علم الاجتماع المدرسي بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها الاجتماعية
المؤلف: علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب
التصنيف: كتب أخرى
عرض PDFالوصف:
علي أسعد وطفة وعلي جاسم الشهاب، علم الاجتماع المدرسي بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها الاجتماعية، الطبعة الأولى 2003.
مقدمة
كانت المدرسة وما تزال البوتقة التي وتعد المؤسسة المدرسية الركيزة الأساسية التي يستند إليها المجتمع في تكوين الأفراد وفي بناء المنظومات الحضارية ذات الطابع الإنساني. وانطلاقا من هذه الأهمية الكبرى التي تلعبها المدرسة في الحياة الاجتماعية في اتجاهات بناء الإنسان والحضارة، طورت المجتمعات الإنسانية وأبدعت منظومات تربوية مدرسية أكثر قدرة على بناء الإنسان بمواصفات حضارية متجددة. وغدت المدرسة تحت تأثير هذه العطاءات المتجددة تكثيف 1 مركزا للحضارة الإنسانية بما تنطوي عليه هذه الحضارة من اندفاعات عبقرية خلاقة. فالمدرسة ليست مجرد مكان يجتمع فيه الأطفال أو الناشئة من أجل اكتساب المعرفة، بل هي تكوين معقد وبالغ التعقيد من تكثيفات رمزية ذات طابع اجتماعي وهي كينونة من الإبداعات التاريخية للإنسان والإنسانية في مجال العطاء وفنون الإبداع الإنساني.
يتشكل فيها الإنسان ويتكون تربوياً. إن من يربي الأولاد بجودة ومهارة لأحق بالاحترام والإكرام من الذين ينجبونهم. أرسطوطاليس
لقد تطورت المدرسة من مكان بسيط يتلقى فيه الفرد معرفة إلى كينونة رمزية معقدة، ومن ثم تحول دورها الوظيفي من عملية تعليم الإنسان إلى تشكيل الإنسان وبناء المجتمع وإعادة إنتاجه حضارياً وأيديولوجيا. وتجاوزت هذه المؤسسة في آليات عملها واشتغالها حدود الاتجاه الواحد في بناء الإنسان إلى دوائر الاتجاهات المتعددة، وبدأت تنغلق على دائرة الفهم العفوي البسيط، وتنفتح بالمقابل على احتمالات
الصفحة 7
وعي علمي بالغ التنظيم معقد في تكويناته ووظائفه. لقد تحولت المدرسة باختصار من ظاهرة تربوية بسيطة إلى ظاهرة اجتماعية بالغة التعقيد، وبدأت تتحول في دائرة علاقاتها التكوينية مع المجتمع إلى مؤسسة التكثيفات الرمزية المثقلة بوشائج علاقات عضوية مع مختلف التكوينات الاجتماعية والثقافية والروحية في المجتمع. وإزاء هذا التعقيد والتطور المذهل في مضامين الحياة المدرسية ووشائج علاقة هذه المؤسسة بالمجتمع على تنوع تكويناته الرمزية وتفاعلاته المعقدة، بدأ العقل السوسيولوجي المغامر يشد الرحال في طلب هذا التكوين الاجتماعي التربوي الفائق التعقيد، وبدأت الدراسات السوسيولوجية تنطلق وتتزايد في اتجاه الكشف عن القانونية التي تحكم الحياة الداخلية للمدرسة، وعن مظاهر فعالياتها ووشائج علاقاتها التكوينية مع المجتمع والحياة. وبدأت نتائج الأبحاث والدراسات تتواتر على مبدأ المضاعفات الهندسية، لتشكل علما جديدا ينطلق بذاته ويشكل في الآن الواحد فلكا جدي دا بم دار أصيل هو علم الاجتماع المدرسي، وهو العلم الذي يباشر الظواهر المدرسية بالدراسة والبحث والتحليل.
وتمكن علم الاجتماع المدرسي الجديد، في تناوله المنهجي للظاهرة المدرسية، أن يحقق نوعا من الاستقلال النسبي عن علم الاجتماع التربوي الأم الذي يتناول مختلف الظواهر التربوية في دائرة علاقاتها مع المجتمع. ومع أهمية هذا الاستقلال النسبي فإن علم الاجتماع المدرسي ما زال يغتني بعطاءات علم الاجتماع الأم وما زال يغنيه في الآن الواحد بمعطياته ونتائجه ومنهجياته المختلفة.
لقد شكلت المدرسة تاريخياً الخميرة العلمية التي ولد فيها علم الاجتماع التربوي حيث واجد علم الاجتماع التربوي منطلقه الأول في هذا الحقل الخصيب، ثم بدأ يورف بظله الكبير على مختلف مجالات الحياة التربوية.
لقد شكلت أعمال جون ديوي Dewey Johon 1959-1952 المنطلق الأساسي الولادة علم الاجتماع المدرسي الحديث في بداية القرن العشرين، حيث تمكن بعبقريته التربوية المعهودة، في نسق من أعماله المتواترة، أن يؤسس منهجية علمية رصينة
الصفحة 8
للبحث في مجال المؤسسة التربوية. كان ديوي أول من أسس مدرسة تجريبية في عام 1896 واستطاع عبر تجربته هذه أن ينشر أعمالا عظيمة في مجال التربية المدرسية، حيث نشر كتابه عقيدتي التربوية عام 1897 My Pedagogic Creed ، ثم نشر كتابه المشهور المدرسة والمجتمع عام 1899 School and Society (1) ، وإيشار في هذا الصدد إلى كتابه المعروف الديمقراطية والتربية عام 1917 Democracy and Education: An Introduction to the Philosophy of Education, 1917) Emile Durkheim 1858-1917 وفي فرنسا تفجرت عبقرية إميل دوركه ايم في أعمال سوسيولوجية تركت بصماتها في مختلف جوانب الفكر الترب وي على امتداد الجغرافية الإنسانية في النصف الأول من القرن العشرين. لقد أتحف دوركهايم السوسيولوجيا المدرسية بكتابه المعروف بالتربية والمجتمع Education et sociologie (2) ، ثم ظهر كتابه الهام التطور التربوي في فرنسا L'Evolution وقد شكلت .L'Éducation morale وكتابه التربية الأخلاقية pédagogique en France هذه الأعمال الرائدة النواة الحقيقية لعلم الاجتماع التربوي والمدرسي على وجه الخصوص.
وعلى امتداد القرن العشرين تفجرت ينابيع البحث السوسيولوجي في مجال المدرسة والمؤسسات الأخرى التربوية، وجاء حصاد هذه الأعمال بلورة لعلم الاجتماع المدرسي بوصفه النواة الحقيقية لعلم الاجتماع الترب وي. لقد تقاطرت الدراسات والأبحاث السوسيولوجية في ميدان المدرسة والمؤسسات المدرسية وشكلت نتائجها نظاما متماسكا من المقولات والمفاهيم والنظريات السوس يولوجية ومناهج البحث التي تؤسس لعلم اجتماع خاص هو علم الاجتماع المدرسي. وهناك آلاف مؤلفة من الكتب والدراسات والأبحاث المكثفة التي عالجت جوانب الحياة
الهوامش :
-1 انظر: جون ديوي، المدرسة والمجتمع، ترجمة أحمد حسن الرحيم، مكتبة الحياة، بيروت، 1990.
- 2-H. Durkheim, Éducation et sociologie (1922), éd. PUF, Paris, 1966
الصفحة 9
المدرسية بتفاعلاتها وأنظمتها الداخلية وقضاياها التربوية والاجتماعية. ويمكن لنا أن نلمح إلى ومضات مهمة في تاريخ هذه الدراسات ولا سيما هذه التي ترسم علامات بارزة في ميدان الرؤى السوسيولوجية للمدرسة في نسق وظائفها التربوية والاجتماعية.
ويمكننا في هذا السياق أن نذكر غيضا من فيض الأعمال التي قدمها بيير بوردي و في كتابه معاودة الإنتاج معاودة الإنتاج La reproduction، والمفكر التربوي ايفان والكتاب ،Une société sans école في كتابه مجتمع بلا مدرسة Ivan Illich إليتش المشهور لبودلو واستابليه المدرسة الرأسمالية في فرنس L'école capitaliste en l France، ثم كتاب جورج سنيدر Snyders George المدرسة الطبقة وصراع Ecole Classes et Luttes des Classes الطبقات
إن من يتابع المنتوج الفكري في مجال سوسيولوجياً المدرسة، سيجد نفسه اليوم أمام تصنيفات متنوعة في القضايا التي يعالجها علم الاجتماع التربوي، حيث بدأت تشكل كل قضية من هذه القضايا إرثا علمياً متنامياً ومتقدما، فهناك الأبحاث الت ي تند اول المدرسة بوصفها مجتمعا مصغرا ، وهناك الأبحاث التي تتناول المدرسة في سياق تفاعلاتها مع المجتمع، كما نجد أبحاثا تتناول القضايا الداخلية التفاعلية في المدرسة. إن كتابنا هذا يمثل محاولة علمية في تقديم علم الاجتماع المدرسي عبر منظومة من القضايا والأبحاث والدراسات التي يباشرها هذا الاختصاص. حيث نبدأ بتقديم تعريف منهجي وتحديد أبيستيمولوجي للمدرسة بوصفها بنية ومفهوما ووظيفة، وبعد ذلك نقدم تصورا علمياً متكاملا عن المداخل المنهجية التي يعتمدها علم الاجتماع المدرسي في تناول قضايا المدرسة وتفاعلاتها الداخلية والخارجية. ثم نتطرق بمنهجية رصينة ومكثفة لدراسة بعض القضايا المركزية للسوسيولوجيا المدرسية حيث نفرد فص لا للبحث في مسألة السلطة المدرسية وتجلياتها في العمل التربوي داخل المؤسسات
المدرسية. ونخصص فصلا حول الاصطفاء التربوي ودور المدرسة في اصطفاء النخبة وفي هذا الفصل نجد قراءة جادة لقضايا المعادلة الطبقية للتعليم. وعلى هـذا
الصفحة 10
الامتداد نفرد فصلا يبحث في العلاقة بين المدرسة والإعلام، أو موقف المدرسة من التحديات الإعلامية للتلفزيون. وعلى هذا المنوال يطالعنا هذا الكتاب بفصل 5 رس للبحث في ديمقراطية التعليم في داخل الأنساق المدرسية، وآخر في طبيعة التفاعل التربوي في داخل المدرسة.
ولا يفوتنا في هذا الكتاب أن نعالج طبيعة العلاقة بين الأسرة والمدرسة حيث نخصص فصلا كاملا يتحرى هذه العلاقة بأبعادها المختلفة، وعلى الأثر يتم البحث في قضية الانتماء الاجتماعي والتحصيل المدرسي في اتجاه تحديد منظومة التأثير المتبادل بين هذين الجانبين في تحقيق النجاح المدرسي. وينطوي الفصل الأخير على دراسة ميدانية أجريت في المجتمع الكويتي حول السمات الديمقراطية للتنشئة الاجتماعية الوالدية لطلاب المرحلة المتوسطة في المجتمع الكويتي.
لقد أردنا لهذا العمل أن يكون مستوفياً لأهم القضايا التي يطرحها علم الاجتماع التربوي في مجال المؤسسة المدرسية، كما أردنا له أن يكون وافياً بحاجة القارئ العربي إلى استطلاع هذا القطاع البازغ من المعرفة التربوية الناشطة في ي ميدان المدرسة.
وفي هذا المستوى نريد أن نؤكد على أن تناولنا لهذا العلم لم يأت كجهد مكثف آني يهدف إلى بناء هذا العمل، بل جاء نتاجا لأعمال علمية متواترة عبر الزمان والمكان حيث نترك للقارئ أن يرى بأم عينه بأن كل فصل من هذه الفصول يشكل صورة لبحث معمق يتميز بالرصانة والدقة والمنهجية في مختلف المستويات. وإننا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويأخذ بيدنا إلى خدمة طلابنا وزملائنا وقرائن 1 في الوطن العربي الكبير.
الصفحة11
الفصل: المدرسة بنية ومفهومها ووظيفة
تتعين المؤسسات المدرسية في بنى اجتماعية معقدة، وهي تشكل بذاتها نقطة تقاطع لنشاطات اجتماعية واسعة من الناس. وتتميز هذه
المؤسسات بقدرتها الكبيرة على تنظيم نشاط الأفراد ودمجهم في خبرات الحياة ومجالاتها. وهي وفقا لهذه الصيغة تشكل نظاما اجتماعياً بالغ التعقيد. ومن أجل فهم هذا النظام بشكل جيد فإننا نحتاج إلى جهود علمية منظمة وممنهجة تمكننا من إدراك مضامين الحياة المدرسية بأبعادها المختلفة وبتجلياتها الدينامية المتكاملة.
فالمدرسة ظاهرة اجتماعية مكثفة بمكوناتها ووظائفها، وهي تحتاج كما ألمحناة قد أعطي الفن الأعظم للمعلم في أن يثير البهجة بالمعرفة والإبداع اقشتاین إلى منهج علمي رصين من أجل دراستها وتحليل عناصرها ومكوناتها، وهذا بدوره يقتضي الاستناد إلى منظومة علمية متكاملة من المفاهيم السوسيولوجية الرصينة بعيدا عن مصائد وأوهام التصورات العامة للسوسيولوجيا الساذجة التي يستند إليها غالبا في فهم المدرسة وتحليلها.
الصفحة15
تعريف المدرسة
تتباين تعريفات المدرسة بتباين الاتجاهات النظرية في مجال علم الاجتماع التربوي وتتنوع هذه التعريفات بتنوع مناهج البحث الموظفة في دراستها؛ ويميل أغلب الباحثين اليوم إلى تبني الاتجاه النظمي في تعريف المدرسة وينظرون إليها بوص فها نظام ا اجتماعياً دينامياً معقدا ومكثفا. ويمكننا في دائرة هذا التعدد المنهجي في تعريف المدرسة استعراض مجموعة من التعريفات التي تؤكد على بنية المدرسة تارة وعلى وظيفتها تارة أخرى.
ينظر أصحاب المنهج النظمي إلى المدرسة بوصفها مؤسسة اجتماعية معقدة مستجمعة في ذاتها لمنظومة من العلاقات البنيوية المتبادلة بين مختلف جوانبها، وأنه لا يمكن إحداث التغيير في أحد أجزائها دون التأثير في بنيتها الكلية). وفي نسق هذا التوجه ينظر إلى المدرسة بوصفها مؤسسة تهدف إلى تحقيق التواصل بين تجربة التعليم المدرسية والتجارب الاجتماعية التي تجري في المجتمع (4).
وفي هذا السياق يعرف فرديناند بويسون Ferdinand Buisson المدرسة بأنها : مؤسسة اجتماعية ضرورية تهدف إلى ضمان عملية التواصل بين العائلة والدولة من أجل إعداد الأجيال الجديدة، ودمجها في إطار الحياة الاجتماعية (5).
الهوامش :
3- Dominique L., Michel Y., Vilas E., « Qu’est-ce qu’une bonne école, une école performante ? L’efficacité scolaire en jeu ! », dans Actes du 15e Congrès de la Société suisse pour la recherche en éducation. Genève : Département des sciences de l'éducation. Numéro 65, 1991, pp. 100-108.
4- Vilas, E., Le sens de l'école en pleine mutation. École Valdotin, 15 octobre 1995. 5- Vivain Isambert Jamatte, Sociologie de l'École, dans Maurice Debes et Juston Maillart, Caractéristiques des sciences de l'éducation, Aspects sociaux de l'éducation, P.U.F., Paris, 1974, p. 144.
الصفحة16
ويعرفها فريدريك هاستن بأنها نظام معقد من السلوك المنظم، الذي يهدف إلى تحقيق جملة من الوظائف في إطار النظام الاجتماعي القائم (6).
ولا يخرج أرنولد كلوس Arnold Clausse في رؤيته للمدرسة عن هذا التوجه فهو ينظر إلى المدرسة المدرسة بوصفها نسقا منظما من العقائد والقيم والتقاليد، وأنماط التفكير والسلوك التي تتجسد في بنيتها وفي أيديولوجيتها الخاصة (7) .
وفي هذا المدى يرى شيبمان Shipman أن المدرسة شبكة من المراكز والأدوار التي يقوم بها المعلمون والتلاميذ، حيث يتم اكتساب المعايير التي تحدد لهم أدواره م
المستقبلية في الحياة الاجتماعية (8).
ويمكن النظر إلى المدرسة كما يرى كل من بلكم ان Backman وس يكورد Secord كمجتمع مصغر له ثقافته ومناخه الخاص، وتتحدد هذه الثقافة المدرسية بمركب متغاير من الثقافات الفرعية الملموسة والتي تؤثر في سلوك وعمل التلاميذ بطرق مختلفة. ويلاحظ هنا أن الباحثين ينظرون إلى المدرسة بوص فها مجتمع امتكاملا بثقافته ومكوناته (9).
وإذا كان الباحثون ينظرون إلى المدرسة كمؤسسة اجتماعية فإنهم في الوقت نفسه يؤكدون بأنها مؤسسة نوعية مختلفة عن المؤسسات الاجتماعية الأخرى. ومن هـذا المنطلق يرى كريفز Griffiths أن المدرسة تتميز عن بقية المؤسسات الأخرى بوصفها مؤسسة لا خيار للمرء في الانتماء إليها. وهو في هذا السياق يوجه النقد إلى المدرسة في بلاده، فهي كما يراها متصلبة وبيروقراطية، تتأصل فيها الإدارة
الهوامش :
6- Alain Boudot, Sociologie de l'École, Durand, Paris, 1981, p. 77.
7-Arnold Close, Education Science Initiative, Liège, Belgique. 1967, p. 146. 8- Alain Boudot, Sociologie de l'École, Durand, Paris, 1981, p. 56.
9 - Boa M., Systèmes et réglementations des études, Lyon, CRDP, 2002.
الصفحة17
المركزية، وتفتقر إلى رجال الإدارة الأكفياء وذلك بالقياس إلى المؤسسات الاجتماعية الأخرى.
ویری کارلسون Garlson في هذا المجال أن المدارس مؤسسات ذات نمط خاص: أنها مؤسسات مدجنة ومدجنة. وإذا كانت المدرسة لا تستطيع اختيار زبائنها، في إن زبائنها مكرهون على ارتيادها وعلى قبولها وقبول الخدمات التي تقدمها لهم.
ويقترح شيبمان تعريفا نظمياً مناسبا للسوسيولوجيين وهو: أن المدرسة شبكة من المراكز والأدوار، التي تقوم بين المعلمين والتلاميذ، حيث يتم اكتساب المعايير التي تحددها لهم أدوارهم في الحياة الاجتماعية، وتنبع هذه الأدوار من البنية الشكلية للمدرسة ومن ثقافاتها الفرعية المناسبة (10).
تمثل التعريفات المتنوعة السابقة عينة من التحديدات النظمية التي تنظر إلى المدرسة بوصفها مؤسسة اجتماعية ونظاماً تربوياً. وغني عن البيان أن المفكرين في علم الاجتماع التربوي ينطلقون في تعريفهم للمدرسة من أسس منهجية ونظرية مختلفة، حيث يؤكد بعض المفكرين في تعريفهم للمدرسة على أهمية الدور الذي يجب أن تؤديه المدرسة في حياة الناس. وهم يركزون في هذا التوجه على ما يجب أن تكون عليه المدرسة، وليس على واقع المدرسة كما هو كائن.
وينضوي في دائرة هذا التوجه التعريف النموذجي الذي يقدمه جون هولت Holt John، فالمدرسة في نظره، يجب أن تكون المكان الذي يجد فيه الناس ما يرغبون فيه، والمكان الذي يساعدهم في تطوير القدرات والاستعدادات التي يرغبون بتطويرها .
الهوامش :
10- Van Zanten A., L'École, l'état des savoirs, Paris, La Découverte, 200.
الصفحة18
كيف يتم بناء مفهوم دقيق للمدرسة
من أجل الوصول إلى تعريف دقيق للمدرسة يجب علينا في البداية تحدي د المكونات والعناصر الأساسية التي تدخل في بنيتها، ومن ثم تحديد استراتيجيات التفاعلات الداخلية والخارجية بين مختلف مكوناتها البنيوية.
فالمدرسة تتكون من عدة عناصر ، وتتألف من عدة جوانب وتكوينات، فهي تتكون من الطلاب والتلاميذ الذين يؤمونها، ومن أنماط السلوك التي يمارس وها المنتس بون إليها، ومن القواعد والمعايير التي تنظم أفعالهم، ومن المناهج والمقررات، والمباني والأجهزة والخدمات، والعاملين فيها، ويشكل المكان الذي يحضنها البوتقة التربوية للأحداث التربوية والتفاعلات الثقافية والاجتماعية التي تتم في داخلها.
عندما نحدد مكونات المدرسة نكون قد بدأنا المرحلة الأولى من مراحل تعريفها، وبالتالي فإن تعريف المدرسة بتحديد مكوناتها لا يكفي لتعريفها بدقة، فتعريفها يتطلب في المرحلة الثانية معرفة التفاعلات الأساسية التي تتم بين عناصرها بوصفها منظومة تربوية.
وفي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل بناء مفهوم واضح للمدرسة، يجب تحديد الطريقة التي تتفاعل فيها هذه العناصر ككتلة واحدة مع العالم الخارجي الذي يحيط بها ويشتمل عليها.
إن بناء مفهوم دقيق ومتكامل حول المدرسة، يجب ألا ينطلق من التعريفات الموجزة في القواميس، وإنما يجب أن ينطلق من نماذج ذهنية تصورية تستطيع أن تستجيب لما نعنيه بمفهوم المدرسة بوصفها بنية معقدة من الفعاليات الاجتماعية
والتربوية.
ومن أجل بناء هذا التصور السوسيولوجي لمفهوم المدرسة، بوصفها كلا متكاملاً ومنظومة معقدة من الفعاليات والتفاعلات، يمكننا أن نرسم تصوراً ذهنياً ينطلق من
الصفحة19
صورة المدرسة في الواقع ومن فعالياتها التربوية المتنوعة التي يمكننا أن نلاحظه .
ونتمكن فيها.
المفهوم السوسيولوجي للمدرسة
تشكل المدرسة نظاماً معقداً ومكثفاً ورمزياً من السلوك الإنساني الم نظم الذي يؤدي بعض الوظائف الأساسية في داخل البنية الاجتماعية. وهذا يعني بدقة أن المدرسة، كما تبدو لعالم الاجتماع، تتكون من السلوك أو الأفعال التي يقوم بها الفاعلون الاجتماعيون، ومن المعايير والقيم الناظمة للفعاليات والتفاعلات الاجتماعية والتربوية في داخلها وفي خارجها. وهي أفعال تتصف بالتنظيم وتؤدي إلى إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية ثقافياً وتربوياً.
إن تعريف المدرسة، كنظام متكامل من السلوك، لا ينطلق كما نوهنا من مجرد تحديد مختلف العناصر التي تتكون منها كالصفوف والإدارة والمناهج والمعلمين، بـل يرتكز أيضا وبصورة أساسية على منظومات الأفعال التي يقوم بها الطلاب والمدرسين والإداريين فيما بينهم من جهة، وعلى التفاعلات التي تتم بين المجتمع المدرسي والوسط الخارجي بمؤسساته وأسره وثقافاته من جهة أخرى. وهذه الأفعال والفعاليات ترتسم في مخطط معقد للنشاطات الإنسانية التي تتم على العموم في إطار التفاعل الاجتماعي.
فالمدرسة كما تواتر تعريفها نظام اجتماعي من التفاعلات السلوكية التي تتم بين مختلف روادها. وهذا يعني أن السلوك يشكل جانبا من بنية المدرسة بوصفها نظام ا اجتماعيا، وإذا كانت المدرسة تنظيما سلوكياً فإنه يجب علينا أن نحدد خريطة السلوك المدرسي وترسيم حدود هذا السلوك الذي يدخل في بنية المدرسة كمؤسسة تربوية اجتماعية.
سنأخذ بعين الاعتبار أن المدرسة، كما يطلق عليها السوسيولوجيون، مؤسسة شكلية رمزية معقدة، تشتمل على سلوك مجموعة كبيرة من الفاعلين، وتنطوي على منظومة
الصفحة20
من العلاقات بين مجموعات تترابط فيما بينها بوساطة شبكة من العلاقات التي تؤدي فعلا تربوياً عبر التواصل بين مجموعات المعلمين والمتعلمين.
العناصر البنيوية للمدرسة
سننطلق في محاولتنا لتحليل بنية المدرسة من صورة مدرسة متخيلة افتراضية. وهذا من شأنه أن يسمح لنا باختبار الأفكار الأساسية الضرورية الخاصة بمفهوم البنية المدرسية.
ينتظم التلاميذ في مدرستنا المتخيلة في ستة صفوف أو فصول مدرسية، ويتفرع كل فصل منها إلى شعبتين، وتشتمل هذه المدرسة على مكتبة وكافتيريا وإدارة ومجموعة من الحراس. ويمكننا الآن أن نقدم بعض التفصيلات حول الجماعات المكونة لمدرستنا الابتدائية الافتراضية:
أ - تتكون إدارة المدرسة من مدير ونائب مدير وأمين سر وعدة موجهين.
ب هناك اثنا عشر شعبة يتراوح عدد التلاميذ في كل شعبة من 25 إلى 35 تلميذا وتتطابق هذه الصفوف مع ستة مستويات عمرية من السادسة حتى الثانية عشرة.
د - هناك جماعة من الموظفين والطباخين وعمال الخدمة.
ه - جماعة من الحراس تتكون من حارسين وفي بعض الأحيان من حراس متطوعين.
و جماعة من القائمين على العمل في المكتبة
هذه هي الجماعات الأساسية لمدرستنا الافتراضية وهي تمثل العناصر البنيوية الأساسية للنظام المدرسي بوصفه نظاماً سلوكياً . حيث تقوم كل جماعة من الجماعات المفترضة بدور خاص في إطار الحياة المدرسية. وهنا يمكننا أن ندرس افتراض يا العلاقة التي تقوم بين هذه الجماعات المدرسية الأولية.
البنية السلوكية الدينامية والتفاعل التربوي في المدرسة
في مدرستنا المتخيلة هذه تقترب عقارب الزمن من موعد العيد الوطني للبلاد، في الحصة الأخيرة، وعندما يدخل التلاميذ إلى الصف يبدأ المعلم حوارا حول العيد
الصفحة 21
الوطني مذكرا بأمجاد الوطن وتاريخ الثورة التي حررت البلاد من مستعمريها. في هذه الأثناء يجلس التلاميذ في أماكنهم بعضهم يصغي بانتباه، وبعضهم الآخر ينظر إلى النافذة في حالة شرود.
أحد التلاميذ يرفع يده، يتوقف المعلم عن الكلام، ويقول له ماذا تريد؟ يطرح التلميذ سؤالاً على المعلم فيجيبه المعلم ويردد الإجابة، ثم ترتفع أيد كثيرة ويجري حوار واسع بين الطلاب والمعلم.
في هذا السيناريو المفترض يوجه المعلم أسئلة إلى بعض التلاميذ ويحاورهم ويمضي الوقت المخصص للمحاضرة حيث يقرع جرس المدرسة، ويخرج الطلاب من قاعة الصف متدافعين وهم يصدرون ضجة وصخباً وذلك في طريق العودة إلى المنزل.
وفي اليوم التالي تدور أحداث مشابهة لما شاهدناه في السيناريو الأول، حيث ي نستمع إلى درس في الرياضيات، ونشاهد فعالية امتحان في الهندسة والجبر، ونس مع مناقشة في اللغة العربية. ويمكن لنا في هذا السياق تحليل السلوك الذي يجري في القاعة باستخدام مفهومين أساسين هما مفهوما المركز والدور. فهناك نسق من الأدوار ومنظومة من المراكز التي تحدد طبيعة السلوك ومحتواه في العملية المدرسية.
