعمار قد أعاد الكرة وشن الغارة من جديد وصارت الثورات الماضية وصار مفعولها في حكم التاريخ ولم يبق بعدها غير الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع وصار الاستعمار الجديد في غارته هذه الجديدة على العالم الإسلامي يوهم الشعوب أنها ليست على حق فيما تطمح إليه من عودة الاعتبار إليها وتحقيق الحرية بمعناها الكامل والسيادة التامة بل لا بد لها من التبعية والرضوخ لسلطانه القاهر فبدون الارتباط به لا يستقر نظام ولا يبنى لها عمران، ولا يتقوى على الحكم فيها سلطان فهو يحاول بطرقه الخبيثة التي أشرنا إليها إقناع الشعوب بضرورة الارتباط به والخضوع لسلطانه، وأنه لا سبيل ها إلى الاستقلال الحقيقي لأنها عاجزة عن تحقيق أدنى درجة من الاستقلال السياسي ولاقتصادي والثقافي والتكنولوجي والحضاري.
على أنه نسي أو تناسى بحكم عدم استفادته من تجربة الاستعمار القديم من دروس مفادها أن هذه الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها وأقطارها ذات إمكانات حضارية لا تقهر وخبرة تاريخية ثرية لا تبخل مما يجعلها لا تعدم القدرة على الدفاع عن كيانها والذود عن حماها، والحفاظ على شخصيتها والسعي الجاد من أجل النهوض بحضارتها. فهي إذا لم تنتبه يوماً لما يعد لها من كيد ومكر، ولم
الصفحة 147
نطلع على ما يخطط لها في الخفاء فإن التاريخ قد بين أنه ما دام في الأمة كتاب اللّه وسنة رسوله لعي فضميرها الحي لا يخبو وفكرها الأصيل لا يكبو وإرادتها الجبارة لا تنبو، ولئن حاول الاستعمار الحديث الكرة من جديد بطرقه المستحدثة فلأنه لم يستفد من دروس سابقة أو لم يتعظ بما حدث في الماضي البعيد والقريب من دروس المقاومة وما ظهر منها من عظمة هذه الأمة وقدرتها على الصمود أمام أي تحدي أن مصير الاستعمار هو دائماً مصير الظلم ، والظلم وإن طال زمنه لا شك زائل سلطانه وساقط حكمه ومنته أمره، وإن العاقبة دوماً لأهل الحق إذا استماتوا من أجله وآمنوا واتقوا قال تعالى: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَاكُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَٱصْبِرٌ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (هود: 49) ومن العوامل الدالة على أن الأمة الإسلامية ما تزال تتمتع بأسباب الصمود، هو أن الأجيال المقبلة من أبناء وأحفاد هذه الأمة ليست كأجيال الماضي التي عهدها الاستعمار القديم من الأمية وانتشار الجهل وما نشأ عنهما من غفلة وغفوة وانحطاط وضعف بل فبفضل التعليم الذي انتشر وفكر الصحوة الذي غشى أغلب الأقطار الإسلامية يمكن الجزم بأفلاس الغزو الفكري الذي اجتاح العالم الإسلامي، وفشل الخطط التي تعمل على تحقيق أهدافه، وهو ما يحفز الأمة على العمل بالبديل الإسلامي وتحقيق التغيير ابتداء من الأعماق حيث تكمل النفوس ليتحول الإنسان الأيديولوجي إنسان المشكل إنسان التبعية إلى إنسان عقيدة التوحيد: ((لا إله إلا اللّه محمد رسول الله)» انسان الحل قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) ويقول رسول اللّٰه : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» رواه البخاري بالإضافة إلى مؤشرات الصحوة والنهوض من جديد للعالم الإسلامي إن خيبة الإيديولوجية الحديثة في بلاد الغرب والشرق وعجزها أمام الفقر الروحي وما نجم عنه من ضعف في النفوس والشعور بالقلق والشقاء والتعاسة مما جعل المستشفيات العقلية تغص بالمرضى وانعكاسات ذلك على الأخلاق وتفاقم ظاهرة الانحراف والشذوذ بكل أنواعه وانتشار المخدرات كل هذه تنبيء بدنو انهيار
