سوسيولوجيا التربية

المؤلف: جميل حمداوي

التصنيف: كتب أخرى

عرض PDF

الوصف:

جميل حمداوي، سوسيولوجيا التربية، مشورات حمداوي الثقافية، الطبعة الأولى 2008، تطوان-المغرب.

المقدمة




تعد سوسيولوجيا التربية، أو سوسيولوجيا المدرسة، من أهم الحقول المعرفية التي تندرج ضمن علم الاجتماع الخاص ، وتمنح مفاهيمها النظرية والتطبيقية ومصطلحاتها الإجرائية وخطواتها المنهجية من علم الاجتماع العام. ومن ثم، يعنى هذا العلم الجديد برصد مختلف العلاقات الموجودة بين المدرسة والمجتمع، على أساس أن المدرسة بمثابة مجتمع مصغر تعكس جميع التناقضات الجدلية التي يعرفها المجتمع المكبر أو المحيط الخارجي. وأكثر من هذا تعد المؤسسة التربوية قاطرة لتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة والمستدامة. 

ومن جهة أخرى، تهتم سوسيولوجيا التربية بتتبع تاريخ المؤسسة التربوية، وتبيان تاريخها، وتحديد مفهوم التربية والمدرسة على حد سواء، مع استجلاء الأدوار والوظائف التي تقوم بها التربية، وتحديد مختلف المقاربات التي تمثلها الباحثون في دراستهم للمؤسسة التعليمية في سياقها التاريخي والتطوري.

ولم يظهر علم الاجتماع التربوي إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلادي، وهدفه هو دراسة التربية بصفة عامة، والمدرسة بصفة خاصة، على أساس آليتي الفهم والتفسير، وتحليل مختلف الظواهر التربوية في ضوء المقاربة الاجتماعية، باستكشاف العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والثقافية التي لها تأثير ملحوظ في المؤسسة التربوية بنية، دلالة، ووظيفة.

ومن أهم المواضيع التي تنبني عليها سوسيولوجيا التربية موضوع دور المدرسة في المجتمع وأهم الوظائف التي تؤديها، والتشديد على أهم الفاعلين في المؤسسة التعليمية من متعلمين، ورجال تربية، وأطر إدارية علاوة على دراسة موضوع النجاح والفشل الدراسي، ومناقشة مبدأي التوحيد والانتقاء، وتبيان علاقة ذلك بالمساواة الطبقية، مع رصد الوضعية الاجتماعية للفاعلين التربويين، ومعالجة  قضية تكافؤ الفرص في تسيير دواليب الدولة...   

الصفحة 6

إذا، ما سوسيولوجيا التربية؟ وما تاريخها النظري والتطبيقي؟ وما أهم مقارباتها في فهم قضايا التربية والتعليم وتفسيرها؟ وما وظائف المدرسة وأدوارهـا الاجتماعية؟ وما علاقـة التربيـة بالديمقراطيـة؟ وما طبيعـة المدرسة المغربية في ضوء المقترب السوسيولوجي؟

تلكم هي الأسئلة التي سنرصدها في كتابنا هذا الذي عنوانه  ب(سوسيولوجيا التربية)، بالتوقف عند مفهوم التربية وأدوارها من جهة أولى، والتركيز على المدرسة باعتبارها مؤسسة اجتماعية تقوم بوظائف وأدوار عدة من جهة ثانية، وتبيان أسس علم الاجتماع التربوي ومختلف نظرياته من جهة ثالثة.

وأرجو من الله عن وجل أن يلقى هذا الكتاب المتواضع رضا القراء، وأشكر الله شكرا كثيرا، وأحمده على علمه ونعمه وفضائله التي لاتعد ولاتحصى. والله ولي التوفيق.

الصفحة7



الفصل الأول:مفهــــوم سوسيولوجيا التربيــة

بادىء ذي بدء، قبل الدخول في هذا الموضوع الجدير بالدراسة والوصف والتحليل والتشخيص والتقويم، ينبغي علينا أن نتوقف عند بعض المفاهيم والمصطلحات الأساسية التي يرتكز عليها علم الاجتماع التربوي، أو سوسيولوجيا التربية ، مثل: علم الاجتماع العام، وعلم الاجتماع التربوي، والمؤسسة، والمدرسة، والتربية ...

المبحـــث الأول: مفهــوم علــم الاجتماع

يعد أوغست كونت  أول من نحت مصطلح علم الاجتماع سنة 1830 م، فهو يتكون لديه من لوغوس ,بمعنى علم أو معرفة، وكلمة Sociét التي (تدل على المجتمع. وبذلك، يكون مفهوم علم الاجتماع هو علم المجتمعات البشرية، أو علم دراسة مجتمع الإنسان، أو دراسة مجتمع الفرد والجماعة، أو دراسة الظواهر أو الوقائع أو الحقائق أوالعمليات الاجتماعية، في ضوء رؤية علمية وضعية وتجريبية. وبعد ذلك، استقل علم الاجتماع عن الفلسفة مع إميل دوركابم  ، بعد صدور كتابه(قواعد المنهج في علم الاجتماع) سنة 1895 م.

ومن هنا، فتاريخ نشأة علم الاجتماع الغربي هو القرن التاسع عشر الميلادي. في حين، ارتبط علم الاجتماع العربي بابن خلدون الذي أسس علم العمران البشري في ضوء فلسفة التاريخ والعلل العلمية والعقلية في القرن الثامن الهجري، كما يتبين ذلك جلبا في كتابه (المقدمة) .2

وبذلك، سبق علم الاجتماع العربي صنوه الغربي بأكثر من سنة قرون.

و يندرج علم الاجتماع ضمن العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة. والهدف الأساس الذي يسعى إليه هو دراسة المجتمع الإنساني بصفة عامة، ودراسة التنظيمات والجمعيات والجماعات والمؤسسات السياسية التي تنتمي إليها أو تشكلها جماعة من الأفراد بصفة 

الهوامش :

 Émile Durkheim:Les régles de la méthode sociologique,Paris,Alcan . -1 

-2ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون: تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، الطبعة الأولى سنة 2004 م.

الصفحة9

اويرصد مختلف العلاقات الاجتماعية التي يسلكها الإنسان مع الآخرين خاصة. بمعنى أن علم الاجتماع يدرس الإنسان في حضن المجتمع، داخل بنية المجتمع، بالتركيز على البعد الاجتماعي فهماً وتفسيراً وتأويلاً.وكذلك، يدرس هذا العلم مختلف الأنشطة التي يقوم بها الإنسان داخل، كالأنشطة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية،  المجتمع والتربوية 3...  

وإذا كان علم النفس يدرس سلوك الفرد، فإن علم الاجتماع يدرس الظواهرالمجتمعية التي تتصف بالعمومية، والاستمرار، والاطراد، والإلزامية،والقهر، والجبرية المجتمعية. وهناك، علم النفس الاجتماعي الذي يدرس  الجماعات الصغيرة ومختلف التفاعلات التي تتم بين الأفراد داخلها، سواءكانت سلبية أم إيجابية.  

وإذا كانت هناك دراسات سابقة حاولت فهم المجتمع وتفسيره مع أفلاطون، وأرسطو، والفارابي، وميكيافيلي، ومونتيسكيو، وسان سيمون، ابن خلدون، فإنها محاولات تأميلية وفلسفية ينقصها الجانب العلمي  والتجريبي، باستثناء مقدمة ابن خلدون التي تعتبرها أساس علم الاجتماع العمراني؛ لأنها قائمة على دراسة العقل في علاقتها بالنتائج. ولكن يبقى  كل من أوجست كونت وإميل دوركايم مؤسسيين حقيقيين لعلم الاجتماع. ومن ثم، يرى دوركايم أن علم الاجتماع هو الدراسة العلمية للظواهرالمجتمعية. ومن ثم، يتسم هذا العلم بالطابع العلمي الموضوعي الذي يتمثل في التخلص من الأفكار الشائعة والمسبقة على غرار توجهات ابن الهيثم  وديكارت، والالتزام بالعلمية والحياد والنزاهة في دراسة الظواهر  الاجتماعية، والتمييز بين الظواهر الفردية والظواهر المجتمعية،  والاعتماد على الإحصاء في دراسة هذه الظواهر المجتمعية.  إذا فعلم الاجتماع، بمفهومه العام، هو الذي يدرس الظواهر المجتمعية في  ضوء المقاربة العلمية الموضوعية، على أساس أنها موضوعات ومواد  وأشياء. ويعني هذا أن علم الاجتماع يدرس المجتمع دراسة وضعية  

مختبرية وميدانية، بالتوقف عند بعض الظواهر المجتمعية القاهرة أو  

الهواميش:

SalvadorGiner: Sociologia, EdicionesPeninsula, Barcelona, Espaňa, 1-3

الضفحة 10

الملزمة للإنسان بالتحليل والدراسة والتشخيص والوصف فهما، وتفسيرا، وتأويلا.

وعليه، فعلم الاجتماع " هو الدراسة العلمية للسلوك الاجتماعي للأفراد والأساليب التي ينتظم بها المجتمع باتباع خطوات المنهج العلمي.

يلاحظ الفرد داخل المجتمع أن وسائل الإعلام المختلفة تطالعه بأنباء وأخبار معينة، منها ما يتعلق بكوارث طبيعية، وأخرى تتعلق بصراعات ومشكلات تحتاج إلى حلول، وقسم آخر يتحدث عن قضايا العمل واضطرابات العمال، وقسم يتعرض لاتجاهات مشجعي كرة القدم مثل هذه الأحداث-إذا صح أن نطلق عليها هذه التسمية- هي أحداث عامة تحدث في الحياة اليومية. ولكن أحياناً يتساءل البعض  لماذا أصبح الآن مشجعو كرة القدم أكثر عنفا عما كانوا عليه في الماضي؟ ولماذا يجد بعض الأزواج أن الحياة الزوجية أصبحت لاتطاق؟ فعندما نسأل أنفسنا هذه النوعية من الأسئلة فإننا نسأل سؤالاً اجتماعياً، بمعنى أننا معنيون أو مهتمون بالطريقة التي يسلك بها الأفراد في المجتمع وتأثير ذلك السلوك في أنفسهم وفي المجتمع. معنى ذلك أن مفهوم "الاجتماعي" هو المفهوم الأساسي في علم الاجتماع، لأن الفرد لايمكن إلا أن يكون كائنا اجتماعياً يعيش في وسط اجتماعي، وعلى اتصال مستمر بيئية أفراد المجتمع، بحيث يندمج في محيطهم ويتفاعل معهم بصورة إيجابية. وهذا يؤكد أنه دون وجود تفاعل إنساني مستمر لايمكن أن يطلق علينا ذوي صفة "اجتماعية"4.

إذا، لايهتم علم الاجتماع فقط بدراسة الظواهر المجتمعية المرتبطة بينية المجتمع، بل يهتم أيضا بدراسة أفعال الأفراد حينما يتفاعلون فيما بينهم ويتواصلون لفظيا أو بصريا. وإذا كان ( اميل دوركايم قد ربط السوسيولوجيا بدراسة المجتمع بمختلف ظواهره ووقائعه وأحداثه وعملياته وحقائقه، فإن ماكس فيبر قد ركز على الفرد الفاعل أو الذات بما تقوم به من أفعال تجاه الذوات الأخرى في علاقة تماثلية مع بنية المجتمع. أي: هناك من يربط السوسيولوجيا بالمجتمع أو الموضوع (دوركايم)، وهناك من يربطه بالذات أو الفاعل(ماكس فيبر). وهناك من

الهواميش :

 4-محمد ياسر الخواجة وحسين الدربني: المعجم الموجز في علم الاجتماع، مصر العربية للنشر والوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى سنة 2011م، ص: 11.

الصفحة 11

يجمع بينهما في علاقة تماثلية كماهو حال أنتوني غيدنز في كتابه (علم الاجتماع)5.

وثمة مجموعة من التعاريف التي تخص علم الاجتماع، فقد عرفه بيتريم سروكين بقوله: "هو ذلك المفهوم الذي يشير إلى جميع المعلومات الخاصة بالنشابه بين مختلف الجماعات الإنسانية وأنماط التفاعل المشترك بين مختلف جوانب الحياة الاجتماعية الإنسانية، لذلك عرفه بأنه العلم الذي يدرس الثقافة الاجتماعية.

كما عرفه بأنه دراسة الخصائص العامة المشتركة بين جميع أنواع المظاهر الاجتماعية".أما رايت ميلز، فيرى "أن علم الاجتماع هو العلم الذي يدرس البناء الاجتماعي للمجتمع والعلاقات المتبادلة بين أجزائه، وما يطرأ على ذلك من تغير".

أما جورج ليندبرج فيرى أن علم الاجتماع" هو علم المجتمع" بينما يرى ماكيفر "أنه العلم الذي يدرس العلاقات الاجتماعية"6.

ويعرفه ماكس فيبر بقوله "هو العلم الذي يعنى بفهم النشاط الاجتماعي وتأويله، وتفسير حدثه ونتيجته سببياً"7.

وعلى العموم، فعلم الاجتماع هو ذلك العلم الذي يدرس الوقائع والظواهر والأحداث والحقائق الاجتماعية من جهة أولى. ويدرس أفعال الأفراد وتصرفاتهم وسلوكياتهم في علاقة بالآخرين، ضمن سياق تفاعلي اجتماعي معين من جهة ثانية، ويدرس الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية من جهة ثالثة.أما فيما يخص موضوع علم الاجتماع، فإنه يدرس ثلاثة مواضيع أساسية كبرى هي: الحقائق الاجتماعية، والعمليات الاجتماعية، والحقائق العلمية. ويدرس كذلك العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الناس عبر عمليات التفاعل الاجتماعي من أجل معرفة مظاهر التماثل والاختلاف، ودراسة المجتمع وظواهرة وبنائه ووظيفته، ودراسة مكونات الأبنية الاجتماعية.

الهواميش:

5-أنتوني غديدز: علم الاجتماع، ترجمة: فايز الصياغ، مشتورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2005م.

6-محمد حامد يوسف: علم الاجتماع: النشأة والمجاالت، المكتب العلمي للنشر والتوزيع، الإسكندرية، مصر، طبعة 1995م، ص 51-50.

Maxweber:Économie et société.Poquet,1995,p28. -7

الصفحة 12

المختلفة ، مثل الجماعات العامة، والمقارنة بين الظواهر والحقائق الاجتماعية المختلفة.8

 وعلى أي حال، يدرس علم الاجتماع الإنسان داخل المجتمع، والبنية الاجتماعية، والتفاعل بين الأفراد والجماعات، والسياق الاجتماعي، والجماعات الإنسانية المختلفة. إذا، يدرس علم الاجتماع العام الظواهر المجتمعية دراسة علمية من جهة.  أو يحاول فهم الفعل الإنساني وتأويله داخل بنية مجتمعية ما، يرصد مختلف الدلالات والمعاني والمقاصد التي يعبر عنها هذا الفعل في أثناء عملية التفاعل والتواصل الاجتماعي من جهة أخرى. ومن جهة أخرى، تستعين المقاربة السوسيولوجية بالدراسات التاريخية، والتطويرية، والمقارنة، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والإنشاء، والبدنية، واللسانية...إلخ. ويعني هذا أن علم الاجتماع يتداخل مع مجموعة من العلوم والمعارف المساعدة والمكملة. ومن ثم، يهدف إلى بناء نظرية عامة لوصف المجتمع ورصده بغية التحكم فيه، أو إصلاحه، أو تغييره، أو الحفاظ عليه.  

وبلاحظ أن ثمة منهجين مهيمنين في علم الاجتماع: منهجا علميا موضوعيا يتكىء على التفسير السببي والعلي، ومنهجا ذاتيا إنشائيا تأمليا وأخلاقيا وتأويليا يقوم على الفهم. ويعني هذا أن ثنائية الذاتية والموضوعية حاضرة في مجال العلوم الإنسانية بشكل لافت للانتياه. وفي هذا الصدد، يقول إدغار موران) هناك نمطان من السوسيولوجيا في مجال البحث الاجتماعي: سوسيولوجيا أولى يمكن نعتها بالعلمية كسوسيولوجيا أو غيست كونت واميل دوركليم، وسوسيولوجيا أخرى يمكن نعتها بالإنشائية كسوسيولوجيا ماكس فيبر ويورغ زيمل. وتعتبر الأولى بمثابة طليعة السوسيولوجيا في حين، تعتبر الثانية بمثابة المؤخرة التي لم تتحلل بشكل مناسب، من إسار الفلسفة، ومن المقالة الأدبية، والتأمل الأخلاقي. يستعير النمط الأول من السوسيولوجيا نموذجا علميا كان بالضرورة هو نموذج الفيزياء في القرن التاسع عشر. ولهذا النموذج ملمحان، فهو آلي وحتمي في آن واحد، إذ يتعلق الأمر، في الواقع، بتحديد القوانين والقواعد التي تؤثر، تبعا لعلاقات سببية، خطية ومنتظمة،في

الهواميش :

-8محمد ياسر الخواج جم الموجز في علم الاجتماع*، ص. 14.ة وحسين الدريني: 

الصفحة 13

موضوع تم عزله، وفي مثل هذا النموذج يتم استبعاد كل مايحيط بالموضوع المدروس من موضوعات أخرى. يضاف إلى ذلك أن هذا الموضوع المدروس يتم تصوره كما لو كان مستقلًا استقلالا كلياً عن شروط ملاحظته ولاشك أن مثل هذا التصور يستبعد من الحقل السوسيولوجي كل إمكانية لتصور ذوات أو قوى فاعلة أو مسؤولية الذوات وحريتها.

أما في السوسيولوجيا الإنسانية، فإن ذات الباحث تحضر، بالمقابل، في موضوع الباحث، فهو ينطق ، أحيانا، بضمير المتكلم، ولايواري ذاته... لقد كان مفهوم الذات غير مستساغ من قبل المعرفة العلمية ؛ لأنه كان مفهوماً ميتافيزيقياً ومتعالياً.. في حين، إن تقدم المعرفة البيولوجية الحديثة، يسمح اليوم، بمنح مفهوم الذات أساساً بيولوجياً. فماذا يعني أن يكون الإنسان ذاتاً، اليوم؟ إنه يعني أن يضع الإنسان نفسه في قلب عالمه.. فالذات هي بالجملة، الموجود الذي يحيل على ذاته وإلى الخارج والذي يتموضع في مركز عالمه.9

وبناء على ما سبق، يتأكد لنا أن ثمة طريقتين في التعامل مع الظواهر المجتمعية، إما أن نتمثل الطريقة الوضعية التفسيرية في تبيان العلاقات الثابتة التي توجد بين الظواهر والمتغيرات، وإما أن نتمثل طريقة الفهم لاستجلاء البعد المجتمعي بهم أفعال الذات وتأويلها.

وعلى العموم، يعتمد علم الاجتماع على ثلاثة مبادىء منهجية أساسية هي: الفهم، والتفسير، والتأويل. ويعني المبدأ المنهجي الأول فهم فعل الفرد في إطار نظرية التأثير والتأثر، أو في إطار نظرية التفاعل الاجتماعي أي: فهم المعاني التي يتخذها الفعل الفردي داخل المجتمع المعطى. وينسجم هذا المبدأ مع العلوم الإنسانية، أو علوم الثقافة والروح. وبما أن الإنسان فاعل فردي يملك وعيـاً، ويصدر فعله عن معنى أو مقصدية مـاً، فمن الصعب دراسته دراسة علمية سببية وعلبة موضوعية؛ لأن ذلك يتنافئ مع مبدأ الذاتية في العلوم الإنسانية. وأكثر من هذا فالإنسان فرد واع وعاقل وحساس لإيمكن مقاربتـه في ضوء علوم التفسير؛ لأن النتائج ستكون

الهواميش:

Edgar Morin: Sociologie, Fayard, Le Seuil, Points, Essais, 1984,pp,11 -18-9


الصفحة 14

بالاريب - نسبية ليس إلا ، مهما حاولنا أن نتمثل العلمية والحياد والنزاهة الموضوعية في ذلك.

ويعني المبدأ المنهجي الثاني تمثل التأويل في إدراك حقيقة الواقع أو العالم الموضوعي. ويعني هذا أن فهم فعل الفاعل الفردي لإيمكن أن يتحقق إلا بمعرفة الأحكام المسبقة، وتحديد السياق المجتمعي، والانطلاق من المعرفة الخلفية، والبحث عن جميع المصادر التي تساعدنا على فهم ذلك الفعل، واستجلاء المعنى الذي يصدر عنه. ويمكن الاستعانة كذلك بالأفكار المسبقة، على الرغم من تعارض ذلك مع العلم، على أساس أنها مصادر أولية تسعفنا في تفهم الفعل وتأويله. ومن هنا، يتطلب الفهم ثقافة شخصية من جهة أولى، ومعايشة  حقيقية للفاعل من جهة ثانية، ومشاركته في بناء عوالمه الموضوعية والواقعية من جهة ثالثة. لذا، لابد من التغلغل إلى عالم الفرد لفهم المعنى الذي يلصقه على عالمه من أجل فهمه جيدا، وتأويل فعله وسلوكه حسب الظروف الظاهرة والحيثيات التي يوجد فيها هذا الفعل، والبحث عن العلاقة التفاعلية الموجودة بين الذات والموضوع. ويخضع هذا التعامل كله لمبدأين أساسيين هما: الموضوعية العلمية والحياد الأخلاقي، بعدم إصدار أحكام القيمة، والابتعاد- قدر الإمكان- عن الاعتقادات والآراء الشخصية.

أما المبدأ المنهجي الثالث، فيقوم على التفسير السببي والعلي كربط الفعل بينية المجتمع، أو تفسير الظواهر المجتمعية تفسيرا ترابطيا وسببيا.ويتسم علم الاجتماع بعدة خصائص ومميزات:

1. يعتمد علم الاجتماع على الملاحظة الوصفية والتجريبية والميدانية، والاستعانة باللغة المعايشة بغية بناء الحقائق الاجتماعية، وفهم الوقائع والظواهر الإنسانية والمجتمعية، والابتعاد عن المقاربات الفلسفية والميتافيزيقية التي تعيق تطور المعرفة الإنسانية وتقدمها وازدهارها، واستبدال التــأمل الفلسفي بالتفسير العلمي والاستقراء السببي والعلي والوضعي.

2. علم الاجتماع علم تراكمي؛ إذ تبنى كل نظرية جديدة على النظريات السابقة في مجال السوسيولوجيا. ومن ثم، فهناك استمرارية وتطور وتراكم وقطاع إستمولوجية في عملية التصحيح والتعديل والتطوير

الصفحة 15

3علم الاجتماع ليس علما أخلاقيا أو قيميا، فهو لايعنى بالحكم على المجتمع من الناحية الأخلاقية، أو يحكم على الأفعال الاجتماعية بالخير أو الشر، فهو علم محايد وموضوعي يصف الواقع ويشخصه ويجد الحلول الملائمة لذلك ولكن ينشد تفسير الأخلاق إذا كان لها ارتباط وثيق بالوقائع المجتمعية

ويحقق علم الاجتماع مجموعة من الأهداف الأساسية التي يمكن حصرها فيما يلي:


 

وفيما يخص أقسام علم الاجتماع، فيمكن الحديث - من جهة عن العلم الاجتماع النظري وعلم الاجتماع التطبيقي - ومن جهة أخرى، يمكن

الصفحة 16

الحديث عن عدة ميادين لعلم الاجتماع العام، فهناك الفيزيولوجيا الاجتماعية، والمورفولوجيا الاجتماعية، وعلم الاجتماع الحضري، وعلم الاجتماع القروي، وعلم الاجتماع الاقتصادي، وعلم الاجتماع الثقافي، وعلم الاجتماع الأخلاقي، وعلم الاجتماع الجمالي، وعلم الاجتماع اللغوي أو اللساني، وعلم اجتماع الحروب، وعلم اجتماع البيئة، وعلم اجتماع الطب أو الصحة، وعلم الاجتماع المهني، وعلم الاجتماع الصناعي، وعلم اجتماع الأدب، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع الإداري، وعلم اجتماع الأسرة، وعلم اجتماع الجمعيات والتنظيمات، وعلم اجتماع التربية، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم اجتماع المسرح، وعلم اجتماع الإعلام، وعلم الاجتماع الجنائي، وعلم اجتماع الأديان، وعلم الاجتماع القانوني، وعلم اجتماع المعرفة...

ويعني هذا أن علم الاجتماع هو علم عام، يتضمن العديد من الفروع والشعب والتخصصات العلمية، ويتأرجح هذا العلم بين ماهو ذاتي وموضوعي، كما يتأرجح على المستوى المنهجي بين الفهم، والتفسير، والتأويل.

علاقة على ذلك، يستند علم الاجتماع كذلك إلى خطوات المنهج العلمي كالإحساس بالمشكلة، وطرح الأسئلة والإنشكالات، ووضع الفرضيات، وتحديد الموضوع، ورصد بواعثه الذاتية والموضوعية، وتبيان أهدافه وأهميته، والإشارة إلى الدراسات العلمية السابقة، وتحديد المتغيرات البشرية والزمانية والمكانية، وشرح المفاهيم الاصطلاحية، وطرح تصميم الدراسة، مع ذكر الصعوبات، والثناء على من أسدى إلى الباحث أية مساعدة من قريب أو من بعيد.

وخلاصة القول: فعلم الاجتماع هو ذلك العلم الذي يدرس الوقائع الاجتماعية والأفعال والتنظيمات والمؤسسات الاجتماعية، بالتركيز على الوقائع والحقائق والعمليات والعلاقات الاجتماعية، ضمن السياق التفاعلي اللغوي والرمزي، باستخدام مناهج متنوعة، إما وضعية، وإما تقومية، وإما تأويلية، بغية بناء نظرية عامة للمجتمع قصد وصفه وتشخيصه وتقويمه، من أجل الحفاظ عليه، أو إصلاحه، أو تغييره جزئياأو كليا

الصفحة17

المبحث الثاني: مفهوم علم الاجتماع التربوي

لابمكن تحديد مفهوم علم اجتماع التربية، أو سوسيولوجيا المدرسة، إلا بالتوقف عند مجموعة من المطالب على النحو التالي:

المطلب الأول: مفهوم علم اجتماع التربية

يدرس علم   الإجتماع التربية علماً اجتماع المدرسة أو المدرسة على حد سواء، على أساس أن المدرسة ظاهرة اجتماعية أو مؤسسة اجتماعية لها ثوابتها ومتغيراتها. أي: تدرس سوسيولوجيا التربية أو المدرسة كل الظواهر المتعلقة بمجال التربية والتعليم والمؤسسة الدراسية في علاقة تامة بالمجتمع. ويحي هذا أن المدرسة تعكس محيطها الاجتماعي بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن ثم، تركز هذه السوسيولوجيا على دراسة المؤسسة التربوية من الداخل والخارج، بدراسة مكوناتها وعناصرها ونسبتها الوظيفي الكلي، برصد مختلف الأنشطة التي تقوم بها المؤسسة التعليمية، سواء كانت أنشطة مادية أم معنوية. ثم رصد مختلف العلاقات التفاعلية التي تجريها المؤسسة مع المجتمع الخارجي، بالتوقف عند ثوابتها ومتغيراتها، واستجلاء خصائصها ووظائفها وأدوارها المجتمعية، ومدى مساهمتها في نوعية المجتمع، وتنويره، وقيادته تنمويا، واقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، وتقافيا، وحضاريا. علاقة على ذلك، تتوقف سوسيولوجيا التربية عند مكونات المدرسة وعناصرها الفاعلة والوظيفية، كالتوقف مثل: عند التلاميذ، والمدرسي، ورجال الإدارة، والأعوان والمساعدين، والمشرفين التربويين، وجمعيات الأياء والأمهات، بالتحليل والدراسة والرصد واستكشاف مهام هؤلاء والوظائف المنوطة بهم.

وبعرف أحمد أوزي سوسيولوجيا التربية بقوله: "يقوم علم الاجتماع التربوي بدراسةأشكال الأنشطة التربوية للمؤسسات، كأنشطة المدرسين والتلاميذ والإداريين داخل المؤسسات المدرسية. كما يقوم بوصف طبيعة

الصفحة18

العلاقات والأنشطة التي تتم بينهم. كما يهتم علم الاجتماع التربوي بدراسة العلاقات التي تتم بين المدرسة وبين مؤسسات أخرى، كالأسرة، والمسجد، والنادي. كما يهتم بالشروط الاقتصادية والطبيعية التي تعيش فيها هذه المؤسسات، وتؤثر في شروط وجودها وتعاملها

أما عبد الكريم غريب، فيعرفها بقوله: "علم بدرس التـأثيرات الاجتماعية التي تؤثر في المستقبل الدراسي للأفراد؛ كما هو الشأن بالنسبة لتنظيم المنظومة المدرسية، وميكانيزمـات التوجيه، والمستوى السوسيوثقافي لأسر المتضررين، وتوقعات المدرسين والآباء، وإدماج المعايير والقيم الاجتماعية من طرف التلاميذ، وخارجات الأنظمة التربوية..."

يمكن تحديد موضوع سوسيولوجيا التربية في التساؤل العلمي حول نوعية الروابط القائمة بين المؤسسات التربوية المختلفة وبين باقي البنيات والأطر الاجتماعية الأخرى: ماهي الوظيفة التي تقوم بها تلك المؤسسات داخل مجتمع ما؛ ومامدى مساهمتها في تنشئة الأفراد ؟ وإلى أي حد تحدث تعديلات في الهرمية الاجتماعية القائمة (الحركية الاجتماعية)؛ ومامدى تأثيرها في البنيات الثقافية وماعلاقتها بالبنيات المهنية والثقافية الموجودة؟...إلخ.تلك أهم التساؤلات التي تطمح سوسيولوجيا التربية للإجابة عنها، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات القائمة بين المجتمعات المتنوعة.12

ويعرف علي الحوات علم الاجتماع التربوي بقوله: "هو العلم الذي يختص بدراسة الإنسان حينما يدخل في علاقة مع إنسان آخر في إطار تربوي بهدف إلى تكوين الخبرة، أو المعرفة، أو الثقافة، أو التعليم، أو التدريب".أي: العلاقات التي تتم بين الأفراد في الإطار التربوي (التعليمي التعلمي)، سواء أكانت هذه العلاقات بين تلميذ وأخر، أو بين تلميذ ومعلم، ثم بين التلاميذ والمعلمين ككل، وبين كل من في المؤسسة التربوية.

الهوامش:

-11حمد أوزي: المعجم المسوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص: 167.

 -12عبد الكريم غريب: المنهج التربوي، الجزء الثاني، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2006م، ص: 864.

الصفحة19

والنظام التربوي بشكل عام، وبين كل من في الإطار التربوي والمؤسسات الاجتماعية الأخرى في المجتمع الكبير.13

وعليه، فسوسيوبوجيا التربية هي التي تعنى بدراسة المدرسة في علاقتها بمحيطها المجتمعي، ودراسة مختلفة التفاعلات الاجتماعية داخل المؤسسة التربوية نفسها، والاهتمام بمختلف الأنشطة والأدوار التي تقوم بها المدرسة التربوية، مع التركيز على مجموعة من الظواهر الاجتماعية التربوية، مثل: سلطة المدرسة، والنجاح والإخفاق، والانتقاء أو الاصطفاء التربوي، ودور المدرسة في انتخاب النخبة، والفوارق الاجتماعية والطبقيـة داخل المؤسسة، والهـدر المدرسي، وديناميكية الجماعات، ومشروع المؤسسة، والشراكة التربوية، والتوجيه التربوي، والمسالك المهنية، وديمقراطية التعليم، وتفاعلات المدرسة الداخلية والخارجية، وقضية اللامساواة

الطبقيـة، والمدرسة والإعلام، أو موقف المدرسة من التحديات الإعلامية للتلفزيون والأنترنيت، والتفاعل التربوي داخل المؤسسة أو الفصل الدراسي، وطبيعة العلاقة بين المدرسة والأسرة، وقضية الانتماء الاجتماعي، والتحصيل الدراسي، والنجاح المدرسي.  ويرى محمد الشرقاوي أن سوسيولوجيا التربية تعني بدراسة أنظمة التعليم، ودراسة الظواهر المدرسية، مع دراسة مختلف العلاقات التي تكون بين المدرسة ومخلف المؤسسات الأخرى، مثل: الأسرة، والسياسة، والاقتصاد. أي: "دراسة الآليات المدرسية كالمدخلات والعمليات والمخرجات، وتتمثل المدخلات في التلاميذ والمدرسين والإدارة، ويتميز تلاميذ المدرسة، على أساس أنهم ساكنة المدرسة، بخصائص فيزيولوجية، ونفسية، واجتماعية، علاقة على السمات التالية: السن، والجنس، والمسنوى الثقافي، والأصل الاجتماعي. أمما المدرسون والإداريون، فيتميزون بالمتغيرات المهنية والحرفية والسياسية والثقابية، مثل: مستوى التكوين، وطريقة التوظيف، والوضعية داخل البنية المجتمعية، والتوجهات السياسية والثقابية.  

أما المخرجات، فتتمثل في النتائج التي تترتب عن توظيف آليات التطبيع الاجتماعي والاصطفاء. أي: توظيف مختلف المعارف والمهارات من أجل  

الهواميش:

-13على الحوادث: أسس علم الاجتماع التربوي، جامعة الفاتح، طرابلس، ليبيا، طبعة 1979، ص: 84.

الصفحة20

تحقيق النجاح الدراسي، ورصد مختلف آثار التعلم في أساليب الحياة،أوفي السلوك السياسي أو القانون المجتمعي النهائي.  

وترتكز العمليات على نقل القيم الأخلاقية والمعارف، ثم الاهتمام بالبيداغوجيا، ثم قواعد التقويم. وبعني هذا أن وظيفة المدرسة هي نقل المعارف والقيم وفق قواعد بيداغوجية وديدكتيكية معينة، مع الاهتمام بأنظمة التقويم.  

ويتضح،مما سبق، أن مجال علم الاجتماع المدرسي هو رصد التحول الذي ينتخاب الفرد، وهو ينتهل من كائن بيولوجي غريزي إلى كائن بيولوجي إنساني وتفافي. ومن ثم، فسوسيولوجيا التربية لديها الكثير مما تقوله: ومن ثم، فعلم الاجتماع التربوي مجال واسع ورحب، ومتعدد المواضيع والقضايا، وأن المدرسة مجتمع مصغر وبالتالي، ترخر بكثير من الظواهر والمجتمعية التي تنقلها من المحيط الذي يحوم به14.

ولكن ينبغي لسوسيولوجيا التربية أن تتوسع وتتجاوز إطار المدرسة إلى أشكال ضمنية أخرى من التعلم، كان تتوقف عند الأسرة والمحيط وغيرها من المواضيع المرتبطة بالتعلم.  

 ومن هنا، تهتم سوسيولوجيا التربية بالعلاقات الاجتماعية داخل المؤسسة التربوية، ودراسة المؤسسات التي تقوم بوظيفة التنشئة التربوية والاجتماعية، وربط التكوين بوظيفته الاجتماعية والإيديولوجية، والتركيز على وظيفة التنشئة الاجتماعية ووظيفة التمدرس.  

 وعلى العموم، تهتم سوسيولوجيا التربية بدراسة الأنظمة التربوية في علاقتها بالمجتمع، وتبيان دورها في التغيير الاجتماعي، ولا سيما أن التربية تسعى إلى تحويل كائن غير اجتماعي ليصبح اجتماعياتا15. ومن ثم، فسوسيولوجيا التربية مفهوم عام بدرس مختلف الأنشطة الإنسانية، وخاصة التربوية منها. وإذا كانت سوسيولوجيا التربية تدرس الظواهر المدرسية، فلها أيضا علاقة وثيقة *بالأسرة والسياسة والاقتصاد*. ويعني هذا أنها تدرس ما يتعلق بالتربية بالتركيز على ثلاثة عناصر رئيسة هي:

الهواميش:

Mohamed Cherkaoui:Sociologie de l'éducation, Que sais-je, PUF, 5 edition 1999, pp: 3-5.14-

Mohamed Cherkaoui : Sociologie de l’éducation, PUF, Paris, France, 1 édition 1986, p : .315-


الصفحة21

مداخل التربية (المتمدرسون، و رجال التعليم، وأطر الإدارة، والاباء، والمقــررون، والمفتشــون...)، والياتهــا البيداغوجيــة والديدكنيكيــة والسوسيولوجية، ومخارجها(التقويم، والانتفاء، والاصطفاء...).

وهناك تعريف آخر لهذا الحقل المعرفي مفاد أن علم الاجتماع التربوي يقوم "بدراسة أشكال الأنشطة التربوية للمؤسسات، كأنشطة المدرسين والتلاميذ والإداريين داخل المؤسسات المدرسية كما يقوم بوصف طبيعة العلاقات والأنشطة التي تتم بينهم. كما يهتم علم الاجتماع التربوي بدراسة العلاقات التي تتم بين المدرسة وبين مؤسسات أخرى، كالأسرة، والمسجد، والنادي. كما يهتم بالشروط الاقتصادية والطبيعية التي تعيش فيها هذه المؤسسات، وتؤثر في شروط وجودها وتعامله16.

وهناك من يعرف سوسيولوجيا التربية بأنها بمثابة علم "بدرس التأثيرات الاجتماعية التي تؤثر في المستقبل الدراسي للأفراد؛ كما هو الشأن بالنسبة لتنظــيم المنظومــة المدرســية، وميكانيزمــات التوجيــه، والمســتوى السوسيوتفافي لأسر المتمرسين، وتوقعات المدرسين والاباء، وإدماج المعــايير والقيـم الاجتماعيـة مـن قبـل التلاميـذ، ومخرجـات الأنظمـة التربوية17.

وبناء على ما سبق، يقصد بسوسيولوجيا التربية ذلك الحقل المعرفي الذي يستعين بعلم الاجتماع في دراسة القضايا التربوية، في علاقة بمختلف المؤسسات المجتمعية الأخرى، على أساس أن المؤسسة التعليمية مجتمع مصغريمكن، في جوهره، مختلف التناقضات الجداية التي يتضمنها المجتمع الأكبر. وأهم ما تغنى به سوسيولوجيا التربية دراسة المؤسسة التعليمية، مع تحديد دورها في بناء المجتمع، سواء أكان ذلك عبر التكييف الاندماجي أم عبر عمليات التغيير. أضف إلى ذلك أنها تهتم بفهم المدرسة باعتبارهــا

بنيــةودلالــة، ومقصــدية أي: ترصــد دورهــا فــي التغييــر الاجتماعي. كما تهتم بتبيان مختلف وظائفها وأدوارها، واستكشاف علاقة المدرســة بالأســرة والسياســة والاقتصــاد، ووصــف مختلف الصــراعات الطبقية والاجتماعية التي تعجب بها المؤسسة التعليمية، والتركيز على أهم

الهواميش:

16-أحمد أوزي: *المحجم الموسوعي لعلوم التربية.* ص: 167.

17-عبد الكريمغريب: *المنهج التربوي.* الجزء الثاني، ص: 863.

الصفحة  22

الفاعلين في تحريك هذه المؤسسة التربوية، وتفسير دور المدرسة في المجتمع الليبرالي، من حيث تحقيقها لفرص النجاح والفشل، وعلاقة ذلك بالأصول الطبقيّة والاجتماعية.

وهكذا، فلقد استفادت التربية كثيرا من المقاربة السوسيولوجية في دراسة الفشل الدراسي، وافتحاص المنظومة التربوية في مختلف مستوياتها وأبعادها، بعد أن ارتبطت لمدة طويلة بالمقاربة السيكولوجية التي كانت تعني بدراسة الظواهر الفردية، كالنمو، والذكاء، والذاكرة، والتعلم...

المطلب الثاني :أهمية سوسيولوجيا التربية

من المعلوم أن لسوسيولوجيا التربية أهمية كبرى في فهم الأنظمة التربوية وتفسيرها فهي - أولاً - تتجاوز المقاربة السيكولوجية التي تهتم بدراسة الظواهر الفردية لتهتم بالظواهر الاجتماعية، وبعني هذا أنها تنشر نوعا من الوعي الاجتماعي في مقاربة الظواهر التربوية. كما تؤكد سوسيولوجيا التربية مدى ارتباط التربية بالسياسة والمجتمع والاقتصاد. ومن جهة أخرى، تستكشف مدى تغلط الاجتماعي والسياسي في المنظومة التربوية، مع الإشارة إلى أن المدرسة ليست مؤسسة محابدة، بل تخضع للتوجهات السياسية والحزبية والتغلبية والإيديولوجية. وتهدف هذه السوسيولوجيا إلى التقليل من مسؤولية الأفراد، وخاصة في مجال الفشل الدراسي، لتحمل المجتمع وبياته نتائج ذلك. ولا ننسى أن سوسيولوجيا التربية تهتم بالتشديد على دور المدرسة في تغيير المجتمع، وتحقيق التنمية البشرية المستدامة، وتأهيل الاقتصاد، وتطوير المجتمع، وتحقيق التقدم والازدهار، وتحقيق الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، والقضاء على الأمية. ومن هنا، أصبح التعليم مشروعا مجتمعيا كبيرا في مجال التنافس بين الأمم، ولاسيما في زمن العولمة والمعلومات الرقمية.


المطلب الثالث: علاقة علم الاجتماع التربوي يعلم الاجتماع العام

الصفحة23

يعد علم الاجتماع التربوي فرعا من فروع علم الاجتماع العام، وميدانا من أهم ميادينه الميكرو مجتمعية نظرا لعلاقة المدرسة بالمجتمع والتنمية والتخلف. وأكثر من هذا فقمة تأثير وتأثر متبادل بين هذين العلمين؛ إذ يشتغل علم الاجتماع التربوي على التصورات الاجتماعية والمقاربات المنهجية والتطبيقية التي يرتكن إليها علم الاجتماع العام. وفي الوقت نفسه، يستفيد علم الاجتماع العام من قضايا علم الاجتماع التربوي، ونتائجه المختبرية والميدانية والتحليلية.

كما يستفيد علم الاجتماع التربوي من معظم النظريات والمقاربات التي اعتمدتها السوسيولوجيا العامة، مثل: المادية التاريخية (كارل ماركس)، والبنوية (لوي ألتوسير)، والبنوية الوظيفية (بارسنز وميرتون)، والنسقية (كوميس ويودون وفالي)...

ومن جهة أخرى، يستعمل هذا العلم الأدوات والمفاهيم نفسها التي يستخدمها علم الاجتماع العام، ويناقش الموضوعات والقضايا التي يناقشها علم الاجتماع العام، مثل: علاقة النظام التربوي بالمجتمع الكلي. ومن ثم، لا تكتفي سوسيولوجيا المدرسة بالمقاربة الميكرومجتمعية على أساس أن المدرسة مجتمع مصغر، بل تتعدى ذلك إلى التعامل معها ضمن المقاربة الماكروسوسيولوجيا، بالتوقف عند علاقة المؤسسة التربوية بـالتي التنظيمات المجتمعية الأخرى. ولا تعنى فقط بدراسة المدرسة أو المؤسسة التربوية فقط، بل تهتم كذلك بدراسة الممارسات التربوية، واستجلاء مختلف العلاقات الاجتماعية التي تتحكم في تصرفات الفاعلين داخل المؤسسة التربوية.

ولعلم الاجتماع التربوي علاقة بالعلوم الأخرى، كالعلوم الاجتماعية ( علم الـنفس، والتـاريخ، والاقتصاد، والأنتروبولوجيا، والسياسة)، والعلوم الإنسانية (اللغـات، والفلسفة، والفنـون، والـديانات)، والعلوم التطبيقية (الرياضيات، والفلك والهندسة، والطب، والتربية).

المطلب الرابع: أسئلة سوسيولوجيا التربية وقضاياه

طرحت سوسيولوجيا المدرسة، منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر المـيـلادي وبـدايات القـرن العشـرين، عـدة أسـئلة وقضايا، مثـل: سـؤال

الصفحة  24

الانضباط الاجتماعي، أو دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية مع إميل دوركابم. وبعد ذلك، طرح سؤال اللاصدولة منذ سنوات السنين من القرن الماضي مع بير بورديو ، وكلود باسرون، وبريزنشتاين، وغيرهم... ثم، طرح سؤال آخر هو سؤال العنف وقلة الأدب مع (ربك ديباريو) ثم طرح سؤال يتعلق بتصرفات المتعلم وسلوكياته داخل المدرسة، وسؤال علاقات المدرسة بأولياء الأمور، وسؤال الهدر المدرسي، وسؤال الجودة بعد تعاظم دور المدرسة الكمية، وسؤال بطالة أصحاب الشهادت العليا، وسؤال التكوين التربوي، وسؤال المدرسة بين منطق الطلب والعرض، وسؤال المفاضلة والمقارنة بين المدرسة العمومية والمدرسة الخصوصية، وسؤال النجاح والإخفاق المدرسيين، وسؤال التوجيه التربوي أو المدرسي أو المهني، وسؤوال الأقسام المشتركة، وسؤال العلاقات التفاعلية بين المدرسة والمجتمع كما يظهر ذلك واضحا عند السوسيولوجي الأمريكي بارسونز وسؤال الغش وتسريبات الامتحانات، وسؤال الكفاءة التعلمية والتعليمية والمهنية، وسؤال الكفاءة والتأهيل، وسؤال علاقة المدرسة بسوق الشغل...

وتنص سوسيولوجيا التربية أو المدرسة على دراسة العلاقات التربوية، والأدوار التربوية، والجماعات التربوية، ليس في بلد معين، بل في العالم كله، وفي مختلف المجتمعات القديمة والحديثة، ضمن رؤية علمية موضوعية. بيد أن المدرسة باعتبارها مؤسسة تربوية لإيمكن دراستها دراسة مستقلة، بل لها علاقة بالمؤسسات الأخرى، كمؤسسة الأسرة، ومؤسسة الاقتصاد، ومؤسسة المدين، ومؤسسة الإدارة، ومؤسسة السياسة...

وعليه، تعنى سوسيولوجيا التربية بوصف النسق التربوي في علاقته بالمجتمع، وتشخيص مختلف الأدواء التي يعاني منها هذا النسق، مع إيجاد الحلول الممكنة لجل المشاكل التي تطرحها التربية أو المؤسسة التعليمية، وتقديم مقترحات استشرافية لمعالجة الظاهرة التربوية في منظور المقترب السوسيولوجي.

المطلب الخامس: منهجية التعامل مع سوسيولوجيا التربية

الصفحة 25

يمكن الحديث عن منهجين في دراسة الظواهر التربوية: منهج كمي ومنهج كيفي. ويعني هذا أن ثمة أبحاثا وكتبا ودراسات اعتمدت على المنــــاهج التجريبــــة، والمقــــاييس الموضوعية، والإحصــــاء السوسيولوجي. أي: تمثلـــت التحليــل التجريبي القــائم علــى الإحســاس بالمشكلة، وتكوين الفرضيات، وتجريب المتغيرات المستقلة والتابعة، وتكرار الاختبارات، وإصدار القانون، وتعميم النظريات. ويعني هذا أن علم الاجتماع التربوي قد تعامل مع موضوعات النسق التربوي على أنهـا أشياء ومواد، يمكن إخضاعها للدراسة العلمية الموضوعية، بالاعتماد على الملاحظة التجريبية المنظمة القائمة على المعاينة المخبرية، والبحث عن العلاقات الارتباطية بين المتغيرات المستقلة والتابعة اعتمادا على الإحصاء الوصفي والإحصاء الاستنتاجي، كما يتبين ذلك جلبـا فـي المدارس السوسيولوجية الأمريكية. ويعني هذا أن سوسيولوجيا التربية أمريكية أكثر مما هي بريطانية وفرنسية وألمانية بسبب كثرة الصحف والمجلات والدراسات والكتب والأبحاث والمختبرات التي تعنى بمشاكل علم الاجتماع التربوي.

ولـم يقتصر البحث الموضوعي على التجريب فقط، بل تعدى ذلك إلى الوصف والتشخيص والمقارنة، وقد تم التركيز على العلاقات التربوية، والجماعات التربوية، والأدوار التربوية، ودراسة المدرسة في علاقتها بــالمجتمع، والأســرة، والــدين، والأخــلاق، والسياســة، والاقتصــاد، والإدارة.. بالتركيز على البنية (المدرسة البنيوية) والوظيفة (المدرسة الوظيفية). وفي المقابل، هناك دراسات اعتمدت على دراسة الحالة، وتحليل المضمون، والاستمارة، والمقابلة، والمعايشة، والملاحظة...

وعليه، يتأرجح علم الاجتماع التربوي بين البعد الذاتي والبعد العلمي الموضوعي. ويستند ـ منهجيـا إلى الفهم، والتشــخيص، والتفسير، والتأويل.

الصفحة 26 



الفصل الثاني:تطور سوسيولوجيا التربية



من المعلوم أن سوسيولوجيا التربية، أو سوسيولوجيا المدرسة، فرع من  فروع علم الاجتماع العام. ومن ثم، يهتم هذا الفرع بدراسة علاقة المدرسة  بالمجتمع، في ضوء مقترب سوسيولوجي علمي أو تفاعلي تفهمي. ويحني  هذا أن هذه السوسيولوجيا تقارب التربية بصفة عامة، والمدرسة بصفة  خاصة ، في سياقها الواقعي والاجتماعي، ووفق ظروفها السياسية،  والاقتصادية، والتاريخية، والدينية، والثقافية، والحضارية. فضلا عن  كونها تهتم بدراسة المدرسة من الداخل باعتبارها نسقا بنيوبا وظيفيا، تقوم  بأدوار عدة من أجل الحفاظ على نظام المؤسسة ، وتحقيق توازنها  المطلوب. ومن جهة أخرى، تدريسها من الخارج على أساس أن المدرسة  قاطرة للتنمية المجتمعية المستدامة.  

ومن ثم، فما يهمنا في هذا الموضوع هو التوقف عند تطور سوسيولوجيا  التربية، أو سوسيولوجيا المدرسة، في العالمين: الغربي والعربي بالدراسة والتحليل والتوثيق.  

المبحث الأول:تطور سوسيولوجيا التربية في الغرب

يمكن الحديث عن مجموعة من المراحل التي عرفتها سوسيولوجيا  التربية، ويمكن حصرها في مرحلة البداية والتأسيس التي تمتد حتى حدود الحرب العالمية الثانية، ومرحلةالمراجعة و التجاوزمابين سنوات السبعين والثمانين،و ال مرحلةاللسويولوجيا المعاصرة إبان السنوات التسعين، ومرحلة الألفية الثالتة...

المطلب الأول: مرحلة الريادة والتأسيس

لم تظهر سوسيولوجيا التربية إلا في أواخر القرن التاسع عشر مع إميل دوركايم الذي يعد من الرواد الأوائل الذين اهتموا بسوسيولوجيا التربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، حينما كان يحاضر في جامعة بوردو، ضمن الدروس البيداغوجية التي كان يقدمها للمدرسين. وقد اهتم أيضا

الصفحة 28

بالتنشئة الاجتماعية التي تقوم بها المدرسة، مع التساؤل عن طريقة تكوينالمجتمعات لشبابها، ودور المدرسة في المجتمع. بيد أن محاضراتهوكتاباته لم تجمع إلا بعد موته.

ومن أهم كتبه، في هذا المجال، كتاب (التربية الأخلاقية) 18الذي نشر مابين سنتي 1902و 1903م؛ حيث تناول فيه بعض المواضيع المتعلقة بالتربية ، مثل: علمانية الأخلاق، وعناصر الأخلاق، وروح الانضباط، والارتباط بالجماعات المجتمعية، واستقلالية الإرادة، والتربية الأخلاقيةعند المتعلمين، والانضباط المدرسي، وسيكولوجيا المتعلم، والعقوبة المدرسية، والطفل والغير، وتأثيرات الوسط التربوي، وتدريس العلوم، والثقافة الجمالية، والتعليم التاريخي.

ثم أعقبه كتاب آخر هو (التربية وعلم الاجتماع )19 ، وقد نشر سنة1922م؛ حيث أورد تعريفات للتربية في ضوء المقترب السوسيولوجي، بالتشديد على الطابع الاجتماعي للتربية، وتبيان دور الدولة في مجال التربية، والتركيز على سلطة التربية ووسائل العمل، واستجلاء طبيعة البيداغوجيا ومنهجيتها، والمقارنة بين البيداغوجيا والسوسيولوجيا، ورصد تطور التعليم الثانوي في فرنسا ودوره.

وعليه، يرى دوركايم أن المدرسة تسهم في التنشئة الاجتماعية بنقل قيم الأجداد إلى الأبناء والأحفاد. كما تعمل على إدماج الأفراد داخل المجتمع الكبير. ويعني هذا أن المدرسة مجتمع مصغر تكيف المتعلمين ليتأقلموا مع المحيط المجتمعي وقيمه وعاداته وقوانينه وأعرافه وتشريعاته. وبتعبير آخر، للمدرسة وظيفة التبيئة الاجتماعية، وخلق مواطنيين صالحين قادرين على التكيف مع المجتمع الخارجي. لذا، تقوم التربية الأخلاقية بدور هام في مجال التنشئة الاجتماعية، وتطبيع المتعلم اجتماعيا للتكيف مع الوضعيات المعطاة، وتكوين أشخاص مستقلين يحترمون ثقافة المجتمع العام...

الهواميش:




الصفحة 29

ولاننسى كتابه الآخر (التطور البيداغوجي في فرنسا) 20الذي صدر سنة 1938م، ويهتم بالتطور التاريخي للممارسة البيداغوجية الفرنسية في علاقتها ببنيتها المجتمعية.  

بين أن على أسعد وقطة وعلى جاسم الشهاب يذهبان، في كتابهما (علم الاجتماع المدرسي)، إلى أن جون ديوي هو رائد علم الاجتماع التربوي بكتابه (المدرسة والمجتمع) الذي نشره سنة 1899م 21 حيث ركز فيه على المبادئ التالية:  

ويقول الباحثان عن جون ديوي: "لقد شكلت أعمال جون ديوي (1859-1952) المنطلق الأساسي لولادة علم الاجتماع المدرسي الحديث في نهاية القرن العشرين، حيث تمكن بعبقريته التربوية المعبودة، في نسق من أعماله المتواترة، أن يؤسس منهجية علمية رصينة للبحث في مجال المؤسسة التربوية. كان ديوي أول من أسس مدرسة تجريبية في عام 1896، واستطاع عبر تجربته هذه أن ينشر أعماله العظيمة في مجال التربية المدرسية، حيث نشر كتابه (عقيدتي التربوية) عام 1897 (ثم نشر كتابه المشهور (المدرسة والمجتمع) عام 1899 ويشار في هذا الصدد إلى كتابه المعروف (الديمقراطية والتربية) عام 1916م 23

الهواميش:

20- Émile Durkheim: L'évolution pédagogique en France,Paris,PUF,nouv.édition 1969

21-جون ديوي: المدرسة والمجتمع: ترجمة: أحمد حسن الرحيم، دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، بغداد، العراق، الطبعة الثانية 1978م.  

22-جون ديوي: المدرسة والمجتمع: ص 20.  

23-على أسعد وقطة وعلى جاسم الشهاب: علم الاجتماع المدرسي: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص.8-9

الصفحة30

 وبعد هذين الرائدين، ظهرت كتب أخرى، هنا وهناك، تهتم بالمدرسة في أبعادها المجتمعية، مثل: دراسة ألفرد بينيه حول البيداغوجيا التجريبية التي تسعى إلى تشخيص الفشل الدراسي، ووضع مقاييس الذكاء. وقد اهتم ألفرد بينيه، في كتابه (الأفكار المعاصرة حول الأطفال) 24 ، بالتشخيص التجريبي للإخفاق المدرسي، ودراسة دوسيمولوجيا في تقويم فعالية المقررات الدراسية...

ويمكن الحديث أيضا عن مجموعة من الدارسين والفلاسفة والباحثين الذين اهتموا بسوسيولوجيا المدرسة إما بشكل صريح، وإما بشكل ضمني، أمثال كارل ماركس في كتابه (رأس المال) 25وماكس فيبرفي كتابه(الاقتصاد والمجتمع)26، وبول لابي 27في كتابه (المدرسة والمجتمع) وثورستين فيبلين 28في كتابه(التعليم العالي في أمريكا)،ووالر29 في كتابه؛ (سوسيولوجيا التدريس)،وقد امتدت هذه المرحلة إلى غاية سنوات الخمسين من القرن العشرين. 

وبعد الحرب العالمية الثانية، تطورت المؤسسة التربوية بتطور النمو الديمغرافي، وارتباطها بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وأضحت مشاكل المؤسسة التعليمية متفاقمة بتردد الإقبال على المدرسة، والسعي إلى تقوية هذه المؤسسة، والبحث عن استقلاليةها المادية والمالية والمعنوية. وفي الوقت نفسه، تطورت سوسيولوجيا المدرسة بشكل لافت.

الهواميش:

24- A.Binet :Les idées modernes sur les enfants, Paris, Flammarion. Réédité en 1973 avec une préface-Jean Piaget. 1919

25 -K.Marx : Le capital, M. Lachâtre (Paris) 1872

26 - Max Weber: Economie et société, introduction de Hinnerk Bruhns, traduction par Catherine Colliot-Thélène et Françoise Laroche, La Découverte, 1998.

 27 - LAPIE. P., École et société, textes choisis, introduits et présesentés par Hervé Terral, Paris, L’Harmattan, coll. "Logiques sociales", 2003.

 28 - VEBLEN T. [1918] The Higher Learning in America. A Memorandum on the Conduct of Universities by Business Men, Stanford, Academic Reprints.1954. 29 - Waller W.: The Sociology of Teaching, New York, Russel & Russel, 193

29-Waller W.: The Sociology of Teaching, New York, Russel & Russel, 1932

الصفحة 31

للانتباه، بفضل تعدد مراكز البحث والمختبرات العلمية التي تعني بدراسة  المدرسة في علاقتها بالمحيط المجتمعي، ونشرت آلاف من الكتب في هذا  النظام، وخاصة ما كتبه كارل مانهايم30  مثل:  

 الموسيولوجيا سياسة للتربية…

يبدو أن علم الاجتماع التربوي له تاريخ آخر في الولايات المتحدة  الأمريكية، فقد استخدم مصطلح سوسيولوجيا التربية لأول مرة في كلية المعلمين بجامعة كولومبيا بمبنية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1910، كما درس في المعاهد العليا على يد البروفسور هنري سوزالو.واستخدم هذا المصطلح فيما بعد هذا التاريخ كعلم مستقل، وما أن جاء عام  

1914، وصار هناك حوالي 16 جامعة أمريكية تدرس مواد بعنوان علم الاجتماع التربوي، وفي حين كان هناك حوالي 60 جامعة في أمريكا تدرس علم الاجتماع العام وفروعه المختلفة (غير التربوي).

وما أن جاء عام 1933، حتى تم تأسيس وتنظيم الجمعية الوطنية لدراسة علم الاجتماع التربوي، وقامت هذه الجمعية بنشر ثلاثة كتب سنوية خلال الأعوام 1931-1933، ثم توقفت هذه النشرات عن الصدور، لأن نشرة أخرى أسمها البروفسور بين عام 1928، أصبحت هي النشرة الرسمية للجمعية بعد ذلك.  

ومع مرور الأيام صار علماء الاجتماع المهتمون بالتربية يلتقون في اجتماعات سنوية باسم فرع علم الاجتماع التربوي للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع.  

وكأن تدريس علم الاجتماع التربوي بتاريخ بين الازدهار والتراجع، وذلك لاستبدال بعض المؤسسات التربوية من كليات التربية ومعاهد المعلمين تدريس مواد اجتماعية باسم أخرى بدلا من اسم علم الاجتماع  التربوي، وعلى الرغم من ذلك استمر تدريس هذا العلم في المعاهد العليا والجامعات، وصارت تعطى بهذا العلم الدرجات العلمية العليا في الماجستير والدكتوراه، ولا يزال علم الاجتماع التربوي يدرس في

الهواميش:

30- Karl Mannheim,Sociology as Political Education. (Edited and tran slated, with Colin Loader). New Brunswick: Transaction Publishers 2001

الصفحة 32

الجامعات الأمريكية والأوروبية، ولكن دخوله الجامعات العربية جاء متأخرا: 31

ويعني هذا كله أن سوسيولوجيا التربية قد ظهرت - أولا- في الولايات المتحدة الأمريكية، ففرنسا ثانيا، ثم انتقلت إلى باقي البلدان الأخرى.

المطلب الثاني: مرحلة التطور والازدهار

لم تعرف سوسيولوجيا التربية تطورها الحقيقي إلا في سنوات الخمسين من القرن الماضي؛ إذ كانت هذه الفترة مرحلة التطور والازدهار العلمي والمنهجي لهذه السوسيولوجيا مع مجموعة من الباحثين، أمثال: الفرنسيين: بيير بورديو 32، وجان كلود باسرون 33وريمون بودون 34 وإستابليت 35وكريستيان بوديلو 36والبريطاني بيرنشتاين37 والأمريكيين: بولز38  وجينتيس 39 ... 