ي ففي إطار التفاعل الذي يقوم بين المعلم والتلاميذ، يسترشد المعلم بمنظومة من المعايير المهنية في توجيه سلوكه وأداء دوره كمعلم، وبالتالي فإن التلاميذ يستجيبون سلوكياً وفق منظومة أخرى من المعايير تحددها لهم مراكزهم بوص فهم طلاب ما في المدرسة. فعندما يقوم المدرس بدور التعليم يستجيب الطلاب سلوكياً لدور المتعلمين، وعندما يقوم المعلم بدور الفاحص يستجيب التلاميذ بـ دور المفح وص. إن مراقبة السلوك الذي يجري داخل القاعة خلال فترة من الزمن يتيح الكشف عن أشياء هامة: ي ومنها أن المعلمين والتلاميذ لا يتصرفون دائما وفقا للطريقة نفسها الت المعايير السلوكية المطلوبة. حيث يلاحظ أن لكل تلميذ أفكاره الخاصة في تحددها ي نمط
الصفحة22
الاستجابة لسلوك المعلم. وأن كل طالب يحدد دوره بطريقته الخاصة التي قد يتفق فيها أو يختلف مع الآخرين.
ومثل هذه الأدوار أو الممارسات السلوكية الخاصة المضمرة أو الخفية تشكل جانبا من بنية المدرسة دون أن تظهر مباشرة بوضوح أو على السطح. وهذا يعني أن المدرسة لا تتكون من السلوك الذي يمكن أن يظهر بالملاحظة فحسب وإنما هناك أنماطا سلوكية مض مرة، وهو السلوك المتوقع من الأفراد الذين يحتلون مركزا ما خلال فترة زمنية ما. إن وصف المدرسة بأنها نظام من السلوك يعني أنها نظام يدير ويعزز بعض أنماط الفعل الإنساني المحدد الذي يظهر على شكل بنية سلوكية تتكرر يوماً بعد يوم.
ي في الليل تخلو الأبنية المدرسية من الأفراد، وتفتقد المدرسة صفتها كمدرسة، أو كمسرح للأدوار، فهي في حالة كمون وفي حالة انتظار الأدوار الت تجري في مسرحها في صباح اليوم التالي. وفي كل يوم من أيام العام المدرسي يجتمع أعضاء المدرسة في هذا المكان المشترك ويتفاعلون كل منهم مع الآخر ثم يعودون مساء ليعودون في صباح اليوم التالي. وهذا يعني في نهاية الأمر أن المدرسة شبكة منظمة متفاعلة من السلوك إنها بنية سلوكية تحددها أدوار الفاعلين فيها والمنتسبين إليها.
تشكل العلاقات القائمة بين عناصر النظام المدرسي كما ألمحنا منظومة بالغة التعقيد من النشاطات والأفاعيل التربوية. وقد شكلت هذه العلاقات القائمة بين أطراف النظام المدرسي ومكوناته مجالا واسعا للبحث والدراسة في مجال علم الاجتماع التربوي، كما في مجال علم النفس الاجتماعي. وتسعى هذه الدراسات إلى تقديم صورة حية عن حركة التفاعلات الداخلية والخارجية للنظام المدرسي ودرجة فاعليته. وتتم دراسة أشكال التفاعل التربوي داخل المدرسة، وبين جوانبها المختلفة، وفق عدد كبير من
الصفحة23
المتغيرات والعوامل، كما تتم أيضا وفق مقولات العلاقة بين منظومات الأدوار والمواقف القائمة بين المعلمين والتلاميذ والإداريين وجماعات الاتصال (11).
ويعد التفاعل التربوي، الذي يجري بين أفراد الجماعة المدرسية، صورة حية التفاء ل للتفاعل الاجتماعي الذي يجري في إطار الحياة الاجتماعية. ويتجلى الاجتماعي التربوي في المدرسة في نسق من العمليات التي يرتبط عبرها أعضاء الجماعة بعضهم مع بعض عقلياً ودافعياً في مستوى الحاجات والرغبات والوسائل والغايات والمعارف (12). وعلى هذا النحو يعرف التفاعل التربوي على أنه سلس لمة متبادلة ومستمرة من الاتصالات بين كائنين إنسانيين أو أكثر (13).
فالعلاقة التربوية هي نمط معياري للسلوك الذي يحقق التواصل الترب وي بين التلاميذ والمعلمين والمقررات والإدارة والمعايير والقيم بوصفها عوامل مكونة للنظام المدرسي (14).
وتحاول الدراسات الجارية، اليوم، في مجال العلاقات التربوية الإجابة عن عدد
كبير من الأسئلة الخاصة بعمليات الاتصال والتفاعل، التي تتم في ي إطار النظام المدرسي ومنها :
1- كيف تتم عمليات الاتصال والتفاعل بين التلاميذ والمعلمين وما أواليات هـذا التفاعل؟
2- كيف ينظر التلاميذ إلى أنفسهم، وإلى زملائهم ومعلميهم ؟ وكيف ينظر المعلمون إلى تلاميذهم وأنفسهم وزملائهم؟
الهوامش :
11 - مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، ترجمة محمد بشير النحاس، تونس، المنظمة العربية
للتربية والثقافة والعلوم، 1986.
12- حامد عبد السلام زهران علم النفس الاجتماعي، عالم الكتب، القاهرة، 1982. ص 96.
-13- عبد الله الرشدان، علم الاجتماع التربوي، دار عمان عمان، 1984، ص 202.
-14- علي وطفة، التفاعل التربوي بين الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية: دراسة مقارنة بين جامعتي الكويت ودمشق المجلة التربوية جامعة الكويت، عدد 27 ربيع 1993.
الصفحة24
3- كيف تتم عملية الاتصال وفقا لمتغيرات عديدة ـ الجنس والعمر ومستوى تحصيل الطالب ومستوى كفاءة المعلم وتأهيله؟
داخل 4- كيف يمكن قياس درجة التسامح أو التصلب في العلاقات التي تقوم بين الإدارة والمعلمين والتلاميذ ؟ وما انعكاس ذلك على درجة التفاعل التربوي القائم في النظام المدرسي؟ ي
5- ما دور المعايير والقيم المدرسية السائدة في تحديد طبيعة ومستوى وشكل العلاقات القائمة في المدرسة؟
ويكاد يجمع الباحثون، اليوم، في مجال السوسيولوجية المدرسية، على نتيجة هامة وهي: أن فعالية النظام المدرسي ومدى قدرته على تحقيق غاياته التربوية أمر مرهون، إلى حد كبير، بمستوى ودرجة التفاعل التربوي القائم بين جوانب النظام المدرسي.
وتتجلى فعالية النظام المدرسي في عدد من المؤشرات الإجرائية أبرزها : :1
-1- درجة الديمقراطية المتاحة والقائمة بين المعلمين والتلاميذ والإدارة وجوان ب النظام الأخرى.
2 مدى التوافق والانسجام الذي يتحقق بين جوانب النظام المدرسي ومكوناته.
3- مدى المرونة التي تتصف بها العلاقة التربوية القائمة ، سواء كان ذلك في داخل
النظام: بين المعلمين والإداريين والطلاب، أو بين المدرسة والوسط الاجتماعي للتلاميذ.
داخل الجماعات ويستخدم الباحثون، لقياس حركة التفاعلات القائمة في المدرسة، القياس الاجتماعي السوسيومتري كأداة لقياس درجة التجاذب والتنابذ الحاصل في المدرسية كجماعات الصفوف ، وجماعات الرفاق. ي
وتبين الدراسات الجارية، في هذا المجال، أن التجاذب بين أطراف الجماعة الواحدة، أو الجماعات المكونة، يعزز من فعالية الجماعة ويشحذ قدراتها، ويزيد من
الصفحة25
طاقات إنتاجها وتماسكها . وعلى العكس من ذلك، تبين هذه الدراسات، أن التنافر يؤدي إلى إعاقة العمل وإضعاف العزم وتقليص إنتاج الجماعة (15).
وتسعى الدراسات الخاصة بالعلاقات التربوية، إلى تحديد مواطن الضعف والقصور في نشاط وفعالية النظام المدرسي، وأسباب انخفاض إنتاجيته المتعلقة بمستوى نجاح التلاميذ، أو مدى تسربهم، أو درجة إخفاقهم.
وتبين الأبحاث التي أجراها أس بي David Aspy ، بين عامي (1969 (1976)، التأثير الكبير الذي تلعبه العلاقات التربوية السلبية، أو الإيجابية، في مستوى نجاحالطلاب وفي مدى إخفاقهم أو تفوقهم (16).
وتقدم الأبحاث الجارية حول العلاقات القائمة في داخل النظام المدرسي جملة واسعة من الاقتراحات وأساليب العمل للخروج من إطار الأزمات التربوية التي تعانيها المدرسة. ويمكن لنا، في هذا السياق، أن نستعرض نتائج إحدى الدراسات الاستطلاعية التي أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية لتحديد اتجاهات التلاميذ حول الخصائص التي يفضلونها في معلميهم وأهمها:
1 - التعاون والروح الديمقراطية.
2 العطف واحترام شعور الآخرين.
3- الصبر.
4 - حسن المظهر ولباقة السلوك.
5 - العدالة وعدم التحيز .
6 روح الدعابة.
7- الاهتمام بمشكلات التلميذ.
8- المرونة.
الهوامش :
15- عبد الكريم اليافي تمهيد في علم الاجتماع، مطبعة جامعة دمشق دمشق، 1964، ص 656.
-16- مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، مرجع سابق، ص135.
الصفحة26
9 - إظهار التقدير والثناء (17).
إن نتائج هذه الدراسة وأمثالها تتيح للمهتمين في مجال العمل التربوي المدرسي تحقيق درجة عالية من التفاعل التربوي الإيجابي، بين المعلمين والتلاميذ، وذلك عندما يأخذون بعين الاعتبار أهمية تحقيق الخصائص المطلوبة في شخص المعلم، لأن المعلم الذي يستوفي السمات المطلوبة هو المعلم القادر على رفع سوية العمل التربوي وتحقيق مزيد من التفاعل التربوي بينه وبين التلاميذ.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن التفاعل التربوي المدرسي يتحدد بجملة أخرى من العوامل والشروط الموضوعية، من أهمها :
1- الفلسفة التربوية السائدة في المدرسة التي تتعلق بأهداف التعليم وغاياته ووظيفة المدرسة ومبادئ التربية الحديثة. ومثال ذلك : أن المعلم، الذي ينظر إلى المدرسة بوصفها نظاما للتعليم فحسب، لا يستطيع أن يحقق شروط التفاعل التربوي الإيجابي. والمعلم الذي يؤمن بمبدأ التسلط والإكراه لا يستطيع أن يحقق فعلا تربويا متكاملا وأصيلا. وعلى خلاف ذلك كله، عندما تنطلق الفلسفة التربوية من مبادئ إنسانية في العمل التربوي، وعندما ينظر إلى المدرسة بوصفها مرحلة حياتية هامة في ي حياة الأطفال، وأن مهمة المدرسة ليست مجرد تلقين المعلومات، في إن التفاء لي التربوي سيترجم إلى عطاء متواصل في مجال الفعل والإبداع التربويين. ي
2- مدى مرونة الأنظمة الإدارية السائدة، حيث يلاحظ بأن التصلب الإداري ينعكس سلبا على مستوى إنتاجية المدرسة، ويكرس انخفاضا في مستوى التفاعلات التربوية الجارية بين أطرافها وعناصرها المكونة.
-3- تمارس صيغة الأهداف التربوية الخاصة بالمدرسة دورا كبيرا في تحديد مستوى العلاقات التربوية السائدة، وهي في الوقت الذي تتميز فيه بالمرونة تجعل من تحقيق التفاعل التربوي إمكانية متاحة.
الهوامش :
-17 - السيد حنفي عوض، علم الاجتماع التربوي، مكتبة وهبة، القاهرة، 1987، ص 66.
الصفحة27
-4 وبالقدر الذي تكون فيه المناهج متكيفة مع تجارب الحياة الخاصة بالتلاميذ فإن ذلك يسهم في دفع العلاقات التربوية القائمة نحو طور تربوي أفضل. 5- أهمية العلاقة بين الوسط الاجتماعي والوسط المدرسي التي تتم عبر مجالس الأولياء والمعلمين. إن مشاركة ذوي التلاميذ في العمل المدرسي، من شأنه دفع وتيرة الفعل التربوي نحو آفاقه المنشودة. فالعلاقات التربوية تمثل في النظام المدرسي القائم، ما تمثله الدورة الدموية في الكائن الحي، وهذا يعني أنه كلما ارتقت هذه العلاقات إلى مستويات عليا، كلما كان النشاط والفعالية الإبداعية سمة مميزة للحياة المدرسية.
التفاعل بين الجماعات الأولية في إطار المدرسة
تشكل الجماعات الأولية كما بينا الجانب الأساسي في بنية المدرسة. وتحد ل التفاعلات القائمة بين هذه الجماعات دوراً حيوياً في دينامية الحياة المدرسية وممارسة وظيفتها. وتشكل دراسة العلاقات بين هذه الجماعات الأساسية موضوعا علميا يجد
صداه في نسق اهتمامات الباحثين والمفكرين في مجال التربية .
يعتمد الباحثون المهتمون بدراسة المؤسسة المدرسية في وصف نظام العلاقات ودينامية التفاعل القائم في الوسط المدرسي عددا من المفاهيم الأساسية أهمها مفاهيم:السلطة وشبكة الاتصال، والتبادل الرمزي. ويعبر هؤلاء الباحثون عن العلاقات الت تقوم بين أعضاء الجماعة بمفاهيم مثل: تحويل الأوامر، والتوجيه والتعليمات فالمدير على سبيل المثال يمارس سلطته على المعلمين عبر نظام من التعليمات والإشارات التي تتم عبر قنوات مختلفة للاتصال. وتتطلب السلطة وجود جماعات اتصالية تقوم بإيصال التعليمات والمهمات. وهي جماعات اتصالية تدخل في بنية المدرسة، وعن طريق هذه الجماعات يتم الاتصال
الصفحة28
عبر الجماعات المنفصلة. فالمعلمون يشكلون هيئة التعليم أو التدريس وهم يتلقون تعليمات المدير لتنظيم العمل وتنظيم الحياة المدرسية.
عندما يجتمع المدير مع أحد المعلمين الذي يقوم بالتدريس في المستوى الثاني الثاني الابتدائي)، أو عندما يجتمع معلم مع معلم آخر لتنظيم بعض الفعاليات التربوية في المستوى الأول الأول الابتدائي ) يمكن أن نقول بأن هذا التواص ل يرمز إلى جماعة وسيطة. وهذا يعني أن هناك جماعات اتصالية تقوم بعملية الربط بين الجماعات الأساسية في النظام المدرسي.
وتتمثل هذه الجماعات الوسيطة عبر ممثلين من الجماعات الأولية الأساسية المعلمون الإدارة المشرفون ( وتقوم بنية هذه الجماعات على أساس العلاقة بين نسق من الأدوار والمراكز التي تشكل أوالية اتصالية، والتي تتم من خلالها عملية الاتصال
ذه الشبكة الاتصالية ممثلة بمرور التعليمات والأوامر بين طرف وآخر. وتتميز بدرجة عالية من التعقيد حيث لا تسمح حدود هذا الفصل باستعراض مكوناتها .
ويمكن توضيح هذه المحاور الاتصاليه وفقا لشبكة الاتصال التاليه:
بين كل صف ومدير المدرسة.
بين كل صف ومدير المكتبة
. بين كل صف وخدمة الحراسة.
بين كل صف والمطعم (الكافتيريا)
بين كل صف من الصفوف الثلاثة الدنيا وجماعات القراءة المشكلة
بين أعضاء كل صف وأعضاء الصفوف الأخرى.
بين مكتب المدير وعناصر الخدمة والحراسة.
بين عناصر المطعم وعناصر الخدمة.
الصفحة29
نظام العلاقات الخارجية
تتحرك الحياة المدرسية كما أسلفنا على نسق من السلوكات البنيوية الداخلية التي تتمثل في نظام العلاقات بين الجماعات الأولية التي تشكل العمود الفقري للمدرسة. وتتطلب دورة الحياة المدرسية، جوهريا، وجود نظام آخر يربط بين المدرسة ومحيطها
الخارجي. وهنا نجد أنفسنا إزاء جماعات اتصالية جديدة تؤدي هذه المهمة. وهنا يمكننا الحديث عن نموذجين للجماعات الاتصالية الخارجية جماعات أولياء الطلاب ثم الجماعات التي تتكون من الآباء والمعلمين.
تمثل جماعات أولياء الطلاب صيغة كلاسيكية للجماعة الاتصالية التي تهدف إلى إيجاد رابطة عميقة بين المدرسة والوسط الاجتماعي أي بين المدرسة والأسرة.
وتتكون المجموعة الثانية من الإداريين والمعلمين وذوي الطلاب لتشكل نموذجاً آخر للجماعات الاتصالية. وهذا يعني أن لقاء أحد المعلمين مع أحد ذوي التلاميذ يشكل جماعة اتصالية، وهذا ينسحب على اللقاء بين أحد ممثلي المدرسة واحد أولياء
الطلاب، وهناك مجموعات اتصالية أخرى تربط بين إدارة المدرسة والدوائر الحكومية وتتكون هذه الجماعات من أعضاء المدرسة وأعضاء في الوسط المدرسي. تشتمل الجماعة الاتصالية الخارجية، كما هو حال الجماعات الأخرى، على نسق من الأدوار والمراكز والسلوكات التي تتحدد أيضا وفقا لمعايير محددة لصيغة التفاعل بين الأفراد الذين يلعبون هذه الأدوار. ويعد كل نمط سلوكي لكل جماعة ضرورياً من أجل قيام المدرسة بوظائفه ..
وتترابط هذه الجماعات الأولية بالضرورة في إطار حدود النظام المدرسي بتوسط جماعات اتصالية متعددة التي تقوم بتحويل الأوامر والتعليمات والاتصالات المدرسية.
وهناك جماعات اتصالية أخرى تقوم بربط المدرسة بالمجتمع أو بوسطها الخارجي. فالمدرسة في إطار هذه الصيغة نظام من الفعاليات الإنسانية المنظمة في إطار جماعات مترابطة في نسق من العلاقات الاتصالية. وبالتالي فإن الأفعال تتحدد عبد نظام من الأدوار وهدفها تنسيق الفعاليات الضرورية لإنجاز مهمة المدرسة التربوية.
الصفحة30
تخوم النظام المدرسي للمدرسة بوصفها بنية سلوكية
إذا كان منطلقنا في فهم المدرسة يقوم على أساس أنه ما نظر نام سلوكي، فمن الضرورة بمكان تحديد مجال السلوك المدرسي وتخومه الأساسية، وهنا يتوجب علين 1 ألا تؤخذ بمصيدة التحديدات التقليدية أو التعريفات الرسمية في سياق البحث عن الحدود السوسيولوجية الدقيقة لنظام السلوك المدرسي نفسه.
هناك خطأ ان يرتكبان في الحوار الدائر حول حدود المؤسسة المدرسية، وهما يؤديان إلى حيرة وارتباك هؤلاء الذين يعرفون المدرسة بوصفها نظاماً اجتماعيا:
- يتمثل الخطأ الأول، في القول بأن المؤسسة المدرسية توجد في داخل مجال مكاني محدد ما وأن من يحدث فيه أي في هذا المجال المكاني) وكل ما يحدث في يشكل جزءا من البنية المدرسية.
- أما الخطأ الثاني فيتمثل في تصور يرى بأن كل ما يحدث خارج المكان المدرسي لا يعد جزءا من بنية المدرسة أو نظامها : فكل ما يحدث في داخل المدرسة يشكل جزءاً من نظام السلوك المدرسي وأن كل ما يحدث خارجها لا يعد جزءا من نظامه . السلوكي.
فكل فرد في إطار المجتمع يأخذ مركزا ويلعب أدوارا في إطار جماعات متعددة. على سبيل المثال يمكن أن نستعرض سلوك أخوين ( أخ وأخت) تلميذين في مدرسة واجدة بعينها عندما يلتقيان في باحة المدرسة ويتفاعلان كأخ وأخت، تكون هنا إزاء
دور عائلي يجري في داخل المدرسة ولكنه لا يشكل جزءاً من نظامها مع أنه يحدث فيها. والشيء نفسه يمكن أن ينطبق على وضعية تلميذين متجاورين في السكن فهم ا يتعارفان في ساحة المدرسة الأسباب تتعلق بالجوار. وهذا النمط الله لوكي لا ينتمي أيضا إلى النظام المدرسي.
الصفحة31
وهذا يعني أن هناك أشياء تحدث داخل المدرسة ولكنها لا تشكل جزءاً من بنيتها السلوكية بل تعود لأنظمة أخرى من السلوك، أي إلى الوسط الخارجي للمدرسة.
وهناك خطأ مجالي مشابه، يجري في سياق مخالف تماما، وذلك عندما ينظر إلى كل ما يحدث خارج المدرسة بأنه لا يشكل جزءاً من نظامها السلوكي، ومثال ذلك عندما يقوم المعلم بتصحيح الأوراق المدرسية في المنزل، أو عندما يحضر دروسه وهو يقود سيارته، مثل هذا السلوك يشكل جزءا من النظام السلوكي في المدرسة. وهذا يعني أن المدرسة تتواجد خارج حدود جـ درانها المكانية في إطار الأدوار المدرسية التي تتم خارج أسوارها.
ومن الخطأ أيضا أن نتصور بأن الأشخاص الذين ينتمون إلى المدرسة من طلاب ومعلمين يشكلون النظام المدرسي لوحدهم دون غيرهم. بل وعلى العكس من ذلك فإن كل الأشخاص الذين يعملون في المدرسة يشكلون أعضاء في بنيتها. فالآباء الذين يساعدون أطفالهم في حل وظائفهم يلعبون دور المعلم وه م بس لوكهم هـ ذا يشكلون جزءاً من بنية السلوك المدرسي. وإذا كان هناك متطوع ون يدخلون إلى المدرسة ويقومون بأدوار مدرسية فإنهم يشكلون دون ذلك جزءاً من النظام المدرسي وذلك مهما يكن نمط سلوكهم ومهما تكن الاعتبارات التي ينظر إلى يهم من خلالها كأجانب وذلك من قبل التلاميذ أو قبل المعلمين. ومن الخطأ هنا بمكان أيضا النظر إلى سلوكهم الداخلي وفقا لمعايير السلوك الخارجي الذي يتم خارج أسوار المدرسة.
يجب القول إذن إن بعض الجماعات التي تنتمي إلى الوسط الخارجي للمدرسة يمكن أن تشكل حقاً جزءاً من بنيتها الوظيفية وعلى الأقل يجب أن يتم الاعتراف بأن بعض الآباء يقومون بدور مساعدة المعلم فيما يتعلق بأطفالهم. وبالتالي في إن هـ ذه
الجماعات التي تتكون من التلاميذ والآباء هي مجموعات أولية تنتمي إلى المدرسة.
إذا كانت المدرسة تمثلنا حقا خارج أسوارها المعلنة والمنظورة، لتصل بامتدادها هذا إلى داخل الأسرة، وإذا كانت العائلات تختلف فيما بينها فيما يتعلق بالقدرة على أداء
الصفحة32
الدور المطلوب منها إزاء العمل المدرسي لأبنائها، فإن ذلك يعني أن هناك جانباً حيوياً من المؤسسة المدرسية لا يخضع لمراقبتها المباشرة أو سيطرتها. وهذا يعني أيضا أن هناك جماعات أخرى من النظام المدرسي وهي جماعات مرهونة
بقدراتها على القيام بدور المساعدة في التعلم وأن بعض هذه الجماعات تعاني صعوبات في إنجاز مهماتها المدرسية.
ويضاف إلى ذلك، في النهاية، أن كل جهد من قبل المدرسة للتأثير في كافة الأحداث التي تدخل في إطار محيطها جهد محكوم عليه بالفشل. ودلالة ذلك أن ما بعض ما يحدث في داخلها لا ينتمي إلى نظام السلوك المدرسي القائم فيها، بل ينتمي إلى أنظمة أخرى مختلفة. ولكن يمكن للمدرسة أن تؤثر فيها، وبالت الي في إن سلطة المدرسة لا تغطي الأحداث الخارجية ولا يمكن لها أن تؤثر فيها.
وظائف المدرسة
بری جویل روسني Rosnay أن وظيفة المدرسة لا تقف عند حدود نقل المعارف الموجودة في بطون الكتب فحسب، وإنما في عملية دمج هذه المعارف في أوساط المعنيين بها (18). وينظر جون ديوي Dewey إلى المدرسة بأنها "مؤسسة اجتماعية تعمل على
تبسيط الحياة الاجتماعية واختزالها في صور أولية بسيطة (19). وفي مكان آخ يقول ديوي: إن المدرسة هي قبل كل شيء مؤسسة أوجدها المجتمع لإنجاز عمل خاص، هو الحفاظ على الحياة الاجتماعية وتحسينها (20).
الهوامش :
18-Joel Rosnay, L'analyse systémique Appliqué é l'établissement scolaire, in Beaudot Alain, sociologie de l'école, Durand, Paris, 1981.
19 - تيسير شيخ الأرض، فلسفة التربية عند جون ديوي، مجلة المعلم العربي، العدد الخامس .373 تموز، آب، أيلول 1985 صص 361 - 379)، ص 20 - تيسير شيخ الأرض، فلسفة التربية عند جون ديوي المرجع السابق، ص 378.
الصفحة33
وتكمن وظيفة المدرسة، كما يرى كلوس Clausse، في تحويل مجموعة من القيم الجاهزة والمتفق عليها اجتماعيا إلى المنتسبين إليها من طلاب وأطفال وتلاميذ، وقد مارست المدرسة هذا الدور في العصور القديمة والوسطى كما هو الحال في التاسع عشر (21). ي القرن هذا ومما لاشك فيه أن المدرسة تمارس وظائف اجتماعية وتربوية متعددة، وتتباين هذه الوظائف بتباين المجتمعات، وبتباين المراحل التاريخية المختلفة. ويمكن لنا في السياق أن نميز عددا من المحاور الأساسية لوظائفها المجتمعية. ي
التنشئة الاجتماعية
تعد المدرسة بحق الوكالة الاجتماعية الثانية، بعد الأسرة، للقيام بوظيفة التنشئة الاجتماعية للأطفال والناشئة. حيث تقوم بإعداد الأجيال الجديدة روحياً ومعرفياً وسلوكياً وبدنياً وأخلاقياً ومهنيا، وذلك من أجل أن تحقق للأفراد اكتساب عضوية الجماعة والمساهمة في نشاطات الحياة الاجتماعية المختلفة. وتعمل المدرسة، اليوم، على تحقيق عدد كبير من المهام التربوية. ومن بين هذه المهام التي تقوم بها يمكن أن نذكر على سبيل المثال، وليس الحصر ، جملة من الوظائف أبرزها : تحقيق التربية الفنية، والتي تتمثل في الموسيقى والرسم والأنشطة الفنية الأخرى، ثم التربية البدنية، والتربية الأخلاقية والروحية، والتربية الاجتماعية، وتحقيق النمو المعرفي، وأخي را التربية المهنية.
الوظيفة السياسية للمدرسة
يرسم كل مجتمع السياسة التي يرتضيها لنفسه، والتي تحقق له غاياته وأهدافه في ي مختلف مجالات الحياة وميادينها. والسياسة هي أداة المجتمع في ي توجيه الطاقات
الهوامش :
- Arnold Close, Inception in Educational Sciences, City University Press.21
الصفحة34
والفعاليات المجتمعية نحو أهداف منشودة ومحددة، وهي بالتالي معنية بتحقيق التوازن بين جوانب الحياة الاجتماعية ومؤسساتها المختلفة.