الصفحة 148
الحضارة وما هذه إلا حالات من حالة الشيخوخة والهرم حلت بهذه الحضارة وصارت تنذر بسقوطها إن عاجلاً أو آجلاً ورغم ما يظهر من محاولات الانقاذ التي تتمثل في محاولات إصلاحية أيديولوجية تدعو إلى الاعتدال والتراجع على كثير من المواقف والعادات السيئة التي باتت راسخة كالتبذير والاستهلاك للاستهلاك والتضخم والبطالة. فإن هذه المحاولات الإصلاحية تبدو جد طفيفة ولئن نجحت في تسكين الآلام وتخدير الناس كي لا يشعروا بمرارة المصير فإنها لا ترقى إلى الدواء الشافي والحل الكافي فهي كالمساحيق التجميلية التي ستخدمها العجائز لإخفاء تجاعيد وجوههن الشاحبة للمحافظة على جمالهن الذابل وصدق في وصف هذه الحالة النفسية الحضارية القلقة التي تخشى فيها الأمم أن ترى معالم شيخوختها على وجهها الحقيقي قول الشاعر :
فإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
ستنتج من كل ذلك أن الاستعمار لارتباطه بالحضارة القاهرة فهو يقوى بقوتها ويضعف بضعفها وإذا كانت الحضارة الحالية قد مسها الهرم الذي لا يرتفع عنها أبداً فإن زوالها لا محالة قادم وإذا زالت الحضارة الغازية زال بزوالها غزاتها بالضرورة ومن استمسك بهم من اتباع في الأمة الإسلامية هم في حكم نغزاة أيضاً زائلون لأنهم ليسوا إلا امتداداً لأهل الغزو فيزولون بزوالهم .
وعندئذ تجعلنا هذه العاقبة أمام أزمة العالم المعاصر وجهاً لوجه فما هو خل إذن؟ .
وإذا توصلنا إلى نتيجة مفادها أنه لا حل أمام الأمة الإسلامية إِلا الحل الإسلامي فما هي أبرز معالم أو خصائص الحل الإسلامي وما هي احتمالات العمل به لإنقاذ الأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء من هذه الأزمة .
الصفحة 149
بعض ملامح الحل الإسلامي
إن العقيدة في الإسلام هي أساس التصور والمفاهيم وما يترتب عليه من سلوك واتجاه في العبادات وسائر المعاملات، فلا تصح نيات ولا أفعال إلا صحتها، فالعقيدة هي المنهج السليم الأوحد الذي يرقى بما هو بشري من عقل ناقص وإرادة محدودة ونزعات فطرية إلى آفاق الهدى الرباني، ولن تبدو ثمة لجوة بين العقيدة باعتبارها موجهة للفطرة نحو الأفضل وبين الظروف الطبيعية النفسية والاجتماعية والثقافية والتي سبق فسادها لعدم بقائها على الفطرة، فإن هذا التباين لا يدل إطلاقاً على عدم قدرة الإنسان على التكيف الراقي الذي تتطلبه العقيدة لأن العقيدة أهم حافز للتغيير النفسي والاجتماعي حتى يقع التعايش الذي يتحقق فيه التطابق النفسي والانسجام الفعلي فالتعايش النفسي والاتساق الاجتماعي هما من فعل العقيدة وما يترتب عليهما من شريعة وأخلاق. لذا تعد من أهم شروط التغيير النفسي والاجتماعي . أما التباين الذي يحدث من أول وهلة بين العقيدة والواقع الذي هو موضوع التغيير فيرجع إلى كون العقيدة تمثل الحل الذي سيغير الأحوال النفسية والاجتماعية كمنهج سليم للتغيير حيال الظروف السائدة وبواسطة هذا التعارض أو التغاير يبدأ الوعي بالمشكلة ثم سرعان ما يتحول الوعي إلى إرادة التغيير ذاتها لتحقيق الحل المرغوب، لأن من مقتضيات المنهج الإسلامي الحرية والاختيار. فلا يقبل أي نوع من الإكراه والقسر قال تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِٱللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَٱللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمُ ) (البقرة: 256). فبفضل الجهود الجبارة الموفقة في إعادة صياغة المعطيات التاريخية أو الوقائع كما هي في تاريخ الأمة ووثباتها العملاقة التي
الصفحة 150