الهواميش:

31- إبراهيم ناصر: علم الاجتماع التربوي، دار الجيل بيروت، لبنان، مكتبة الرائد العلمية عمان الأردن، ب.ت، ص.7_8

32- Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron,Les héritiers : les étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit, coll. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p. 

33 -Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron,Les héritiers : les étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit, coll. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p. 

34 -Raymond Boudon:L'inégalité des chances, Paris, Armand Colin, 1973 (publication poche : Hachette, Pluriel, 1985).

 35 -Roger Establet et Christian Baudelot, L'école capitaliste en France, Paris, Maspero, 1971.

36 - Roger Establet et Christian Baudelot,L'école capitaliste en France, Paris, Maspero, 1971. 37 - Bernstein B., Class, codes and control, London, Routledge & Kegan Paul, 3 vol., 1971-1975.

38 - Bowles S., Gintis H., Schooling in Capitalist America, New York, Basic Books, 1976

الصفحة33

ويمكن القول: إن ببير بورديو وكلود باسرون هما اللذان أعطيا ولادة ثانية لسوسيولوجيا التربية، وقد انطلقا من فرضية سوسيولوجية أساسية هي:  

لا يملك المتعلمون الحظوظ نفسها في تحقيق النجاح المدرسي. وقد ترتب عن هذا الاختلاف في الحظوظ تنوع طبقي ومجتمعي، ووجود فوارق فردية داخل الفصل الدراسي نفسه. ومن ثم، فقد قادت الأبحاث السوسيولوجية والإحصائية التي أجراها كل من بورديو وباسرون إلى استنتاج أساسي هو أن الثقافة التي يتلقاها المتعلم، في المدرسة الفرنسية الرأسمالية، ليست ثقافة موضوعية ومحايدة، بل هي تعبير عن الثقافة المهيمنة أو ثقافة الطبقة الحاكمة. ومن ثم،فليست التنشئة الاجتماعية تحريرا للمتعلم، بل إدماجا له في المجتمع في إطار ثقافة التوافق والتطبيع والانضباط المجتمعي.ومن ثم، تعد لنا المدرسة الطبقات الاجتماعية نفسها  عن طريق الاحصـظفاء والانتقـاء والانتخـاب.ومن ثم، فهي مدرسة اللامساواة الاجتماعية بامتياز.  

ويعني هذا كله أن سوسيولوجيا التربية النقدية قد عرفت منحنى مهما في سنوات السنين إلى غاية سنوات السبعين، واتخذت بعدا علميا أكثر مما هو سياسي، بعد أن توسعت الهوة بين النظرية والتطبيق، أو بين المؤسسة التربوية والمجتمع، وخاصة بعد تحول المدرسة الرأسمالية إلى فضاء للتطلعن والصراعات الاجتماعية والطبقي ة، أو تحولها إلى مؤسسة تنعدم فيها العدالة الطبقي ة، وتغيب فيها المساواة على مستوى الفرص والحظوظ؛ حيث الفشل والإخفاق مآل أبناء الطبقات الشعبية. في حين، يكون النجاح  حليف أبناء الطبقات الغنية وأبناء الطبقة الحكمة أي: أصبحت مدرسة فارقية بامتياز أو مدرسة للانتقاء والاصطفاء الطبقي والتمييز الاجتماعي.  

ويعني هذا أن السؤال الذي ركزت عليه سوسيولوجيا التربية، في سنوات السنين والسبعين، هو سؤال اللامساواة المدرسية التي تعكس اللامساواة  الطبقية والاجتماعية. وتعكس مدى اختلاف أبناء الطبقات العمالية عن أبناء الطبقات المحظوطة، واختلاف المستوى التعليمي الطويل الذي يرتاده أبناء الطبقات المحظوطة، والتعليم القصير الذي يكون من حظ أبناء

الهواميش:

 - Bowles S., Gintis H., Schooling in Capitalist America, New York, Basic Books, 1976. 39

الصفحة 34

الطبقات الدنيا، ولا سيما أبناء الطبقات العمالية وأبناء المهاجرين. لذا، كان التوجه الماركسي النقدي الجديد يغلب على هذه السوسيولوجيا الصراعية. والدليل على ذلك الثورة العارمة على المدرسة الرأسمالية التي كانت مدرسة طبقية بامتياز، وخاصة ثورة 1968م. وكان البديل هو دمقرطة التعليم، وتحقيق المساواة الاجتماعية الشاملة، والحد من الفوارقاليبداغوجية والديدكتيكية والثقافية والطبقية والمجتمعية، وخلق مدرسة موحدة تحقيق النجاح لجميع المتعلمين بدون تمييز أو انتقاء أو اصطفاء.  

وعليه، يمكن القول: إن دراسات بيبر بورديو هي، في الحقيقة، نقد للدراسات الكلايسيكية حول سوسيولوجيا التربية؛ إذ اعتمدت على المقاربة الماركسية الجديدة في دراسة المدرسة الفرنسية بصفة خاصة، والمدرسة الرأسمالية بصفة عامة، بغية الدفاع عن مشروع التعليم الديموقراطي. ومن أهم الباحثين السوسيولوجيين المعاصرين الذين تركوا بصمات واضحة في مجال سوسيولوجيا التربية بيبر بورديو وكليود باسرون  في كتابيها (الورثة)40, و(إعادة لإنتاج ) 41ورايمون بودون في كتابه (الحظوظ  

اللامتساوية) 42وكليود كرينيون 43في كتابه(نظام  الاشياء)، والبريطاني بازيل بيرشتاين في كتابه (اللغة والطبقات الاجتماعية) 44ومحمد الشرقاوي في مجموعة من كتبه،  

الهواميش:

-40Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron,Les héritiers : les étudiants et la culture, Paris, Les Éditions de Minuit, coll. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p 

41 -Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron,La reproduction : Éléments d’une théorie du système d’enseignement, Les Éditions de Minuit, coll. « Le sens commun », 1970, 284 p 

42 - Bodoun:L'inégalité des chances, Paris, Armand Colin, 1973 (publication poche : Hachette, Pluriel, 1985).

43 -Claude Grignon :L’Ordre des choses,les fonctions sociales de l'enseignement technique, Minuit, Paris, 1971

44 -Basil Bernstein, Langage et classes sociales – Codes sociolinguistiques et contrôle social, Paris, Éditions de Minuit, 1975

الصفحة 35

مثل: (سوسيولوجيا التربية) 45،(تحولات النظام التربوي بفرنسا) 46،(مفارقات النجاح المدرسي) 47، وفيفيان إبرامبير جماتي  

في كتابه (أزمات المجتمع وأزمات التعليم)48 ،(الإصلاح التربوي الفرنسي في التعليم الأساسي)49وجنان ميشيل بيوتينو في كتابه (المدرسة، والتوجيه، والمجتمع) 50، وبودلوإستنابيت في كتابه (المدرسة الرأسمالية في فرسا) 51، وأن فان هاشنت في كتابه (المدرسة في محاك السوسيولوجيا أو سوسيولوجيا التربية وتطوراته)52 ، وماري دورو بيلا وأنييس فان زانتين في كتابه (سوسيولوجيا المدرسة) 53...

الهواميش:

45- Mohamed Cherkaoui: Sociologie de l'éducation, Que sais-je, PUF, 5 édition 1999.

 46 - Mohamed Cherkaoui :Les changements du système éducatif en France 1950-1980, PUF, 1982. 47 - Mohamed Cherkaoui: Les paradoxes de la réussite scolaire, PUF, "L'éducateur", 1985 .

48 -Viviane Isambert-Jamati:Crises de la société, crises de l'enseignement : sociologie de l'enseignement secondaire français, Presses universitaires de France, coll. « Bibliothèque de sociologie contemporaine », Paris, 1970

 49 - Viviane Isambert-Jamati: La Réforme de l'enseignement du français à l'école élémentaire,Éditions du CNRS, coll. « Actions thématiques programmées : sciences humaines », Paris, 1977.

 50 - Jean-Michel Berthelot: École, orientation, société (Pédagogie d'aujourd'hui),Paris,PUF,1993. 

51 - Baudelotet Roger Establet: L'école capitaliste en France, Paris, Éditions Maspero, 1971. 

52 -Anne Van Haecht:L'école à l'épreuve de la sociologie,Collection : Ouvertures sociologiques ,De Boeck Supérieur,Bruxelles, 2006.

 53 -Marie Duru-Bellat, Agnès Van Zanten:Sociologie de l'école, Collection :U, Cycles M et D, UNIVERSITE,2012.

الصفحة 36

المطلب الثالث: مرحلــة المراجعة والتجاوز

ومع سنوات السبعين من القرن الماضي، ظهرت سوسيولوجيا تربوية في الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على التنهم أو المناهج التأويلية والمقاربة الهرمونيطبقية ذات المنحى الفينومينولوجي والإنشاء، فركزت جل أعمالهـــا وأبحاثهـــا النظريـــة والتطبيقيـــة

علـــى الظـــواهر التربويـــة الميكرومجتمعية بدل الظواهر الملكرومجتمعية. وقد جاءت رد فعل على المقاربات المعيارية والوظيفية والماركسية الجديدة. ثم اعتمدت على الإنترغرافيا، وعلم النفس الاجتماعي، والتباريخ، ونظريات التنشئة الاجتماعية، وكانت البنيوية الوصفية مهيمنة في هذه الدراسات. وقد ركزت هذه السوسيولوجيا على أبنية الأدوار، ومصير المدرسة، ولمناهج التربوية، وتطور المؤسسة التعليمية...  

وبعد النظرة السوداوية المتشائمة إلى المدرسة الرأسمالية، ظهرت دراسات لمجموعة من الباحثين متسمة بطابع التفاؤل، بعد النجاح النسي للأنظمة التربوية الغربية، ووضوح المعايير والقوانين، كما يبدو ذلك جليا في كتابـــات كـــل مـــن: محمد الشـــرقاوي 54وروتـر55، وهالســـي56، وكولمــان 57وشـــوب ومو 58... 

المطلب الرابع: المرحلــة السوسيولوجية المعاصرة

الهواميش:

54-Cherkaoui M., Les Paradoxes de la réussite scolaire, Sociologie comparée des systèmes d’enseignement, Paris, PUF, 1979.

55 - Rutter M.,Fifteen Thousand Hours, Secondary schools and their effects on children, Cambridge, Harvard Unive

rsity Press, 1979. 

56 - Halsey A.H., Heath A.F., Ridge J.M., Origins and Destinations. Family, Class, and Education in Modern Britain, Oxford, Clarendon Press, 1980.

 57 - Coleman J.S.,Equality and Achievement in Education, San Francisco,Westview Press, 1990.

 58 - Chubb J.E. et Moe T.M.,Politics, Markets and America’s Schools, Washington D.C., The Brookings Institution, 1990.

الصفحة37

تمتد المرحلة السوسيولوجية المعاصرة من سنوات الثمانين من القرن الماضي حتى أواخر سنوات التسعين. فقد انصب الاهتمام على المناهج الدراسية، وإعادة النظر في المحتويات والمقررات الدراسية، ورصد تاريخ المعارف، والاهتمام بالمؤسسات التعليمية من جهة أولى، والغناية  بالطرائق البيداغوجية من جهة ثانية، والتركيز على المدرسين من جهة ثالثة. ويعني هذا كله ضرورة تشخيص العملية الديدكتيكية أو العملية التعليمية التعلمية بوصفها وتحليلها وتقويمها، بتحديد سلبياتها وإيجابياتها،بعيدا عن التصورات الذاتية والسياسية والإيديولوجية.  

وقد عرفت هذه المرحلة مجموعة من الكتابات السوسيولوجية التي ارتبطت بالتربية والمدرسة على حد سواء، منها كتابات الباحثين السوســريين فيلــب بيرنــود وكليوبــاترا مونتاندون للذين كتبا مجموعة,من الدراسات والأبحاث عن صعوبات التواصل بين المدرسين والآلباء، والاسيما المتحدربين من أصول شعبية، كما يتضح ذلك  جليــا فــي كتابهــا ( الحوار المستحيل بين الآبــاء المدريسين)59وريجــين ســيروتا ( يوميــات المدرســة الابتدائية) 60؛ حيث ركزت الباحثة على التصرفات في كتابهــا اليومية للمدرس في  عالقاته بتلامذه(كثرة النظر، والابتسامات، والتهاني، والأسئلة)،  وعلاقة ذلك بجذورهم الاجتماعية.

أمــا فرانســوا دوبــي فيهــم بحيــاة تلاميــذ التعليــم الثانوي، ورصد معاناتهم داخل المدرسة، كما يتبين ذلك جليــا فــي كتابه (تلاميذ الثانوي). الذي ألفـه سـنة 1991م 61ويصـف الباحـث كـذلك الحيـاة المدرسـية التـي يعيشـها المراهـق داخـل المؤسسـة التربويـة، وخاصـة فـي

الهواميش:

-59Philippe Perrenoud et Cléopâtre Montandon: Entre parents et enseignants, un dialogue impossible, Berne, Peter Lang.1987.

60 - Sirota R. (1988) :L'Ecole primaire au quotidien coll. Pédagogie d'aujourd'hui, ed. Presses universitaires de France, 200 pages

61 - François Dubet :Les Lycéens, Seuil,Paris, 1991.

الصفحة38

كتابه(إلى المدرسة : سوسيولوجيا التجربة المدرسية) الذي ألفه مع دائيلو مارتيشولي  سنة 1996م62. ويركز الباحثان معا على الفجوة الموجودة بين ذاتية المراهق ذي الأصول الشعبية وعملية التعلي ع الاجتماعي، ومسافة التوتر التي توجد بين الحالتين. أي: بين الثقافة الشعبية للعائلة وتفاقة المدرسة؛ مما يخلق نوعاً من الفشل في الاندماج وتحقيق النجاح. وهناك أن بارييرفي كتابها (عمل تلاميذ الثانوي ) الذي نشرته سنة 1997م، وقد تحدث الكتاب عن العمل المدرسي في ضوء سوسيولوجيا الشغل 63

وتمة مجموعة من الباحثين الذين عمقوا إشكالية العمل المدرسي، أمثال: إليزابيت بوتي، ويزنار شارلو، وجان إيف روشي في كتابهم (المدرسة المعرفة في الضواحيوغيرها)وقد نشر سنة 1992م64...

المطلب الخامس: مرحلــة الأنفيــة الثالثــة

أصبحت المدرسة ، في سنوات الأولوية الثالثة، ظاهرة مركبة ومعددة، ومن اللازم أن تقوم بأدوار أخرى غير الأدوار التي كانت تقوم بها سابقاً، فبالإضافة إلى دور الإدماج والتشئة الاجتماعية، وتقديم ثقافة موحدة ومعممة، أصبح هم المدرسة الأساس هو تأهيل المتعلمين تأهيل جيداً للتوافق مع قانون الطلب والعرض الذي تس توجيه السوق الرأسمالية، بتطوير كفاءاتهم المهنية والأدائية والإنجازية، وتنمية مهاراتهم التطبيقية.

الهواميش:

62- François Dubet : À l'école. Sociologie de l'expérience scolaire- avec Danilo Martuccelli, Seuil, 1996.

63 - Anne Barrère, Les lycéens au travail, Paris, PUF, 1997 (262 pages

64 -Charlot Bernard, Bautier Elisabeth, Rochex Jean-Yves :Ecole et savoir dans les banlieues... et ailleurs.Éd. Armand Colin Coll. Formation des enseignants. 1993.

الصفحة 39

للاندماج في سوق الشغل، بخلق مجموعة من الوضعيات المشكلات إليجاد حلول مناسبة لها. ويعني هذا أن التعلّم بالوضعيات هو الشاغل  الأسلس للبيداغوجيا المعاصرة، وأصبح الاهتمام منصبا على بيداغوجيا الكفايات، والأخذ بالشهادات الكفائية بدل الشهادات المعرفية النظرية،علاقة على الاهتمام بالتكوين المهني والاحترافي. ويعني هذا أن وظيفة المدرسة الرئيسية هي وظيفة التكوين والتأهيل والتمهير، وخلق الكفاءات المتمكنة القادرة على التأقلم مع الوضعيات الحياتية المعقدة والصعبة.  

وهكذا، فعلى "امتداد القرن العشرين تغجرت ينابيع البحث السوسيولوجي في مجال المدرسة والمؤسسات الأخرى التربوية، وجاء حصاد هذه الأعمال بلورة لعلوم الاجتماع المدرسي بوصفه النواة الحقيقية لعلوم الاجتماع التربوي. لقد تقاطرت الدراسات والأبحاث السوسيولوجية في ميدان المدرسة والمؤسسات المدرسية وشكلت نتائجها نظاماً متماستكا من المقولات والمفاهيم والنظريات السوسيولوجية ومناهج البحث التي تؤسس لعلوم اجتماع خاص هو علم الاجتماع المدرسي. وهناك آلاف مؤلفة من الكتب والدراسات والأبحاث الممكنة التي عاجلت جوانب الحياة المدرسية بتفاعلاتها وأنظمتها الداخلية وقضاياها التربوية والاجتماعية.65

ونخلص من هذا كلم إلى أن سوسيولوجيا التربية، أو سوسيولوجيا  المدرسة، قد عرفت في الغرب، خمس مراحل كبرى هي:  

المبحث الثاني: سوسيولوجيا التربية في الوطن العربي 

الهواميش:

-65علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب: نفسه، ص: 10-9.

الصفحة40

ثمة مجموعة من الكتب، على الصعيد العربي، التي تناولت سوسيولوجيا التربية أو المدرسة، إما بشكل جزئي، وإما بشكل كلي. ومن أهم هذه الكتب كتاب (دراسات في سوسيولوجيا التربية) لعلي أسعد وظفة وعبد الله شمت المجيدل66 و(علم الاجتماع المدرسة) لعلي أسعد وظفة وعلي جاسم الشهاب 67،و(التربية والابديولوجية) لشبل بدران 68وفايز مراد دندش في كتابه (علم الاجتماع التربوي بين التأليف والتدريس) 69،وفادية عمر الجوالني في كتابها (علم الاجتماع التربوي) 70وحمدي علي أحمد في كتابه (مقدمة في علم اجتماع التربية) 71وعبد السميع السيد أحمد في كتابه (دراسات في علم الاجتماع التربوي)72وعلي السيد الشخيبي في كتابه (علم اجتماع التربية المعاصر) 73وعبد الله الرشدان في كتابه (علم الاجتماع التربوي) 74وحسن حسين البيلاوي في كتابه (الإصلاح التربوي في العالم الثالث) 75،وعبد الله رشدان في كتابه (علم اجتماع التربية) 76وسمية أحمد السيد في كتاب (علم اجتماع التربية)،وفرحان.

الهواميش:

66-على أسعد وظفة و عبد الله شمت المجيدل:دراسات في سوسيولوجيا التربية ، دار الإعصارالعلمي الطبعة الأولى سنة 2015م.

67-علياأسعد وظفة وعلي جاسم الشهاب:علم الاجتماع المدرسي المؤسسة الجامعية للدرسات والنشر،بيروت لبنان ال طبعة الاولى سنة 2004م

68-شبل بدران: التربية والايديولوجية، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1991م.

69-فايز مراد دندش: علم الاجتماع التربوي بين التأليف والتدريس،دار الوفاء لدينا الطبع والنشر، الإسكندرية، مصر، الطبعة الأولى سنة 2002م.

70- فادية عمر الجوالني: علم الاجتماع التربوي، مركز الإسكندرية للكتاب. طبعة 1997م.

71-حمدي علي أحمد: مقدمة في علم اجتماع التربية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية. طبعة 1995م.

72-عبد السميع سيد أحمد: دراسات في علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، طبعة 1993م.

73-علي السيد الشخيبي: علم اجتماع التربية المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، طبعة 2002م.

74-عبد الله الرشدان: علم الاجتماع التربوي، دار عمان للتوزيع والنشر، عمان، الأردن. طبعة 1986م.

75-حسن حسين البيلاوي: الإصلاح التربوي في العالم الثالث، عالم الكتب، القاهرة، مصر. طبعة 1988م.

76-عبد الله رشدان: في علم اجتماع التربية، دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى سنة 2008م.

الصفحة 41

حسن بريخ في كتابه (المدرسة والمجتمع)77، وردده خليل سالم في كتابه(المدرسة والمجتمع)78، وحسن أحمد الطعاني في كتابه (مفاهيم تربوية: المدرسة والمجتمع)79، وإبراهيم ناصر في كتابه (علم الاجتماع التربوي) 80.إلخ.

ومن جهة أخرى، يمكن الحديث عن مجموعة من الكتب والدراسات المتعلقة بسوسيولوجيا التربية أنجزها بالحثون مغاربة أمثال: محمد عابد الجابري في كتابه (أضواء على مشكل التعليم بالمغرب)81(ورؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية)82، وخالد المير وارديس قاسمي وأخرون في كتابه(أهمية سوسيولوجيا التربية، والمدرسة ووظائفها)83، والصديق الصادقي العمري في كتابه (التربية والتنمية وتحديات المستقبل: مقاربة سوسيولوجية)84، وعبد النور إدريس (سوسيولوجيا التمايز: ظاهرة الهدر الدراسي بالمغرب)85، وعبد الكريم غريب في (سوسيولوجيا التربية)86و(سوسيولوجيا المدرسة)87.

الهواميش:

77-فرحان حسن بريخ: المدرسة والمجتمع، دار أسامة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى سنة 2012م.

78- رنده خليل سالم:**المدرسة والمجتمع، مكتبة المجتمع العربي، الطبعة الأولى 2010م.

79- حسن أحمد الطعاني: مفاهيم تربوية: المدرسة والمجتمع، رؤية معاصرة، دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى سنة 2013م.

80- إبراهيم ناصر: علم الاجتماع التربوي، دار الجيل بيروت، لبنان، ومكتبة الرائد العلمية، عمان، الأردن، د.ت.

81- محمد عابد الجابري: أضواء على مشكل التعليم بالمغرب دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1973م.

82- محمد عابد الجابري: رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، السياسة 1977م

83-خالد المير وارديس قاسمي وأخرون أهمية سوسيولوجيا التربية، والمدرسة ووظائفها، سلسلة التكوين التربوي، العدد 3، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1995م.

84-الصديق الصادقي العمري: التربية والتنمية وتحديات المستقبل: مقاربة سوسيولوجية، مطبعة بلغتيه، الرشيدية، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2013م.

85-عبد النور إدريس: **سوسيولوجيا التمايز: ظاهرة الهدر الدراسي بالمغرب، دار دفاتر الإختلاف، مكتاس، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2008م.

86-عبد الكريم غريب: سوسيولوجيا التربية، مطبعة دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2000م

الصفحة 42

ومحمد فاوبار في كتابه (سوسيولوجيا التعليم بالوسط القروي) 88، ومصطفى محسن في كتبه (الإطار السوسيولوجي العام للنظام التربوي)89 ،  و( في المسألة التربوية، نحو منظور سوسيولوجي منفتح)90و( الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري، رؤية سوسيولوجية نقدية) 91،  و (مدرسة المستقبل) 92،  و( رهانــات تلمويــة - رؤى سوســيوتربوية وثقافيــة ونقديــة)93و المصطفى حدية في كتابه (الشباب، التربية والتغيير الاجتماعي) 94،  وهلـم جرأ...  

وخلاصة القول، إذا كانت سوسيولوجيا التربية، في العالم الغربي، قد حظيت بدراسات ومؤلفات وكتب ومقالات كثيرة، وبمنهجيات مختلفة، وضمن مدارس متنوعة، فمازالت سوسيولوجيا التربية، في وطننا العربي، عالة على نظيرتها الغربية، وذلك ينتيح خطواتها العلمية، ودراسة  

الهواميش:

87-عبد الكريم غريب: سوسيولوجيا المدرسة، مطبعة دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م.  

88-محمد فاوبار: سوسيولوجيا التعليم بالوسط القروي، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2001م.  

89-مصطفى محسن: الإطار السوسيولوجي العام للنظام التربوي، سلسلة من أجل كتاب تربوي نفسي واجتماعي مغربي، منشورات مجلة التربية والتعليم، الرباط، ملحق بالعدد 1790م. الطبعة الأولى سنة 1990م.  

90-مصطفى محسن: في المسألة التربوية، نحو منظور سوسيولوجي منفتح، شركة بابل  للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1992م.  

91-مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري، رؤية سوسيولوجية نقدية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1999م.  

92-مصطفى محسن: مدرسة المستقبل، رهان الإصلاح التربوي في عالم متغير، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم 26م مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م

93-مصطفى محسن:رهانات تنموية، رؤى سوسيوتربوية وثقافية وثمانية، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم 33م مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2011م.

94 - Elmostafa Haddiya:Jeunesse, éducation et changement social, Rabatnet, Rabat, Maroc, 1édition 2014.

الصفحة 43

لمواضيع والمشاكل والقضايا والمحاور نفسها التي ناقشتها سوسيولوجيا التربية في الغرب، مع تمثيل نظرياتها ومناهجها وطرائقها،

اما بشكل جزئي، وإما بشكل كلي.

الصفحة44



الفصل الثالث:المدرسة والتربية وعلاتها بالمجتمع



المبحث الأول: مفهــــوم المؤسسة

تعرف المؤسسة (Institution) بأنها كيان أو تنظيم يجمع مجموعة من الأعضاء الفاعلين يقومون بأدوار معينة. ومن ثم، تراقب هذه المؤسسة تصرفات هؤلاء الفاعلين وتضبطها بواسطة مجموعة من القوانين والتشريعات والتعليمات والأعراف بمعنى أن المؤسسة ذات طابع قانوني منظم ومهيكل بشكل نسقي أو هرمي أو تراتبي أو وظيفي. وتقوم بأدوار متعددة من أجل تنفيذ أعمال معينة، أو إشباع رغبات الآخرين، وتلبية حاجياتهم بقضاء مصالحهم، مثل: مؤسسة الإدارة. أضعف إلى ذلك أن المؤسسة هي التي تنظم العلاقات بين الأفراد والجماعات في مختلف شؤونهم الحياتية، وفق مجموعة من القوانين والتشريعات ، مثل: مؤسسة الزواج، ومؤسسة المدرسة، ومؤسسة المحكمة، والمؤسسة الاقتصادية... وتعرف المؤسسة كذلك بكونها عبارة عن "شخص اعتباري ينشأ بتخصيص مال يجمع من الجمهور أو تديره الحكومة أو تشارك فيه لتحقيق أهداف معينة95.

وعليه، تستند المؤسسة إلى مجموعة من الخصائص المميزة، مثل: السلطة، والقوة، والمعايير، والتنظيم البنيوي، والنظام، والمأسسة، والانضباط، والالتزام، والثبات، والوظائف، والتفتين، والنسقية، والمراقبة، والتدبير، والإدارة، والأنشطة الاجتماعية، والانتماء إلى المجتمع المكرر...

ومن هنا، تعد المؤسسة منظمة "ذات معايير مترابطة تتبع من القيم المشتركة والمعممة من خلال مجتمع معين أو مجموعات اجتماعية معينة بوصفها أحد طرقها الشائعة في التمثيل والتفكير والإحساس. وتمثل جزءا لإنجازاً من الحياة الاجتماعية، كما أنها تعد مصدراً للممارسات الاجتماعية المتكررة، والتي تضطلع من خلالها معظم الأنشطة.

الهواميش:

95-أحمد زكي بدوي مجموعة مصطلحات الرعاية والتنمية الاجتماعية. دار الكتاب المصري، القاهرة؛ دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1987م، ص: 142.

الصفحة46

الإجتماعية وعلى هذا النحو تعتبر المؤسسات شيئاً جوهرياً بالنسبة إلى فكرة البنيان الاجتماعي والتخلّيم البنيوي للنشاطات البشرية96.  

ومن ثم، قد تكون المؤسسة خاصة، إذا كان يملكها فرد ينتمي إلى القطاع الخاص، وقد تكون عامة، إذا كانت تنتمي إلى القطاع العام (المرفق العمومي)، أو تجمع بين الصفتين في الوقت نفسه (مؤسسة عامة مفوضة بالوكالة مثلا).  

وعليه، تتبني المؤسسة على مجموعة من القوانين، والعادات، والتقاليد، والأعراف، والقيم، والتخلّيمات، والمعتقدات الجماعية، والتجمعات الإنسانية، والتطبيقات الخاضعة للمأسسة، وتنفيذ الأدوار، والخضوع للتراتبية الاجتماعية. ويعني هذا أن المؤسسة تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: الهدف والثبات.  

بيد أن أهم ما تمتاز به المؤسسة هو خصوصها للمعايير والقوانين والعادات والأعراف والمبادئ القانونية، واحترام شروط التعاقد. ومن هنا، " تتألف المؤسسات من المعايير والتقديرات الاجتماعية التي تعتبر إلزامية إلى حد بعيد، كما يتم تأديتها ببراعة من خلال فرض عقوبات قاسية لضمان التزام الناس بها.كم تتمثل بتجمع المعايير المترابطة والتي تحدد دورها الاجتماعي والعلاكات بينها.يتحدد دور الطبيب ممن خلال تأسيس المسؤولية المهنية بمعاييرها الكاملة عن الثقة والأمانة والمسؤولية وهم جر. لا يوجد هناك فرق واضح وبين بين المعايير والمؤسسة. بين المعايير والسلسلة من المعايير - ولكن الفكرة الرئيسية للمؤسسات واضحة وتتمثل بالتوقعات المعيارية المتكررة الرئيسية والمعممة. وتشتمل أمثلة المؤسسات على الملكية العامة والتعاقد والدمقراطية والخطاب الحر والمواطنة والأمومة وسلطة الرجال والزواج والحرفية، وتلك المؤسسات على المستوى الجزيئي والتي تتغاير في المحادثة وإعطاء البيانات، تعمل كلها على تنظيم الأدوار المحددة أو سلسلة الأدوار، وتجتمع سوابا في بنيان مؤسسي أكبر.فعندما يضطلع الناس ويستلون الأدوار التي ترتبط بذلك البنيان المؤسسي المحدد، فإنهم يشرعون في خلق مجموعة معينة من العلاقات والتنظيمات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، يمكن أن ينظر إلى 

الهواميش:

96-جون سكوت: علم الاجتماع، المفاهيم الأساسية، ترجمة: محمد عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 2013م، ص: 357.

الصفحة47

الدولة على أنها عبارة عن أنظمة من الأفعال الاجتماعية حيث تنشأ العلاقات بين المشاركين من خلال تلك المؤسسات مثل النظام الديمقراطي والسلطة العليا والملكية المطلقة والمواطنة97.  

ويتكون المجتمع العام من مجموعة من المؤسسات، مثل: المؤسسات الاجتماعية، والمؤسسات السياسية، والمؤسسات الاقتصادية، والمؤسسات الدينية، والمؤسسات التربوية أو التعليمية (المدرسة والجامعة ومؤسسات البحث العلمي)، والمؤسسات الإدارية، والمؤسسات المحلية والجهوية والوطنية والقومية والدولية، والمؤسسات الشعائرية، والمؤسسات المهنية والحرفية والصناعية والتجارية، وهم جرا...  

وبناء على ماسبق، تعد المدرسة مؤسسة تربوية وتعليمية واجتماعية وسياسية، تنتمي إلى القطاع العام (الدولة)، أو القطاع الخاص (الأفراد والشركات). وتتميز المدرسة بكونها مؤسسة منظمة بمجموعة من القوانين الداخلية والخارجية، وهي بمثابة نسق بنيوي داخلي ووظيفي، يتألف من تلاميذ، ومدرسين، ورجال الإدارة، ومشرفين، وأولياء الأمور... ومن ثم، تخضع هذه المؤسسة التعليمية لميزانية الدولة أو لميزانية الخواص.  وتزتكن إلى مجموعة من المناهج والبرامج والمقررات. وتقوم بعدة ادوار مهمة ،مثل :التعليم، والتثقيف، والتكوين ، والتربية، وإعطاء الشهادات... وتقدم تعليما إجباريا من السنة السادسة حتى السنة السادسة عشرة.

ويقصد بالمؤسسة المدرسية أو التربوية كذلك تلك البنية الاجتماعية والسياسية التي تتعلق بالتربية. وتتألف من مجموعة من المؤسسات الصغرى، مثل: مؤسسة روض الأطفال، ومؤسسات التعليم الأولي، ومراكز ذوي الاحتياجات الخاصة، والمدارس الانتدائية، والإعداديات، والتانويات. بالإضافة إلى الكليات والجامعة والمعاهد ومراكز التكوين والبحث العلمي...

الهواميش:

 97-جون سكوت: علم الاجتماع، المفاهيم الأساسية، ص: 359-358. 

الصفحة48

المبحث الثاني: مفهوم المدرسة

لايمكن تحديد المدرسة واستيعاب دلالاتها وأدوارها ووظائفها إلا بالتوقف

عند المطالب التالية:

المطلب الأول: مفهوم المدرسة

من المعلوم أن كلمة المدرسة ، في اللغة ، اسم مصدر " مفعلة "، مشتقةمن فعل الماضي "درس". وتعني المدرسة مكانا عاما أو خاصا للتدريس وتقديم المحتويات والمقررات والقيم والمعارف والمعلومات المعرفية والقيم الوجدانية والمهارات الحسية- الحركية. وهنا، يمكن الحديث عن أربعة عناصر أساسية هي: المدرس الذي يتولى مهمة التدريس والتكوين والتدريب؛ والدرس هو المعرفة التي يوصلها المدرس إلى المتعلم؛ ثم الدارس هو التلميذ أو الطالب الذي يتقبل المعرفة؛ ثم قاعة الدرس التي يتكون فيها المتعلم .ومن هنا، فللمدرسة وظائف عدة منها: وظيفة التعليم، ووظيفة التكوين، ووظيفة التدريب، ووظيفة التأهيل، ووظيفة التهذيب، ووظيفة التنشئة الاجتماعية، إلى جانب وظائف أخرى اجتماعية وإيديولوجية وسياسية ...

ومن ثم، فالمدرسة مؤسسة تربوية وتعليمية ، قد تكون عامة أو خاصة، تعنى بتكوين الناشئة وتربيتها وتهذيبها وتخليقها، وتنمية قدرات المتعلمين العقلية، والسمو بوجدانهم العاطفي والقيمي، وتقوية مهاراتهم الحسية - الحركية. ومن ثم، فالمدرسة فضاء تربوي ينضبط فيه الجميع، مدرسين كانوا أم متعلمين، أمام قانون معياري موحد وملزم بغية أداء الواجبات المهنية والمدرسية أحسن أداء لتحقيق الجودة الكمية والكيفية.

ومن هنا، تعد المدرسة فضاء للتربية والتكوين والتعليم والتهذيب القيمي والخلقي، وفضاء لإعداد المواطنين الصالحين ، وتوفير أكبر عدد من المؤهلين الأكفاء لتحريك دواليب المجتمع والاقتصاد، وإعداد نخب وظيفية وسياسية واقتصادية، وتكوين رجال الغد وبناة المستقبل. وعليه، فالمدرسة هي أداة للتنشئة والتطبيع الاجتماعي، وتكوين مواطنين صالحين يحافظون على قيم أجدادهم ، ويدافعون عن وطنهم وأمتهم

الصفحة49

ودينهم. أظف إلى ذلك أن المدرسة تركيبة اجتماعية معقدة ، تتكون من تلاميذ، ومعلمين، ورجال الإدارة، وأعوان، وعمال، وحراس، ومناهج وبرامج ومقررات، ومرافق إدارية، وبيئات اجتماعية مختلفة، وعلاقات شكلية وغير شكلية، والخضوع لمجموعة من القوانين والعادات والأعراف والتقاليد والتعامل اليومي ... وبهذا، تكون المدرسة بمثابة مجتمع مصغر تعكس تناقضات المجتمع الخارجي، وتشخص مختلف بنياته وعلاقاته التركيبية.

ومن ثم، فالمدرسة نظام من العلاقات التربوية والاجتماعية ، أونظام من التفاعلات النفسية والاجتماعية قائمة، إما على مشاعر المودة والمحبة والصداقة والتعاون والتضامن، وإما مبنية على مشاعر الحقد والحسد والكراهية والنبذ والنفور والحقد الطبقي والاجتماعي. ويعني هذا أن هذه العلاقات خاضعة لثنائية الانجذاب أو النفور. وترتبط المؤسسة التربوية بمجموعة من القضايا والمواضيع الهامة، مثل: التنافس بين المدارس العمومية والخصوصية، والتسلسل الإداري، والديمقراطية، والاصطفاء التربوي، والترابط بين الابتدائي والإعدادي، والعنف المدرسي، والعنف الرمزي في المدرسة، والحق في النقد، والمفارقة الصارخة بين النظرية والواقع، وتعدد الآراء والمنظورات، والمدرسة ووسائل الإعلام، والتواصل المدرسي، والتفاعل التربوي الاجتماعي، ومدرسة الشعب أو مدرسة النخبة؟ ...

المطلب الثاني: وظائف المدرسة

تعد المدرسة مؤسسة اجتماعية وتربوية صغرى ضمن المجتمع الأكبر، تقوم بتربية المتعلمين تربية شاملة، وتأهيلهم بغية الانصهار في المجتمع تكييفا واندماجا وتأقلما. أي: إن المدرسة - حسب إميل دوركايم- ذات وظيفة سوسيولوجية وتربوية هامة. بمعنى أنها بمثابة فضاء مؤسساتي عام، تقوم بالرعاية والتربية والتهذيب والإصلاح، والسهر على التنشئة الاجتماعية، وتكوين المواطن الصالح. ومن ثم، فالمدرسة "هي المكان أو المؤسسة المخصصة للتعليم، تنهض بدور تربوي لايقلخطورة عن دورها التعليمي، إنها أداة تواصل نشيطة تصل الماضي بالحاضر والمستقبل، فهي

الصفحة05 

التي تنقل للأجيال الجديدة تجارب ومعارف الآخرين والمعاييروالقيم التي تبنوها، وكذا مختلف الاختيارات التي ركزوا وحافظوا عليها، بلوأقامو98

عليها مجتمعهم الحالي إذاً، فالمدرسة فضاء تربوي وتعليمي، وأداة للحفاظ على الهوية والتراث، ونقله من جيل إلى آخر، وأس من أسس التنمية والتطور وتقدم المجتمعات الإنسانية. بيد أن للمدرسة أدوارا فنية وجمالية وتنشيطية أخرى، إذ"تتحمل مسؤولية إعطاء التلاميذ فرصة ممارسة خبراتهم التخييلية والعابهم الابتكارية التي تعتبر الأساس لحياة طبيعية يتمتعون فيها بالخبرة والحساسية الفنية99 .

وهكذا، يتبين لنا أن للمدرسة وظيفة تعليمية وتربوية وديدكتيكية وتنشيطية وتدبيرية. وعليه، " تعتبر المؤسسات التعليمية فضاءات للتربية والتكوين، ومجالا لممارسة المتعلمين لحقوقهم، واحترامهم لواجباتهم ، مما يمكنهم من اكتساب المعلومات والمهارات والكفاءات التي تؤهلهم لتحمل التزاماتهم الوطنية. لذا، يجب على المؤسسات أن تضمن احترام حقوق وواجبات التلاميذ ، وممارستهم لها ، واعتماد هذه المرتكزات أثناء إعدادها للنظام الداخلي للمؤسسة، والعمل على إشراك مختلف الفاعلين التربويين في صياغته بمن فيهم التلميذات والتلاميذ، وممثلي جمعيات الآباء والأولياء، ترسيخا للممارسة الديموقراطية، انطلاقا من الثوابت العامة التالية:

●مبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها الرامية إلى تكوين الفرد تكوينا يتصف بالاستقامة والصلاح، ويتسم بالاعتدال والتسامح، ويتوق إلى طلب العلم والمعرفة، ويطمح إلى المزيد من الإبداع المطبوع بروح المبادرة الإيجابية والإنتاج النافع ؛

الهواميش:

98-انظر: وزارة الثقافة والتربية: معجم علم النفس التربوي، تونس، 1990م.

99-نقلاً عن المختار عنقا الإدريسي: ( المسرح والتنشيط)، مجلة آفاق تربوية، المغرب،العدد 11، 1996م، ص:92.

الصفحة 51

وعليه، تستند المدرسة التربوية إلى مجموعة من الوظائف الأساسية التي يمكن حصرها في الوظائف التالية:

الفرع الأول: وظيفة التطبيع والتنشئة الاجتماعية

تقوم المدرسة بوظائف عدة، أهمها: التنشئة الاجتماعية بتكوين مواطنين صالحين نافعين لأسرهم ووطنهم وأمتهم، يحافظون على قيم أجدادهم ومعتقداتهم وأعرافهم . إذاً، ما المقصود بالتنشئة الاجتماعية؟

يقصد بالتنشئة الاجتماعيةعملية التطبيع الاجتماعي القائمة على التعلم والتعليم والتربية والتهذيب، وتقوم على التفاعل

الهواميش:

100- انظر: وزارة التربية الوطنية: دليل الحياة المدرسية، الرباط، المغرب، غشت 2008م.

الصفحة 52

الاجتماعي، وتمثل مجموعة من القيم والمعايير والمثل من أجل التوافق النسبي مع المجتمع، والاندماج في مؤسساته تكيفا وتأقلما ومسايرة. ويعني هذا أن التنشئة الاجتماعية هي التي تهدف إلى " إكساب الفرد (طفلا فمراهقا فراشدا فشيخا) سلوكا ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة تمكنه من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعي معها، وتكسبه الطابع الاجتماعي، وتيسر له الاندماج في الحياة الاجتماعية 101"

وبصيغة أخرى، يقول خليل ميخائيل معوض:" تهدف التنشئة الاجتماعية إلى إكساب الأفراد، في مختلف مراحل نموهم (طفولة- مراهقة- رشد. شيخوخة) ، أساليب معينة تتفق مع معايير الجماعة وقيم المجتمع، حتى يتحقق لهؤلاء الأفراد التفاعل والتوافق في الحياة الاجتماعية في المجتمع الذي يعيشون فيه "102

وقد كانت التنشئة الاجتماعية مرتبطة بتربية الصغار فقط، لكنها- اليوم- أصبحت مرتبطة بتنشئة الراشدين والكبار والشيوخ. أي: ترتبط بسيرورة الحياة بأكملها. و لاتتعلق التنشئة الاجتماعية بسوسيولوجيا التربية فحسب، بل هي من ضمن مواضيع علم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الارتقائي، والصحة النفسية، وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا ... وعليه، يسهم المجتمع وثقافته في تطبيع الفرد وإدماجه في المجتمع، وتحويله من كائن بيولوجي وعضوي إلى كائن ثقافي واجتماعي. أي: يكتسب الإنسان إنسانيته الحقيقية عن طريق التنشئة الاجتماعية ، وبذلك يتميز عن الكائن الحيواني.ومن ثم، لايكتسب الإنسان إنسانيته بفعل العوامل الوراثية والخصائص البيولوجية فقط، ولكن يكتسبها بفضل التنشئة الاجتماعية، في أبعادها الدينية، والتربوية، والحضارية، والثقافية، والمجتمعية.

الهواميش:

101- محمد ياسر الخواجة وحسين الدريني: المعجم الموجز فى علم الاجتماع، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2011م، ص89.

102- خليل ميخائيل معوض علم النفس الاجتماعي، دار نشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1982م، ص:101.

الصفحة 53

وتختلف التنشئة الاجتماعية من بيئة إلى أخرى، فتنشئة أبناء البدو تختلف عن أبناء الحضر، وتنشئة أبناء المناطق الصناعية تختلف عن أبناء المناطق الزراعية، وهكذا دواليك. ويعني هذا أن التنشئة الاجتماعية تتباين بين مجتمعين مختلفين، أو داخل مجتمع واحد متماثل له الخصائص الاجتماعية نفسها.

وتتمثل أهمية التنشئة الاجتماعية في أنها تكسب الإنسان إنسانية؛ حيث يتعلم الإنسان اللغة والعادات والقيم، ويتمثل ثقافة المجتمع، ويتخلص من الصفات الحيوانية الفطرية والغرائزية العدوانية. ومن ثم، يكون الفرد منوطاً بمسؤوليات اجتماعية معينة؛ حيث يسهم في تحقيق تنمية المجتمع، كما تساعده هذه التنشئة على التوافق النسبي مع المجتمه.

ويقوم المجتمع خلال عمليات التنشئة الاجتماعية بدور هام في تشجيع وتقوية بعض الأنماط السلوكية المرغوب فيها والتي تتوافق مع قيم المجتمع وحضارته التي يبثها ويقويها في نفوس أفراد المجتمع. في حين، يقوم بمحاربة أنماط أخرى من السلوك غير المرغوب فيها لتعارضها مع الاتجاهات والقيم السائدة، ويحاول المجتمع محاربتها وإقلاعها من جذورها.

وتختلف الحضارات في تزويد أفراد المجتمع باتجاهات تختلف باختلاف المجتمعات103

وتأسيساً على ما سبق، يتضح لنا أن التنشئة الاجتماعية عملية نمو؛ إذ ينقل الإنسان من كائن بيولوجي، يهتم بتحقيق غرائزه وشهواته وميوله وحاجاته، إلى كائن مجتمعي وثقافي يتحكم بالعقل في سلوكه، ويعتمد على نفسه في حل مشاكله. أضف إلى ذلك أن التنشئة

الاجتماعية عملية مستمرة دينامية. وتحيل الدينامية على مختلف العلاقات التفاعلية التي يجربها الفرد مع الآخرين ضمن البنية المجتمعية. كما أن هذه التنشئة سلسلة من التحولات المتتابعة والمتعاقبة تصل حتى سن الشيخوخة. ثم هي عملية تعلم اجتماعي عبر مجموعة من الأدوار والمواقف الوضعيات.

الهواميش:

103خليل ميخائيل علم النفس للاجتماعي،ص104

الصفحة 54

المتعددة، فيكتسب الفرد مجموعة من الخبرات والتجارب ولإتجاهات النفسية. وغالبا، ما نقصد كل تعلم ذي طابع مجتمعي يحضرفيه الآخرون:

ثمة مجموعة من العوامل التي تتحكم في التنشئة الاجتماعية، وأثرها الكبير في نمو شخصية الفرد مثل: العوامل الوراثية، والعوامل التي تفرزها البيئة المسماة، والتغذية، وعوامل البيئة الاجتماعية، وعوامل أخرى ثانوية، مثل: أعمار الوالدين، والمرض والحروب، والاقتصاديات الحادة، والوفاة المبكرة، وعوامل المناخ و الطقسوو السلالة104.

بيد أن هناك عوامل أكثر نفاذاً وتأثيراً في عمليات التنشئة الاجتماعية، وهي: ثقافة المجتمع، والأسرة، والمدرسة، وجماعة الأقران والرفاق، ووسائل الإعلام (الإذاعة والتلفزيون والسنيما والحاسوب والكتب والمجلات والصحف)، والمؤسسات الاجتماعية، والوحدات الاجتماعية والجماعات التي ينتمي إليها الفرد، ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، ولها تأثيرها المباشر في سلوكه.105

وقد اهتم علماء النفس الاجتماعي بأربعة مظاهر من التنشئة الاجتماعية:

الهوامش :

104-خليل ميخائيل معوض :نفسه ص:113.

105-خليل ميخائيل معوض:نفسه، ص :117-143.

106-خليل ميخائيل معوض:نفسه، ص104.

الصفحة55

التعلم العرضي، وآثار العقاب، والتعلم من النماذج، والتقليد والتكرار والتقمص وتعلم الدور.

وتستند التنشئة الاجتماعية إلى مجموعة من الأساسيات اللازمة، مثل: التفاعل الاجتماعي بين الفرد والمحيط، والمحرك الأول لهذا التفاعل هو حاجيات الإنسان. أما الأساس الثاني، فهو الدافعية، والأساس الثالث هو الإرشاد والتوجيه، والأساس الرابع هو مطاوعة السلوك ومروِّنته107.

وثمة مجموعة من المؤسسات التي تعنى بالتنشئة الاجتماعية، مثل: الأسرة، والشارع، وروض الأطفال، والمدرسة، والجامعة، والنوادي، والرفاق، والمساجد، والكنائس، ووسائل الإعلام، والمؤسسات السجنية، والأحزاب، والنقابات، والجمعيات المدنية، والكتب، والصحف...

وقد تعاق عمليات النمو في التنشئة الاجتماعية بسبب مؤثرات تطال الفرد فتعرقل نمو شخصيته، ومن هذه المؤثرات التي تعوق نمو الشخصية وتعرقل التنشئة الاجتماعية: الصراع بين مكونات الجهاز النفسي للفرد، تعارض أدواره الاجتماعية، انعزال الفرد عن أفراد جماعته التي تشبع حاجاته، ظروف تتعلق بالأسرة مثل الطرق الخاطئة في معاملة الأبناء، غياب الاستقرار العائلي، عدم صلاحية البيئة المدرسية وبيئة المجتمع.

وعندما يحدث هذا الأثر العكسي في التنشئة الاجتماعية، لا يكف الفرد ذاته والمجتمعات التي يتعامل معها عن أن تبعد الفرد توزاريًا في التنشئة الاجتماعية، بل تعمد إلى التطبيع الاجتماعي (108

ومن أهم الذين دافعوا عن وظيفة التنشئة الاجتماعية إميل دوركايم  وبيير بورديو 

الهواميش: 

107محمد ياسر الخواجة وحسين الدريدي، المعجم الموجز في علم الاجتماع، ص: 91-92.

108جليل مديحاتيل معوض، نفسه، ص: 113.

الصفحة 56

إلى ذلك نقبل قيم الأجداد والأبناء إلى الأبناء ضمن جذور الماضي والحاضر، وإعادة الإنتاج نفسه.  

وو تعد  المدرسة - حسب المنظور الإسلامي لإميل دوركهايم، فضاءً للانسجام الاجتماعي، ومكاناً لتحقيق التنشئة الاجتماعية بواسطة التعليم والتربية الأخلاقية، والحفاظ على المدنيات والتقاليد والمظاهر والقيم الموروثة، بمعنى أن المدرسة لها وظيفة التعليم والإدماج، وتكوين أفراد مستقلين ومنتجين في المجتمع في الوقت نفسه أي: يعتمدون على أنفسهم في تكوين أنفسهم، ويتمثلون القيم الموروثة، وفي الوقت نفسه، ينصهرون في دولة المجتمع تحقيقاً لما يريده المجتمع، وتساهم في ذلك، وهذا نلاحظ البعد الإسلامي عند دوركهايم المدرسة هي التي تسهم في الحفاظ على ثوابت المجتمع، وهي التي تجعل الأفراد يتمثلون معايير المجتمع، ويلتزمون بقواعده، ويتمثلون قواعد الحياة الجماعية، ومن ثم، فرضية دوركهايم لديولوجية مباشرة، إذ تكون الأوصاف نفسها التي توجد في المجتمعات الغربية العلمانية.  

وعليه، "فقد كان من الطبيعي أن يسير دوركهايم في ركاب الأسئلة الذي أنشأ علم الاجتماع،أوغست كونت، ويأثر بوجهة نظره في كثير من الموضوعات التي عالجها، فقد كان دوركهايم يسلم تسليماً تاماً بوجود التوازن في المجتمع، وأن الصراع مجرد حالة طارئة مؤقتة، بل قد يمكن اعتباره حالة مرضية للإثبات أن تزول وتخلف وسائط المجتمع توازنه الطبيعي القديم109."  

مادام دوركهايم يجعل من المدرسة فضاءً للانسجام الكلي، ومجال التلقين قواعد الحياة الاجتماعية، باعتبار المتعلم ثوابت المجتمع، وتمثل معاييره المفتوحة، والالتزام بأخلاقه، وقد وعاداته وتقاليده، فإنه يريد بذلك ضرورة الحفاظ على توازن المجتمع واستمرار سيره بذلك الشكل المتصل.  ويغني هذا أن المدرسة عند دوركهايم تهدف إلى إدماج المتعلم في المجتمع، ثم إعطائه ثقافة كونية عقلانية وإنسانية وتكافلية، ثم تكون ذوات مستقلة داخل مجتمع عضو، ثم تلبية حاجيات المجتمع، وبتحقيق هذا كل نوع من التقدم والازدهار للمجتمع، ويكسب المتعلم هوية وطنية وقومية حقيقية.  

الهواميش:

109وسيلة خزار:الإديولوجيا وعلم الاجتماع،جدلية الانفصال و الاتصال، منتدى لمعاربيروت،لبنان،الطبعة الأولى سنة 2013مص،142.

الصفحة 75

ويكتسب المتعلم هويته الحقيقية عبر دروس التاريخ والجغرافيا والدين والأخلاق، ويحكم إلى العقل والمنطق، ولكن مدرسة دوركهايم ليست مدرسة المسؤولية في الحضارة، بل هي مدرسة النخب العقلانية والشرعية، وقد استمر هذا المفهوم حتى سنوات الخمسين من القرن الماضي. وقد نتج عن ذلك خلق مدرسة ليبرالية وطموحية ديمقراطية، ولكنها ليست مدرسة شعبية.  

أما السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو طوري أن الأفراد المجتمعيين الذين يوجدون في المدرسة هم نتاج التنشئة الإسلامية والمحلية، ونتاج الوضعيات الاجتماعية الموجودة بالقوة والجبرية الملزمة، وهم أيضاً نتاج إعادة الإنتاج، وضعيات التوريث بداية اكتساب الهوية المجتمعية.  

وهناك يتحقق آخرون يقولون بالتنشئة الاجتماعية أو بالتعليم والإدماج الاجتماعي، مثل: المفكر الألماني جورج سيميل.

الفرع الثاني: وظيفة الإعلام والتكوين والنافيل

لا تقصر المدرسة على نقل القيم الأخلاقية فحسب، بل تسعى جاهدة إلى تأهيل المتعلم معرفيا وذهنيا وجدانيا وحسياً حركياً، كما تسهم في توعيته وتدويره ثقافياً وأخلاقياً وتربوياً وعلماً وأديباً وفنياً وتقنياً، أو توعيته وطنياً أو قومياً.

وتعد المدرسة كذلك فضاء للتأهيل والتعليم والتكوين والتربية، ومؤسسة ديمقراطية للتنافس بين المتعلمين قصد الفوز والنجاح، والحصول على شهادات وبلوءات التي تسعى لهم بتولى منصب أو مسؤولية ما. علاوة على ذلك، ينبغي على المدرسة أن تصقل عقول الأفراد بالتكوين المناسب، وتهديدها بالمعارف والقيم والحقائق العلمية.

الفرع الثالث: وظيفة التغير المجتمعي

لا تقف المدرسة عند وظيفة المحافظة على إرث الأجداد فقط، بل تسهم في تغيير المجتمع كلياً أو جزئياً. وفي هذا النطلق، يمكن الحديث عن ثلاث مدارس: مدرسة تغير المجتمع كما في اليابان، ومدرسة يغيرها المجتمع.

الصفحة 58

مدارس: مدرسة تغير المجتمع كما في اليابان، ومدرسة يغيرها المجتمع كما في دول العالم الثالث، ومدرسة تتغير مع تغير المجتمع كما هو حال المدرسة في الدول الغربية.

الفرع الرابع: الوظيفة الإيديولوجية

تعتبر المدرسة، في منظور لوي التوسير. ، جهازاً إيديولوجياً قمياً. بمعنى أن المدرسة مؤسسة عامة تعبر عنتوجهات الدولة وتطلعاتها السياسية وأهدافها الإيديولوجية، عبر مناهجها وبرامجها ومقرراتها ومحتوياتها الدراسية. ومن ثم، فهي تعبر عن مصالح الطبقة الحاكمة، وتكرس ثوابتها وأفكارها وطموحاتها. أي: برى التوسير، "بخصوص التقنيات والمعارف، أنه يجرى في المدرسة تعلّم قواعد تحكم الروابط الاجتماعية بموجب التقديم الاجتماعي والتقني للعمل. 

كما يقول بأن النظام المدرسي وهو أحد أجهزة الدولة الإيديولوجية هو الذي يؤمن بنجاعة استنساخ روابط الإنتاج عن طريق وجود مستويات من التأهيل الدراسي تتجاوب مع تقسيم العمل، وعن طريق ممارسة الاخضاع لإيديولوجيا السائدة. إن المسالك الموجودة في المدرسة هي انعكاس لتقديم المجتمع إلى طبقات، وغيتها الإبقاء على الروابط الطبقية110. 

وبدل هذا كله على أن المدرسة تمارس عنفاً رمزياً كما يقول بورديو، وتسهم في تكريس التفاوت الطبقي، وحلق الطبقات الاجتماعية نفسها، سواء أكانت مهيمنة أم خاصة.

وعليه، فالوظيفة الإيديولوجية لها علاقة وثيقة بوظيفة التطبيع والحفاظ على ثوابت الأجداد، وربط الماضي بالحاضر. وفي هذا، يقول مبارك ربيع: "يمكن اعتبار هذه الوظيفة الإيديولوجية وجهاً من وجوه الوظيفة التطبيعية العامة، وذلك على الأقل لأن الوظيفة الإيديولوجية، تعتمد فيما تعتمد عليه، على المنظومة المعرفية، إلا أنها تعتمد عليها لآمن حيث هي معرفة بالعالم أو الكون، بل باعتبار هذه المعرفة بمضمونها خصوصاً، تعمل على تكوين اتجاه فكري خاص في الطفل، يميل إلى تركيز التحامه 

الهواميش:

110مارسيل بوسائل: العلاقة التربوية، ترجمة: محمد البشير الدخاس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1986م، صص

الصفحة 59

بمجتمعه. ومن هنا، تجد القيم السياسية والمذهبية والدينية الخاصة بالمجتمع طريقها لتلوي المنظومة المعرفية، ونزع طابع الحياد عنها. فمفهوم الوطن والدولة ونوعية النظام السياسي في المجتمع... رغم أنها تأتي أحيانًا مصاغة في مواد محددة كالتربية الوطنية أو الدينية أو الأخلاقية، فإنها مع ذلك تجد طريقها أيضًا ضمن المواد العلمية ذات الطابع المحلي مثل التاريخ أو الجغرافيا. رغم الطابع الموضوعي، تكون فرصة لتثبيت الاعتزاز بالذات الوطنية والأمة وغيرها.  

إن الدعوات القائمة على انتقاد الوظيفة الإيديولوجية للمدرسة، تنطلق من مبدأ الالتزام بقضايا الطبقات الاجتماعية المتواضعة والمسحوقة، وبقضايا التحرر الاجتماعي، بما فيها حقوق الطفل والمرأة، وهي بذلك تستحق التنويه، ويمكن الاستفادة منها بما يطور الوظيفة الإيديولوجية للمدرسة دون أن يلغيتها...  

وإذا أخذنا في الاعتبار الظروف الخاصة ببلدان العالم الثالث، حيث لا تزال مجتمعاتها في كثير من الحالات بعيدة عن كيان الدولة بمعناها الحقيقي، ولا تزال بالتالي قائمة في تنظيمها على القبيلة والعشيرة، فإننا ندرك أن الوظيفة الإيديولوجية للمدرسة باعتبارها عامل توحيد وتنظيم ما تزال مرغوبًا فيها من هذه الناحية. كما أنها ما تزال مرغوبًا فيها من ناحية المنظومة المعرفية، نظرًا لمستوى التخلف وتفشي الأمية111. 

وهكذا، ندرك أن للمدرسة وظيفة خطيرة تتمثل في الوظيفة الإيديولوجية التي تسهم في تكريس التفاوت الطبقي والاجتماعي والسياسي نفسه.  

المطلب الثالث: موقف الفلسفة من المدرسة 

هناك موقفان فلسفيان أساسيان من المدرسة: موقف إيجابي، وموقف سلبي. ويتمثل الموقف الأول في آراء مفكري عصر الأنوار، مثل:  

الهواميش:

111مبارك ربيع: مخاوف الأطفال، الهلال العربية للطباعة والنشر، طبعة 1991م، صص 209-202.  

الصفحة 60

كوندورسيه (Condorcet) 112، وكانط ، وجول فيري 113يرى المدرسة أداة للمساواة، وأداة للتقدم والازدهار وبناء المستقبل، وسلاحًا مهمًا للقضاء على الأمية والجهل والتخلف، وطريقًا حقيقيًا للخروج من الظلمات إلى النور.  

فكانط مثلًا يعتبر الإنسان الكائن الوحيد القادر على التعلم. وبفضل هذا، ينتقل من حالة التوحش إلى حالة المدنية والتحضر. ويعني هذا أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانًا إلا بالتعليم، الذي يزوده بالخبرات والتجارب والمعلومات والمعارف من جهة، ويمنحه مؤهلات كفائية متنوعة من جهة أخرى. ومن هنا، فإن الذي لم يتعلم بعد هو كائن خام ومتوحش. لذا، تدافع فلسفة الأنوار عن التربية

والتعليم لأثرهما التنويري والإشعاعي والعلمي والتأهيلي، وتدعو إلى تأسيس مدارس تجريبية قبل أن تصبح عامة. ومن هنا، فالمدرسة تهدف إلى تحرير المتعلم وبناء شخصيته الخاصة114. 