وتقوم بين مؤسسة المدرسية والمؤسسة السياسة علاقات جدلية عميقة وجوهرية.
فالمؤسسة السياسية معنية بتحديد أهداف التربية وغاياتها وبتحديد استراتيجيات العمل المدرسي ومناهجه، لتحقيق أغراض سياسية اجتماعية قريبة أو بعيدة المدى. وغالبا ما ينظر إلى المدرسة بوصفها حلقة وسيطة بـين العائلة والدولة، لتحقيق الغايات الاجتماعية التي حددها المجتمع لنفسه.
وتبين القراءة التاريخية لعمل المدرسة ووظيفتها بوضوح، أن عمل المدرسة ومهمتها تتغاير بتغاير أنظمة الحكم القائمة والأيديولوجيات السائدة. لقد تحولت المدرسة إلى أداة في يد الدولة الماركسية لتحقيق أغراض واستراتيجيات وإيديولوجيات السياسة الماركسية. كما تحولت المدرسة الألمانية في ألمانيا النازية، إلى جهاز سياسي يهدف إلى تكريس مبادئ النازية، وتمجيد العرق الآري، وكان عليها أن تقوم بمهمة تذويب وصهر كافة الثقافات الاجتماعية للشعب الألماني في بوتقة الانتماء إلى القومية الألمانية المتعالية.
أما في المجتمعات الليبرالية فإن المدرسة تسعى إلى تعزيز قيم الليبرالية الاقتصادية، ومفاهيم الحرية الشخصية، وتكريس العقلية العلمية. وهناك نماذج أخرى متعددة ففي بعض البلدان العربية على سبيل المثال تسعى السياسة التربوية إلى تعزيز الانتماء القومي، والأصالة القومية، وتؤكد على أهمية استرجاع الأرض العربية المغتصبة في فلسطين، أو في أي مكان آخر.
فالسياسات التربوية القائمة، لأي من البلدان، تحدد للمدرسة وظائفها ومهماتها وأدوارها، وتصوغ لها مناهجها بما ينسجم مع التوجهات السياسية الكبرى للمجتمع المعني. ويتم ذلك كله عبر منظومة من الخطط والاستراتيجيات المتكاملة والموجهة. فالسياسة التربوية لمجتمع ما تحدد في إطار سياسته العامة. وتسعى هذه السياسات، في
الصفحة35
جملة ما تسعى إليه، إلى تعزيز الأيديولوجيات الاجتماعية السائدة وتحقيق الوحدة السياسية للمجتمع.
ومن أهم الأدوار السياسية التي تلعبها المدرسة هي:
1- التأكيد على الوحدة القومية للمجتمع.
2 - ضمان الوحدة السياسية.
-3- تكريس الإيديولوجيا السائدة
4 - المحافظة على بنية المجتمع الطبقية.
5 - تحقيق الوحدة الثقافية والفكرية.
الوظيفة الاقتصادية
ی يكمن العامل الاقتصادي في أصل نشوء المدرسة، وخاصة في مرحلة الثورة الصناعية الأولى، التي تطلبت وجود يد عاملة ماهرة قادرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة المتطورة. وكان على المدرسة في هذه المرحلة أن تلبي حاجات الصناعة النامية من اليد العاملة المؤهلة. وما تزال المدرسة حتى يومنا هذا تسعى إلى تلبية احتياجات التكنولوجيا الحديثة من فنيين وخبراء وعلماء وأيد عاملة. وبدأت لاحقا ترتبط تدريجيا، وعلى نحو عميق مع المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية، ويتجسد ذلك في تأسيس المدارس الفنية ي والمهنية، التي تتصل بشكل مباشر بعجلة الإنتاج الصناعي المتطور.
تلعب المدرسة دورا هاما في زيادة الدخل القومي، وتحقيق النمو الاقتصادي في البلدان المتطورة والنامية على حد سواء. وفي هذا الصدد تشير دراسة دونيزون Donison التي أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1962 ، إلى أن 23% من نسب النم و الاقتصادي، في الولايات المتحدة الأمريكية، تعود إلى تطور التعليم في هذه البلاد (22).
وقد كان للاقتصادي الإنكليزي آدم سميث فضل السبق على معاصريه في الإشارة إلى أهمية رأس المال البشري ودوره في الدخل الاقتصادي القومي، حيث شهر قول له: بـ أن
الهوامش :
22- m. Al-Sharqawi, Sociologie de l'éducation, P.U.F., Paris, 1970, p. 38.
الصفحة36
الرجل المؤهل علمياً يمكن أن يقارن بآلة حديثة فائقة التطور تتميز بتكاليفها الهائلة ولكنها قادرة على الإنتاج بطريقة مذهلة تتجاوز حدود نفقات إنتاجها بآلاف (23).
وتشير نتائج إحدى الدراسات إلى أن إنتاجية العامل الأمي ترتفع بنسبة 30 % بعد عام واحد من الدراسة الابتدائية، وحوالي 320% بعد دراسة 13 عاما، وتصل إلى 600% بعد الدراسة الجامعية (24). ولم تبق هذه الحقيقة الاقتصادية اليوم سرا مرهونا بالاختصاص ين فحسب، حيث بدأ الناس يدركون أهمية التحصيل العلمي في رفع مستوى الإنتاج ومستوى الدخل على المستوى الفردي كما على المستوى القومي. وفي هـذا الخصوص، يشير رایموند بودون Boudon إلى هذا الأمر في كتابه الحراك الاجتماعي ويؤكد أن صورة التعليم بدأت تأخذ مكانها في عقول الناس على أنها عملية توظيف واستثمار وعائدات، وقد بدأ الناس ينظرون إلى المدرسة من زاوية العرض والطلب والتوظيف والعائدات... الخ (25). وينظر اليوم أصحاب النزعة الاقتصادية إلى المدرسة من جوانبها الاقتصادية، وهم يعملون على دراسة حركتها وفاعليتها بوصفها مؤسسة إنتاجية تطرح نتاجا من الشهادات والناس في أسواق العمل، وهو نتاج تتباين أهميته وجودته بتباين المدة الدراسية، ونوع الدراسة والفرع العلمي، ومدى أهمية الاختصاص في سوق العمل وفقا لمبدأ العرض والطلب الاقتصادي.
الوظيفة الثقافية للمدرسة
تعد الوظيفة الثقافية من أهم الوظائف التي تتولاها المؤسسات المدرسية. فالمدرسة تسعى إلى تحقيق التواصل والتجانس الثقافيين في إطار المجتمع الواسع. وتأخذ وظيفة المدرسة الثقافية أهمية متزايدة وملحة كلما ازدادت حدة التناقضات الثقافية والاجتماعية بين الثقافات الفرعية القائمة في إطار المجتمع الواحد كالتناقضات الاجتماعية، والعرقية، والجغرافية،
الهوامش :
23- Watfa Ali, L'intervention sociale à l'École doctorale des sciences de l'Université de Caen en comparaison avec les universités françaises, Doctorat, Université de Caen, Caen. 1988, p. 51.
24 مصدق الحبيب التعليم والتنمية الاقتصادية، دار الرشيد بغداد، 1981، ص 186.
25- Boudon-Raymond, L'inégalité des chances, Armand Colin, Paris, 1974.
الصفحة37
وهي التناقضات التي يمكن أن تشكل عامل كبح يعيق تحقيق وحدة المجتمع السياسية، ومدى تواصله الثقافي وتفاعله الاقتصادي. وقد تجلت أهمية هذه المسألة في مرحلة نشوء ي وتكون الأسواق القومية في أوروبا في مرحلة الثورات البرجوازية، وهي الثورات الت اقتضت وجود ثقافة واحدة لمجتمع اقتصادي واحد . وقد لعبت المدرسة، وما تزال تلعب دورا يتميز بالأهمية في تعزيز لغة التواصل القومي بين جميع أفراد المجتمع وتحقيق الوحدة الثقافية عبر تحقيق التجانس في الأفكار والمعتقدات والتقاليد، والتصورات السائدة في المجتمع الواحد.
الصفحة38
الفصل الثاني: الاتجاهات النظمية في تحليل المؤسسة المدرسية
تشكل المؤسسة المدرسية اليوم الأبحاث التي أجريت حول المدرسة ووظائفها وبنيتها بظهور عدد من المناهج العلمية التي تحاول تقصي الحقيقة المدرسية على نحو علمي. ويعد اتجاه التحليل النظمي L'analyse systematique من أهم المناهج الأساسية التي تعتمد اليوم في تحليل المؤسسة المدرسية ودراستها.
موض . . وعا مركزي . .اً للبح . .ث يقال المعلم بتأثيره الأبدية ولا يمكن السوسيولوجي المعاصر. وقد ترافقت أن يعلم أين يتوقف هذا التأثير آدمز H. Admes
ي يتميز المنهج النظمي بقدرته الفائقة على تحليل الظواهر الاجتماعية المركبة في مجتمع إنساني ينتظم في تكوينات اجتماعية فائقة التعقيد. فالنظم المعقدة تحتاج إلى مناهج معقدة قادرة على تحليل مقومات هذه الظواهر وتفكيك مضامينها. ويعد المنهج النظمي الأكثر كفاءة وقدرة بين المناهج على دراسة التكوينات البنيوية المعقدة للظواهر الاجتماعية والتربوية في نسق تفاعلها وتكامل عناصرها الداخلية؛ وهو يتميز بالق درة على دراسة تفاعل هذه التكوينات مع أنساق التكوينات الخارجية والمنظومات الكبرى والصغرى في المجتمع.
فالمنظومة بالتعريف بنية ذاتية التكامل تترابط مكوناتها وعناصرها بعضها ببعض ترابطاً وظيفياً محكما يقوم على أساس من التفاعل الحيوي بين عناصر هذه المنظومة
الصفحة41
ومكوناتها. وتتميز هذه المنظومة بأنها بنية مفتوحة وليست مغلقة، بنية متطورة وليست جامدة، بنية عنكبوتية التشابك وليست خطية التتابع هذا إضافة إلى خاصية أساسية أخرى هي أن البنية المنظومية تكون أكبر من مجموع مكوناتها، وهو ما يمكن أن يتضح في نظرية الجشتالت أو المجال عند علماء النفس وفي عمليات التكامل عند الرياضيين وفى نموذج التفاضل المتوالي والتوفيق التكاملي عند التربويين من أصحاب نظرية منظم الخبرة المتقدمة (26).
ويمكن لنا تحديد أهم عناصر المنظومة ومكوناتها على النحو التالي:
تشكل المنظومة مجموعا متكاملا من العناصر المتداخلة.
توجد بين هذه العناصر في المنظومة تفاعلات دينامية مستمرة.
تسعى المنظومة إلى تحقيق هدف مركزي معين كما تسعى إلى تحقيق مجموعة أخرى من الأهداف الفرعية.
ی تتغير البنية الكلية للمنظومة مع التغيرات الحادثة في الوسط، ولكنها تحافظ على طابع من الاستمرارية والتواصل المستمر مع المحيط.
وتأسيسا على هذه الرؤية للمنظومة ومنهجها يمكن القول بأن المدرسة تشكل نظاما حيوياً متكاملا متفاعلا من العناصر والديناميات والفعاليات والمفاهيم والوظائف التي تترابط وفقا لمنطق المنظومات الحية.
يؤكد منهج تحليل النظم في المدرسة على دراسة منطق العلاقات الداخلية في داخل المنظومة، كما يؤكد على دراسة نسق العلاقة التي تحكم المنظومة بعلاقتها مع المنظومات الخارجية التي تقع في الوسط الحلكم للوجود الاجتماعي برمته. وهذا المنهج يستوحي منطقه من طبيعة المنظومات الحية في طريقة تشكلها وآليات نموه . وديناميات اشتغالها ونسق الوظائف التي تحققها.
الهوامش :
26 وليم تاوضروس عبيد، النموذج المنظومي وعيون العقل، مركز تدريس التعليم، مركز تطوير تدريس، مركز تطوير تدريس العلوم جامعة عين شمس، 2001 ، موقع إليكتروني Google.com
الصفحة42
يمكن تعريف المدرسة كما أسلفنا بأنها ظاهرة اجتماعية معقدة ببنيتها وآليات اشتغالها وديناميات حركتها . إنها بنية معقدة من التكوينات السياسية والتربوية والثقافية في المجتمع. وعلى هذا الإيقاع تطرح المؤسسة المدرسية نفسها كمنظومة ي من العمليات المعقدة وكتكوين من الفعاليات المنهجية المركبة. وتشهد هذه البنية في مراحل تكونها ونشوئها إجراءات متعددة تتكامل فيها مختلف أنواع الممارسات الذهنية والفكرية والسياسية. فالمدرسة تكوين فكري اجتماعي تربوي، وهي كأي نظام تتكون من تضاريس ووظائف وفعاليات وممارسات حيوية بالغة التعقيد والتنظيم. ومن هـ ذه الزاوية النظمية يجب أن ننظر إلى المدرسة وأن نعمل على تحليلها ودراستها.
لقد استخدم أسلوب تحليل النظم في مجالات التربية بعد منتصف الستينات في القرن الحالي (27). حيث وصفت المدرسة بأنها بنية ثقافية، وهذا يعني أن مجموعة البشر في هذه المدرسة أو تلك الطلاب والمعلمون)، يؤمنون بمجموعة من المعتقدات والقيم والاتجاهات والاهتمامات والمعارف ووجهات النظر والعادات والفكر في العمل، وإن هذه المنظومة الثقافية هي التي تدفع هؤلاء البشر إلى النهوض بأعمال بـ ذاتها، والعزوف عن أعمال أخرى، وتقبل بعض الأفكار والتحمس لها ورفض بعض الأفكار ومقاومتها .
ي واستنادا إلى هذه المقولة يمكن وصف المدرسة بأنها نظام ثقافي، وأن تطويرها لا يمكن أن يتم إلا إذا فهمت ثقافتها فهما حقيقيا، وهذا يعني أن الخطوة الأولى في إصلاح التعليم هي محاولة إحداث تغيير في ثقافة المدرسة، وأن الشدة والهيمنة وسائل غير مجدية في ذلك (28).
هذا ويشمل مفهوم النظام المدرسي البيئة الاجتماعية التي توجد فيها المدرسة ومكونات هذه البيئة التي تؤثر سلبا أو إيجابا على أداء العاملين فيها، وتمثل هذه البيئة في الموقع الجغرافي للمدرسة وتجهيزاتها ومبانيها والمستوى الاقتصادي الاجتماعي
الهوامش :
-27- أحمد المهدي عبد الحليم، نحو اتجاهات حديثة في سياسة التعليم العام وبرامجه ومناهجه، .26 عالم الفكر، عدد 2 سبتمبر 1988، ص
28 أحمد المهدي عبد الحليم نحو اتجاهات حديثة في سياسة التعليم المرجع السابق، ص 27.
الصفحة43
للأسر وحجم المدرسة، ومدى الدعم الذي تتلقاه من مجتمعنا المحلي والمؤسسات العامة (29).
لقد ولد منهج تحليل النظم Analyse de système وتطور بصورة كبيرة في النصف من القرن العشرين. ويقوم هذا المنهج بتحليل الأنظمة الدينامية المعقدة ولاسيما الأنظمة الحية ثم الأنظمة الاجتماعية والتربوية، وهو يسعى إلى تقديم صورة شمولية عن هذه الأنظمة وذلك في مسار يتناقض مع النظرة التحليلية المجهرية التي عرفناه . في مجال العلوم الكلاسيكية.
ي لقد ولد هذا الاتجاه الجديد من التفكير في الولايات المتحدة الأمريكية في Massachusets Institute of Technologys حيث كانت مجموعات مصغرة من الباحثين الذين ينتمون إلى اختصاصات متعددة وهي مجموعات أسسها عدد من العلماء والمفكرين أبرزهم عالم الرياضيات نوربيت وينر Norbet Winer عام 1919، وعالم الفيزيولوجيا أوتورو روسيمبلي Atoro Rossenbluethe حيث عمل مع نوربيت في جامعة هارفارد في المخابر الفيزيولوجية.
ويعد والتر كانون Walter Canon واحدا من أبرز مؤسسي هذا الاتجاه الذي أبدع ما يسمى Homeostasie ، وذلك من أجل تحليل مجمل العمليات التي تنظم العضوية. وانطلاقا من الأعمال التي قام بها منذ عام 1940 مع المهندس جوليان بيجل و Julian H-Bigelow، وبمساعدة فريق عمله لكتشف الحلقة الدائرية للمعلومات الضرورية من أجل تصحيح أي فعل، ومن ثم الحلقة الخاصة بالتغذية الراجعة السلبية Negative Feedback ثم قام بتصميم هذا الاكتشاف على البني الحية.
وفي هذه الأثناء كانت هناك مجموعات علمية متنوعة تعمل، وتقدم نتائج أعماله . مثل روزنب روت Rosenbluete ، ووارن Warren Mc. Culloch، حيث لعب الرجلان دورا كبيرا في تطوير السبيرنتيكية Cybernétique.
الهوامش :
29- أحمد المهدي عبد الحليم نحو اتجاهات حديثة في سياسة التعليم، المرجع السابق، ص 27.
الصفحة44
في عام 1958 ظهر كتاب السيبرنتية وضبط الاتصال في الحيوان والآلة وه و ،Cybernetics or control and communication in the animal and the machine کتاب Winer ، ثم كتاب نظرية الاتصال theory of communication لمؤلفيه كلود شانون Claud shannon ووارنر ويفر Warren weaver وهو الكتاب الذي أسس النظرية الاتصال.
لقد كان لهذه النظريات والأعمال الجديدة دورا كبيرا في تطور الاتجاه النظمي في التحليل، وقد لعبت أيضا فرق البحث العلمية العاملة في هـذا المجال دورا مم اثلا ، ولاسيما الجماعات العلمية التي كانت تعمل في مؤسسة دراسات الأنظمة العامة، society for general systems research هي مؤسسة علمية تأسست عام 1954، ي وقد أشرف عليها البيولوجي المعروف لودفنج فون بيرتا لانغي. وهي المؤسسة الت قامت برعاية أعمال الرياضي المعروف رابويت A.Rappoit والبيول وجي الشهير روس أشبي Ross Ashby ، وعالم الفيزياء راشوسكي N. Rashevsky، والاقتصادي المعروف بولدنغ K.Boulding، وكانت هذه المؤسسة تعمل لتطوير الأبحاث السبيرنتيكية وتعميمها على الأنظمة الاجتماعية ولاسيما في مجال المؤسسة.
وفي عام 1961 لكتشف فورستر JoyW.Forrester الدينامية الصناعية، وكان هدفه هو النظر إلى المؤسسات بوصفها أنظمة سبير نتيكية، وذلك من أجل الإدراك والتنبؤ بالسلوك في داخل هذه المؤسسات. وفي عام 1964 عام فورس تر نظامه الدينامي ليشمل الأنظمة المدنية، ثم في عام 1971 أسس فرعا علمياً أطلق عليه دينامية المؤسسة Des systèmes Dynamique ، وعرض أفكاره الرئيسية في كتابه دينامية العالم World dynamic ، وهي الأفكار التي شكلت المنطلقات الأساسية لـ دونيس ميديوس Denish Meadous وفريق عمله لدراسة حدود النمو. وبتمويل من نادي روما، استطاع هؤلاء تقديم نتائج مهمة في هذا الميدان، واستمرت الأبحاث في النم و والتطور في مختلف الاتجاهات العلمية في هذا الميدان.
الصفحة45
Approche ي وفي الوقت نفسه ظهر اتجاه آخر أطلق عليه الاتجاه النظم Systemique، وهو الاتجاه الذي وضعه جويل روسني، ووصفه بالاتجاه السامي وهو ليس علما أو نظرية أو فرعا علمياً بل هو منهج جديد، يسمح باحتواء معارف هائلة ويعمل على تنظيمها، وذلك من أجل تحقيق فعالية أكبر وتأثير أه وأطلق عليه ما نسميه ماكروسكوب Macroscope أي الرؤية الشمولية وهو عنوان كتابه الذي كرسه لهذه القضية، ويمثل هذا المنهج الذي قدمه روسني محاولة لدراسة وتحليل الظواهر المعقدة عبر منهج شمولي يستند إلى فروع علمية متعددة. م
ماذا يعني النظام
يصعب إعطاء تعريف جامع مانع ومحدد لمعنى النظام system". وغالبا ما يجري تعريف النظام وفقا للاتجاه البنائي الوظيفي الذي تم تحديده على الأغلب من قبل بارسونز Parsons وتلامذته وأبرزهم ألموند Almond وأبتر Appter. هذا ويؤكد المفكرون من الاتجاه البنائي الوظيفي أهمية العلاقات القائمة بين أجزاء النظام ودورها مجتمعة في تحديد هوية النظام عينه. وتأسيسا على ذلك يعرف لودينغ Ludwig وبيترا لانفي Bertalanffy النظام بوصفه نسقا من الأشياء والعلاقات القائمة بينها وبين خصائصها .
وهناك محاولات كثيرة تسعى إلى تحليل مفهوم النظام، ويمكن لنا تحديد بعض الجوانب المتفق عليها حول العناصر المكونة للنظام وأهمها:
النظام مجموع متكامل من العناصر المتداخلة.
- ينطوي النظام على عمليات تفاعل دينامية.
منظم وظيفياً نحو هدف معين.
- يتغير النظام في مسار الزمن، مع الاحتفاظ بنوع من الاستمرارية والاستقلال النسبي.
هذا ويميز الباحثون الذين أجروا أبحاثا حول الأنظمة المدرسية بين عدة أدوار للنظام، وبعضهم يقترحون في سياق عملهم استبدال مفهوم النظام، بمفهوم البنية،
الصفحة46
وهذا يعني الانتقال من رؤية ستاتيكية إلى رؤية دينامية. أما فيما فيما يتعلق بالزمن، فإنهم يقترحون استبدال مفهوم الفضاء الفيزيائي بالفضاء الاجتماعي، واستبدال مفهوم المعلوماتية بمفهوم التماسك التنظيمي.
تحليل بنية المدرسة كمنظومة تربوية
حملت لنا السنوات الثلاثون الأخيرة تغيرات كبيرة في مجال تطور المناهج العلمية القادرة على تحليل التكوينات الاجتماعية التربوية. ويبرز في سياق هذا التطور مفهوم المنظومة الذي تحول إلى مفهوم مركزي يطرح نفسه بقوه في مجالات علمية مختلفة كالبيولوجيا، علم الاجتماع، والتقنية والتربية). ويعد هذا المفهوم مفتاح التفسير منظومة من التحولات الواقعية التي تجري في الحياة الاجتماعية والتربوية على ح 1 سواء. ومع تطور الزمن أصبح الاتجاه النظمي الذي ينطلق من مفهوم المنظومة (Systeme) أحد أهم التيارات المنهجية التي تؤكد حضورها المظهر في المجالات المعرفية ولا سيما في الحياة التربوية. مختلف
المنظومة التربوية الكبرى والصغرى
الأنظمة الكبرى والصغرى
عندما يجري الحديث عن النظام التربوي systeme Macro في المستوى الوطني أو القومي فإننا إزاء ظاهرة بالغة التعقيد وفقا لمعيار الرؤية السوسيولوجية التربوية. حيث يتضمن النظام التربوي في صيغته الشمولية نسقا متعددا من الأنظمة الفرعية والمراكز التربوية، كما أنه يشتمل أيضا على نسق من العلاقات المتبادلة بين هذه المراكز، ويتضمن الشروط المحددة لها، كما يشمل المضامين والأشكال الأساسية التي تتبدى فيها .
ي لقد استقطبت الأنظمة التربوية الكبرى اهتمام المفكرين والإداريين والباحثين في النصف الثاني من القرن العشرين، وترافق هذا بتراجع الاهتمام بالأنظمة التربوية الصغرى Micro-systeme ممثلة في المدارس والمؤسسات التعليمية الصغرى وهي
الصفحة47
لا تقل أهمية عن النظام الكبير Macro systeme بوصفها تشكل كيانات عضوية وبنيوية في تكوين هذا الأخير.
ويمكن لنا أن نقع في خطأ كبير عندما نعتقد بأن النظام التربوي المصغر - Micro systeme مجرد صورة مصغرة منسوخة من النظام التربوي الكبير. فالنظام التربوي المصغر لا يتشكل بمجرد قرار يصدر عن قمة الهرم. إن وجود النظام التربوي الكبير وتطوره ليس كافيا من أجل وجود منظومة أنظمة مصغرة مستقلة محلياً في كل مدرسة على حدة. ومع ذلك فالنظام التعليمي العام يحدد الأطر العامة للأنظمة المصغرة ويرسم لها حدودها. وهو بالتالي يشكل المقدمات الأساسية لتك وأن ونم و الأنظمة التربوية على المستوى المحلي.
تشتمل كل منظومة تربوية صغرى على مجموعة من السمات والخصائص بوصفها وحدة ملموسة متكاملة، وذلك بالإضافة إلى السمات المشتركة بين هذه المنظومات الصغرى، وتتحدد ملامح وسمات المنظومات التربوية الصغرى بخصوصية الوسط الاجتماعي الذي يحيط بالأطفال والمعلمين والعاملين في مجال المدرسة.
وباختصار يمكن القول إن النظام التربوي المصغر الذي ينشأ في وسط ما يشكل نتاجا لعوامل محلية على وجه العموم. إذ يحتوي كل نظام تربوي على ى جملة من العناصر المتنوعة. ويعود بعض هذه العناصر إلى المدرسة بوصفها جماعة إنسانية خاصة . فالمجتمع التربوي المصغر يتكون من عدة جماعات أساسية سبق أن أشرنا إليها في الفصل الأول وهي : الجماعات الصغيرة، الجماعات الاتصالية الصفوف، جماعات الصف الداخلية، وجماعاته الخارجية، وجماعات الراشدين ... الخ. كما يمكن أن نشير إلى عناصر تتصل بغايات العمل المدرسي على المستوى التطبيقي هي:
1- العناصر الأساسية كالبرامج والتعليمات .. الخ.
2- المكونات التي تتعلق بالجماعة : الجماعات داخل الصف وخارجه.
3 - سمات خارجية مثل: اللباس الموحد الإرشادات والرموز).
الصفحة48
وغني عن البيان أنه يوجد في سياق كل تطور تربوي اعتراف متمايز بأهمية خاصة لبعض العناصر دون الأخرى. أو بين العناصر الثانوية والعناصر الأساسية.
حيث يتم في كل مرحلة من مراحل تطور النظام التربوي تحديد العناصر الفاعلة التي تترك أثرها في بنية النظام بكامله مثل تقسيم التلاميذ إلى جماعات تربوية، أو طبيعة التقويم التعليمي أو التربوي.
وفي هذا السياق تشير النظرية العامة للأنظمة أن التغير الذي يحدث لأحد العناصر يؤدي إلى تغيرات في بنية النظام وفي مجالات النشاط التربوي كافة. وتشكل هذه القضايا منطلق الرؤية النقدية لدراسة مختلف أشكال المفاهيم التي تتعلق بالنظام التربوي.
دينامية النظام التربوي ومستوى تطوره
يشكل النظام التربوي وحدة دينامية متكاملة، وهذا يعني انه يتطور من داخله ويخضع في الآن الواحد للتغير والتطور الذي تفرضه عناصر خارجية بصورة دائمة. وتشير نظرية الأنظمة في هذا المستوى، إلى وجود ثلاث حالات زمنية متكاملة في كل أساس ی اللحظة منظومة، حيث يتمثل الماضي في وجود بعض العناصر التي ترتكز على تقليدي، بينما يجسد الحاضر جملة العناصر التي تمارس أدوارا خاصة في الحاضرة، وأخيرا المستقبل الذي يشتمل على العناصر الذاتية في إطار الحاضر. ي
وعندما ننطلق في رؤيتنا للحقيقة التربوية على أساس مبدأ الحالات الزمنية الثلاثة، فإننا سنجد أنفسنا إزاء مسائل بالغة الأهمية والخطورة، حيث يتوجب علينا أن ندرس بعمق بعض العناصر التقليدية التي توجد في إطار النظام بوصفها عناصر تعود إلى الماضي ثم نحدد مدى صلاحيتها والعناصر التي يجب أن تستبعد أو أن تستبدل منها، ثم تحديد العناصر التي تؤدي أدوارا هامة رغم انتمائها إلى الماضي. ومن ثم يتوجب علينا أن ندرك العناصر الظرفية الراهنة وتحديد العناصر التي توجد في طور النشأة والتكوين والتي تشير إلى الصورة المستقبلية للنظام التربوي.
الصفحة49
إن اعتمادنا على النظرية العامة للنظم بحالاتها المختلفة لا يمثل لحظة عابرة.
فهذه النظرية تؤسس لمنهجية تسمح لنا برؤية الحقيقة الاجتماعية والتربوية بمصداقية وفعالية، فالحقيقة المدرسية وفقا لهذه النظرية تشكل كلاً متكاملا ونظاما تتساوق فيه العناصر المختلفة المكونة له.
الأهداف الصريحة والمضمرة للنظام
إن التباين الدائم الذي يقوم بين الأهداف المعلنة والأهداف المضمرة التي تم تنفيذها فعلياً يضعنا أمام مشكلة معقدة تبعث على القلق التربوي الدائم. لأن هذا التباين بين المعلن والمضمر قد يكون في كثير من الأحيان بالغ الخطورة، ولا سيما في ي الوقت الذي يزعم فيه نظام تربوي ما بأنه ينفذ أهدافا متباينة جدا عن هذه التي قد حددت مسبقا .
إذ يمكن للنظام المدرسي أن ينطوي على أهداف تعليمية خفية مختلفة عن هذه التي حددت في العلن. ويمكنه أيضا أن يعزز تحقيق هذه الأهداف المضمرة بمضامين قيمية متنوعة. وفي هذا المستوى تبرز إشكاليات عديدة ومعقدة عندما يتعلق الأمر بقدرة نظام تربوي ما على إضفاء قيم مختلفة في مخططة المثالي للسلوك، مثل القيم الاجتماعية والأخلاقية والاتجاهات السلوكية. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هناك عددا كبيرا من الأهداف التي ترسم خارج النظام. ويجب أن نعترف أيضا بـ أن النظام المعني يشتمل على جملة من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها بشكل مستقل في داخل النظام نفسه. وذلك يمثل بحد ذاته مصدرا آخر من مصادر التباين القائم بين الأهداف المعلنة والأهداف المحققة.
تشكل الأهداف التربوية التي يحددها النظام التربوي تعبيرا عن غايات وطموحوتوجهات هؤلاء الذين يمارسون نشاطهم في داخل النظام. وعندما يتم إدخال أهداف عامة في نظام تربوي ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن هناك شيئا ما يحدث في ي داخل هذا النظام وان العاملين هنا يسعون إلى تحقيقه، وان كل معلم أو جماعة من
الصفحة50
المعلمين تدرك في إطار نشاطها نوع الأهداف التي تناسبهم بشكل أفضل وان هـ ذه الأهداف لا تتوافق بالضرورة مع الأهداف المعلنة في مستوى النظام الكبير.
وعندما نتحدث عن الأهداف الداخلية للنظام يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الأهداف لا تتوافق دائما مع أهداف التلاميذ أو مع سلوك التلاميذ الذين يخضعون على ي الأغلب لشروط تحددها طموحات لراشدين أين نبحث إذن عن اصل الأهداف الت تتعين داخل النظام ؟ إن هذه الظاهرة تستحق وقفة خاصة. فهناك عوامل عديدة تلعب دورها دون أدنى شك في بناء هذه الأهداف المضمرة:
1 حاجات الأفراد والجماعات المتنوعة.
2- التقاليد المدرسية التي تعزز أحيانا عادات قديمة من التفكير والفعل التربوي.
3- الأخلاق والتجارب وطموحات الوسط المحلي.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار كل هذه الظواهر فان المسألة الأساسية تتبدى في السؤال التالي:
ما الطريقة التي تتجاوب فيها المعايير والقيم والأفكار التي يحددها النظام الكبير النظام الوطني للتعليم ممثلة في وزارة التربية والتعليم مع المعايير والقيم الأفكار التي تشكل مضمون الأهداف التربوية في النظام المصغر ( النظام المحلي الفرعي، مديرية تربية أو مدرسة ؟ أي كيف تتجاوب الأهداف المعلنة للنظام الكبير مع الأهداف المضمرة التي رسمها النظام المصغر لنفسه؟
إن وجود وتعايش وتفاعل مجموعتين من الأهداف، بصورة دائمة، في ي مجال التطبيق التربوي اليومي، يمثل في حقيقة الأمر لقاءا بين مجموعة ثابتة غير متغايرة (مجموع المعايير والقيم والأفكار السائدة في المجتمع مع جملة محددة متغايرة تتمثل في مجموعة المعايير والقيم والأفكار الشخصية والفردية للجماعات المؤسسة والفاعلة في النظام المصغر.
الصفحة51
ورغم هذا التناقض والتباين بين المنظومات القيمية في النظ امين في إن النظام الاجتماعي يسعى إلى تأكيد نسق القيم الاجتماعية التي تهيمن ويسود. كما يسعى وفقا لبعض المعايير إلى تقليص التناقض بين أنساق القيم الموجودة في داخله، وذلك من اجل تحقيق التوافق بين الثابت القيمي وبين المتحول القيمي. ومع ذلك فإن التنوع يبقى قائما ويؤدي إلى ولادة شروط مناسبة لنمو حر للشخصية الإنسانية. وعن دما لا يكون هناك تنوع فإن الثابت العام يتحول إلى معيار جامد يفرض وجوده من الخارج ويكره الأفراد على قبوله بطريقة امتثالية.
فالمواجهة القائمة بين الثابت العام والمتحول الفردي الجماعي تأخذ أهمية لكبر عندما نأخذ بعين الاعتبار السمة الأساسية للنظام وخاصة عندما تكون هذه الأنظمة مفتوحة فعالة أو ذات تنظيم ذاتي وعندما تتطور حسب منطقها الداخلي وليس تحت تأثير مؤثرات خارجية.
بعض معايير تحليل المدرسة بوصفها نظاماً تربوياً مصغرا
عندما تجرى محاولة وصف الثوابت الخاصة بالنظام التربوي المصغر مثل: درجة التفاعل بين العناصر المكونة له، وحدود هذه العناصر وتفاعلاتها، والأنظمة الفرعية القائمة في إطار فترة زمنية محددة فإن ذلك يكون تصورا ثابتا نسبيا عن هذا النظام.
تتحدد المؤشرات الخاصة بدينامية النظام التربوي المصغر على النحو التالي :
1- التغيرات الجارية التي تتوافق مع بداية التجربة.
2 جملة التغيرات الجارية التي تتم في نهاية التجربة أو في لحظة يتم تحديدها إطار التجرية.
-3- تقويم درجة التفاعل بين المتغيرات الجارية في إطار النظام.
4- تحديد سمات التغذية الراجعة بين العناصر المتغايرة داخل النظام أو في النظام ككل بالعلاقة مع الوسط الذي يوجد فيه.
الصفحة52
تتحدد القيمة التربوية الاجتماعية للنظام المصغر في مدى فعاليته التربوية. ومثل هذا التصور ليس وحيد الطرف لان فعالية النظام المصغر يمكن أن يعبر عنها في سير عمله الخارجي، وذلك بالعلاقة مع الأشخاص والمؤسسات الأخرى، كما يمكن أن يعبر عن هذه الفعالية في إطار التغيرات الداخلية الهامة بالنسبة للنظام نفسه.
ويمكن أن نلاحظ آثار العمل التربوي على النظام في مستوى مدرسة ما، وهي آثار تتعلق بالوظيفة الداخلية للنظام المصغر، وذلك عندما نقوم بدراسة التغيرات الحاصلة في مستويات ثلاثة : في وظيفة الأجزاء المكونة بالعلاقة مع الكل؛ وفي درجة التكامل القائمة بين الأهداف العامة للنظام المصغر ؛ وفي النهاية في مدى تطور النظام المصغر على إيقاعات نمو عناصره المكونة.
إن الأبحاث الجارية حول النظام التربوي المصغر للمدرسة يمكن أن تؤدي خدمات متعددة مثل : تشخيص جوانب النظام على سبيل المثال تحديد الأساس في عملية تقويم التكامل والتفاعل ثم تحديد فعالية النظام نفسه)، ثم تحديد التغيرات الجارية (مثل: القرارات المتخذة لتخفيف درجة العطالة التي تعاني منها بعض عناصر النظام)، وأخيرا التنبؤ وذلك حين يتم إدخال نموذج أو مشروع للتحديد يتعلق بالبنية الداخلية للنظام).
إن بحثا حول النظام المصغر لمدة عام دراسي كامل يسمح بالحصول على معطيات كافية لتشخيص وظيفة وعمل هذا النظام المصغر في إطار مدرسة ما. ويمكنه أيضا تحديد النموذج الخاص بالنظام المصغر على أساس الاحتياجات الحقيقية إلى دراسات تهدف إلى تحقيق تغيرات أساسية في الشروط الأولية في بنية النظام.
ي إن الباحث الذي يقوم بعملية وصف لصيرورة عمل النظام المصغر وتحديدها في المدرسة لا يستطيع أن يكتفي بدوره كباحث خارجي. إذ يمكن لدوره أن يأخذ اتجاه ا ينتقل فيه الباحث من مستوى البحث عن صيرورة تكوان النظام وتشكله في ي إطار شروطه الطبيعية إلى مستوى البحث الميداني الذي ينام على أساس الانخراط الفعلي في
الصفحة53
حياة النظام عبر المقابلات والاختبارات والممارسات اليومية لأن ملاحظة مجرى التغيرات الواقعية يتطلب من الباحث مشاركة في عمل المدرسة.
إن بناء التوجيهات العملية التي تسعى إلى تطوير المؤسسة المدرسية في مختلف مستوياتها التربوية لا يتطلب معرفة عميقة بالمعطيات العلمية الخالصة فحسب، وإنما يتطلب بالإضافة إلى ذلك إدراكا لأجواء المدرسة والاتجاهات الفعلية للمعلمين ي لة والتلاميذ. كما يتطلب ذلك تحقيق اتصال غير رسمي بين الباحث والمشاركين في النظام. وذلك لان حاجز الحذر يأتي كنتاج للعلاقات الرسمية بين الأفراد. إن ضمان وجود فعالية عالية للنظام التربوي المصغر يتطلب أن يكون ذلك النظام على مفتوحة مع المحيط، كما تتطلب منه أن يكون عالي التنظيم في ي مستوياته الوظيفية الذاتية وخاصة الضبط والتكيف الذاتيين. ی صد
فالنظام التربوي الشامل ( النظام التربوي في المستوى الوطني ) لا يوجد في عزلة عن محيطه، بل يوجد في سياق للتعاون بينه وبين العائلة والمؤسسات الصحية والمساعدات الاجتماعية والمؤسسات السياسية والاجتماعية ومع منظمات العمل الشباب ومع المؤسسات الثقافية والفنية والعلمية والإعلام والرياضة والسياحة والقضاء .
ی وتشكل الأنظمة الصغرى ( المدارس) جزءا من النظام الكبير الذي يعمل على إدارتها. ولكن لا يمكن لهذه الأنظمة الصغرى أن تكون صورة طبق الأصل للنظام الكبير، فكل وحدة مدرسية، تحت تأثير التفاعل الذي يجري في داخل النظام الكبير للتعليم، وفي إطار المحيط المشروط، تشكل نظاماً تربوياً مستقلا. ولا يعني ذلك أن النظام المصغر يشكل وحدة مغلقة على ذاتها، فهو ليس رهينا لتأثير النظام الكبير أو الوسط الذي يوجد فيه فحسب، ولكنه وبالإضافة إلى ذلك كله يوظف هذا كله لخدمة احتياجاته وفعالياته.
عندما نحاول دراسة الأنظمة التربوية الكبرى والصغرى في ي دائرة علاقاتها بالوسط الاجتماعي يتوجب علينا بالضرورة أن نحدد العلاقات المتبادلة بين هذه الأنظمة. وهي غالبا أنظمة متباينة في مستوياتها وبناها ، كما هي متباينة في وظائفه ا
الصفحة54
وأهدافها، ولكنها تشترك في هدف واحد هو تربية الإنسان في إطار المجتمع الذي يعيش فيه. ومن الضرورة بمكان أن تتم دراسة العلاقة بين الأنظمة في ي مستويين
هما: المستوى العمودي التراتبي الذي يجسد علاقات التبعية في مستوى النظام. ويتمثل ذلك في النظام الإداري للتربية القومية الذي يمارس وظائفه في مجال التنظيم والمراقبة وتعزيز التوازن هذا من جهة. ثم المستوى الأفقي في مستوى المنظومات الصغرى وهو يعبر عن علاقات التفاعل بين النظام الصغير للمدرسة والعائلة والمؤسسات التربوية الخارجية، ويضاف إلى ذلك العلاقة مع المؤسسات السياسية الاجتماعية الاقتصادية في مستوى محيط المدرسة المحيط المحلي).
يلاحظ اليوم في مجال الدراسات الجارية، أن التركيز غالبا ما يكون حول النظام التعليمي التربوي وعلى القضايا التربوية، ثم يأتي الاهتمام بدراسة وظائف المنظومات التربوية الصغرى ولا سيما المدرسة. ويلاحظ في إطار هذه الدراسات أن العلاقات القائمة بين المنظومات الصغرى والنظم الكبرى قلما خضعت للدراسة بشكل واسع وكما يجب من خلال الرؤية النظمية التي تتناول النظام ككل متكامل.
ويعود ذلك إلى وجود صعوبات تتعلق بالتناقضات الحادة القائمة بين النظامين. وبالتالي فان الوصف الموجود للعلاقات القائمة بين النظامين يتميز بالمحدودية والقصور. ويغلب على هذا الوصف الطابع النظري الذي يعالج المسألة في عمومياتها والذي يعتمد جزئياً على معطيات الأبحاث الميدانية الجارية
لقد شكلت مسألة تأثير بعض العوامل على فعالية المدرسة وقدراتها مجالا للدراسة النظمية التي يشرف عليها معهد الأبحاث التربوية في فارس وفي Varsovie. حيث أتاحت الدراسات التي أجريت في إطار العام الدراسي 1974 - 1975 حول أربعة مدارس ابتدائية تجريبية الحصول على معلومات ومعطيات تسمح بالإجابة على السؤال
الأساسي وهو ما العوامل التي تؤثر في فعالية المدرسة وعلى صيرورتها الوظيفية؟ ولم تقف هذه الدراسات عند حدود الكشف عن العوامل الهامة أو تصنيفها وإنما أتاحت تحديد الأسباب التي أدت إلى ظهورها والنتائج التي تركتها على المدرسة.
الصفحة55
لقد بينت هذه الأبحاث على المستوى الميداني أن العوامل المؤثرة على فعالية المدرسة تنتظم في ثلاثة مجموعات عوامل تعود إلى النظام العام للتعليم، وعوامل تعود إلى المنظومة التربوية الصغرى للمدرسة، والعوامل التي تعود في أصولها إلى البيئة.
تشتمل المجموعة الأولى من العوامل على الأوامر والتعليمات والتوجهات الرسمية وغير الرسمية التي توجد بين المدرسة والإدارة التربوية في مستوى الوزارة، والهدف من ذلك هو تنظيم وإدارة وتطوير العملية التربوية هذا من جهة، وإعداد الهيئة التعليمية بشكل متواصل من جهة أخرى مع الأخذ بعين الاعتبار أيضا أهمية تكوين الحوافز التربوية عند هؤلاء الذين يعلمون في قطاع التعليم).
وتتضمن المجموعة الثانية، العوامل التي تمارس تأثيرها على فعالية المدرسة وتتمثل بالدرجة الأولى في العلاقات التربوية التي تهدف إلى تحقيق التواصل والتكامل بين النشاطات التربوية للمدرسة وبين الآباء والمؤسسات والمنظمات القائمة في إطار الوسط المدرسي.
وتغطي المجموعة الثالثة، العوامل التي تحدد نمط وأسلوب العمل في إطار المدرسة. وهي عوامل تدخل في مجال علاقات ونظام العمل في وسط المدرسة كما في مدى تطور معارف التلاميذ. ويضاف إلى ذلك كله أن هذه العوامل تتضمن معرفة العاملين في المدرسة والتلاميذ وأهداف عملهم واتجاهاته. وبالتالي فان الشروط المادية تشكل جزءا من هذه المجموعة من العوامل.
لقد أوضحت الدراسات الجارية أن هذه العوامل موجودة على العموم في ي جميع أنماط الأنظمة التربوية المصغرة، وهي العوامل المؤثرة في فعالية المدرسة. ومع ذلك فان التحليل الدقيق يبين أن هذه العوامل تمارس تأثيرها بدرجات مختلفة ومتفاوتة بين عناصر المنظومات التربوية.
الصفحة56
ويمكن لموقف إدارة التعليم من النشاط التجريبي للمدرسة أن يقدم مثالا لتنوعات العوامل المدرسية، حيث يلاحظ أن موقف هذه الإدارة يقوم على تشجيع المبادرات التربوية في المدرسة، وعلى تقدير عمل المعلمين والتلاميذ، ثم تقديم المساعدات للمدرسة. وهي كما تبدو تقدم سلسلة من العوامل المحرضة لفعالية المدرسة. وعلى خلاف ذلك فان جهل الغايات والأهداف الخاصة بتجربة المدرسة والتقدير الأحادي الجانب دون الأخذ بعين الاعتبار أهمية الفعالية المدرسية يمثل نسق العمليات الكابحة للفعالية المدرسية. ويمثل التعاون بين المدرسة والأهالي نموذجا آخر لعملية التأثير المدرسي. فالنشاطات التربوية المتكاملة فيما بينها (والمتفاعلة تغني العمل المدرسي وتزيد من فعالية المدرسة، وهي تشكل عامل تحريض للعملية التربوية أيضا.
وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه النشاطات غير متكاملة وغير متوافقة مع الأهداف والإدارة فان ذلك لن يساعد في الوصول إلى الأهداف المنشودة وسيكون هـ ذا فعلا كابحا لنشاط المدرسة وفعاليتها. وتطرح مسألة دينامية هذه العوامل المؤثرة في فعالية المدرسة إشكالية تتمثل في القدرة على تنظيم هذه العوامل وتوجيهها. وبالتالي فان تعزيز العوامل المنشطة، وأبعاد العوامل المثبطة مرهون إلى حد كبير بـ التغيرات الجارية التي تؤثر في تكوين النظام وبنيته.
وبالنتيجة فان تحريض النظام المدرسي نحو الفعالية المنشودة، ولا سيما فيما يتعلق بعناصره وبنيته وطرق عمله، أمر مرهون بالحصول على معرفة عميقة حول المنظومة التربوية الصغرى للمدرسة وعناصرها وبنيتها وطرق عملها. ومن الضرورة بمكان معرفة العوامل المختلفة المؤثرة على فعالية المدرسة وهي توجد دائما في السياق العام للنظام التربوي المصغر.
الصفحة57
نموذج للتحليل النظمي في مجال المؤسسة المدرسية (30).
المدرسة نظام، ووظيفتها لا تكمن في نقل المعارف الموجودة في بطون الكتب فحسب، وإنما في عملية دمج هذه المعارف في أوساط المعنيين بها، وذلك من خلال مشاركة التلاميذ ومساهمتهم في العملية التربوية. إن النظام لا يكتفي في عملية استمراره بما يأخذه من العالم الخارجي فحسب، وإنما يسعى إلى تجسيد هـ ذه الاستمرارية من خلال خصوصيته الدينامية أيضا. وذلك هو حال المدرسة عن دما يشارك التلاميذ في إدارتها الذاتية، ويتعلمون فيها الاستجابة والتكامل على نحو فوري مع الصعوبات والمشكلات التي تواجههم.
إن تحليل النظم يقدم إمكانية إدراك كلية للظواهر المدروسة تتجاوز منهجية التحليل الجزئي المتعاقب عبر الزمن ويحتويها في الآن الواحد. إنه يسمح بإدراك الأشياء في ديناميتها الخاصة، وفي تفاعلاتها الداخلية إدراكا يتسم بالشمولية والعمق والكلية. ي
فبنية المدرسة بنية هرمية تأخذ المعرفة فيها خطا نازلا ، مصدره المعلم وغايته
التلميذ. وهي بذلك تشكل أداة لنقل المعرفة الأحادية الاتجاه في تسلسلها وفي تعاقبها، وهي أحادية الاتجاه إذ لا وجود فيها لعملية التغذية الراجعة السلبية الت تتمثل بمشاركة الطلاب وذويهم في وظيفة المدرسة، وفي تنظيمها، وفي تحديد غايات وأهداف التربية والمناهج التربوية. ي
إن إعداد مدرسة اليوم وتطويرها ، يجب أن ينطلق من عملية التفاعل والتكامل بين التلاميذ والمعلمين في إطار المشروع التربوي الواحد، وذل ك كبديل للمناهج
الهوامش :
30 تم التركيز في هذا الجانب على تصورات المفكر الفرنسي جويل دوروسني في مجال تحليل النظام المدرسي ويمكن مراجعة المقابلة التي أجريت معه بالفرنسية وهي: Joel de Rosnay
L'approche systématique appliquée à l'institution scolaire, in Alain Beaudot, Sociologie de l'école : pour l'analyse des institutions scolaires, Dunod, Paris, 1981, PP 137-165.
الصفحة58
التربوية الحالية التي تنطلق من مبدأ تغذية التلاميذ وحشوهم بالمعلومات والمعارف الممضوغة بشكل مسبق.
إن منهج تحليل النظم يقدم معالجة لجملة من الظواهر في آن واحد: إنه لا يهم ل دراسة جوانب العملية التربوية جميعها عندما يتناول المدرسة بالدراسة والتحليل. وإذا كانت بعض المدارس تتمتع باستقلالية نسبية، فإن ذلك يعود في أغلب الأحيان إلى مبادرات شخصية وليس إلى البنية الذاتية للمدرسة، ولتأكيد ذلك لا بد من تحليل المخطط العام لدورة الاتصالات بالإضافة إلى تحليل البنية الذاتية للمدرسة من أجل معرفة القانون الناظم للعلاقة بين بنية المدرسة ودرجة انفتاحها عن العالم الخارجي.
كما يجب أن نقوم بدراسة نقاط التوزع والامتداد داخل النظام المدرسي أشخاص وجماعات) والتي تسمح لنا بمعرفة درجة التكامل بين هذه المحاور، ووسائل التأثير التي يمكن استخدامها من أجل تحريض النظام وحث له على ى التطور في الاتجاه المطلوب.
إن الأهمية التي نعول عليها ليست في تحليل ودراسة العملية التربوية ذاتها، وإنما تكمن في دراسة وتحليل المؤسسة المدرسية كنظام يأخذ صورة مكان الاجتماع الناس ومكانا لإعدادهم في الآن الواحد. فنحن لا نذهب إلى المدرسة من أجل التعلم فحسب،
وإنما من أجل أن نتعلم ونوجه حياتنا وننظمها وفقا لما نتعلمه.
ومن المناسب هنا أن نعود إلى وظيفة المدرسة، إن الخطوة الأولى للاتجاه النظمي تكمن في تحديد النظام المراد دراسته في إطار الزمان والمكان، وفي تحديد الوظيفة التي يقوم بها. ومن مزايا هذا المنهج أنه يتيح لنا الكشف عن طبيعة العلاقة القائمة بين النظام المراد دراسته والأنظمة الأخرى التي تتميز بدرجة عالية من التعقيد. أما فيما يتعلق بالمحاذير الممكنة فإنها تكمن في الأحكام المعيارية : الأحكام التي تحدد ما يجب أن يكون، وما يجب أن يوجد داخل النظام. ومنذ اللحظة التي تظهر فيها هذه الأحكام يتجلى الموقف الأيديولوجي أو الموقف الفلسفي في إطار الاتجاه المنظم، ولذلك فإنه يجب علينا منذ البداية أن ندرك مخاطر وامتيازات اتجاه التحليل المنظم.
الصفحة59
إن الوظيفة التي تقوم بها المدرسة تعتبر نقطة الانطلاق في التحليل، م ا الذي تقدمه المدرسة؟ إن المدرسة نظام يشتمل على جملة من المعارف التي تسعى لنقله 1
وتحويلها، كما أنها تشتمل على الوسائل والإمكانيات التي تضمن لها مثل هذا التحويل إلى التلاميذ : الوسائل التربوية، والمعلمون، والمشاركون من التلاميذ وذويهم . ومن المؤسف له اليوم أن المدرسة تقوم بنوع من الخدمات العامة فحسب، إذ تنحصر مهمتها في مجرد نقل المعارف الجامدة لما هو موجود في بطون الكتب وفي أحشائها .
إن إحدى السمات الإيجابية للمنحنى النظمي، تتجلى في سعيه لاس تجواب الفكر المبدع في نفس الوقت الذي يقوم فيه باستجواب الفكر العارف. إن الفكر العارف هو وليد منهج تحليلي إذ يقوم بتحليل الظواهر الطبيعية، أما الفكر المبدع هو الذي ينقل بالظاهرة المدروسة من مستوى التحليل إلى مستوى وضعها في السياق العام لوجودها الذي يتصف بدرجة عليا من العمومية.
يجب على المدرسة أن تمثل نظاما لا يكتفي بمجرد نقل المعلومات وتحويلها، وإنما إلى تحقيق التفاعل والتكامل بين هذه المعرفة والوسط الذي يعيش فيه التلاميذ، حيث تتاح لهم فرصة تملك الوعي الأفضل لمدى تأثير أفعالهم في الوسط الذي يعيشون فيه. وهذا يعني العمل على بناء المدرسة التي ترتبط بالواقع ارتباطا عميقا وحيويا، بناء المدرسة التي ترتبط بطبيعة الحياة في الريف كما في المدينة، وذلك بدلا من دفع أطفالنا إلى الحياة العلمية قائلين لهم : اغربوا عن وجوهنا، فها أنتم قد تعلمتم بعض الأشياء المفيدة.
لتحديد وظيفة المدرسة لا بد من الإجابة على الأسئلة التالي: ما المدرسة؟ ما الذي تقدمه؟ وماذا يعني ذلك؟ إذا كانت المدرسة نظاما، فإنها لا يمكن أن تكون مكان ما اغلب لجدران أربعة، يأتيه التلاميذ لنسيان ما تعلموه في الخارج كما يحدث في الأحيان. ي
الصفحة60
تثوير المدرسة من وجهة نظر نظمية
إن بنية المدرسة القديمة - البنية الهرمية والمعلومات الهابطة الخطية - بنية قابلة للتثوير وبالتالي فإن تحطيم حلقاتها الأساسية، يمكن أن يتم بتحقيق التفاعل والتكامل بين المعلمين والتلاميذ والأهالي، وذلك من خلال مشاركة كل منهم، ومساهمتهم في بناء العملية التربوية.