في حين، ثمة موقف آخر معاكس يرى أن المدرسة فضاء للضغط والقهر والقمع والاستلاب. وبتعبير آخر، فضاء للصراع الطبقي والاجتماعي والقيمي والإيديولوجي. ويمثل هذا الطرح بيير بورديو  وكلود باسرون في كتابهما(الوراثة)115ومن هنا، يرى بورديو أن المدرسة فضاء للفرز الاجتماعي والطبقي، وأنها تعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها: الطبقة المُستَغِلَّة (بكسر الغين) والطبقة المُستَغَلَّة (بفتح الغين). ومن ثم، فهي فضاء لانعدام الفرص الاجتماعية، وفضاء للفشل الدراسي، وغياب المساواة.  

الهواميش:

112 -Condorcet,Cinq mémoires sur l'instruction publique (1792), Garnier-Flammarion, 1994. Élisabeth et Robert Badinter, Condorcet. Un intellectuel en politique. 1743-1794, Fayard, 1989.

 113 -Jules Ferry, "Circulaire adressée par M. Le Ministre de l'Instruction publique aux instituteurs, concernant l'enseignement moral et civique", 17 novembre 1883.

 114 -Kant,Traité de pédagogie (1776-1787), Hachette, 1981, 107.

 115 -Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron,La reproduction. Éléments pour une théorie du système d'enseignement, Minuit, 1970.

الصفحة 61

الاجتماعية الحقيقية أو اكترفأبناء الطبقة السائدة لا تنهض بسبب قدراتها الذاتية والكفائية، بل يعود ذلك إلى ما تملكه من رساميل موروثة، مثل: الرأسمال الثقافي (الرصيد الثقافي والأدبي والفني، وسمو الذوق ورهافته)، والرأسمال اللغوي (النشأة في بيئة لغوية غنية بالمفردات)، والرأسمال الاقتصادي (وجود موارد مادية ومالية)، والرأسمال الاجتماعي (وجود علاقات اجتماعية متنوعة).  

وقد طور لويس ألتوسير (Louis Althusser) سنة 1970 نظرية حول الدولة، ذهب فيها إلى أن الدولة تمارس القمع والعنف والقهر على مواطنيها عبر مجموعة من الأجهزة الإيديولوجية التي تتمثل في: المدرسة، والأسرة، ورجال الدين، والإعلام، إضافة إلى مؤسسات قمعية أخرى، مثل: الشرطة، والجيش، والحكومة، والإدارة، والمحاكم، والسجون، والأجهزة السياسية والثقافية116. 

وهناك كتاب آخرون يرون أن المدرسة تحرم الطفل من رغباته أو تكبتها وتقمعها، كما عند بوجدرة 117وشيرير 118 ،ومانوني 119، وسيلام120.  

أما إيفان إيليتش فقد دعا إلى إلغاء المدرسة؛ لأنها من نتاج المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية، ومرتبطة بالاستعمار الغربي، لذا، لابد من التحرر منها، كما بين ذلك في كتابه (مجتمع بلا مدرسة)120. 

الهواميش:

116 -Louis Althusser,)Les appareils idéologiques d'État(, revue La Pensée, juin 1970, p. 9-19.

 117 - R. Boujedra,La répudiation, Paris: Seuil, 1969.

 118 - R. Scherer,Émile perverti ou Des rapports entre l’éducation et la sexualité, Paris, Laffont, 1974. Réédition Désordres-Laurence Viallet, 2006. 

119 - G. Mannoni, Éducation impossible, Paris: Seuil, 1973. 

120 -Celam,Journal d’un éducateur, 1982. 

121 -Ivan Illich,Une société sans école, 1971, trad., Seuil, 1972.

الصفحة62

ويدين ميشيل فوكو المدرسة والمؤسسة التربوية في كتابه: المراقبة والعقاب  (1975م)، على أساس أن المدرسة فضاء مغلق يعني بالتأديب والعقاب والانضباط. ويعني هذا أن المدرسة تعبير عن نظام السلطة، كما أنها مؤسسة مهيكلة ومنظمة، وجهازًا للضبط والتأديب والعقاب. وهي كذلك تعبير عن المجتمع الليبرالي. وقد بين فوكو في هذا الكتاب أننا قد انتقلنا تاريخيًا من مرحلة مراقبة الأجساد إلى مرحلة مراقبة العقول والسلوكيات. ويعني هذا أن الدولة مبنية على قوة السلطة والتأديب والانضباط، ومراقبة الأفراد أجسادًا وعقولًا وسلوكيات، وهذا ما تقوم به المدرسة كذلك. ومن هنا، فإن السجن - مثلًا - نموذج لقوة السلطة الليبرالية وقوة الدولة وهيمنتها. ويعني هذا أن فوكو يدعو إلى تحرير الإنسان من السلطة، وتخليصه من قوة الدولة المؤسساتية.

وعليه، يرتبط فوكو بفلسفة السلطة ارتباطًا وثيقًا، ويدافع عن حرية الذات، ويبين أن كل عصر ينتج خطابه المنظم والمهيمن. ومن ثم، يعلن نظام الخطاب حقيقة العالم، ويجسد معاييره اليقينية الثابتة122.

المطلب الرابع: مشاكل المدرسة الرأسمالية

أفرزت المؤسسة الرأسمالية مجموعة من المشاكل التي أرقمت علماء الاجتماع المدرسي، من بينها: مشكل اللاعدالة الاجتماعية داخل المؤسسة التربوية، أو ما يُسمى بالصراع الطبقي والاجتماعي، ومشكل تكافؤ الفرص، ومشكل ديمقراطية التعليم، ومشكل الانتقاء والاصطفاء، ومشكل الفوارق الفردية بين المتعلمين، ومشكل الإخفاق المدرسي، ومشكل الهدر المدرسي، ومشكل البطالة، ومشكل العنف، ومشكل غياب العلاقة بين المؤسسة التربوية والأسرة، ومشكل الساعات الإضافية أو الخصوصية، ومشكل تراجع مستوى المتعلمين، ومشكل تردي المنظومة التربوية ووظيفتها الاجتماعية، ومشكل التوجيه المدرسي، ومشكل تدني القيم المجتمعية، ومشكل البيروقراطية، ومشكل الوسائط لإعلامية والرقمية وأثرها السلبي في المتعلم، ومشكل المدرسة والتنمية.

الهواميش:

122 - Michel Foucault,Surveiller et punir,Gallimard,Paris, 1975

الصفحة 63

ومشكل الشراكة ومشاريع المؤسسات التربوية، ومشكل الثقافة في المسارات الدراسية، ومشكل تخلف المنظومة التربوية، ومشكل التنشئة الاجتماعية، ومشكل المدرسة في البادية والمدينة، ومشكل الإدارة التربوية، ومشكل النسق التربوي داخل المؤسسة التعليمية، ومشكل الحياة المدرسية، ومشكل التنشيط التربوي، ومشكل المؤسسات الاجتماعية في أثناء تفاعلها مع المدرسة، ومشكل السلطة التربوية، ومشكل العنف الرمزي...

وينبغي أن يُذكر مشكل اللامساواة من أقدم المشكلات التي تناولتها سوسيولوجيا المدرسة؛ لأن المدرسة هي فضاء للتفاوت الاجتماعي، ومؤسسة مجتمعية للصراع الطبقي. ويعني هذا أن المدرسة مجتمع مصغر يعكس مختلف التناقضات الموجودة في المجتمع على المستوى السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، واللغوي... ويتطلب هذا التفاوت في الفوارق الفردية الموجودة بين المتعلمين على صعيد التحصيل الدراسي، واختلاف الرصيد اللغوي من متعلم إلى آخر حسب طبيعة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. إضافة إلى الفوارق السيكولوجية، والاجتماعية، والديداكتيكية، والثقافية...

ومن المشكلات الأخرى التي تعاني منها المدرسة الرأسمالية، سواء كان ذلك في الغرب أم في دول الجنوب، مثل: مشكل الاقتطاع، ومشكل الجودة الكمية والكيفية، ومشكل التحصيل الدراسي، وتفوق البنات على الذكور، ومشكل تكوين المدرسين والإداريين والمتعلمين، ومشكل الدبلومات والشهادات المدرسية، ومشكل التوجيه المهني، ومشكل الهيرارشية المدرسية، ومشكل العلاقات المدرسية، ومشكل الإطعام والمنح المدرسية، ومشكل التوتر المدرسي، ومشكل أزمة المدرسة وسيل الإصلاح، ومشكل التفاوت بين المؤسسات والشعب والمسالك والتحصيلات...

وعليه، تتجمع هذه المشكلات كلها في ثنائية النجاح والإخفاق، فالنجاح من نصيب أبناء الطبقة الراقية، والإخفاق من نصيب الطبقة العمالية أو المهنية. ويعني هذا أن المدرسة هي فضاء لإنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها، أو هي مؤسسة لتوريث المتعلمين مهن آبائهم. وهذا ما جعل الباحثين يدعون إلى مدرسة ديمقراطية حقيقية، تتكافأ فيها الفرص والحظوظ، أو يدعون إلى مدرسة عادلة ومنصفة بدلاً من هذه المدرسة.

الصفحة 64  

الرأسمالية القائمة على الانتقاء والتمييز والاصطفاء الطبقي، والتي تُحكم بالحسب والنسب والأصول الاجتماعية والطبقية.  

ويعني هذا -حسب بيير بورديو وكلود باسرون- أن المدرسة الرأسمالية غير عادلة وغير منصفة. وبالتالي، فهي مدرسة إيديولوجية تتحكم فيها الطبقة الحاكمة بقيمها وامتيازاتها، وأنها تُعِدُّ لنا الورثة؛ فأبناء الطبقات الشعبية يمتهنون مهن آبائهم، في حين يستفيد أبناء الطبقات الغنية أو الحاكمة من الامتيازات المهنية لأبائهم. أي: لا توفر المدرسة فرصًا متساوية أو متكافئة للجميع، فهناك لا مساواة ظاهرة. ومن هنا، تمارس المدرسة الغربية الديمقراطية عنفًا رمزيًّا ضد المتعلمين الذين ينحدرون من الطبقات الشعبية أو العمالية. وأكثر من هذا، يتعرضون للإخفاق المدرسي، ويكون مستواهم ضحلاً، ويفتقرون إلى الرصيد اللغوي والثقافي الراقي مقارنة بأبناء الطبقات الغنية أو الحاكمة الذين يستفيدون من النجاح والدبلومات الرفيعة التي تؤهلهم لتولي المناصب السامية، والحصول على الوظائف المتميزة في الدولة. ومن هنا، فالمدرسة هي نتاج الثقافة المهيمنة، وتعبير عن مصالح الطبقة الحاكمة وأهوائها وامتيازاتها الطبقية.  

المبحث الخامس: مفهوم التربية  

لا يمكن فهم التربية واستيعاب دلالاتها ووظائفها وأدوارها إلا بالتوقف عند المطالب التالية:  

المطلب الأول: معاني التربية 

تعني التربية (Education)، في دلالاتها اللغوية، الحفظ والعناية والرعاية والتنشئة والإصلاح والتنمية وتهذيب الطفل وتأديبه وتأطيره وتكوينه وتربيته. وأكثر من هذا، فالتربية لها تاريخ طويل، فهي "عبارة عن تراكمات من الخبرات، حملها الكبار، ونقلوها للصغار، وهي بالتالي سلوكات رضي عنها الجماعة، وارتضتها أسلوبًا لحياتها، وتفاعلها مع بعضها البعض، ومع ذلك فهي ليست حكرًا على أحد، ولا هي مهمة إنسان...  

الصفحة65

دون آخر، فقد يقوم بها الأب، والأم، والعَمُّ، والصديق، والبالغ، أو أي مخلوق قد تأهل لذلك، فعرف قيم مجتمعه، ونظمه، وتقاليده، كما عرف ما يصلح لأمنه و ينهض بها.

يتضح مما تقدم أن العملية التربوية عملية مهمة لبناء البشرية، وأهميتها تكمن في كونها الطريق المنظم لنقل التراث، واستمرار بقائه لكل الأمم.إن جذور التربية قديمة عتيقة، وفروعها مستحدثة متجددة، وثمارها مستمرة طيبة، وهي بالتالي شجرة باسقة الطول، جذورها في أعماق الأرض، وفروعها الخضراء الندية العطرة، صاعدة دائمة في أعالي السماء123.  

ويعني هذا أن التربية عملية إنسانية قديمة ظهرت مع ظهور الإنسان الذي كان يربي نفسه على العمل والخصال الفاضلة وعبادة الله وحده. ومن ناحية أخرى، كان يرعى أبناءه وأفراد أسرته رعاية حسنة ومتكاملة.

المطلب الثاني: ضرورة التربية

التربية عملية ضرورية لتنشئة الأبناء وتعليمهم وتأهيلهم وتكوينهم من أجل أن يتكيفوا مع الواقع من جهة، ويتأقلموا مع وضعياته الصعبة والمعدة والمركبة من جهة ثانية. وكذلك من أجل أن يواجهوا الطبيعة بتسخيرها وتغييرها والتحكم فيها، وأيضًا من أجل الحصول على المكانة اللائقة بهم، ونيل الفلاح في الدنيا والآخرة.

إذًا، فالتربية عملية ضرورية لمواجهة الحياة ومتطلباتها، وتنظيم السلوكيات العامة في المجتمع من أجل العيش بين الجماعة عيشة ملائمة. وضرورتها تشمل كلًا من الفرد والمجتمع معًا. أما ضرورتها للفرد الإنسان، فتكون للمحافظة على جنسه، وتوجيه غرائزه، وتنظيم عواطفه، وتنمية ميوله، ونقل التراث الثقافي إليه، وأنماط السلوك التي ترتضيها الجماعة. وكل ذلك لابد من اكتسابه على مر الأيام، لأن فترة الطفولة الإنسانية طويلة بطبيعتها، والحياة البشرية معقدة وكثيرة التبديل والتغيير. وبنقل النمط السلوكي والتراث للأفراد، يحتفظ المجتمع بثقافته...  

الهواميش:

123- إبراهيم ناصر: علم الاجتماع التربوي، دار الجيل، بيروت، لبنان؛ مكتبة الرائد العلمية، عمان، الأردن، د.ت، ص 32.  

الصفحة66

الضياع. وليس هذا فقط، بل إن التراث عند نقله لا يكتفي بالمحافظة عليه كما هو أو كما نُقل من الأجداد للآباء، ومن الآباء للأبناء، بل إن دور التربية هنا يظهر بإضافة أو حذف ما هو غير مناسب من التراث. وبهذا نقول: إن ضرورة التربية لكل من المجتمع والأفراد تظهر في نقل التراث الثقافي والاحتفاظ به وتنقيته من الشوائب وتعديله، وبالتالي استمراره وازدهاره وتطوره وبقائه124.  

وهكذا، يتضح لنا أن التربية عملية ضرورية في بناء الذات والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء.  

المطلب الثالث: وظائف التربية 

من المعروف أن للتربية وظائف عدة تتمثل في تأديب الإنسان ورعايته والعناية به، وتكوينه وتأهيله مهاريًّا وتربويًّا وعمليًّا، وتنميته معرفيًّا ووجدانيًّا وحسيًّا وحركيًّا. ومن وظائفها الأخرى نقل الأنماط السلوكية للفرد من المجتمع، ونقل التراث الثقافي من الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة؛ وتعديل التراث الثقافي، وتغيير مكوناته بإضافة ما يفيد وحذف ما لا يفيد؛ واكتساب الفرد خبرات اجتماعية نابعة من قيم ومعتقدات ونظم وعادات وتقاليد وسلوك الجماعة التي يعيش بينها؛ وتنوير الفرد بالمعلومات الحديثة التي تغزو الحياة اليومية في المجتمع125.  

إذًا، تهدف التربية إلى بناء الإنسان بناءً متكاملاً، والسمو به معرفيًّا وعاطفيًّا ومهاريًّا، وتطهيره أخلاقيًّا، ومساعدته على الحفاظ على قيم الأجداد، ونقل قيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وتراثهم من جيل إلى آخر، في إطار ما يسمى بالتطبيع الاجتماعي. وتقوم التربية بوظيفة التنشئة الاجتماعية، بالإضافة إلى وظيفة المحافظة على المجتمع أو تغييره جزئيًّا أو كليًّا.  

الهواميش:

124إبراهيم ناصر: نفسه، ص36-37

125إبراهيم ناصر: نفسه، ص. 37

الصفحة 67

المطلب الرابع: أسس التربية

تستند التربية إلى مجموعة من الأسس الفلسفية، والتاريخية، والنفسية، والبيداغوجية، والديداكتيكية، والاقتصادية، والدينية، والثقافية، والاجتماعية. ومن هنا، فالتربية مرتبطة بالفلسفة مادامت تهدف إلى تنوير الإنسان وتكوينه عقليًّا وذهنيًّا لاستخدام عقله في تأمل الكون، وتحصيل الحقائق، وتمثُّل القيم الصادقة.

ويمكن الحديث عن ثلاثة اتجاهات فلسفية في مجال التربية: الاتجاه التسلطي التقليدي الذي كان يركز على المدرس باعتباره مصدر المعرفة؛ والاتجاه التقدمي الديمقراطي الذي يعترف بمكانة المتعلم في إطار مقاربة تشاركية تجمع بين المدرس والمتعلم؛ والاتجاه التحرري الطبيعي الذي يمثله روسو وكارل روجرز. وينبني هذا التصور على تحرير المتعلم، ومساعدته على التعلم من الطبيعة، حيث يصبح المدرس مستشارًا أو موجِّهًا إذا طلب منه ذلك.

في حين، يتمثل الأساس التاريخي في ربط الماضي بالحاضر؛ حيث تعرِّفنا التربية بماضي الأجداد والآباء، وتساعدنا على استجلاء مظاهر القوة والضعف في هذا التاريخ، ودراسته بشكل جيد من أجل الاعتبار به تمثُّلاً واقتداءً وتطبيقًا.

ولا يمكن الحديث عن التربية إلا إذا ربطناها بعلم النفس؛ لأن التربية تتعامل مع الأطفال والمراهقين، وهنا لابد من معرفة مشاعرهم ورغباتهم وميولهم، وتفهم حاجاتهم ومشاكلهم، وإيجاد الحلول المناسبة لعلاجها نفسيًّا واجتماعيًّا.

كما أن للتربية علاقة بالأساس الاجتماعي؛ لأن التربية تشمل جميع مؤسسات المجتمع من الأسرة، والشارع، وروض الأطفال، والمدرسة، والإعدادية، والثانوية، والجامعة، والنقابة، والحزب... فالتربية حاضرة في كل هذه الحقول والمجالات والميادين. والهدف منها هو تكوين مواطن صالح لنفسه وأسرته ووطنه وأمته.

وتستند التربية أيضًا إلى أسس ثقافية؛ إذ ينتقل الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن ثقافي بواسطة التربية والتعليم، باكتساب مجموعة من المهارات الكفائية، وتملُّك التقنيات التي تساعده على تطوير قدراته وابتكاراته.

الصفحة 68

ومؤهلاته، وخلق ثقافته الخاصة به. والصلة هنا بين الثقافة والتربية كبيرة جدًا، إذ إن مادة التربية هي الثقافة والتراث الثقافي المتراكم على مر الأجيال. ومادامت التربية عملية تكيف مع المجتمع المحيط الذي يعيش بطريقة معينة نابعة من تراثه الذي اكتسبه وتوارثه وأراد أن ينقله ويستمر في ممارسته - وهو بالتالي ثقافته - فإن ذلك يعني أن أساس التربية هو الثقافة، وموضوعها الأساسي الذي تُبنى عليه كل المواضيع الأخرى هو الثقافة، ثقافة المجتمع المحيط. وأي صلة أكثر من هذا؟! 126 

كما تسعفنا التربية - دينيًّا - في اختيار المعبود الأوحد، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان والتماثيل، وتوحيد الله، وتمثُّل القيم الدينية، والتعرف إلى أوامر الله ونواهيه. لذلك، تقوم التربية بدور هام في تأديب الأبناء قيميًّا، وتنشئتهم دينيًّا وأخلاقيًّا؛ إذ تعرِّفهم بالعقيدة الصحيحة، وتقرِّبهم إلى خالقهم الأوحد والأكمل والأعلم والأجل، وتُعرِّفهم بدورهم الحقيقي في الحياة العاجلة بغية الظفر بالآخرة.  

أما علاقة التربية بالاقتصاد، فالتربية عملية اقتصادية بمُتْيَاز. إذ يتحسن مستوى معيشة الإنسان بالتربية والتعليم، ويحصل على مكاسب وامتيازات مادية ومعنوية عن طريق التربية والتعليم، وتملُّك الشهادات.  

إذًا، فالعلاقة بين الاقتصاد والتربية علاقة وثيقة، فمستوى المعيشة يرتبط بالمستويات الثقافية والعلمية التي يصل إليها أفراد المجتمع. فوجود أعداد كبيرة من الأميين يؤدي إلى التخلف، وكلما ارتفع المستوى الاقتصادي وزاد الدخل القومي، كلما ازداد التعليم وزاد عدد الطالبين للعلم.  

وتنكشف صلة التربية بالأسس الاقتصادية فيما لو نظرنا إلى التربية كقوة ضاغطة في يد طبقة اجتماعية مسيطرة تتحكم بوسائل الإنتاج وتنمية المهارات والقدرات لدى الفئات التابعة. فالتعليم يزيد من القدرة على الإنتاج، ويسهم في تحسين السلوك، ويُطوِّر الإنتاج.  

أما عن تأثير التربية في النمو الاقتصادي، فيتضح بقوة رأس المال المادي وتأثيره وارتباطه بقدرات الأفراد ومهاراتهم. ولما كان التعليم هو السبيل إلى تكوين المهارات والقدرات عند الأفراد، فإنه يُعتبر الأساس في التقدم الاجتماعي والاقتصادي وفي إحداث التنمية...  

الهواميش:

126  ابراهيم ناصر: نفسه، ص 44-45. 

الصفحة 69

إن التربية عملية اقتصادية لأنها تعد كل فرد ليقوم بأداء مهنة معينة تكون مصدرًا لدخله، وكلما تعلم المهارات اللازمة لمهنته وأتقنها، زاد دخله. وفي الوقت نفسه، كلما أتقن الأفراد مهنهم على اختلاف أنواعها، أدى ذلك إلى زيادة دخل الفرد، وبالتالي زاد دخل المجتمع 127

وللتربية علاقة وطيدة بالسياسة، فكل عنصر يتأثر بالآخر، بمعنى أن المدرسة تعبير عن صراعات طبقية واجتماعية، وتعبير عن صراعات سياسية ونقابية وإيديولوجية. بناءً على ذلك، نجد أنظمة سياسية تجعل من التربية وسيلة للحفاظ على العادات والتقاليد والقيم التي يدافع عنها النظام السياسي، كما في الدول الاشتراكية والأنظمة الديكتاتورية (النازية والفاشية). وهناك أنظمة تريد أن تجعل من التربية أداة للتغيير، ووسيلة ناجحة للقضاء على الأمية بكل أنواعها (الأبجدية، والوظيفية، والإعلامية)، مع تطوير المجتمع كما في الدول الديمقراطية.  

أما فيما يخص الأسس البيداغوجية والديداكتيكية، فللتربية علاقة وثيقة بالمدرس والمتعلم، بل تنفتح على الإدارة والأسرة والمحيط الخارجي الذي يؤثر في المدرسة. وقد تعني التربية مجموعة من الطرائق والتصرفات والخبرات والتجارب التي تهدف إلى تنشئة المتعلم في مختلف جوانبه السلوكية، والتعلمية، والتثقيفية...  

هذا، وتقوم التربية على ثلاثة عناصر رئيسية هي: المعلم، والمتعلم، والمعرفة. أي أن المعلم هو الذي ينقل المعرفة إلى المتعلم عبر المضامين والمحتويات، والطرائق البيداغوجية والوسائل الديداكتيكية.  

يعني هذا أن ثمة مرتكزات تربوية ثلاثة: المعلم، والمتعلم، والمعرفة. فالمعلم هو الذي يقوم بمهمة تكوين المتعلم، ضمن علاقة بيداغوجية. وما يعلمه المعلم من معارف وأفكار ومحتويات ومضامين وخبرات وتجارب يدخل ذلك ضمن علاقة ديداكتيكية. أما ما يحصله المتعلم من معارف ومعلومات فيدخل ضمن علاقات التعلم. والجامع بين المرتكزات الثلاثة يتمثل في الإطار البيداغوجي. ومن هنا، يتضمن هذا الإطار التربوي ثلاث علاقات أساسية هي: العلاقة الديداكتيكية (المعلم → التعليم → المعرفة).  

الهواميش:

127إبراهيم ناصر: نفسه، ص 42.  

الصفحة 70

العلاقة البيداغوجية (المعلم ← التكوين ← المتعلم)، وعلاقة التعلم (المتعلم ← التعلم ← المعرفة).  

- المعلم  

- المحتوى الدراسي  

- المتعلم  

وبناءً على ما سبق، فإن التربية فعل تربوي وتهذيبي وأخلاقي، تهدف إلى تنشئة المتعلم تنشئة اجتماعية صحيحة وسليمة. ومن جهة أخرى، تسهم التربية في الحفاظ على قيم المجتمع وعاداته وتقاليده، وتسعى جادةً لتكوين المواطن الصالح. وكذلك تسعى إلى تغيير المجتمع بالتدريج، والدفع به نحو طريق التقدم والازدهار، عبر تحقيق الديمقراطية التشاركية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة المثلى.  

وعلى ذلك، فالتربية هي التي تنشئ المجتمع نشأة أخلاقية، وترفع مكانته وشأنه ومستواه التنموي، وتوصله إلى مصاف الدول المتقدمة والمزدهرة. وتسعى التربية جادةً إلى إدماج الفرد في المجتمع تكيُّفًا وتأقلُمًا وتصالحًا وتغييرًا، كما تسعى إلى "الإتمام الكامل لشخصية الإنسان، وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية". أي تكوين أفراد قادرين على الاستقلال الفكري والأخلاقي، ويحترمون...  

 الصفحة 71

هذا الاستقلال لدى الآخرين، طبقًا لقاعدة التعامل بالمثل التي تجعل هذا الاستقلال مشروعًا بالنسبة إليهم128

وعلى العموم، فالتربية هي وسيلة لتحقيق الإبداع والابتكار، وطريقة في الاستكشاف والتأويل والبحث وديمقراطية المجتمع، وترتكز على الحرية، والمبادرة الفردية، وسيادة النقاش الهادف، وتمثل النقد البناء والحوار السليم من أجل بناء مجتمع متقدم واعٍ، يسهم في خلق الحداثة وبنائها، وإثراء العولمة بما لديه من طاقات منتجة، واختراعات ومكتشفات، ومستجدات نظرية وتقنية وعلمية ومعلوماتية. وفي هذا السياق، يقول محمد ليبيا التجيجي: "ولما كان هدف التربية الأساسي هو تنمية التفكير واستغلال الذكاء، فمعنى هذا أن التربية تعمل من أجل الحرية الإنسانية. فالتأكيد على نمو الطفل إنما هو تأكيد على تحرير قدراته العقلية من قيودها، وإتاحة

الفرصة لها للانطلاق حتى تستطيع أن تستخدم بطريقة فعالة إمكانيات البيئة التي يعيش فيها. ويصبح المجتمع الحر هو المجتمع الذي يشترك أفراده أيضًا في تطويره وتوجيه التغيير الاجتماعي الحادث له.

وعندما يتمتع أفراد المجتمع بالحرية، فإن التربية تكون بذلك قد أسهمت في بناء مجتمع مفتوح. ونعني بالمجتمع المفتوح المجتمع الذي يسعى عن قصد وتصميم في سبيل تطوره، ولا يعمل فقط على المحافظة على الوضع الراهن. وهذا المجتمع هو مجتمع قد نظم تنظيما يدخل في اعتباره حقيقة التغيير في الأمور الإنسانية. وهو مجتمع يقبل التغير على أنه وسيلة للقضاء على الفساد والانحلال، وأن الذكاء الإنساني والمجهود التعاوني من جميع أفراد المجتمع يؤديان جميعًا إلى نمو الإنسانية وتقدمها129

ويضاف إلى ذلك أن التربية تحقق مجموعة من الوظائف الجوهرية، كالتعليم، والتثقيف، والتطهير، والتهذيب، والتوجيه، وتحرير الفكر من قيود الأسطورة والخرافة والشعوذة، والسمو بالإنسان نحو آفاق إيجابية ومثالية.  

للهواميش:

128- جان بياجي: التوجهات الجديدة للتربية، ترجمة: محمد الحبيب بلكوش، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1998م، ص: 52.  

129- محمد ليبيا التجيجي: **مقدمة في فلسفة التربية**، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1992م، ص: 240.  

الصفحة 72

المطلب الثاني: التربية وعلاقتها بالمجتمع  

تنطلق سوسيولوجيا التربية من مبدأين: مبدأ الانسجام ومبدأ المركزية. بمعنى أن المدرسة عليها أن تنسجم، في وظائفها المختلفة والمتنوعة، مع باقي المؤسسات الأخرى، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم عسكرية أم ثقافية أم دينية. ويقصد بالمبدأ الثاني أن المدرسة هي المركز المهم لتكوين أجيال المستقبل وتربيتها وتأهيلها ذهنيًا، ووجدانيًا، وحسيًا حركيًا.  

وتقوم التربية المدرسية بدور هام في عملية التغيير الاجتماعي. ومن ثم، فهناك ثلاثة أنواع من المدارس التربوية: مدرسة تغير المجتمع كما في اليابان مثلاً، ومجتمع يغير المدرسة كما في العالم الثالث، ومدرسة تتغير في الوقت الذي يتغير فيه المجتمع، كما هو حال المدرسة في أوروبا الغربية. لذا أصبحت المدرسة في المجتمعات الصناعية والتقنية الحديثة مؤسسة مهمة؛ لما لها من أدوار في تكوين أجيال مؤهلة ذات كفاءة، وقادرة على تسيير المقاولات والمؤسسات الصناعية. كما تعمل على تأهيل الناشئة تأهيلاً جيدًا، وتوفير الأطر المدربة والمحترفة لتسيير دَوْلَاب المجتمع، وتحريك عجلة الاقتصاد بشكل إيجابي. ويعني هذا أن المدرسة وليدة المجتمع الصناعي، على عكس المدرسة في العالم الثالث، فما تزال عاجزة عن تلبية حاجات المجتمع على جميع المستويات والأصعدة؛ لغياب الديمقراطية الحقيقية، وارتباطها بالمنظومة الاستعمارية.  

هذا، وللتربية علاقة وطيدة بالسياسة، فكل عنصر يتأثر بالآخر. بمعنى أن المدرسة تعبير عن صراعات طبقية واجتماعية، وتعبير عن صراعات سياسية ونقابية وإيديولوجية. يُضاف إلى ذلك، أن ثمة أنظمة سياسية تجعل من المدرسة وسيلة للحفاظ على العادات والتقاليد والقيم التي يدافع عنها النظام السياسي، كما في الدول الاشتراكية والأنظمة...  

الصفحة73

الديكتاتورية (النازية والفاشية)، وهناك أنظمة تريد أن تجعل من المدرسة أداة للتغيير، ووسيلة ناجحة للقضاء على الأمية بكل أنواعها (الأبجدية، والوظيفية، والإعلامية)، مع تطوير المجتمع كما في الدول الديمقراطية. وهناك من يرفض المدرسة، ويدعو إلى مجتمع بلا مدرسة؛ أنها وليدة المجتمع الصناعي، ومرتبطة بالاستعمار الغربي، كما يذهب  إلى ذلك إيفان إليتش 130في كتابه (مجتمع بدون مدرسة).  

الهواميش:

130 - Ivan Illich: **Une société sans école**, 1971, trad., Seuil, 1972.139 

الصفحة74



الفصل الرابع: نظريات سوسيولوجيا التربية  



يمكن الحديث عن مجموعة من التيارات والنظريات والمدارس والاتجاهات ضمن سوسيولوجيا التربية، ويمكن حصرها في ما يلي131:  

المبحث الأول: النظرية الوظيفية الكلاسيكية 

تنبني المقاربة الوظيفية على تشبيه المجتمع بالكائن العضوي الحي، بمعنى أن المجتمع يتكون من مجموعة من العناصر والبنيات والأنظمة، وكل عنصر من هذه العناصر يؤدي وظيفة ما داخل هذا الجهاز المجتمعي. وبالتالي، يترابط كل عنصر في النسق بوظيفة ما. ومن ثم، فالمجتمع نظام متكامل ومترابط ومتماسك، يهدف إلى تحقيق التوازن والحفاظ على المكتسبات المجتمعية. وبالتالي، يقوم الدين والتربية، مثلاً، بالحفاظ على توازن المجتمع.  


وخير من يمثل هذه المقاربة الفرنسي (إميل دوركايم)، والأمريكيان (تالكوت بارسونز) 132و(روبرت ميرتون) 133على سبيل التمثيل. وقد كان لهذه النظرية إشعاع كبير في سنوات الخمسين من القرن الماضي.  

ويعني هذا أن النظرية الوظيفية تعتبر "المجتمع نظاماً معقداً تعمل شتى أجزاؤه سويةً لتحقيق الاستقرار والتضامن بين مكوناته". وفقاً لهذه المقاربة، فإن على علم الاجتماع استقصاء علاقة مكونات المجتمع بعضها ببعض وصلتها بالمجتمع برمته. ويمكننا على هذا الأساس أن نحلل، على سبيل المثال، المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية، بإظهار صلتها.  

الهواميش:

 131خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، سلسلة التكوين الإداري، العدد الثالث، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1995م، ص 10-11.  عبدالكريم غريب:سوييولوجيا المدرسة،منشورات عالم التربية مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء،المغرب الطبعة الأولى سنة2009م

132. Parsons, Talcott: *The Social System*, Tavistock, London, 1952

merton, Robert K: *Social Theory and Social Structure*, Glencoe, Free Press, 1957  133

صفحة 76

  بغيرها من مؤسسات المجتمع، لأن  أجزاء المجتمع المختلفة تنمو بصورة متقاربة بعضها مع بعض.  

ولدراسة الوظيفة التي تؤديها إحدى الممارسات أو المؤسسات الاجتماعية، فإن علينا أن نحدد ما تقدمه المساهمة أو الممارسة لضمان ديمومة المجتمع. وقد استخدم الوظيفيون، ومنهم كونت ودوركايم، مبدأ المشابهة العضوية للمقارنة بين عمل المجتمع وما يناظره في الكائنات العضوية. ويرى هؤلاء أن أجزاء المجتمع وأطرافه تعمل سويةً وبصورة متسقة، كما تعمل أعضاء الجسم البشري، لما فيه نفع المجتمع بمجمله. ولنتسنى لنا دراسة أحد أعضاء الجسم، كالقلب على سبيل المثال، فإن علينا أن نبين كيفية ارتباطه بأعضاء الجسم الأخرى ووظائفه. وعند ضخ الدم في سائر أجزاء الجسم، يؤدي القلب دورًا حيويًا في استمرار الحياة في الكائن الحي. وبالمثل، فإن تحليل الوظائف التي يقوم بها أحد تكوينات المجتمع يتطلب منا أن نبين الدور الذي تلعبه في استمرار وجود المجتمع ودوام عافيته134.  

ومن هنا، تنبني النظرية الوظيفية على مجموعة من المبادئ والمفاهيم الأساسية، مثل: الوظيفة، والبناء الاجتماعي، والمشابهة العضوية، والنسق، والدور والمكانة الاجتماعية، والمتطلبات الوظيفية، والبدائل الوظيفية، والمعوقات الوظيفية، والوظائف الظاهرة والوظائف الكامنة، والجزء في خدمة الكل، والتضامن العضوي، والمحافظة والاستقرار، والنظام والتوازن، والأدوار الحيوية، والاتساق والانسجام، والتماسك الاجتماعي مقابل مبدأ التجزئة والصراع.  

وعليه، تشدد المدرسة الوظيفية على أهمية الإجماع الأخلاقي في الحفاظ على النظام والاستقرار في المجتمع. ويتجلى الإجماع الأخلاقي هذا عندما يشارك أغلب الناس في المجتمع في القيم نفسها. ويرى الوظيفيون أن النظام والتوازن يمثلان الحالة الاعتيادية للمجتمع، ويرتكز التوازن الاجتماعي على وجود إجماع أخلاقي بين أعضاء المجتمع. إن دوركايم، على سبيل المثال، كان يعتقد أن الدين يؤكد تماسك الناس بالقيم الاجتماعية الجوهرية، ويسهم بالتالي في صياغة التماسك الاجتماعي.  

الهواميش:

134أنتوني غيدنز: علم الاجتماع، ص. 74.         

الصفحة77

وربما كان التفكير الوظيفي يحتل مكانة الصدارة بين التقاليد النظرية في علم الاجتماع لوقت طويل، وخصوصًا في الولايات المتحدة. وكان كل من بارسونز وروبرت ميرتون، وقد نهل كليهما من أفكار دوركايم، أبرز الداعين إلى هذا التيار. غير أن الشعبية التي كانت تتمتع بها المدرسة الوظيفية قد مالت إلى الأفول في الآونة الأخيرة، بعد أن اتضح ما تعانيه من أوجه القصور والنقائص. ومن جملة ما يُوجّه لها من انتقادات أنها أفرطت في التشديد على العوامل المؤدية إلى التماسك الاجتماعي على حساب العوامل الأخرى التي تؤدي إلى التجزئة والصراع. إن التركيز على نواحي الاستقرار والنظام يعني التقليل من أهمية التقسيمات والتفاوتات التي تنشأ في المجتمع على أساس الطبقة والعرق والجنس. كما أن الوظيفيين يميلون إلى التقليل من دور الفعل الاجتماعي الإبداعي في المجتمع. ويرى كثير من النقاد أن التحليل الوظيفي يسبغ على بعض المجتمعات صفات اجتماعية لا توجد فيها، ذلك أن الوظيفيين كثيرًا ما يقولون: إن للمجتمع حاجات، وإن له أهدافًا على الرغم من أن هذه المفاهيم لا تصدق إلا على الأفراد من البشر135."  

ومن جهة أخرى، يستند الاتجاه الوظيفي إلى التجربة العقلية، واستخدام المنهج المقارن كمًّا وكيفًا، وملاحظة النتائج المترتبة على حدوث الاضطرابات في المجتمع وتحليلها.  

ومن أهم الانتقادات الموجهة إلى هذا الاتجاه أنه تيار إيديولوجي محافظ، يهدف إلى خلق مجتمع منظم ومتناسق ومتماسك ومستقر اجتماعيًا، يخلو من الصراع والتناقضات الجذرية. لهذا، يُعتبر النظام أو التوازن أو الاستقرار الهدف المنشود الذي يسعى إليه هذا الاتجاه السوسيولوجي. وفي هذا، تقول وسيلة خزار: "يجمع النقاد على الطابع الإيديولوجي المحافظ للاتجاه البنائي الوظيفي، والذي يتضح بجلاء في قيامه على مسلمة أساسية تتمثل في وحدة وترابط أجزاء النسق ووظائفه، وفي تأكيده المبالغ فيه لأهمية التكامل والتوازن والاستقرار داخل المجتمع، هذا فضلًا عن اعتماده الكبير على تشبيه المجتمع الإنساني بالكائن الحي، حتى أصبحت صحة المجتمع مرادفة للنظام، ومرضه مرادفًا للصراع. لقد حاول الاتجاه..."  

الهواميش:

135- أنتوني غيدنز: نفسه، ص. 74_75      

الصفحة 78

البنائي الوظيفي بكل جهة أن يلغي فكرة وجود تناقضات داخل الأسئلة الاجتماعية، ولما كان بناء ذلك من المستحيل وغير الممكن، نظرًا إلى عدم القدرة على إغفاله في واقع الحياة، تبنى الكثير من أصحاب هذا الاتجاه مبدأ وجوده على أنه حالة استثنائية تعبر عن مرض اجتماعي، مع التأكيد أن التوازن والتكامل هما الحالة الطبيعية التي تمثل النموذج الأمثل للنظام136. 

ومن هنا، بدافع هذا الاتجاه عن القيم البرجوازية والرأسمالية المحافظة، يقول رايت ميلز: "لقد حول بارسونز المجتمع بأسره إلى مجرد قيم ومعايير، أو إلى رموز مجردة توجد مستقلة عن البشر، وتفرض عليهم سلطانها، وأغفل تمامًا الأساس الاقتصادي والسياسي للمجتمع، وعبر بوضوح عن انحيازه الأيديولوجي للطبقة الحاكمة. والإنسان عنده غير قادر على تغيير هذه الأنساق القيمية، ولكن عليه أن يخضع لها ويتكيف معها137."  

ويضيف: "إن تأكيد بارسونز على فكرة التوازن عن طريق الخضوع للمعايير السائدة والمشتركة بين الناس، إنما هو تحذير من أي تمرد أو محاولة لتغيير الأوضاع القائمة"137.  

ومن ثم، فبارسونز مفكر اجتماعي محافظ يبحث عن استقرار مجتمعي مبارك من الله، وفي هذا يقول بوبوف: "يقرر بارسونز أن بواعث وأهداف الأفعال الاجتماعية لا تحددها الأسباب المادية، بل تحددها سيكولوجية الأفراد بوصفهم ممثلين يقومون بأدوار محددة لهم من قبل، تحددها القيم التي يعتبرونها مطلقة وأزلية، لأن مصدرها هو مجال غير حسي أو تجريبي، أي إنه الله. وهنا، يتفق بارسونز مع كل من يؤمنون بسلطة الحكم في كل زمان بادعاء أنها ممثلة إرادة الله"139.  

الهواميش:

136وسيلة خزار: الإبيولوجيا وعلم الاجتماع (جدلية الانفصال والاتصال)، ص: 209.  

137سمير نعيم أحمدالبنائية في علم الاجتماع/دراسة نقدية (دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الخامسة، 1985م)، ص: 210. 

138سمير نعيم أحمد: البنائية في علم الاجتماع/دراسة نقدية، ص: 210. 

139سمير نعيم أحمد: نفسه، ص: 210.  

الصفحة79

ومن هنا، يحمل بارسونز ضمن آرائه النظرية تصورًا محافظًا للوجود. وفي هذا الصدد، يقول خضر زكريا:إن مشكلة بارسونز تكمن في أنه يدعي تأسيس نظرية عامة للفعل، تنطبق على جميع الناس في جميع البلدان ومختلف الأزمان، بينما هو في الواقع يدعو للحفاظ على النظام الرأسمالي القائم في بلده (أمريكا)، ويبرر علاقاته ومؤسساته وأنظمة القوة فيه، بوصفها الأسس التي تقوم عليها جميع المجتمعات، أو على الأقل المجتمعات المتقدمة (المستقرة، المتكاملة، التي تسودها القيم المشتركة). وتكشف بحوثه في نظم القرابة، والطبقات الاجتماعية، وتنظيمات القوة، وغيرها من البحوث التي تتناول البيانات الواقعية لبعض المجتمعات، تعبيرًا واضحًا عن النزعة المذكورة...  

إنه يرى – مثلاً – أن التدرج وعدم المساواة بين الناس يعود إلى أنهم يؤدون أعمالهم إما بشكل جيد أو رديء، كما إن مهارتهم وكفاءتهم يجري تقويمها وترتيبهما في درجات ومراتب. أين نظام الملكية؟ وأين تأثير القوى المهيمنة؟ ألا يتحكم رأس المال الاحتكاري بكل هذه الآليات؟ هل مقياس الكفاءة والفعالية وحدهما هما اللذان يحددان مكان الفرد أو الجماعة في المجتمع الرأسمالي المعاصر؟ 140

ويتميز هذا الاتجاه بفصله النظرية عن الواقع، فأصحابه يتبنون فكرة النظام والاستقرار، في حين يتسم الواقع بالأزمات والتناقضات الجذرية البارزة والحادة. وفي هذا السياق، يقول أحمد مجدي حجازي: "لقد رأى أصحاب الفكر المحافظ أن الفجوة قد أصبحت أكثر اتساعًا بين الشواهد الواقعية، والفكر السوسيولوجي السائد، نظرًا إلى أن شواهد الواقع لا تشير إلى تأصيل الاستقرار كهدف سعى إليه رجال هذا الفكر. وإزاء هذا الموقف المأزوم، أصبح هدف علم الاجتماع من وجهة نظر علماء القرن العشرين يتمثل في كيفية التوصل إلى الحبكة المنهجية والصياغة النظرية المتماسكة لمفهوم الأزمة، أو محاولة تخطيها من جانب، ومواجهة الفكر الراديكالي من جانب آخر141. 

الهواميش:

 140خضر زكريا: نظريات سوسيولوجية، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، طبعة 1998م، ص: 213-212.  

141أحمد مجدي حجازي:علم اجتماع الأزمة: رؤية نقدية للنظرية السوسيولوجية، دار غيا، القاهرة، مصر، طبعة 1998م، ص: 104.  

الصفحة 80

وهكذا، نخلص إلى أن الاتجاه الوظيفي هو تيار سوسيولوجي يركز على البنية والوظيفة. ومن ثم، فهو تصور بنيوي نسقي يربط كل عنصر في المجتمع بوظيفة ما، ويكون الهدف من ذلك كله هو تحقيق النظام والاستقرار والتوازن والتضامن. إلا أن هذا الاتجاه يغلب عليه الطابع الإيديولوجي المحافظ من جهة. ومن جهة أخرى، يدافع عن التواجد الليبرالي البورجوازي باعتباره النظام الاقتصادي البديل الذي يؤدي إلى الحفاظ على ثوابت المجتمع وتماسكه اجتماعيًا، وطبقيًا، واقتصاديًا، ونفسيًا.  

وفي المجال التربوي، تقوم هذه المقاربة على فكرة الفوارق الوراثية، بمعنى أن المدرسة توحد جميع المتعلمين في تمثل المعايير الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع. وفي الوقت نفسه، تفرق المدرسة بين هؤلاء تقويمًا وانتقاءً واصطفاءً. فمن يمتلك القدرات الوراثية والملكات الفطرية، كالذكاء، والنجابة، والقدرات التعلمية الكفائية، ينتهي إلى تولي المناصب المتنافَس عليها، ولكن ليس اتكاءً على المحسوبية والأصل والنسب، بل اعتمادًا على المعايير العلمية الموضوعية، والإنجازات التقويمية المضبوطة.  

ومن جهة أخرى، يرى إميل دوركايم أن وظيفة المؤسسة التعليمية (المدرسة) تقوم على وظيفتي الحفاظ والتجديد، والتشديد على جدلية الماضي والحاضر. بمعنى أن المدرسة وسيلة للتطبيع، وإعادة إدماج المتعلم داخل المجتمع. أي: تقوم المدرسة بتكييف المتعلم، وجعله قادرًا على الاندماج في نسق المجتمع.  

إذًا، تقوم المدرسة بوظيفة المحافظة والتطبيع والتنشئة الاجتماعية، ونقل القيم من جيل إلى آخر عبر المؤسسة التعليمية. ويعني هذا أن المدرسة وسيلة للمحافظة على الإرث اللغوي والديني والثقافي والحضاري، ووسيلة لتحقيق الانسجام والتكيف مع المجتمع. أي: تحويل كائن غير اجتماعي إلى إنسان اجتماعي، يشارك في بناء العادات نفسها التي توجد لدى المجتمع. وهذا يؤدي إلى أن تكون المدرسة مؤسسة توحيد وانتقاء واختيار. ويعني هذا أن المدرسة توحد عبر التكييف الاجتماعي، ولكنها تميز بين الناس عبر الانتقاء والاصطفاء. ومن ثم، فالوظيفة الأولى...  

الصفحة 81

للمدرسة تتمثل في زرع الانضباط المؤسساتي والمجتمعي. ويرى مارسيل بوستيك أن كل نظام مدرسي يتسم بسمة المجتمع الذي أنشأه، وهو منظم حسب مفهوم التصور المعطى للحياة الاجتماعية، ولدواليب الحياة الاقتصادية، والروابط الاجتماعية التي تحرك هذا المجتمع. ولهذا، حلل علماء الاجتماع بصورة مباشرة أو غير مباشرة الصلات بين العلاقة التربوية والنظام الاجتماعي، نظراً لأنهم يعتبرون التربية بمثابة مؤسسة، مهمتها تكييف الشباب مع حياة الجماعة بواسطة إجراءات معقدة الاستنباط142. 

ويعني هذا أن المدرسة لابد أن تقوم بدور عقلاني حسب دوركايم، بتقديم المعارف والقيم، والحفاظ على المجتمع العلماني الديمقراطي، والدفاع عن ثوابته النظامية والنسقية والإيديولوجية. وبصيغة أخرى، إن النظام التربوي مطالب بعملية التطبيع والإعداد الاجتماعيين، بتشريب الأجيال القادمة مجموعة من القيم والمعايير والعادات والتقاليد والأعراف بغية تأهيلهم للأدوار المنوطة بهم في المستقبل حسب حاجيات النظام الاجتماعي. ويعني هذا أن تقوم المدرسة بوظيفة التنشئة الاجتماعية، وعملية التطبيع والمحافظة على القيم الموروثة. كما تعنى هذه النظرية البنيوية الوظيفية بأدوار المدرسة أو المؤسسة التعليمية داخل النسق الاجتماعي، واستجلاء مختلف وظائفها الأساسية والثانوية قصد الحفاظ على توازن المجتمع وتماسكه واستقراره، دون أن ننسى التركيز على شبكة العلاقات والتفاعلات المباشرة وغير المباشرة والأدوار والسلوكيات والتصرفات الوظيفية قصد تحقيق مجتمع ثابت منظم. أما إذا وقع اختلال وظيفي، فلا بد من عمليات التصحيح أو المعالجة أو المواجهة. 

الهواميش:

142مارسيل بوستيك: العلاقة التربوية، ترجمة: محمد بشير النحاس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1986م، ص: 19.  

الصفحة 82

المبحث الثاني: المقاربة الوظيفية التكنولوجية  

ظهرت هذه المقاربة ما بين سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي لتحمل من المدرسة أداة لتكوين اليد العاملة وتأهيلها بغية تحريك الاقتصاد، وتطوير المقاولات الصناعية والتقنية. ومن ثم، فقد أدى هذا المفهوم الوظيفي للتربية، الذي انبني على تفسير الفوارق التربوية بشكل وظيفي انطلاقاً من حاجيات المجتمع المعلنة أو الضمنية، إلى ظهور الوظيفية-التكنولوجية، سيما وأنها وجدت ما يبرر وجودها في بعض معطيات النمو الاجتماعي في الدول الصناعية. ذلك أن التقدم التكنولوجي السريع والنمو الاقتصادي أدى إلى طرح مشكلة اليد العاملة المؤهلة كحاجة جديدة. وهكذا، تميزت فترة 1950-1960 بخصائص أساسيتين:  

الأولى سياسية، وهي أن الانفجار والانتشار الكبير للتربية هو أحسن وسيلة لدولة تريد أن تكون ديمقراطية لكي تحد أو تقلل من التمايزات الصارخة المتجذرة في سلبيات الماضي، وتقلل كذلك من الفروق السوسيو-اقتصادية.  

والثانية اقتصادية، ومؤداها أن التربية تساهم في التنمية الاقتصادية بتأهيل اليد العاملة وإعداد الأطر الملائمة (نظرية الرأسمال البشري).  

ومن ثمة، بدأ الاهتمام ببناء تربية مجتمع قائمة على النمو وتعميم الكفاءات، وبذلك تم التقاطع والتلاقي بين الحجج والأدلة التي تقدمها كل من الوظيفية-التكنولوجية ونظرية الرأسمال البشري التي اعتمدها المنظرون الاقتصاديون، الذين يعتبرون التربية كاستثمار منتج على المستوى الفردي والجماعي. وبناء على هذا، وجب حسب هذين التصورين، استثمار كفاءات الفرد إلى أقصى حد وفق ما تسمح به قدراته وحاجيات المجتمع، حتى لا تُهدر الموارد البشرية الثمينة  143

الهواميش:

143إحلال المبرر وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية*، سلسلة التكوين التربوي، العدد 3، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 1995، ص: 83.

الصفحة83

وتقترب هذه المقاربة من نظرية الاستثمار البشري أو نظرية الرأسمال البشري. لكن سرعان ما تعرضت أطروحات التكنولوجيا الوظيفية ونظرية الرأسمال البشري إلى انتقادات حادة مدعمة بالأرقام والإحصائيات؛ مما جعل حماسها يفتر. ولقد بينت الدراسات الحديثة أن الطاقات البشرية لا تستغل بالشكل الأمثل، على أساس غياب تناسق وانسجام بين النمو التكنولوجي والنمو التربوي. وأظهرت دراسة "دريبين" (Dreeben) مثلاً أن النظام التعليمي الأمريكي ينمو بسرعة أكثر مما تطلبه حاجيات المجتمع للعمالة. كما بينت دراسة أخرى أن العلاقة بين المستوى التعليمي والدخل علاقة غير مستقرة، بحيث إنها مرتبطة بسوق العمل وبالظروف الاقتصادية، أكثر مما هي مرتبطة بالشهادات أو الدبلومات144. 

ويعني هذا أن المدرسة فضاء لتكوين الأطر وتأهيلها وإعدادها لعالم المقاولة والتقنية.  

المبحث الثالث: المقاربة الصراعية أو الاتجاه الماركسي الجديد

لا يمكن استجلاء هذه المقاربة الصراعية (Théorie conflictualiste) أو رصد البعد الإيديولوجي للتيار الماركسي النقدي الجديد إلا بالتركيز على المطالب التالية:  

المطلب الأول: مفهوم المقاربة الصراعية 

تنبني المقاربة الصراعية على مفهوم الصراع والاختلاف حول السلطة والقوة. ومن ثم، فالمجتمع غير خاضع لمبدأ النظام والتوازن والانسجام كما يقول الوظيفيون (دوركايم، وبارسونز، وميرتون)، بل قائم على الصراع والاختلاف والتوتر. وفي هذا، يقول أنتوني غيدنز في كتابه:  

الهواميش:

144: خالد المبر وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص 12

الصفحة 84

الاجتماع: "يميل علماء الاجتماع الذين يطبقون نظريات الصراع إلى التأكيد على أهمية البنى في المجتمع مثلما يفعل الوظيفيون، كما أنهم يطرحون نموذجًا نظريًا شاملاً لتفسير عمل المجتمع. غير أن أصحاب النظريات الصراعية يرفضون تأكيد الوظيفيين على الإجماع، ويبرزون بدلاً من ذلك أهمية الخلاف والنزاع داخل المجتمع، ويركزون بذلك على قضايا السلطة والتقاطع والنضال. ويميل هؤلاء إلى أن المجتمع يتألف من مجموعات متميزة تسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة. ووجود هذه المصالح المنفصلة يعني أن احتمال قيام الصراع بين هذه الجماعات يكون قائمًا على الدوام، وأن بعضها قد ينتفع أكثر من غيره من استمرار الخلاف. ويميل الملتزمون بنظريات الصراع إلى دراسة مواطن التوتر بين المجموعات المسيطرة والمستضعفة في المجتمع، ويسعون إلى فهم الكيفية التي تنشأ بها علاقات السيطرة وتدوم. ويعزو كثير من منظري الصراع آراءهم إلى ماركس الذي أكد في مؤلفاته على الصراع الطبقي، إلا أن بعضهم ينوهون بالأثر الذي تركه فيبر على توجهاتهم. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه عالم الاجتماع الألماني رالف دارندورف، ففي واحدة من أبرز مؤلفاته (الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي (1959))، يرى دارندورف أن المفكرين الوظيفيين يقصرون دراستهم على جانب واحد من المجتمع، أي نواحي الحياة الاجتماعية التي يتجلى فيها الانسجام والثبات. وما يعادل أهمية تلك الجوانب، أو يفوق أهمية، هو النواحي الأخرى التي يميزها الصراع والاختلاف. وينتج الصراع، كما يقول دارندورف، بشكل أساسي عن الاختلاف والتعارض بين مصالح الأفراد والجماعات على السواء. وقد اعتقد ماركس أن اختلاف المصارف وقف على الطبقات، غير أن دارندورف يعزوه بصورة أوسع إلى الاختلاف على السلطة والقوة. وفي جميع المجتمعات ينشأ الخلاف والنزاع بين من يملكون السلطة من جهة، ومن يتم إقصاؤهم عنها من جهة أخرى، أي بين الحكام والمحكومين145

وبناءً على ما سبق، ترتكز المقاربة الصراعية على التوجه الماركسي الجديد، وعلى أساس أن المدرسة هي فضاء للصراعات الطبقية .

الهواميش:

145أنتوني غيدنز:نفسه،ص75.

الصفحة85

والاجتماعية واللغوية والرمزية، أو هي فضاء للصراع حول السلطة والقوة كما يقول دارندورف. وتتبنى هذه المقاربة التصورات النقدية في ضوء مقترب ماركسي جديد. وخير من يمثل هذه المقاربة كل من بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، وبودلو (Baudelot)، وبرنار لاهير (Bernard Lahire)، وإستابليه (Establet)، وكولنز (Collins)،وبازل برنشتاين(basil bernsteien)

وتنطلق هذه المقاربة من أن العلاقات الاجتماعية هي التي تتحكم في التوجيه المدرسي، وهي التي تسهم في تحقيق النجاح، أو تكون وراء الإخفاق الدراسي. ومن ثم، فالأصل الاجتماعي عنصر مهم في التحليل السوسيولوجي، لكنه لا يعتبر العنصر الوحيد في فهم الظاهرة التربوية وتفسيرها اجتماعيًا. ومن ثم، فالمدرسة، في منظور هذه النظرية، مثل آلة لإعادة إنتاج اللامساواة الطبقية والاجتماعية.

وقد طرحت السوسيولوجيا التربوية، في سنوات السبعين من القرن الماضي، سؤال اللامساواة، وكان سؤالًا جوهريًا، وأسال كثيرًا من الحبر إلى يومنا هذا. أما قبل ذلك، فكان سؤال التنشئة الاجتماعية وإدماج الفرد في حضن المجتمع هو مدار اهتمام دوركايم. ومن ثم، فسؤال اللامساواة المدرسية نتاج للامساواة الطبقية والاجتماعية. ومعنى هذا أن المدرسة تعبير عن الفوارق الفردية والطبقية والاجتماعية واللغوية والثقافية، فأبناء الأغنياء والطبقات المرموقة يحصلون على معدلات مرتفعة، ويستفيدون من التعليم الجامعي. في حين، يحصل أبناء الطبقات الدنيا على معدلات ضعيفة، ويعانون من فوارق التحصيل والذكاء، ثم لا يستطيعون متابعة دراساتهم الجامعية، فيكتفون بالتوجيه المهني أو التقني. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن المدرسة الرأسمالية الطبقية تعيد إنتاج الورثة باستحقاقاتهم الطبقية والاجتماعية. بينما يفتقر أبناء الطبقة العمالية إلى الرأسمال الثقافي الذي يمتلكه أبناء الطبقة البورجوازية. ومن ثم، تمارس المدرسة الرأسمالية عنفًا رمزيًا ضد أبناء الطبقات الكادحة أو المسحوقة اجتماعيًا. ومن ثم، فوظيفة المدرسة - حسب بيير بورديو وكلود باسرون - هي تحقيق اللامساواة الطبقية والاجتماعية. ومن ثم، فليست المدرسة..."

الصفحة 86

محايدة أوموضوعية أوعادلة أو كونية،بلتخدم مصالح الطبقة السائدة أوالقيم الفئة المهنية على الحكم ليس إلا.

وترى هذه المقاربة أن المدرسة لا تنتج الأكثر ذكاءً وقدرةً وإنتاجًا وإبداعًا، بل تنتج الأكثر توافقًا ومسايرةً لتمثلات الفئة الحاكمة. أي أنها تختار من ينفذ تعليمات الطبقة المالكة للسلطة، ويعيد إنتاج قيمها.  

المطلب الثاني: أطروحة بيير بورديو وكلود باسرون

تناول بيير بورديو مفهوم إعادة الإنتاج بالتحليل والدراسة والتقويم، حيث ركز اهتمامه السوسيولوجي على النظام التربوي الفرنسي بالتعاون مع صديقه جان كلود باسرون (Jean-Claude Passeron) في كتابهماإعادة الإنتاج خلال ستينيات القرن الماضي146.

كانت هذه الفترة مرحلة التطور والازدهار العلمي والمنهجي لسوسيولوجيا التربية. ويمكن القول إن بيير بورديو وكلود باسرون هما من أعطيا حياةً جديدةً لهذا المجال، حيث انطلقا من فرضية سوسيولوجية أساسية تتمثل في أن المتعلمين لا يمتلكون الحظوظ نفسها في تحقيق النجاح المدرسي. ويعزى هذا الاختلاف إلى التنشئة الاجتماعية، والتفاوت الطبقي، ووجود فوارق فردية داخل الفصل الدراسي نفسه.ومن خلال الأبحاث السوسيولوجية والإحصائية، توصل بورديو وباسرون إلى استنتاج أساسي مفاده أن الثقافة التي يتلقاها المتعلم في المدرسة الفرنسية الرأسمالية ليست ثقافةً موضوعيةً أو محايدةً، بل هي ثقافةً مُهيمنةً تعبر عن قيم الطبقة الحاكمة. وبالتالي، فإن التنشئة الاجتماعية ليست تحريرًا للمتعلم، بل هي إدماج له في المجتمع في إطار ثقافة التوافق والتطبيع والانضباط. وهكذا، تعيد المدرسة إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها عبر آليات الاصطفاء والانتقاء، مما يجعلها مؤسسةً للامساواة الاجتماعية بامتياز.  