إن المؤسسات التربوية التي تتصف بالجمود والتسلط إزاء التغير تتسم أيضا بدرجة عالية من التجانس، وهنا تكمن المأساة. إن هذه الأنظمة لا تتغير ولا تتطور إلا إذا أكرهت على ذلك من الخارج، ومن حسن الحظ أنها تتمتع بسمة التوازن الذاتي، ولو لم تكن كذلك، لكان التغير الدائم حالها وحال المناهج، ولكان تعليم أي شيء ممكن وبدون تحديد.
ی ومن أجل أن يكون النظام نظاما لا بد من وجود نوع من الاستقلال الذاتي، والاستمرارية الذاتية، والتكامل الذاتي، وحين يكون الأمر كذلك، فإنه يجب على المسؤولين عن إعداد الخطط التربوية في المستوى الوزاري أن يعرفوا كيف يؤثرون في مكونات النظام التربوي من أجل تجديده وتطويره في الاتجاه المطلوب. وهنا يبرز دور المنحى النظمي الذي يمكننا أن نعرف آليات التأثير في المناطق الحيوية والهامة في داخل النظام بهدف إخراجه من دائرة الجمود والتسلط، ومن أجل دفعه نحو التطور المنشود.
إننا حين نسعى إلى إحداث التغيير في نظامنا التربوي فإننا سوف نواجه بـ الوقع الاجتماعي التالي وهو: إن التلاميذ يتعلمون في المدرسة من أجل اجتياز امتحان اتهم وبهدف الحصول على الشهادة الدراسية، وبالتالي فإن 80% من الآباء ينظرون إلى المدرسة على أنها جهاز يمنح بطاقات دخول إلى الحياة الاجتماعية. إن المؤهل ی العلمي بالنسبة لهم مجرد وسيلة لرفع مستوى الدخل المادي من أجل الحصول على عقد عمل للحياة الاجتماعية. ومن أجل ذلك لا بد من تحقيق بعض الأمور مثل: الالتحاق بالمدرسة، أو الحصول على الشهادة الثانوية، أو الجامعية، وهذا كله يشكل
الصفحة61
بطاقة للدخول إلى الحياة الاجتماعية. ويترتب على هذا أن المدرسة تتحول إلى مجرد وسيط تتمثل فعاليتها في عملية خطية أحادية الاتجاه قوامها الـ دخول من طرف والخروج من طرف الآخر، وهذا يدفع المدرسة إلى حالة من الجمود والعدمية.
وعلى النقيض من ذلك كله فإن الهدف الرئيسي للمدرسة يجب أن يكون في التوجه نحو بناء الشخصية الإنسانية، وتأكيد الثقة بالذات وبالتالي مساعدة الفرد في معرفة ما يريد أن يكون عليه في حياته، وكيف يمكن أن يكون مفيدا في ي المجتمع، ( وذلك بواسطة اكتسابه لمهنة جيدة ومفيدة . وهذا سوف يكون له دور كبير في توجه الناس إلى أنفسهم وذواتهم.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى وجود قانون عام ليس خاصا بالمدرسة وحدها كنظام وإنما يتعلق بالأنظمة الأخرى كافة. يشير هذا القانون إلى أن النظام المغلق على نفسه هو نظام يحافظ على استمراريته ووجوده بالاستناد إلى مبدأ التصلب، وعلى العكس فإن النظام الحر يحافظ على وجوده واستمراريته بالاستناد إلى مبدأ المرونة والتجديد الدائم وذلك عبر انفتاحه على العالم الخارجي. إن الخلية الحياة تحافظ على وجودها من خلال الاتصال الدائم بالمحيط الخارجي، ولكن قطعة الزجاج تحافظ على وجودها لكونها صلبة، وحينما ترتفع درجة الحرارة، فإنها تتعرض للانصهار والذوبان أو للانفجار. وهذا يشير بوضوح إلى وجود علاقة قوية بين بنية النظام ومدى انفتاحه وصلته بالعالم الخارجي، وهنا ولا بد من تحليل دورة الاتصالات ومخططها من أجل معرفة طبيعة العلاقة بين البنية والمحيط.
عندما نقوم بتحليل بنية النظام تتجلى ضرورة تحديد النقاط الحساسة والمحورية في داخله الأشخاص والجماعات، ووسائل التأثير، والمناهج. وهذه النقاط تشكل المحاور الأساسية التي يمكن لنا التأثير فيها دون هدر في طاقة النظام. إن ما يجب عمله هذا أشبه ما يكون بعملية التأبير الاجتماعي والتي تتم بوخز عدة مناطق من جسم النظام، وذلك في آن واحد، من أجل إثارته وإخراجه من دائرة التصلب والجم ود. وهكذا فإنه بدلا من أن نقوم بإجراء إصلاح ما في بنية النظام، فمن الأفضل أن نقوم
الصفحة61
بتحديد مراكز التأثير من أجل إحداث تغيير كامل تدريجياً أو على دفعة واحدة، وذلك بالتأثير في نقاط الحساسية من أجل دفع النظام في الاتجاه المرغوب.
إن تحليل النظام، وتحديد مخطط الاتصالات يساعد في الكشف عن نقاط ومراكز التأثير، وبالتالي لا بد لنا من دراسة البنية الهرمية للاتصالات وليس بنية النظام نفسه فحسب المدير المراقب العام المشرف، الإدارة، وهيئة المدرسين. وفي هذا الإطار سوف نجد على سبيل المثال أن بعض الإداريين وبعض المعلمين يحتلون مراكز الأهمية، وأن جماعة صغيرة هي التي تحتكر مجال الاتصال وبالتالي فإنه يجب علينا أن نسلط الضوء على هذه المسألة.
أما فيما يتعلق بالإدراة، يجب علينا أن نعرف من الذي يتولى مقاليدها؟ هل ه م المعلمون أنفسهم؟ وما العلاقات القائمة بينهم وبين ذوي التلاميذ ؟ إن هذا المخطط الذي نسعى إلى إعداده، سوف يتجلى على شكل صورة بيانية عنقودية الشكل تتوازن فيها الفروع ويأخذ كل شيء مكانه وفقا للأهمية التي يمثلها، ومن أجل إعداد ذلك يمكن العثور على عدة مناهج وطرق تعتمد في تحليل النظام، ودراسة لمخطط الاتصالات ودراسة لمبدأ التغذية الراجعة، ومحاور التوزع والامتداد.
وعندما يتم ذلك كله نكون قد بدأنا فعلا في تحديد النقاط المؤثرة فعلا في ي النظام. ومن مثل هذه النقاط يشار إلى اجتماعات المدرسين في الأوقات المحددة في غضون العام الدراسي، والاجتماعات التي يقوم بها الموجهون التربويون، والاختصاص يون لإعادة النظر في طبيعة المناهج، واللقاءات التي تتم مع ذوي التلاميذ، والتي تجري في إطار زماني ومكاني محدد، كل ذلك يشكل جملة من نقاط التأثير التي يمكن الاعتماد عليها في تحريض النظام التربوي على التغير وعلى التوجه في المسار المرغوب.
في هذه المرحلة يقتضي الأمر تحديد استراتيجية توازن المعايير، وهذا يعني ثم تحديد بعض الجوانب الهامة التي يجب أن تنفذ ثم تحديد الأوضاع والقضايا التي يجب أن يعاد النظر فيه وهذه التي يجب أن تهمل. وبعد هذا التحديد تأتي محاولة التأثير التدريجي في هذه العناصر الهامة الذي من شأنه دفع النظام إلى الحركة في ي الاتجاه
الصفحة63
المطلوب، وهكذا فإن الاتجاه المنظم في التحليل يساعد في إبراز النقاط والمحاور الأساسية التي يمكن التأثير عليها من أجل إخراج النظام من دائرة التصلب والجمود.
إن نموذج المدرسة هو النموذج الذي يتم فيه إكراه الناس على القيام بأشياء كانوا يرفضونها في البداية، إن الجيش والمدرسة والكنيسة والعائلة جميعها أنظمة ذات بنية هرمية، في أعلى الهرم يوجد الأب أو الكاهن والمعلم، ورب العمل، ورئيس الدولة. إن المؤسسات المدرسية الحالية تجد صورتها في النموذج الكنسي الذي يستند في تبرير بنيتها الهرمية على أساس من الحق الإلهي، فالمؤسسة المدرسية حالها كحال المؤسسة الاقتصادية، تنطلق من المبدأ الذي يرى بأن التلاميذ ليسوا موضع ثقة، وأنهم كسالى لا يريدون العمل، ولذلك يجب إكراههم على العمل وعلى النشاط. ومثل هذا التصور يدعو إلى الأسف، وعلى الرغم من ذلك فإنه لمن الممكن لنا اليوم أن نجد أنظمة على درجة من الفعالية لأنها لا تستند إلى مبدأ الإكراه، وإنما إلى مبدأ الحرية والإدارة الذاتية.
المستشفى على سبيل المثال يشكل نموذجا للأنظمة الهرمية، إذ يقوم الأطباء القدامي بتولي مقاليد الإدارة، مع أن ذلك يستوجب وجود إداريين متخصصين في الإدارة وليس في مجال الطب، وهناك الكثرة الكاسرة من المؤسسات الاجتماعية المبنية وفقا لـ ذلك المبدأ الهرمي والتسلط، إن هذه الأنظمة يجب أن تكون أنظمة بيضوية البنية والتكوين، كما يجب للعلاقات القائمة فيها أن تأخذ شكلا أفقياً لا هرميا، ذلك هـ و الشيء الذي لا يجب علينا أن نتوقف عن تكراره والنداء إليه في كل مناسبة. وهذا يعني أنه علينا أن ننتقل بهذه الأنظمة من بنيتها الهرمية إلى بنية أفقية وشبكية، حيث يوجد في كل عقدة من هذه الشبكة مسؤول عن حركة الاتصال. إن المدرسة من تنفجر من الداخل إذا بقيت على هذه الحالة، وإذا لم تنتقل إلى حالة البنية البيض وية أو الشبكية، سوف تنفجر لأن التلاميذ سوف يقومون بتفجيرها من الداخل وسوف يقومون بإحراقها كما يقول مارشال ماك لوهان
الصفحة64
الفصل الثالث: السلطة المدرسية
في مفهوم السلطة
السلطة المدرسية
تعني السلطة في صيغتها الأدبية القدرة على التأثير والإخضاع، وبمقتضى هـذا أن يؤثر في طرف آخر ويخضعه بت أثير القوة التي يمتلكها. ويتأسس على ذلك أن السلطة هي الوضعية التي تتيح لشخص معين، أو هيئة اجتماعية محددة، أن تمتلك القوة لتسيير وتنظيم حياة الجماعة أو المجتمع بصورة غائية والسلطة غالبا ما تكون شرعية في نظر هؤلاء الذين يخضعون لها، وذلك لأنها في جوهره ا صيغة قوة مشروعة يمارسها شخص أو جماعة لضبط حياة الجماعة وتوجيهها.
يجب على المربي أن يحاكي التعريف فإن طرفا اجتماعياً ما، يستطيع مبضع الجراح وريشة الرسام في آن واحد
ومن هذا المنطلق، تأخذ السلطة في صورتها التربوية صيغة علاقات نفوذ قائمة بين أطراف العملية التربوية بين المعلمين والمتعلمين، بين الآباء والأبناء. فالسلطة تشكل لطة حجر الزاوية في العملية التربوية، إذ لا يوجد هناك أبدا فعل تربوي من غير س معترف بها من قبل الذين يخضعون للعملية التربوية. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن السلطة ضرورية وجوهرية للفعل التربوي وأنها تقع في صلب العملية التربوية.
فالسلطة كما أسلفنا توجد في أصل الفعل التربوي، ولذلك فإن الانتقاص من أهمية هذه السلطة يتناقض مع طبيعة الفعل التربوية، ويترتب أيضا على هـذا أن رفض السلطة التربوية يعد نفياً للعملية التربوية برمتها. وفي هذا السياق يمكن القول أن
الصفحة67
توافر السلطة التربوية المشروعة الهادفة والغائية يشكل ضرورة حيوية إيجابية للفعل التربوي أو للعملية التربوية برمتها.
يعلن الفيلسوف الألماني ويليام ليبنت ز Leibniz Wilhelm (11646-1716 ) : أن التربية كلية القدرة، لأنها تستطيع أن تجعل الدببة ترقص (31). وعلى الرغم من تباين الخلفيات الفكرية للمفكرين والمربين، فإنهم يقولون بأن الفعل التربوي يبلور صورة علاقة اجتماعية تقوم في جوهرها على مبدأ القوة والسلطة، وهذه العلاقة هي علاقة إكراه مهما أدخل على طبيعتها من تعديلات. ويتجلى هذا الإكراه في أن المربي يمتلك القدرة على تحديد الصورة النهائية التي من المفترض أن يظهر عليها سلوك الطفل عندما يصبح راشدا (32).
ی والسلطة في مستواها التربوي، كما هو الحال في مستواها السياسي، تق وم على منظومة من الأسس والمفاهيم والمبادئ والقيم والوسائل والممارسات الهادفة، الت تأخذ تسعى إلى تنظيم الحياة التربوية والاجتماعية وفقا لمنظومة من الغايات الت طابعا فلسفياً في صورتها الغائية. ي ي
اعدة تعني كلمة سلطة في أصلها الاشتقاقي في اللغة اللاتينية العمل على تحقيق نم و الكائن الإنساني، ويتضمن هذا المفهوم توظيف القوة التي يمتلكها أهل السلطة من أجل اكتساب المعلومات، وتقديمها للآخرين، وقيادتهم نحو نموذج مثالي، ثم مس المتعلمين على امتلاك الوعي، والتوجه في المسار الصحيح لحياتهم (33). ولكن وعلى خلاف هذا التصور الإيجابي، يأخذ هذا المفهوم طابعا سلبياً في الاستخدام الشائع، حيث
الهوامش :
31-Leibniz. Wilhelm, Philosophe allemand (Leipzig 1646 Hanovre 1716).
32- خالد عبد الرحيم، الإرهاب التربوي، تأصيل المصطلح، البعث الأس بوعي، عدد 8278، 1990/6/11
33-Robert Dautrence, La crise de l'éducation et ses malédictions, délirant et malsain. Suisse, 1971. pp. 23-30.
الصفحة68
يكون معنى التسلط هو الدلالة السائدة في مفهوم السلطة، والتسلط هـ و المعنى الذي يفرض نفسه في الوعي العام وفي الذهنية السائدة عندما نستخدم كلمة السلطة.
لمطة للسلطة مصدران كما يعتقد روبرت دوترن، إذ يمكن لها أن تكون إمكانية فطرية يمتلكها أحد الناس، كما يمكنها أن تكون مجرد قدرة مكتسبة اجتماعي ما عبر التعلم والمعرفة والنشاط (34). وبين المكتسب والفطري تأخذ السلطة المكتسبة قصب الأهمية، لأنها تعطي صاحبها حقوقا يمارسها على من يخضعون له، فسلطة المعلم س مكتسبة وليست فطرية، وما يقوم به المعلم على سبيل المثال، يتعلق بالواجبات الت خضع لها هو نفسه، وهي الواجبات التي تحتم على الآخرين احترامه وتقديره، وه و يستطيع أن يمارس سلطته عن طريق الإكراه أو وفقا للأساليب الديمقراطية والنصحوالإرشاد. ي
إن ممارسة السلطة بصورة طبيعية ومشروعة تتطلب من الذي يمارسها أن يمتلك الإحساس بالمسؤولية. وليس هناك ما هو أسوأ من الحالة التي يفقد فيها المربي سلطته، أو تلك التي لا يحسن فيها استخدام السلطة الممنوحة له. في المعلمون الذين فقدوا القدرة على ضبط صفوفهم وممارسته سلطتهم التربوية يذهبون ضحية الفوضى ويقعون في دوامة معاناة نفسية مؤلمة.
من أجل إعطاء فكرة واضحة عن بنية السلطة التربوية ، يقارن كوييو (Guyau) ي وهو أحد علماء النفس المعاصرين الفعل التربوي بفعل التنويم المغناطيسي؛ فف حالة التنويم المغناطيسي يكون المنوم المغناطيسي في حالة استثنائية من السلبية الوجدانية والانفعالية المفرطة، حيث يكون عقله ووعيه في حالة عطالة وجمود نسبيا، وتكون إرادته في حالة شلل كامل. وتأسيسا على هذه الحالة فإن الفكرة الطلوحي
الهوامش :
34- Robert Dautrence, La crise de l'éducation. ibid
الصفحة69
بها من قبل المنام لا تلقى أي اعتراض أو نقد وتأخذ مكانها دون مقاومة في عمق الحياة الباطنية واللاشعورية عند الفرد المئوم (35).
وينطلق إميل دورکهایم E. Durkheim من مقاربات غوييو لـ يعلن بـ أن الفعل التربوي يستوجب شرطين أساسيين يشكلان في الوقت نفسه جوهر السلطة التربوية وهما :
أولا: يكون التلميذ أثناء تعلمه في حالة قصوى من السلبية الانفعالية والعقلية، وهذه الحالة أشبه ما تكون بحالة المنوام مغناطيسيا، الذي يخضع لدرجة كبيرة من الإيحائية الناجمة عن سلبية الإمكانيات العقلية والوجدانية لديه والتلميذ يكون بصورة عامة ضعيف الإرادة، وتكون جعبته خالية من المعارف والخبرات، وهذه الوضعية الخوائية تجعله مؤهلا لقبول أي صورة أو فكرة تأتيه من المعلم المقتدر (36).
ثانيا: ومع ذلك فإن الفراغ الذهني لا يمكن أن يكون مطلقا، وهذا يعني أنه، يجب على الفكرة المراد إدخالها أن تكون مشحونة بطاقة إيحائية خاصة. وهذا يعني أيضا أنه يجب على المعلم أن يمتلك نفوذا وقدرة كبيرة تجعله قادرا على احتواء المقاومة المحتملة التي توجد عند المتعلمين. وبالتالي فإن هذه القدرة مستمدة من تفوق المعل معرفياً وذهنياً وعقلياً وجسدياً بالمقارنة مع المتعلم. ومن أجل ذلك يجب على المعل م م (المنوام) أن يلجأ إلى استخدام لهجة آمرة نافذة، يجب أن يقول : أنا أريد، وأن يبين بأن عدم الخضوع أمر غير مقبول، وأن الفعل يجب أن يتم، وأن الأشياء يجب أن تظهر كما يريد أن يظهرها هو نفسه، وأنها لا يمكن أن تكون إلا كما يحددها، وحين تب دو
الهوامش :
35- إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، الطبعة الخامسة، دار معد، دمشق،
91-851996، ص
36 heures Durheim, Éducation et sociologie, P.U.F., 1966., PP54-55.
الصفحة70
معالم الضعف على المنوام، فإن المنوام يميل إلى التردد وإلى المقاومة وأحيانا إلى رفض الخضوع (37).
ومثال ذلك في المستوى التربوي، أن المعلم عندما يدخل في مناقشة فهم و يمارس قوته ونفوذه من أجل مزيد من السيطرة، وكلما توجه الإيحاء إيحاء المعلم ) ضد الميل الطبيعي الرافض عند التلميذ المنوام)، فإن اللهجة الآمرة يجب أن تبلغ أشدها. ذلكما هما الشرطان اللذان يوجدان في إطار العلاقة بين المربي والطفل بين المعلم والمتعلم.
فالطفل في سياق العملية التربوية يكون في حالة بالغة السلبية، يمكن مقارنتها مع حالة المنوم المغناطيسي الذي يكون وعيه خالياً إلا من بعض التصورات التي يمكن لها أن تناضل ضد الأفكار الموحى بها، وبالتالي فإن إرادة الطفل تعاني من الشلل والقصور، وهي قابلة للإيحاء بدرجة كبيرة، وللسبب ذاته فإن الطفل مهيأ لعملية تقليد عفوية وشاملة. ويضاف إلى ذلك، المكانة العالية التي يحتلها المعلم، بالقياس إلى التلميذ، والتي تتمثل في تفوقه المعرفي والثقافي، الذي يعطي لفعله قدرة هائلة على النفاذ، من أجل تحقيق الفعل التربوي. ی
تبين لنا هذه المقارنة بين الحالتين بين حالة التنويم المغناطيسي وحالة التنويم التربوي، إلى أي حد يكون نفوذ المربي وتكون قدرته، فهو يستوحي قوة هائلة من الفعل الإيحائي. وإذا كان الفعل التربوي يشتمل، حقا، وفي أدنى حدوده ومستوياته هذه الفعالية المشابهة، فهو يسمح لنا أن نحقق أمورا كثيرة، وذلك بشرط وجود إمكانية الاستفادة من هذه العملية وتوظيفها بشكل جيد.
وتأسيسا على هذه الصورة يمكن القول بأن الفعل التربوي يمتلك قدرة شمولية وكلية، وبالتالي فإن هذه القدرة تؤثر بصورة مستديمة عبر الزمن حيث تشكل
الهوامش :
-37- انظر ايضا: مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، ترجمة محمد بشير النحاس، المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة التربية، تونس، 1986، ص 20-21.
الصفحة71
الإيحاءات المستمرة للفعل التربوي منطلق قدرته في تشكيل الإنسان والأفراد.
فالسلطة التربوية هي في هذا النسق طاقة تحفر مجراها بهدوء عبر الزمن، وهي طاقة وقدرة وقوة لا نستشعرها فهي أشبه بالضغط الجوي الذي يحيط بنا ولا نشعر بوجوده إلا في حالات استثنائية من الخلل.
عندما يدرك الآباء والمعلمون أن كل شيء يمر أمام الأطفال، يترك أثرا في نفوسهم، وأن بنية الطفل النفسية وشخصيته مرهونتان بآلاف الأحداث الصغيرة الت ي ي تمر دون أن نشعر بها، وهي أحداث قلما نعيرها أي اهتمام، بسبب تفاهتها الظاهرية، فإن هؤلاء الآباء سيدركون الأهمية الكبرى لسلوكهم مع أبنائهم وس يأخذون بعين الاعتبار والأهمية مستوى اللغة التي يخاطبونهم بها، إذ لا يمكن للتربية بالتأكيد أن تعطي نتائج هامة عن طريق إجراءات سريعة فجائية ومتقطعة. فالأحداث الجارية مهما بلغ شأنها تشكل نوعا من إيحاءات كلية القدرة ، ويمكنها بالتالي أن تعبر بمصداقية حقيقة عن سلطة التربية وبنية القوة في الفعل التربوي.
يقول دوركهايم منوها إلى أهمية السلطة في بنية الفعل التربوي إن الإنسان الذي يجب على التربية أن تحققه فينا ليس هو الإنسان على نحو ما أودعته الطبيعة وإنما الإنسان على نحو ما يريده المجتمع (38). ويعرف دوركهايم التربية مؤكدا على بنية ي السلطة في الفعل التربوي بقوله: "إنها التأثير الذي تمارسه الأجيال الراش دة في الأجيال التي لم ترشد بعد وتكمن وظيفتها في إزاحة الجانب البيولوجي من نفسية الطفل لصالح نماذج من السلوك الاجتماعي المنظم (39). وفي هذا القول تبرز أهمية القسر الاجتماعي والتربوي في العملية التربوية، فالإنسان لا يكون بإرادته وفطرته بل
الهوامش :
38- إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، الطبعة الخامسة، دار معد، دمشق
1996، 131 ص
39 ريناتا غوروفا، مقدمة في علم الاجتماع التربوي، ترجمة نزار عيون السود، دار دمشق
105 دمشق 1984، ص
الصفحة72
على نحو ما يريده المجتمع، وهذه الكينونة الاجتماعية تتحقق من خلال تأثير الفعل التربوي الذي يتميز بقدرة كلية.
ويمكننا في هذا السياق أن نقدم رؤية جديدة للسلطة التربوية والفعل الترب وي قد تضاهي في مستوياتها السيكولوجية الصورة الاجتماعية عند دوركهايم وتمثل هذه الرؤية في نظرية أدلر حول بنية السلطة ومقومات وجودها السيكولوجية.
ينطلق آدلر ( Alfred Adler (4) في توصيف بنية السلطة التربوية من مدخل أو مركب الإحساس بالنقص Complexe d'inferiorité، الذي جعله المدخل الأساسي لتحليل بنية السلطة بصورة عامة وبنية السلطة التربوية على نحو خاص.
يقع الطفل، وفقا لتصور آدلر، فريسة منازعة بين إحساسين متكاملين بالنتيجة هما : إحساسه الشامل بالضعف من جهة، ورغبته في أن يكون قوياً من جهة أخرى. ولكن ي في واقع الأمر يشعر بضعفه الشامل في مستويات وجوده المختلفة، ولا سيما في المستوى البيولوجي بداية، حيث يثقل عليه قلق قامته القصيرة وصغر حجمه ووزنه. والكبار يعززون إحساس الطفل بهذا القصور والضعف ولا سيما عندما يخاطبونه قائلين له عندما لا يستطيع أن يؤدي عملا ما، تستطيع أن تفعل ذل ك عن دما تصبح كبيرا.
ويتكامل الضعف الجسدي للطفل مع مظاهر الضعف النفس ي والوجداني، وه و ضعف يشعر به أيضا، ويشكل هذا الضعف بمستوياته المختلفة منطلق ما يسمى علمياً بـ مركب النقص الذي يتضمن جوانب متعددة من الضعف والقصور الت ي يعانيها الطفل. ويشكل في النهاية هذا الشعور المرير بالضعف والقصور منطلق إعجاب مفرط بقوة الكبار وسلطتهم. وغني عن البيان أيضا أن الطفل يدرك مدى قصوره المعرفي ويعرف بأنه جاهل وأن التجربة تنقصه. والحق يقال إنه يشعر دائما بدرجة ضعف
الهوامش :
40- Alfred Adler, médecin et psychologue (Vienne 1870 Aberdeen)
1937 Freud épouse DS en 1902, se sépare rapidement en 1910.
الصفحة73
وقصور عالية في هذا المستوى، وهو في الوقت الذي يستطيع فيه أن يكتسب بعض المعلومات فإنه يعتقد دائما بأنه سيد الموقف، وذلك يعني على حد تعبير مان دوس Mandousse أنه يصبح عاقلا قبل أن يبلغ الرشد.
تتعدد أنماط الاستجابة إزاء عقدة الإحساس بالدونية والنقص، وتأخذ بأغل به ذه الاستجابات صيغة استسلام ويمكن لنا أن نذكر خمس استجابات للإحساس بـ النقص هي : الاستسلام، والتقليد، والاعتراض، والتعويض، وإفراط التعويض.
تبين المقارنة أن هناك تجانسا بين رؤية آدلر Adler ورؤية دوركهايم من حيث الجوهر فكلاهما يركز على مبدأ إحساس الطفل أو المتعلم بالسلبية والدونية. وكلاهما يقارن بين القوة التي يمتلكها المعلمون والضعف الذي يستشعره الطفل أو الم تعلم في عملية بناء السلطة التربوية وتشكلها.
يرى جورج ماكو Georges Mauco مدير مركز علم النفس التربوي لكل ود بيرنارد Claud Bernard، الذي قام بتحليل شخصية عدد كبير من المربيين، أن المظاهر الخارجية للمربين لا تعبر عن جوهر شخصيتهم فيما يتعلق بن زعتهم إلى ممارسة السلطة، فالسلطة تكمن في القوى الداخلية لشخصية المربي أي في المستوى العاطفي والانفعالي، وهنا تكمن الأسس المشروعة لممارسة السلطة. ومن هذا المنظور فإن ضعف سلطة المربين حالة شائعة أكثر مما نعتقد، وذلك لأن ضعف الإنسان يتخفى دائما داخل مظاهر خادعة (41).