الهواميش:

146-Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, **Les héritiers : les étudiants et la culture**, Paris, Les Éditions de Minuit, coll. « Grands documents » (no 18), 1964, 183 p.

الصفحة87

ويعني هذا كله أن سوسيولوجيا التربية النقدية قد عرفت منحى مهما في سنوات الستين إلى غاية سنوات السبعين من القرن العشرين، فقد اتخذت بعدا علميا أكثر مما هو سياسي، بعد أن توسعت الهوة بين النظرية والتطبيق، أو بين المؤسسة التربوية والمجتمع، ولاسيما بعد تحول المدرسة الرأسمالية إلى فضاء للمنافسة والتطاحن والصراعات الاجتماعية والطبقية، أو تحولها إلى مؤسسة هيرارشية أو تراتبية طبقية، تتعدم فيها العدالة الاجتماعية الحقيقية، وتغيب فيها المساواة على مستوى الفرص والحظوظ؛ حيث يكون الفشل والإخفاق مال أبناء الطبقات الشعبية. في حين، يكون النجاح حليف أبناء الطبقات الغنية وأبناء الطبقة الحاكمة أي: أصبحت مدرسة فارقية بامتياز، أو مدرسة للانتهاء والاصطفاء الطبقي والتميز الاجتماعي.

وللتوضيح أكثر، ينطلق بورديو وباسرون من فكرة أساسية هي 'أن المدرسة تعمل وفق تقسيم المجتمع إلى طبقات، وهي بذلك تكرس إعادة الإنتاج والمحافظة على الوضع القائم الذي أنتجاه وتبعاً لهذا، فإن الأطفال، ومنذ البداية. قبل ولوجهم المدرسة غير متساوين أمام المدرسة والثقافة'، أي: غير متساوين في الرأسمال الثقافي (أي امتالك المهارات اللغوية الملائمة التي تسهل عملية التواصل التربوي)، ولكي تحافظ المدرسة على وظيفتها- إعادة الإنتاج- فهي تفرض معياراً ثقافياً ولغوياً معينا، وهو أقرب إلى اللغة والثقافة الساريتين في الأسر البورجوازية منه في الأسر والطبقات الشعبية. إن هذا الإيثوس(Ethos) أي: النظام القيمي المستبطن بعمق، والذي هو لصالح الطبقات المسيطرة يؤدي إلى خلق نوع من الاستعداد أو الأيثوس لدى الأفراد عن طريق العمل التربوي الذي يسعى أساساً لتشريب التعسف الثقافي المفروض من قبل الجماعة المسيطرة.

وهذا يعني أن طفل الفئة البورجوازية يعيش استمرارية وتكاملًا بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته، مما يسهل عليه عملية التوافق، إن لم يكن مسياقاً متوافقاً. ومن ثمّه، يصبح وريئاً للنظام المدرسي.

أما طفل الطبقة الدنيا، فهو يعيش قطيعة بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته، مما يجعل هذه الأخيرة غربية وبعيدة عنه، ولكي يتوافق دراسيا معها، عليه أن يتخلص من رواست ثقافته، ويتمثل طرائق جديدة في التفكير واللغة."

الصفحة 88

والسلوك أي: أن يمر، حسب تعبير بيرنو (Permoud)، أولاً بعملية الانحلال من الثقافة، ثم ثانياً بعملية المنافقة.  

وعلى العموم، فإن أطروحة بورديو وباسرون توضح أن الأهداف الضمنية للمدرسة تخدم التكامل بينها وبين الطبقة المسيطرة، مما يجعل أبناء هذه الأخيرة أطفالاً ناجحين دراسياً. في حين، إن انعدام التكامل بين المدرسة والطبقة الدنيا، تبعاً للأهداف نفسها، يجعل الفشل الدراسي يحصد ضحاياه ضمن أبنائها147.  

ويعني هذا أن السؤال الذي ركزت عليه سوسيولوجيا التربية، في سنوات السبعينيات، هو سؤال اللامساواة المدرسية التي تعكس اللامساواة الطبقية والاجتماعية، وتعكس مدى اختلاف أبناء الطبقات العمالية عن أبناء الطبقات المحظوظة، واختلاف المستوى التعليمي الطويل الذي يرتاده أبناء الطبقات المحظوظة، والتعليم القصير الذي يكون من حظ أبناء الطبقات الدنيا، ولا سيما أبناء الطبقات العمالية وأبناء المهاجرين على حد سواء. لذا، يغلب النقد الماركسي الجديد على هذه السوسيولوجيا السبعينية.والدليل على

ذلك الثورة العارمة التي اشتمل أوارها في سنة 1968، والتي لم تستثنِ المدرسة الرأسمالية التي كانت "فعلاً" مدرسة طبقية بأمتياز. ومن ثم، فقد كان الحل يتمثل في دمقرطة التعليم، وتحقيق المساواة الاجتماعية الشاملة، والحد من الفوارق الطبقية والمجتمعية، ومنع ممارسة العنف الرمزي ضد المتعلمين، وخلق مدرسة موحدة تحقق النجاح لجميع المتعلمين دون تمييز أو انتقاء أو اصطفاء.  

وعليه، تعد دراسات بورديو نقداً للدراسات الكلاسيكية حول سوسيولوجيا التربية؛ لأنها اعتمدت على المقاربة الماركسية النقدية الجديدة في دراسة المدرسة الفرنسية بصفة خاصة، والمدرسة الرأسمالية بصفة عامة، على أساس أن المدرسة فضاء للتنافس والهيمنة والصراع الطبقي والمجتمعي.  

ولم تقتصر نظرية إعادة الإنتاج عند بيير بورديو على ما هو تربوي فقط، بل اهتم كذلك بدراسة إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية في المجتمع القبائلي.  

الهواميش:

 147خالد أمير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص: 15-16.

الصفحة 89

التقليدي بالجزائر،فيكتابه القيم الهيمنة الذكورية/la domination masculin 148

المطلب الثالث: أطروحة كولانز

يرى كولانز (Collins) أن الأفراد لا يتم انتقاؤهم واصطفاؤهم على أساس القدرات الذكائية والتقنية والمعارف التحصيلية، بل على أساس الانتماء إلى الجماعة المسيطرة ثقافياً، يتمثل تصوراتها، ويتبع قيمها. ومن ثم، يكمن الصراع في ضغط الجماعات الحاكمة على المشغلين بأن يعتمدوا على الشهادات في عمليات الانتقاء والاصطفاء، بناءً على معايير التبعية الثقافية والحزبية والإيديولوجية.149 ومن ضمن ما يُؤخذ على هذه الأطروحة أنها انبنَت فقط على بعض المعطيات المرتبطة بسياسة الانتقاء والاختيار، وبرواتب المقاولات الأمريكية؛ مما يصعب تعميمها على جميع الأنظمة. غير أنه، وعلى الرغم من هذا القصور، فقد استطاعت أن تُبين وجهاً من وجوه مفارقات العلاقة بين التطور التربوي ومثيله الاجتماعي150.  

ويعني هذا أن كولانز يثبت أن الأصل الاجتماعي والطبقي له دور مهم في تحديد مصير الفرد، بناءً على انتساباتهم الحزبية والسياسية والإيديولوجية.  

المطلب الرابع: أطروحة بوديو وباسرون 

تتمثل أطروحة بوديو وباسرون في كون المدرسة الرأسمالية تنقسم إلى قناتين: قناة التعليم الابتدائي ذات التوجه المهني، وقناة التعليم الثانوي والعالي ذات التوجه الاحترافي. ويترتب عن القناتين أن أبناء الطبقة...  

الهواميش:

Pierre Bourdieu, La Domination masculine, Paris, Le Seuil, 1998, coll. Liber, 134 p148.  

R. Collins: The Credential Society, New York, Academic Press, 1979149. 

150خالد المير وآخرون: نفسه، ص 13-14.  

الصفحة90

العاملة يكتفون بالتعليم المهني القصير في حين، يهتم أبناء البورجوازية بالتعليم العالي الطويل. وينتج عن هذا وجود صراع طبقي واجتماعي داخل المدرسة". وهكذا، يتضح أن أطروحة بودلو وإستابلي تتميز بالنقد العنيف والمتجذر للنظام التعليمي الرأسمالي (الفرنسي)، غير أن هذا النقد، كما يجمع جل الباحثين، يغلب عليه الطابع السياسي والإيديولوجي الذي طبع فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كما أنه تأثر بنمط التنظير الوظيفي، شأنه في ذلك شأن الثنائي بورديو وباسرون، ذلك أن أطروحتهما حول إعادة الإنتاج، وأطروحة القناتين لبودلو وإستابلي، ركزت على وظيفة المدرسة من حيث هي وظيفة اصطفائية، تعطي الشرعية للتفاوت الاجتماعي، وتكرس الصراع بين الفئات الاجتماعية. إنها وظيفة مرتبطة عند الأولى بالجانب الاجتماعي-الثقافي، وعند الثانية بالجانب السياسي-الإيديولوجي151.

وهكذا، يرتبط بودلو وإستابلي بأطروحة القناتين أو أطروحة التعليم المهني في مقابل التعليم الجامعي العام. فإن أبناء الطبقات المسحوقة اجتماعياً يختارون التعليم المهني ذي الأمد القصير، وأبناء الطبقة الحاكمة يختارون التعليم الجامعي ذي الأمد الطويل.

المطلب الخامس: أطروحة بازيل برنشتاين

انتشرت اللسانيات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل لافت للانتباه بسبب تواجد الكثير من الجاليات الأجنبية. ومن ثم، فقد ارتبطت بمجال التربية والتعليم ارتباطاً وثيقاً، كما عند بازيل برنشتاين (Basil Bernstein) الذي تحدث عن شفريتين لغويتين اجتماعيتين متقابلتين: لغة ضيقة ومفككة وضعيفة عند أبناء الفقراء، ولغة غنية وموسعة عند أبناء الأغنياء. وفي هذا الصدد، يقول عبد الكريم بوفرق: "انتبه برنشتاين إلى العلاقة المباشرة بين الإنتاجات اللغوية الواقعية وبين الوضعية الاجتماعية للمتكلمين أو الناطقين اللغويين. وانطلق من هذه الملاحظة لكي يصل إلى

الهواميش:

151- خالد المبر وآخرون: نفسه، ص 16-17. الصفحة 91

الصفحة91

استنتاج عام، مفاد أن أبناء الشرائح الاجتماعية المتواضعة يعرفون نسب فشل دراسي أكبر من أولئك المتنمين إلى طبقات اجتماعية مستقرة ماديا. ويتميز هذا التفاوت بالفرق بين نظامين لغويين: واحد ضيق، والآخر متسع. 

ولمعرفة حجم الفرق بين النظامين أعلاه، تم إخضاع تلاميذ المستويين الاجتماعيين المختلفين لتجربة مثيرة للاهتمام. فقد طلب منهم التعليق كتابة على مجموعة من الرسوم المتحركة الصامتة. فماذا كانت النتيجة؟  

كان جواب الفئة الأولى (تلاميذ الطبقة الاجتماعية المتواضعة) على الشكل التالي:  هم يلعبون بالكرة، قذف، تكسر الزجاج..

بينما كان تعليق الفئة الثانية (تلاميذ الطبقة الغنية) بهذا الأسلوب:  

كان الأطفال يلعبون بالكرة، قذف واحد منهم الكرة، ومرت عبر النافذة، وكسرت الزجاج...

ولكن الفرق بين النظامين في شكل التعبير من الناحية اللغوية، أي من حيث قواعد النحو والتركيب أو لا. ففي الحالة الأولى، نجد جملاً قصيرة، تفتقر إلى أدوات الربط، مع معجم محدود جداً. لذا، يجد أولئك التلاميذ صعوبة كبرى في التعبير. فهم عاجزون عن التعلم، وعن رؤية العالم. وهذا يعني أن التعلم والتنشئة الاجتماعية تنشأ في الأسرة، وليس في المدرسة"152.  

وعليه، فأطروحة باسل برنشتاين 153ذات طابع لغوي ولساني، بمعنى أن المدرسة فضاء للصراع اللغوي واللساني. فلغة أبناء الطبقة الوسطى والغنية تتسم بالخصوبة والاسترسال والمرونة والترابط المنطقي والحجاجي. وتتميز أيضاً بالتجريد والترميز والصياغة المنطقية، وتعتمد على استعمال الجمل الطويلة التي تزخر بالروابط والأوصاف والمصادر المؤولة وأدوات الوصل والفصل. في حين، تتسم لغة أبناء الشرائح المتواضعة بالبساطة والمحدودية.  

الهواميش:

152- عبد الكريم بوفر: علم اللغة الاجتماعي، مقدمة نظرية، مطبوع جامعي، جامعة محمد الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، المغرب، الموسم الجامعي 2011-2012، ص 24-25.  

153- Bernstein.B: *Langage et classes sociales*. Ed. De Minuit, Paris, 1975. (ص 92).  

الصفحة 92

الطبقة الدنيا باستعمال شفرة لغوية ضدية ومحدودة وشخصة حساباً كما أنها لغة مفككة ومهاجمة غير خاصة لعمليات التحليل والثانية المنطقي استقراء واستنتاجاً بين أن هذه النظرية لا يمكن تعميمها بشكل علمي ومنطقي. قيمة أبناء من الطبقة الفقيرة يستعملون اللغة بشكل حيوي، ويحققون درجات من النجاح والتقدم في مستواهم الدراسي، على الرغم من فقر بيئتهم الاجتماعية. كما أن المدرسة ليست دائماً مكاناً للصراع الطبقي والاجتماعي والسياسي واللغوي والإيديولوجي، بل يمكن أن تكون المدرسة فضاءً للتعايش والتواصل والاستقرار.

المجت الرابع: مدرسة الفعل الاجتماعي

بعد ماكس فيبر من أهم السوسيولوجيين الألمان الذين أخذوا بنظرية الفعل الاجتماعي. وهدف السوسيولوجيا عند ماكس فيبر هو فهم الفعل الاجتماعي وتأويله، مع تفسير هذا الفعل المرصود سببياً بربطه بالآثار والنتائج. ويقصد بالفعل سلوك الفرد أو الإنسان داخل المجتمع، مهما كان ذلك السلوك ظاهراً أو مضمراً، صادراً عن إرادة حرة أو كان نتاجاً لأمر خارجي154. ومن ثم، يتخذ هذا الفعل - في أثناء التواصل والتفاعل - معنى ذاتياً لدى الآخر أو الآخرين، ما دام هذا الفعل الاجتماعي مرتبطاً بقصدية ومقصدية. أي: الإجابة عن سؤال جوهري إلا وهو: كيف يرى الناس سلوكهم ويفسرونه؟ بمعنى أن "الفعل الإنساني عند فيبر هو السلوك الذي يحمل دلالة

ومعنى وهدفاً. وأما الفعل المجتمعي، فهو السلوك الذي يسلكه الفرد تجاه الآخرين من خلال ما يضفي، في سلوك الآخرين، من دلالة ومعنى وهدف"155.

وإذا كان إميل دوركايم يدرس الظواهر المجتمعية على أنها أشياء موضوعية، فإن ماكس فيبر يدرس الفعل أو السلوك الاجتماعي الذي...

الهواميش:

154: Catherine Colliot-Thélène: *La sociologie de Max Weber*, La découverte, Paris, France, 2006, p.50.  

155: عبد الله إبراهيم: **الأنساق والمدارس في علم الاجتماع**، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 2010، ص96.  

 الصفحة 93

يتحقق بالتفاعل بين الذوات والأغيار. ويتخذ هذا الفعل معنى ذاتياً، وغرضياً. ومن هنا، فقد انتقل ماكس فيبر بعلم الاجتماع من عالم الأشياء الموضوعية إلى الأفعال الإنسانية: أي: انتقل من الموضوع إلى الذات، أو من الشيء إلى الإنسان. كما تجاوز المقاربة الوضعية نحو المقاربة الهيرمينوطيقية التي تقوم على الفهم والتأويل الذاتي الإنساني. وبهدفه قد أحدث قطيعة إبستمولوجية، ضمن مسار علم الاجتماع، بتأسيس مدرسة الفعل الاجتماعي أو المدرسة التأويلية أو الهيرمينوطيقية، أو سوسيولوجيا الفهم (la sociologie compréhensive).

ويعني هذا - حسب نيقولا تيماشيف - "أن فيبر كان يأمل لعلم الاجتماع أن يحتفظ بميزات العلوم الروحية، فضلاً عن ميزات العلوم الطبيعية. وهذه الميزات، كما يذهب فيبر، تكمن في تحقيق ضرب من الفهم، يرتكز على الحقيقة التي مؤداها أن الكائنات البشرية تكون على وعي مباشر وإدراك تام بمعنى الأفعال الإنسانية. فهي دراسات الجماعات الاجتماعية، مثلاً، تستطيع أن تفهم الأفعال والمقاصد الذاتية للفاعلين الذين يمثلون أعضاء الجماعات.

أما في العلوم الطبيعية، فإننا لا نستطيع أن نفهم - بهذه الطريقة - حركات الذرات، وكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نلاحظ فقط أو نستنتج الانتظام القائم بين هذه الحركات. ولقد عبر روبرت مكيفر (MacIver) عن التعارض القائم بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية بشكل أكثر وضوحاً حينما قال: إن الوقائع الاجتماعية هي في نهاية الأمر وقائع مدركة. فحينما نعرف أسباب سقوط حكومة من الحكومات، أو تحديد سعر من الأسعار، أو أسباب حدوث إضراب من الإضرابات، أو انخفاض معدل المواليد في مجتمع من المجتمعات، فإن معرفتنا هذه ستكون مختلفة.

في جانب هام وجوهري - عن معرفتنا لأسباب سقوط الأمطار، أو احتفاظ القمر دائماً بالمسافة التي تفصله عن الأرض، أو ظروف تجمد السوائل، أو إفادة النباتات من النيتروجين. فالوقائع التي من النوع الثاني يمكن معرفتها فقط من الخارج، أما الوقائع التي من النوع الأول، فيمكن معرفتها - إلى حد ما - من الداخل156.

الهواميش:

156نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها. ترجمة: محمود عودة، وآخرون، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثامنة 1983، ص: 261.  

الصفحة94

وبناء على ما سبق، يعرف ماكس فيبر السوسيولوجيا في كتابه (الاقتصاد والمجتمع) قائلاً: "علم الاجتماع هو العلم الذي يعني بفهم الفعل أو النشاط الاجتماعي وتأويله، وتفسير حدوثه ونتيجته سببياً157." 

إذاً، يدرس علم الاجتماع الفعل أو العمل أو النشاط الاجتماعي. في حين، يدرس عند دوركايم الظواهر المجتمعية. فهنا، يحضر البعد الإنساني الذاتي مقابل البعد الاجتماعي الموضوعي الشمولي. أي: حضور الذات في مقابل الموضوع. ويرى فيليب كابان (Philipe Cabin) وجان فرانسوا دورتيه (Jean-François Doriter) أن السوسيولوجيا عند فيبر "هي علم بخصوص الفعل الاجتماعي. وهو يرفض الحتمية التي يمتدحها ماركس ودوركايم اللذان يعتبران الإنسان ضمن نسيج من الضغوط الاجتماعية غير الواعية، ويعتقد فيبر أن هذه الضغوط وهذه الحتميات لا تعدو كونها نسبية. ليس المقصود قوانين مطلقة، إنما توجهات تترك على الدوام مكانًا للصدفة والقرار الفردي. وهو يعتبر أن المجتمع نتاج لفعل الأفراد الذين يتصرفون تبعًا للقيم والدوافع وللحسابات العقلانية. إن توضيح الاجتماعي يعني - إذاً - الانتباه إلى الطريقة التي يوجه بحسبها الناس فعلهم. هذا النهج هو نهج السوسيولوجيا الفهمية. يقول فيبر: 'إن ما ندعوه سوسيولوجيا هو علم مهمته الفهم، عن طريق تأويل النشاط الاجتماعي158.' 

ويعني هذا أن المجتمع يتكون من مجموعة من الأشخاص الذين يقومون بسلوكيات أو أفعال أو أعمال، وهذه الأفعال هي جوهر علم الاجتماع. ويعني هذا أن مقاربة ماكس فيبر مقاربة فردية، تدرس سلوك الفرد داخل المجتمع، في إطاره التواصلي والتفاعلي. ويعني هذا أن الإنسان ككائن، يتصرف عن وعي وهدف، ولسلوكه معنى وقصد، على عكس الأشياء التي يمكن إخضاعها للدراسة العلمية. هنا، ضرورة فهم العالم في ضوء أفعال الفرد، وفهم مقاصدها وأهدافها ودوافعها ودلالاتها. ويستوجب فهم العالم دراسة سلوك الأفراد داخل المجتمع، ورصد دلالات الأفعال ومعانيها ومقاصدها. ويقترب هذا من البعد التواصلي التفاعلي.  

الهواميش:

157- Max Weber: Économie et société, Plon, 1995, p. 28.  

158- فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه: علم الاجتماع، ترجمة: إياس حسن، دار الفرقد، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2010م، ص: 47-48.   الصفحة 95

الصفحة95

وفي هذا السياق أيضا، يقول أنتوني غيدنز: "إذا كانت المنظورات الوظيفية والصراعية تؤكد أهمية البنى التي توجه المجتمع وتؤثر في السلوك البشري، فإن نظريات الفعل الاجتماعي تولي قدرا أكبر من الأهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع في تكوين هذه البنى. ويبرز دور علم الاجتماع - هنا - في استيعاب المعاني التي ينطوي عليها الفعل الاجتماعي والتفاعل، لا تفسير طبيعة القوى الخارجية التي تدفع الناس إلى نمط معين من الأفعال. وإذا كانت المقاربات الوظيفية والصراعية تطرح النماذج النظرية حول الطريقة التي يعمل بها المجتمع برمته، فإن الملتزمين بنظرية الفعل الاجتماعي يركزون على تحليل الأسلوب الذي يتصرف به الفاعلون الأفراد أو يتفاعلون به فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى.

ويشار إلى فيبر في أكثر الأحيان باعتباره أول الداعين إلى تبني منظور الفعل الاجتماعي. فرغم أنه اعترف بأهمية البنى الاجتماعية مثل الطبقات والأحزاب السياسية وأصحاب المكانة وآخرين، فإنه اعتقد في الوقت نفسه أن الأفعال الاجتماعية التي يقوم بها الأفراد هي التي تخلق مثل هذه البنى. وقد جرى في وقت لاحق تطوير هذا الموقف بصورة منهجية في أوساط المدرسة التفاعلية الرمزية التي برزت وشاعت في الولايات المتحدة بصورة خاصة. وتأثرت هذه المدرسة بصورة غير مباشرة بأفكار ماكس فيبر، غير أن أصولها المباشرة كانت في أعمال الفيلسوف الأمريكي جورج هربرت ميد (1863-1931)159.  

ويجمع هذا أن علم الاجتماع - حسب ماكس فيبر - هو دراسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، وكيف يعطي الناس معاني ذاتية للعالم، وكيف يوجهون سلوكهم في إطار هذا النوع من الفهم. أي: فهم دوافع هذا الفعل الاجتماعي وأسبابه. ويعني هذا أن منهجه قائم على الفهم بدل التفسير السببي أو العلّي، كما نجد ذلك عند الوضعيين الذين ينتمون إلى المدرسة الدوركايمية. ويعني هذا حضور الذات الفاعلة في الفعل الاجتماعي. ولا يمكن فهم هذا الفعل السلوكي إلا في سياق تاريخي معين. ولا يمكن فهم هذا السلوك الاجتماعي إلا ضمن ثقافة معينة مرتبطة بمجموعة من القيم المتعارف عليها.  

الهواميش:

159أنتوني غيدنز: نفسه، ص. 76.

  الصفحة96

أضف إلى ذلك أن الهدف من علم الاجتماع ليس هو بناء النظريات المجردة كما كان يفعل الوضعيون أو التفسيريون الدروكابميون، بل هو علم تاريخي بامتياز. وفي هذا، يقول لورن فلوري (Laurent Fleury): "ولهذا كان على هذا الطموح النظري أن يتجاوز الاكتفاء بصياغة قوانين مجردة كتلك التي كانت تدعو إليها المدرسة الحدية (L’école marginale) (Menger 1840-1921). على علم الاجتماع أن يبقى علماً تاريخياً، إذ ليس غرض العلوم الاجتماعية أبداً صياغة قوانين شمولية، فهذا وهم كان ينكره على الوضعيين الذين يريدون بلوغ حقيقة الواقع زاعمين تأسيس علوم الثقافة على نمط علوم الطبيعة." في إطار ما كان يسمى طرح المناهج الذي يضع علوم الطبيعة في مواجهة علوم الثقافة، كان موقف ماكس فيبر واضحاً إلى جانب أنصار علوم الثقافة، معرّفاً علم الاجتماع كعلم تاريخي160. 

وعليه، تعنى السوسيولوجيا الفيبيرية بدراسة أفعال الأفراد في علاقة ببيئة المجتمع، ضمن نظرية التفاعل الاجتماعي، أو نظرية التأثير والتأثر.

وبمثال هذا التوجه، في مجال التربية والتعليم، رايوند بودون 161الذي يرفض تصورات المدرسة الوظيفية والمقاربة الصراعية، على أساس أن المدرسة تعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها، وأنها فضاء للصراع بين الطبقة المهيمنة والطبقة الخاضعة.  

وينفي رايمون بودون مؤكداً أن هناك روابط قوية بين اللامساواة التعليمية واللامساواة الاجتماعية. بمعنى أن المجتمع ليس هو السبب في هذه اللامساواة التربوية، بل يعود ذلك إلى اختيارات الأفراد أنفسهم، ورغباتهم الذاتية، وقراراتهم الشخصية، بناءً على حسابات الأسر الخاضعة لمنطق الربح والخسارة، وطموحاتها الواقعية، ورغباتها المستقبلية.  

فبعد  أن كانت الحاصلون على الدبلومات والشهادات يحصلون على الوظائف والمناصب المناسبة لهم، ازداد عدد المتعلمين بكثرة، وتكاثرت الشهادات والدبلومات، ولما تشبع سوق الشغل، أصبحت المدرسة…

الهواميش:

161لورن فلوري:ماكس فيبر،ص:24-25

boudon .R:Lingégalité des chances,paris,Armand Colin,1973161

الصفحة 97

لا يتوفر للجميع الفرص نفسها من الحظوظ والامتيازات. وليس هذا عائدا إلى أسباب خارجية، مثل: الصراع الطبقي والاجتماعي والثقافي، والهابيتوس العائلي كما يقول أنصار المقاربة الصراعية، بل يعود ذلك إلى اختيارات الأسرة ومنظورها إلى المدرسة من حيث الربح والخسارة. فهناك من الأبناء من يرغب في وضع اجتماعي يشبه وضع آبائهم المهني، ولا يجدون حرجا في ذلك أو ظلماً. وهكذا، فالبكالوريا بالنسبة لأبناء الطبقة العمالية تشكل فرصة التعرض من أجل تحقيق أرباح اقتصادية، ولكن بالنسبة لأبناء الأطر العليا لا تعني تلك الفرصة ربحا حقيقيا لهم إلا إذا استمروا في التعليم الجامعي الطويل. ويعني هذا اختلاف رغبات الأفراد ومنظوراتهم إلى الشهادة أو الدبلوم. فإن تكون معلما بالنسبة لابن عمالي ربح كبير وفرصة لا تعوض ولكن بالنسبة لأبناء الأطر العليا، فإن ذلك لا ينفعهم في شيء. ويعود هذا كلّه إلى مدى الرغبة في المدرسة، والإقبال عليها. ويعني هذا أن اللاعدالة المدرسية راجعة إلى الرغبات الفردية، وليس إلى اختلاف الرأسمال الثقافي، أو إلى طبيعة الطبقة المهيمنة، أو إلى قاعدة إنتاج الطبقات نفسها. وإذا كانت المساواة مغنية إلى حد ما في المجتمع الليبرالي، فإنه يتميز بالحرية. أما في المجتمعات الاشتراكية، فهناك مساواة دون حرية.

وعلى خلاف النظرية الحدسية هذه، تبين النظرية العقلانية أن الاصطفاء الذاتي يتم على أساس محكات عملية بالغة الدقة والخصوصية. ويعد المفكر الفرنسي ريمون بودون من أشهر ممثلي هذا الاتجاه في مجال تحليل الاصطفاء المدرسي. فالتلميذ يقدر هنا بصورة واعية ما يترتب عليه في الشأن المدرسي. ومن ثم يدرس الظروف والعوامل والمتغيرات المختلفة، ويقدر إمكانية المتابعة أو أفضلية الترك والتخلي عن الدراسة. وهو في كل الأحوال لا يتخذ قراره بناء على فرضية الحدس والاستسلام أو العفوية الحرة في اتخاذ القرار. وهنا، يبدو أن اتخاذ القرار بالتخلي أو الترك يعتمد على موازنة دقيقة تأخذ بعين الاعتبار المخاطر وحدود النفقات والعائدات، ويتحدد مثل هذا القرار وفقاً لعوامل ومتغيرات162.  

الهواميش:

 162علي أسعد وظفة وعلي جاسم الشهاب:علم الاجتماع المدرسي، ص 192.  

الصفحة98

وبعني هذا إذا كان أنصار المقاربة الصراعية قد أخذوا بالحتمية المجتمعية أو الواقعية في تحديد مصير الفرد، فإن رابمون بودون قد أخذ بنظرية الفعل، على أساس أن الفرد حر في أفعاله واختياراته. وبعني هذا أن نظرية الفعل الاجتماعي ترى أن "الأفراد قادرون على صناعة مصيرهم المدرسي والمهني تأسيساً على مبادراتهم وفعالياتهم الاجتماعية."

ومن أهم الاتجاهات الأساسية لهذه النظريات يمكن الإشارة إلى مدرسة المفكر الفرنسي بودون الذي لطالما يركز في دراساته وأبحاثه على أهمية العوامل المستقبلية في تحديد مصير الفرد ومستقبله. فإذا كان الماضي عند الحتميين هو الذي يحدد ملامح المستقبل، فإن المستقبل عينه هو الذي يرسم المصير عند الأفراد وفقاً لأنصار النظرية الفردية. ومن هذا المنطلق يوجه الفردانيون انتقاداتهم الشديدة إلى الثقافويين الذين يعتقدون أن هدف الأصدقاء هو إعادة إنتاج البنى الاجتماعية القائمة، وبيان المدرسة قادرة على فرض قوانينها على الأفراد163. 

وهكذا، يرى رابمون بودون أن اللامساواة التربوية لا ترتبط باللامساواة الاجتماعية والطبقية والثقافية فحسب، بل تعود إلى الاختيارات الحرة للأفراد، وقراراتهم الشخصية، وقناعاتهم الذاتية، وحساباتهم الخاصة التي يضعونها جيداً حين التعامل مع المدرسة.

وخلاصة القول: إذا كانت المقاربات السابقة قد اعتبرت المدرسة فضاءً للصراع الاجتماعي والسياسي والطيفي والاقتصادي، فإن ثمة مقاربات أخرى تنظر إلى طبيعة المدرسة في ضوء مقاربات تفسيرية متعددة، اعتماداً على المعطيات الرياضية والإحصائية والمنطقية بغية معرفة علاقة المدرسة بالحراك الاجتماعي. وقد بينت هذه المقاربات أن العلاقة ليست قوية ولا ضعيفة، بل ثمةعوامل أخرى تتحكم في ذلك. ومن هنا، يمكن الحديث عن النموذج الإحصائي لجينكس (Jencks)، والنموذج النسقي لسوروكون (Sorokin)، والنموذج النسقي التركيبي.

الهواميش:

163علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب: نفسه، ص: 196-195. [163]                 

 الصفحة99

ليودون (Boudon)... وهكذا، يرى يودون أن عدم تكافؤ الفرص لا يرجع إلى عامل واحد، بل ثمة عوامل عدة ومختلفة تشكل نسقاً كلياً164

المبحث الخامس: المقاربة الإنترغرافية والأنتروبولوجية

لا يمكن فهم هذه المقاربة المركبة، بشكل جيد، إلا إذا توقفنا عند مجموعة من المطالب على الوجه التالي:

المطلب الأول: تعريف الإنترغرافيا

من المعروف أن الإنترغرافيا (L’ethnographie) هي دراسة وصفية ميدانية وتحليلية للعادات والقيم والتقاليد والأعراف لجمعيات سكانية محددة. وقبل ذلك، فقد ارتبطت هذه المنهجية بدراسة الشعوب البدائية. ويعني هذا أن الإنترغرافيا هي وصف الشعوب. وقد ظهر مصطلح الإنترغرافيا سنة 1607، لكنه لم يتخذ دلالته الحقيقية في فرنسا إلا في سنة 1839 عندما أطلق على المجتمع الإنترلوجي. في حين، يدل المفهوم في الكتابات الروسية على دراسة الشعوب. لكن المصطلح، في الثقافة الأنجلوسكسونية، يحيل على الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

وقد انتشرت الدراسات الإنترغرافية كثيراً بفعل الاستعمار، وكان الهدف منها دراسة الشعوب المستعمرة، والبحث عن خصوصياتها الداخلية، واللغوية، والعرفية، والاجتماعية، والثقافية، والحضارية.

ومن هنا، لابد من التمييز بين مجموعة من المصطلحات، كما فعل كلود ليفي شتراوس (Claude Lévi-Strauss)، وهذه المصطلحات هي: الإنترغرافيا (Ethnographie)، والإنترلوجيا (Ethnologie)، والأنتروبولوجيا (Anthropologie) على النحو التالي:

الهواميش:

Boudon, R.: Inégalité des chances. La mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Armand Colin164

, Paris, 1973, p. 7.  

الصفحة100

الفرع الأول: مفهوم الإثنوغرافيا  

الإثنوغرافيا عبارة عن دراسات تطبيقية لمعرفة كيفية تنظيم المجتمع. أو بتعبير آخر، يعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والعادات، والقيَم، والأدوات، والفنون، والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة، أو مجتمع معين، خلال فترة زمنية محددة165.  

ويعني هذا أن الإثنوغرافيا بحث تطبيقي ومنهجي وميداني، يهدف إلى دراسة قيم المجتمع وعاداته وأعرافه وتقاليده وأنشطته الثقافية الخاصة.  

الفرع الثاني: مفهوم الإثنولوجيا  

تتميز الإثنولوجيا بطابعها النظري، فهدفها وضع خطوط وأوصاف عامة حول تنظيم المجتمع وتطوره. وبالتالي، فهي تهتم "بالدراسة التحليلية والمقارنة للمادة الإثنوغرافية بهدف الوصول إلى تصورات نظرية أو تعميمات بصدد مختلف النظم الاجتماعية الإنسانية، من حيث أصولها وتطورها وتنوعها. وبذلك، تشكل المادة الإثنوغرافية قاعدة أساسية لعمل الباحث الإثنولوجي، فالإثنوغرافيا والإثنولوجيا مرتبطان، وتكمل الواحدة منهما الأخرى"166.  

ومن جهة أخرى، يعتبر العالم السويسري شافان (Chavannes) أول من استخدم هذه الكلمة، وكان ذلك عام 1787 في كتابه (محاولة حول التربية الفكرية مع مشروع علم جديد) ، وإن كلمة إثنولوجيا كانت مرادفة لـعلم تصنيف الأعراق والأجناس، وذلك في بداية القرن التاسع عشر. بمعنى أنها كانت في هذا القرن جزءاً مما يسمى حالياً بالأنثروبولوجيا البيولوجية، أما في القرن العشرين،

وبالضبط في منتصفه، فإنها أصبحت تعني مجموعة العلوم الاجتماعية التي تدرس المجتمعات البدائية أو ما يسمى بإنسان ما قبل التاريخ. وهنا، ومن خلال هذا المعنى، فإن الإثنولوجيا لم تختلف عن الأنثروبولوجيا، بل هي نفسها الأنثروبولوجيا أو هي جزء منها، وفي معناها الضيق المعاصر فهي تعني 

الهواميش:

165عندان أحمد مسلم: محاضرات في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)،مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى سنة 2001، ص: 55.  

166عندان أحمد مسلم: محاضرات في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)،ص: 55

الصفحة101

 الدراسات التركيبية والنتائج النظرية حول الإثنيات أو الأجناس من خلال الوثائق الإثنوغرافية تتضح الدراسات التركيبية والنتائج النظرية حول الإثنيات أو الأجناس من خلال الوثائق الإثنوغرافية التي تتجلى في الحقائق التالية: إن الإثنولوجيا تدرس الأعراق من خلال ثقافتها، وطرق التواصل لديها، وأصولها العرقية، وماضيها من أجل إعادة بنائه. وفي هذا المعنى، نجد أن الإنجليز قد ربطوا كلمة الإثنولوجيا بدراسة المشكلات العامة التي تشكل الحقل الأساسي للإثنولوجيا الثقافية والاجتماعية. بمعنى أن الإثنولوجيا ما هي إلا أنثروبولوجيا اجتماعية وثقافية، أي مرادفة لها. إلا أن هذه المقاربة بينهما من طرف الدول الأنجلوسكسونية لم تُقبل كلياً في فرنسا167. 

وتنقسم الإثنولوجيا إلى أقسام عدة، منها:  

إثنولوجيا التاريخ: التي تدرس الشعوب المنقرضة بإعادة تكوينها وتشكيلها تاريخياً، مثل دراسة شعوب الإنكا والأزتيك.  

إثنولوجيا الفلاحية:التي تعنى بدراسة المجتمعات الفلاحية أو الزراعية داخل المجتمعات الصناعية.  

إثنولوجيا المدينة: التي تعنى بدراسة بعض الظواهر الاجتماعية داخل تجمعات سكانية محددة داخل المدينة، كالأمازيغ، مثلاً.  

الفرع الثالت: مفهوم الأنثروبولوجيا  

أما علم الأنثروبولوجيا فهو عبارة عن دراسة ميتا وصفية وتحليلية، تهتم بالمقارنة بين الشعوب و الإنثنيات والأعراق، والتركيز على مواضيع أنثروبولوجية محددة. وتعرفها مارغريت ميد بطريقة إجرائية: "نحن نصف الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية للنوع البشري عبر الزمان في سائر الأمكنة. ونحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية كأنساق مترابطة ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة. كما نهتم بوصف النظم الاجتماعية والتكنولوجيا وتحليلها، ونعنى أيضاً ببحث الإدراك العقلي للإنسان وابتكاراته ومعتقداته ووسائل اتصالاته. وبصفة عامة، فنحن الأنثروبولوجيين نهدف إلى ربط نتائج دراساتنا وتفسيرها في إطار نظريات التطور، أو مفهوم الوحدة النفسية المشتركة بين البشر.

الهواميش:

167مصطفى تيلوين: مدخل عام في الأنثروبولوجيا، منشورات الاختلاف، الجزائر؛ دار الكتبي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2011، ص: 119

الصفحة102

إن التخصصات الأنثروبولوجية التي قد  تتضارب مع بعضها في ذاتها مبعت الحركةو التطورفي هذا العلم الجديد. وهي التي تثير الانتباه،وتعمل عى الإبداع والتجديد ،هذا وتجدر الإشارة إلى أن جزءا لابأس به من عمل الأنثروبولوجيين يُوجَّه نحو القضايا العملية في مجالات الصحة، والإدارة، والتنمية الاقتصادية، ومجالات الحياة الأخرى168.

ويعني الأنثروبولوجيا هي دراسة الإنسان على أساس أنه كائن بيو ثقافي. ومن هنا،يستخدم الأمريكيون مصطلح الأنثروبولوجيا الفيزيقية للإشارة إلى دراسة الجانب العضوي أو الحيوي للإنسان، بينما يستخدمون مصطلح الأنثروبولوجيا الثقافية ليعني مجموع التخصصات التي تدرس النواحي  الاجتماعية والثقافية لحياة الإنسان. وهذا يشمل الدراسات المتعلقة بحياة الإنسان القديم (أو حضارات ما قبل التاريخ)، والتي يشار إليها بعلم الآثار. كما تتناول الأنثروبولوجيا الثقافية دراسة لغات الشعوب البدائية واللهجات المحلية، والتأثيرات المتبادلة بين اللغة والثقافة بشكل عام، وذلك في إطار ما يعرف بعلم اللغويات169

ويعني هذاالأنثروبولوجيا تدرس الإنسان من خلال بعديه الأساسيين: العضوي أو الفيزيقي (التشريحي، والفيزيولوجي، والمورفولوجي، والتطوري)، والثقافي (الجوانب الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، والنفسية...).

وتلتقي الأنثروبولوجيا مع الإثنوغرافيا والإثنولوجيا في دراسة ثلاثة عناصر أساسية هي: الكائن الإنساني، والمجتمع، والثقافة.

وقد ازدهرت الدراسات الأنثروبولوجية بشكل ملحوظ في المنظومة الأنجلوسكسونية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اتخذتبعدا  ثقافياً. ولم تدخل فرنساا غمار هذا العلم إلا مع مجموعة من للأعلام أمثال  كلود ليفي شتراوس، وجورج دوميزيل، ومارسيل موس... وقدإتخذت أعمال الأنثروبولوجيين الفرنسيين طابعا استعماريا

الهواميش:

168عدنان أحمد مسلم: محاضرات في الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) ، ص: 53-54.

169عدنان أحمد مسلم: نفسه، ص: 54-55.

الصفحة103

المطلب الثاني: الإثنوغرافيا والتربية

تهتم المقاربة الإثنوغرافية بدراسة المدرسة والجماعة على المستوى المحلي، ودراسة المؤسسة التعليمية والفصل الدراسي في ضوء المجتمع المصغر. وتعتمد هذه المقاربة على الملاحظة والمعايشة وطرائق البحث الميداني، واستخدام الكاميرا والمقابلة بأنواعها المختلفة، مع التركيز على الوحدات الصغرى المكونة للفصل الدراسي، مثل: المتعلم، والمعلم، وغيرها، وذلك بهدف استكشاف الجوانب الاجتماعية المخفية170.

المطلب الثالث: الأنثروبولوجيا والتربية

يقصد بأنثروبولوجيا التربية ذلك الفعل الذي نمارسه على الآخر من أجل تكوينه وتنشئته وتربيته وتأهيله وإعداده للمستقبل. أي أنها ذلك الفعل الإنساني الهادف والمنظم الذي يهدف إلى تأهيل الفرد وتزويده بمجموعة من المعارف والموارد والمهارات والإمكانيات والقدرات المعرفية، بالإضافة إلى القيم والميول الوجدانية، والممارسات السلوكية والحسية-الحركية. وبعبارة أخرى، هي عملية إخراج الإنسان من طبيعته البيولوجية إلى طبيعة ثقافية من خلال التربية والتعليم.  

ويعتبر إميل دوركايم المؤسس الفعلي للأنثروبولوجيا التربوية بين عامي 1922 و1925، حيث ربط مهمة التعليم بعملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية. وبالتالي، فإن هدف المدرسة أو التربية هو الحفاظ على توازن المجتمع وتماسكه وترابطه العضوي. وقد ازدهرت الأنثروبولوجيا التربوية بشكل كبير خلال سنوات الستينيات والسبعينيات في فرنسا والدول الأنجلوسكسونية. فانتقلت هذه الأنثروبولوجيا من سؤال التكيف والتطبيع...  

الهواميش:

:  170Sirota, R.: Approches ethnographiques en sociologie de l’éducation: l’école et la communauté, l’établissement scolaire, la classe**, in: *Sociologie de l’éducation (dix ans de recherches)*, L’Harmattan, 1990, pp. 180-181.  

الصفحة 104

والتنشئة الاجتماعية إلى قضايا الفشل الدراسي واللامساواة التعليمية مع بيير بورديو، وكلود باسرون، واستابليت، وكولان، وبودلو، وبرنشتاين، ورايمون بودون. لينتقلالسؤال ،بعد ذالك إل ماهو  بيداغوجي وديداكتيكي، بالتركيز المناهج والبرامج والمقررات  الدراسية، وتحليل المحتويات التعليمية، وطرائق التدريس، والوسائل الديداكتيكية، بالإضافة إلى رصد طبيعة التفاعل داخل الفصل الدراسي، وثقافة المتعلمين، وطبيعة العلاقة بين المعلم والمتعلم.

أما في السنوات الألفية الثالثة، فقد اتجهت الأنثروبولوجيا بسؤال كفاءات المتعلمين وقدراتهم التأهيلية، مع التركيز على ظواهر تربوية مثل العنف المدرسي، والشغب، والهدر المدراسي، والبطالة ...

ومن أبرز الأنثروبولوجيين التربويين نذكر العالمتين الأمريكيتين: مارغريت ميد (Margaret Mead) وروث بنديكت (Benedict Ruth Fulton).

المبحث السادس: المقاربة الإثنوميثودولوجية

يمكن الحديث -سوسيولوجياً- عن ثلاث نظريات كبرى: النظرية الوضعية، والنظرية الوظيفية، والنظرية الإثنوميثودولوجية. إذا كانت النظرية الأولى تركز على البناء الاجتماعي وتأثيره على الفرد، والنظرية الثانية تهتم بالأنساق الوظيفية، فإن النظرية الثالثة

تركز على الفاعل كوحدة للتحليل السوسيولوجي، حيث يُنظر إليه ككائن فردي يتمتع بحرية الاختيار في أفعاله، بعيداً عن قيود الإكراه الاجتماعي أو الحتميات المجتمعية. وتعني الإثنوميثودولوجية دراسة الواقع اليومي الروتيني وعلاقته بإرادة الفاعل، مع التركيز على دوره الإيجابي وعقلانية تصرفاته. كما تهتم بدور اللغة في تنظيم المجتمع على مستوى التواصل والتفاعل الرمزي، مستخدمة مصطلحات خاصة تختلف عن تلك المستعملة في النظريتين الوضعية والوظيفية.أضف

الصفحة 105

إلى ذالك أنها ترتكزعلى مرونة البناء الإجتماعي،والاستعانة بالمناهج الكيفية.

المطلب الأول: مفهوم الإثنوميثودولوجيا

يتكون مصطلح الإثنوميثودولوجيا (L'ethnométhodologie) من كلمتين: "إثنو" (ethno) وتعني الشعب أو القبيلة أو الناس أو السلالة، ومنها اشتقت كلمة الإثنولوجيا (Ethnologie) التي تدرس الشعوب القديمة أو البدائية؛ و"ميثودولوجيا" (méthodologie) التي تعني المنهجية أو طريقة البحث.

وقد صاغ هارولد جارفينكل (Harold Garfinkel) هذا المصطلح للإشارة إلى "نظرية تهتم بدراسة الطرائق والمناهج التي يتبعها الأفراد في الواقع اليومي لخلق أنماط سلوكية عقلانية تمكنهم من التفاعل والتعايش في الحياة. هذه الطرائق مستمدة من المعرفة والفهم المشترك في المجتمع، وليس من التراث أو المناهج العلمية المنظمة التي يحددها العلماء الاجتماعيون171.

ويعني هذا أن "الدراسات الإثنوميثودولوجية تحلل أنشطة الحياة اليومية تحليلاً يكشف عن المعنى الكامن خلفها، وتسعى لتوثيق هذه الأنشطة وجعلها مرئية ومنطقية وقابلة للدراسة العلمية. وتهدف هذه الأبحاث إلى الكشف عن الطرق التي يستخدمها أفراد المجتمع في حياتهم اليومية لخلق نوع من الألفة مع الأحداث والوقائع172.

وبالتالي، تتعامل الإثنوميثودولوجيا مع الأفعال اليومية العادية المتكررة، من خلال رصد المعاني الضمنية لهذه الأفعال، وبيان الطرق التي يتبعها الأفراد في التعامل مع الظواهر المجتمعية اليومية. ومن هنا، يركز هذا المنظور النظري على الإنسان وتجاربه ومشاكله اليومية.ومن تم يهتم هذا التصور النظري بالإنسان ومحنه ومشاكله،

الهواميش:

171ربيع شاهين: الإثنوميثودولوجيا: رؤية جديدة لدراسة المجتمع، مركز التنمية البشرية والتقنيات، القاهرة، مصر، طبعة 1987م، ص. 76.

172إبراهيم لطفي طلعت وكمال عبد الحميد الزيات: **النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، مصر، طبعة 1999م، ص. 145-147.

الصفحة 106

بعيدا عن العلوم الوضعية والتجريبية، متأثرا في ذلك بالفلسفة الفينومينولوجية (الظاهراتية) كما عند هوسرل وشوتر...  

وفيما يخص التربية. مثلا " إذا كانت المقاربات السابقة تتناول الوقائع التربوية على شكل علاقات أو ترابطات إحصائية كالعلاقة - مثلا- بين عدم المساواة والكفاءات المدرسية حسب الجنس والمستوى الاجتماعي، معتبرة أن هذه العوامل كقيلة بتفسير عدم المساواة، فإن الدراسات الإنتومنيجية في التربية، على العكس، تقوم بوصف الممارسات التي من خلالها يقوم الفاعلون في النظام التربوي (معلمون، متعلمون، آباء، مقررون...). بخلق وإنشاء وتشكيل هذه الظواهر. إنها تدرس الظاهرة وهي تتكون وتتشكل (مثلا ظاهرة اللاسمين)، عكس علماء اجتماع إعادة الإنتاج الذين يدرسون الظاهرة بعد وقوعها ويبحثون عن أسبابها173.

إذا، تدرس هذه النظرية الطرائق والمنهجيات التي يسلكها الأفراد في القيام بأفعالهم في الواقع اليومي الطبيعي، بفهم مختلف الإجراءات العملية والخطط والمنهجيات المتبعة من قبل الفاعلين في إنجاز أنشطتهم اليومية، بهدف فهم تلك الإجراءات وتوضيحها وتدقيقها، وجعلها أكثر وضوحاً وجلاء وبروزاً.

المطلب الثاني: السيــــاق التاريخــــي

ظهرت الإنتومنيجية مع السوسيولوجي الأمريكي هارولد جارفينكل (Garfinkel) (Harold Garfinkel). وقد انتشرت هذه النظرية في الدول الأنجلوسكسونية ما بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ولم تعرف هذه النظرية في فرنسا إلا في سنوات الثمانين. ومن أهم كتبه (دراسات في الإنتومنيجية) الذي صدر سنة 1967م174. وينطلق الكتاب من الميكروسوسيولوجيا ذات الطابع التفاعلي، مع الاستعانة بالفينومينولوجيا الاجتماعية كما عند ألفريد شوتز (Alfred Schütz).

الهواميش:

173خالد المير وآخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص. 34.  

174Harold Garfinkel: Studies in Ethnomethodology, Prentice-Hall, Englewood Cliffs (NJ), 1967 (trad. fr., Paris, PUF, 2007).  

الصفحة107

وتنبني هذه النظرية على أربعة مرجعيات نظرية هي: الفينومونولوجيا، ونظرية الفعل لدى برسونز، والتفاعلية الرمزية، واللسانيات المعاصرة.

المطلب الثالث: مقومات النظرية

يرتكز هذا التصور السوسيولوجي على مجموعة من المسلمات هي:

ويعني هذا أن النظرية ترتبط بالواقع العادي اليومي الذي تتكرر فيه أفعال الأفراد ذات المعنى والمقصدية الاجتماعية.

 الهواميش:

175وسيلة خزار:نفسه ، ص. 234.

الصفحة108

وردود الأفعال وفهمها جيدا، والوعي بمدى خطورة كل فعل ينتهك معايير الآداب والتفاهم المشترك. " وهذا يعني أن كل موقف تفاعلي له منطق، إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الفاعل نفسه أو مجموعة الفاعلين الداخلين فيه، بحيث يتضح منطق الموقف في إدراك الفاعل له وتحديده وتقييمه، وهنا تختفي التمييزات المزعومة بين الأفعال المنطقية وغير المنطقية، الرشيدة وغير الرشيدة، العقلانية وغير العقلانية176.

ويتعبير آخر، تدرس هذه النظرية الأفعال العاقلة والهادفة التي تحمل مضمونا اجتماعيا، ضمن واقع سياقي تفاعلي.

الهواميش:

176ارفتح زباني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع: ترجمة: محمود عودة وإبراهيم عثمان، منشورات ذات السلام، الكويت، طبعة 1989م، ص: 306.  

الصفحة 109

المطلب الرابع: المفاهيم الإجرائية

أما عن المفاهيم الإجرائية والمصطلحات التي يستخدمها هذا التيار في أبحاثه السوسيولوجية، فهناك مصطلح الإنثوميتودولوجيا الذي يعني عند غاريفتكل ما يلي: إن الدراسات الإنثوميتودولوجية تحلل أنشطة الحياة اليومية تحليلاً يكشف عن المعنى الكامل خلف هذه الأنشطة، وتحاول أن تسجل هذه الأنشطة، وتجعلها مرئية وصالحة لكل الأغراض العلمية، وتهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن الطرائق التي يسلكها أعضاء المجتمع خلال حياتهم اليومية لتكوين نوع من الألفة بالأحداث والوقائع177. 

وهناك مفهوم عالم الحياة اليومية الذي يقول عنه غارفتكل:" انظر حولك، وفي كل مكان، فسوف تجد أشخاصاً عاديين يمارسون حياتهم بمختلف أوجه النشاط، وهذه القدرة على الدخول في صلات متبادلة من خلال تلك الأنشطة، هي التي تجعل العالم الاجتماعي ممكنًا، وعليك كعالم اجتماع أن تأخذ هذه الأفعال الملموسة والمالوفة لدى الجميع، وأن تقحصها لكي يتبين لك كيف تقع ولماذا؟ 178

الهواميش:

177إبراهيم لطفي طلعت و وكمال عبد الحميد الزيات: التغذية المعاصرة في علم الاجتماع: ص: 147-145.  

178محمد محمد علي: المفكرون الاجتماعيون: قراءة معاصرة لأعمال خمسة من أعلام علم الاجتماع الغربي: دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، طبعة 1983، ص: 414.  

الصفحة110  

وهكذا، دخل هذا التيار السوسيولوجي إلى المؤسسات الرسمية لإدراك التفاعلات الاجتماعية بين العاملين، ودخل كذلك إلى المنازل للتعرف إلى  النسيج العلاقي الذي يجمع بين أفراد الأسرة، وإلى المحاكم ومراكز  الشرطة والمدارس والعبادات الطبية بغية رصد مختلف الأنشطة التي  يمارسها الأفراد في الواقع.  

وهناك مصطلح آخر يسمى بالفعل المنعكس، ويشير إلى "أن الكثير من  أنماط التفاعل التي تحدث بين أعضاء المجتمع تهدف إلى المحافظة على  رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية التي قاموا بتشكيلها في مواقف  محددة.ونجد أن الكثير من أنماط التفاعل بين أعضاء المجتمع تعتبر أفعالا  منعكسة، فالكلمات والإشارات والإبماءات التي نستخدمها أثناء عملية  التفاعل، تهدف إلى المحافظة على رؤية معينة للحقيقة الاجتماعية،  وتستخدم في تشكيل وتفسير وإعطاء المعاني للعالم الاجتماعي179." 

 وهناك مفهوم البيئة المرتبطة بالمعنى، يعني هذا أن التفاعل أو التواصل  بين الأفراد داخل بيئة مجتمعية معينة مرتبطة بدلالات معينة أو بمواقف  سياقية معينة ومحددة.  

أما مفهوم العقلانية، فيبرز أن الأفراد يتصرفون ويودون أفعالهم وفق  منهجية عقلانية، أو خطة واضحة المعالم ومرسومة بدقة، كتصنيفه بين الناس والأشياء، وعندما يزن الأمور بحكمة وعقلانية، وعندما يبحث عن الوسائل لتحقيق أهدافه وغايآت، وعندما يقدر الوقت، وعندما يتبدأ بالأحداث، وعندما يستعمل منهجيات وخططا ما...  

المطلب الخامس: التصور المنهجي

رفض غارافيتكل وأتباعه استخدام المنهج الكمي، واستعمال الاستبيانات  أو الاختبارات العلمية، أو أسلوب المقابلة المفتوحة، واستبدل ذلك  بالملاحظة، والمنهج التوثيقي، والمنهج شبه التجريبي.

الهواميش:

179وسيلة خزار: نفسه، ص 239.              

الصفحة111

ومن ثم، فهذه النظرية عبارة عن منهجية أو ممارسة تطبيقية ظهرت في مجال الإنترغرافيا، وتشير إلى مختلف التطبيقات التي أجريت على الجماعات الخاصة انطلاقا من أسئلة خاصة. وهناك، تخصص آخر يسمى بالإنترطبي(lethnomédecine) الذي يعني برصد مختلف الممارسات العلاجية التي استعملت في مجال الطب. ومن ثم، ليست الإنترمنهجية منهجية خاصة، بل ميدان بهتم بالمنهجيات الإنتولوجية. ويعني هذا أن الإنترمنهجية تدرس الأنشطة الجماعية ليس من الخارج، بل من الداخل.  

ولهذه المنهجية علاقمة وظيادة بالفينومينولوجيا، مادامت تركز على التجارب المعاشة في العالم. ويعني هذا أنه تم بالظواهر الإنسانية بمعايشتها وملاحظتها والتعاطف معها من الداخل. وبالتالي، تندرج هذه المنهجية السوسيولوجية ضمن العلوم الإنسانية، ولعلاقة لها بالتصورات الوضعية عند أوجست كونت أو دورك. وتستند إلى مجموعة من التصــــورات والمرجعيــــات المختلفــــة لهوســـــر(LHusserl)، وفيتجنشتاين(Wittgenstein)، وإرفين كوفمان(Erving Goffman, Noam), ودوام شوسكر(Schütz), وبار هيلل(Schütz), ودوام شوسكر(Noam, Chomsky).  

وتنبني هذه المنهجية على ثلاثة معايير أساسية هي: ملاحظة الواقع أو الميدان، ثم وضع حدود للموضوع الذي يطلبه ويدرسه، ثم المعايشة القائمة على الحضور الفعلي داخل الميدان في الزمان والمكان قصد وصف المعنى الذي تحمله أفعال جماعة معينة.  

وعادة، ما يشير البحث الإنترغرافي "إلى دراسة الأفراد والجماعات ميدانيا عن طريق المعايشة المباشرة على مدى فترة زمنية محددة، باستخدام الملاحظة التشاركية أو المقابلة الشخصية بقصد التعرف على أنماط السلوك الاجتماعي. ويهدف البحث الإنترغرافي إلى اكتشاف المعاني الكامنة وراء الفعل الاجتماعي عن طريق انخراط الباحث المباشر بالتفاعلات التي يتكون منها الواقع الاجتماعي للجماعة المدروسة. وقد تمتد الفترة التي يعيش فيها العالم الاجتماعي جماعة أو مؤسسة أو مجتمعا محليا ما إلى عدة أشهر، وربما إلى سنوات ملاحظة الأنشطة اليومية والأحداث، وإيجاد تفسيرات لما يتخذ من قرارات أو ما            

الصفحة 112

بصدر عن الجماعات من أفعال وتصرفات وربما تنطوي البحوث الإنترغرافية على بعض المخاطر، سواء ما ينجم منها عن البيئة الطبيعية مثل المناطق الجبلية أو الصحراوية أو النائية، أو عن سياقات اجتماعية معينة مثل معايشة الفئات المنحرفة أو المشتبه بانخراطها في نشاطات جرمية.  

وتقدم الإنترغرافيات الناجحة ثروة من المعلومات والبيانات حول الحياة الاجتماعية، وتتفرق في هذا المجال على أساليب البحث الأخرى. فهي تدرس الجماعة البشرية من الداخل، ومن ثم تستطيع تقديم نظرة ثانية على أنشطتها ومقاصد الأفعال والقرارات التي تتخذها. كما يمكن هذا النوع من الدراسات أن يراقب وبدون وبحل السيرورة/ العملية الاجتماعية التي تتخصص وتتقطع مع الوضع الاجتماعي المدروس ويشار إلى البحوث الإنترغرافية عادة بوصفها واحدة من أنواع الدراسات النوعية (الكيفية) ، لأنها تعني في المقام الأول **بالفهم الذاتي للظاهرة أكثر مما تهتم بالبيانات الإحصائية الرقمية**. كما أن البحث الإنترغرافي يعطى الباحث قدرا واسعا من الحرية والمرونة والقدرة على التكيف مع الظروف والأوضاع الطارئة. وأخذ زمام المبادرة لتوجيه الدراسة لمتابعة البحث وفق التطورات المستجدة. غير أن للعمل الإنترغرافي الميداني حدودا تفيده، ومخاطر منهجية قد تؤثر في ما يتوصل إليه من تحليلات ونتائج فإن مجاله يقتصر على دراسة مجموعات صغيرة وقليلة من الجماعات. كما أن العمل نفسه يعتمد، إلى حد بعيد، على مهارة الباحث المهنية، وقدرته على كسب ثقة أفراد الجماعة. وقد يقع الباحث، من ناحية أخرى، تحت تأثير التصافه وتعايشه ومشاركته الوجدانية للجماعة إلى حد يضيع معه منظوره المنهجي العلمي في دراسة الظاهرة باعتباره مراقبا موضوعيا محايداً180.  

وعليه، فالمنهج الإنتومويتودولوجي له علاقة وثيقة ووطنية بنظرية التفاعل الرمزي، وبالتصورات الفيبيرية. ومن ثم، فهو يعني "دراسة الكلام والمحادثة العادية بين الناس؛ ويختص هذا المنهج الذي وضع أصوله 

الهواميش:

180أنتوني غيدنز:نفسه ص:681

الصفحة113

هارولد غارفنكل يتحليل الطرائق التي نفسر بها ما يعنيه الأخرون بأقوالهم وأفعالهم، ويُسم الكلام اليومي بدرجة عالية من التعقيد، ويرتكز، في جوده، على مجموعة من التفاهمات المشتركة بين من يتبادلون الحديث. وعندما تنتجك القواعد غير المعلمة للمحادثة، بصورة مقصودة أو غير مقصودة، فإن الناس يحسون بالانزعاج وبعدم الأمان182.

إذا، تحاول الإنثومنهجية أن توضح وتفهم كيف يفهم الناس ما يقوله الآخرون، ويفعلونه في أثناء اجتماعهم اليومي. وتستند هذه النظرية إلى المنهجيات الإنثرغرافية التي يستخدمها البشر في التواصل والتبادل الدال والهادف. ومن ثم، تدرس هذه النظرية كل خطاب تواصلي لغوي وغير لغوي. أي: نحن، في حياتنا اليومية العادية، تتواصل بالرمور والإنشاء والملاومات البصرية والسيماينية. وفي الوقت نفسه، تتواصل باللغة كثيرا. ومن ثم، فاللغة ظاهرة اجتماعية بامتياز، وقد اهتمت بها اللسانيات الاجتماعية، والنظرية التفاعلية الرمزية مع إرفيغ غوفمان، والمنهجية الإنثوميتودولوجية مع غارفيتكيل. ومن ثم، تقترض محادثتنا اليومي تفاهمات مشتركة بين الناس ببد أن انتهاك أعرف هذه التفاهمات بنتج عنها عواقب وخيمة، كالإحساس بالخطر وعدم الأمان." إننا نكون أكثر ارتباحاً عندما يلتزم الآخرون بالقواعد الخفية المضمرة المستقرة في تواصلنا الكلامي العابر مع الآخرين، وقد نصاب بالارتباك عن هذه الأصول. وفي الأغلبية الغالية من محادثاتنا العادية اليومية نحرص على اكتشاف المؤشرات التي تبدر عن الآخرين للدلالة على مقاصدهم من عملية التفاعل مثل الإيماءات، ولحظات التأتي أو التوقف. ويغضي هذا الوعي المشترك المتبادل إلى تيسير عملية التفاعل أو فتحها أو إغلافها، وإلى إضغاء صفة التعاون أو عدمه على كل واحد من الأطراف المعنية183.

ومن هنا، فالإنثومنيجية عبارة عن تيار سوسيولوجي يصف الواقعية الاجتماعية، ويفهمها انطلاقاً من تطبيقات عفوية وممارسات عادية للحياة

الهواميش:

Garfinkel Harold: Studies in Ethnomethodology, Oxford, Blackwell, 1984181.

182أنتوني غينز: نفسه، ص181

183أنتوني غينز: نفسه، ص: 165.

 الصفحة 114

اليومية أي: تدرس هذه النظرية كل ماهو عفوي وعادي في الحياة اليومية  فيما وتأويلا ومعايشة. ومن هنا، يركز التيار على دراسة مختلف الأنشطة  الصادرة عن الأفراد في حياتهم العادية، باعتبارها ممارسات تطبيقية هادفة  وراقمية وعاقلة وراعية وملاحظة.  

المطلب السادس: تقويم النظرية 

هناك مجموعة من الانتقادات التي وجهت للتيار الإثنومنهجي منها أنه  تيار محافظ لإيعني بالمشاكل الاجتماعية والسياسية العويصة والمعقدة،  ولإيعطي الحلول لمختلف أنماط الصراع والتوترات التي يعرفها المجتمع.  و"يكمن الطابع المحافظ للاتجاه الإثنوميتودولوجي في كوناه لإيملك  تصورا نظريا عن المجتمع، ولا رؤية معينة اتجاه العالم الاجتماعي، وهو  ما يتماشى مع ما عبر عليه غارفينكل صراحة من أن "البحوث الإثنوميتودولوجية ليست موجهة نحو تصحيحات معينة، كما أنها لاتقدم  حلول لمشكلات اجتماعية، ولا تشغل بانها بمناقشات إنسانية أو جدا  نظري، فلاقيمة للنظريات التي تحدم مصالح معينة ولانعبر عن  

الواقع184. 

يضاف إلى ما سبق قوله، تركيز هذا الاتجاه على دراسة مواقف الحياة  اليومية، متجاهلا البناء الاجتماعي والتغيرات التي قد يتعرض لها هذا  البناء، ما يعني عزوفه عن دراسة القضايا الأساسية للمجتمع والمتمثلة في  الصراع والتغير الاجتماعي والتحليل التاريخي والاقتصادي للبناء  الاجتماعي. وعلى الرغم من اهتمام اصحاب هذا الاتجاه بدراسة التغير  الاجتماعي على مستوى الوحدات الصغرى، إلا أننا نجدهم بدعون إلى  تغيير الذات بدل من تغيير البناء الاجتماعي، بدعوى أن أعضاء المجتمع  هم الذين يشكلون الواقع أو الحقيقة الاجتماعية، ما يؤكد الطابع المحافظ  لهذا الاتجاه185.

الهواميش:

184وسيلة خزار: نفسه، ص: 243-242.  

185وسيلة خزار: نفسه، ص: 243-242

الصفحة115

ويتميز هذا الاتجاه بعدم ثورتيه مقارنة بالمقاربة الصراعية؛ لأنه يبدأ بالوعي الفردي. وهذا يتناقض مع التوجه الماركسي الذي يعطي أهمية كبرى للفئة أو الطبقة الاجتماعية القادرة على تغيير واقعها. في حين، يعني الاتجاه الإنتومنهجي بأهمية الفرد في بناء مستقلة ووقعه. ومن ثم، فهو حر وسؤول عن أفعاله بينما يرى التوجه الماركسي أن الإنسان أو الفرد نتاج للمجتمع. كما ينفصل عن النظريات الكلاسيكية باهتمامه بما هو حياتي يومي، ويسلوك الفرد مقابل الاهتمام بينية المجتمع التي تتحكم في الأفراد، وتشكل وعميم وتصرفاتهم. كما يهتم الاتجاه الإنتومنهجي بعناصر النظام العام، والاهتمام بالقيم والمعايير الضابطة للسلوك.

إذا، تبعد هذه النظرية ماهو سياسي واجتماعي، وفي مجال سوسيولوجيا التربية، "تقتصر على دراسة تفاعلات الفاعلين، معتمدة فقط على التحليل المصغر مما يجعلها علم اجتماع بدون مجتمع والواقع - كما يقول كولون (Coulon) 186، إن الإنتومنهجية لانتفسي وجود البنية الاجتماعية والاتحصر دراستها في مستوى تفاعلات الفاعلين المدرسيين، وإنما تركز على عدم دراسة البنية معزولة عن الأنشطة التي تساهم في بناء البنية. إنها تبين كيف أن الوقائع التربوية الموضوعية تنبثق عن الأنشطة. إنها تكشف وتعري الإجراءا

التي بواسطتها بخفي المجتمع عن أفراد أنشطة التنظيم، ويقودهم للاعتراف بها كأنشباء محددة ومستقلة. إنها فتحت العلياة السوداء للمدرسة، وجعلت الكل يرى كيف تتكون اللامساواة187

بيد أن إيجابيات هذا المنهج أنه يتمتع في بحوثه بغية استجلاء ماهو خفي ومضمر في الفعل الإنساني، وكشف المعلومات العميقة عبر المشاركة والمعايشة من الصعب الوصول إليها بالطرائق الكمية التقليدية، مع استغلال الوثائق والملاحظة التنموية في سير حقائق الظاهرة الواقعية اليومية. وبهدا، يكون هذا المنهج قد استفاد من الظاهراتية، في تناول الإنسان والدفاع عنه في كلية العملية التي تتفاعل فيها الذات مع الموضوع.

الهواميش:

186Coulon .A: Ethnométhodologie et education, In Sociologie de l’éducation (dix ans derecherche.L’Harmattan, p : 236

187خالد المير وأخرون: نفسه، ص: 35-34.  

الصفحة 116

وخلاصة القول، يتبين لنا أن الإنثومنيجية أو الإنثوميتودولوجية نظرية أو مقاربة سوسيولوجية تهتم "بالإجراءات التي تشكل التفكير الاجتماعي العملي. وبناء على هذا التعريف، فهي لانتهتم بدراسة الأسباب أو العوامل المحددة لظاهرة ما، كظاهرة عدم المساواة مثلا، وإنما تهتم بدراسة المعنى الذي ينتجه الفاعلون وهم في وضعية تفاعل. إن هذا الانقلاب الإبستمولوجي يستمد أصوله من علم الاجتماع التنهي مي ومن الظاهراتية188.

ومن أهدافها الأساسية رصد أفعال الإنسان في الحياة اليومية العادية، على أساس أن تكون تلك الأفعال دائمة ومستمرة ومتكررة بهدف استجلام دلالاتها ومعانيها وتأويلها، والبحث عن مختلف الطرائق التي يسلكها الفرد في أداء أفعاله في تماثل تام مع الواقع أو المجتمع. ومن ثم، تنبني هذه النظرية على المنهجية الكيفية القائمة على المعايشة الإنثوغرافية، وتمثل منهجية الفهم في دراسة الأفعال وتفسيرها وتأويلها.

المبحث السابع: المقاربة الثقافية

ترى المقاربة الثقافية أن العامل الثقافي وعوامل أخرى تكون سببا في التفاوت التربوي بين المتعلمين في ما يخص الحصول على العمل. فإذا كان أبناء السود مرتبطين بمناطق مهنية وصناعية محددة لمزاولة عملهم، فإن أبناء البيض يمكن لهم أن يعملوا في مناطق متعددة ومختلفة؛ لأنهم قادرون على التكيف مع جميع البيئات، مادامت ثقافتها واحدة ومشتركة. ومن هنا، يقوم البعد الثقافي بتحديد مصير التلميذ أو الطالب. وفي هذا الصدد، يقول غيدنز: "قام بول ويليس" (Willis) 189وأخرون بسلسلة من الدراسات البحثية والميدانية المثيرة حول ظاهرة إعادة إنتاج الثقافة في الجانب التربوي. والسؤال الرئيسي الذي تصدت هذه المجموعة من المحللين لدراسته هو، ببساطة: كيف يتحدد المسار الحياتي لأبناء الطبقة  

الهواميش:

188خالد المير وأخرون: أهمية سوسيولوجيا التربية، ص 34.  

Paul Willis: Learning to labour: How working class Kids get working class Jobs, Saxon House.1977189      الصفحة117

العاملة بحيث يجدون أنفسهم آخر الأمر في مجالات عملية تشبه تلك التي كان يعمل فيها آباؤهم؟ فمن الاعتقادات الشائعة أن أطفال الشرائح الدنيا والأقلبات في الهرم الاجتماعي يتعرضون خلال المراحل الدراسية الأولى لبيئة تشعرهم بأن ثمة حدوداً لإمكانياتهم تجاوزها في حياتهم العملية والمهنية في المستقبل. وبعبارة أخرى، فإن التربية المدرسية تجعلهم يحسون بعقدة النقص منذ الصغر، وتدفعهم إلى المجالات المهنية التي لا تعزز من مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية.

ويرى ويليس أن مثل هذه التفسيرات الشائعة لا تطابق الواقع الفعلي، فالتلاميذ أو الطلاب الذين يتركون مقاعد الدراسة وهم يحملون هذا الشعور قلة قليلة. وإذا كان أحدهم يعتقد أن من يترك المدرسة أو الجامعة هو شخص غير قادر أو بليد إلا للأعمال البدنية القليلة الأجر، فإن السبب في ذلك لا يعود إلى البيئة المدرسية نفسها بل إلى مجموعة مركبة من العوامل. في إحدى الدراسات التي أجريت في مجموعة من المدارس في بريطانيا، تركز البحث على مجموعات من التلامذة البيض وأخرى من الملونين ذوي الأصول الأفروبية أو الكاريبية. وأظهرت الدراسة أن مجموعة البيض تدرك أنظمة المدرسة إدراكاً تاماً غير أنها تكون أكثر ميلاً للمشاكسة والتمرد من جماعات الملونين الذين ينصاعون بدرجة أعلى من الانضباط. ويشير هؤلاء الأولاد في سوق العمل مع أن المجموعتين تتحدران من شريحة واحدة هي الطبقة العاملة. وتتجلى هذه العوامل في عدة جوانب من بينها اندفاع البيض بحماس أكثر للتقد

بطلبات العمل حتى لو كانت مواقع العمل بعيدة عن أماكن سكناهم الأصلية. وقد يعود ذلك إلى أنهم يتحركون في بيئات ثقافية مشابهة لبيئتهم الأصلية، بينما يميل الملونون إلى التمركز في المدن والمراكز الحضرية الرئيسية190. 

ومن هنا، يقوم العامل الثقافي، بمعية عوامل أخرى، في تحديد مستقبل التلاميذ، ورسم مصيرهم المهني والحرفي.

المبحث الثامن: نظريــة الجنوســة 

الهواميش:

190أنتوني غيدنز: نفسه، ص. 562.  

 الصفحة 118

مازالت الوظائف والمناصب الأكاديمية المهمة من حق الذكور مقارنة بالإناث، على الرغم من استحقاقاتهن المتعيزة، وتفوق عددهن في الحياة الدراسية في السنوات الأخيرة. إلا أن أهم الامتيازات العلمية تكون من نصيب الذكور. وفي هذا السياق، يقول أنتوني جيدنز: "على الرغم من الارتفاع النسبي الذي حققته الإناث في مجال الالتحاق بالمدارس والجامعات في المجتمعات الغربية وفي بعض المجتمعات النامية، فإن المنظمات النسوية مازالت تشير إلى التفاوت الجنوسي الواضح بين النساء والرجال على الصعيد التربوي وفي المؤسسات التعليمية بصورة خاصة. ويصدق ذلك، بصورة خاصة، على مؤسسات التعليم العالي والجامعات، إذ إن الرجال مازالوا يستحوذون على هيئات التدريس الأكاديمية في جميع المجتمعات. وتشير دراسة أخيرة إلى أن هناك 120 أسئلة جامعية/بروفيسورة في جميع الجامعات والكليات البريطانية، وذلك يمثل %4 فقط من مجموع العامليين في قطاع التدريس الجامعي على هذا المستوى. (كما تدل دراسة حديثة The 1999 May, Gauardian,Amd5May)، على أن النساء في المناصب الأكاديمية على مختلف درجاتها يتقاضين دخلًا أقل من نظرائهن الرجال بما يتراوح بين 2000,2010 ملياروند سنويا191.

إذا، يتباين الذكور والإناث، في المنظومة التربوية، على مستوى الحظوظ والوظائف والأجور. علاقة على ذلك، تحرم البنت، في الدول المتخلفة والنامية والعربية، من الذهاب إلى المدرسة، وتمنع كذلك من الالتحاق بالجامعة أو التوظيف كذلك.

المبحث التاسع: نظريـــة موت المدرسة

يمثل هذه النظرية إيفان إيليتش (Ivan Illich) الذي ثار على المدرسة الليبرالية الطبقية والاستعمارية التي تكرس سياسة التخلف والاستعمار، وتسهم في توريث الفقر واليونس الاجتماعي. لذا، نادى إيفان إيليتش إلى  

الهواميش:

191أنتوني غيدنز: نفسه، ص563-562        

الصفحة119

إلغاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية في كتابه (مجتمع بدون مدرسة) 192

فنظرية موت المدرسة - حسب كوي أفاتريني- هي في الحقيقة نظرية قد "تأثرت تأثراً كبيراً بالعوامل الجغرافية التي أحاطت بها والتي قد تجعل منها نظرية صالحة لبلدان أمريكا اللاتينية، غريبة كل الغرابة عن المنطق التربوي للغرب. لا سيما أننا نجد فيها بعض التساؤلات التي تؤيد مثل هذا التفسير الذي يقصرها على بلدان بعينها، ذلك أن السيد إيليتش يزرع أحبابًا إلى القول بأن المدرسة ملائمة للحضر الصناعي، وأنها من إفرازاته، وينبغي أن تشجب فقط في البلدان المتخلفة حيث لا تستطيع أن توفر الانطلاق اللازمة لها، وحيث يكون حذفها شرطاً لازماً لحذف الاستعمار والقضاء عليه، على أنه في أحيان أخرى يطلق أحكاماً تنادي بالقضاء عليها قضاءً جذرياً، ويرى فيها مؤسسة بالية أينما كانت193

إذا، تهدف نظرية موت المدرسة إلى التخلص من المدرسة الرأسمالية الاستعمارية التي تعمق الفوارق الاجتماعية واللغوية والطبقية والثقافية. ومن هنا، "يشكل إيليتش بسلامة التعليم الإلزامي الشامل المطلق اليوم في أكثر أنحاء العالم كما أنه يؤكد على الترابط بين تطور التربية من جهة والمتطلبات الاقتصادية التي تدعو إلى الانضباط والالتزام بالتراتبية الاجتماعية من جهة أخرى. ويعتقد إيليتش أن مدارس اليوم تؤدي أربعة واجبات أساسية هي: تقديم الرعاية التأديبية؛ وتوزيع الناس وفق أدوار مهنية محددة؛ وتعليم القيم المهنية؛ واكتساب المهارات والمعارف المقبولة اجتماعياً وأكثر ما يجري تعلمه في المدارس لا علاقة له بمضمون الدروس. فالمدارس تتوخى تلقين الطفل الاستهلاك السلبي. أي: القبول الطوعي الخانع بالنظام الاجتماعي القائم. ولا يجري تعليم هذه الدروس بصورة واعية ومعلنة، بل بصورة ضمنية من خلال تنظيم المدرسة وإجراءاتها. إن المنهج الدراسي الخفي يعلم الأطفال أن دورهم في الحياة ينحصر في أن يعرفوا مكانهم ويلزموه، ويكونوا فيه قانعين.

الهواميش:

Illich, Ivan; Deschooling Society, Harmondsworth, Penguin, 1973192 

193عبر الله عبد الدائم، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى سنة 1981م، صص: 457-456.                      الصفحة120

مستكينين. ويدعو إليتش إلى مجتمع بدون مدرسة، فالتعليم الإلزامي اكتشاف حديث، وليس ثمة ما يدعو إلى اعتباره أمراً حتمياً لا مناص منه. وحيث إن المدارس لا تشجع على إقامة المساواة، ولا تحفز طاقات الفرد الإبداعية، فإن من الممكن الاستغناء عنها بالشكل الحالي. ولا يقصد إليتش بذلك إزالة النظم التعليمية بأشكالها كافة: إن ما يرمي إليه هو ضرورة تزويد المتعلمين بما يحتاجون إليه من موارد طيلة حياتهم خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة في حياتهم، وعلى نحو تقتصر فيه المعرفة على فئة من الاختصاصيين. وينبغي في هذه الحالة أن يكون للمتعلمين مجال لاختيار ما يريدون دراسته كما يتوجب تطوير عدة أطر تربوية تتوافر فيها المعرفة في المكتبات والمختبرات وبنوك المعلومات، مع إقامة شبكات للاتصال عن المهارات التي يتمتع بها مختلف الأفراد. كما يستلزم ذلك توزيع كوبونات مجانية يتمكن بواسطتها الطلاب من الانتفاع من الخدمات التعليمية حيثما يشاؤون.


إن المقترحات التي يطرحها إيفان إليتش تدخل، كما يرى كثير من المحللين، في نطاق اليوتوبيا المثالية الخيالية في المدى المنظور. غير أن عدداً من الافتراضات التي طرحها إليتش في السبعينيات من القرن الماضي قد عادت إلى الظهور مرة أخرى في التسعينيات، مع بروز تقانات المعلومات والاتصالات الحديثة. ووجدت بعض هذه الآراء عن شيوع المعرفة الإنسانية سنداً لها في عدد من النظريات الحديثة التي ترى أن الحواسب والإنترنت سيحدثان ثورة تخفف جوانب اللامساواة والتفاوت في التربية والتعليم في حياتنا المعاصرة194. 

وهكذا، تتميز نظرية إيفان إليتش بكونها نظرية خيالية لا تسجم مع متطلبات الواقع الميداني، ولا تساير منطق العقل. ومن ثم، لا يمكن إطلاقاً بناء المجتمع الإنساني بدون مدرسة، مهما كانت طبيعتها السياسية والإيديولوجية والدينية.

وخلاصة القول، تلكم نظرة عامة ومختصرة إلى أهم المقاربات والنظريات والمدارس السوسيولوجية التي تناولت المدرسة فهماً

وتفسيراً وتأويلاً. بيد أن مشاكل المدرسة تزداد اتساعاً وصعوبة وخطورة كلما  

الهواميش:

194غيدنز: نفسه، ص 560.  

  الصفحة121

اتسعت القاعدة الهرمية للمتعلمين والمربين والمدرسين. وتستفحل هذه المشاكل أكثر باختلاف الأجيال والأجناس والمتغيرات القيمية والإيديولوجية وكلما ظهرت مستجدات في مجال العلوم والآداب والفنون والتقنيات والإعلاميات وتكنولوجيا الاتصال.

الصفحة 122



الفصل الخامس:سوسيولوجيا المدرسة المغربية                 

المبحث الأول: تطــــور المدرسة المغربية


لا يمكن فهم سوسيولوجيا المدرسة المغربية إلا إذا تتبعنا مسارها التاريخي من البداية حتى يومنا هذا، بالتوقف عند المحطات التالية:

المطلب الأول: مرحلــة المــدارس العتيقــة

من المعروف أن الإسلام قد أولى عناية كبرى للتربية، وحث الفرد على التعلم والإقبال على طلب العلم، لا في مرحلة طفولته فحسب، بل في كل أطوار حياته، كما يقول الرسول عليه السلام "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد195.

ومنذ بداية الإسلام كانت المساجد عبارة عن مدارس للتربية والتعليم، وقد عرفت نشاطاً تربوياً هاماً. وقد اهتم معظم الخلفاء والحكام، خلال التاريخ الإسلامي «بشؤون التربية والتعليم وقضايا الفكر والمعرفة» فأنشأوا مدارس ومعاهد للتربية في مختلف المستويات، وفتحوا مكتبات وخزانات للكتب والمراجع النفيسة، وشجعوا البحث العلمي مادياً ومعنوياً. وكان من ثمرات ذلك أن ظهر، في الساحة الإسلامية، مفكرون وفلسفة ضمنوا كتبهم ومصنفاتهم صوراً قيمة من الفكر التربوي والفلسفة التربوية التي لا نبالغ إذا قلنا - منذ البداية- أنها تمتاز بعمق الفهم للكيان البشري، وبنظرة شموليتها لقضاياه ومشاكله؛ مما جعل جوانب منها لا تقل أهمية عن علم النفس

التربوي الحديث، وعن النظريات التربوية في عصرنا الحاضر، سواء فيما يتعلق بسعة وثراء الموضوعات والنواحي التي تناولتها وغطتها بالدراسة أم بما يتصل بالأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، أم الطرائق والمناهج التي تتبعها لبلوغ تلك الأهداف.

وقد ارتبط التعليم المغربي، منذ الفتوحات الإسلامية الأولى إلى يومنا هذا، بالمدارس العتيقة، أو مايسمى بالمدارس القرآنية،أوتعليم الإسلامي،أوالتعليم الأصيل.وقد قامت هذه المدارس بتلقين العلوم النقلية،كالعلوم الشرعية والعلوم اللغوية والمعارف  الأدبية.فضلا عن

 الهواميش:                 

195هذا الحديث مشهور،ولايصح سندا

لصفحة124

العلوم العقلية والكونية. وقد ساهمت هذه المدارس في نشر الدين الإسلامي، والتعريف به في كل أرجاء المغرب، وساهمت أيضاً في توفير الأطر المؤهلة والكفاءات العلمية التي تولت مهمات التدريس، والفتيا، والإمامة، والخطابة، والتوثيق العدلي، والقضاء، والوصاية، وشؤون الإدارة، والاستشارة السلطانية. كما تخرج من هذه المدارس العديد من العلماء والمفكرين والمثقفين، والكثير من الجهابذة الموسوعيين المتعمقين في كل فنون المعرفة. وقد اشتهروا في العالم الإسلامي مغرباً ومشرقاً، بل تخرج منها بعض سلاطين المملكة المغربية، ومؤسسو دولها، كعبد الله بن ياسين زعيم المرابطين، وأحمد المنصور الذهبي سلطان الدولة السعدية.ويضاف إلى ذلك أن علماء هذه المدارس وطلبتها قد شاركوا في الجهاد ومقاومة العدو الأجنبي بكل بسالة واستماتة. وشمروا عن سواعدهم لتربية نفوس الناشئة المغربية وتطهيرها من الشك والإلحاد وبراثن الشر والضلالة، بتأسيس مجموعة من الروابط والزوايا، كالزاوية الناصرية والزاوية الشرقاوية على سبيل التمثيل لا الحصر والتقييد.

وعمل هؤلاء العلماء كذلك على تعليم الصبيان والبنات والتلاميذ، بتأسيس الكتاتيب القرآنية والمساجد والمدارس والمعاهد لتلقين هؤلاء المتعلمين مبادئ الشريعة الإسلامية وقواعد اللغة العربية، وإقرار الدراسات الإسلامية للحفاظ على العقيدة المحمدية، وحماية اللغة العربية من العاميات واللهجات المحلية. كما ساهم هؤلاء العلماء في الحفاظ على المذهب المالكي، ونشر التصوف السني، والدفاع عن الفكر الأشعري، والحث على احترام مواثيق البيعة السلطانية.

ومن هنا، فقد قامت المدارس العتيقة بأدوار ووظائف عدة، كالدور التربوي - التعليمي، والدور الوطني، والدور القومي، والدور الأخلاقي، والدور التأطيري التنموي. ومازالت هذه المدارس العتيقة تقوم بأدوارها المعهودة إلى يومنا هذا، بل زادت الحاجة إلى هذا النوع من المدارس، بعد تراجع مستوى الطلبة في مجال العلوم الشرعية والأبحاث الدينية، وخاصة في ما يخص المواريث والتفسير وعلم التوقيت، وفهم مقاصد الحديث النبوي، وتفعيل الفقه وأصوله...

لذا، فقد سارعت الدولة المغربية، في عهدي الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، إلى تأسيس دار الحديث الحسنية بالرباط، وتأسيس كليتي  

لصفحة125

الشريعة بفاس وأكادير وكلية أصول الدين بتطوان، والعناية بالجوامع الإسلامية المعروفة، كجامع القرويين بفاس، وجامع ابن يوسف بمراكش، مع الترخيص للعديد من المعاهد والكتاتيب القرآنية بأداء وظيفتها التربوية والتعليمية، طبقاً للظهير الشريف 13.01 الصادر في 29 يناير 2002م.

وإذا كانت ظاهرة المدارس التعليمية بالشرق قد ظهرت في القرن الخامس الهجري، إبان العصر العباسي، مع الوزير نظام الملك الذي أسس مدرسته العلمية ببغداد، وهي أول مدرسة في الشرق 196، فإنها تواجدت في المغرب - حسب عبد الله كنون- في القرن نفسه في عهد المرابطين مع مدرسة أجلو التي تأسست قرب تزنيت. أي: مدرسة وجاج بن زلو التي تتلمذ فيها عبد الله بن ياسين، أحد مؤسسي الدولة المرابطية. ويذهب بعض الباحثين إلى أنها ظهرت في العصر المريني في القرن السادس الهجري، كما نجد ذلك عند صاحب القرطاس الذي يرجع بداية تأسيسها إلى يعقوب المنصور الموحدي الذي ينسب له بناء الكثير من المدارس في كل من أفريقيا والمغرب والأندلس 197

ومما يؤكد هذا التضارب حول تاريخ تأسيس المدرسة، أن بعض المصادر التاريخية تنفي ظهورها بالمغرب قبل القرن السابع الهجري، ويأتي محمد المنوني بدوره ليثبت تاريخ تأسيس المدارس بالمغرب في العهد الموحدي، وبالضبط على عهد الخليفة المرتضى، الذي أسس مدرستي القصبة، وجامع المرتضى، وهو جامع ابن يوسف بمراكش.

إلا أن المدارس كمؤسسات تعليمية، عرفت في العهد المريني ازدهاراً واسعاً واهتماماً كبيراً من لدن السلاطين الذين أسسوا عدة مدارس في المدن المغربية، وخاصة مدينة فاس التي عرفت في هذا العهد ازدهاراً ثقافياً كبيراً، فأصبحت قبلة للعلماء، ولم يقتصر مشروع بناء المدارس

الهواميش:                 

196عبد الله كنون: النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1961م، ص.75.  

197ابن أبي زرع: الأنيس المطرب بروض القرطاس من أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، نشر عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، المغرب سنة 1973م.  

لصفحة126

على مدينة فاس وحده، بل استفادت منه مدن أخرى كسلا ومكناس ومراكش وغيرها198.

لكن المدارس العتيقة، ذات المنحى الشرعي، قد ظهرت في المغرب مع الفتوحات الإسلامية مع عقبة بن نافع، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير. وكان الهدف من هذه الفتوحات هو نشر الدين الإسلامي في المغرب والأندلس، وتفقيه الناس في العلوم الشرعية وأصول الدين واللغة العربية. وكانت المساجد والجوامع - بطبيعة الحال- فضاءات للوعظ (الوعظ والتذكير والاستغفار والاستشارة) والتدريس والتعليم.

ويتميز المحتوى الدراسي، في المدارس العتيقة المغربية بالطابع الموسوعي، وتعدد المواد الدراسية التي كانت تجمع بين العلوم النقلية والعقلية. وتضم لائحة العلوم والمعارف التي كانت تدرس بهذه المدارس أزيد من أربعين علماً وهي "لائحة تشكلت تدريجياً، ابتداء من القرنين الثاني للهجرة، مع ظهور العلوم الشرعية الإسلامية والأدبية، ومع اقتباس علوم الحضارات السابقة. ويمكن اعتبار تلك التصانيف نوعاً من المقررات الدراسية التي يمكن للطلاب أن يختاروا منها ما يشاؤون، حسب عدة اعتبارات، غير أن لائحة المواد المدروسة فعلياً في حلقات الدروس العامة بالمساجد أو المدارس أقل من نصف اللائحة التي تقدمها كتب تصانيف العلوم، ولا تشتمل إلا على حوالي عشرين علماً فقط، موزعة بين علوم دينية وأدبية وطبيعية. ولم يكن تدريس هذه اللائحة خاضعاً لمقاييس مضبوطة ومقننة، إذ ليس هناك مضمون دراسي موحد لمستوى من مستويات التعليم، أو لجهة من جهات المغرب، خلال العصر الوسيط، في غياب أية سلطة تعليمية تشرف وتعمل على توحيد المقررات، بل كان الطلاب والمدرسون يتمتعون بحرية نسبية في اختيار المادة التي يرغبون في تعلمها، متى شاؤوا، ومن أي كتاب شاؤوا، وعلى الأستاذ الذي يطمئنون إليه. لذا، تحددت المحتويات التعليمية، حسب ميول الأفراد وتقاليد الجهات، في وقت معين. ومع ذلك، ترسخت، في ظل هذه الحرية النسبية وهذا التنوع، عوائد كانت توجه الطلاب لاختيار مواد بعينها.

الهواميش:                 

198رشيدة برادة: (التعليم العتيق والبنية التقليدية في المغرب)، مجلة علوم التربية.الرباط، المغرب، العدد 33، مارس 2007، ص: 135.      

الصفحة127

والبداية بأخرى يفرضها مجتمع يتسم إجمالاً بالمحافظة، وبالتالي، يمكن ملاحظة وجود وحدة داخل هذا التعدد والتنوع199.

وكانت الدروس في المدارس العتيقة المغربية إلى يومنا هذا، تتركز على المدونات والمنظومات التعليمية، وقراءة الكتب، وتصفح نصوصها بالشرح والتفسير والتوضيح، ومناقشة أفكارها وأحكامها وقضاياها، بإبراز المسائل، واستعراضها بالدرس والفحص، واستحضار أقوال العلماء كلها في كل مسألة معينة، والتمثيل لها من أجل استخراج مجموعة من الأحكام والقواعد، سواء أكانت مطردة أم شاذة، كما هو الحال في الفقه والنحو.وغالباً، ما كان الفقه يدرس في تدريسه طريقة اختصار كتب الأمهات في فنون وعلم شيء من أجل تقديمها لطلابه لحفظها واستظهارها، سواء أفهموا ذلك أم لم يفهموا. وقد كان التعليم في هذه المدارس، يعتمد على الحفظ والتلقين، واختصار المتون والكتب والمصنفات في ملخصات، وشروح، وتعاليق، وحواش، وملخصات. لذلك، يلجأ المدرسون إلى اختصار المعارف والدروس، في شكل متون موجزة مختصرة مقفاة، ككتاب (**الأجرومية**) في علوم اللغة العربية، و(متن الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، أو في منظومات شعرية ليسهل حفظها واستيعابها كألفية ابن مالك في النحو، ومختصر خليل في فقه مالك.

وكانت هذه المنظومات التعليمية سائدة في العصر العباسي مع انتشار المنهج العقلي، وتسهيل الكتب والمتون من أجل حفظها واستظهارها كما هو حال (كليلة ودمنة) لابن المقفع التي حولت شعراً. والشيء نفسه ينطبق على الكثير من الكتب الفقهية والقصص والحكايات التي كتبت نظماً. ومن أشهر مصنفي المنظومات التعليمية، في هذا العهد، إبان بن عبد الحميد اللاحقي، "فله من هذا الفن منظومات آلاف من الأبيات، فقد نظم في القصص والتاريخ والفقه وغير ذلك من العلوم والمعارف. وقد نقل كتاب (كليلة ودمنة) إلى الشعر في أربعة عشر ألف بيت، فأعطاه يحيى بن خالد عليه عشرين ألف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف دينار، وله مزدوجات منها مزدوجة اسمها **ذات الحلل** ذكر فيها بدء الخلق وشرح من أمر الدنيا ومن الفلك، والمنطق، ثم له مزدوجات أخرى.  


الهواميش:                 

199حسين أستكان: تاريخ التعليم بالمغرب خلال العصر الوسيط، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص 95-96.                         

الصفحة128

في تاريخ الفرس...، وله كتاب حلم الهند، وكتاب الصوم والاعتكاف...200

وقد صار الشعر التعليمي - القائم على تحويل العلوم والمعارف إلى نظم شعري- ظاهرة لائفة للانتباه في عصور الانحطاط العثماني والجهود التركي، ولا سيما في القرنين السادس والسابع الهجريين وما بعدهما. وبعد ذلك، انتقل هذا الشعر، وبما يستتبعه من جهود وركود وكساد وتخلف، إلى دول المشرق والمعرب على حد سواء.

ومن المنظومات والمتون التي كان يدرسها التلاميذ والطلبة في المدارس العتيقة، بعد حفظ القرآن الكريم، وحفظ سنة الرسول (صلعم)، وتعلم العربية والحساب، ما كتبه محمد بن عبد هللا بن مالك (1273م/272م)، كالأفية في النحو، وهي أوجوزة من ألف بيت، ولا مهنة الأفعال في أبنية الأفعال، وإيجاز التعريف في علم التصريف، وكتاب محمد الصنهاجي ابن أجروه (1323م/273م) (المقدمة الأجرومية في مبادئ علم العربية).

فضلاً عن كتب أخرى كلامية المجردات، والمرشد المعين لابن عاشر، ونظم مقدمات ابن رشد لأبي زيد الفاسي، ومنظومة الرسموكي في الفرائض، ورسالة أبي زيد الفيرواني، ومنظومة السماالي في الحساب...ومن هنا، فقد كان البرنامج أو المقرر الدراسي، في المدارس العتيقة المغربية، يتكون من وحدات أساسية، تتمثل في العلوم الشرعية كتفسير القرآن وعلميه، وحفظ الحديث مع علومه وشروحه، ودراسة الفقه وأصوله، والتمكن من أصول الدين والعقيدة، وتمثل مبادئ الأخلاق، والتنجر في علوم التصوف، والاستهداء بالسيرة النبوية العطرة.

أما العلوم الثانوية التي لايمكن الاستغناء عنها، وهي عدة المتعلم الضرورية في فهم العلوم الشرعية وتفسيرها، فتتمثل في تحصيل علوم العربية من نحو، وصرف، وبلاغة، ودراسة للاب.

وهناك وحدات تكميلية لابد للمتعلم من التعرف عليها، وهي بمثابة علوم عقلية تأتي بعد تحصيل العلوم النقلية، كالإلمام بالمنطق، والتوقيت، والحساب، والفلسفة...

الهواميش:                 

200على جميل مهنا: **الألب في ظل الخلافة العباسية:** مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1981م، ص: 182

الصفحة 129

ومن ثم، تتميز هذه المدارس العتيقة بأصالة المحتويات، وجدية التعلم، والعمق في الاستيعاب، ومناقشة المسائل، والتنوع في الوحدات الدراسية، والزرعة الموسوعية في تحصيل مجموعة من الفنون والعلوم والمعارف، والاعتماد على الشرح والحفظ والتلقين والإفهام. ومن هنا، ترتكز برامج هذه المدارس بصفة عامة على " الحوم حول الدين: قرآنا وحديثا وفقها وأصولا وعقيدة وتصوفا. والعناية بعلوم اللغة العربية، باعتبارها وسائل ضرورية لفهم الدين، وإدراك مقاصد مصدريه الأصليين: القرآن الكريم، والحديث الشريف والتركيز على الأخلاق وتطهير النفس من الرعونات والأدران201.

وتتمثل منهجية التدريس، في المدارس العتيقة في شرح المسائل الشرعية واللغوية والكونية شرحا مستفيضا، مع تفريحها استنباطا واستطرادا وإسهابا. وتقعيدا، بالاعتماد على الشواهد القرآنية والحديثية واللغوية، واستقراء الوقائع التاريخية والدينية والواقعية والعقلية والإخبارية والسردية والعرقانية لتوضيح الدرس وتعميقه. ولا ينتهي العالم من باب معرفي حتى ينتقل إلى باب آخر ليشبهه درسا وفحصا وتمحيصا إلى أن يمل طلبة العلم، ويوشكون على الانصراف.

واليكم منهجية موسى العيدوسي في التدريس والإقراء والتعليم بجوامع فاس، وهو من كبار علماء العصر المربني، ومن جهادة رجال الفكر وقطاحل الفقه وعلوم العربية، وكان له صيت كبير في المغرب والمشرق على حد سواء:

إذا قرأ المدونة فاستمع لما يوحي : يبتدئ في المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والأفريقيين والمغاربة والأندلسيين وأنمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام حتى يكل السامع وينقطع عن تحصيله الطامع. وكذا إذا انتقل إلى الثانية وما بعدها، هذا بعض طريقته في المدونة.

وأما إذا ارتفى الكرسي، يعني كرسي التفسير، فترى أمرا معجزا ينتفع به من قدر له نفعه من الخاصة والعامة. يبتدئ بأنكار وأدعية مرتبة، يكررها كل صباح ومساء يحفظها الناس وبأتونها من كل فتح عميق. وبعد ذلك،  

الهواميش:

201عبد السلام الأحمر: (جوار مع الدكتور اليزيد الراضي الفقيه الشاعر حول واقع التعليم العتيق)، مجلة تربيتك، المغرب، عدد5، ربيع الثاني 1426 هـ، ماي2005م، صص: 43-39. 

الصفحة130

يقرار القارئ آية فلا يتكلم شيء منها إلا قليلاً، ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية، وأخبار السلف وحكايات الصوفية وسير النبي وأصحابه والتابعين. ثم بعدها، يرجع إلى الآية، وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول الحديث الأول كذا والثاني كذا والثالث كذا إلى المائة فأزيد، ثم كذلك في المائة الثانية، والشك في الثالثة.

ثم قال: "وكذلك فعل في إقرائه للعربية، فهذا بأصحاب سيبويه، ثم نزل إلى السيرافي وشراح الكتاب وطبقات النحويين حتى مل الحاضرون وكلوا. ومازال كذلك حتى ذهبوا ولم يراجع في ذلك، وقد كان قصدهم اختياره وامتحانه202.

وكان العلماء المغاربة يتبعون طرائق تربوية عدة في التدريس، يمكن حصرها في الطرائق البيداغوجية السبع التالية:

  • الطريقة المعجمية الاصطلاحية التي تعتمد على شرح النصوص، وفك غموضها ومبهماتها دون زيادة؛ لأن الزيادة تضر بالمنظم كما هي طريقة محمد بن عرفة (توفي سنة 803هـ) في القرن الثامن الهجري، وكان يترك للمتمدرس حرية استنتاج ما يمكن استنتاجه.
  • الطريقة العراقية التي تتكون على المنهج العقلي في مناقشة النص، وتصنيف معلوماته، والبحث في الأدلة والقياس والبراهين الحجاجية، دون الامتعام بتصحيح الروايات أو الوقوف عند معاني الألفاظ على طريقة الفيروانيين في تدريس المدونة.
  • الطريقة الفيروانية التي تستند إلى المنهج النقلي في التعامل مع النص؛ إذ تهتم بالدراسة النحوية الإعرابية والمحجمة، ثم تطبيق منهج الجرح والتعديل في نقد الروايات سندا ومتناه، والتعرض لرجال السند وأخبارهم.
  • الطريقة المغربية المعروفة لدى القاضي عبارة في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وكانت تجمع بين الطريقتين العراقية والفيروانية. أي: بين المنهج العقلي والمنهج النقلي.
  • الطريقة الفاسية نجدها في القرن السابع الهجري مع عبد العزيز العبدوسي (توفي سنة 937هـ) الذي كان ينطلق من المدونة أساسا للدرس، وإثرائه مما قبل في الموضوع المدروس من المؤلفات الفقهية الأخرى. وقد طبق هذه المنهجية في تدريس ألفية بن مالك التي جعلها منطقاً

الهواميش: 

202عبد الله كنون: نفسه، ص 192

الصفحة 131

لدراسته اللغوية ، فيستعرض آراء النحاة طبقة طبقة إلى أن يصل إلى العلماء المتأخرين، سواء أكانوا في المشرق أم في المغرب. وممن اشتهر بهذه الطريقة الشيخ ابن غازي محمد القوري(توفي سنة782هـ). يقول أحد تلاميذه عن مجلسه" بأنه كثير الفوائد مليح الحكايات. لازمته في المدونة أعواما، ينقل عنها كلام المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والموثقين، ويطرز ذلك بذكر موالاهم ووفياتهم وحكاياتهم، وضبط أسمائهم، والبحث في الأحاديث المستدل بها في نصرة آرائهم، فمجلسه نزهة للسامعين.203

  • الطريقة الأندلسية التي تنبني بشكل واضح على التقييدات والشروح والاختصارات ، وتسمى هذه الكتب بالطور أو التقليد على المدونة، وقد قيدها الطلبة في حلقات أشهر الأساتذة كأبي الحسن الصغير(ت719هـ)، وأبي زيد عبد الرحمن الجزولي (ت714هـ)، وغيرهما، وكانت هذه الطريقة معروفة لدى الأندلسيين في القرن السادس الهجري، وانتفدها ابن العربي بشدة، وهي طريقة مناقضة لفكرة المختصرات؛ وهذا ما يفسر معارضة بعض المغاربة في القرن 8هـ للمؤلفات المختصرة في عدة علوم كمختصر خليل في الفقه – مثلا204.
  • الطريقة الحديثة التي تجمع بين مواصفات المدرسة السلفية العتيقة من جهة (المدرسة في العهد المغربية الماضية)، ومواصفات المدرسة العصرية من جهة أخرى، من خلال الانفتاح على اللغات الأجنبية والعليم الحديثة.  

وعلى العموم، فقد كانت الطريقة المغربية والطريقة الأندامبية في التدريس تتطلبان من المتعلمين سنوات عديدة من عمره للتحصيل والإحاطة بجميع آراء العلماء، مهما كانت طبقاتهم ومستوى معارفهم. ويقول محمد أسكان في كتابه: تاريخ التعليم بالمغرب خلال العصر الوسيط غير أن طريقة استعراض كل ماذكر في المسائل الفقهية من أقوال الفقهاء المتقدمين والمتأخرين، وفي مختلف الأقطار الإسلامية، يجعل استيعابها على الطلاب صعباً ويتطلب وقتنا طويلاً، وهذا ما يفسر جزئياً طول المدة الدراسية التي يقضيها الطلاب، في القرن 8هـ، يسكني المدارس بفاس. 

الهواميش:

203أحمد بابا التنبكتي: نيل الانتهاج بتطوير الديباج: دار الكتب العلمية، بيروت ، لبنان، بدون تاريخ للطبعة، ص319.  

204محمد أسكان: نفسه، ص114.                   

الصفحة 132

التي كانت تصل في المعدل إلى 16 سنة، وهي مدة أطول بكثير من المدة التي يقضيها الطلاب بمدارس تونس التي كانت لا تتعدى خمس سنوات، وإن كانت قد تقلصت إلى مثل هذه المدة في بداية القرن 10 هـ حسب شهادة الوزان205.  

أما على مستوى لغات التدريس والتلقين، فكان الفقهاء يستعملون الفصحى والعامية المغربية واللغة الأمازيغية في قبائل سوس والريف والأطلس المتوسط. كما كانت بعض الكتب الدراسية تؤلف أو تترجم إلى الأمازيغية وتدرس بها، مثل: كتب الفقه كرسالة أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل، وشرح البردة وغيرها.  

 المطلب الثاني: النظرية الإصلاحية السلفية  

ترتبط هذه النظرية بالسلطان محمد بن عبد الله الذي أدخل إصلاحا على التعليم، فركز على العلوم النقلية والتوجه العقائدي السلفي، والعناية بنشر كتب السنة تعويضا لكتب الفقه، ومنع تدريس الفروع والعلوم العقلية، كعلم الكلام، والفلسفة، والمنطق، وتصوف الغلاة، والقصص الإخبارية. لذا أصدر السلطان نصا إصلاحيا موجها إلى عموم المجتمع لتنفيذه في تنظيم القضاء وإمامة المساجد والتعليم سنة 1203 هـ، وإليكم نصه:  

يُعلَّم الواقف على هذه الفصول، أننا أمرنا باتباعها والاقتصار عليها ولا يتعداها إلى ما سواها:  

الفصل الأول: في أحكام القضاء، فإن القاضي الذي ظهر في أحكامه جور وزور وما يقرب من ذلك من الفتاوى الواهية مثل كونها من كتب الأجهورية ولم يبلغ سندها إلى كتب المتقدمين فإن الفقهاء يجتمعون عليه ويعزلونه عن خطة القضاء ولا يحكم على أحد أبدا.  

الفصل الثاني: في أئمة المساجد، فكل إمام لم يرضه أهل الفضل والدين من أهل حومته يعزلونه في الحين ويتولى غيره ممن يرضون إمامته.  

الفصل الثالث: في المدرسين في مساجد فاس، فإننا نأمرهم أن لا يدرسوا إلا كتاب الله تعالى بتفسيره وكتاب دلائل الخيرات في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

 الهواميش:

205محمد أسكان: نفسه، ص.114.                   

الصفحة133

الله (صلعم)، ومن كتب الحديث المسانيد والكتب المستخرجة منها والبخاري ومسلما من الكتب الصحاح، ومن كتب الفقه المدونة والبيان والتحصيل، ومقدمة ابن رشد والجواهر لابن شاس والتوادر والرسالة لابن أبي زيد وغير تلك من كتب المتقدمين، ومن أراد تدريس مختصر خليل فإنما يدرسه بشرح بهرام الكبير والمواق والحطاب والشيخ علي الأجهوري والخرشي الكبير لأغير. فهذه الشروح الخمسة بها يدرس خليل مقصورا عليها، وفيها كفاية، ومعاعداها من الشراح كلها ينبذ ولا يدرس به، ومن ترك الشراح المذكورين، واشتغل بالزرقاني وأمثاله من شراح خليل يكون كمن أهرق الماء واتبع السراب. وكذلك قراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كالكلاعي وابن سيد الناس البعمري، وكذا كتب النحو كالتسهيل والألفية وغيرهما من كتب هذا الفن، والبيان بالإيضاح والمعلول، وكتب التصريف، وديوان الشعراء السنة، ومقامات الحريري، والقاموس ولسان العرب وأمثالهما مما يعين على فهم كلام العرب لأنها وسيلة على فهم كتاب الله وحديث رسول الله (صلعم) وتلك بها نتيجة.

ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبي زيد رضي الله عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين. وكذلك الفقهاء الذين يقرأون الإسطرلاب وعلم الحساب فيأخذون حظهم من الأحساب لما في تلك من المنفعة العظيمة والفائدة الكبيرة لأوقات الصلاة والميراث، وعلى هذا يكون العمل إن شاء الله.

ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لايدرون بأنهم لايدرون، ومن تعاطى ماذكرنا في المساجد وناله عقوبة فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة، وأن يضلوا طلبة البادية فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله (صلعم)، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها يظنون أنهم يحصلون على فائدة بها فيتركون مجالس التفقه.

الصفحة134

في الدين واستماع حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإصلاح ألسنتهم بالعربية، فيكون ذلك سببا في ضلالهم206 .

بيد أن هذا المنشور الإصلاحي السلفي قد توقف مع ابنه مولاي سليمان الذي طالب العلماء بالعودة إلى ما كانوا عليه من كتب ومؤلفات ومصنفات سابقة فضلاً عن تجديد هذا النص القانوني الإصلاحي مرة أخرى مع المولى عبد الرحمن بن هشام، إلا أن العلماء لم يأخذوا بهذا المنشور، ماداموا يفضلون كتبهم التي تعودوا عليها في التدريس والإقراء.  

 المطلب الثالث: التعليم الطائفي  

ارتبط هذا التعليم بالمستعمر الفرنسي الذي حاول أن يجعل التعليم المغربي تعليما طائفيا متنوعا. وفي هذا الصدد، يقول السيد هاردي، مدير التعليم، مخاطبا المراقبين المدنيين بمكناس عام 1920م، مزودا إياهم بمجموعة من التوجيهات لتمكينهم من السيطرة على المناطق التي كانوا يتولون قيادتها: منذ سنة 1912م دخل المغرب في حماية فرنسا، وقد أصبح في الواقع أرضا فرنسية، وعلى الرغم من استمرار بعض المقاومة في تخومه، تلك المقاومة التي تعرفون أنتم وإخوانكم في السلاح مدى ضراوتها، فإنه يمكن القول: إن الاحتلال العسكري لمجموع البلاد قد تم. ولكننا نعرف نحن الفرنسيين إن انتصار السلام لا يعني النصر الكامل: إن القوة تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان. وإذا كانت هذه المهمة أقل صخبا من الأولى، فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الغالب وقتا أطول207.  

ومن هنا، فقد سعت فرنسا إلى الأخذ بالنظرية الطائفية في مجال التعليم، فقد قسم التعليم المغربي، إبان فترة الحماية، تقسيما طائفيا بين المسلمين، والإسرائيليين، والأوروبيين. ولكل طائفة ثقافتها الخاصة، وتعليمها...  

الهواميش:

206عبد الله كنون: نفسه، ص 277-276.  

207محمد عبد الجابري: التعليم في المغرب العربي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1989م، ص 17.  

الصفحة135

الخاص، مع مراعاة وضعية كل فئة على حدة. ومن ثم، يرتبط تعليم المسلمين بثلاث فئات: تعليم النخبة، وهي فئة مثقفة نسبيا، وتتكون من رجال المخزن والعلماء وكبار التجار والأعيان؛ وطبقة جماهير المدن الجاهلة المحرومة؛ وطبقة جماهير البادية المنعزلة والمبعثرة. وفي هذا السياق، يقول السيد هاردي:وهكذا، فنحن ملزمون بالفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية، وتعليم لعموم الشعب. الأول يفتح في وجه أرستقراطية مثقفة في الجملة... وقد توقفت عن النمو الفكري بسبب تأثير العلوم الوسيطية... إن التعليم الذي سيقدم لأبناء هذه النخبة الاجتماعية تعليم طبقي يهدف إلى تكوينها تكوينا منظماً في ميادين الإدارة والتجارة، وهي الميادين التي اختص بها الأعيان المغاربة. أما النوع الثاني، وهو التعليم الشعبي الخاص بالجماهير الفقيرة والغارقة في الجهل عميقاً، فيتنوع بتنوع الوسط الاقتصادي. في المدن يوجه التعليم نحو المهن الحضرية، خاصة مهن البناء، وإلى الحرف الخاصة بالفن الأهلي. أما في البادية، فيوجه التعليم نحو الفلاحة... وأما في المدن الشاطئية، فسيوجه نحو الصيد البحري والملاحة. أما عن المواد العامة التي ستكون أساس هذا التعليم التطبيقي، فهي اللغة الفرنسية التي بواسطتها ستتمكن من ربط تلامذتنا بفرنسا...  

إن أكثر ما يجب أن نهتم به هو الحرص على ألا تصنع لنا المدارس الأهلية رجالاً صالحين لكل شيء، ولا يصلحون لشيء. يجب أن يجد التلميذ بمجرد خروجه من المدرسة عملاً يناسب التكوين الذي تلقاه، حتى لا يكون من جملة أولئك العارفين المزيفين، أولئك اللامنتمين طبقياً، العاجزين عن القيام بعمل مفيد، والذين تنحصر مهمتهم في المطالبة، هؤلاء الذين عملوا في المستعمرات الفرنسية الأخرى، وفي غيرها من المستعمرات على جعل التعليم الأهلي مصدراً للاضطراب الاجتماعي208.

أما التعليم العتيق والأصيل المتمثل بجامع القرويين، فقد اهتمت به فرنسا اهتماماً خاصاً، بإصلاحه وتجديده ومراقبته لكيلا يذهب المغاربة إلى مصر لنقل الأفكار السلفية الثورية التي كان ينادي بها جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا. وفي هذا الإطار، يقول المستربيكي في كتابه (المغرب) سنة 1920م: "لقد احتفظت الحماية دون تردد..."  

الهواميش:

208محمد جابري:نفسه ص 18

الصفحة 136

بالتعليم القائم في هذه المساجد، وعملت على ترميمه، وعلى إعادة جامعة فاس إلى سابق إشراقها... ومن المؤكد أنه من مصلحتنا ألا يذهب المغاربة للبحث عن هذا النوع من التعليم الإسلامي العالي في الخارج، كالجامع المشهور، جامع الأزهر بالقاهرة209.

وقد حدد السيد مارتي موقف فرنسا من التعليم الأصيل بالمغرب في كتابه (مغرب الغد) الصادر عام 1925: "إنه على الرغم من أن القرويين تجتاز أزمة خانقة، فإنها لن تموت، بل لابد أن تتطور ذاتياً بتأثير الأفكار الواردة من الشرق، وفي هذه الحالة سينقلب الأمر ضد الحماية، وتصبح عاجزة عن التحكم في الأحداث. ولذلك، يجب أن نعمل على تجديد القرويين؛ لأنه إذا لم تفعل ذلك نحن، فإن هذا التجديد الذي تقتضيه الظروف سيتم بدوننا وضدنا ثم يضيف: إن تجديد القرويين سيمكننا من الاحتفاظ في المغرب بأولئك الشبان النازحين من عائلات مرموقة، بدل تركهم يذهبون إلى الشرق لتلقي العلم الذي سيحرمون منه القرويين في حالة عدم تجديدها. ثم يتساءل: ماذا يمكن أن يأتي به هؤلاء الشبان من الشرق؟ ألا يعودون بميول إنجليزية أو بروح النهضة الإسلامية والتعصب الوطني.

... ومن هنا، يتضح أن هذه التدابير المختلفة المقترحة من أجل تجديد القرويين، والخاضعة لمراقبة فرنسية دقيقة، ليست أبداً تدابير ثورية، إنها لا تستهدف غير بعث الحياة القديمة نفسها التي كانت لجامعة القرويين، ولكن بصيغة جديدة، إنها تدابير ستمكننا من توجيه التطور الداخلي لهذه الجامعة، وهو التطور الذي بدأ يعلن عن نفسه منذ الآن. إن المثل القائل: "لا تحرك ساكناً"، هو بكل تأكيد من أحسن المبادئ السياسية. ولكن عندما يتململ النائم، ويهدد بالاستيقاظ، فإن الحكمة تقتضي، ولاشك، ألا يترك الإنسان نفسه يُفاجأ بالأحداث210.   

يتبيّن لنا من خلال هذا النص، أن الإقامة الفرنسية كانت تخاف من ترك جامع القرويين دون إصلاح شكلي؛ لأنها تتخوف من الآثار الثورية الوافدة من الشرق. ويهدد هذا وضعية فرنسا بالمغرب، بانتشار الوعي بين الشعب المغربي. في حين، ما يهم فرنسا هو الحفاظ على أوضاع البلد كما...  

الهواميش:

209محمد جابري:نفسه ص 19

210محمد جابري:نفسه ص20

الصفحة 137

هي. ولا يعني التجديد - هنا عصرنة المواد وتحديثها وتجديدها، بل مجرد إصلاح سطحي، يهدف إلى إعادة جامع القرويين إلى فترتها المعبودة في الماضي، بتلقين المواد الدينية والشرعية واللغوية ليس إلا، وهي مواد لاتحرك الواقع السياسي، ولا تخدمه لامن قريب ولا من بعيد. ومن هنا، فقد كانت سياسية فرنسا في المغرب أن يسعى التعليم إلى المحافظة على القيم الموروثة نفسها لدى المغاربة. وفي هذا النطاق، يقول السيد مارتي: أنه لمن واجبنا، ومن أجل مصلحتنا معا، عندما نوجه مجهوداتنا لاخلال إصلاحات ثقافية في المجتمع المغربي، ألا تعمل على زعزعة هذا المجتمع، وألا نمس تقاليده. يجب أن نعطي لجميع الطبقات " خبر الحياة" (يقصد التعليم) الذي يناسبها والذي هي في حاجة إليه، كما يجب أن نوجه تطور كل من هذه الطبقات في الإطار الخاص بها. هنا كما في بلدان أخرى توجد بروليتاريا بدوية... ولكن ليس لدينا في المغرب بروليتاريا فكرية. فهل هناك آية فائدة في خلق مثل هذه البروليتاريا الفكرية، سواء بالنسبة لمصلحة المجتمع المغربي أم بالنسبة للسيطرة الفرنسية؟ يقبنا، لا. إن عملنا العظيم الذي نقوم به من أجل التجديد الثقافي يجب أن ينحصر فقط ضمن الأطر التقليدية لهذا المجتمع. وسيتوجه نحو البورجوازية التجارية والقروية، نحو موظفي المخزن، نحو رجال الدين ورجال العلم، وبكلمة واحدة النخبة... يجب ألا نخلق- بواسطة التعليم- جماعة من الساخطين المستألين اللامنتمين طبقيا. لتبق أسباد المستقبل، لنجمع بين الصفوة الاجتماعية والنخبة الفكرية، وذلك بمنح التربية الفكرية الرفيعة لأطر المجتمع المغربي وحدها، أولئك الذين يستطيعون استيعابها واستعمالها211.  

وقد التجأت فرنسا إلى إصدار الظهير البربري الذي يهدف إلى تطبيق سياسية فرق تسد، بفصل البرابرة عن إخوانهم العرب، بإنشاء مدارس خاصة للأماريغيين تكون مخالفة للمدارس العربية الإسلامية الأصيلة، والهدف من ذلك كله هو إشعال جذوة العرقية بين سكان المغرب، وإبعاد الأماريغ عن دينهم وعقيدتهم لكي يسهل عليهم تنصيرهم وتدجينهم واستلامهم فكريا وديبيا وحضاريا وثقافيا، وفرنستهم سلوكا وتعاملًا وديانة. وفي هذا النطاق، يقول السيد مارتي: "لقد حصل الاتفاق بين إدارة  

  الهواميش:

211محمد عبد الجابري: نفسه ص 21-20

الصفحة 138

التعليم العمومي وإدارة الشؤون الأهلية، وتحدث بذلك مبادئ سياستنا التعليمية البريوية بكامل الدقة. إن الأمر يتعلق بمدارس فرنسية بريرية تضم صغار البريو، يتلقون فيها تعليما فرنسيا محضا، ويسيطر عليها اتجاه مهني، فلاحي بالخصوص. إن البرنامج الدراسي في هذه المدارس يُشتمل على دراسة تطبيقية للغة الفرنسية، لغة الحديث والكلام، بالإضافة إلى مبادئ الكتابة والحساب البسيط، ونتف من دروس الجغرافيا والتاريخ وقواعد النظافة ودروس الأشياء...إن المدرسة الفرنسية البريوية هي إذا مدرسة فرنسية بالمعلمين، بريرية بالتلاميذ...وليس هناك أي مجال لوسيط أجنبي. إن أي شكل من أشكال تعليم العربية، إن أي تدخل من جانب الفقيه، إن أي مطهر من المظاهر الإسلامية، لن يجد مكانه في هذه المدارس، بل سيقتصى منها جميع ذلك بكل صرامة212.  