ي وتتجلى هذه الأشكال الخفية لضعف السلطة في تزايد درجة العنف التي تتجسد في انفجارات الغضب، ويعود ذلك إلى تربية سيئة تلقاها المربون أنفسهم وأدت بهم إلى مشاعر النقص والدونية والشعور بالذنب في مرحلة مبكرة من أعمارهم، وهـ ذه
الهوامش :
41- T.G. Moko, L’importance de l’autorité des enseignants, Child Forum, numéro 69, L’autorité des enseignants dans la famille et à l’école, Child Forum, février 1970.
الصفحة74
المشاعر تعمل مجتمعة على إضعاف سلطة المربي وإلى فقدانه للصبر وابتعاده عن التسامح.
لقد استشعر هيربارت (42) (Herbart 141-1776 هـ ذه الطاقة الكلية للفعل التربوي وأدرك في الوقت نفسه أن الفعل التربوي يحفر مجراه في الوجود الإنساني كالماء الذي يفعل في الصخر. فالسلطة ليست في هذه الاندفاعات الجارفة، إذ ليس بالتوبيخ واستخدام العنف تتم تربية الطفل، وكلما ابتعدنا أكثر فأكثر عن ذلك، استطعنا أن نؤثر فيه بدرجة أكبر، وعندما تنطلق التربية على أساس من التروي والصبر والاستمرار، بعيدا عن تسجيل النتائج الفورية الظاهرية، وعندما تنطلق أيضا من مبدأ الاستمرارية وتسعى نحو هدف محدد، من غير أن تترك للأحداث والظروف الخارجية مجالا كبيرا للتأثير خارج إطارها المحدد، فهي تسيطر على الوسائل الضرورية كافة من أجل التأثير بعمق في النفوس. وهنا يمكن لنا أن ندرك القوة الأساسية للفعل التربوي، وهي القوة التي تتجانس مع فعل القوة المغناطيسية وتأثيرها في العقول، هي القوة التي تستحوذ على الظروف المحيطة وتوظفها في خدمة الحياة التربوية.
ومن خلال المقارنة التي أجريناها سابقا، يمكن القول بأن التربية يجب أن تكون بالضرورة، شيئا ذا طبيعة سلطوية ولا سيما عندما نأخذ التصور الدوركهايمي للتربية والفعل التربوي (43). فالتربية وفقا لهذا التصور تسعى إلى أن تخلق في الفرد الذي يولد، كائنا جديدا اجتماعيا، حيث يجب عليها أن تجعلنا نتجاوز حدود طبيعتنا الفطرية. ذلك هو الشرط الأساسي الذي يسمح للطفل أن يغدو راشدا ، ونحن في هذا السياق لا نستطيع أن نتجاوز أنفسنا إلا من خلال بعض الجهود التي قد تكون شاقة بدرجة كبيرة أو صغيرة.
الهوامش :
42-Herbert (Johann Friedrich) : Philosophe et éducateur Allmand (Oldenburg)
1776 Göttingen 1841.)
-43 إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، مرجع سابق، ص 88.
الصفحة75
ومن صلب هذا التصور الدوركهايمي يوجه النقد إلى تصور ما ونتين (44) 1533-1592) لمفهوم السلطة وقوامه أن الفرد يمكن له أن يتش كل( Montaigne( ي من خلال اللعب دون عناء ، وبحكم ما تقتضيه جاذبية اللذة والسعادة، وإذا لم يكن في الحياة حقا ما هو قائم وكئيب، فإنه لمن الجرم أن نجعلها كذلك أمام أعين الأطفال، فالحياة رغم كل شيء في غاية الجدة والخطورة، وبالتالي فإن التربية التي تعد للحياة، يجب أن تسهم في إحياء هذه الجناية، إذ يجب على الطفل من أجل أن يتعلم السيطرة على نزعاته الأنانية، أن يخضع نفسه لغايات نبيلة، وأن يجعل من إرادته اليد العليا، وأن يسيطر على رغباته في مجال الحدود المطلوبة، كما يجب عليه أن يمارس على نفسه إكراها، وأن يتملكها في ضوء الجهود المطلوبة. ی
فنحن لسنا مكرهين على القيام بشيء أو على استخدام العنف إلا في حالتين: عندما يتعرض الطفل لضرورة فيزيائية، أو عندما يتوجب ذلك علينا أخلاقيا؛ ولكن الطفل لا يستطيع أن يشعر بالضرورة الفيزيائية، وذلك لأنه لم يوجد بعد في حالة احتكاك مباشر مع حقائق الحياة التي تجعل اكتساب هذا الموقف ضروريا، وإذا كان لم يبدأ معركته الحياتية بعد، فإنه يجب علينا أن لا نتركه يتعرض لردود فعل قاسية تجاه الأشياء، إذ يجب علينا أن نعناه للحياة أولا، وأن نجعله يمتلك تجربة تربوية جيدة، قبل أن يخوض غمار تجربته الخاصة، ولا يمكن لنا بأية حال، أن نركن إلى إكراه الأشياء نفسها، من أجل أن نجعل إرادة الطفل مرنة، وأن نجعله قادرا على تملك نفسه بالدرجة المطلوبة.
أما فيما يتعلق بمبدأ الإحساس بالواجب فإن هذا المبدأ هـ و أمر واحد بالنسبة للراشدين، كما هو الحال بالنسبة للأطفال، وهو الحافز الأساس للنشاط والجهد ي والإحساس الذي يفترضه الحب الخاص، ومن أجل أن يكون الطفل مدركا وواعيا، كما يجب، لمبدأ الواجبات والحقوق، يجب عليه أن يعي كرامته وبالنتيجة واجبه، لكن الطفل لا يستطيع أن يعرف واجباته إلا بمساعدة معلميه وذويه، وهو يستطيع أن يدرك ذلك من خلال سلوكهم ولغتهم، وهذا يعني أنه يجب عليهم أن يجعلوا من الواجب أمرا
الهوامش :
44-Michel Eycke Montaigne, ecclésiologue français (1533-1592).
الصفحة76
مجسدا وحيا في إطار سلوكهم . فالسلطة الأخلاقية تمثل السمة الأساسية للمربي، وأن هذه السلطة التي يملكها تجسد مبدأ الواجب، وما يقوم به المربي لا يتعدى اللهجة الآمرة التي يتكلمها ويوجهها ويفرضه على ى الإرادات الت ي يخضعها له. وبالنتيجة فإنه لمن الضرورة بمكان أن يتجلى هذا الانطباع الأخلاقي في : شخص المعلم.
ي والسلطة هذه التي تخلو من مظاهر العنف والإكراه في آن واحد، هي هذه الت تقوم كلياً على أساس من السمو الأخلاقي (45). وهي تقتضي أن يقوم المربي باستيفاء شرطين أساسين:
- إذ يجب على المربي أن يمتلك إرادة متماسكة وقوية في ي البداية، وذلك لأن السلطة يجب أن تقوم على أساس من الثقة، والطفل لا يستطيع أن يمنح ثقته لمن يعتريه التردد في اتخاذ قراراته.
- أما الشرط الأكثر أهمية فهو أن يحظى المربي الذي يريد أن يمنح الآخرين الإحساس بالثقة، درجة عالية من الثقة بنفسه أولا، ومثل ذلك الإحساس يجسد قوة لا يمكن لها أن تظهر إلى حيز الوجود، إذا لم تكن موجودة فعلا. في المعلم لا يمارس سلطته بوحي خارجي، وإنما يمارس ذلك من منطلق ذاتي، ومصدر سلطته ينبع من الداخل، إذ لا يجب على المعلم أن يثق بنفسه فحسب، بل وبس مو مهنته التربوية وعظمتها، وهو بهذا يعزز السلطة التربوية التي يمتلكها.
لقد توسم المثقفون والمفكرون في التربية مشروعا لإجراء تحولات تاريخية وعميقة في المجتمع. ولا سيما هذه المشاريع التي يعلن عنها رواد حركة التحرير البرجوازية في غضون القرن التاسع عشر، أو حركة التحرير العالمية التي سجلت حضورها في ي مجرى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويكفي أن ينظر إلى التربية بأنها قادرة في النهاية على بناء النموذج الإنساني المطلوب أو الرجل الجنتلمان المثقف.
الهوامش :
45- Le point de vue : Emile Durkheim, L'Éducation morale, P.U.F., Paris, 1968.
الصفحة77
فالتربية ببنيتها وقدرتها وسلطتها، تشكل التقنية الاجتماعية المستقلة والمتخصصة بإنتاج منظومة من التأثيرات الاجتماعية من أجل عملية الضبط الاجتماعي، ومن أجل تغيير النظام الاجتماعي القائم، وهي في هذا السياق شكل من أشكال القوة السياسية، أو الحضارية.
هذا وتجد هذه الفكرة صداها في أحضان الأبحاث الأمبيريقية الجارية، حيث تعلن هذه الأبحاث عن هذه القوى الأسطورية التي تمتلكها التربية في عملية التحويل الثقافي، وعن القدرة الهائلة التي تمارسها في الأفراد عبر اللحظات التربوية (46).
تتطلب السلطة التربوية من المربي أن يمتلك عددا من الامتيازات مثل: الصحة والمزاج، ونمط الثياب ، وسهولة بناء الاتصال، والقدرة على إظهار اللطف، وهي وظيفة تتعلق بقيمة مهنية، وتأخذ أيضا أهميتها في القدرة على اتخاذ القرار، وإدراك جيد للمهمة التربوية، والتحضير للعمل وفق نظام محدد ومنهج بائن ، ثم امتلاك القدرة على تكليف التعليم وفقا لحاجة التلاميذ؛ ويفترض بصاحب السلطة التربوية أن يمتلك معلومات معمقة حول الوسط الاجتماعي للأطفال الذين يعلمهم، وأن يقيم علاقات تعاون مع زملائه ورؤسائه مع الوسط العام للمدرسة، فالسلطة تحتاج إلى إمكانيات شخصية ذات طابع نفسي وأخلاقي، ونوعا من التوازن العقلي والذهني، ونوع امن السيطرة على الذات وتوازن المزاج، والقدرة على تطوير إمكانيات الطلاب وبث روحالتعاون وحب الأطفال (47).
والسلطة التربوية تقتضي فيما تقتضيه كفاءات شخصية ذات طابع عاطفي، ولا سيما التوازن النفسي والسيطرة على الذات، وتوازن المزاج، والميل إلى تقديم العون
الهوامش :
46-E. Durkheim, Éthique de l'éducation, Presses universitaires, Paris, 1963.
47- Robert Dotrince, La crise de l’éducation et du traitement, Dillashaw et al.
Nestlé, Suisse, 1971, pp. 23-30.
الصفحة78
والخدمة والحب إلى الأطفال، وهذا يتطلب أيضا واجبات ومسؤوليات قوامها: أن المعلم هو مرب يمارس مهنته من أجل ضمان أمن الأطفال وسلامتهم (48).
بنية السلطة المدرسية.
يكمن جوهر العملية المدرسية، كما يعتقد روجيه كوزيني Roger Cousinet، في بنية السلطة التربوية، فعندما يكون الشخص تلميذا ، يترتب عليه أن يتلقى المعلومات والنصائح، وأن يواظب على التدريبات التي ينبغي عليه القيام بها، ويترتب عليه أيضا الخضوع لإرادة معلم يمسك بمقاليد السلطة (49).
ي يقارن دوركهايم، في مجال تأكيده لأهمية السلطة المدرسية، بين العلاقات الت توجد بين المعلمين والتلاميذ وبين هذه التي يقيمها المستعمرون مع المستعمرين (50). وهو في هذا السياق يحذر من خطر التطرف والشطط في استخدام السلطة التي يمكن أن تتحول إلى تسلط وعنف شديد.
وتشير بعض الأبحاث الجارية في هذا الميدان إلى أن صلة السيطرة والخضوع بين المعلم والتلاميذ ناجمة في معظمها عن فكرة قوامها أن المعلم يمثل المصدر الوحيد للمعرفة، وأن ودائع المعرفة تقدم في جرعات حددت بعناية يمنحها الذين يعلمون للذين لا ليعلمون (51) .
يتحدث روجيه كوزيني في مقال له بعنوان : لقاء بين المعلم وتلامذته، عن علاقة السلطة القائمة بين المعلم والتلاميذ قائلا: "منذ اللقاء الأول، لا بد للمعلم، مهما كان شأنه كفرد، أن يحقق ذاته وأن يظهر بمظهر الرئيس، ويتوجب عليه أن يكون رئيس ا
الهوامش :
48- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, référence précédente.
49 مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، ترجمة محمد بشير النحاس المنظمة العربية للتربية
والثقافة والعلوم، تونس، 1986، ص 71.
50 - A. Durkheim, L'Éducation morale, P.U.F., Paris. 1963, p. 131.
51- مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، مرجع سابق ص128.
الصفحة79
باستمرار، والتلامذة مهما كان شأنهم كأفراد عليهم أن يتقبلوا أنفس هم كمرؤوسين، ويتوجب عليهم أن يكونوا مرؤوسين باستمرار (52).
هذا وينظر دوركهايم إلى الصف المدرسي بوصفه مجتمعا مص غرا، ومن أجل دراسة هذا المجتمع المصغر يطبق دوركهايم مبادئ تحليل المجتمع الكبير. فالوظيفة ی الأساسية للمؤسسة التربوية هي التربية الأخلاقية. وفي هذا السياق يتوج ب على المدرسة أن تؤكد النظام بواسطة السلطة بوصفها جوهرا أخلاقيا، فالنظام هو الفضيلة الأساسية لعملية التنشئة الاجتماعية. ومن غير الأخلاق التي تؤسس للنظام فإن الإنسان لن يجد ما يكبح رغباته الذاتية الداخلية والخارجية، وسيشكل ذلك بـ الطبع مصدر الفوضى والنزاع والصراع، ولا سيما في المجتمعات الديمقراطية. وانطلاقا من ذلك يترتب على الطفل أن يتعلم الخضوع إلى النظام والمعايير الأخلاقية.
إن التعليم ليس ترويضا بل هو إحساس منظم بالعدالة والنظام، وهو إحساس يأخذ طابعا نفسيا (53). فالطفل كينونة قابلة للتشكل، وهذا يعني أن المعلم يمارس تأثيرا كبيرا جدا في إعداد وتربية الأطفال. فالمعلم هو الذي يلقن الطفل القواعد السلوكية ومفهوم السلطة، ومع ذلك فإن سلطة المعلم لا تأتي من حقه أو قدرته في ممارسة العقاب والثواب، وذلك لان العقاب لا يؤسس لاحترام السلطة، إذ لـ يس للعقوبة أي معن أخلاقي إذا لم تكن عادلة من وجهة نظر الطفل. وهذا يعني بأن السلطة التي تنزل العقاب هي شرعية بمدى ما تكون عادلة. فسلطة المعلم لا تصدر من كينونته الشخصية لأن يكون ينطلق من الوظيفة التي يمارسها المعلم، وهو بذلك شبيه بالكاهن الذي يعتقد بأنه يستمد سلطته من الله ويجسدها. ی
إن إحدى الوظائف الأساسية للنظام الأخلاقي هي تحقيق التجانس بين الأفراد وتحديد ملامح الهوية المدرسية. وإذا كانت الوظيفة الأولى هي تحقيق التجانس، فإن الوظيفة الثانية للمدرسة هي تحقيق التباين بين الأفراد. وهذا يعني تصنيف الأفراد في طبقات
الهوامش :
-52- مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، مرجع سابق ص71
53- إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار معد دمشق، 1996، ص 89.
الصفحة80
وفئات اجتماعية، لأن المدرسة توجد التباين والاختلاف بين التلاميذ بصورة رمزية تتمثل في المنح والدرجات والعلاقات المدرسية، وفي مستويات النجاح والرسوب.
وعلى خطى دوركهايم تابع السوسيولوجي الأمريكي ويللر Waller دراسته له ذه القضية، حيث أفرد لدراسة هذه الظاهرة كتابا كاملا يتميز بالإثارة المعاصرة، وهـ و بعنوان: علم اجتماع التعلم (54) The Sociology of Teaching ، الذي تناول فيه قضايا السلطة التربوية ومظاهر سلطة المعلم (55).
لطة ويعود الفضل إلى ويللر في تحليل المسألة التي لاحظها دوركهايم دون أن يعيره . الاهتمام اللازم. وإذا كان دوركهايم قد ركز على مسألة النظام الأخلاقي، فإن ويللر قد أعطى الأولوية إلى مسألة تحويل المعرفة وإلى نتائجها المؤثرة على عملية التفاعل الاجتماعي في داخل الصف. يبين ويللر أن المؤسسة التربوية تمنح المعلم س رسمية وذلك لكونه مسؤولا عن نقل المعلومات والمعارف إلى الطلاب. ومن اجل حث الطلاب على التعليم فإن ذلك يتطلب وجود علاقات تربوية قوية ومؤثرة بين المعلمين والمتعلمين، وهي علاقات تتباين في جوهرها عن العلاقات البيروقراطية التي تسود في عالم المدرسة. وهذه هي المعضلة التي يواجهها المعلم والتي يحاول أن يجد لها إجابات تتجاوز التناقض القائم فيها .
ومن أجل تجاوز هذه الازدواجية، بين علاقة الحب والسلطة التي يجب أن تقوم بين المعلمين والمتعلمين، يترتب ى الباحث دراسة العلاقات القائمة بين نظام التفاعل ووظيفة السلطة.
علوفي هذا الصدد يميز ويللر بين نوعين من السلطة في إطار الحياة المدرسية، حيث تأخذ الأولى طابعاً شخصياً يتعلق بشخص المعلم، بينما يأخذ النوع الآخر طابع ا مؤسساتياً. ففي المستوى الأول من السلطة نجد بأن خصوصية الأفراد هي التي تحدد النظام القائم. ويمكن للاتجاه الشخصي أن يأخذ طابع علاقة الزعيم مع طائفته الدينية، حيث لا يمكن لأبناء الطائفة توقع سلوكه المحتمل أو أفعاله.
الهوامش :
54-O. Waller, La sociologie de l'enseignement, New York, Wiley, 1967.
55- Mohamed Al-Sharqawi, Sociologie de l'éducation, Université de Bou. F, Paris, 1986, pp. 78-85.
الصفحة81
وعلى خلاف ذلك نجد أن المعلم يعد نموذجا للسلطة المؤسساتية وفقا للاتجاه المؤسساتي، حيث تكون سلطته واضحة ومعلنة في الوضعية المؤسساتية. وبالتالي فإن التفاعل الإنساني الذي يميل إلى تجاوز الحدود ينزع إلى التراجع والانحسار تحت ضغط هذه الشروط المؤسساتية.
ومع أما بالنسبة للاتجاه الشخصي فانه يميل لكي يصبح مؤسساتي وذلك لأن معاييره تتجه مع الزمن نحو الوضوح والتمايز . فمن واجب المعلم احترام القوانين المؤسساتية ذلك فهو يترك للتلميذ أحيانا فرصة الاعتداء على النظام القائم في حالات استثنائية، وبالتالي فان كلاهما يدرك معنى هذه الانتهاك لعرف النظام المدرسي. ويقتضي الأمر، من أجل وضع حد لهذه الانتهاك الذي يعد نفياً للاتجاه المؤسساتي، وجود شخصية قوية للمحافظة على النظام والقانون بصورته المؤسساتية. فالس يادة والتبعية في المدرسة تشكلان بعدين أساسيين من أبعاد النظام. ومن وجهة نظر موضوعية فان النظام هو جملة من الأوضاع الاجتماعية والتي من خلالها يستطيع الفرد مراقبة سلوك الآخرين.
أما من وجهة نظر ذاتية فان النظام مسألة أخلاقية وجدانية حاصلة بإشراف الإدارة المؤسساتيه. ولذلك فان النظام هو نتائج لتأثير الشخصية من جهة، ونتيجة للأوضاع الاجتماعية من جهة أخرى، فهو يتعلق أساسا بنفوذ وقدرة المعلم على الاحتفاظ باهتمام التلميذ، وبالطقوس التي يتم في داخلها التفاعل التربوي.
إن ويللر يصف الوسائل التي يستخدمها المعلم من أجل الاحتفاظ بالنظام داخل الصف، وفقا لتدرج يبدأ من الوسائل المؤسساتية حتى الاعتباطية منها أو الشخصية. وهذا يعني بالتسلسل استخدام الأوامر ثم العقوبة، أو استخدام العلاقات الشخصية الت تتمثل في الانفعالات والغضب وأحيانا التوسل والرجاء. ي
یری دوركهايم وويلر أن التفاعلات الاجتماعية داخل الصف هي تفاعلات غير متناسقة، وكلاهما يشير إلى السمة الاستبدادية لسلطة المعلم وإلى النزعة التسلطية
الصفحة82
لديه. وهي تسلطية يراها المعلمون ضرورية في مواجهة الأخطار الحقيقية والدائمة الناجمة عن تحول الصف من شكله المنظم إلى صيغة الحشد.
إذا كانت أكثر الدراسات، حتى أعوام الستينات، بدأت تعط ي اهتمامها المتزايد المسألة تأثير المعلم في التلاميذ، فان الدراسات الحديثة تعطي اهتمامها لمسألة العلاقات المتعددة والاتجاهات القائمة بين المعلم والتلاميذ من جهة، وبين التلاميذ أنفسهم من جهة أخرى.
سلطة المعلمين
يمارس المعلم سلطته الأمرة في سياج قدسي حتى يتمكن من القيام بمهمة التدجين والسيطرة على عقول الطلاب ونفوسهم بسهولة ويسر. فالمعلم كما يرى إيفان إليتش (56) Ivan Illitch يجمع بين وظائف ثلاثة : سجان وواعظ معالج، فهو المسؤول عن الضبط الاجتماعي داخل الصف، وهو الذي يسهر على اللوائح والقوانين ی ويحرص على أن يلتزم ويلزم الآخرين بها (57).
يقول فرويد (58) Freud مشددا على أهمية السلطة التي يتمتع به المعلمين : إننا نفهم الآن طبيعة علاقاتنا بأساتذتنا ، فهؤلاء الرجال يتحولون إلى بدائل أبوية حت ى حينما يكونوا يانعين صغارا، ونحن نراهم ناضجين وراشدين إلى درجة يصعب بلوغها، فنسقط عليهم مشاعر الأبوة ونعكف على معاملتهم كما كنا نعامل آبائنا (59).
الهوامش :
56-Ivan Illich, The American Sociology of Self-Origin (Vienne 1926) Écrit par : (Une société sans école, 1971 ; le Genre vernaculaire, 1983).
57- سعيد إسماعيل على فلسفات تربوية عالم المعرفة، عدد 198 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب يونيو/ حزيران 1995، ص 243.
58- Sigmund Freud, véritable médecin (Freiberg, 1856-1939), fondateur de la psychologie.
59- بيير بورديو، العنف الرمزي، بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة نظير جاهل المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، 5 .
الصفحة83
وعلى هذا الأساس يعد المدرسون من اشد معارضي التجديد التربوي. في التغيير في السلوك الاجتماعي يعد من المهمات التي تتميز بالصعوبة الكبيرة وذلك بالقياس إلى التغيرات التي تجري في جوانب الحياة المادية (60). وليس في ذلك غرابة فالمعلم الذي يجد نفسه محورا للعملية التربوية لا يستطيع أن يتخلى عن هذا الامتياز بسهولة عندما يطلب ذلك منه (61).
لقد بينت الدراسات أن المعلمين يقاومون كل ما من شانه أن يؤدي إلى حرمانهم من نفوذهم وسلطتهم التي يمارسونها على المتعلمين (62) . وه م يبذلون كل ما يستطيعون من أجل المحافظة على مكاسبهم هذه، ومن يسعى منهم إلى التجديد والتخلي عن هذه الامتيازات السلطوية يمثلون قلة نادرة.
لقد أشار واطسون (63)Watson J.B في مقالة له حول مقاومة التغيير (64)، إلى ما يسمى بقوى المقاومة عند الأشخاص، والتي تتمثل في عدة معايير سلوكية أبرزها: الاعتياد على نمط معين من السلوك، التبعية لرؤساء العمل، عدم الثقة بالنفس الشعور بانعدام الأمن والنكوص إلى الماضي بغاية الاحتماء (65). إن التفتح على الجديد يتطلب من المدرس أن يعيد النظر في ممارسته التربوية وفي تعامله م ع المتعلمين وهذا بالطبع ليس بالأمر الهين ما دام هذا التعلم في حقيقة الأمر سلوك لكتسبه المعلم عبر مرور السنين (66).
الهوامش :
60 أحمد الحطاب، الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية للاستجابة لمتطلبات القرن الواحد
والعشرين مكتب اليونيسكو الإقليمي، العدد 35 يونيو حزيران 1989
61- أحمد الحطاب، الصفات التي يجب أن تتسم بها مرجع سابق، ص 46.
62 أحمد الحطاب، الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية مرجع سابق ص46.
63-John Broadus Watson, psychologue américain (Grenville, Caroline du Sud, 1878-)
(New York 1958). C'est l'origine de la psychologie comportementale, ou behaviorisme (Behavior, 1914).
64- C. Watson, Résistance au changement, dans Concepts de changement social.
65- أحمد الحطاب، الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية مرجع سابق ص47.
66- أحمد الحطاب، الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية مرجع سابق، ص 46.
الصفحة84
في مجتمعات التسلط وثقافة القمع غالبا ما يكون سدنة التعليم من أهل التسلط بمعنى أن أغلب المعلمين والمدرسين ينزعون إلى ممارسة التسلط في ي فعله م التربوي. ويعمل المعلم السلطوي على التأثير في الطلاب بطريقتين هما :
-1- يحاول أن يزرع في نفوس الطلاب الروح السلطوية، وذلك لأن الأطفال يتأثرون بالنماذج السلوكية لمعلميهم وآبائهم ويتمثلون أنماطهم السلوكية وتلك هـ النتيجة التي يتوصل إليها باندورا في هذا السياق. ي
2- تقليل فرص التفاعل بين الطلاب وخفض مستوى المبادرة. ومن مواصفات شخصية المتسلط التعامل مع المطلقات فالكون مستقطب بين اسود وابيض بين جي د ورديء، وهو لا يستطيع أن يحتمل ما يخالف رأيه، ولذا فإن قبول الطلاب المعلوماته أمر لا يقبل المناقشة بالنسبة له، ومن هنا تضم كل قدرته على تنمية فردية طلابه وتعزيز قدراتهم وبعبارة أخرى تتضاءل فرص التفاعل التربوي الخلاق في ي داخل القاعة أو بين الطلاب بصورة عامة (67).
ومن الاختبارات الهامة التي تميز قدرة المعلم على ممارسة السلطة الحقة، هذه التي
تبين بأن عمل الطلاب ونشاطهم يستمر على نفس الوتيرة في حال غياب المعلم وفي حال حضوره. ونحن نعرف أيضا ما الذي يحدث عندما يغادر المعلم قاعة الصف (68). فالمعلم من غير سلطة أخلاقية تنبع من شخصيته وتميز نشاطه المهني، يتحول إلى مجرد مربي يحتمله الطلاب، أو لا يحتملون حضوره، ويمكن له أن يكون محتقرا من قبلهم .
وعلى خلاف ذلك فإن المعلم الذي يمتلك على هذا الامتياز لا يحتاج إلى التدخل من أجل إخضاع التلاميذ، ومن أجل نيل احترامهم، فهو الذي يشد طلابه إلى العمل في ي
الهوامش :
67 - ناثر سارة التربية العربة منذ 1950، إنجازاتها، مشكلاتها، تحدياتها منتدى الفكر العربي 166 ،1990 ،عمان، نيسان / إبريل
67- حمدي علي أحمد، علم اجتماع التربية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1995، ص 373.
68- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, référence précédente.
الصفحة85
أجواء من الإحساس بالرضا والثقة، ومن لا يستطيع من المعلمين أن يمتلك هذه السلطة الضرورية، فإنه لا يستطيع أن يمارس مهنته بجدارة، ويتوجب عليهم البحث عن مهنة أخرى (69).
هذا ويستطيع الطفل بغريزته وحليله العفوي أن يميز بدقة بين السلطة الحقيقية للمعلم ي التي تعبر عن نفسها في الخفاء ، وبين السلطة الشكلية التي يستمدها من وضعيته في المؤسسة التربوية . فالمعلم الضعيف يستطيع أن يخفي إحساسه بـ القلق والخوف، ويغطي ضعفه من خلال الغضب والعنف، وبالمقابل فإن الطفل يستطيع أيضا بعفويته أن يشعر بنضج المعلم وتوازنه . فالمعلمون الأكثر توازنا هم هؤلاء الذين يتصرفون من غير ردود أفعال انفعالية أو عاطفية بعيدا عن وسائل تعنيف الطلاب وقهرهم .
ومثل هؤلاء المعلمين يدركون جيدا بأن سلطتهم هي حقيقة موضوعية، وي دركون أيضا بأن أي سلوك انفعالي ليس مشروعا وليس قادرا على أن يترك آثارا جيدة أو طيبة في المستوى التربوي؛ وفي هذا السياق يمكن لنا أن نلاحظ بأن السلطة التي نحن بصددها، حتى هذه التي تطبق في الأسرة والمدارس هي نوع من السلطة التربوية المشروعة، ويمكن لنا في هذا السياق أن نلاحظ جيدا بأن شروط الحياة القديمة كانت مختلفة جدا عن شروط حياة اليوم، ولاسيما فيما يتعلق بالسلطة والقهر والطاعة والخضوع.
ي ومن غير تحفظ يمكن لنا القول بأن السلطة التربوية في مجال التعليم، هـ ذه الت تسود المدارس الابتدائية والثانوية، مازالت تحمل الطابع التقليدي، الذي كان سائدا في ي القرن التاسع عشر، وهو الطابع الذي يتمثل في المفاهيم والتصورات التقليدية الت تتمثل في المحافظة على التقاليد وعلى البنى والمناهج الجامدة دون تغيير أو تب ديل،
69- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, référence précédente.
الصفحة86
فوظيفة التلميذ في نظامنا التعليمي هي ودون شك أن يستمع وأن يتعلم وأن يخضع فحسب (70) .
فالمعلم يعطي دروسه في الصف، والتلاميذ يؤدون التمارين والأعمال التي تطلب منهم، والنظام لا يوجد فيه تنوع أو تغير مع أنه أصبح أكثر مرونة وديمقراطية .
فالمعلم يأمر والتلاميذ يرفضون أو يخضعون، وهم في حالة الرفض يتعرضون لعقاب القوانين المدرسية الصارمة، وبالتالي فإن الخوف من هذا العقاب يدفعهم إلى جادة الصواب والخضوع.
يلاحظ في هذا السياق أن هدف المدرسة هو تلقين الطلاب المعرفة على أساس من الاستظهار والتلقين وفقا لإرادة المعلم نفسه ونظامه الخاص، وهذا لا يسمح للتلميذ بأي مبادرة حيث يكون دوره في الاستماع والفهم إذا استطاع ذلك ، وهو ينفذ بالتالي وظائفه تحت تأثير الخوف من العقاب (71).
لقد تحولت المدرسة على حد تعبير أوليفيه ربول إلى معتقل يخفف بنظامه مهمة الشرطة ورجال الأمن (72). ووضعية المدرسة على هذا النحو تناسب مقولة فيكتور هيجو Victor Marie Hugo (73) المشهورة افتحوا مدرسة تغلق واس جنا"، وذلك بالمعنى الذي لا يريده فيكتور هيجو. فالمدرسة هنا لا تنور كما يريد هيجو ولا تحرر بل تكرس مبدأ العبودية والقهر والاضطهاد.
وفي هذا السياق يؤكد عدد كبير من المفكرين، على أن المدرسة لا يمكنها أن تكون مدرسة ديمقراطية واحدة من أجل الجميع في مجتمع طبقي (74). إذ ليس من شأن
الهوامش :
70- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, référence précédente.
71- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, même référence.
72- أوليفيه ربول، فلسفة التربية، ترجمة جهاد نعمان عويدات بيروت، ط3، 1986، ص 101.
73-Victor Marie Hugo, écrivain français (Besançon 1802 - Paris 1885).
74- Watfa Ali, Les inégalités dans l'enseignement supérieur en France, Thèse de doctorat, Université de Caen, Caen, 1988, p. 32.
الصفحة87
المدرسة أن تكون في مجتمع مبني على استغلال الإنسان للإنسان، سوى أداة إخضاع وقهر .
م ولا بد لنا هنا وبالضرورة من التمييز بين السلطة وبين التسلط، في المعلم الديكتاتوري الذي يمارس القوة بكل معانيها لا يمتلك إلا على س لطة شكلية، فه و يمارس القهر، وهو في النهاية لا يحصل إلا على خضوع قهري مؤقت، وهو نوع من الخضوع الذي يقود أحيانا كثيرة إلى رفض الطلاب وتمردهم. وهذا يعني أن المعل المتسلط لا يمتلك أية قيمة تربوية، فوضعيته تناسب ما يسمى بعملية التسلط التي تؤدي إلى حالة من التشاؤم والتمرد والعنف. وهؤلاء المعلمين الذين يلعبون لعبة الخوف والإرهاب ضد تلامذتهم، يعدون أناسا خطيرين جدا على الحياة الاجتماعية. فهؤلاء المعلمون المتسلطون يقودون الأطفال إلى حالة انفعالية مأساوية، تأخذ طابع الاضطرابات والعقد النفسية. وكثير من الحالات النفسية المأساوية، التي تلازم الأطفال طيلة حياتهم، تعود بأسبابها إلى ممارسات معلميهم المتسلطة في ي مراحل مختلفة من حياتهم المدرسية (75).
هذا ويمكن للسلطة كمهارة أن تكتسب في إطار الحياة الاجتماعية والتربوية، وهناك بعض المعلمين يملكون هذه المهارة بفطرتهم، وهناك من يقول على سبيل المثال: لا أستطيع أن أمارس عملية الضبط الاجتماعي أو التربوي. فالمعلمون يمتلك ون هـ ذه المهارة من خلال التفكير والإرادة ومن خلال توظيف تقنيات خاصة، ومثل هذه السلطة لا تتعلق بالقوة الفطرية أو الفيزيائية (76). وهذا يعني أن التسلط مضر لكل من المعلم والتلاميذ، وبالتالي فإن تركيز السلطة في يد المعلم وحصرها فيه أمر يفسد المعلم، فيتحول إلى طاغية داخل الصف، ويدفع بالطلبة إلى أن يكون وا متمردين
الهوامش :
75- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, référence précédente.
76- Robert Dautrence, La crise de l’éducation, référence précédente.
الصفحة88
مشاكسين أو خاملين، وربما أدى بهم ذلك إلى فقدان روح الاستقلال، وتجريدهم من القدرة على المبادرة (77).
السلطة والعقوبة
يمكن تعريف النظام بأنه ثقافة تهدف إلى تحقيق غايات أخلاقية بالدرجة الأولى. وتحقيق النظام لا يقوم على مجرد النصائح الطيبة والنوايا الخيرة بل يقتضي تطبيق مبدأ العقوبات. ويمكن من جهة أخرى تعريف النظام بأنه أداة عقاب تستخدم من أجل تحقيق التماسك الأخلاقي وإخضاع الأفراد الذين يوجدون تحت مظلته. ويتضمن هـذا التعريف تأكيدا على أهمية عنصري القوة والعقاب في بنية مفهوم النظام.
يتعرض الطفل لمنظومة من العقوبات الجسدية القاسية في المدارس التقليدية على نحو خاص مثل: الصفع، والركل، والشد والضرب بأدوات متعددة، مثل: الأحزمة والعصي أو الأدوات الأخرى. وقد يتعرض الطفل لأشد أنواع الأذى، ويذهب ضحية الإسراف في العقاب، وغالبا ما تصدر هذه العقوبات الشديدة من قبل الآباء المتسلطين ولا سيما هؤلاء الذين يتعاطون الكحول والمخدرات، وبالأخص عندما يكون أحدهم تحت تأثير الخمر، أو تأثير فورات الغضب وجنونه.
ويجب علينا في هذا الخصوص أن نميز بين عدة أنواع من العقاب، فهناك العقوبات الخفيفة نسبياً مثل: الانتقاد أو الملامسات الخفيفة، وهي من نوع العقوبات التي تلع ي تلعب دور التهدئة، ي وليست بالعقوبات الوحشية على أي حال؛ وهناك عقوبات الإذلال المقصود والتنكيد الدائم الت تتمثل في عقوبات الضرب والصفع والحرمان من الطعام أو من التسلية التي لا يمكن إهمال أثارها مع ذلك. ومهما يكن شأن الأمر يجب ألا تكون العقوبات التربوية منهجا يتصف بالديمومة والاستمرار، ويجب أن لا نجازف في استخدام العقوبات الفعلية المفرطة أو التهديد الذي لا ينفذ، ويجب ألا تخضع هذه العقوبات لتقلبات مزاج الوالدين أو المربين.
الهوامش :
-77- محمد جواد رضا، فلسفة التربية وأثرها في تفكير معلمي المستقبل، دراسة تجريبية، مطبوعات جامعة الكويت 1972، ص54.
الصفحة89
إن الإسراف في توظيف السلطة لا يقوم فحسب في مستوى العنف والعقاب، بل يمكن لهذا الإسراف أن يتجلى في مظاهر عديدة مثل الصرامة في المراقبة، والحساسية المفرطة عند الوالدين، والنزعة في إعطاء الأخطاء البسيطة طابعا مأساوياً خطيرا، ومثل هذه الوضعية تؤدي إلى إيجاد مناخ من الضغط النفسي المؤذي والمؤلم في الوقت نفسه والطفل سيعاني من التعذيب والقهر وذلك عندما يوضع في موقع المقارنة السلبية مع إخوته وأخواته، وعن دما ليس خر من ضعفه وقصوره، وذلك كله يمثل نوعا من الإرهاب العائلي الذي يتعارض مع ازدهار شخصية الطفل ونموه الطبيعي.
ولا بد لنا في الحصاد الأخير من هذا الفصل أن نقول بأن بنية السلطة تشكل حق لا علمياً بازغا وأن البحث في هذا المجال يشكل ضرورة فلسفية وتربوية، وحسبنا أننا قدمنا بعض التصورات الأساسية التي هدفت إلى تقديم رؤية فلسفية تربوية متواضعة لمفهوم السلطة ولبنيتها ومفاصلها الأساسية.
الصفحة90
الفصل الرابع :التفاعل التربوي في المؤسسة المدرسية
مقدمة
ي تحدد وتجسد هذه العلاقات شبكة من القيم والأفكار والمعايير الثقافية الت نسيج العلاقات والفعاليات التي تربط الكائن الإنساني مع العالم الاجتماعي الذي يعيش فيه. فالإنسان طاقة نفسية قابلة للتشكل، ويتم هذا التشكل في سياق العلاقات التربوية التي تقوم على أسس سيكولوجية متنوعة فلكل علاقة تربوية مض مونا سيكولوجياً محددا، وبالتالي فإن البناء السيكولوجي للفرد مرهون إلى حد كبير بالأنساق التربوية المحيطة به. ومن هذا المنطلق تتحدد صورة الهوية بمضامينها النفسية والاجتماعية لأنها رهينة بمعطيات العلاقات والتفاعلات التي تحيط بالإنسان في بيئته الاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية البحث في معطيات الصورة التفاعلية للحياة التربوية في المؤسسة المدرسية والمجتمع.
ي تشكل العلاقات التربوية القائمة في المؤسسات التربوية البوتقة التي يتش كل فيها الكائن الإنساني على نحو رم زي.
افتحوا مدرسة تغلقوا سجقا فيكتور هيجو
فالمؤسسات التربوية تتكون من شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والثقافية، وهي بذلك تعكس نمط الحياة الاجتماعية وطابعها. وعلى هـذا الأساس لا يمكن له ذه المؤسسات التربوية أن تنفصل عن الحياة الاجتماعية، لأن الحياة الاجتماعية تتغلغل في
الصفحة93
داخلها على صورة علاقات تربوية قائمة على ی منظومة من الق يم والمفاهيم والتصورات الاجتماعية التي تتغلغل في داخل الواقع المدرسي وتحدد مساره.
فالمؤسسات المدرسية تتجلى بوصفها صورة مصغرة ولكنها نوعية عن المجتمع والحياة الاجتماعية، وهي تعكس بالضرورة نمط العلاقات الاجتماعية السائدة وتشكل إلى حد كبير صورة للعلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع. ومع أهمية هذه الرؤية فإنه لا يمكن للمؤسسات التربوية أن تكون صورا مصغرة ساذجة عن الحياة الاجتماعية لأنها تمتلك هوية وجودها الخاص، كما تمتلك قانونية فعلها المميز، وهذا يعني أنه المؤسسات التربوية تلعب بالضرورة أدوارا حيوية في ي عملية التجديد الاجتماعي وذلك في إطار علاقاتها الجدلية والدينامية مع الحياة الاجتماعية، فهي المعنية ببناء أجيال العلماء والمفكرين وهي القادرة على ى تشكيل الذهنية العلمية الضرورية لبناء حياة اجتماعية تتجه نحو الأصالة والتكامل.
فالمدارس والمؤسسات التربوية هي حرم العقل والضمير (78). ووظيفة المؤسسات التربوية لا تتوقف عند حدود بناء العقل والمعرفة عند الإنسان بل تسعى إلى بناء الجوانب الأخلاقية والسيكولوجية التي تربطه بنسق وجوده الاجتماعي. فالمؤسسات التربوية هي حرم الضمير لأنها تؤمن بأن المعرفة الإيجابية مهما تنوعت تبقى ناقصة ما لم تؤيدها مناعة أخلاقية ويزكيها سمو سيكولوجي (79).
إن بعض المؤسسات التربوية تسعى في إطار استراتيجياتها الأكاديمية إلى بناء العقل بالدرجة الأولى، وهذا لا يقلل من أهمية الجانب التربوي والاجتماعي الذي تؤكده في حياة المتعلمين. لقد لعبت المؤسسات التربوية تاريخياً أدوارا سياسية هامة ولا سيما في القرن العشرين، وقد تجسدت هذه الأدوار السياسية في ثورة الطلاب والجامعات
الهوامش :
78- قاسم ریاض، مسؤولية المجتمع العلمي العربي: منظور الجامعة العصرية وأفق الحرية الديمقراطية داخل الحرم الجامعي العربي، المستقبل العربي، عدد 193، آذار مارس، 1995 81 صص 76-94)، ص
79- المرجع السابق، قاسم رياض مسؤولية المجتمع العلمي العربي، ص 81.
الصفحة94
في الستينات والثمانينات من هذا القرن. وذلك يشير بصورة لا ظلال فيه ما أن المؤسسات التربوية ليست مكانا يحصل فيه المرء على شهادة تؤهله للعمل بل هـ .ي مصانع حقيقية للأجيال والشباب على المستوى السياسي والاجتماعي والسيكولوجي.
وإذا كانت المؤسسات التربوية حقا مؤسسات اجتماعية تتجاوز حدود الصورة ذات البعد الواحد - البعد الذي يتمثل في دورة السوق البسيطة - فإن البحث في معطيات الحياة المدرسية أمر تقتضيه الضرورة العلمية، ولا يمكن أبدا تجاهل الدور الحيوي الذي تؤديه المؤسسات التربوية في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم.
يتشكل الأفراد في المؤسسات التربوية وهم في سياق تشكلهم هذا يدخلون في نسق من العلاقات التربوية المشكلة التي تمثل بدورها العصب الحساس في عملية التفاعل التربوي في إطار المؤسسات التربوية.
فالمدرسة في صورتها العلمية الدينامية نظام معقد من السلوك الاجتماعي يؤدي وظائف اجتماعية هامة داخل البنية الاجتماعية، وهي تشكل نسقا متكاملا من العلاقات التي تشكل بدورها بنية اتصالية تفاعلية. وإذا كانت المؤسسات التربوية تشكل منظومة معقدة تتعدد مكوناتها، وتختلف وظائفها، وتتباين العمليات الداخلة فيها، فإنها مع ذلك قابلة للفهم والتحليل (80). ففي المدرسة وبوصفها نسق ثقافي سلوكي يخضع الطالب لجملة من المعطيات العلمية والتربوية والاجتماعية، وهو عندما يتأثر بها يؤثر فيها في الوقت نفسه. والطالب وهو في سعيه لاكتساب المعرفة العلمية يكتسب عفوياً منظومة من القيم والاتجاهات ليس لها صلة مباشرة بالمعطيات العلمية التي يسعى إلى اكتسابها . وهو في دائرة تفاعله التربوي هذا لاا يكتسب أنماطا سلوكية وقيما واتجاهات فحسب بل يسقط بعضا من القيم والاتجاهات والمعايير التي اكتسبها في مراحل تربوية سابقه. ويأتي هذا أيضا تحت تأثير عملية تربوية جديدة يتشكل فيها على ى صورة جديدة. فالعملية التربوية في المؤسسات التربوية لا تسعى إلى بناء الطالب معرفياً فحسب بل
الهوامش :
80 عبد الحليم أحمد المهدي، نحو اتجاهات حديثه في سياسة التعليم العام وبرامجه ومناهجه، عالم الفكر عدد 2 سبتمبر أيلول 1988 ، ص 27.
الصفحة95
تسعى أيضا إلى بنائه على نحو متكامل. ووفقا لهذا المنحى فإن المدرسة والمؤسسات تمثل بيئة تربوية يتشكل فيها الفرد بصورة جوهرية نفسيا وعقليا ومعرفيا .
فالتواصل التربوي بين أطراف العملية التربوية في المؤسسة المدرسية يشكل البوتقة التي ينمو فيها أفراد المجتمع المدرسي ويتطورون نفسياً واجتماعياً وعلمياً. ومن هذا يمكن القول أن العلاقات الدينامية التربوية تجسد عبر هذه الصورة الدفع الحيوي للوجود الاجتماعي في المدرسة، ومن هنا بالذات تكمن أهمية البحث في ي البنية الاتصالية للمدرسة ودور هذه البنية في تأدية المدرسة لوظائفها المتنوعة.
فالمدرسة نقطة اتصال بين الأجيال ولا سيما بين أجيال الطلبة والأساتذة. والفرد هنا يتعرض لكافة التيارات الفكرية والقيم الاجتماعية، وهذا ما يقوده بالتالي إلى تكوين منظور أكثر تطورا وواقعية للأشياء (81). فالمؤسسة التربوية مكان لالتقاء الأجيال والفئات الاجتماعية وبوتقة لانصهارها في غمار عملية السعي المشترك نحو المعرفة (82) . والفعل الذي تمارسه المدرسة هو فعل تربوي ولا يمكن اختزاله إلى فعل تعليمي خالص ، بل هو أوسع دائرة وأعمق أثرا، لأن المدرسة تنبه في العقل الطاقات والمواهب وتوقظ الذات من سباتها السلبي (83)
ي فالعلاقات التربوية في المدرسة تتحدد بتأثير نسق من الشروط الموض وعية الت تحدد لها هويتها ووظيفتها، وهنا يتوجب علينا أن ندرك طبيعة هذه الشروط الموضوعية للفعل التربوي المدرسي، وأن نتحرى عن جوانبه الخاصة بنسق العلاقات الاجتماعية الجوهرية. ويمكن لنا في هذا السياق أن نشير إلى بعض المحاور الأساسية الطبيعة التفاعلات الجارية في إطار الحياة المدرسية ومنها:
الهوامش :
-81- سليم محمد السيد، الجامعة والوظيفة الاجتماعية للعلم ، الفكر العربي, عدد 20 آذار نيسان، 1981، ص 188.
82- سليم محمد السيد، الجامعة والوظيفة الاجتماعية للعلم، المرجع السابق ص 187.
83- سليم محمد السيد، الجامعة والوظيفة الاجتماعية للعلم، المرجع السابق ص 159.
الصفحة96
1- طبيعة العلاقات التربوية واتجاهاتها، وطبيعة التأثير الذي يتركه كل نوع من هذه العلاقات في شخصية الفرد.
2 نمط العلاقات الاجتماعية التربوية السائدة خارج المدرسة وصورتها على النحو الذي تتحدد فيه اجتماعياً.
2- الشروط الموضوعية لتشكل هذه العلاقات في إطار المؤسسات التعليمية.
وتتجه الأبحاث اليوم وبشكل متزايد إلى الاهتمام بدراسة بنية التفاعلات الداخلية للمؤسسات التربوية واقتصادية والاجتماعية. فالتفاعلات القائمة في ي قلب هذه المؤسسات تشكل المحرك الأساسي لفاعلية هذه المؤسسات وقدرتها على الإنتاج. وإذا كانت إنتاجية هذه المؤسسات، كما تبين الأبحاث الجارية، مرهونة بمدى التفاء ل الإيجابي بين مكوناتها، فإن أهمية هذا التفاعل تفوق حدود الوصف في ي مجال المؤسسات التربوية والعلمية. وذلك لأن بنية التفاعل التربوي تشكل البوتقة التي يتكون فيها الإنسان ويتشكل.
التفاعل التربوي
يتحدد مفهوم التفاعل التربوي بأنساق العلاقات التربوية واتجاهاتها. ويتمركز هـذا المفهوم حول درجة التواصل بين أطراف العملية التربوية ، كما أنه يشير إلى دينامية العلاقة القائمة بين مكونات الحياة التربوية.
يشكل التفاعل الاجتماعي المنطلق الأساسي لأية حياة اجتماعية أو تربوية، ومن غير هذا التفاعل تفقد الحياة الاجتماعية جوهر وجوده (84). ويتم التفاعل الاجتماعي ع وفقا لمنظومة من المعاني والأفكار والمفاهيم وعلى أساس قدرة الفرد على تبادلها م الآخرين عن طريق اللغة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن التفاعل الاجتماعي هذا لا يتم في فراغ بل في سياق اجتماعي وفي إطار الحاجة إلى الآخرين والحاجة إلى الارتباط بهم والانتماء إليهم.
الهوامش :
84 ليلي داؤود، علم النفس الاجتماعي، أملية جامعيه، جامعة دمشق، 1977، ص 58.
الصفحة97
ويأخذ التفاعل المدرسي صورة تواصل عميق يجري بين مختلف أطراف العملية التربوية، بين الطلاب والطلاب، وبينهم وبين المدرسين، وبين المدرسين والطلاب والإداريين، وينسحب هذا على المناهج والإداريين والعاملين في ي ميدان الحياة المدرسية. ويأخذ التفاعل التربوي طابعا رمزياً بالضرورة وهو الشرط الضروري لكل فعل تربوي وعلمي في المؤسسات التربوية بصفة عامة.
ويعد التفاعل التربوي في المؤسسة المدرسية بمثابة الدورة الدموية في ي جسد المؤسسة، وهو الإطار الذي تتعانق فيه كافة أطراف العملية التربوية من مدرس ين ومناهج وإدارة وتصورات ومقررات لتشكل لحمة الحياة التربوية وسداها. وإذا كانت المؤسسة المدرسية تشكل نظاما يؤدي وظائف تربوية محددة في إن درجة التفاعل التربوي بين أقطاب العلاقة التربوية تشكل مؤشرا على ی شد لامة العمل التربوي وفاعليته، ومؤشرا لمدى تأدية هذه المؤسسة لوظيفتها ومهمتها على نحو محدد. وعندما تأخذ العلاقة التربوية بين الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية اتجاها إيجابيا، نستطيع الإقرار بوجود درجة عليا من التفاعل التربوي.
وعلى خلاف ما تقدم حين تأخذ هذه العلاقة اتجاها سلبياً نستطيع الحكم على غياب التفاعل التربوي، أو وجود تفاعل تربوي سلبي منخفض الوتيرة. فالتفاعل التربوي هو شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي. وفي هذا الصدد يعرفه سوانسون Swanson بأنه "العملية التي يرتبط بها أعضاء الجماعة بعضهم مع بعض عقلياً ودافعياً في مستوى الحاجات والرغبات والوسائل والغايات والمعارف وما شابه ذلك (85). ويعرفه ميريل Merril بوصفه سلسلة متبادلة ومستمرة من الاتصالات بين كائنين إنسانيين أو . )86( لكثر ي
ويتمثل التفاعل التربوي في النهاية في جملة العلاقات الاجتماعية التربوية القائمة في إطار المؤسسات التربوية التي تتيح لأطرافها ( المدرسون والطلاب ) درجة علي ا
85- حامد عبد السلام زهران علم النفس الاجتماعي، عالم الكتب، القاهرة، 1974. ص 96.
86 عبد الله الرشدان، علم الاجتماع التربوي عالم الكتب، عمان، 1984. ص 202.
الصفحة98
من التوازن والتكافؤ والانفتاح وحرية التعبير والاستقلال والاحترام المتبادل وغياب الحواجز النفسية والثقافية والاجتماعية التي تعيق عملية التفاعل التربوي. وإذا كان الفعل التربوي نتاج لمنظومة متكاملة من العلاقات التربوية فإن هذه العلاقات تأخذ اتجاهات ومسارات متعددة تتحدد بطبيعة الشروط الموضوعية التي تحيط بالفاعلين في إطار الحياة التربوية. وإذا كانت العلاقات التربوية تتباين بتباين الحالات والظروف يترتب علينا أن نبحث في طبيعة هذه العلاقات وفي تجلياتها وفي مدى تأثيرها وآثارها التربوية.
ويأخذ الطالب وضعية مركزية في دائرة هذا التفاعل بوصفه العنصر الأكثر قابلية للتشكل بحكم الوضعية والدور الذي يشغله، فهو في نهاية الأمر غاية المؤسسة المدرسية وهدفها من حيث المبدأ، وبالتالي فإن منظومة الفعاليات التربوية تتجه إليه وتعمل على بنائه بصورة واضحة.
العلاقات التربوية
تشكل العلاقات التربوية محتوى ومضمون التفاعل التربوي، فالتفاء ل يتم على أساس من العلاقات التربوية القائمة. والعلاقة التربوية هي مجموع الروابط الاجتماعية والعاطفية والعلمية التي تنشأ بين المعلمين والمتعلمين عبر مسارات مختلفة.
يرى بوستيك Postic، أن العلاقة التربوية انعكاس لجملة العلاقات الاجتماعية القائمة في إطار مؤسسة تربوية ما (87). وتشكل العلاقة التربوية نمطا معيارياً للسلوك الذي يحقق الاتصال والتواصل التربوي الاجتماعي بين المحاضر والطالب والمقررات أو بين الطالب والطالب، وبين والإدارة والمحاضرين في إطار المؤسسة التربوية، هذا وتتحدد العلاقة التربوية بعدة من النواظم والضوابط الثقافية والاجتماعية والإدارية والأخلاقية التي يمليها المجتمع داخل المؤسسة التربوية.
الهوامش :
Marcel Bostick, La Relation éducative, P.U.F., Paris, 1986, p. 52.
الصفحة99
العلاقة التربوية الديمقراطية
هي العلاقة التي تقوم على أسس ديمقراطية وتهدف إلى تحقيق التوازن والتكامل في شخص المتعلم بناء على معطيات العلوم السلوكية كعلم النفس والتربية. وتجسد هذه العلاقة المبادئ التربوية والنفسية الحديثة التي تكرس قيم التربية الحرة والتغذية الراجعة والعلاقات الأفقية القائمة بين المعلمين والمتعلمين.