ولم يقتصر الأمر على المدارس الابتدائية فقط، بل شمل التعليم الثانوي والجامعي، فتأسست ثانوية أزرو لتدريس البريوية سنة 1931م، وتأسس بالرباط معهد الدراسات المغربية العليا الذي تحول بعد الاستقلال إلى كلية الأداب. وقد كان هذا المعهد يسعى في سنة 1944م بالمدرسة العليا الفرنسية البريوية؛ حيث كان تدرس فيه اللهجات الأمازيغية والفلكلور والإثنوغرافيا على سبيل الخصوص.  

وعلى أي حال، فقد كانت نسبة التعليم في فترة الحماية ضئيلة جدا؛ لأن فرنسا لم تكن تسعى إلى تعميمه، بل كانت تقصره على نخبة معينة من أعوان المستمر. كما كان المغاربة يرفضون التعلم في مدارس المحتل. وفي هذا، يقول محمد عابد الجابري: "إن الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب المغربي قد بقيت طول عهد الحماية بدون تعليم. وإذا كان هذا يرجع، بالدرجة الأولى، إلى تخطيط رجال الحماية، فهو يعود كذلك إلى مقاطعة الشعب المغربي للمدارس التي أنشأتها فرنسا بالمغرب لقد كان جل التلاميذ لإشكالون من إنهاء السلك الذي ينتمون إليه، بل يطرحون أو ينقطعون دون مستوى الشهادة الابتدائية، مما جعل الآباء يدركون أنه لا فائدة في إرسال أبنائهم إلى المدارس، ماداموا سيفادروتها بعد حين دون الحصول على أية مؤهلات تضمن لهم وضعية أفضل عندما يلجون الحياة العملية. اضف إلى ذلك أن مصيرهم بعد التعليم، إذا ما تعلموا، كان حتما  

الهواميش:

212محمد عابد الجابري: نفسه، ص22.  

الصفحة 139

العمل مع سلطات الحماية، إما في الإدارة وإما في المؤسسات الاقتصادية الفرنسية، الشيء الذي كان يؤهلهم لأن يصبحوا متعاونين بشكل أو بأخر مع الحماية الفرنسية، مما كان بعد خيانة وطنية213.  

وهكذا، يتبين لنا أن فرنسا، في عهد الحماية، قد اعتمدت على تعليم طائفي انتقالي للتفوق بين فئات المجتمع الواحد، وإنكاء شطة النزاع العرقي والطائفي والديني.  

المطلب الرابع: نظريـــة البديـــل الوطنـــي

بعد استقلال المغرب سنة 1956م، قرر المغرب تطبيق نظرية البديل الوطني بدل اتباع سياسة المحتل الفرنسي في مجال التعليم. وقد أنشئت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، فعقدت أول اجتماع لها يوم 28% شتير 1957م. وقد أقرت اللجنة المبادئ الأربعة لإصلاح التعليم، وهي: التعميم، والتوجيد، والتعريب، والمغربة. والهدف من هذه المبادئ الأربعة هو تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة214.إن النتائج العملية لحصيلة الحكومات المغربية في السنوات الأولى من الاستقلال في ميدان التعليم، قد جاءت متناقضة مع المذهب التعليمي الذي تم إقراره والذي اعتمدت فيه المبادئ الأربعة (التعميم والتوجيد والتعريب والمغربة) التي حظيت بالإجماع الوطني.ولم تكن الوضعية تخفى على أحد، بل لقد كانت موضوع تشهير من طرف الأحزاب والنفايات واتحاد الطلاب التي ظلت جميعها توظف، بشكل واسع، مشكل التعليم في كفاحها السياسي والنقابي. وعلى الرغم من إنشاء المجلس الأعلى للتربية الوطنية، في يونيه من عام 1958م. والذي كان يتألف من ممثلي وزارة التعليم والوزارات الأخرى المختصة إلى جانب ممثلي القوى الوطنية المذكورة، هذا المجلس الذي أريد منه أن يكون مجلسا تستشيره كافة المراجع العليا في وزارة التربية الوطنية فيما ترمي إلى تحديده من سياسة في ميدان التعليم والثقافة، فإن السياسة التعليمية في المغرب بقيت إلى حدود سنة 1960 خاصة لما يمليه الأمر الواقع وبعبارة أخرى إن المبادئ الأربعة الوطنية لم تعتمد  

الهواميش:

213محمد عابد الجابري: نفسه، ص25

214محمد عابد الجابري: نفسه، ص28

 الصفحة 140

كمبادئ لتخطيط عام إلا مع المخطط الخماسي الأول1964-1964، الذي دشن انطلاقة حقيقية بقيت امتداداتها تنعكس على السنوات اللاحقة حتى بعد أن تم التراجع عنه 215.  

ومن هنا، فإن أول إصلاح تربوي في المغرب بعد الاستقلال كان باسم البديل الوطني، وكان يطرح في طياته إصلاحاً شاملاً قائماً على أربعة مبادئ سياسية تربوية كبرى.  

المطلب الخامس: المذهب التعليمي الجديد أو مذهب بنهمة

بعد أن تحقق تعميم التعليم بالمغرب، وتزايدت أعداد المتعلمين، عجزت الدولة عن تحمل مصاريف هذه الأعداد الضخمة، فأرادت الدولة التراجع عن سياسية التعميم؛ لأن ميزانيتها لا تستطيع أن تتحمل نفقات هذه الأعداد الضخمة من التلاميذ والطلبة، ولم تكن نظرية المبادئ الأربعة واقعية وبراجماتية. فأصدر وزير التعليم آنذاك، في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، بمباركة القصر الملكي، سياسة تعليمية جديدة تسعى بمذهب بنهمة، نسبة إلى وزير التعليم آنذاك الذي عين مباشرة بعد إضرابات التلاميذ بالدار البيضاء. ومعنى ذلك أن الدولة، بمالها القومي المحدود، لا تستطيع أن تلبي جميع حاجيات التعليم؛ لأن تطور عدد المتمدرسين يفوق ميزانية الدولة المحدودة، فأضطرت الدولة إلى سن سياسة تضييق قاعدة المقبولين، وتخفيض عدد التلاميذ، والتوقف عند نسبة معينة من هؤلاء، وإخضاع التعليم للمحك الاقتصادي. لذا، بدأ مذهب بنهمة يتراجع شيئاً فشيئاً عن سياسة تعميم التعليم. كما استطاعت وزارة التعليم، في الفترة نفسها، تعريب التعليم الابتدائي ثم تعريب التعليم الإعدادي والثانوي، رغم أن مغربة الأطر لم تؤتِ أكُلها بعد، فقد استمر كثير من الأجانب في تدريس العلوم، وتسيير الإدارة التربوية. وقد ترتب عن هذه السياسة التعليمية أن ثارت عليها الأحزاب السياسية والنقابات وجمعيات الآباء واتحاد الطلبة، "فاضطرت الحكومة إلى السكوت ... بينما واصلت العمل وفق المخطط الثلاثي، مع التشديد في قبول التلاميذ ...  

الهواميش:

215محمد عبد الجابري: نفسه ص33-32.                                

الصفحة141

الجدد، فكانت النتيجة أن استقر التعليم الابتدائي عند العدد نفسه تقريبا خلال سنوات المخطط 1.124.078 سنة 1966-1965 و1.088.394 سنة 1967-1966 و1.115.634 سنة 1967-1965. أما حجم التعليم الثانوي، فقد عرف بعض الزيادة نظرا لقوافد الأعداد الكبيرة التي تم قبولها في الابتدائي خلال المخطط الخماسي السابق وهكذا، بلغت أعداد التلاميذ في المرحلة الثانوية بسلكيها الإعدادي والثانوي الأحجام التالية:  

179.615 تلاميذا في السنة الأولى من المخطط 210.832 في السنة الموالية و232.050 سنة 1967-1987، بينما سجل التعليم العالي الأعداد التالية خلال سنوات المخطط على التوالي: 6.799 ثم 7.285 ثم7.400طالبا216. 

وعليه، فلقد ارتبط مذهب بنهمية بسياسة التعليم بالتحكم في وتيرة الخريطة المدرسية، وتكيفها مع الفاتورة الاقتصادية وميزانية الدولة، وإن كان ذلك دافعاً مباشراً لانتشار الأمية بالمغرب بسبب تضييق القاعدة الهرمية للخريطة التربوية، وهنا مؤثر بال ريب- في مسار التنمية الحقيقية.

المطلب السادس: مرحلة الأزمات والإصلاحات

شهد التعليم المغربي، منذ استقلاله سنة 1956، مجموعة من الأزمات والاختلالات والتناقضات تطلبت إصلاحات بنيوية وهيكلية مستعجلة جزئياً أو كلياً. من بين هذه الأزمات ازدياد عدد التلاميذ، وقلة المدارس والمؤسسات التربوية، وقلة الأطر المغربية، وفشل سياسة الترجمة والتعريب، وتكاثر نفقات التعليم، وضعف الإنتاج الاقتصادي المغربي، ومحدودية الخريطة المدرسية، وتبعية التعليم المغربي للمنظومة الفرائكفونية، وانتشار الأمية، وتفاقم ظاهرة الهدر المدرسي، وأزمة الفشل الدراسي، وانتشار البطالة، وانفصام النظرية التربوية عن واقع الشغل، وارتفاع فاتورة حرب الصحراء، وتراجع مصداقية الشهادة المغربية مع سنوات الثمانين من القرن الماضي، وتراجع المستوى التعليمي كما وكيفاً.

  الهواميش:

216محمد عبد الجابري: نفسه ص.43-42.                                           

الصفحة 142

مقارنة بالتعليم الخصوصي، وغياب سياسة تعليمية محكمة وجيدة، وضبابية فلسفة التعليم وغاياته، وفشل الإصلاحات التربوية المتعددة، وغياب التحفيز المادي والمعنوي، وانتشار العنف والغش والغياب في المؤسسات التعليمية، وتردي منظومة القيم، واكتظاظ الجامعات بالطلبة والطالبات، والإقبال المتزايد على الشعب الإنسانية والقانونية والاجتماعية، وسد الأبواب أمام خريجي كليات العلوم والهندسة والطب والتقنيات التطبيقية، وأزمة اللامساواة التعليمية الناتجة عن اللامساواة الاجتماعية والطبقية والثقافية...

وفي الوقت نفسه، ثمة ورشات إصلاحية كبرى منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. ويمكن أن نحدد هذه الإصلاحات في ما يلي:

  • إصلاح 1957 الذي استهدف تأسيس المدرسة الوطنية المغربية، وقد ارتبط المنظور الإصلاحي بالمبادئ الأربعة: التعميم، والمغربة، والتوحيد، والتعريب.
  • إصلاح 1985 الذي كان بعنوان(أحمد نظام تربوي جديد) الذي فرضه التقويم الهيكلي والبنك الدولي والتطور التكنولوجي الهائل. وقد اقترن الإصلاح التربوي يتمثل المقارنة بالأهداف السلوكية، ومراجعة الكتب المدرسية، وإعادة النظر في المناهج الدراسية وفي مضامينه، وتنويع التعليم، وتحسين تدريس اللغات، وتعزيز مسلسل التعريب، وإعطاء الأهم للترجمة، وفتح شعبة التبريز لتكوين المدرسين وتقويتهم في المواد العلمية، وتنمية العلوم الرابضية والثقافية، و إحداث مسالك اللغات لتحقيق إصلاح بيداغوجي ناجع.
  • إصلاح 1994الذي استهدف تحديد منظومتنا التربوية والمؤسسات التعليمية، وارتبطت الجودة فيه بمشروع المؤسسة والشراكة التربوية، كما تنص على ذلك المذكرة الوزارية رقم 73 بتاريخ 12 أبريل 1994.
  • إصلاح 2000لم الذي يسعى بالميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي خصص مجاله الثالث للرفع من جودة التربية والتكوين، من حيث المحتوى والمناهج بغية التخفيف والتسيط والمرونة والتكيف. وتتم هذه الجودة بمراجعة البرامج والمناهج، وإعادة النظر في الكتب والمراجع المدرسية والجدول الزمنية والإنقاعات الدراسية، وتقويم أنواع التعلم، وتوجيه المتعلمين. وتهم هذه المراجعة مجموع المؤسسات العمومية

الصفحة143

والخاصة. وينطلق هذا الإصلاح من فلسفة الكفايات والوضعيات البيداغوجية.

وبعد أن اهتمت الوزارة بالجانب الكمي،كتعيم التمدرس، ومحاولة القضاء على الأمية، ومحاربة ظاهرة التسر ب الدراسي، والفشل التربوي، وتعثر التلاميذ على حد سواء، وجدت الوزارة نفسها أمام مشكل عويض يتمتل في تدني مستوى التعليم، وهزالة المردودية، والضعف اللغوي والعلمي والتقني لدى التلميذ، وعدم قدرته على التكيف مع الوضعيات التكنولوجية والإعلامية الجديدة؛ مما دفع الوزارة إلى التفكير في الاهتمام بالجانب الكيفي بدل الاهتمام بالجانب الكمي الذي استنزف أموالاً باهظة من ميزانية الدولة التي وصلت إلى حد 26% من الميزانية العامة للبلاد.وفي هذا الصدد، يقول محمد الدريج: "إن الاتكاب على حل المشاكل الكمية خاصة ما ارتبط منها بالخلل بين العرض والطلب/صعوبات تعميم التعليم وتمويله وترشيد الإنفاق عليه... لا ينبغي أن يشغلنا عن العناية بجودة التعليم، والتي ... تشكل هدفا بهم كل الفاعلين في المجال التربوي-التعليمي على الصعيد العالمي217.

هذا، وترتبط الجودة، في منظومتنا التربوية، بجانبين أساسين هما: جودة الإدارة و جودة المنظومة التربوية وعملياتها التعليمية / التعلمية. ويمكن الذهاب بعيدا إلى أن الجودة لا يمكن تحقيقها إلا في مجتمع ديمقراطي حقوقي وحداثي، يؤمن بالعلم، والنظام، والابتكار، والإبداعية، والعمل الاجتماعي، وتقديس العمل، والثقافي فيه. ويؤمن كذلك بالانفتاح والحوار والمثاقفة، ويسهم في إثراء الحضارة الإنسانية.

ومن جهة أخرى، بعد الميثاق الوطني للتربية والتكوين دستور الإصلاح التربوي في سنوات الألفية الثالثة،ومشكلة يسترشد بها النظام التعليمي في المغرب الجديد؛ إذ جاء ليسابر المستجدات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية التي تعرفها بلادنا، بعد مجموعة من الأزمات التربوية التي دفعت المغرب إلى ضرورة الأخذ بسياسة التقويم الهيكلي، مع منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. وقد نتج عن هذه السياسة

  الهواميش:

217محمد الدريج: مشروع المؤسسة والتجديد التربوي فيالمدرسة المغربية. الجزء الأول،مشورات رمسيس، الرباط،المغرب، الطبعة الأولى، 1996م، ص: 76.

الصفحة 144

ظهور تعليم هش ورديء؛ مما دفع الدولة إلى التفكير في وضع إصلاح تربوي شامل، تشارك فيه لجنة من رجال المقاولة والتعليم الإدارة والمجتمع السياسي والمدني...

ومن المعلم أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين بمثابة منظومة إصلاحية جديدة، تضم مجموعة من المكونات والأليات والمعايير الصالحة لتغيير نظامنا التربوي والتعليمي، وتجدده على جميع الأصعدة المستويات، قصد خلق مؤسسة تعليمية مؤهلة من جهة، وقادرة على المنافسة والانفتاح على المحيط السوسيوقتصادي من جهة أخرى. علاقة على مواكبة كل التطورات الواقعية الموضوعية المستجددة، والتأقلم مع كل التطورات العلمية والتكنولوجية، ولا سيما في مجالات الاتصال والإعلام والاقتصاد.

وبعني هذا أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد جاء ليربط المدرسة والجامعة بمحيطهما السوسيوقتصادي بالانفتاح على العولمة، ومسايرة مستجدات العصر بتملك اللغات الأجنبية، والحفاظ على العربية الفصحى وتطويره، والاهتمام بالإنشاء اللغوية كاالأمازيغية - مثلًا.

ويضاف إلى ذلك أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد ركز كثيرا على الجودة، والتعلم الذاتي، وبيداغوجيا الكفايات، ومدرسة النجاح، والحياة المدرسية السعيدة. كما استهدف تطوير البرامج الدراسية، والعمل على ترقية المناهج الدراسية، والاستفادة من التكنولوجيا الإعلامية، وتكوين المدرسين تكوينا مستمرا، مع تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية. علاقة على ذلك، دعا الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى ترشيد النفقات، وإصلاح الإدارة تخطيطا وتدبيرا وتقويما ومراقبة، مع الأخذ بالشراكة الداخلية والخارجية لتمويل قطاع التعليم.

ولم يتبلور الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المغرب إلا في مارس سنة 1999م، بعد تشكيل لجنة تعنى بالتربية والتكوين، يباشراف المستشارالملكي مزيان بلغتيه، ويقرار من الحسن الثاني، بعد التقرير الشهير للبنك العالمي سنة 1995م. وقد صادق محمد السادس سنة 2000م على مجمل نصوصه التنظيمية والتنفيذية، وقد قبلته بعض القوى

الصفحة145

والأحزاب السياسية الحكومية، واعترضت عليه النقابات التعليمية، والقطاع الطلابي، وبعض الأحزاب السياسية المعارضة.

وقد نظمت وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، في عهد الحبيب المالكي سنة 2005م، ( المشروع الوطني للإصلاح ) لتقويم مسار الميثاق الوطني للتربية والتكوين، فكانت النتيجة أن تعثر الميثاق في عمومه، ولم تطبق منه سوى بعض البنود الشكلية غير الجوهرية. ومع نهاية 2009م، فقد الميثاق الوطني للتربية والتكوين مصداقته الإجرائية، وخبا توجهه الإشعاعي، وظل مجرد طموحات بعيدة التطبيق، وأمل بعيدة المنال، وشعارات سياسية لا صلة لها بالواقع الموضوعي، بل زاد التعليم رداءة وهشاشة وانحطاطا، وتراجع مستوى الشهادة الوطنية، ولا سيما شهادة البكالوريا وشهادة الإجازة. وتضاءلت القدرة التحصيلية لدى المتعلم. وتفاقمت ظاهرة البطالة من سنة إلى أخرى. وتعززت مكانة التعليم الخصوصي، فكانت النتيجة - في الأخير- كارثية بامتياز.

وعليه، بعد الميثاق الوطني للتربية والتكوين مشروعاً إصلاحياً كبيراً، واستراتيجية وطنية أولى بعد الوحدة الترابية، وبعد أيضاً عشرية وطنية (2001-2010) لتحقيق كافة الغايات والأهداف المرسومة لإخراج البلد من شرنقة التخلف والأزمات والركود والرداءة إلى بلد متطور حداثي منفتح، تسوده آليات الديمقراطية والجودة والقدرة على المنافسة والمواكبة الحقيقية. بيد أن هذا الطموح كله لم يتحقق واقعياً بسبب العوائق البيروقراطية، وغياب سياسة إصلاحية صادقة، ونقص الإمكانيات المادية والمالية واللوجستيكية.

ومن هنا، يتكون الميثاق الوطني للتربية والتكوين من قسمين أساسيين: خصص القسم الأول للمرتكزات الثابتة لنظام التربية والتكوين والغايات الكبرى المتوخاة منه، ورصد حقوق وواجبات كل الشركاء، والإحالة على المجهودات الوطنية لإنجاح الإصلاح.

الصفحة146

أما القسم الثاني من الميثاق، فقد خصص لمجالات التجديد ودعامات التغيير. ومن ثم، فقد قسم القسم الثاني إلى ستة مجالات كبرى، وتسع عشرة دعامة للتغيير. وهذه المجالات الستة الأساسية هي:

  • نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي.
  • التنظيم البيداغوجي.
  • الرفع من جودة التربية والتكوين.
  • الموارد البشرية.
  • التسيير والتدبير.
  • الشراكة والتمويل.

ويستند الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى مجموعة من المبادئ والثوابت، كالاهتداء بالعقيدة الإسلامية، والاعتزاز بالروح الوطنية، والانتماء بالملكية الدستورية، والتمسك بالتراث الحضاري والثقافي واللغوي المغربي العربي، والتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، والسعي بالمغرب إلى امتلاك ناصية المعرفة والتكنولوجيا الحديثة. أما عن الغايات الكبرى، فتتمثل في جعل المتعلم محور الإصلاح والتغيير، برفع مستواه التحصيلي والمعرفي والمهاري، بتلبية حاجياته الذهنية والوجدانية والحركية، والعمل على تكوين أطر مستقبلية مؤهلة ومؤطرة كفأة قادرة على الإبداع والتجديد وتنمية البلاد.

وتسعى بنود الميثاق أيضاً إلى جعل المدرسة المغربية مدرسة منفتحة سعيدة مفعمة بالحياة والتنشيط، وجعل الجامعة كذلك جامعة منفتحة، وقاطرة فعالة ومحركة للتنمية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تكون المؤسسات التربوية، سواء أكانت مدارس أم جامعات، أفضية للحريات والحقوق الإنسانية، وأمكنة للحوار والتعلم الذاتي. ولابد أن تدخل المؤسسات التربوية والتعليمية في شراكات حقيقية مع الجماعات المحلية

الصفحة147

والأباء وأولياء الأمور والشركاء الآخرين بغية المساهمة في النهوض بالقطاع التعليمي، وتحقيق الجودة والتعميم وإجبارية التمدرس. ومن ثم، يعد الإصلاح التربوي المغربي ميثاقاً وطنياً شاملاً ذا أهمية وطنية كبرى، يحقق نتائجه بشكل مرحلي متدرج خاضع للمراقبة والتقويم والتتبع.

ويهدف الميثاق الوطني للتربية والتكوين، في مجاله الأول، إلى نشر التعليم في مختلف أرجاء الوطن، وربطه بالمحيط الاجتماعي والاقتصادي، بتعميم تعليم جيد في مدرسة متعددة الأساليب، ومحاربة الأمية في إطار التربية غير النظامية للقضاء عليها تدريجياً في 2010 (نسبة 20%)، وبشكل نهائي في 2015 بنسبة 100%. وبطبيعة الحال، لن يتم ذلك إلا في إطار اللامركزية، وتحقيق الشراكة في مجال التربية بين القطاعين: العام والخاص، وبين المدرسة من جهة، والمجتمع المدني والسلطات المحلية والمجتمع السياسي والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية من جهة أخرى، مع توظيف الإعلام المرئي لتحقيق الأهداف المسطرة للقضاء كلها على الأمية بكل أنواعها. فضلاً عن خلق تآزر أكبر بين النظام التربوي والمحيط الاقتصادي بواسطة الاندماج المتبادل بين المؤسسة التعليمية والمحيط البيئي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمهني، أو عبر الانفتاح الوظيفي على الحياة العملية وآفاق الإبداع، إما بواسطة التمرس والتكوين بالتناوب، وإما عن طريق التكوين المستمر.

ويسهدف المجال الثاني إصلاح التنظيم البيداغوجي وتغييره، بإعادة الهيكلة، وتنظيم أطوار التربية والتكوين ابتداءً من التعليم الأولي والابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي والجامعي، بتنظيم أسلاك التعليم وشعبه ومسالكه وأهدافه ومضامينه وأساليب تقويمه، مع مراعاة تطوير التعليم الأصيل، والتكفل بذوي الحاجيات الخاصة، والعناية بأبناء الجالية في الخارج، والاهتمام باليهود المغاربة. كما يستتبع الإصلاح البيداغوجي إصلاح أنظمة التقويم والمراقبة المستمرة والتتبع والمراقبة، بموازاة مع إصلاح التوجيه التربوي والمهني.

أما المجال الثالث من الإصلاح، فيسعى إلى الرفع من جودة التربية والتكوين، بمراجعة البرامج والمناهج والكتب المدرسية والوسائط

التعليمية، مع العمل على تدبير استعمالات الزمن والإيقاعات المدرسية والبيداغوجية بشكل أفضل، وتحسين تدريس اللغة الأمازيغية واستعمالها، وإتقان اللغات الأجنبية من أجل امتلاك مفاتيح العلم والمعرفة والتكنولوجيا، والتمسك بالأمازيغية لمعرفة مكونات الهوية الثقافية والحضارية. دون أن ننسى الاستعمال الأمثل والوظيفي للتكنولوجيات الجديدة والإعلام والتواصل، وتشجيع الإبداع والتجديد والبحث العلمي، وإنعاش الأنشطة الرياضية والتربية البدنية المدرسية والجامعية والأنشطة الموازية.

وفي المجال الرابع الخاص بالموارد البشرية، انصب الاهتمام على تحفيز الموارد البشرية، مع تكوينها تكويناً جيداً وكفائياً، وتيسير وضعيات عملها، ومراجعة مقاييس التوظيف والتقويم والترقية، مع تحسين الظروف المادية والاجتماعية للمتعلمين، والعناية بالأشخاص ذوي الحاجيات الخاصة، ولاسيما المعوقين منهم.

وفي المجال الخامس المتعلق بالتسيير والتدبير، فقد دعا الميثاق الوطني إلى سن سياسة اللامركزية، وإقرار اللامركزية في قطاع التربية والتكوين، وتحسين التدبير العام، وتقويمه بطريقة مستمرة، وتوجيهه وجهة حسنة ومحكمة اعتماداً على سياسة التدبير، ومحاربة الإسراف والتبذير، وترشيد النفقات، والتحكم في الإنفاق بانتهاج الشفافية والمحاسبة والديمقراطية، وتطبيق سياسة التوازن بين الموارد والمصاريف. كما دعا المجال كذلك إلى تنويع أنماط البنايات والتجهيزات، وضبط معاييرها، والتثبت من مدى ملاءمتها لمحيطها، وترشيد استغلالها، والتأكد من حسن تسييرها.

ويتعلق المجال السادس والأخير بمجال الشراكة والتمويل، بتشجيع قطاع التعليم الخاص، وضبط معاييره، وتسييره، ومنح الاعتماد لذوي الاستحقاق، وتعبئة موارد التمويل، وترشيد تدبيرها.

وبناء على ما سبق، فالميثاق الوطني للتربية والتكوين - الذي انطلق به المغرب مع بداية الألفية الثالثة- مخطط مستقبلي متقن من حيث المبادئ والتصورات؛ لأنه يحمل في طياته مجموعة من الشعارات القيمة، والمبادئ التربوية الجيدة، ويتضمن كذلك فلسفة نظرية رائدة بامتياز. بيد

الصفحة149

أن المشكل هو عدم تنفيذه ميدانياً، ولم يطبق في كل تفاصيله العامة، بل ركز المسؤولون على بعض الدعامات الجزئية الثانوية الشكلية، دون أجرأة جوهر الميثاق الوطني بشكل كلي. ومن ثم، فقد بقي الميثاق حبراً على ورق، وتعثر تطبيقه بشكل تدريجي. وقد كان في الحقيقة مصدراً من مصادر المخطط الاستعجالي الذي تبنتْه وزارة التربية والتعليم بالمغرب بين 2009 و2012، ويعود السبب في فشل هذا الميثاق إلى غياب إستراتيجية تنفيذية لدى الوزارة، وغياب الإمكانيات المادية والمالية لتجسيده في أرض الواقع، وغياب الكفاءات، وانعدام المقاربة الديمقراطية التشاركية؛ إذ تصدر القرارات التربوية والإدارية دائماً من مكاتب السلطة المركزية العليا، ولا يشارك فيها المتعلمون والمدرسون بشكل حقيقي.  

وترتب عن هذا إخفاق نظرية الجودة، والتراجع عن نظرية الأهداف، والتخلي عن بيداغوجيا الكفايات والإدماج. ومن ثم، لم تنجح مدرسة النجاح، ولا مدرسة المشاريع المؤسساتية، ولم تفلح أيضاً مدرسة الشراكة والانفتاح على المحيط الخارجي، ولم تتجسد كذلك الحياة المدرسية في مؤسساتنا التعليمية، بل أصبحت المؤسسات التربوية هياكل "بيروقراطية" قاسية، ومؤسسات فارغة، تؤمن بالكم على حساب الكيف.

المطلب السابع: مرحلة الإنقاذ أو مرحلة المخطط الاستعجالي

من المعروف لدى الجميع أن المنظومة التربوية التعليمية المغربية تعاني من الضعف والمياشاة والتخلف والتردي، على الرغم من أن قطاع التعليم يستحوذ على نسبة 26% من ميزانية الدولة. أي: ما يفوق 37 مليار درهم سنة 2008م. وبهذا، تشكل هذه الميزانية 6% من الناتج الداخلي الخام. كما تمثل ربع ميزانية الدولة. ومن ثم، يصرف تسعون في المائة (90%) من ميزانية التعليم في أداء الأجور، بينما يخصص الباقي للتسيير والتجهيز والاستثمار. كما تنفق الدولة حوالي 600 دولار على كل مواطن إلى حدود 21 سنة. في حين، تصل النسبة إلى 1020 دولار في تونس، و1600 دولار في جنوب أفريقيا، و950 دولار في الأردن. وبدلاً من هذا، يظل المؤشر التربوي المغربي ضعيفاً مقارنة بالمعدلات المسجلة في بلدان أخرى مماثلة.   

الصفحة150     

وعلى الرغم من هذه المعطيات الإحصائية والأرقام الرسمية التي تبين ما يخصصه المغرب من موارد مالية تُصرف بسخاء على المنظومة التعليمية والتربوية، فإن التعليم المغربي يعرف أزمات خانقة ومشاكل عديدة على جميع المستويات والأصعدة؛ مما جعله يحتل مراتب متأخرة، ويتبوأ مكانة متدنية بين دول العالم في مجال التنمية البشرية بصفة عامة، وفي مجال التربية والتعليم بصفة خاصة.  

وقد شهد المغرب، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، العديد من الإصلاحات التربوية والتعليمية، إلا أن جل هذه الإصلاحات قد باءت بالفشل بسبب قلة الموارد المالية والمادية والبشرية، وعدم قدرة المسؤولين عن القطاع التربوي على تفعيل بنود الإصلاح ميدانياً، والعجز عن تطبيقها واقعياً. ومن ثم، فقد تراجعت الدولة في كثير من الأحيان عن تنفيذ توصيات الإصلاح، وأجرأة قراراته عملياً،وانعدام الانخراط الجماعي من أجل تمثل الإصلاحات البنيوية الجوهرية، واستيعابها تطبيقاً وممارسة وتجريباً، مع النزول بها إلى أرض الواقع لاختبار فرضياتها، وجني ثمارها.  

ومن هنا، فالمخطط أو البرنامج الاستعجالي هو عبارة عن خطة إنقاذ للنسق التربوي التعليمي المغربي من الأزمات العديدة التي كان يتخبط فيها. ويستند، في جوهره، إلى مبدأين أساسيين: المبدأ الأول يكمن في التخطيط المبرمج الذي يتسم بالتدقيق والتركيز،والانتقاء، والفاعلية، والإجرائية، والبراغماتية، وقابلية التنفيذ... والمبدأ الثاني يتضح جلياً في التنفيذ الفوري للبرنامج، والتسريع في تطبيقه، وترجمته ميدانياً وواقعياً، دون تردد ولا إبطاء ولا تأخير، حتى لو تحقق ذلك التطبيق عبر فترات متعاقبة، وتم تنفيذه بشكل استعجالي متدرج عبر سنوات دراسية متوالية. لأن برنامج إصلاح التربية والتعليم هو برنامج بشري تنموي، تظهر نتائجه عبر فترات بعيدة. وإن أي استعجال لا يصاحبه دراسات متأنية، ووضع مخططات علمية إستراتيجية، فإنه ينتج عنه كوارث وأزمات ومشكلات عويصة من الصعب أن يتحملها الجميع، كما هو حال المشاريع التربوية الوزارية السابقة. ومن ثم، يقول وزير التعليم المغربي أحمد أخشيش: "الزمن المدرسي زمن بطيء، على اعتبار أن إدخال أي تدبير  

الصفحة151

يستغرق مدة من الزمن. وهذا يجعل كذلك محاسبة نجاح أو فشل العمليات الإصلاحية يتعدى الزمن السياسي والحكومي، بل إن النتائج الفعلية لن تظهر إلا بعد عشر أو خمس عشرة سنة118.

ومن هنا، فالمخطط الاستعجالي- حسب وزير أحمد أخشيشن- هو عبارة عن رؤية متكاملة قابلة للإنجاز في ظرف وجيز.ومن هنا، فالمخطط الاستعجالي بمثابة خارطة طريق تحدد الخطوات العملية التي يجب الالتزام بها من أجل إصلاح المنظومة التعليمية المغربية، وإعادة الثقة إلى المدرسة العمومية لكي تكون - فعلاً - مدرسة النجاح، ومدرسة الحداثة، ومدرسة المستقبل التنموي. ويمكن النظر إلى هذا المخطط الاستعجالي أيضاً بمثابة ميثاق وطني ثان للتربية والتكوين، يعتمد، في قراراته ومبادئه، على نتائج تقرير المجلس الأعلى للتعليم لسنة 2008م.

وبعد فشل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ارتأت وزارة التربية الوطنية تجاوز هذا الميثاق للأخذ بسياسة المخطط الاستعجالي الذي امتد من سنة 2009م. وتتمثل الأسباب الخاصة التي كانت وراء وضع المخطط الاستعجالي الوطني، في مجال التربية والتعليم، في فشل الإصلاحات التعليمية السابقة، وكساد النظريات التربوية على مستوى التنظير والتطبيق، إما بسبب شعاراتها السياسية الجوفاء والفضفاضة، وإما لأنها نظريات جاهزة، يحاول المسؤولون استنباتها في تربة مغايرة للتربة التي ظهرت فيها هذه النظريات. ومن بين هذه النظريات والشعارات: مبدأ تعميم التمدرس، والدعوة إلى مجانية المدرسة، وتوحيد المدرسة المغربية، والحدّ من تطبيق نظرية الأهداف، والأخذ بالنظرية التداولية، والانخراط بنظرية الجودة، والدعوة إلى تمثل نظرية الشراكة، واستلهام نظرية مشروع المؤسسة، واستنبات نظرية الكفايات، وتمثل نظرية الإدماج، 

الهواميش:

   118 أحمد خشيشن: لمردودية الضعيفة للمدرسة المغربية، حوار، مجلة علوم التربية، العدد التاسع والتلاتون،يناير2009م،ص:445.      

الصفحة 152

والالتزام - أخيراً - بخصخصة المقررات الدراسية، وتحريرها تجارياً في ضوء الانضباط بمقررات دفتر التحملات...

...بالإضافة إلى فشل وزارة التربية الوطنية في تطبيق بنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي أصبحت مقرراته منسية، وحبراً على ورق، على الرغم من طموحها الكبير. ولم يتم تنفيذ معظم تعهدات الميثاق، إلى حد الآن، لعوامل ذاتية وموضوعية. ناهيك عن تردي المدرسة المغربية هيكلياً ووظيفياً، وضعف مردوديتها الإنتاجية، وتخلف معطياتها المعرفية والديداكتيكية والبيداغوجية، وتفسخ منظومة القيم التربوية، وفشل هذه المدرسة في استقطاب التلاميذ الذين بدأوا يغادرون المدرسة العمومية نحو المدرسة الخصوصية بشكل لافت للانتباه. كما أصبحت المدرسة الخصوصية، بدورها، مؤسسة تجارية، ليس لها من هم سوى تحقيق المكاسب المادية، وجني الأرباح الطائلة على حساب الأهداف النبيلة التي يرجوها المجتمع المغربي من منظومة التربية والتعليم. بالإضافة إلى تلك الأسباب، نذكر ضعف المدرسة المغربية التي لم تستجب لطموحات الشعب المغربي، ولم تساير متطلبات الاقتصاد الوطني، ولم توفر أطراً مؤهلة لإرضاء سوق التشغيل، ولم تشبع رغبات التلاميذ. ومن ثم، لم يجد فيها المواطن المغربي فضاءً لتوطيد الديمقراطية الحقة تعليماً وتعلماً واستحقاقاً. ولم يجد فيها أيضاً العدالة الاجتماعية المشروعة، بل صارت مدرسة للصراع الاجتماعي، والتفاوت الطبقي، والتنافس غير المشروع. وأكثر من هذا يتخرج من هذه المدرسة، كل سنة، آلاف من الطلبة غير مؤهلين وظيفياً من جهة، أو مؤهلين بدبلومات نظرية لا تحتاجها السوق الوطنية من جهة أخرى.

ومن الأسباب الأخرى التي كانت وراء تعثر المدرسة المغربية ظاهرة الهدر المدرسي؛ حيث ينقطع أكثر من 380 ألف طفل عن المدرسة سنوياً قبل بلوغ 15 سنة عام 2006م. أي: بنسبة تقدر بـ40%، ويعاكس هذا الرقم فلسفة الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي ينص على تعميم التعليم، والقضاء على الأمية نهائياً في 2015م. في حين، نجد العكس هو الصحيح، فالتلاميذ يغادرون الفصول الدراسية كل عام عن إرادة شخصية، وعن اقتناع وطواعية، وأيضاً بمباركة الأسرة وتشجيعها؛ لأن المدرسة المغربية لا تحقق المستقبل للمواطن المغربي بأي شكل من 

الصفحة153

الأشكال. وبالتالي، لا تضمن الشغل، ولا تعطي الخبرة، ولا توفر الأمان، ولا تحقق الاستقرار المادي والمعنوي. ومن هنا، فقد وجدنا المؤسسات التعليمية المغربية - اليوم - غاصة بالإناث على حساب الذكور، أولئك الذين بدأوا يغادرونها بحثاً عن العمل، أو استعداداً للهجرة إلى الضفة الأخرى. وسينتج عن هذا في المستقبل- بلا ريب- أزمات خانقة، كاستفحال ظاهرة البطالة، وقلة الموارد البشرية ذات الكفاءة، وتفاقم ظاهرة العنوسة بين الإناث، وانتشار الإجرام بين الذكور.

وإلى جانب الهدر المدرسي، هناك ظاهرة خطيرة أخرى تؤثر في ميزانية الدولة هي ظاهرة التكرار التي بدأت تزداد كل سنة بنسبة عالية (13%) في السلك الابتدائي، و(17%) في الثانوي مع نسبة مرتفعة تتجاوز (30%) في الثالثة إعدادي والسنة الثانية من البكالوريا. بينما يلاحظ أن التكرار في البلدان المتقدمة ممنوع بموجب القانون.

ومن ناحية أخرى، ينتج هذا التكرار، في الحقيقة، عن تردي المنظومة التربوية عموماً، تلك المنظومة التي تضم في مؤسساتها أزيد من 6 ملايين و535 ألف متعلم. ناهيك عن ضعف مردودية التعليم معرفياً ومهارياً وديداكتيكياً وبيداغوجياً ونفسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، وضعف التكوين عند المدرسين الذين يقدر عددهم بـ220 ألف. بينما الوزارة لا تخصص لتكوينهم البيداغوجي سوى أربعة وثمانين مليون درهم حسب إحصائيات سنة 2007م. وهذا المبلغ المالي في الواقع ضعيف مقارنة بالعدد الهائل من رجال التعليم الذين هم في حاجة ماسة إلى التكوين التربوي والتأطير المعرفي والثقافي.

ولا ننسى أيضاً الوضعية المتدهورة للمؤسسات التربوية والتعليمية على مستوى البنيات والتجهيزات، فالقاعات غير الصالحة تفوق تسعة آلاف قاعة. كما أن 60% من المدارس الموجودة بالأرياف غير مرتبطة بشبكة الكهرباء، وأكثر من 75% من هذه المؤسسات لا ماء فيها. في حين، إن 80% ليس لها دورات مياه. ويلاحظ أيضاً قلة المؤسسات التربوية المشيدة من قبل الدولة، فالحاجة إلى الفصول الإعدادية- مثلاً - تصل إلى 260 مؤسسة سنوياً، بينما لا تبني منها الدولة سوى 90 كل سنة.

الصفحة154

أضف إلى ذلك عدم قدرتها على استيعاب العدد الهائل من التلاميذ الذين يترددون كل سنة؛ مما يسبب ذلك في ظاهرة الاكتظاظ الصفي (41 تلميذاً في كل فصل). علاوة على ذلك، نشير إلى ظاهرة انتشار الأساتذة الأشباح الذين يتهربون من مهمة التدريس لأسباب عدة، كالتظاهر بالأمراض المزمنة، والاستفادة من العلاقات الإخوانية والزبونية المبرمة مع المسؤولين عن القطاع، وإرغام الإدارة على قبول المطالب النقابية، ونهج سياسة التغيب المفتعل... كما يلاحظ أيضاً استفحال ظاهرة غياب رجال التعليم بشكل مبرر أو غير مبرر، فقد أحصت الوزارة بخصوص الغياب المبرر بشواهد طبية حوالي مليون و880 ألف يوم في السنة. وبالتالي، لا يمكن أن تتحقق المردودية التعليمية والجودة التربوية بغياب الفاعلين التربويين الأساسيين.

ومن الأسباب الأخرى التي كانت وراء وضع هذا المخطط، عدم قدرة المنظومة التعليمية المغربية على التعاطي مع مستجدات الثورة الإعلامية والرقمية، وغياب التكوين المستمر للمدرسين ورجال الإدارة. ولا غرو إذا وجدنا وزارة التربية الوطنية المغربية توظف مجموعة من المدرسين، دون تأهيلهم تأهيلاً بيداغوجياً وديداكتيكياً، أو تكوينهم تكوينا سريعاً لا يحقق النجاعة الحقيقية، ولا يعطي

الثمار المرجوة داخل القسم الصفي. ولا ننسى أيضاً عدم تجديد وسائل العمل الديداكتيكي والبيداغوجي داخل الفضاء المدرسي. ويمكن الإشارة كذلك إلى نقص على مستوى التأطير والإشراف، وخصاص على مستوى الأطر التربوية، سواء أكان ذلك في القطاع المدرسي أم في قطاع التعليم العالي، وخاصة بعد تطبيق عملية المغادرة الطوعية سنة 2005، وعدم انضباط رجال التعليم واحترامهم لساعات العمل، حيث إن أكثر من 37% من أساتذة التعليم الإعدادي لا يمارسون فعلياً ساعات العمل المحددة في 24 ساعة في الأسبوع. أما أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي، فإن 16% منهم لا يحترمون ساعات العمل المحددة في 21 ساعة في الأسبوع. وهناك أيضاً خصاص على مستوى رجال الإدارة، فلدى الوزارة الوصية ما يقارب 300 منصب مدير شاغر.

وعلى المستوى الجامعي، يبرز مشكل الاكتظاظ بشكل لافت للانتباه، باعتباره معضلة كبيرة، ومشكلاً حاداً، حيث تفوق نسبة التأطير معدل 85

للصفحة155

طالباً لكل أستاذ جامعي، مع ملاحظة غياب التوازن بين المسالك العلمية والتكوينية والأدبية، وتفاقم ظاهرة الخصاص في الموارد البشرية.

وعلى الصعيد الخارجي والدولي، فهناك مجموعة من التقارير الدولية التي ترتب المغرب ضمن الدول المتخلفة الفقيرة، حيث تنتشر فيه الكثير من الآفات السلبية الخطيرة، كالفقر، والرشوة، والمتاجرة في المخدرات، وزيف الانتخابات، وانتشار الأمية، واستفحال ظاهرة الدعارة، وكثرة حوادث السير، وعدم وجود ديمقراطية حقة، والاستهانة بحقوق الإنسان المشروعة الطبيعية والمكتسبة. ومن ثم، أصبح المغرب بلد الأزمات والمفاسد والكوارث سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتربوياً وأخلاقياً. وهكذا، يتأرجح المغرب على مستوى التنمية البشرية العالمية بين الرتبتين 126 و130، قياساً على الأوضاع المتدهورة التي يعرفها البلد على مستوى الدخل الفردي والصحة والتعليم. بالإضافة إلى أوضاع حقوقية وتربوية واجتماعية وإنسانية منحطة في مجتمع منحط بدوره. ومن ثم، فقد وضع تقرير التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المغرب، على صعيد التربية والتعليم، في مرتبة عربية وإسلامية متأخرة ومتخلفة (المرتبة 11 من مجموع 14 دولة). أي: قبل العراق، واليمن، والصومال الفرنسية (جيبوتي)، بينما تحتل الأردن، والكويت، وتونس، ولبنان، وإيران، المراتب الأولى. في حين، تحتل مصر، وفلسطين (بما فيها غزة المحاصرة)، والجزائر، وسوريا، والسعودية، مراتب متوسطة119.

هذا، وبدأت وزارة التربية الوطنية في تنفيذ المخطط الاستعجالي مبدئياً من الدخول المدرسي لسنة 2009م بتنفيذ مجموعة من القرارات الأولية، وإصدار مجموعة من المذكرات الوزارية الممهدة لتفعيل المخطط الاستعجالي في مجال التربية والتعليم. وتتعلق هذه المذكرات بالإلحاح على الدخول المبكر إلى المدارس التعليمية، وتوحيد الزي المدرسي، وتغيير الزمن المدرسي، وتنظيم إيقاعاته الصفية في المدارس الابتدائية.

الهواميش:

119انظر تقرير: التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: الطريق المسلوك:إصلاح التعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: ملخص تنفيذي: البنك الدولي بواشنطن.

الصفحة156

والدعوة إلى مدرسة النجاح، وتكوين الأساتذة في بيداغوجيا الإدماج، وتكوين رجال الإدارة في مجال التدبير والتسيير، وتأهيل الأساتذة في مجال الإعلاميات ضمن مشروع جيني (Génie)، وتوزيع مليون محفظة، واستحداث بعض الكتب المدرسية، مع تغيير البعض منها (كتب التربية الإسلامية - مثلاً)، وحذف بعض الدروس الصعبة من المقررات الدراسية (حذف بعض دروس قواعد اللغة من كتب العربية بالتعليم الإعدادي والتأهيلي)، وإصدار مذكرة المرشد التربوي لمساعدة المفتش أو المشرف المؤطر بسبب تقلص عدد المفتشين داخل المنظومة التربوية.

وقد شرعت الوزارة في التطبيق الفعلي الحقيقي للمخطط الاستعجالي بتنفيذ الميزانية المالية لسنة 2010م، ليستمر هذا المخطط الاستعجالي الإصلاحي إلى غاية 2012م.

ويستند المخطط الاستعجالي، في مبادئه وقراراته، إلى مجموعة من المرجعيات الأساسية والمصادر المباشرة وغير المباشرة. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى نتائج التقارير الدولية، وتوصياتها الملحة حول ضرورة إصلاح المنظومة التربوية المغربية، ومرتكزات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وقرارات المجلس الأعلى للتعليم، وتصورات وزارة التربية الوطنية النظرية والتطبيقية، وقرارات الحكومات المغربية المتعاقبة على السلطة إلى يومنا هذا، وما قرره التصريح الحكومي الأخير من مبادئ إصلاحية استعجالية، ونداءات الأحزاب السياسية، ومطالب النقابات التعليمية، ومستلزمات الاقتصاد الوطني والدولي، وتوصيات القصر الملكي وتوجيهاته النبيلة، ومساعي البرلمان لإيجاد تعليم مغربي متقدم ومزدهر.

وقد قررت وزارة التربية الوطنية، في إرساء مخططها الاستعجالي لإنقاذ المنظومة التربوية وإصلاحها، أن تعتمد، أولاً على ميزانية الدولة المخصصة لقطاع التعليم. وتستعين، ثانياً، بما يخصص لها من نفقات وموارد إضافية. وثالثاً، على ما تحصل عليه من مساعدات أخرى عن طريق الشراكات الداخلية (الجماعات المحلية وعدد من الفرقاء)، وربما عبر الشراكات الخارجية. وستلجأ، رابعاً، إن أمكن لها ذلك، إلى

الصفحة157

الاستعانة بالقروض الدولية لتفعيل هذا المشروع التربوي الجبار والطموح. كما يستفيد هذا المخطط الاستعجالي من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بتوزيع مليون حقيبة على المتعلمين المعوزين من أجل تسجيل نسبة كبيرة من التلاميذ المستفيدين.

وهكذا، فلقد استفاد المخطط الاستعجالي بميزانية تقدر بـ33 مليار درهم؛ إذ إن جزءاً كبيراً منها وفرته الدولة. وقد طبق هذا المشروع الاستعجالي عبر التدرج، بطريقة تنفيذية عمودية من الأعلى نحو الأسفل، واعتمدت الوزارة في التطبيق على مجموعة من الآليات، مثل: الحوار، والانخراط الجماعي، والمشاركة، والتعاقد، واللاتمركز، والاجتهاد، والمرونة، والفعل، والتقويم، والمراجعة.

وقررت وزارة التربية الوطنية، في برنامجها التربوي الاستعجالي، أن تنفذ مجموعة من الإجراءات الفورية قصد إنقاذ المنظومة التعليمية من مهاوي الضعف والسقوط والتردي، يتمثل في تطبيق نتائج التقارير الدولية في ما يخص تقويم المنظومة التربوية المغربية، وتطبيق اقتراحاتها السديدة، واستيعاب توصياتها الواردة، مع العمل على تنفيذ أولويات المدرسة المغربية، كما حددها المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008م220. ومن بين القرارات الاستعجالية الآنية والمرحلية:

  • محاربة ظاهرة الاكتظاظ، بتشييد البنايات المدرسية، والاقتناء المرحلي لفضاءات تعليمية، أو كرائها على غرار دولة الأردن.
  • إدخال المعلوماتية إلى المدرسة المغربية من أجل عقلنة المنظومة التربوية، وحوسبة الإدارة للتحكم في التسيير والتخطيط.
  • التصدي لضعف الكفاءة التربوية عند ولوج مهنة التعليم، بمراجعة المسارات التكوينية، وتطبيق نظام (ADT) الذي يسمح بالتعاقد مع المدرسين الحاصلين على الإجازة، وخاصة الذين لهم تكوين بيداغوجي أو

الهواميش:

220انظر المجلس الأعلى للتعليم: حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها، **التقرير السنوي**، الطبعة الأولى سنة 2008م.

الصفحة158

تربوي مسبق، يؤهلهم للاشتغال في القطاع العام أو الخاص أو في المقاولات.

  • فتح مسلك مهني جامعي في مجال التربية والتعليم يوفر الطاقات المحترفة والمتميزة لممارسة مهنة التعليم.
  • وضع مخطط سنوي لتكوين المدرسين تكويناً مستمراً في ما استجد من معارف ونظريات وتقنيات.
  • وضع تصور أولي حول إطار تنظيمي لعمل النقابات الذي تحتاج إليه الوزارة، وينبغي أن يقوم على الانتشار والتعاقد والتمثيلية.
  • إصلاح أوضاع المدرسة في العالم القروي.
  • توزيع مليون حقيبة على المتعلمين.
  • رفع ميزانية المؤسسات التربوية في إطار مشروع مدرسة النجاح للتحكم في عمليات التدبير والتخطيط.
  • تحفيز رجال التربية والإدارة والتفتيش التربوي على العمل والعطاء المثمر مادياً ومعنوياً.
  • تقوية آليات التأطير والتفتيش التربوي بخلق إطار مرشد تربوي.
  • تشجيع الإبداع والبحث العلمي في المنظومتين التأهيلية والجامعية.
  • التفكير في مسالك جامعية خاصة بتدبير المؤسسات التربوية.
  • ضرورة استقلالية الجامعة المغربية على مستوى اختياراتها الأساسية وعلى المستوى التربوي.
  • تعميم التمدرس حتى خمس عشرة سنة للحد من الأمية، والتحكم في الهدر المدرسي.

ومن جهة أخرى، يهدف المخطط الاستعجالي الذي وضعته وزارة التربية الوطنية المغربية - بصفة أساسية - إلى توفير الفضاءات الكافية لاستيعاب المتعلمين والمتمدرسين المغاربة. أي: ضمان استقرار المدرسة بإيجاد البنايات التعليمية ببنائها أو اقتنائها أو كرائها، مع توفير الماء والكهرباء والهاتف. ولا يتم تنفيذ مشاريع بناء المؤسسات التعليمية إلا عبر صفقات مضبوطة بدفاتر تحملات واضحة.

الصفحة159

ومن جهة ثانية، توفير الأساتذة الأكفاء والأطر المجتهدة المتميزة لتحقيق المردودية التعليمية.

وثالثاً، استقطاب جميع التلاميذ للانخراط بالمؤسسات التعليمية في أجواء تربوية مفعمة بالسعادة والطمأنينة والاستقرار. أي: يكون حضور التلاميذ إلى المدرسة بشكل مكثف بغية القضاء على الأمية، والحد من الهدر المدرسي. ويعني هذا أن المشروع الاستعجالي قد جاء لتحقيق أهداف جوهرية ثلاثة: إعداد المدرسة، وتكوين المدرس، وجلب التلميذ إلى المدرسة.

  • وقد حدد وزير التربية الوطنية أحمد أخشيشن مخططه الاستعجالي (2009-2012) في أربعة مجالات أساسية هي:
  • مجال التحقيق الفعلي لإلزامية التعليم إلى حدود خمس عشرة سنة.
  • مجال تحفيز المبادرات والامتياز في الثانوية التأهيلية والجامعة.
  • مجال معالجة الإشكالات الأفقية الحاسمة للمنظومة التربوية.
  • مجال توفير الموارد اللازمة للنجاح.

وقد استهدف المخطط أيضاً العمل على تنفيذ ثلاثة وعشرين مشروعاً، وهي: تطوير التعليم الأولي، وتوسيع العرض التربوي للتعليم الإلزامي، وتأهيل المؤسسات التعليمية، وضمان تكافؤ فرص ولوج التعليم الإلزامي، ومحاربة ظاهرتي التكرار والانقطاع عن الدراسة، وتنمية مقاربة النوع في المنظومة التربوية، وإدماج الأطفال ذوي الحاجيات الخاصة، والتركيز على المعارف والكفايات الأساسية (القراءة، والكتابة، والحساب، والسلوك المدني...)، وتحسين جودة الحياة المدرسية، وإرساء مدرسة الاحترام، وتأهيل العرض التربوي في الثانوي التأهيلي (فتح مسالك وشعب جديدة، وتشجيع التميز)، وتحسين العرض التربوي في التعليم العالي (توحيد التكوينات والمسالك والشهادات)، وتشجيع البحث العلمي، وتعزيز كفاءات الأطر التربوية، وتطوير آليات تتبع الأطر التربوية وتقويمها، وترشيد الموارد البشرية للمنظومة وتدبيرها، واستكمال ورش

الصفحة 160

تطبيق اللامركزية واللانتركيز، وترشيد هيكلة الوزارة، وتحسين المنظومة التربوية تخطيطا وتدبيرا،وتعزيز التحكم في اللغات، ووضع نظام ناجع للإعلام والتوجيه، وتوفير الموارد المالية اللازمة وترشيدها من أجل نجاح المخطط الاستعجالي وضمان استدامته، وتحقيق أعلى مستويات التعينة والتواصل حول المدرسة.

إلا أن هذه الأهداف العظيمة والكبرى لم تتحقق فعليا في الواقع الميداني، وأصبح هذا المخطط "الاستعجالي" بنقصه الاستعجال، ويعلني البطء الكبير. ناهيك عن التعثر المستديم ، والبيروقراطية المترامية الأطراف، والعشوائية المرتجلة في التنفيذ والتطبيق، وكثرة الإضرابات في قطاع التعليم. وبعبر هذا كله عن فشل التخطيط الاستعجالي المغربي بشكل كلي في إصلاح التعليم بشكل عام. والدليل على ذلك أيضا تراجع الوزارة - مؤخرا - عن تطبيق بيداغوجيا الكفايات والإدماج، وانتشار تثمر عام لدى رجال التعليم ونسائه من سياسة القطاع المتعثرة، واستياء المواطنين من نتائج مخرجات التكوين نظرا لما يتعرض له الخريجون من بطالة ، وضعف يمس التكوين والشهادة، وفشل بيداغوجيا المجزوعات، وما لها من أثر سيء في مستوى المردودية والتفويـم والعطاء، وعدم قدرة الخريجين والطلبة على حد سواء على توظيف مكتسباتهم المعرفية في التأقلم مع الواقع الموضوعي. علاقة على بطء الوزارة في تطبيق مخططاتها التدريجية ، وربما يكون ذلك راجعا إلى أسباب مادية أو مالية أو إدارية أو لوجيستيكية. وسجل كذلك، وبنشة، تأخير الوزارة في تنفيذ هذا المخطط في وقته المبكر (2009م). بل أكثر من ذلك لم يجد المتعمول أملكتهم في مدارسهم. فكم من مدارس ابتدائية تحولت إلى إعداديات بسبب سياسة التقشف وضعف الميزانية! وكم من إعداديات تحولت إلى ثانويات تأهيلية! وكم من مؤسسات تربوية ليست لها مختبرات علمية، ولاتملك ساحات لممارسة الرياضة البدنية! بل هناك مؤسسات بال مدرسين، وأيضا بال رجال إدارة، وكذلك دون بعض المواد الدراسية الضرورية. ومن ثم، فلقد ازدادت المدرسة المغربية السوء سوءا، وتدهورت الوضعية الحالية لمعظم المؤسسات التربوية العامة؛ مما جعل المواطنين المغاربة بجمعون على أن المدرسة الخصوصية أفضل بكثير من المدرسة 

الصفحة 161

الحكومية. لذا، يختارون لأبنائهم -اليوم- أحسن المؤسسات التعليمية الخاصة، ولو بأثمان خيالية، بحثا عن الجودة و الإنقان ومدرسة المستقبل.

ومن يتأمل بنود هذا المخطط الاستعجالي، ويتبين قراراته وأهدافه، فإنه يحس بفخر وانتشاء، مادامت النوايا الحسنة ليس لها من هم سوى إنقاذ النظام التعليمي المغربي من أزمنته الخانقة. بيد أنه بعد تدبر وتفكير عميق، سيلاحظ المتتبع للنظام التعليمي المغربي أن لهذا المخطط الاستعجالي سلبيات وإيجابيات.

وإذا كانت النقط الإيجابية، من جهة، تتمثل في توفير البنايات والتجهيزات التعليمية، وتوفير الأطر التربوية والإدارية، واستقطاب أكبر عدد من التلاميذ، وتشجيع التميز والبحث العلمي والابتكار، وتوجد الزي المدرسي، وتكوين رجال التربية والإدارة تكوينا جيدا في مجال الرقميات والبيداغوجيا المعاصرة، وتوزيع مليون محفظة على التلاميذ، و خلق منصب مرشد تربوي، والعمل على تفعيل استقلالية الجامعة، والأخذ بمدرسة اللجاح، وتتوقيع المسالك والشعب في الثانوي والجامعة من أجل الرفع من المر دو دية، وتحقيق التنمية المستدامة...

فإنه من جهة أخرى، بلاحظ المرء بعض النقط السلبي التي نتيجة عن الشروع الأولى في تنفيذ هذا المخطط الاستعجالي، كالدخول المتآخر إلى المدرسة في الموسم الدراسي (2009-2010)، وقلة الأطر التربوية والإدارية بشكل كبير، وحذف بعض المواد التعليمية (حذف مادة الترجمة في أقسام الجنوع المشتركة)، وإلغاء نظام التفويج في ما يخص المواد العلمية، وحذف بعض الدروس المهمة كدروس قواعد اللغة العربية في الإعدادي والثانوي، وتقليص ساعات بعض المواد، وتراجع مستوى الجامعة بصفة خطيرة، وغياب البحث العلمي بشكل كلي، وتراجع قيمة شهادة الإجازة والدكتوراه الوطنية، وإحساس أساتذة القطاع المدرسي، ولا سيما الحاصلين على شهادة دكتوراه الدولة والدكتوراه الوطنية، بالحيف والظلم ماديا ومعنويا مقارنة بإخوانهم في التعليم العالي في الجامعة أو مراكز تكوين الأطر، وعدم مواكبة المقررات الدراسية لما  

الصفحة162

بستجد في الساحة المعرفية والعلمية والثقافية والأدبية من أفكار، ونظريات، وتصورات، ومناهج، وتقنيات...

والأغرب من هذا كله أن المسؤولين عن قطاع التعليم يفتقدون التصور الشامل الناجع لإصلاح التعليم. أي: ليست لديهم أي رؤية واضحة وحقيقية عن مقاصد التعليم وغاياته وأغراضه. وفي هذا السياق، يقول وزير التربية الوطنية السيد أحمد اخشيشن: "فالذي اشتغلنا عليه نحن الآن هو إرساء تصور مغربي متأصل وحديدت ليقدم إجابة عن سؤال ماذا نريد من التعليم. وماهي الصورة التي نريد أن نرى عليها أبناؤنا مستقيلاً: هل امتلاك مهارات أم تعود على أجواء المدرسة أم تعلم القراءة والكتابة. وعندما نجيب عن هذا السؤال بدقة، سيصبح هو الضابط الذي على أساسه يصبح أي شخص يريد أن يقدم على مشروع في هذا الإطار يشتغل فيه221.

وعلى وجه العموم، لا يمكن للتعليم المغربي أن يحقق النجاح في مجال التربية والتعليم إلا بتطبيق الديمقراطية الحقيقية بدل الاحتكام إلى سياسة الأهواء والأمرجة. ولا بدأ أيضا من تحقيق العدالة الاجتماعية، وتطبيق مواثيق حقوق الإنسان، والاهتمام بالكفاءات العلمية المهمشة، وتطبيق المقاربة الإبداعية في مجال البيداغوجيا والديدكتيك، والرفع من مستوى التعليم العالي، والسمو بقيمة الشهادات العلمية، وإسناد المناصب العليا إلى الذين يستحقونها في مجال التربية والتعليم عن جدارة علمية، دون اللجوء إلى توظيف أطر ضعيفة مهروزة، بطرائق غير مشروعة معروفة للداني والقاصي...

ولا يمكن أيضا تنفيذ المخطط الاستعجالي المغربي، في ميدان التربية والتعليم، إلا يتضافر كل الجهود قاطعة؛ إذ ينبغي أن ينخرط فيه جميع الفاعلين، كجمعيات الأياء، والجمعيات المدنية، والأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، ورجال السلطة، والفاعلين التربويين.

الهواميش:

221أحد خشيشن:الوضع الكارثي المدرسة المغربية،حوار،مجلة علوم التربية المغرب،العدد39يناير2009ص154

الصفحة163

والإداريين، وقطاع الحكومة. ولا يتحقق هذا الإصلاح الاستعجالي كذلك إلا بالحوار البناء، والمشاركة الهادفة، وتوفير الموارد البشرية، وتحصيل الإمكانيات المالية والمدنية، وتطبيق النظرية الإبداعية، وتخليق الإدارة، وتحفيز المربي والإداري على حد سواء، وتشجيع المفتش المشرف والمربي التربوي ماديا ومغنوبا، والإنصات إلى الأساتذة الأكفاء، والأخذ بقراراتهم في مجال التربية والتعليم. بل يمكن القول: إن إصلاح المدرسة في الحقيقة ينبغي أن تتكلّف به الجماعات المحلية والسلطات الإقليمية والجهوية كما هو معروف في الدول المتقدمة.

وقد حدد وزير التربية الوطنية محمد الوفا تشخيصاً عاماً لفشل هذا المخطط، وقد جسده في وجود نسب مخطبة في بناء المؤسسات التعليمية، ووجود تفاوت خطير في التمدرس بين الجهات. ومن ثم، فقد بين أن من أهم معوقات هذا المخطط العجز عن تحقيق التواصل داخل أوساط المنظومة التربوية من جهة، ثم مع وسائل الإعلام والشركاء النقابيين من جهة أخرى. ومن خلال المعطيات المقدمة، يتضح أن جل المشاريع حصلت على نسب فوق المتوسط العام المحدد في 64 %. بينما عرف مشروعاً تعزيز المناهج والتحكم في اللغات التعثر. وهكذا، فإن نسبة الإنجاز بلغت - مثلًا - في الدار البيضاء الكبرى 1%، وفي مكتاس تافيلات 74%، وفي الرباط سنة 71%، وفي نادلة أزيلال 69%، وفي فاس 58% بينما لم تتجاوز في دكالة عبدة 40%. ومن ثم، فإن التفاوت كبير بين أول أكاديمية وأخرها. ومن ضمن عوامل التحقق الحضور القوي للوسط الحضري، والاستقرار النسبي للمسؤولين. فيما تمثلت عوائق التحقق في شساعة المجال الترابي لبعض الأكاديميات، وهيئوية الوسط القروي بها، وإحداث نيابات جديدة، وعدم استقرار المسؤولين. هذا، بالإضافة إلى نزول المشاريع دفعة واحدة، وغياب نظام للأولويات.

وخصوص بيداغوجيا الإدماج، فقد انعدمت الصلة بينها وبين البرنامج الاستعجالي الذي انطلق في 2009م، وبيداغوجيا الإدماج التي انطلقت في 2010م، وقد تطلبت ميزانية هامة أخذت من الغلاف المالي للبرنامج الاستعجالي. وكان من تبعات هذا الإرباك أو الإقحام عدم إشراك الخبراء المغاربة، وإقصاء جميع البيداغوجيات الأخرى. ومن ثم، فقد كان من

الصفحة164

الواجب دعم استقلالية المؤسسة، ودعم مبادراتها، وتعزيز دور الأسئلة في الإجتهاد، واختيار البيداغوجيا المناسبة.

وعلى الرغم من المنجزات المهمة على مستوى تعميم التمدرس، وتوسيع العرض التربوي، والدعم الاجتماعي الذي خصص له 6.1 مليار درهم من أصل 33 مليار درهم المرصودة للبرنامج، فإن إنجاز البنيات المدرسية بالتعليم الابتدائي - مثلا - قد عرف تأخرا ؛ حيث انحصرت النسبة المتوسطة في 27 %. وبذلك، فقد أحدث تأهيل المؤسسات التعليمية الذي يبلغ 56 %، وتأهيل الداخليات (55 %)، وتجديد تجهيزاتها (78 %) بعض التوازن. كما بلغت نسبة الاستفادة من الإطعام المدرسي بالابتدائي 75 %، ويخصوص برنامج تيسير، فقد عرف نسبة نجاح بلغت 100%؛ حيث تستفيد منه 405 ألف أسرة، وتقع جهة مراكش لتنسيقت في المقدمة بـ75 ألف أسرة مستفيدة، ثم سوس ماستة بـ74 ألف أسرة مستفيدة، والغرب شراردة بـ60 ألف أسرة.

وقد أوضح وزير التربية الوطنية أن الصعوبات في التعليم تتركز أساسا في أكاديميات سوس ماستة، ومراكش لتنسيقت، وتارة الحسيمة تاونات نظرا لشساعتها، وهبوط الوسط القروي بها. فهذه الأخيرة - مثلا- تسجل أعلى نسبة انقطاع 1.1%، خاصة في مستوى الفتيات، بينما تواجه أكاديمية مراكش نسبة 32 % من الاكتظاظ في الإعدادي، 50 % في الثانوي222.

وقد أعلنت وزارة التربية الوطنية - مؤخرا - عن النتائج الأولية لعملية التقويم المادي والافتحاص المالي، فيما يخص تنفيذ مشاريع البرنامج الاستعجالي أمام كل من لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب والشركاء الاجتماعيين التي مكنت من الوقوف على المؤشرات الإيجابية والسلبية التي تحققت منذ بداية أجرأة هذه المشاريع سنة 2009 إلى غاية يونيو 2012. ومن النتائج التي أسفرت عن هذا المخطط الاستعجالي المعطيات التالية:

الهواميش:

222انظر: (أول اقتحاص للبرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين بوضع الختلالات)،  

جريدة العلم: المغرب، الخميس 26/يونيو 2012، ص: 1.

الصفحة165

  • بلغت الميزانية المرصودة للبرنامج الاستعجالي 33397 مليون درهم، صرفت منها نسبة ٪45% في مشاريع أنجزت كليا.  
  • من ميزانية البرنامج منزل الجزء الأكبر منها مودعا في خزينة الدولة، فيما الجزء الآخر هو اعتمادات تم تفويضها للكلابيميات الجهوية للتربية والتكوين، وهي مخصصة بالأساس لمشاريع بناءات مدرسية في طور الإنجاز أو مبرمجة.  
  • ساهم المانحون الدوليون بمبلغ 5.5مليار درهم لتمويل البرنامج الاستعجالي، وهو ما يمثل نسبة 16% من مجموع الاعتمادات المرصودة لإنجاز مشاريعه، منها 1.2مليار درهم عبارة عن قرض، و4.3مليار درهم في شكل هبة.  
  • إبرام 16310 صفقة خلال الثلاث سنوات الأولى من البرنامج الاستعجالي. أي: بمعدل 5436 صفقة سنويا، وهو ما يمثل 46.85% من مجموع الصفقات المبرمة سنويا من قبل مجموع المؤسسات العمومية الخاضعة للمراقبة القبلية، كذلك تم إبرام 18659 سنة طلب، بمعدل سنوي بلغ 6219.  
  • على مستوى الدعم الاجتماعي، استفادت 1.208.894 تلميذ وتلميذة من الإطعام المدرسي بالسلك الإبتدائي من أصل 1.613.932 مستهدف.  
  • بنسبة 75% على الصعيد الوطني.  
  • استفادت 107.377 تلميذ وتلميذة من عملية توزيع مليون محفظة من أصل 1.168.108 مستهدف، وهو ما يمثل نسبة وطنية بلغت 101.110.  
  • تحقيق جميع أهداف مشروع برنامج "تيسير" على المستوى الوطني وبجميع الجهات المستقيدة، بعد أن استفادت كل الأسر المبرمجة التي بلغ عددها 405.725 أسرة.  
  • تم تسجيل نسب جيدة في عملية تجهيز المؤسسات التعليمية بالعتاد الدينكتيكي، وقد وصلت إلى 92% على المستوى الوطني.  
  • تجهيز 9310 مؤسسة تعليمية من مجموع 10141 كانت مبرمجة، منها 6688 مؤسسة ابتدائية من أصل 7189 المبرمجة وال 1520 ثانوية إعدادية من أصل 1686 كانت مستهدفة، و 1132 ثانوية تأهيلية من أصل 1266.

الصفحة166

  • ربط مؤسسة تعليمية بالأنترنيت من أصل 9788 وكانت مبرمجة، وهو ما يمثل نسبة إنجاز متقدمة جدا بلغت %94 على المستوى الوطني.
  • تسجيل تأخر في تجهيز المؤسسات بالقاعات متعددة الوسائط؛ حيث لم تجهز سوى 32% من المؤسسات التعليمية، فيما وصلت نسبة التجهيز بالحقائب متعددة الوسائط إلى 89%. 
  • سجل تأخر في عملية الإنجاز بفعل تعثر الصفقة الدولية التي كانت عروض طلباتها تفوق الميزانية المرصودة للبناءات (10) لعلياردرهم؛ مما دفع الوزارة إلى تفويض الاعتمادات الخاصة بالبناء إلى الأكاديميات في نونير 2011. 
  • إحداث 99 مؤسسة ابتدائية من أصل 373 كانت مبرمجة و109 ثانوية. إعدادية من أصل 529 و84 ثانوية تأهيلية من أصل 278 كانت مبرمجة. 
  • إحداث 67 داخلية بالتعليم الثانوي، بعد أن كانت مبرمجة 350 داخلية؛ حيث لم تتجاوز النسبة العامة للإنجاز %17 على الصعيد الوطني. 
  • عرفت التوسيعات على عكس الإحداثات وتيرة إنجاز متوسطة بلغت نسبتها على الصعيد الوطني %46، بعد أن تم إحداث 4099 حجرة دراسية من أصل 8822 كانت مبرمجة. 
  • تأهيل 415 مؤسسة تعليمية من أصل 7288، بما يوازي نسبة وطنية بلغت 56%، وتأهيل 169 داخلية من أصل 306 بنسبة إنجاز بلغت %.55
  • تحقيق نسب فوق %50 بالنسبة لجميع المشاريع البيداغوجية، باستثناء مشروعي مراجعة المناهج وتعزيز التحكم في اللغات بسبب عدم الجسم في الاختيار المنهجي. 
  • الاهتمام بشكل كبير بالمجالات المرتبطة بالتأطير والتكوين ومحاربة التكرار والانقطاع والتقويم وكذلك بدعم التعلمات. 
  • تسجيل تطور في تعميم العدة البيداغوجية وتقنيات الإعلام والتواصل،وتحسن في نظام التقويم والإنشهاد. 
  • من الأساتذة 14 ألف أسئلة وأستاذة تم استجوابهم(عبروا عن مواقفهم الداعية إلى تعديل بيداغوجيا الإدماج (29%) أو العدول عنها 167).

الصفحة167

(67%) بمبرر أنها غير فعالة، ولا تلائم خصوصية المدرسة المغربية فيما عبر 4 % عن الاحتفاظ بها.

  • إجماع جميع الأساتذة المستجوبين على تعزيز دور الأسئاذ في اختيار البيداغوجيا المناسبة، وعلى تنويع البيداغوجيات، والاعتماد على الخبرة الوطنية في كل إصلاح.

و للإشارة ، فإن عمليتي الافتحاص والتقويم قد أنجزتا من قبل المفتشية العامة للتربية و التكوين بالوزارة بقطبيها الإداري والتربوي، وقد شملنا جميع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والنيابات الإقليمية، و610 من المؤسسات التعليمية (1200 مؤسسة/بالإضافة إلى جميع المديريات المركزية223.

و في الأخير، يمكن القول: إن أي مخطط استعجالي إذا لم ترافقه النية الحسنة، وإذا لم يواكبه الاجتهاد والاستمرار، والمشاركة الجماعية، والتنفيذ الفعلي، والتطبيق الإجرائي الفوري، والتقويم الموضوعي، سيبقى حبرا على ورق، يتأرجح بين شعارات سياسية جوفاء، وأحلام وردية بعيدة عن الواقع.

وخلاصة القول: لا يمكن تنفيذ المخطط الاستعجالي المغربي، في ميدان التربية والتعليم، إلا بتضافر كل الجهود قاطعة؛ إذ ينبغي أن ينخرط فيه جميع الفاعلين، مثل: جمعيات الأباء، والجمعيات المدنية، والأحزاب السياسية، والمنظمات غير الحكومية، ورجال السلطة، والفاعلين التربويين والإدارييين، وقطاع الحكومة.

ولا يتحقق هذا الإصلاح الاستعجالي أيضا إلا بالحوار البناء، والمشاركة الهادفة، وتوفير الموارد البشرية، وتحصيل الإمكانيات المادية والمالية،وتطبيق النظرية الإبداعية، وتخليق الإدارة، وتحفيز العربي والإداري على حد سواء، وتشجيع المشرف التربوي ماديا ومعلوبا، 

الهواميش:

223وزارة التربية الوطنية: (النتائج الأولية لتقويم واقتحاص مشاريع البرنامج الاستعجالي)، موقع القطاع المدرسي، 

موقع القطاع المدرس ، موقع رقمي. 

http://www.men.gov.ma/Lists/Pages/Detail.aspx?List=5bbc5514- 417e-421c-bb91-1d49d6b674c9&ID=27

الصفحة 168

والإتصات إلى الأساتذة الأكفاء، والأخذ بقراراتهم في مجال التربية والتعليم. بل يمكن القول: إن إصلاح المدرسة في الحقيقة ينبغي أن تتكلف به الجماعات المحلية والسلطات الإقليمية والجهوية كما هو معروف في الدول المتقدمة.

المبحث الثاني: وضعية المدرسة المغربية الحالية

يقتر كثير من الدارسين والباحثين والأبداء والمواطنين بموت المدرسة العمومية المغربية ونهايتها، على غرار ما ذهب إليه. إيفان اليتش في كتابه (نهائية المدرسة)، حينما تحدث عن المدرسة اللبيرالية بأمريكا اللاتينية. وبما أن المدرسة اللبيرالية مدرسة طبقية وغير ديمقراطية، فإنها في الدول المتخلفة والمستبدة تكرس سياسة التخلف والاستعمار، وتسهم في توريث الفقر واليونس الاجتماعي. هذا ما دفع إيفان اليتش ( Ivan Ilieth ) إلى إلغاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية في كتابه(مجتمع بدون مدرسة).


فنظرية موت المدرسة - حسب كوي أفانزيني هي في الحقيقة نظرية "تأثرت تأثرا كبيرا بالعوامل الجغرافية التي أحاطت بها، والتي قد تجعل منها نظرية صالحة لبلدان أمريكا اللاتينية، غربية كل الغرابة عن المنطق التربوي للغرب". السيما أننا نجد فيها بعض التساؤلات التي تؤيد مثل هذا التفسير الذي يقصرها على بلدان بعينها، ذلك أن السيد يليش يزرع أحبائا إلى القول بأن المدرسة ملائمة للعصر الصناعي، وأنها من إرش هو مخافاته، وينبغي أن تشجب فقط في البلدان المتخلفة حيث لا تستطيع أن توفر الانطلاقة اللازمة لها، وحيث يكون حذفها شرطا لازما لحذف الاستعمار والقضاء عليه، على أنه في أحبان أخرى يطلق أحكاما تنادي بالقضاء عليها قضاء جذريا، ويرى فيها مؤسسة بالية أنى كانت224.

والدليل على موت المدرسة العمومية بالمغرب تراجع جودة المنظومة التربوية كما وكيفا ووظيفة، وتراجع مكانة النظام التربوي المغربي على الصعيد العالمي بصفة عامة، وعلى صعيد الوطن العربي بصفة خاصة

الهواميش:

224في أفاتريني: الجمود والتجديد في التربية المدرسية: ترجمة: عبد الله عبد الدائم، بيروت، ابنان، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى سنة 1981م، صص: 457-456.

الصفحة169

حسب التقارير الدولية. على الرغم من الإصلاحات التربوية العديدة التي قام بها المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا هذا. ونشير أيضا إلى تراجع المدرسة العمومية على مستوى التحصيل والنجاح والجودة مقارنة بالمدرسة الخصوصية التي أصبحت هدفا لكل الأسر المغربية لإنقاذ أولادهم من شيح البطالة والفشل الدراسي.

وقد وصفت المدرسة العمومية المغربية بأنها مدرسة " مريضة مشوهة تعكس غلبة من يدير في مواجهة من لأبطلك حيلة"، وهو وصف بالغ الدلالة بالنسبة لمدرسة أضحى أداواها المختل بحسد كل الأعطاب المجتمعية، ويعكس موازين قوى تعمل انطلاقا من تمعيق الفوارق الصارخة بين مدرسة تفقتر إلى البنيات الأساسية والتجهيزات الضرورية، وذات مردود هزيل، ونتائج متردية لإنسحق حتى التعليق، بل ومقبولة ما دامت الخدمة التي تقدمها هذه المدرسة مجانية، وتعليم خاص يحرض على تسويق نفسه كتحسيد للجودة والمردودية المرتفعة والمضمونة، مادام قابلا للمحاسبة من قبل الذين يدفعون سعرا مقابل الخدمة المقدمة لأبنائه. وعلى الصعيد الأخلاقي، تشهد المدرسة العمومية انتكاسا وأضحا لقيم التطوع والمثابرة والمسؤولية، واستسلاما للهيئة التربوية في مواجهة إغراءات المال، مع الزحف والتوسع المربع لسوق الدروس الخصوصية؛ مما يعد سببا آخراً لبداية نهاية المدرسة العمومية بالصورة التي تشكلت فيها في الوحدان الشعبي كفضاء للعطاء وكسب العلم والمعرفة، فيما يتنامي الشعور لدى أبناء الطبقات الكلاحة بالعجز والفوات، مع تركز التنوّق المعرفي في صفوف " الميسورين"، الذي يعزز احتكارهم للثروة والسلطة على نحو غير مسيوق في تاريخ المغرب؛ إذ حتى عهد قريب كان التنوّق الدراسي، والدافع إلى الاجتهاد والتحصيل العلمي، بكاد يكون ينحصر في صفوف أبناء الطبقات الشعبية225. 

ومن الأدلة الأخرى على موت المدرسة العمومية تراجع مكانة المدرس اجتماعيا لتدني أجرته، وتضعضع وضعيته الاقتصادية على جميع المستويات. وقد نتج عن ذلك أن أصبح مثار سخرية واحتقار وتنكبت. وفي هذا السياق، يقول الباحث المغربي عبد المجيد السخيري: " كثيرة هي

الهواميش:

225عبد المجيد السخيري: المدرسة العمومية والمدرس في العصر الإمبريالي المعولم والنسابع المعمم)، مجلة نواڤ، المغرب، العدد 54-53: زيان 2013، 33-32.

الصفحة170

المؤشرات الدالة على نهاية المدرسة العمومية في عصرنا، في المغرب كما في بلدان كثيرة تسير على نهج الرأسمالية المتصرة ، وتخضع كلها لسياسات السوق المملاء من قبل الأذرع القوية للرأسمال العالمي، وكثيرة هي أيضا العالمات الدالة على انتهاء الدور التقليدي للمدرس(5)، وتحلم صورته المبحلة ، وتراجع إشعاعه الاجتماعي، وتقريم وظيفته في العملية التعليمية بما يتناسب مع تهميشه، وتحجم حضوره ودوره في الحياة العامة. ولا ينبغي أن ينظر على هذا على أنه مجرد تنويج لمراجعات نظرية في الأدب التربوي تستهدف الحد من السلطة الفعلية للمدرس(ة) التقليدي(ة) داخل الفصل الدراسي، ونقد ممارسات تربوية تجعل منه محور العملية التعليمية التعلمية، وتحرير العلاقات التربوية من الهيمنة الأحادية للمدرس(ة)، وما يرتبط بها من أشكال التسلط والعنف الرمزي واحتکار المعرفة ومتلاك الحقيقة ومعايير الصواب والخطأ وغيرها من صور التمركز الذاتي والاستبداد المفتوح. كما أن تراجع السلطة الأخلاقية للمدرسين (ات) في المناخ السائد اليوم ليس مجرد تحصيل لهذا النقد، بل هي أيضا نتيجة لهجوم مركب

يستهدف تحديد هؤلاء من الصراع، وتشطيب دورهم السياسي بما يفسح المجال أمام المقاول ليحل مكانهم في تدبير المدرسة، وكسب النتائج السياسية المترتبة عن هذا الحلول من خلال استثمار المنافع المعنوية المرتبطة بالموقع الرمزي (التاريخي) للمدرس(ة)226

وعليه، فهناك الكثير من المغاربة الذين يؤكدون، بكل صراحة، موت المدرسة المغربية على كل المستويات والأصعدة، مفضلين المدرسة الخصوصية التي فرضت نفسها في الساحة التربوية؛ بما حققت من جودة عالية، و مردودية معتبرة.

و خلاصة القول، فقد قطعت المدرسة المغربية عدة أشواط تاريخية، وعرفت عدة أنماط مؤسساتية في مسارها البيداغوجي والديدكتيكي، ويمكن حصرها في المسارات التالية:

  • المدرسة العتيقة التي كانت نموذجا تربويا تابعا للمدرسة المشرقية، وكانت تتبنى عدة نماذج في التدريس، مثل: الطريقة العراقية، والطريقة القيروانية، والطريقة المغربية، والطريقة الفاسية، والطريقة الأندلسية،  

الهواميش:

226عبد المجيد السخيري: نفسه، ص 34-33.

الصفحة171

وغيرها من الطرائق الأخرى. ولقد اهتمت هذه المدرسة بتدريس العلوم الشرعية بصفة عامة، علوم الآلة بصفة خاصة.


  • -المدرسة الاستعمارية التي ظهرت إبان الحماية من 1912م إلى 1956م، وكانت تهدف إلى القضاء على الكتاب الدينية والجوامع القرآنية، ومعنى ثوابت الأمة المغربية، والتشديد على الفصل بين البرابرة وإخوانهم العرب مع صدور الظهير البريدي سنة 1930م، ومحاربة كل النزعات الثورية التحررية التي تسعى من أجل استقلال المغرب. وكانت هذه المدرسة تعمل أيضا على ضرب الوحدة الوطنية، والطعن في اللغة العربية، والتفكيك في الدين والقيم الإسلامية والهوية المغربية عبر محاولات التفسير وفرنسة المؤسسات التعليمية المعاصرة.
  • مرحلة التأسيس وبناء المدرسة الوطنيةالتي ظهرت بعد الاستقلال مباشرة، بتطبيق المبادئ الأربعة: التعميم، والتوجيد، والتعريب، والمغربية.
  • مرحلة الاستواء والعطاء والإنتاج إبان مرحلة السبعينيات من القرن العشرين؛ إذ ساهمت المدرسة المغربية في تكوين جيل من الأطر المتعيزة والمتفتحة التي عرفت بالإبداع والمساهمة الكبيرة في تحريك الاقتصاد المغربي، وإغناء الثقافة العربية، وإثراء الفكر الإنساني.
  • مرحلة التكوص والتراجع التي بدأت مع سياسة التقويم الهيكلي في منتصف ثمانينيات القرن العشرين؛ إذ تراجعت المدرسة المغربية عن جودتها الكمية والكيفية بسبب الأزمات التي كان يتخط فيها المغرب سياسيا واقتصاديا وعسكريا واجتماعيا وتقافيا، وخاصة مع حرب الصحراء، ناهيك عن الضغوط الدولية الخارجية التي تتجلى، بكل وضوح، في قرارات المؤسسات المالية كمؤسسة البنك العالمي ومؤسسة صندوق النقد الدولي.
  • مرحلة الإصلاح التربوي التي بدأت في أواخر التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة. وقد استهدفت الدولة ضمن هذه المرحلة إنقاذ الوضع التربوي المغربي المتردي الذي أصبح لا ينسبم مع شروط ومعايير المدرسة الدولية بسبب تراجع مستوى التلاميذ والطلبة، وانعدام مصداقية الشهادات المغربية، ولا سيما شهادة البكالوريا التي تراجع مستواها العلمي الحقيقي. هذا ما جعل المسؤولين يفكرون في إصلاح                                        

الصفحة172

التعليم عن طريق إيجاد (الميثاق الوطني للتربية والتكوين)، مع الاستفادة من بيداغوجيا المجزوءات وبيداغوجيا الكفايات، ورفع شعار الجودة التربوية.

و على الرغم من جدية وأهمية مبادئ(الميثاق الوطني للتربية والتكوين)، فلم تتحقق الجودة التي كانت تدعو إليها وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر؛ إذ كانت الوزارة منشغلة بالكم على حساب الكيف.  

ولهذا السبب، أفرزت الوزارة مؤسسات تعليمية متعثرة ماديا وماليا ومعدوبا، تفتقد الجودة العلمية والمشروعية البيداغوجية والمصداقية الأخلاقية. ومن ثم، فلقد انعدمت الثقة لدى المربين والأسر والإداريين في المدرسة المغربية التي أصبحت مدرسة لتقريخ العاطلين والهندسين والمتدميرين. لذلك، اختار الطلبة المتخرجون الهجرة السرية إلى الضفة الأخرى حالا لمشاكليه، وملاذا لوضع نهاية لحياتهم المأساوية داخل وطنهم الذي يمح بالمفارقات والتناقضات على جميع الأصعدة والمستويات.

وتستلزم هذه المراحل التي تؤرخ لتطور السياسة التعليمية والفلسفة التربوية إعادة النظر في النظام البيداغوجي المغربي، والتفكير في فلسفات تربوية أخرى جديدة بإنقاذ المدرسة الوطنية من أزمانها ومشاكلها التي تتخط فيها. والهدف من ذلك كله هو تحصيل جودة حقيقية، وتحقيق حداثة تقدمية توهل المغرب للحاق بمصاف الدول النامية والمتقدمة على حد سواء.

الصفحة173



الفصل السادس: التربـــيـة والديمقراطيــة  



إن علاقة التربية بالديمقراطية علاقة جدلية ووثيقة؛ إذ لإيمكن الحديث عن التربية والتعليم في غياب الحريات الخاصة والعامة، وانعدام الديمقراطية الحقيقية القائمة على المساواة وتكافؤ الفرص، والمبنية أيضا على العدالة  الاجتماعية، و الإيمان بالاختلاف وشرعية التعدد.  

ولإيمكن الحديث كذلك عن الديمقراطية في غياب تربية حقيقية وتعليم بناء وهادف يتسم بالجودة والإبداع والابتكار وتكوين الكفاءات المنتجة، ويحترم المواهب المختلفة والمتنوعة، ويقدر الفاعلين التربيين والمتعلمين المتعاني في البحث والاستكشاف والتنقيب العلمي والمعرفي. ومن هنا، فالتربية والديمقراطية متلا زمتان كالعملة النقدية، فلا تربية بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بل تربية.  

وما أحوجنا اليوم إلى تربية ديمقراطية من أجل تأهيل ناشتئنا تأهيلاأخلاقيا وديمقراطيا لإدارة دفة البلد إدارة جيدة ومحكمة، وقيادة دوالبيها  في ضوء رؤية إبداعية ديمقراطية قائمة على أسس النظام، والمسؤولية، والاضياط، والمواطنة الحقة، والتوق إلى الحرية والتغيير، وبناء الدولة والآمنة على معايير الإبداع والإنتاج والابتكار، بهدف الوصول إلى مصاف الدول المتقدمة والأمم المزدهرة حضاريا وعلميا وتكنولوجيا! إذا، ما التربية؟ وما مفهوم الديمقراطية؟ وما علاقة التربية بالديمقراطية؟ وما آليات تفعيل الديمقراطية في نظامنا التربوي؟ وما الصعوبات التي تواجه تطبيق الديمقراطية وتفعيلها في الواقع التربوي؟ وما الحلول  المفترحة لتثبيت الديمقراطية التربوية؟ تلكم هي الأسئلة التي ستحاول الإجابة عنها في المباحث التالية:  

المبحث الأول: مفهوم التربية  

التربية فعل تربوي وتهذيبي وأخلاقي باستيار، بهدف إلى تنشئة المتعلم تنشئة اجتماعية صحيحة وسليمة. وتسهم التربية أيضا في الحفاظ على قيم المجتمع وعلاقاته وتقاليده، وتسعى جادة لتكوين المواطن الصالح، وتهدف  

للصفحة175

كذلك إلى تغيير المجتمع على جميع المستويات والأصعدة، والدفع به نحو التقدم والازدهار وفق الروح الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة المثلى.

علاوةعلى ذلك، فالتربية هي التي تصوغ المجتمع صياغة أخلاقية، وترفع مكانته، وتوصله إلى مصاف الدول المتقدمة والمزهرة.

وتسعى التربية جادة إلى إدماج الفرد في المجتمع تكيفاً وتأقاماً وتصلاحاً وتغييراً، كما تسعى إلى الإنماء الكامل لشخصية الإنسان وتعزيز حقوق الإنسان والحريبات الأساسية. يعني تكوين أفراد قادرين على الاستقلال الفكري والأخلاقي ويحترمون هذا الاستقلال لدى الآخرين، وذلك طبقاً لقاعدة التعامل بالمثل التي تجعل هذا الاستقلال مشروعاً بالنسبة إليهم227.وعلى العموم، فالتربية هي وسيلة لتحقيق الإبداع والابتكار. وهي طريقة في الاستكشاف والتأويل والبحث ومقترطة المجتمع. وترتكز على الحرية والمبادرة الفردية، وتحكم إلى النقاش الهادف والنقد البناء والحوار السليم من أجل بناء مجتمع متقدم وإعضاء يسهم في الحداثة المعاصرة، وشرى العولمة بما لديه من طاقات منتجة واختراعات ومكتشفات ومستجدات نظرية وتقنية وعلمية ومعلوماتية.

ويقول محمد ليبيا النجيجي: "ولما كان هدف التربية الأساسي هو تنمية التفكير واستغلال الذكاء، فمعنى هذا أن التربية تعمل من أجل الحرية الإنسانية. فالتأكيد على نمو الطفل إنما هو تأكيد على تحرير قدراته العقلية من قيودها، وإتاحة الفرصة لها للانطلاق حتى تستطيع أن تستخدم بطريقة فعالة إمكانيات البيئة التي يعيش فيها. ويصبح المجتمع الحر هو المجتمع الذي يشترك أفراده أيضا في تطويره وتوجيه التغيير الاجتماعي الحادث له".

وعندما يتمتع أفراد المجتمع بالحرية فإن التربية تكون بذلك قد أسهمت في بناء مجتمع مفتوح. ونعني بالمجتمع المفتوح المجتمع الذي يسعى عن قصد وتصميم في سبيل تطوره، ولا يعمل فقط على المحافظة على الوضع الراهن. وهذا المجتمع هو مجتمع قد نظم تنظيماً بدخل في اعتباره حقيقة التغيير في الأمور الإنسانية. وهو مجتمع يقبل التغير على أنه وسيلة

الهواميش:

227جان بياني: التوجهات الجديدة للتربية.ترجمة: محمد الحبيب بلكوش، دار تونقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1998م، ص 52.

الصفحة176

للقضاء على الفساد والانحلال، وأن الذكاء الإنساني والمجهود التعاوني  من جميع أفراد المجتمع تؤدي جميعاً إلى نمو الإنسانية وتقدمها228. 

علاقة على ذلك تحقيق التربية مجموعة من الوظائف الجوهرية كالتعليم والثقيف والتطهير والتنوير، والسمو بالإنسان نحو آفاق إيجابية ومثالية.  

المبحث الثاني: مفهوم الديمقراطية  

من المعروف أن الديمقراطية في دلالاتها الاشتغاقية، تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، أو قد تعني حكم الأغلبية بعد عملية الانتخاب والتصويت والفرز والانتقاء. وتقابل كلمة الديمقراطية الديكتاتورية والأوثراطية اللتان تحيلان على الحكم الفردي، وهيئة الاستبداد المطلق. كما تقترب الديمقراطية من كلمة الشورى الإسلامية، وإن كانت الشورى أكثر عدالة واتساعاً وانفتاحاً من الديمقراطية.  

وترتكز الديمقراطية على القانون والحق والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، والاحتكام إلى مبادئ حقوق الإنسان، وإرساء المساواة الحقيقية بين الأجناس في الحقوق والواجبات.  

ومن أهم أسس الديمقراطية الالتزام بالمسؤولية، واحترام النظام، وترجيح كفة المعرفة على القوة والعنف. وتتأسس الديمقراطية الفعالة والحقيقية؟ من بين ما تتأسس عليه احترام الحقوق وأداء الواجبات التي يحميها ويضبطها القانون والمؤسسات في إطار دولة الحق والقانون. ومن المؤكد أن احترام الحقوق وأداء الواجبات لإبتأتيان إلا بنسبة إلى شخص حر. الديمقراطية لم تعد أموراً شكلية أو قطاعية، بل أصبحت ثقافة معاملات تتجذر بمفاهيم النسيبة والاختلاف وقبول الرأي الآخر والمساواة والعدالة والإتصاف  والمشاركة السياسية وتقرير الفرد لمصيره واختباراته، ورفض أي نزوع سلطوي في جميع مجالات الحياة. ديمقراطية اليوم والغد تتمثل أكثر فأكثر  في احترام الشخص وقدرته على تكوين نفسه بوصفه إنساناً.. إنها سياسة الشخص كإنسان حر ومبدع.  

الهواميش:

228محمد ليبيا النجيسي: مقدمة في فلسفة التربية، دار النهضة العربي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1992م، ص 240.

الصفحة177

من المتعذر الحديث عن الديمقراطية والسلوك الديمقراطي باعتبارهم حالة تكون عليها المؤسسات أو باعتبارهم أوليت سياسية، بل يجب أن ينظر إليهما كمقتضي أخلاقي تكون مبادئه مشتركة ينبني البشر وما هم مختلفون فيه على أساس الإقرار بالاختلاف مما يمكن الشخص من السيطرة على الانفعالات وتجنب الأحكام المسبقة229.  

إذا، فالديمقراطية الحقيقية هي التي تحقق سعادة الإنسان، وتؤمن عيشه الكريم، وتوفر له فرص الشغل، وتشبع رغباته الغزيزية من مأكل وشرب، وتروي غليله المعرفي والفني والثقافي، وتخرجه من براثن الفقر والفاقة والتخلف إلى عالم أكثر استقرارا وأمنا، يسمح بالعيش الكريم والمساهمة في الإبداع والابتكار والعطاء.

المطلب الثالث: دراسات حول التربية والديمقراطية

ثمة دراسات عديدة تناولت علاقة التربية بالديمقراطية، ومن أهم هذه الدراسات كتاب الأمريكي جون ديوي بعنوان(الديمقراطية والتربية)130، وقد نشره سنة 1916، ويتناول الكتاب في مجمله فلسفة التربية وتطبيقاتها. كما صدر كتاب آخر بعنوان(الدين والتربية والديمقراطية) سنة 1997، وقد أشرف عليه كل من ميشاين ميلو (Micheline, Millet, Ferman, Quellet) وفرناند ويلي (Fernand, Quellet)231.  

وتوجد كتاب ومؤلفات عديدة خصصت للتربية والديمقراطية بعض الفصول كالباحث في آفائزيني (Guy Avanzini) في كتابه الذي نشره سنة 1975 لم بعنوان(الجمود والتجديد في التربية المدرسية)، حيث أثبت في القسم الثالث فصل(سماة التربية الحديثة والديمقراطية الحرة).

الهواميش:

229محمد مصطفى القباج: ( التربية على المواطنة والحوار وقبول الأخر في التعليم الثانوي: تحليلات واتجاهات)، مجلة علوم

التربية، المغرب، العدد: 32، أكتوبر 2006، ص: 143-142

230John Dewey: Democratic et education, Paris, Armand, Colin, 1975.

231Micheline Milot et Fernand Quellet: Religion, education et démocratie .Montréal, 1977, 257 pages.

الصفحة178

المبحث الرابع: واقع الديمقراطية في مؤسساتنا التربوية

من يلقي نظرة بالورامية سريعة حول حال مؤسساتنا التعليمية والتربوية،فلايد أن يصاب بدوار كبير واندهاش شديد؛ لأن هذه المؤسسات قد تحولت إلى كتابات عسكرية لاتومن إلا بالاضياط واحترام القانون ونظام المؤسسة، حتى الأبواب - اليوم- تشبه أبواب السجون المخيفة التي تعبر عن عالم المراقبة والمحاسبة والمحاكمة بمفهوم ميشيل فوكو للمؤسسة السجنية؛ حيث نجد عند باب هذه المؤسسات التربوية حراس الأمن بليسون أزياء رسمية تشبه الأزياء العسكرية، ويحملون العصي القصيرة كرجال المخزن ليخيفوا بها براعم المستقبل من أجل أن يفرضوا النظام، ولو استدعى الأمر استعمال القوة والعنف، وفرض العقوبات الزجرية، سواء أكانت لفظية أم بدنية.

وقد سبب هذا الواقع التربوي البخيء في ظهور النظام التربوي الأوتوفراطي الذي يستند إلى لغة القمع والقهر، والتخفي مدنيا وراء قناع الممارسات الأمنية والعسكرية التي لا تعرف غير خطاب التأديب والزجر، واستخدام العنف الرمزي ولو ضد الأطفال الأبرياء؛ مما يولد في نفس الثالثة فيما سلبية ومشاعر الحقد والكراهية والخوف والانكماش، وعدم القدرة على المغامرة والتخييل والابتكار والإبداع لانعدام الحرية والديمقراطية الحقيقية والمساواة الاجتماعية.

ومن نتائج هذا الضغط السياسي ظهور جيل من الشباب البافعين الذين تمرّدوا عن الأسرة والمدرسة والمجتمع، وحملوا مشعل الثورة والتغريب وتخريب منشآت الدولة من أنابيب الماء وحفياته ومصابيح كهربائية، وإتلاف كل متاحكه المؤسسات التعليمية، وتكسير المقاعد، وتشويه الجدران، والتغيب بكثرة عن المدرسة التي تحولت إلى سجن قائل كثيب. وفي الأخير، يترك المتعلم المدرسة مبكراً، فينقطع عما فيها بسبب شطط الإدارة، وتعسف الطاقم التربوي. ناهيك عن ضالة فرص الشغل، وضبابية المستقبل وقنامته الجنائرية.

وبذلك، فقد وصلت المدرسة المغربية إلى أفاقها المسدودة، فصارت فضاء مسرحيا تراجيديا يشخص المأساة وصراع الأجبال، ويعكس، بكل جلام، التطاحن الاجتماعي والتفاوت الطبقي، وبعيد لنا إنتاج الورثة كما يقول:

الصفحة179

بيدر بورديو وباسرون؛ لأن النظام التربوي"يتطابق كل التطابق مع المجتمع الطبقي، وبدأ أنه من صنع طبقة متميزة تمسك بمقاليد الثقافة أي بأدواتها الأساسية (المعرفة، المهارة العلمية وبخاصة إجادة التحدث)، فإن هذا النظام يهدف إلى المحافظة على النفوذ الثقافي لتلك الطبقة. والبرهان الذي قدمه هذان المفكران يبرز التناقض بين هدف ديمقراطية التعليم الذي يطرحه النظام وعملية الاصطفاء التي تقصي طبقة اجتماعية ثقافية من الشباب، وتعمل لصالح طبقة الوارثين232.

ويترتب عن هذا أن المدرسة الوطنية هي مدرسة غير ديمقراطية تخدم مصالح الطبقة الحاكمة والأقلية المحظوظة. وما التعليم العمومي والتعليم الخصوصي والتعليم الفكري والتعليم المهني سوى تعبير عن تكريس الثقاوت الاجتماعي، وتحويل المؤسسة التربوية إلى فضاء للتمييز اللغوي والعنصري، ومكان للتطلعات الاجتماعي والتساعر الطبقي والتمييز اللغوي.

وإذا كان ايميل دوركام بنطلق من رؤية محافظة في تحليل النظام التربوي، في علاقته بما هو اجتماعي وسياسي، فلأن لـوي ألتوسير (L.Althusser) يرى بخصوص "التقييات والمعارف، أنه يجري في المدرسة تعلم قواعد تحكم الروابط الاجتماعية بموجب التقسيم الاجتماعي التقني للعمل.

كما يقول بأن النظام المدرسي وهو أحد أجهزة الدولة الإيديولوجية هو الذي يؤمن بنجاعة استنساخ روابط الإنتاج عن طريق وجود مستويات من التأهيل الدراسي تتجاوب مع تقسيم العمل، وعن طريق ممارسة الاجتماع للإيديولوجيا السائدة. إن المسالك الموجودة في المدرسة هي انعكاس لتقسيم المجتمع إلى طبقات، وغايتها الإبقاء على الروابط الطبقية233

ويرى بودلـو (C.Baudelot) وإستاذ(R.Estable) أن المدرسة إيديولوجية وطبقية وغير ديمقراطية، تكون التقسيم الاجتماعي لوجود "شبكتين لانتساب الطلاب إلى المدارس يحددهما الفصل بين العمل اليدوي

الهواميش:

232مارسيل بوستيك:العلاقة التربوية،ترجمة:محمد بشير النحاس،المنظمة العربية للتربية والثقافة و العلوم،وتونس،1986،صص:21-24

233مارسيل بوستيك:العلاقة التربوية،صص:21-24

الصفحة180

والعمل الفكري، ثم التعارض بين طبقة مسيطرة وأخرى خاضعة للسيطرة234.  

وبما أن المدرسة الليبرالية مدرسة طبقية وغير ديمقراطية، فإنها في الدول المتخلفة والمستبددة، تكرس سياسة التخلف والاستعمار، وتسهم في توريث الفقر واليونس الاجتماعي. لذا، دعا إيفان (Ivan Hitch) إلى إنفاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية في كتابه: مجتمع دون مدرسة.

وعلى أي حال، تتأسف كثيرا لواقع الديمقراطية في مدارسنا التربوية بسبب غياب الديمقراطية الحقيقية، وانعدام فلسفة التسيير الداتي واللاتوجيهية، وغياب منظومة حقوق الإنسان ممارسة وسلوكا لغياب الديمقراطية في المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات.

المبحث الخامس: أنواع الديمقراطية التربوية

يمكن الحديث عن أنواع عدة من الديمقراطية في مجال التربية والتعليم، ونحصرها في أنواع ثلاثة هي:

  • ديمقراطية التعلم: والمقصود بها أن يكون التعليم منصبا على المتعلم الذي ينبغي أن يستفيد من جميع التعلمات على غرار أقرانه، بشكل عادل ومتسلوا، في إطار تكافؤ الفرص. ومن هنا، يستوجب الأمر القانوني والتشريعي على المرتين أن يتعاملوا مع المتعلم في ضوء البيداغوجيا الفارقية. وبيداغوجيا الدعم لكي يقال حقه من التربية والتعليم كباقي المتمدرسين الآخرين، وخاصة الأغنياء منهم. ويطرح في هذا السياق موضوع الذي المدرسي الذي ينبغي أن يكون رسميا وموحدا بين جميع تلاميذ المؤسسات التربوية. أضف إلى ذلك أنه من الضروري أن تقدم البرامج والمناهج والمقررات الدراسية مادة قانونية موسعة، توها التلميذ.   

  الهواميش:            

234مارسيل بوستيك:نفسه صص21-24

الصفحة181

ليتعرف إلى حقوقه وواجباته لكي يكون ديمقراطيا في تصرفاته وسلوكياته مع ذاته وأقرانه.  

  • ديمقراطية التعليم: تسعى الدول المتقدمة إلى جعل التعليم ديمقراطيا، بتعميم البرامج الدراسية، وتوجيد المناهج والمقررات، على الرغم من تنوعها في الأشكال والمضامين. بالإضافة إلى تأميم التعليم والزاميته وإجباريته، والحد من نسبة الأمية والفقر والتخلف، فالتعليم هو الذي يغير المجتمع جزئياً أو كلياً، ويحقق الديمقراطية الحقيقية. كما يتعلم المتعلم الديمقراطية داخل المدارس والمؤسسات التربوية، ويربى في أجوانها المفعمة بالحرية.  

وعندما نقول أيضا ديمقراطية التعليم، فنعني به جعل التعليم ذا خاصية شعبية عامة، يستفيد منه الجميع دون استثناء أو إقصاء، فتصبح المدرسة مفتوحة للفقراء والأغنياء بطريقة عادلة ومتساوية تتكافأ فيها الفرص. وينبغي أن نعرف أن مبدأ توجيد المناهج الدراسية الذي أصبح ميسما يعبر عن تطلعات الأحزاب الشعبية، وشعاراً براقبا لكل القرارات السياسية والوطنية ينبغي إلا يلغي "مايزخر به الواقع المغربي المتعدد، وما تقرضه شروط والبيات التحول الجديدة من ضرورة الانفتاح على كل أنماط التعدد والاختلاف والتميز الطبقي والإنتي... واحتوائها وتجاوزها في الآن ذاته، وذلك بتكرير النشر المشروعي الشمولي في بناء دولة ووفاق اجتماعي ديمقراطي وتكاملي. وبيناسب هذا الطرح على كون الرهان على البناء الديمقراطي، في مجتمعاتنا العربية والثانية عامة، لن يبلغ أهدافه أبداً إلا عبر حسور متينة من التربية والتكوين والثقافة وإعداد الموارد البشرية، وإلا بواسطة الدمعرة الشاملة لأسلاب وقنوات توزيع الرأسمال الرمزي، المتمثل في التكوين والمعرفة والثقافة، هذا فضلاً عن دمعرة توزيع مختلف أشكال الاستفادة المادية، ومختلف المواقعة والأدوار والمراتب الاجتماعية بين كل الفرقاء المعنيين في المجتمع235 .وهكذا، تسعى كل الدول جادة وجاهدة لتثبيت أجواء الديمقراطية في مؤسساتها التربوية، بإصدار مجموعة من المذكرات الوزارية والقرارات الحكومية والقوانين المنظمة ليتدول التعليم مكانة زاهية في مجتمع .

   الهواميش:

235مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1999م، ص: 31.  

الصفحة182

ديمقراطي، ولكن أي نوع من هذا المجتمع في غياب الحريات، وانتشار "التسلطن" والاستبداد؟!!  

  • تعليم الديمقراطية: لإيمكن لمجتمع ما أن يكون ديمقراطيا يؤمن بالحريات الخاصة والعامة وحقوق الإنسان، ويشبث بمنطق الاختلاف وشرعية الحوار والنسامح، إلا إذا تربى على الديمقراطية الحقيقية سلوكا وعمل وتطبيقاً. ولا يتأتى له ذلك إلا في المدرسة التي تعلم النشء مبادئ الديمقراطية السليمة وقوانين استعمالها ومعايير تمثلها وتطبيقها.  بين أن مدرسة التكفة والفمع والقهر لإيمكن أن نتائج سوى أساليب التعسف والتفكير الإقصائي والتعرف الإرهابي، والجنوخ نحو الاستبداد والسلوك العدواني الطائش. فبالتربية نتعلم الديمقراطية، ونتمثلها شعاراً وعقيدة ومبدأ وسلوكاً.  

ولم بعد يخفى أيضاً على أحد "كون المؤسسة التعليمية تلعب دوراً رئيسياً، انطلاقاً من انفتاحها على الحياة السياسية للمجتمع في ترسيخ مجموعة من المبادئ والقيم الكفيلة بالنهوض بالمجتمع وبتحذيفه سياسياً؛  

  فدور المدرسة، لم يعد يقتصر على محيطها الداخلي، بل يتحداه إلى جوانب قد تبدو للشخص العادي بعيدة عنها، لكنها في الواقع هي تربتها الأصيلة؛ لأن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية، كلها قيم تكسب بفعل التربية ومناهجها؛ فتنشئة الأفراد على تلك القيم هو السبيل الصحيح للوصول إلى حد المشاركة الفعلية في تسيير شؤون السياسة للمجتمع، بنوع من العقلنة وبعيداً عن الأرتيالية. ولا يفوتنا في هذا الجانب، أن ننوه بالدور الذي لعيته المدرسة في خلق برلمان للطفل في الآونة الأخيرة؟! 236

   إذا، فالتربية هي بمثابة السبيل الأوحد لتعليم الديمقراطية، وفرضها في أرض الواقع كي يحقق الإنسان آدميته وكرامته البشرية وألفته الإنسانية.  

المبحث السادس: آليات تحقيق الديمقراطية في مجال التربية

 الهواميش:

236العربي سليمان ورشيد الخديمي: فضلا تربوية.مشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2005، ص 244-243.

الصفحة183

ليمكن الحديث عن التربية الديمقراطية، أو ديمقراطية التعلم والتعليم، إلا إذا انطلقنا في تصورنا النظري من مجموعة من الأليات التطبيقية التي تسعفنا في تحقيق الديمقراطية داخل مؤسساتنا التربوية قصد نقلها - بعد ذلك. إلى المجتمع، بدفع المتعلم ليكون ديمقراطيا في تصرفاته وسلوكياته مع كل أفراد أسرته ومجتمعه ووظنه وأمته دون استثناء.  

ويمكن حصر هذه الأليات الإجرائية والعملية في التقنيات والمبادئ التالية:  

المطلب الأول: الفكر التعاوني والاشتغال في فريق جماعي 

بعد الفكر التعاوني من أهم الأليات لتحقيق الديمقراطية التربوية الحقيقية؛ لأن الاستغال في فريق تربوي داخل جماعة معينة يساعد التلميذ على النتائج والنمو، واكتساب المعارف والتجارب لدى الغير. كما يبعده عن كثير من التصرفات الشائنة، وجينه أيضا الصفات السلبية كالاتكماش والانعزالية والانطواء والإحساس بالخوف والنقص والدونية، ويساعده على الخاص من الأنانية وحب الذات. ولإيمكن للدول أن تحقق التقدم والازدهار إلا إذا اشتباهت في إطار فريق جماعي كما في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فالعلماء يتربون على الفكر التعاوني والبحث في فريق جماعي لتحقيق الأهداف التي انطلقوا منها في مشاريعهم العملية والعلمية والثقافية.  

ومن هنا، فيبدأ غوجيا الفكر التعاوني من أسس تحقيق التعليم الديمقراطي، وتحديث التعليم، ومقروطة التربية والمجتمع على حد سواء؛ لأنها تزيل الفوارق الاجتماعية، وتذيب كل التمييزات اللونية واللغوية والطبقية. ومن أهم الذين دعوا إلى الفكر التعاوني لمقروطة المدارس البروليتارية المرسي الفرنسي سلسلتان فريني (Célestin Freinet) الذي استعمل مجموعة من الوسائل التنشيطية لزرع الفكر التعاوني بين الناشئة التربوية.وتتمثل هذه الوسائل في استخدام المطبعة، والاستعانة بالتراسل، والتعود على النصوص الحرة، والقيام بالتحقيقات الخارجية، والاستهداء بالعمل الجماعي، وتأسيس التعاونيات المدرسية، واستعمال الجذاذات، والسهر على إنشاء جريدة الأطفال، والاعتماد على التسيير الجماعي، والاعتناء  

الصفحة184

يكتاب الحياة، وتنظيم خزانة العمل، وتشغيل الآليات الحديثة كجهاز الفونو، والأسطوانات، والسيئما ...  

وهكذا، فمن خلال العمل داخل فريق، يمكن تحقيق ديمقراطية التعلم وديمقراطية التعليم، وأجرأة التربية الديمقراطية بحل المشكلات التي تواجه المتعلم في عالمه الموضوعي بسهولة، بواسطة إنجاز الأعمال المطلوبة منه بشكل فعال، مع علاج الكثير من الأفات النفسية الفردية الشعورية واللاستعورية، مثل: الأنانية، والنبذ، والكراهية، والنفور، واستبدالها بمشاعر أكثر نيلا كالاتسجام، والتوافق، والتشارك، والتعاون، والابتكار الجماعي، والإبداع الهادف.  

ولإزالة القيم السلبية والحد من المشاعر الفردية السبقة، لابد من دفع المتعلم للاصهار داخل الجماعة لاكتساب سلوكيات جماعية، والتعود على الفكر الإشراكي العملي بتدريب طاقته الجسدية والعقلية على تحقيق المرددية والإنتاجية كما يقول أنطون مكاربتكر (Makarenko)، وتعويد تلاميذ الفصل على العمل الحر داخل جماعات متجانسة، من حيث السن والمسنوى الدراسي كما يقول كوزينيه (Cousinet)، وخلق فرص للعمل الجماعي من أجل بناء مجتمع ديمقراطي مبدع ومزدهر.  

المطلب الثاني: ديناميكية الجماعات

من الآليات الأخرى لتحقيق ديمقراطية التعلم، وخلق مواطن صالح وشخصية متوازنة سوية سيكولوجيا اجتماعيا، لابد من الحديث عن تقنية ديناميكية الجماعات، على أساس أنها منهجية مهمة في علاج الكثير من الظواهر النفسية الشعورية واللاستعورية لدى المتعلم. كما أنها تقنية تنشيطية هامة يمكن الاستعلاق بها في أثناء ممارسة العملية التعليمية التعلمية، وهي أيضا طريقة فعالة في التنشيط التربوي والفني، وإجراء منهجي للتحكم في التنظيم الذاتي للمؤسسة.  

وتستدمج ديناميكية الجماعة المتعلمين داخل جماعات تربوية ضمن الفصل الدراسي من أجل معالجته نفسيا واجتماعيا، بتطهيره

وتزويرضه وتربيته على الفكر الديمقراطي، ومساعدته على التواصل الشفاف  

الصفحة185

الواضح، والتعامل الصادق، والمعايشة الحقيقية لمشاكل المدرسة والمجتمع والأسرة على حد سواء.  

ولامكن للتلميذ أن يبدع إلا داخل جماعة ديمقراطية تؤمن بالأخوة والتنافس الشريف، وتتشبث بفكر الاختلاف والشورى والعدالة، وتعتز بقانون الحقوق والواجبات.  

ولابد أن يكون للجماعة أيضا قائد بوزع الأدوار، ويشرف على تنظيم الجماعة، ويسهر على تنظيمها ومالها، ويتحمل مسؤولياتها الجسيمة. بيد أن القائد لابد أن يختار بطريقة انتخابية ديمقراطية، فيتولى السلطة لفترة معينة ليتولاهما قائد ديمقراطي آخر.  

لكن - كما يعلم الكل- أن النسق الجماعي يخضع، في عملياته التواصلية، ثلاث قيادات أو سلط - حسب كورد لوين (Kurt Lewin): 

  • القيادة الديمقراطية التي تساعد على الإبداعية والابتكار وتحقيق المرددودية والانتاجية، سواء أكان ذلك في غياب الأسئلة أم في حضوره، وتسمهم هذه القيادة كذلك في بروز تفاعلات إيجابية بناءة كالتعاون، والتوافق، والاندماج.  
  • القيادة الأوتوفراطيةالتي ترتكن إلى استعمال العنف والقهر والتشديد في أساليب التعامل؛ فينضبط الجميع في حضور القائد، ولكنهم يتمردون في حالة غيابه. وفي هذه الحالة، تقل الإنتاجية والمرددودية، وتتحول المؤسسة إلى ثكنة قمعية، فيصعب تطبيق مبادئ نظرية تفعيل الحياة المدرسية وتشيطها لوجود قيم سلبية كالتنافر، والتباد، والتناخر، والتوتر.  
  • القيادة السائبة تقوم على فلسفة "دعمه بعمل". ومن ثم، فهي قيادة فرضوية لاتساعد على تحقيق المرددودية والانتاجية في غياب القائد أو حضوره، وتزرع في نفوس المتعلمين قيم الاتكال والعبت واللامسؤولية.  

وبناء على هذا، نستشف أن النهج الديمقراطي يساعد على نمو الجماعة وتطورها بشكل إيجابي فعال. لذا، فعلى رجال الإدارة والمدرسين الأخذ بالقيادة الديمقراطية لتحقيق النجاح الحقيقي، وتحصيل الجودة البناءة، وإضفاء النجاعة على أنشطة التسيير والتأطير.  

المطلب الثالث: السيكودراما والسوسيودراما

الصفحة186

تعد طريقة لعب الأدوار، أو السيكودراما، أو المسرح المدرسي، من أهم التقنيات في مجال تنشيط الجماعة وتفعيلها. كما تعد من أهم الوسائل العلاجية لإدماج التلاميذ المنطوين على أنفسهم أو المتكمنين أو المعقدين نفسيا داخل جماعات، بهدف تحريرهم من العقد المترسية في الأمعورهم، وتطهيرهم ذهنيـاً ووجـدانياً وحركيـاً، وإخـراجهم مـن العزلـة والوحـدة والأغتراب الذاتي والمكاني، ينظيم إلى عالم مجتمعي أرحب، يعتمد على المشـاركة والتعـلون والأخـوة والانسـجام، وتقنيـق المواهـب، وممارسـة الديمقراطية الفعالة.  

ومـن ثـم، فالسـيكودراما طريقـة مسـرحية يعتمـد فيهـا الفـرد علـى القيـام بمجموعة من الأدوار المسرحية التي يبرز فيها طاقاته ومواهبه، ويعبر عن مكتوباته وطاقاته الدفينـة قصـد الانتقال مـن مرحلـة الانكماش إلى المرحلة النفسية السوية والتوازن السيكواجتماعي. وهذا كله من أجل بناء ذاته وأسرته ومجتمعه وأمثه بطريقة ديمقراطية قائمة على العطاء والعمل والانتاجية والمردودية.  

فـعـن طريـق السـيكودراما والسوسـيودراما، نسـاعد المتعلـم علـى الظهـور والتفـتح والنمـو السـيكولوجي ليكـون قـادراً علـى الـتعلم الـذاتي، وتقبـل المعارف المختلفة والمتنوعـة، وتلقيهـاً بشكل علمي سليم؛ نخرجه من قمّم الانكماش والضياع والاسـتلاب، وتحـرره مـن بوتقـة الأغتراب الـذاتي والمكـاني لننقلـه إلـى عـالم سـعيد قوامـه الحريـة والمسـاواة والديمقراطيـة الاجتماعية؛ حيث يتحقق فيه تكافؤ الفرص والعيش الكريم.  

وعلـى العمـوم، فالسـيكودراما هـي "تقنيـة سـيكولوجية وضـعها العـالم السـيكولوجي مورينـو (Morino) تعتمـد علـى الثقافتيـة الدراميـة، حيـث يطلـب مـن الأشخاص أداء أدوار مسـرحية، دون ارتبـاط بكتابـة سـابقة أو تحديد للـنص، قصـد تنمية الثقافتيـة لديهم. غير أنه ماليـت أن تحولـت هذه التقنية إلى أسـلوب للتكوين والعلاج النفسي التحليلي الفردي والجماعي؛ وتنمية الانتكار لدى الأطفال في المجال التربوي التعليمي...  

وتجـد طريقـة السـيكودراما أصـولها لـدى اليونـتيني القـدماء، فقد أشـار أربسـطوفان في القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن الشخص يظـل سـجين أدواره الاجتماعية ويمكن التحرر منها، وفهم دوافعها، عند التعبير عنهـا على خشبة المسرح. كما أن أرسـطو أشار بدوره إلى الأهمية الأساسية  

الصفحة187

التي يلعبها المسرح في التخفيف من المعاناة النفسية، خلال التوحد مع الممثلين في أدوار معينة، مما يساعد على التطهير النفسي 237.

وبعني هذا كله أن الإنسان لإيمكن أن ينتمثل إلى عالم الديمقراطية حتى يتحرر نفسيا وجسديا وذهنيا من عقده الموروثة والمكتسبة، مثل: الخوف، والجزع، والقلق، والانكماش، والانطواء، والخجل، والانغزال المميت.  

المطلب الرابع: تقنية التنشيط التربوي

من المعلوم أن للتنشيط أهمية كبرى في مجال التربية والتعليم لكونه يرفع من المرودية الثقافية والتحصيلية لدى المتضرر، ويسمهم في الحد من السلوكيات العدوانية، والقضاء على التصرفات الشائنة لدى المتعلمين. كما يقلل من هيئة بيداغوجيا الإلقاء والتلقين، ويعمل على خلق روح الإبداع، والميل نحو المشاركة الجماعية، والاشتغال في فريق تربوي.  

ويمكن إخراج المؤسسة التعليمية، عبر عملية التنشيط الفردي والجماعي، من طابعها القهري الجامد القائم على الانضباط والاقترام والتأديب والعقاب إلى مؤسسة بيداغوجية إيجابية فعالة صالحة ومواطنة، يحس فيها التلاميذ والمدرسون بالسعادة والطمأنينة والمودة والمحبة، ويسمهم الكل فيها بشكل جماعي في بنائها ذهنيا ووجدانيا وحركيا، بحيث الأنشطة الأدبية والفنية والعلمية والثقافية والرياضية، يندمج فيها التلاميذ والاساتذة ورجال الإدارة وجمعيات الآياء ومجلس التدبير والمجتمع المدني على حد سواء.  

ومن الضروري أن تعرض طرائق الإلقاء والتلقين والتوجيه، في فلسفة التنشيط الجديد، وفي تصورات البيداغوجيا الإبداعية، بطرائق بيداغوجية حيوية معاصرة فعالة قائمة على الفكر التعاوني، وتفعيل بيداغوجيا ديناميكية الجماعات، واعتماد التواصل الفعال المنتج، وتطبيق اللاتوجيهية، وتمثل البيداغوجيا المؤسساتية من أجل تحرير المتعلمين من  

الهواميش:

237أحمد أوزي: المعجم الموضوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص 167.  

الصفحة188

شرنقة  التموضع السلي والاستلاب المدمار، وتخلصهم من قيود بيروتراطية القسم وأوامر المدرس المستبد، وتعويض ذلك كله بالمشاركة الديمقراطية القائمة على التنشيط والابتكار والإبداع، بتشديد الدولة للمختبرات العلمية والمحترفات الأدبية والورشات الفنية والمقاولات التقنية والأدبية الرياضية داخل كل مؤسسة تعليمية على حدة. ويمكن للمؤسسة أن تقوم بذلك اعتمادا على نفقاتها ومواردها الذاتية، في حالة تطبيق قانون سبك (Sigma) الذي ينص عليه الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المادة 149، ضمن المجال الخامس المتعلق بالتسيير والتديير238.

المطلب الخامس: فلسفة الكفايات والمجزوءات

من أهم الألبيات التطبيقية لتحقيق ديمقراطية التعلم، وتفعيل التربية الديمقراطية، تكوين الكفاءات الوطنية في ظل نظام تربوي سليم يؤمن بالجودة الكمية والكيفية239.ويستهدي بمنطق الاختلاف والتعددية. كما يقدر أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية، ويثنى على ذوي القدرات المتميزة والمهارات المتحصصة، ويشيد بأصحاب المواهب العلمية والفنية والأدبية والتقنية.  

وعد تحديد مدخلات العملية الديدكتيكية، وتسطير خطواتها الإجرائية، علينا أن نستوعب الغابات الكبرى لفلسفة التربية، ونستهدي بالمرامي المرجوة، وزراعي المواصفات المطلوبة من منظومتها التربوية. وهنا، ننطلق من فلسفة الكفايات التي تحت عليها المذكرات الوزارية على أساس أن الكفايات بديل تربوي أساسي لتأهيل النشء، وإعداد المتعلمين لمجتمع الشغل؛ إذ يتطلب المجتمع التكنولوجي المعاصر من المدرسة أن تكون ديمقراطية في نسبتها الإداري والتعليمي، وتكون مؤسسة وظيفية عملية، بتكوين أطر قادرة على تشغيل دولي المجتمع، ولاسيما قيادة آلياته الإنتاجية والخدماتية. ولن يتم هذا إلا بمدرسة إبداعية تعتمد على الابتكار  

الهواميش:

238النظر:وزارة التربية الوطنية: المدونة القانونية للتربية والتكوين، إشراف: المهدي بنمبر، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى 2000م. 

239انظر: جميل حمادي وعبد الله حرش: الكفايات والجودة التربوية، مطبعة المقدم، الناظور، الطبعة الأولى سنة 2005م.   189

الصفحة189

وخلق القدرات المندمجة لدى التلميذ، وتغرس فيه قيم الابتكار والإبداع والانفتاح والحوار والتعلم الذاتي. أضف إلى ضرورة الاستغلال في فرق تربوية، والانصهار في عمل جماعي مثمر.  

وإذا كانت الكفايات منطقها فلسفيا براجمانيا للعملية الديدكتيكية، فإن المحتويات والمجزوعات عليها أن تساير كذلك هذا التحول، وتكون عبارة عن تعلمات في شكل وضعيات ومشاكل وعوائق بواجهها المتعلم في الواقع. أي: لابد من إدخال المجتمع إلى قلب المدرسة، وتحضير المتعلم لأسئلة الواقع المفاجئة. ويعني هذا أن تكون المحتويات عبارة عن مشاكل ووضعيات صعبة ومعددة، تتطلب الحلول المستهلك بأداء فعال، وتعكس المشاكل والأزمات نفسها التي سيتلقاهها المتعلم في المجتمع.  

ولابد أن تتحدد الطرائق البيداغوجية والوسائل الديدكتيكية لمسايرة التطور البيداغوجي، ومراعاة متطلبات سوق الشغل، ومواكبة التطور العلمي والتكنولوجي. وهنا، لابد من الاستفادة من كل الوسائل الإعلامية المتاحة راهنا في الساحة الثقافية والعلمية والتواصلية، وتتبع كل الوسائل الجديدة لتجريبها قصد تحقيق الحداثة، والمساهمة في إثراء المنظومة التربوية المغربية.  

ولابمكن كذلك لهذه العملية أن تنبح إلا إذا وفردنا للأستاذ فضاء بيداغوجيا ملائما وصالحا كمدرسة الحياة، ومجتمع الشراكة، ومؤسسة المشاريع، وإصلاح الإدارة ومقترطتها، وإصلاح المجتمع كله، وتحسين الوضعية الاجتماعية للمدرس، وتحفيزه ماديا ومعدونيا، والسهر على تكوينه بطريقة مستمرة، وتحسين وسائل التقويم والمراقبة على أسس بيداغوجيا الكفايات والوضعيات والمجزوعات، وتكوين أطر هيئة التفتيش ليقوموا بـأدوارهم المنوطـة بهم، والتي تشتل في تأطير المدرسين وإرشادهم إلى ماهو أحدث وأكفي وأجود. ولابمكن أن ينجح المدرس في عمليته التعليمية - التعلمية إلا إذا سن سياسة الانفتاح والتعاون والحوار والعمل في إطار فريق تربوي، والاهتمام بالبحث العلمي والإنتاج الثقافي لاغناء عدته المعرفية والمنهجية والتواصلية لصلاح المتعلم والمدرسة المغربية240.  

الهواميش:

240جميل حمداوي: مع قضايا التربية والتعليم، سلسلة شرفات رقم: 19، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص: 138-137.        الصفحة190

المطلب السادس: فلسفة الشراكة

من المعلم أن الشراكة نوعان: شراكة داخلية وشراكة خارجية. وما يهمنا في هذا السياق هو ما يسعى بالشراكة الداخلية التي ينخرط فيها جميع الفاعلين الذين يسهمون في تدبير المؤسسة وتسييرها وتنشيطها والإشراف عليها، من مدرسين، ومتعلمين، ورجال الإدارة، ومشرفين تربويين، وأسر التلاميذ، ومجلس التدبير داخل المؤسسة.  

ولخلق مشاريع تربوية تحدم المؤسسة من قريب أو من بعيد، لابد من التركيز على مواضيع الشراكة ذات الأولوية والضرورة القصوى، كمحاربة الهدر المدرسي عن طريق الدعم التربوي، وتقديم ساعات إضافية تطوعية لخدمة التلاميذ، ومساعدتهم على مراجعة دروسهم، وإنجاز واجباتهم وفروضهم المنزلية أو الفصلية، مع تدريبه على التطبيق المنهجي والتخليل التركيبي والتقويمي، والأخذ بيدهم من أجل السير بهم نحو ثقافة التعلم الذاتي والتدوين المستمر، وسد كل ثغرات التعبّر والنقص لديهم، بارشادهم ومحاورتهم بطريقة ديمقراطية قائمة على التوجيه الصحيح، واستعمال الحجاج المنطقي لأجل مواصلة دراستهم، والتنسبق مع أسرهم من أجل إرجاع أولادهم إلى المدرسة، وإقناعهم بأهمية التعلم والتكوين والتدريس من أجل بناء مواطن صالح.  

كما يمكن الاستعانة بالمدرسين والمشرفين التربويين للمشاركة في تنمية البحوث التربوية التي ترتكز على تحسين أداء المتعلم، والانطلاق من فلسفة الكفايات المستهدفة، وتحديد الطرائق البيداغوجية، وتطوير الوسائل الديدكتيكية، وعصرنة أساليب المراقبة والتقويم وأنظمة الامتحانات. دون أن ننسى أهمية المشاركة في تكوين المدرسين إداريا، وتربوبا من قبل رجال الإشراف ورجال الإدارة الذين لهم خبرة في الميدان، بمناقشة المذكرات وتوضيحها، وشرح دولي التسيير والياته بعد اللقاءات والندوات والمجالس التعليمية.  

وتستهدف الشراكة الداخلية أيضا تطوير استعمال تكنولوجيا الإعلام والتواصل الرقمي بإنشاء خليات الإعلام والاتصال الحاسوبي والسياحة الإعلامية عبر الإنترنت داخل الشبكة العالمية. ولا نفعل مدى أهمية عملية الارتفاع بعلاكات التعامل السيكولوجي والاجتماعي والإداري بشكل ينبوي  

الصفحة 191

دينامي وإنساني وظيفي داخل المؤسسة التعليمية باحترام المتعلمين ورجال التربية والإدارة والتـدبير ورجال الإشراف والآباء وأمهات التلاميذ وأولياتهم، واللجوء إلى سياسة المرونة والحوار الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، وتطبيق مبدأ الحافزية والمساواة، واحترام الكفاءات، وتحقيق الجودة الكيفية (الإبداعية) والكمية (المردودية). كما ينبغي أن تستند المشاركة التربوية إلى تشجيع الإبداعات التربوية، والارتقاء بالرياضة المدرسية، وتنشيط المؤسسة التعليمية فنيها وتفاقيا وإعلامها واجتماعيا.  

المطلب السابع: البيداغوجيا الإبداعية

تتكئ النظرية الإبداعية التربوية على مجموعة من الأساس والمرتكزات من أهمها: السعي الدائم إلى التحديث والتجديد، وتفادي التكرار واستنساخ ماهو موجود سلطاً، وتجنب أوهام الحداثة الأدونيسية، واعتماد حداثة حقيقية وظيفية بناءة وهدافه تنفع الإنسان في صبرورته التاريخية والاجتماعية. ولـن تتحقـق هـذه الحداثـة إلا بـالتعلم الـذاتي، وتطبيـق البيداغوجيا اللاتوجيهية أو المؤسساتية، ومقروطة الدولة وكل مؤسساتها التابعة لها. ويعني هذا أن البيداغوجيا الإبداعية لن ننجح في الدول التي تحتكم إلى القوة والحديد، وتسن نظاما تعسفيا مستبداً لأن الثقافة الإبداعية هي ثقافة تغييرية راديكالية ضد أنظمة النسلط والقهر.  

وليمكن الحديث أيضا عن النظرية الإبداعية إلا إذا كان هناك تشجيع كبير لفلسفة التخطيط والبناء وإعادة البناء والاختزاع والاكتشاف، وتطوير القدرات الذاتية والمادية من أجل مواجهة كل التحديات.  

ومن الشروط التي تستوجبها النظرية الإبداعية الأحتكام الدائم إلى الجودة الحقيقية كما وكيفـا التي لايمكن الحصول عليها إلا بتخليـق المتعلم والمواطن والمجتمع بصفة عامة. وبعد الإثنان من الشروط الأساسية لماهو إبداعي، لأن الإسلام حث على إثقان العمل، وحرم الغش والريح الحرام.  

ولا بد من ضبط النفس في أثناء التجريب والاختبار وتنفيذ المشاريع العلمية والتنمية، والتروي في إبداعاتنا على جميع الأصعدة والمستويات والقطاعات الإنتاجية، والاشتعال في فريق تربوي، والانفتاح على المحيط العالمي قصد الاستفادة من تجارب الآخرين، والمساهمة بدورنا في خدمة  

الصفحة192

الإنسان كيفما كان. ومن هنا، لابد أن يكون التعليم الإبداعي منفتحا على محيطه، وفي خدمة التنمية المحلية، والجهوية، والوطنية، والقومية، والإنسانية.  

وترفض النظرية الإبداعية التقليد الأعمى، والمحاكاة العمياء، والاتكال على الآخرين، واستيراد كل ماهو جاهز، واستبدال ذلك كله بالتخطيط المعقلين، وإنتاج الأفكار والنظريات عن طريق التفكير في الحاضر والمس تقبل، وتمثّل التوجهات البرجمانية العملية المفيدة، ولكن بشرط تخليقها لمصلحة الإنسان بصفة عامة.  

وبينغي أن ينصب الإبداع على ما هو أدبي وفني وفكري وعلمي وتقني ومهني وصناعي، في إطار نسق منسجم ومتناغم لتحقيق التنمية الحقيقية والتقدم والازدهار النافع لوطننا وأمتنا.  

ولم تتقدم الدول الغربية إلا بتشجيع الحريات الخاصة والعامة، وإرساء الديمقراطية الحقيقية، وتشجيع العمل، وتحفيز العاملين ماديا ومعلوبا. ومن ثم، تعد النظرية الإبداعية فكرة التشجيع والتجهيز وتقديم المكافآت المادية والرمزية من أهم مقومات البيداغوجيا العملية الحقيقية، ومن أهم أسس التربية المستقبلية القائمة على الاستكشاف والاختراع241. 

المطلب الثامن: تفعيل الحياة المدرسية

تعمل الحياة المدرسية على خلق مجتمع ديمقراطي منفتح وراع ومزهور داخل المؤسسات التعليمية والفضاءات التربوية. وتقوم أيضا على إذابة الصراع الشعوري واللاستعوري، والقضاء على الفوارق الطبقية، والحد من أسباب تأجيج الصراع، وتنامي الحقد الاجتماعي، ولاسيما أن الحياة المدرسية هي مؤسسة تربوية تعليمية نشيطة فاعلة وفعالة، تعمل على ربط المؤسسة بالمجتمع، وتوفير حياة مفصة بالسعادة والأمل والطمأنينة والسعادة. ومن ثم، تحقق الأمان والحرية الحقيقية للجميع. وتسعى إلى تكريس ثقافة المواطنة الصالحة المتمدنة، باحترام حقوق المتعلم الإنسان داخل فضاء المؤسسة، وتطبيق المساواة الحقيقية،  

الهواميش:

241جميل حمادي: من مستجدات التربية الحديثة المعاصرة، مشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم 23: الطبعة الأولى سنة 2008، ص: 243-241.  

الصفحة193

وإرساء قانون العدالة المؤسساتية، وفتح باب مبدأ تكافؤ الفرص على مصراعيه أمام الجميع، دون تمييز عرقى أو لغوي أو طبقى أو اجتماعي، فالكل أمام قانون المؤسسة سوسية كأسنان المشط الواحد. ومن ثم، فلا قيمة للرأسمال المالي أو المادي، في هذا الفضاء المؤسساتي، أمام قوة الرأسمال الثقافي الذي يعد معيار التفوق والنجاح والحصول على المستقبل الزاهر.  

ويقصد بالحياة المدرسية (la vie scolaire) في أديبات التشريع المغربي التربوي، تلك الفترة الزمنية التي يقضيها التلميذ داخل فضاء المدرسة، وهي جزء من الحياة العامة للتلميذ الإنسان. وترتبط هذه الحياة بإيقاع تعلمي وتربوي وتنشيطي متصوح حسب ظروف المدرسة ونموجاتها العلاقية والمؤسساتية. وتعكس هذه الحياة المدرسية مابقع في الخارج الاجتماعي من تبادل للمعارف

والقيم، وما يتحقق من تواصل سيكواجتماعي وإنساني. وتشكل "الحياة المدرسية جزءاً من الحياة العامة المتعززة بالسرعة والتدفق" التي تستدعي التجاوب والتفاعل مع المتغيرات الاقتصادية والقيم الاجتماعية والتطورات المعرفية والتكنولوجية التي يعرفها المجتمع، حيث تصبح المدرسة مجالاً خاصا بالتنمية البشرية. والحياة المدرسية بهذا المعنى، تعد الفرد للتكيف مع التحولات العامة والتعامل بإيجابية، وتعلمه أساليب الحياة الاجتماعية، وتعمق الوظيفة الاجتماعية للتربية، مما يعكس الأهمية القصوى لإعداد النشء، أطفالاً وشباباً، لممارسة حياة قائمة على اكتساب مجموعة من القيم داخل فضاءات عامة مشتركة242.

ويتبين لنا أن الديمقراطية لايمكن تجسيدها على أرض الواقع إلا إذا تحققت في مدرسة تستهدي بالحياة المدرسية بشكل كلي، وتتمثل مقوماتها الإيجابية.  

المطلب التاسع: تطبيق البيداغوجيا الفارقية

الهواميش:

242وزارة التربية الوطنية:دليل الحياة المدرسية،شتنبر2003م،ص:4

الصفحة194

يقصد بالبيداغوجيا الفارقية (Pédagogie différenciée) وجود مجموعة من التلاميذ يختلفون في القدرات العقلية والذكائية والمعرفية والذهنية، والمبول الوجدانية، والتوجهات الحسية الحركية، على الرغم من وجود مدرس واحد، داخل فصل دراسي واحد. ويعني هذا وجود متعلمين داخل قسم واحد، أمام مدرس واحد، مختلفين على مستوى الاستيعاب والتمثل والفهم والتفسير والتطبيق والاستذكار والتقويم. ومن هنا، جاءت البيداغوجيا الفارقية لتهتم - أساسا- بالطفل المتمدرس، بإيجاد حلول إجرائية وتطبيقية وعملية للحد من هذه الفوارق المختلفة والمتنوعة كما وكيفا، سواء أكانت هذه الحلول نفسية أم اجتماعية أم بيداغوجية أم ديداكتبكية أم معرفية...  

ومن ثم، تنطلق البيداغوجيا الفارقية من القناعة القائلة بأن "أطفال الفصل الواحد يختلفون في صفاتهم الثقافية والاجتماعية والمعرفية والوجدانية، بكيفية تجعلهم غير متكافئي الفرص أمام الدرس الموحد الذي يقدمه لهم المعلم. ويؤول تجاهل المدرس لهذا المبدأ إلى تفاوت الأطفال في تحصيلهم المدرسي. وتأتي البيداغوجيا الفارقية للتخفيف من هذا التفاوت. ويعرف نوي نوكران (Louis Legrand) البيداغوجيا الفارقية كالآتي: هي تمش تربوي، يستعمل مجموعة من الوسائل التعليمية. التعلمية، قصد إعانة الأطفال المختلفين في العمر والقدرات والسلوكيات، والمتتمين إلى فصل واحد، من الوصول بطرائق مختلفة إلى الأهداف نفسها243. 

وبعرفها الباحث التونسي مراد بهلول بقوله: تتمثل البيداغوجيا الفارقية في وضع الطرائق والأساليب الملاكية للتفر يق بين الأفراد، والكفيلة يتمكين كل فرد من تملك الكفايات المشتركة (المستهدفة من قبل المنهج). فهي سعي متواصل لتكييف أساليب التدخل البيداغوجي تبعا للحاجبات الحقيقية للأفراد المتعلمين. هذا هو التفر يق الوحيد الكفيل بمنح كل فرد أوفر خطوط التطور والارتقاء المعرفي244.

الهواميش:

243أحمد أوزي: المجموعي لعلوم التربية:ص: 55-54.  

244Mourad Bahloul :La pédagogie de la différence:lexemple de l'école tunisienne, M. Ali Editions, 2003 – 159 Pages 

الصفحة195

ومن جهة أخرى، يعرفها عبد الكريم غريب بأنها" إجراءات وعمليات تهدف إلى جعل التلميذ متكيفا مع الفوارق الفردية بين المتعلمين، قصد جعلهم يتحكمون في الأهداف المتوخاة245.

وتقرر البيداغوجيا الفارقية بالتمثلات الذهنية المختلفة لدى المتعلمين، سواء أكانوا فقراء أم أعنياء، أو كانوا حضريين أم بدوبين. ومن ثم، فالبيداغوجيا الفارقية هي "بيداغوجيا الكفايات والقدرات" فهي تقتضي مراعاة الفوارق بين التلاميذ؛ إلا أن الفوارق التي تعنيها هنا، هي في التمثلات الذهنية، وليست في الانتماءات الطبقية. وفي هذا السياق، يمكن التساؤل حول التمثلات الأكثر دلالة وغنى: أهم تمثلات التلاميذ المنحدرين من أسرة فقيرة أم تمثلات المنحدرين من أسرة غنية؟ إن الأخذ بنظرية الشفرتين لبرنشتاين (Basil Bernstein) يسقطنا في نوع من التعميم؛ بينما يؤدي الأخذ بنتائج أبحاث دوكري (Duccret. B) إلى قناعات وتأكيدات فجة246.

بعض أن نظرية برنشتاين تذهب إلى أن الفقراء بوظفون شفرة ضيقة ومحدودة على مستوى التواصل اللغوي؛ مما يجعلهم هذا الواقع في وضعية صعبة على مستوى الأداء والإنجاز والكتابة؛ حيث لا يستطيعون التعبير بسهولة وثروة وغنى، كما هي شفرة الأغنياء التي تتغير بالانساع والثروة على مستوى المعجم والثقافة والخبرة؛ مما يؤهلهم ذلك إلى النقوق والنجاح في دروسهم.  

وعليه، فالبيداغوجيا الفارقية هي تلك البيداغوجيا التعددية التي تعترف بوجود مجموعة من الفوارق الفردية الكمية بين المتعلمين داخل الفصل الدراسي الواحد. وتقديل للأخفاق والمهدر المدرسي اللذين ينتجان -غالبا عن ظاهرة تعدد الفوارق الفردية في المدرسة الواقعية الموحدة، تلتي هذه البيداغوجيا إلى تسطير أهداف وكفايات تتناسب مع فلسفة التنويع والاختلاف والتعدد، بتقديم أنشطة ومحتويات تتلاعم مع مستويات التلاميذ المختلفة والمتعددة قوة وضعفا، باتباع طرائق بيداغوجية مناسبة، وتشغيل وسائل ديدكتيكية مختلفة تصلح للتقليل من تلك الفوارق المعرفية والمهارية  

الهواميش:

245عبد الكريم غريب: المنهل التربوي، الجزء الثاني، مشورات عالم التربية، دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006، ص: 728.  

246العربي اسليماني ورشيد الخديمي: قضايا تربوية، ص: 72-71.         

الصفحة 196

والذهنية، وتوظيف أساليب التقويم والدعم والمعالجة المناسبة للحد من هذه الظواهر اللافئة للانتباه. ويعني هذا كله أن البيداغوجيا الفارقية آلية مهمة لتحقيق ديمقراطية التعلم والتعليم على حد سواء.  

المطلب العاشر: دمقرطة التعليم

من الحلول الأخرى لتفادي مدرسة الفوارق الطبقية والاختلال الاجتماعي اللجوء إلى دمقرطة التعليم، ويطلق هذا المفهوم على "العملية التي يتم بموجبها توفير الموارد البشرية والمالية والمالية الضرورية داخل الوسط المدرسي لنقل المعارف إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. يضاف إلى ذلك اقتناع السياسة التربوية وأعتراف بما يترتب عن هذا التوجيه247.   

ويمكن تحقيق دمقرطة التعليم بتحقيق مفهوم تكافؤ الفرص الذي صار شعارا جميع الشعوب، سواء أكانت متقدمة أم نامية، مع تبنى هيئة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المتضمن لمادتين أساسيتين:  

  • لكل شخص الحق في التربية والتعليم اللذين يجب أن يكونا مجانيين على الأقل فيما يخص المرحلة الابتدائية والتربية الأساسية."  
  • لكل شخص الحق بالمشاركة بحرية في الحياة الثقافية للمجموعة"، فهاتان المادتان تشيران إلى الحق في التربية والتعليم للجميع248.  

 وعليه، فدمقرطة التعليم هي خطوة أولى ومرحلة ضرورية لدمقرطة الأسرة والمجتمع والسياسية على حد سواء، من أجل الرفع بالوطن والأمة إلى مصاف الدول والأمم المحترمة والمزدهرة على جميع المستويات والأصعدة.  

الهواميش:

247أحمد أوزي: نفسه، ص. 139.  

248أحمد أوزي: نفسه، ص. 103.   

الصفحة197

المطلب الحادي عشر: دمقرة المجتمع

لإيمكن أن تتحقق ديمقراطية التربية إلا إذا تحققت الديمقراطية الحقيقية في المجتمع، ولا ينبغي أن تكون ديمقراطية الدولة شكلية وسطحية تمس مـاهو هامشـي وثـانوي، وتتـرك مـا هـو أساسـي وجـوهري. أي: إن الديمقراطيـة الحقيقيـة هـي ديمقراطيـة عمليـة، يشـارك فيهـا الـرئيس والمرؤوس، ويحكمـان معـا إلـى لغـة الحـوار والاخـتلاف وخطـاب الانتخابـات التربيـة الشـفافة، دون تزويـر، أو تزييـف، أو تسـويف، أو تجوبع.  

وهنا، تتحمل المدرسة المسؤولية كاملة لتغيير المجتمع تغييرا ديمقراطيا، بتخليق الناشئة الشبابية، وتهيئها للمستقبل الزاهر حينما تتناول الدولة عن سلطاتها الواسعة لتشرك فيها كفاءات المجتمع بطريقة ديمقراطية عادلة، لاتفاوت فيها، ولا صراع شخصي أو حزبي يوجج حولها.  

ومن هنا يرى جون ديوني أن "الاندماج الاجتماعي الأمثل هو الذي يستجيب للنموذج الديمقراطي" ذلك النموذج الذي لا يعني ميدان السياسة وحدهما بل سائر الميادين الأخرى، ولاسيما العائلة والكنيسة والأعمال القتصادية.  

وهذا النموذج الديمقراطي لإيمكن عدد أن يوضح موضع التنفيذ إلا عن طريق استعدادات خلفية معنوية يرجع إلى المدرسة صراحة أمر تعهدها وغرسها. غير أنه مادامت هذه المدرسة توجهها مبادئ سليمة، ومادامت تيسر أقصى حد من تقاسيم التجاربوالمسؤوليات، فإنها تسهم بالضرورة في إعادة بنـاء النظـام الاجتماعي. وإنهـا، علـى حـد تعبيـره، الوسيلة الأساسية للتقدم والإصلاح الاجتماعي247 .  

وعلى الرغم من أهمية المدرسة في تغيير المجتمع وتحديثه وعصرته ومسـاهمته في تحقيـق الديمقراطيـة، وارسـاء فكـر الاختلاف وشـرعية الحوار، إلا أن المدرسة قد ظلت في غياب "عن الحيـاة السياسية، ليست بسبب عدم انفتاحها على المحيط السياسي فحسب، بل لأن هذا الأخير هو بدوره منطق على ذاته؛ أو بعبارة أخرى إن مانلحظه، هو انعدام دور  

الهواميش:

249في أفانزين: الجمود والتجديد في التربية المدرسية، ص276.  

الصفحة198

الأحزاب السياسية والجمعيات في الوصول إلى جوهر المؤسسة التعليمية بالمعنى العام، حيث ظلت تزرع تحت غطاء الحزبية الضيقة التي تطعى عليها.  

فالبرامج السياسية مطالبة بالحضور الفعلي داخل المنظومة التربوية، ليس من باب تشكيل أحزاب وكتل سياسية داخل المدرسة، بل بترسيخ ثقافة الحوار الحوار وتقبل الآخر واكتساب مبادئ النقد الذاتي والتشبث بقيم الوحدة يجميع معانيها؛ ذلك أنه مهما اختلفت روانا للأمور، فإن الغاية تظل واحدة: بناء مجتمع حديث مسابر للركب الحضاري والتطور التكنولوجي والعلمي. 

وهكذا، نصل إلى أن دمقرطة المجتمع وبنائه حضاريا وأخلاقها من أهم الألبيات الإجرائية لتحقيق الديمقراطية الحقيقية في نظامنا التربوي والتعليمي250.  

المطلب الثاني عشر: توحيد الزي المدرسي

من أهم الحلول الأخرى للحد من ظاهرة الصراع الطبقي، على الرغم من شكليتها، توحيد الزي المدرسي، وفرضه إجباريا على جميع التلاميذ، ومساعدة المتعلمين المعوزين الذين يوجدون بالمؤسسة على التقييد به، وهنا، نستدعي دور جمعية الأنشطة الاجتماعية والتربوية والثقافية باعتبارها فاعلاً مشاركاً، لأنها تنشط في مجالات متعددة، وتساعد التلاميذ الفقراء، وتلبي حاجياتهم المادية، وتقدم للتلاميذ المتعثرين دراسيا حصصا في الدعم والتقوية، وتنظم للمجتمع المدرسي محاضرات وعروضا، وتمنح للتلاميذ المتعرفين جوائز تشجيعية وغيرها من الأنشطة الاجتماعية والتربوية والثقافية

الهواميش:

250العربي سليمان ورشيدالخديمي:نفسه،ص244

الصفحة199

المطلب الثالث عشر: الاسترشاد بالطرائق التربوية الفعالة

لابد من تمثل الطرائق البيداغوجية الفعالة لتحقيق تربية إبداعية ذات مردودية ناجحة،وتعويد النشء على الديمقراطية ؛ ولاسيما أن هذه الطرائق الفعالة من مقومات التربية الحديثة والمعاصرة في الغرب كما يقول السيد بلوخ (Bloch) حينما أثبت أن نجاح المدرسة الفعالة "لازب من أجل بروغ مجتمع ديمقراطي، لامكن أن يكون كذلك إلا عن طريق منطوق مؤسساته251.  

وقد ظهرت هذه الطرائق التربوية الفعالة في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع ماريا مونتيسوري (Maria Moriessori)، وجون ديوي (Dewey)، ووكلاباري(Claparide)، وفريني (Freinet)، وكرشنشتاير(Kerschensteiner)، وكارل روجرز(Rogers)، ومكارنكو (Makarenko)، وأويليفيه ربيول (Reboul), وفيريير (Ferrière)، وجان بياجي (J.Piaget)...  

وتعتمد هذه الطرائق الفعالة الحديثة على عدة مبادئ أساسية هي: اللعب، والحربة، وتعلم الحياة عن طريق الحياة، والتعلم الذاتي، والمنفعة العملية، وتفتح الشخصية، والاهتمام بالفوارق الفردية ، والاعتماد على السيكولوجيا الحديثة، والاستهداء بالفكر التعاوني، وتمثل طريقة التسيير الذاتي، وتطبيق اللاتوجيهية، ودمقرطة التربية والتعليم...  

المطلب الرابع عشر: البيداغوجيا المؤسساتية 

يرفض كثير من المربين تحويل المؤسسة التربوية إلى مؤسسة الثكنة أو فضاء بيروقراطي يكرس التمييز العنصري، ويؤجح الصراع الطبقي، أو يتم إصلاحها خارجيا، بل ينبغي أن يكون الإصلاح داخليا، بالاعتماد على ميساعدى البيـــــداغوجيا المؤسســــــاتية.  (INSTITUTIONNELLEPIDAGOGIE)  التي ينظرلها كل

الهواميش:

251غي آفانزيني:نفسه،ص280

الصفحة200

من أوري (OURY)ولوبرو(LOBROT) ، والإيساد  (LAPASSADE).

وقد ظهرت المدرسة المؤسساتية، باعتبارها اتجاها تربوياً حديثاً، في فرنسا، وتعتبر أن الإصلاح "يجب أن يمر عبر المؤسسة، بالإضافة إلى البنيات الاقتصادية والاجتماعية"، ومن ثمّه يجب الاهتمام بمفهوم الإدارة الذاتية والتسيير الذاتي من أجل تحقيق الاستقلال الذاتي للمتربين في إطار مؤسسي مفتوح.

إذاً، ترفض هذه البيداغوجيا الجديدة المدرسة التقنية التي تخضع التلميذ بنظامها الانضباطي البيروقراطي الذي يحد من حرية التلميذ. ومن ثمّ، تتحول المدرسة إلى صندوق أسود، أو إلى تقنية قمعية لا تؤمن إلا بالنظام والانضباط على حساب حرية التلميذ، على حساب الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية والعلمية.  

لهذا، تقترح البيداغوجيا المؤسساتية مدرسة فارقية مرنة ومنفتحة، تتبع قوانينها من التفاعل الداخلي لأفرادها قصد الانتقال بالمدرسة من مؤسسة التعليم والتوجيه والانضباط القائم نحو مؤسسة إبداعية فاعلة وفعالة مبدعة ومبتكرة، تسعى إلى تحقيق التقدم والازدهار والسعادة الفضلى.  

المطلب الخامس عشر: البيداغوجيا اللاتوجيهية

تنبني البيداغوجيا اللاتوجيهية على التعلم الذاتي، والتسيير الشخصي، واعتماد المتعلم على نفسه في إنجاز واجباته، وأداء أعماله. وهنا، يتحول المدرس إلى مشرف مرشد، ولا يتدخل إلا إذا طلب منه المتعلم ذلك. وتعتمد اللاتوجيهية على الحرية، والعفوية، والتلقائية، والتعلم الذاتي، والمرونة، والديمقراطية، وبناء المعرفة عن طريق التدريج المنطقي والشخصي، والابتعاد عن طرائق التدريس التلقائية القائمة على الإكراه والتعليم والحفظ، أو تدخل المدرس تعسفاً وحيفاً في أعمال التلميذ إرغاماً وقسراً، وتوجيه رغباته كما يشاء دون استشارته في ذلك. وتزرع هذه الطريقة الثقة في المتعلم، وتعوده على المشاورة الشخصية والتعلم الذاتي وحب المغامرة، والاستعانة بكفاءاته، وقدراته الذاتية لحل المشاكل.  

الصفحة201

  والوضعيات، وتطويع الصعوبات التي تواجهه في المدرسة والحياة على حد سواء.  

ويعــد جــان جاك روســو (Rousseau)، وأوليفيــه ربيــول (Reboul Olivier)  ، وكــارل روجــز (C.Rogers)، مــن أهــم منظــري البيــداغوجيا اللاتوجيهية.  

المطلب السادس عشر: تفعيل المجالس التربوية

تتــوفر المؤسســة علــى عــدة مجــالس يمكــن أن تســهم فــي إثــراء المؤسســة وتفعيلهــا علــى جميــع المســتويات والأصــعدة، مــع لــم المتعلمــين فــي بوتقــة اجتماعيــة واحــدة **كالمجــالس التعليميــة والفــرق التربويــة** التــي تحتــل مكانــة بارزة فــي تنظيــم الحياة المدرسيــة وتنشيطهــا ودمقرطتهــا، وتتمثــل فــي إبداء الملاحظــات والاقتراحــات حــول البــرامج والمنــاهج، وبرمجــة مختلفــا الأنشــطة الثقافيــة والاجتماعيــة والرياضيــة، وتحيــين الإمكانيــات والتــدابير اللازمة لتنفيذها وغير ذلك من الأعمال التنظيمية والتربوية، وإن "اعتماد الفرق التربويــة بمختلف الأســلاك كالبيــات تنظيميــة وتربويــة لمــن شــأنه أن يقوم فرص نجاح التغييرات المرغوب فيهـا، ولضمان فعالياتهـا وانتظـام أنشطتها تحدد بشـكل دوري مهـام هـذه الفـرق وطبيعـة أعمالهـا ووظيفتهـا الاستشارية في تنشيط الحياة المدرسيـة252.

ولكن أهم مجلس يقوم بدور كبير وفعال من أجل خلق فضاء مدرسي متجــانس ومتعــايش مجلــس التــدبير. إذاً، مــا أدوار هــذا المجلــس واختصاصاته؟  

تتمثل المهام المسندة لمجلس التدبير في اقتراح النظام الداخلي للمؤسسة التعليميــة، فــي إطــار احتــرام النصــوص التشــريعية والتنظيميــة والقانونيــة المعمــول بهــا، ولــن يكــون هــذا النظــام الداخلي مقبــولا وفعــالاً حتى تــتم المصــادقة عليه من قبل الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين.  

ومن الاختصاصات الأخرى للمجلس دراسة برامج عمل كل من المجلس التربوي والمجالس التعليمية، والمصادقة على المقترحات المرفوعة من  

الهواميش:

252وزارة التربية الوطنية: تنظيم الحياة المدرسية، ص.24.  

الصفحة202

قبل هذه المجالس الموازية، وإدراجها ضمن برنامج عمل المؤسسة المفتوح من قبله. فضلاً عن تسطير برنامج عمل سنوي خاص بأنشطة المؤسسة، وتتبع مراحل إنجازه لتفعيل الحياة المدرسية وتنشيطها حسب مقتضيات الميثاق الوطني، وحسب المذكرات الوزارية التي تنص على تنفيذ الحياة المدرسية داخل المؤسسة التعليمية، في علاقة مع الفاعلين الداخليين والخارجيين.

ومن الاختصاصات الأخرى التي يتكفل بها مجلس التدبير الاطلاع على القرارات الصادرة عن المجالس الأخرى، وقرارات نتائج أعمالها، واستغلال معطياتها للرفع من مستوى التدبير التربوي والإداري والمالي للمؤسسة.

ويقوم المجلس أيضاً بدراسة التدابير الملائمة لضمان صيانة المؤسسة، والمحافظة على ممتلكاتها، وإبداء الرأي بشأن مشاريع اتفاقيات الشراكة التي تعتزم المؤسسة إبرامها، ودراسة حاجيات المؤسسة للسنة الدراسية الموالية، والمصادقة في الأخير على التقرير السنوي العام المتعلق بنشاط المؤسسة وسيرها، والذي يتعين أن يتضمن لزوماً المعطيات المتعلقة بالتدبير الإداري والمالي والمحاسباتي للمؤسسة.

ويقوم مجلس التدبير بعدة وظائف أساسية ومهمة كتنمية المؤسسة التربوية داخلياً وخارجياً، وخلق موارد ذاتية بشراكة مع المؤسسات المنتخبة والمجتمع المدني كشركاء فاعلين أساسيين، ودعم سياسة اللامركزية واللاتمركز، وإشراك جميع الشركاء في العملية التربوية، وتحسين جودة التعليم داخل المؤسسة بالعناية بفضائها الداخلي ومحيطها الخارجي، وإعداد برنامج عمل سنوي للأنشطة المزمع القيام بها في مختلف المجالات.

المطلب السابع عشر: التربية على حقوق الإنسان والمواطنة

تعد التربية على حقوق الإنسان والمواطنة من أهم الآليات لتفعيل الديمقراطية الحقيقية، فتعريف المتعلم بحقوقه وواجباته تجعله يعرف ماله، وما عليه، وتدفعه للتحلي بروح المواطنة والتسامح والتعايش مع الآخرين، مع نبذ الإرهاب والإقصاء والتطرف.

الصفحة203

وقـد أرسـت المجتمعـات الليبراليـة مجموعـة مـن الحقـوق الكونيـة التـي اعترفت بها هيئـة الأمم المتحدة، وسطرتها في مواثيق تشريعية مدنية واجتماعيـة وسياسـية واقتصـادية وإنسـانية سـيدت الإنسـان، وجعلتـه فـوق الطبيعة. كما دافعت عن كرامته وأنفته وطبيعته البشرية. بل اهتمت أيضاً بحقوق الطفل السوي واللاجئ والمعاق في الوقت نفسه الذي اعترفت فيه بحقـوق الكبـار والمسـنين والمدنيين فـي حـالتي السـلم والحـرب علـى حـد سواء.

وهكـذا، تعلـم وزارة التربيـة والتعلـيم بـالمغرب ناشـئتها مبـاديء حقـوق الإنسان، وتكسيهم مجمل المعاهدات والمواثيق الحقوقية التي سطرتها هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بيان القرن العشرين. وبذلك، تعد المدرسـة التربويـة الفضـاء المناسـب لتلقين التعلمـات والخبـرات المتعلقة بحقوق الإنسان. وقد سـارعت الدول الغربيـة والعربيـة - على حـد سواء- إلى الاهتمام بحقوق الطفل؛ إذ بادر المغرب إلى إنشاء برلمان الطفل ليعبر فيـه الصـغار عـن مشـاكلهم وانشـغالاتهم، ويقـدمون فيـه اقتراحـاتهم

وتوصياتهم.

 وعليه، فاختيار الديمقراطية كنهج في تدبير الشأن السياسي وكممارسة وتربية أصـبح اختيـاراً لا رجـعة فيـه، بـل وأصـبح معيـاراً للاندماج في المجتمع الدولي. وأي مسـاس بـه أو خروج عن مبادئـه أو خـرق لسلوكياته يكون كل ذلك مدعاة للتنديد والعزل والاقصاء وبلوغ أن تعرض أية دولة لـذلك يعنـي اسـتحالة أن تحقـق تنميتهـا وارتقاءهـا والاسـتفادة ممـا يتيحه التضامن الدولي253. 

 وبمعنى هذا كله أن تعليم النشء ثقافة حقوق الإنسان من أهم السبل الحقيقية لتفعيل الديمقراطية المجتمعية والتربوية.

الهواميش:

253محمد مصطفى القباج: (التربية على المواطنة والحوار وقبول الآخر في التعليم،2006، أكتوبر32:الثانوي: تحليلات واتجاهات)، مجلة علوم التربية، المغرب، العدد: ص:142.

الصفحة204

المبحث السابع: المشاكل التي تواجه الديمقراطية التربوية

لا يخفى على الجميع أنه من المستحيل تحقيق الديمقراطية في مجتمع التخلف والكسل والخمول، أو في مجتمع مازال يحتكم إلى قوانين القمع والقهر، ويتبع سياسة الاستبداد والقمع والقهر ضد المواطنين الأبرياء. ولا تتحقق الديمقراطية الحقيقية إلا في مجتمعات الحرية والإبداع التي تؤمن بالعمل الجاد، وفكرة التناوب، وشرعية الاختلاف، ومنطق التغاير، وتلجأ إلى صناديق الاقتراع لتحديد الرئيس من المرؤوس. ومن ثم، تترجم الديمقراطية في أفعال هادفة ورشيدة، وسلوكيات مواطنة راعية إجرائية عملية، يستفيد منها كل المواطنين بعدالة ومساواة، مع احترام دولة الحق والقانون.

ومن هنا، فمن أهم العوائق التي تحول دون تطبيق الديمقراطية: البيروقراطية، والجهل، والتخلف، والخمول، والتراخي، والروتين،

ورتابة الإدارة، وانعدام الخبرة، وغياب الكفاءة التربوية والإدارية. وليست الديمقراطية الحقيقية - كما قال جون ديوي- مجرد شكل للحكومة، وإنما هي، في أساسها، أسلوب من الحياة المجتمعية والخبرة المشتركة والمتبادلة.

ولا يمكن تحقيق الديمقراطية، في نظامنا التربوي، إذا كان مبنيًا على التقليد والاجترار، وتغليف المناهج والبرامج والمقررات بالتفكير الأسطوري والماورائي، وتغليفها بالأفكار السطحية والقشور الزائفة. كما لا تتحقق الديمقراطية في مجتمع يتعشش فيه الفقر والبؤس والفاقة والحرمان، وتنعدم فيه العدالة، ويقل فيه الخوف من الله، وتبطل فيه شريعة الله. أي: إن الديمقراطية الجوهرية - لا الشكلية- سلوك عملي، وتطبيق سياسي واجتماعي عام. وهي كذلك مرتبطة أيما ارتباط بالحرية والمساواة والعدالة والعقلانية والتعايش والتسامح، وحب الآخر، والتواصل معه بشكل إيجابي وهادف.

الصفحة205

المبحث الثامن: حلول واقتراحات وتوصيات

إذا كانت المقاربة الصراعية تثبت أن المدرسة فضاء للمطالب الإيديولوجية والطبقية، وفضاء للتفاوت الاجتماعي والثقافي واللغوي والاقتصادي. فقد ترتب منطقياً واستنتاجياً عن هذا كله أن أدى الواقع المنهار بالمدرسة التربوية إلى الفشل والإفلاس التربويين؛ حيث صارت المدرسة عند الكثير من الملاحظين مؤسسة الخيبة والمأساة والصراع الجدلي والتناقضات الصارخة. بيد أن هناك من يعارض هذا الطرح الصراعي، فيعد المقاربة الصراعية ذات أبعاد سياسية وحزبية ضيقة، تنطلق من تصورات ماركسية أو أفكار هيجلية، أو منطقيات غرامشية، أو مرجعيات ألتوسيرية. ومن ثم تفقد هذه التصورات خاصية الموضوعية والحياد والتحليل العلمي المنطقي ومصداقية التحليل المعقلن.

وعليه، فليس من الضروري أن تكون المدرسة فضاء للصراع والتطاحن العرقي واللغوي والثقافي، وانعدام تكافؤ الفرص، بل يمكن أن تكون مدرسة ديمقراطية، وفضاء للحرية والابتكار، ومكاناً لإذابة الفوارق الاجتماعية، وفضاء لتعايش الطبقات، وكوناً حوارياً لتجود الروح والنظام بين المتعلمين.

ومن ثم، على المؤسسة التربوية أن تذيب كل الخلافات الموجودة بين التلاميذ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي واللغوي، وتحرير المتعلمين المنحدرين من الفئة الدنيا من عقدهم الطبقية الشعورية واللاشعورية، وتخلصهم من مركب النقص بتنفيذ المشاريع المؤسساتية، وتقديم الأنشطة الترفيهية للتلاميذ، وتكوينهم تكويناً ذاتياً يمحو كل الفوارق التي يمكن أن توجد بين المتعلمين داخل المدرسة الواحدة. ومن أهم الوظائف الأساسية للمدرسة إيجاد حالة من التوازن بين عناصر البيئة الاجتماعية، وذلك بأن تتيح المدرسة لكل فرد الفرصة لتحريره من قيود طبقته الاجتماعية التي ولد فيها، وأن يكون أكثر اتصالاً وتفاعلاً مع بيئته الاجتماعية والمذاهب الدينية254.

الهوميش:

254محمد عليون: التربية والتعليم من أجل التنميةد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2007، ص: 123.

الصفحة206

ولابد أن تسهم المدرسة في خلق علاقات إيجابية مثمرة بين التلاميذ فيما بينهم وبين المتعلمين وأطر التربية والإدارة، تكون تلك العلاقات مبنية على التعاون والأخوة والتسامح والتواصل والوئام والمشاركة الوجدانية والتكامل الإدراكي، ونبذ ما هو قائم على الصراع الجدلي، والعدوان، والكراهية، والإقصاء، والتحقير، والتنافر، والتعصب، والجمود، والتطرف، والإرهاب.

ولابد للمدرسة من الاحتكام إلى منطق المساواة، وتوفير العدالة والعمل على تحقيق تكافؤ الفرص، ودمقرطة التعليم من أجل تكوين مواطن صالح ينفع وطنه وأمته، ويحافظ على ثوابت المجتمع، ويعمل جاهداً من أجل تحديث البلد وتغييره إيجابياً، والرفع من مستواه التنموي، والسير به نحو آفاق أرحب من التقدم والرفاهية. كما تعمل المدرسة على تغيير المستوى الاجتماعي والاقتصادي للمتعلمين الذين ينحدرون من أوساط فقيرة. فمن خلال التعلم والحصول على الشهادات والدبلومات، يستطيع ابن البيئة الفقيرة تغيير مستوى معيشته والمستوى الاقتصادي لأسرته كما هو الحال في المغرب؛ حيث تصبح الوظيفة التي يحصل عليها الطالب الناجح مسلكاً للثراء والسلطة والترقي والانتقال، وتبني قيم طبقة اجتماعية أخرى. أي: تعمل المدرسة على تحسين الظروف الاقتصادية للمتعلم، وتغيير طبقته الاجتماعية، بالانفصال عن ثقافة بيئته الأصلية، وتمثل ثقافة الطبقة الجديدة. ومن هنا، يجرنا هذا التصور إلى رفض ما تذهب إليه المقاربة الصراعية التي لا ترى في المدرسة سوى فضاء للصراع الطبقي والتناحر العرقي، وأداة للتطويع الإيديولوجي، وناقل لقيم الطبقة الحاكمة أو السائدة. وهكذا "لا يجب" أن يوقعنا هذا الطرح الصراعي في فخ الاعتقاد بتصور ميكانيكي وقحطاني لدور المدرسة، أي اعتبارها دوماً الجهاز الإيديولوجي للدولة البرجوازية أو الطبقة السائدة بمعنى أنها مؤسسة طبقية ذات وظيفة إيديولوجية. فلا بد من تجاوز هذا التصور الضيق لوظيفة المدرسة الاجتماعية، نظراً لكونها تتمتع باستقلالية نسبية عن قيود وتحديدات المحيط العام الذي تتفاعل معه وفيه، كما تتمتع بنظامها الداخلي الخاص بها، ومنطقها المتميز الذي تشتغل فيه وبه بنياتها255.

الهواميش:

255محمد عليوش: التربية والتعليم من أجل التنمية، ص: 120

الصفحة207

وما نلاحظه من تبعية المدرسة المغربية للمدرسة الفرنسية منذ الحماية إلى يومنا هذا إلا دليل على الانفصاميةالتي تعيشها المدرسة المغربية، وهو كذلك مؤشر حقيقي على التناقضات الصارخة التي تبرز داخل المؤسسات التعليمية والتربوية، و"يجب مراعاة وظيفة المدرسة في البلدان المتخلفة من حيث إنها تتحدد في سياق التبعية، وهذا ما يترتب عنه طبيعة الأوضاع المزرية التي يشهدها التعليم في هذه البلدان، من انعدام العقلانية لا في التخطيط ولا في التوجيه ولا في التأطير. وخير دليل على هذا ما يعرفه التعليم عندنا من غياب منظور شامل وعام بصوغ الأهداف المعرفية والتربوية ويحدد الوسائل البيداغوجية، وذلك لأننا ورثنا ذلك من الاستعمار، وبقي مستمراً دون إعادة النظر الشامل في البنية التعليمية، وكذا في جميع البنيات الأساسية في المجتمع المغربي.

هذا عكس ما تم بالغرب حيث تمكّنت المؤسسة من تحقيق نوع من الانسجام والتكامل مع المحيط الثقافي والمجتمع الذي تندرج فيه، أما بالمغرب فإن "الازدواجية" عندنا ما تزال قائمة بين الثقافة المدرسية ككل، وبين الإطار الاجتماعي والثقافي الذي تنخرط فيه. زيادة على هذا، تبقى المدرسة حسب مصطفى محسن- بمثابة "صندوق أسود" لا نمسك عليها بميكانيزمات وظائفها وأشتغالها، وتحركها، ولا بالبرامج والنماذج المعرفية والسلوكية السائدة فيها256. 

وعلى الرغم من كون المدرسة فضاء للتعدد الثقافي واللغوي والتفاوت الاجتماعي والطبقي، إلا أنها تعد عامل توحيد، عامل لَمْ وجمع مختلف الطبقات الاجتماعية وصهر أفكارها وبلورتها بقدر الإمكان عبر خطابها التربوي257.

ومن أهم الاقتراحات التي تسعفنا في تحقيق مجتمع تربوي ديمقراطي التركيز على تنفيذ التوصيات التالية:

  • تشجيع المبادرات الفردية التي فيها مصلحة الجماعة والوطن والأمة وفي هذا الصدد، يقول كلاباريد: "علينا في المجتمع الديمقراطي السليم أن نفسح أوسع مجال ممكن للمبادرات الفردية، بحيث تبقى وتستمر وحدها، تلك المبادرات التي يثبت بالتجربة أنها نافعة للجماعة. إن أي قيد

الهواميش:

256أمحمد عليوش: نفسه، ص120.

257أمحمد عليوش: نفسه، ص116.

الصفحة208

يُقيد به النشاط الفردي الحر يضعف فرص الاكتشاف الخصيب، وها هنا أيضاً تبين الأفكار التي أتى بها داروين الترابط بين الفرد وبين المجتمع.وقيمة الأول (الفرد) مفيدة مباشرة لحياة الثاني (المجتمع) وعافيته258.

  • ضرورة الانطلاق من تربية عقلانية، فلا يكفي أن نجعل هدفاً لنا تحقيق الديمقراطية الحقيقية في التعليم، فهي غياب تربية عقلانية تستخدم كل الوسائل من أجل إبطال عمل العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى عدم المساواة الثقافية، لا تستطيع الإرادة السياسية الهادئة إلى تحقيق الفرص المتكافئة أن تقضي على ضروب اللامساواة القائمة في الواقع، و تسلحت بكل الوسائل المؤسساتية والاقتصادية. وعلى العكس، تستطيع أن تدخل في كيان الواقع إلا إذا توافرت من قبل جميع الشروط اللازمة لتحقيق الديمقراطية في اختيار المعلمين والطلاب، بدءاً من إقامة تربية عقلانية259.
  • تفعيل ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة الصالحة بتدريس المواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية والإسلامية لمتعلمينا في المدارس التربوية.
  • نشر ثقافة التعايش والتسامح، ونبد التطرف الإرهاب و الإقصاءويقتضي هذا أنه لابد من تعويد ناشئتنا على تقبل الآخر، وتجنب العنف والكراهية والصراع الجدلي، وإقامة علاقات تواصلية مع الآخر قوامها المحبة والتعاون والتعايش والصداقة والتكامل الإدراكي.
  • دمقرطة السياسة والمجتمع على حد سواء، باختيار شرعية الاختلاف، ومنطق التعددية الحزبية، واللجوء إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يمثل الأغلبية بطريقة نزيهة وشفافة وعادلة.
  • تطبيق البيداغوجيا الإبداعية،باتباع ثلاث مراحل أساسية في مجال التربية والتعليم هي: المحاكاة، والتجريب، والإبداع من أجل بناء مجتمع ديمقراطي متين ومنفتح ومثمر.
  • تطبيق الشريعة الإسلامية، والأخذ بمبدأ الشورى؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يسهم في تخليق الديمقراطية، وتعديل سلوكيات البشر.

الهواميش:

259علي أفانزييني: نفسه، ص: 287-286.

259علي أفانزييني: نفسه، ص: 377.

الصفحة209

من الأسوأ إلى الأحسن. ومن ثم، يصعب تمثل الديمقراطية سلوكاً وأخلاقاً وعملاً دون تطبيق الإسلام.

  • توفر الحريات الخاصة والعامة لكل المواطنين، فلا ديمقراطية دون حرية، ولا حرية دون ديمقراطية، ولا تربية دون حرية وديمقراطية، ولا حرية ولا ديمقراطية دون تربية سوية متكاملة.
  • تشجيع البحث العلمي والكفاءات القادرة على التطوير والاختراع؛ لأن أساس التقدم واحتلال المكانة المميزة بين مصاف الدول المزدهرة لا يكون أبداً إلا بالعلم والمعرفة وإنتاج المعلومات. فرأس المال الحقيقي لكل الدول، في يومنا هذا، ليس هو المنتج الفلاحي، ولا كثرة الأموال، ولا كثرة البشر، بل هو إنتاج المعارف والعلوم والفنون، والتحكم في التكنولوجيا المتطورة.

وخلاصة القول: يتبين لنا، من هذا كله، أن التربية ترتبط ارتباطاً جدلياً بالديمقراطية. فلا يمكن الحديث عن تربية حقيقية إلا في مجتمع ديمقراطي، يؤمن بحقوق الإنسان وحرياته الخاصة والعامة، ويؤمن أيضاً بالتعدد اللغوي والطائفي والحزبي والعرقي.

ولا تتحقق الديمقراطية في المجتمع إلا إذا تشبع بها المتعلم في مدارسه، في ضوء مقاربات قانونية، وتربوية، واجتماعية، وأدبية، وعلمية...

من هنا، لابد أن يتعود الطفل على السلوك الديمقراطي في أسرته، منذ نعومة أظافره، لينتقل إلى أحضان المدرسة، في جو مفعم بالحرية والسعادة والأمل والتفاؤل، ربما لينتقل إلى أحضان المجتمع ليطبق ما تشربه من قيم ديمقراطية عادلة سلوكاً، وتمثلاً، وعملاً.

وقد توصلنا كذلك إلى أن ثمة أنواعاً ثلاثة من الديمقراطية التربوية: ديمقراطية التعلم، ديمقراطية التعليم، وتعليم الديمقراطية.

وقد أبرزنا أيضاً أن هناك مجموعة من الآليات لتطبيق الديمقراطية الحقيقية في نظامنا التربوي والتعليمي، فقد حصرناها إجمالاً في التفكير التعاوني، والعمل الجماعي، واستعمال تقنيات التنشيط، وتمثل البيداغوجيا الإبداعية، والأخذ بالشراكة والجودة فضلاً عن تطبيق الطرائق التربوية الفعالة، والإيمان بمبادئ حقوق الإنسان، وزرع المواطنة الحقيقية في

الصفحة210

نفوس المتعلمين وناشئة المستقبل، دون أن ننسى دمقرطة المدرسة والمجتمع على حد سواء.

بيد أن تطبيق الديمقراطية، في نظامنا التربوي والتعليمي، يواجه صعوبات جمة ، مثل : الجهل، والتخلف، والبيروقراطية، وغياب حقوق الإنسان، وغياب المواطنة الحقيقية، وإقصاء الكفاءات العاملة فضلا عن التعامل بالغش من أجل تحقيق المصالح الشخصية والمآرب النفعية والتفريط في مقوماتنا الحضارية ومبادئنا الدينية ، وتبديد ثرواتنا سفها وتبذيرا ، وتهجير طاقاتنا العلمية والأدمغة المتنورة إلى الخارج أو التخلص منها ، بتعطيلها أو تفقيرها أو تجويعها، أو إزهاق أرواحها، إذا كانت مناوئة أو معارضة للسلطة الحاكمة .....

أما الحلول لتحقيق الديمقراطية الناجعة في نظامنا التربوي والتعليمي فيكون بالقضاء على الصعوبات والمشاكل والعراقيل التي ذكرناها سالفا، مع التسلح بالإيمان والتقوى والصبر والتجلد، والتحلي بروح العمل والمواطنة الصالحة، والتعايش مع الآخرين انفتاحا وتعاونا وتعايشا وتسامحا.

الصفحة211

الخاتمة

وخلاصة القول، تعد سوسيولوجيا التربية، أو سوسيولوجيا المدرسة، من أهم الحقول المعرفية التي تهتم بالتربية بصفة عامة، والمدرسة بصفة خاصة. ولاسيما أن هذا الحقل المعرفي - الذي تم استحداثه في بدايات القرن العشرين الميلادي - يدرس مختلف الظواهر التربوية في ضوء المقاربة الاجتماعية، باستكشاف العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والاقتصادية التي تؤثر بشكل من الأشكال، في التربية والتعليم معا، فهما وتفسيرا من جهة، أو نظرية وتطبيقا من جهة أخرى.

ومن أهم القضايا والمحاور والمواضيع التي تعنى بها سوسيولوجيا التربية دور المدرسة في المجتمع، وأهم الوظائف التي تؤديها، والتشديد على أهم الفاعلين في المؤسسة التعليمية من متعلمين، ورجال تربية وأطر إدارية. فضلا عن دراسة موضوع النجاح والفشل الدراسي ومناقشة مبدأي التوحيد والانتقاء، وتبيان علاقة ذلك بالمساواة الطبقية، مع رصد الوضعية الاجتماعية للفاعلين التربويين، ومعالجة قضية تكافؤ الفرص في تسيير دواليب الدولة، ودراسة علاقة التربية بالديمقراطية..

إذاً، فسوسيولوجيا التربية جزء من علم الاجتماع العام. وقد ظهرت في بدايات القرن العشرين لتهتم بقضايا التربية والتعليم، إما بطريقة اجتماعية مصغرة، وإما بطريقة اجتماعية مكبرة. بمعنى أن هناك من ينظر إلى المدرسة على أنها مجتمع مصغر. وهناك من ينظر إليها على أنها مجتمع مكبر.

علاوة على ذلك، فثمة مجموعة من المقاربات التي استعملت في رصد علاقة المدرسة بالمجتمع فهما وتفسيرا وتأويلا، وأهمها: المقاربة الصراعية، والمقاربة التطبيعية، والمقاربة الوظيفية (الكلاسيكية والتكنولوجية، والمقاربة التفاعلية، والمقاربات التفسيرية، وخاصة النسقية منها، والمقاربة الإثنوغرافية ، والمقاربة الإثنومنهجية، والمقاربة

الصفحة212

ثقافية، ومقاربة الجنوسة، وغيرها من النظريات والمقاربات السوسيولوجية....

الصفحة213