وتشكل الأجواء الديمقراطية المناخ المناسب لبناء علاقات تربوية تفاعلية ذات اتجاه ي إيجابي. وهي تتيح للطلاب والمتعلمين تحقيق التواصل الإيجابي ويتجلى هذا في فعاليات الحوار والمناقشة وإبداء الرأي المخالف وتوجيه النقد الإيجابي. فحرية الطالب لا تنتهي في حدود حرية اختيار المدرسة أو الكلية التي ينتسب إليها، بل في ي حرية المناقشة والنقد والاعتراض والتفكير النقدي وهذا هو منطلق الديمقراطية التربوية وجوهرها.
ي صوره وتشكل العلاقات التربوية الديمقراطية أيضا منطلق العطاء والإبداع في المختلفة، وتلك هي حقيقة تاريخية أثبتتها التجربة الطويلة للحياة الإنسانية. فالعلم يتفتحويزدهر في الأجواء الديمقراطية، وعطاء العقل كان دائما وأبدا رهين أجواء الحرية، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الحضور الخلاق للعقل كان دائما وأبدا مرهونا بالحضور الفاعل للحرية والديمقراطية.
ي فالحرية والديمقراطية توأمان لا ينفصلان. لقد تأكدت هذه الحقيقة الفلس فية في صورتها النفسية والتربوية وذلك على أثر الأبحاث والتجارب والدراسات التربوية التي أجريت في غضون القرن العشرين. فبينما يؤكد منظرو التربية على أهمية الحرية في بناء العقل، والتفكير تكشفت الأبحاث والدراسات في مستوى علم النفس ع ن ه ذه الحقيقة وتؤكد بأن تفتح العقل وبناء المعرفة أمران مرهونان بمعطيات الحرية الت ي يجب أن تسود في المناخ التربوي الذي يحيط بالأطفال والناشئة.
ولا بد لنا في هذا السياق من تحديد معنى ودلالة السلوك الديمقراطي في التربوي. فالسلوك الديمقراطي هو السلوك الذي ينطلق من الأسس التالية: ي العمل
الصفحة100
المشاركة الاجتماعية والمساواة في هذه المشاركة.
فهم مشاعر الآخرين واهتماماتهم.
تقبل الآخرين على مبدأ المساواة .
عدم اللجوء إلى العنف أو الصراع والاعتماد على لغة الحوار والإقناع (88).
والسلوك الديمقراطي التربوي من وجهة نظرنا بالإضافة إلى التحديدات السابقة يأخذ أبعادا قوامها : الاستقلال والحرية وتحقيق العدالة والمساواة والإحساس بها مجتمعة من قبل المعنيين بالعملية التربوية.
النتائج التربوية للسلوك الديمقراطي
إذا كانت علاقات التوحد Identification تشكل واحدة من أهم العمليات الأساسية في تعلم الفرد وفي اكتسابه، فإن العلاقات الديمقراطية تشكل منطلق علاقات التوحد وأساسها، لأنها تقوم بالضرورة على أساس عاطفي قوامه الحب والحنان والاحترام المتبادل بين أطراف العملية التربوية. فالمتعلم الذي يستطيع أن يعيش علاقة وجدانية مع معلميه ليقبل على تمثل المعطيات العلمية والمعرفية الت ي تتصل بهم بطريقة مدهشة. وعلى خلاف ذلك لا يستطيع الطالب تمثل المعلومات والمعارف الصادرة عن هؤلاء الذين لا يشعر إزاءهم بالحب والاحترام.
تنطلي العلاقات الديمقراطية مشاعر الحب والتقدير بين أطراف العملية التربوية، ويؤدي السلوك الديمقراطي إلى جملة من النتائج التربوية الهامة، وهذا ما تشير إليه أغلب الاتجاهات التربوية الحديثة. فالسلوك الديمقراطي في مجال التربية يؤدي إلى النتائج التالية:
نمو القدرات الإبداعية عند الطلاب والمتعلمين عامة
88- تركي مصطفى أحمد السلوك الديمقراطي، عالم الفكر، المجلد 22 ، العدد الثاني، أكتوبر )13-116( ،1993 ،نوفمبر ديسمبر
الصفحة101
نمو الجوانب الانفعالية وتكامل الاتزان العاطفي
- نمو الجوانب الاجتماعية وتكاملها في شخص المتعلمين نم و الثقة بالنفس والإحساس بالاستقلال.
نمو الجانب المعرفي بصورة متسارعة ومتكاملة.
ي وتجد هذه الصورة الخاصة بنمو الطاقات والمواهب تأكيدا علمياً لها وذلك في الأبحاث العلمية الجارية في هذا الميدان. وفي هذا المستوى يشير موللر ولف Muller Wolf في بحث له حول سلوك المدرس الديمقراطي، إلى أن سلوك المدرس الديمقراطي يؤدي إلى نمو الإبداع والاستقلالية والاتزان العاطفي والميول الاجتماعية انخفاض عند الطلاب. وعلى خلاف ذلك فإن سلوك المدرس المتسلط يؤدي إلى الدافعية لديهم وضعف القدرة على التركيز ويعزز ميلهم إلى الثورة والغضب
(89)
فالأجواء الديمقراطية تتيح للمعلم ليس أن يعلم فحسب بل أن يتعلم عبر حواره مع التلميذ وتتيح للتلميذ أن يكون معلما في الوقت الذي يتعلم فيه. والمعلم في إطار هذه العلاقة لا يسجل حضوره كأستاذ فحسب بل يكون حاضرا بكل وجوده الإنساني وهـ و
يستطيع أن يفرض بالتالي سلطته عندما يضع هذه السلطة في خدمة طلابه.
العلاقات التسلطية
يقوم التسلط على مبدأ الإلزام والإكراه، وعلاقات التسلط هي العلاقات الت ي يتم بموجبها خضوع طرف لإرادة طرف آخر بالقوة. ونعني بالتسلط التربوي الميل إلى
استخدام العنف في العمل التربوي، فالعلاقة التسلطية سلوك ينطوي على ي العنف والإكراه ويتنافى كلية مع معطيات وأسس السلوك الديمقراطي الذي أشرنا إليه سابقا. ويأخذ هذا العنف صورة رمزية في المراحل العليا من التعليم ويتجلى في منع الطلاب من الإعلان عن وجهات نظرهم أو من توجيه النقد أو إبداء الرأي المخالف، وهذا ما
الهوامش :
89- أنظر مصطفى أحمد تركي، السلوك الديمقراطي، مرجع سابق.
الصفحة102
يمكن أن يطلق عليه التسلط المعرفي الذي يمكن تعريفه بأنه فرض الآراء والأفكار على الآخرين. ويمكننا تحديد العلاقات التسلطية في المحاور التالية :
يقوم السلوك التسلطي على أساس التباين واللامساواة ( المدرس الطالب).
يتم اللجوء إلى العنف بأشكاله المادية والرمزية المختلفة ويتجلى ذلك في صورة -عقوبات مختلفة مثل التهديد والتوبيخ.
يقوم على المجافاة الانفعالية والعاطفية بين المدرسين والطلاب، وهذا يعني غياب العلاقات الودية التي تجمع بين الطرفين أو بين أطراف العملية التربوية عامة.
- لا يسمح للطلاب أو المتعلمين عامة بإبداء آرائهم أو توجيه انتقاداتهم ولا تؤخذ آراءهم بعين الأهمية والاعتبار من قبل المدرسين.
- ومن أبعاد العلاقات التسلطية وجود أجواء الخوف وانعدام الثقة بين المدرسين والطلاب واللامبالاة التي تتجسد في الهوة التي تفصل بين الطرفين.
ي وغني عن البيان أن علاقات التسلط تقوم على أساس من الممارسات القمعية، الت تبدأ أبسط الإيحاءات إلى أكثرها شدة وفظاظة، ومن أشكال السلوك التسلطي يمكن الإشارة إلى الهزء والسخرية والتهكم وأحكام الدونية والتخجيل والإحباط والازدراء والإهمال وعدم الاحترام وعدم التقدير ... الخ.
نتائج السلوك التسلطي
يمكن للتعليم أن يكون أداة لترويض الناس كما يمكنه أن يكون أداة لتحري رهم، وإذا كانت العلاقات الديمقراطية أداة التربية في تحرير الإنسان فمما لا شك فيه أن علاقات التسلط هي أداة التربية في ترويض الناس وتكريس عبوديتهم.
ی مما لا شك فيه أن العلاقات التسلطية تؤدي إلى منظومة من النتائج السلبية على المستوى التربوي، وتؤدي على الأغلب إلى هدم الشخصية وإلى تكوين عقد النقص والدونية والقصور والسلبية في نفوس المتعلمين. ولا سيما في ي المراحل الأولى للتعليم.
الصفحة103
وإذا كانت العلاقات الديمقراطية تؤدي إلى بناء الشخصية الإيجابية نفسياً وانفعالياً واجتماعيا، فإن علاقات التسلط تؤدي في جملة ما تؤديه إلى فقدان الاتزان الانفعالي وبناء الشخصية السلبية. فقدرات الطلاب على التفكير والمبادهة والنقد تنخفض بدرجة واضحة في الأجواء التي تسيطر فيها أجواء القسر والإكراه.
ي وتشير التجارب الحياتية أن كثيرا من الطلاب باتوا يكرهون المواد العلمية الت نقلت إليهم عبر مدرسين متسلطين في أساليب تعاملهم؛ وعلى خلاف ذلك كثير ه م هؤلاء الذين أبدعوا في مواد علمية لأنهم تعلموها من أساتذة أحب وهم. وتبين التجربة أيضا أن الأطفال يصابون بالعطالة الفكرية وعدم القدرة على التفكير أمام مدرسيهم أو آبائهم الذين عرفوا بتسلطهم وقسوتهم. والأدهى من ذلك كله أن هـ ؤلاء الأشخاص وبتأثير التعميم يفقدون توازنهم الانفعالي في المواقف التي تتطلب نوعا من التوازنات الانفعالية والسلوكية. وهذا يعني أن العطالة النفسية تأصلت في نفوسهم وهم ضحايا تسلط تربوي أفقدهم القدرة على التكيف بصورة دائمة.
وتبين الخبرات العلمية اليوم أن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم جيدا في أجواء الخوف والإرهاب، وبالتالي فإن الخوف الناجم عن علاقات التسلط يؤدي إلى تعطيل القوى العقلية عند الإنسان مثل الانتباه والذاكرة والتفكير والقدرة على التحليل والتركيب.
لقد لاحظنا في إطار عملنا التربوي أن كثيرا من الطلاب يعاني من صعوبات كبيرة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم أمام مدرسيهم، مع أنه لا تنقصهم الإمكانيات المعرفية وذلك برأينا يشير إلى درجة عالية من الخصاء الذهني الذي تعرضوا له في إطار تربية تعتمد على مبدأ الإكراه والتسلط. لقد بيين أندرسون منذ عام 1939 أن التصرف المسيطر للمعلم الذي يتسم بالقسوة ورفض قبول إسهام الآخر وتجاهل رغباتهم وتجاربهم وآرائهم يقابله لدى الأطفال تصرفات غير متعاونة هائجة منفعلة وعدائية.
الصفحة104
التفاعل التربوي والحياة الاجتماعية
يعكس كل نظام تربوي جملة الروابط الاجتماعية للمجتمع الذي ينتمي إليه، ومن هـذا المنطلق يمكن القول أن العلاقات التربوية السائدة في المؤسسات التربوية تأتي انعكاس ا للروابط الاجتماعية التي تضرب جذورها في المجتمع.
إن إدراك طبيعة العلاقة التربوية، وعمليات التفاعل التربوي أمر مرهون إلى حد كبير بادراك جدل العلاقة القائم بين هذه المؤسسات والحياة الاجتماعية، بما تشتمل عليه هـ ذه الحياة من أنظمة وأنساق وفعاليات اجتماعية واسعة التنوع. فالمؤسسات التربوية كما يرى دورکهایم Durkhiem صورة مصغرة للمجتمع الكبير الذي أنتجها، وهي بذلك تحمل خصائصه وسماته الأساسية، وبالتالي فإن وظائف هذه الأنظمة لا تخرج عن كونها أداة المجتمع في الاستمرار والديمومة وفقا لقوانين وجودها الخاصة (90).
تكمن وظائف المؤسسات المدرسية كما يرى بودلو واست تابليه Baudelot - Establet في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة اجتماعيا، ولذلك فإنهما ينظران، في كتابهم ا
المدرسة الرأسمالية في فرنس L'école capitaliste en France l إلى المؤسسة التربوية الفرنسية (91) بوصفها أداة لإعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية في المجتمع الفرنسي. وما يطرحه هذان المفكران يشكل محورا أساسياً لطروحات بيير بوردي و Bourdieu Pierres في كتابه المعروف إعادة الإنتاج. ج (92) ، ولإيفان إليتش Illitch Ivan في كتابه مجتمع دون مدرسة societe sans école (3) ؛ وكلاهما ينظر إلى المدرسة والمؤسسات التربوية بوصفها أدوات سياسية اجتماعية تهدف إلى تكريس الأنظمة الاجتماعية القائمة والى إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية السائدة .
الهوامش :
90- Durkheim, Emile, Éducation et sociologie, P.U.F., Paris, 1922.
91- Baudelot C. Establet, L'École capitaliste en France, P.U.F., Paris, 1974.
92-Bourdieu, Pierre, et Passeron-J. J., Pas de reproduction, P.U.F., Paris, 1970.
93- Ilitch Ivan, Compagnie sans école, Seuil, Paris, 1971.
الصفحة105
لقد بينت هذه الأطروحات الفكرية والتربوية - كما يرى جورج سنيدير Snyders Georges في كتابه المدرسة والطبقة وصراع الطبقات Ecole classe et Lutte des (94) Classes طبيعة العلاقة بين المدرسة والمجتمع، وبينت وجود وظائف متعددة للمؤسسات التربوية لا تقف عند حدود نقل المعارف والعلوم إلى الناشئة والطلاب بل تتجاوز ذلك إلى تخوم بعيدة المدى ، لأنها مؤسسات تجري فيها صياغة الكائن الاجتماعي على صورة المجتمع الذي يعيش فيه. لقد بينت هذه الأطروحات بالإضافة إلى ذلك أن أواليات صياغة الإنسان في المؤسسات التربوية ليست مرهونة بالعملية التربوية في جانبها المعرفي الذي يتعلق بنقل المعلومات والمعارف إلى الناشئة، بل تتحدد هذه الأواليات البنائية بطبيعة العلاقات التربوية السائدة في إطار هذه المؤسسات، وبطبيعة التفاعل الذي تقتضيه معايير وأنماط هذه العلاقات التربوية.
فالمؤسسة التربوية لا تقف عند حدود نقل أكداس المعارف، لأن نقل هذه المعارف لا يشكل في نهاية الأمر سوى إحدى وظائفها الأساسية. فوظائف المؤسسة التربوية متنوعة متعددة وهي صورة مجتمع مصغر يتميز بنظامه الخاص وفعالياته الخاصة وجملة هذا الفعاليات تشكل أنماطا مصغرة لفعاليات المجتمع الكبير.
وفي الوقت الذي يجري فيه البحث عن طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في ي المجتمع، وتقصي حدود التفاعل الاجتماعي القائم فإن العلاقة التربوية والتفاع لي التربوي في إطار المؤسسات التربوية يشكلان صورة مصغرة لما يجري في إطار المجتمع الكبير. ولكن خصوصية وأهمية هاتين الفعاليتين التربويتين تكمن في دور كل منهما في تكريس ما هـ و قائم في المجتمع وإعادة إنتاجه. وفي الوقت الذي تشكل فيه العوامل التربوية، مثل المقررات والمناهج طرق التدريس والطلاب والمدرسين والإدارة، العوامل الأساسية في كل عمل ترب وي فإن مكان هذه العوامل كمكان الجسد من الروح في العملية التربوية، وهذا يعني أن العلاقة التربوية تمثل مبدأ الحياة الذي يربط بين أطراف العملية التربوية.
الهوامش :
94- Snyder, George, La salle de classe et les leçons, Université française, Paris, 1982.
الصفحة106
الفصل الخامس: من ديمقراطية المدرسة إلى الديمقراطية في المدرسة
من ديمقراطية المدرسة إلى الديمقراطية في المدرسة
يتنامى اليوم إيمان المجتمعات الديمقراطية وأهميتها في توفير أمن هذه المجتمعات واستقرارها. لقد أصبح مفهوم الديمقراطية بمنظومته القيمية والإنسانية الشعار الذي ترفعه الشعوب الإنسانية في مواجهة تحديات القهر والظلم والعبودية. فحب الديمقراطية يتقد ويتنامى في قلوب البشر وينهض الإيمان بها في وجدانهم ويتوهج في ضمائرهم. وإذا كان المحرومون يعملون اليوم على تحقيقها بكافة السبل، فإن من يعيش في ظلها يتفانى في حماية عطاءاتها وتنمية قيمها ومبادئها ومكاسبها.
الإنس . انية بض . رورة الحي . اة إذا أرادت أمة ما أن تكون حرة وجاهلة في دولة مدقية فهي تطلب المستحيل توماس جيفرسون
لقد أصبحت كلمة الديمقراطية لفظة ساحرة تداعب قلوب المحرومين وتهده د أفئدتهم، وغدا النضال الإنساني من أجل تحقيقها قدر الإنسانية والبشر. فالديمقراطية
بما تنطوي عليه من قيم خلاقة وإنسانية وسياسية أصبحت متطلبا تاريخياً يعول عليه في تحرير البشرية من القهر والتعصب والإكراه والحرب. ومن هذا المنطلق بدأ اليوم نداء الديمقراطية يتنامى في كل أنحاء الكون وبدأ التشبث بمبادئها وبقيمها يترجم نزوع البشر إلى الحب والحياة والحضارة.
لقد شهد الملا الديمقراطي تناميه الكبير في النصف الثاني من القرن العشرين ليشمل بلدانا وقارات وأمما متنوعة، وأخذت هذه الظاهرة الديمقراطية تشد رحالها في كل
الصفحة109
مكان يمكنها أن تصل إليه. ولم يأت هذا المال الديمقراطي بانتصاراته الرائعة هبة من السماء، بل كان هذا التوجه الديمقراطي يترجم نضال البشر ومعاناتهم في كل خطوة ونقلة. فآلام البشر وهزائمهم ودماؤهم شكلت الضريبة التي دفعتها الأمم وما تزال تدفعها حبا بالديمقراطية وسعيا إلى تحقيقها.
ومن المؤكد اليوم أن الديمقراطية لا يمكنها بانتصاراتها وهزائمها أن تنفصل عن أبعادها التاريخية والاجتماعية، لأن تسجيل الانتصارات الديمقراطية مرهون بعدد كبير من المتغيرات الهامة التي لعبت دورا كبيرا في انتصار المال الديمقراطي أو إخفاقه
لقد تداعى النظام الشيوعي في روسيا السوفيتية، وسقطت الأنظمة التسلطية النازية والفاشية في أوروبا، وظهرت الحركات التي تنادي بالحرية والعدالة والنضال من أجل الديمقراطية في تشيلي وفي كينيا وتايلاند والفلبين، وفي بلدان أخرى كانت أنظمتها تعتمد على التسلط والديكتاتورية. وكل هذه الأحداث تشير بقوة إلى رغبة أصيلة وشمولية عند البشر من أجل الحرية الاجتماعية والحرية السياسية بصورة خاصة.
الديمقراطية والتربية
تحتل مسألة الديمقراطية التربوية مكانا مركزياً بين القضايا الاجتماعية المعاصرة. وتتجسد هذه المسألة في أبعاد سياسية ونضالية متنوعة، حيث تأخذ مكانها الهام في برامج الأحزاب السياسية المتعارضة، أو في الحركات النضالية للشباب والطلاب التي تسعى إلى تحقيق المبدأ الديمقراطي في مجال التربية والتعليم.
ويكفي لإدراك أهمية البعد السياسي الديمقراطي للتربية أن نشير إلى التمردات الطلابية التي اندلعت في الستينات (1968) وفي التسعينات (1986) من القرن العشرين في مختلف أنحاء العالم في ولا سيما في باريس ولندن وروما وبكين وذلك من أجل تحقيق ديمقراطية التعليم في مجال الدراسات العليا والجامعية.110
الصفحة110
وقد تعزز البعد السياسي للحركة الديمقراطية الطلابية مع نمو اتجاهات علمية واسعة، تمثلت في الأبحاث الاجتماعية، التي أخذت على عاتقها مهمة دراسة وتحليل واقع مسألة الديمقراطية التربوية كقضية اجتماعية بالغة الحساسية والدقة.
لقد أصبح النضال من أجل تحقيق الديمقراطية التربوية والتعليمية، يمثل اليوم إحدى الجبهات المتقدمة لصراع الإنسانية التاريخي من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية. وذلك لأن الديمقراطية التربوية تشكل مضمون ومحتوى الديمقراطية الاجتماعية
وتؤكد التجربة الإنسانية عبر مسارها التاريخي، أن الحياة الديمقراطية لأمة من الأمم مرهونة بأبعادها وخلفياتها التربوية. وذلك لأن حضور الديمقراطية وتكاملها في حياة الأمة أمر مرهون بمدى تأصل القيم الديمقراطية في عقول الناس ووجدانهم. وتأسيسا على هذه الحقيقية تعد قضية الديمقراطية التربوية اليوم من أكثر قضايا العصر التربوية حساسية وخصوصية وذلك لما تنطوي عليه هذه القضية من أبعاد اجتماعية وسياسية هامة.
وإذا كانت الحياة الديمقراطية في المجتمعات الإنسانية مرهونة بعدد من المتغيرات التاريخية، فإن الفعل التربوي كان دائما يشكل حلقة من أهم حلقات النماء الديمقراطي في مختلف التجارب التاريخية للمجتمع الإنساني. فالعملية التربوية تشكل من دخل الضرورة في كل نماء ديمقراطي، حيث لا يمكن لدورة حياة ديمقراطية أن تتم أو تنضج ما لم تأخذ مسارها في عمق الدورة التربوية للمجتمعات المعنية.
إن الحقيقة التي تبهر البصر هي أن المكاسب الديمقراطية لمجتمع من المجتمعات تستند إلى الوعي التربوي . وينبني على هذا أيضا أن الديمقراطية التي تنأى عن وعي تربوي اجتماعي أصيل، بأبعادها وقيمها وشروطها، تكون ديمقراطية شكلية تفتقر إلى مقومات وجودها واستمرارها. فالديمقراطية، التي لا تقوم على وعي المجتمع بـ القيم والمعايير الديمقراطية، هي ديمقراطية مهددة بالفناء ، هذا إذ لم تتحول إلى نوع من الطغيان الديمقراطي العبثي الذي يهدد مقومات الوجود الديمقراطي.
الصفحة111
وإذا كان الوعي الديمقراطي يشكل شرط الضرورة التاريخية لضمان استمرارية الوجود الديمقراطي في مجتمع من المجتمعات فإن المؤسسات التربوية تشكل قطب الرحى في عملية بناء هذا الوعي وتشكله. وهذا هو المنطلق الذي جعل عددا كبيرا من الباحثين والمفكرين يعتقدون بأن مستوى تطور مجتمع ما مرهون إلى حد كبير بمستوى تطور مؤسساته التربوية والتعليمية...
وإذا كان نماء الفكر الديمقراطي رهينا بتطور الأبعاد الديمقراطية للحياة الاجتماعية بصورة عامة فإن المؤسسات التربوية كانت ومازالت تشكل الحلقات الأكثر أهمية وخصوصية في عملية هذا النماء ، فالعلم لا ينمو إلا بالإبداع والابتكار وبالتالي في إن قيم الحرية والديمقراطية هي البوتقة التي تتشكل في معارجها أسس الإبداع والتجديد والابتكار. ومن هنا فإن التربية بمؤسساتها لا يمكنها أن تؤدي دورها التاريخي إلا في أجواء الحرية والمعاني الديمقراطية.
وإذا كانت المؤسسات المدرسية تشكل دائرة اجتماعية لا تنفصل عن خلفياتها
الاجتماعية والسياسية والعقائدية، فإنها مع ذلك تمثل الحاضن الطبيعي للنخبة الفكرية والثقافية المستقبلية، وهي بذلك تشكل حاضنا للحريات الفكرية والإنسانية في المستقبل. فالمؤسسات التربوية هي المرآة الأولى التي ترتسم فيها أبجديات الإبداع والحرية، ويتأسس على ذلك بالضرورة أن الفكر الديمقراطي، بكل ما ينطوي عليه من قيم وعطاءات، يجد نفسه في أحضان المؤسسات التربوية، حيث تبدأ دورته الاجتماعي ليأخذ أبعاده في مدار الحياة الاجتماعية بمختلف مؤسساتها وحلقاتها (95).
الهوامش :
95 علي اسعد وطفة وسعد الشريع، الفعاليات الديمقراطية ومظاهرها في جامعة الكويت، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية والتربية في الوطن العربي: أعمال المؤتمر العلمي الثالث لقسم أصول التربية في كلية التربية جامعة الكويت، صص 327-401).
الصفحة112
يؤكد ديوي على عمق التواصل بين التربية والديمقراطية إذ يقول: لا يمكن ی للعقيدة الديمقراطية أن تنفصل عن العقيدة أو التجربة التربوية (96). وتأسيسا على هذا المنظور يمكن القول بأن الديمقراطية التربوية تكمن في الأجواء الحرة للعملية التربوية بقيمها ومعاييرها، وبالتالي فإن علاقات التفاعل الحرة تشكل الحاضن التربوي والاجتماعي الذي يحقق للفرد فرص النمو والازدهار والتكامل. وإذا كانت التربية عملية نمو للفرد في إطار اجتماعي فإن الديمقراطية هي الإطار الأمثل لهذا النمو (97).
وتتحدد طبيعة النمو الديمقراطي هذا في تعريف ديوي للديمقراطية وقوامه بـ أن: الديمقراطية هي طريقة شخصية في الحياة، وهي بالتالي ليست مجرد شيء خارجي يحيط بنا (...) إنها جملة من الاتجاهات والمواقف التي تشكل السمات الشخصية للفرد والتي تحدد ميول وأهداف الفرد في مجال علاقاته الوجودية (98).
في مفهوم الديمقراطية
تعلم كلمة الديمقراطية من أكثر الكلمات السياسية سحرا وألفة وتواترا في المجتمعات الإنسانية. وتعرف الديمقراطية في القواميس التقليدية بوصفها مفهوما سياسيا يرمز إلى حكم الشعب لنفسه بنفسه، وهو المعنى الذي يعلنه ابراهام لنك ولن - Abraham Lincoln في تعريفه للديمقراطية بأنها حكومة الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب. فالديمقراطية في الأصل كلمة تشير إلى نظام حكم مستقل يكون فيه المواطنون على السواء أمام شروط الحياة والقانون، وهو نظام تتخذ فيه القرارات السياسية بالأكثرية وذلك دون احتقار لحقوق وآراء الأقلية السياسية، وفي ظل هذا التطور تؤكد
الهوامش :
96- Johann Dewey, The Democracy We Create and the Taste We Prepare, texte de conférence préparé en 1939 pour Dewey à l'occasion d'un colloque organisé en l'honneur des années 80. Dans : Horizons de la philosophie, volume V. N° 2, 1997.
97 سيد محمد الجيار، التربية ومشكلات المجتمع دار القلم، الكويت، 1985، ص 102.
98-Johan Dewey, La démocratie créatrice et le travail que nous attendons, ov.
citation.
الصفحة113
الديمقراطية لمواطنيها إمكانية المشاركة مباشرة في الديمقراطية التي تسمى ديمقراطية مباشرة. اتخاذ القرار وتلك هـ ي
ومع الأخذ بالأهمية الكبيرة لدرجة التطور والتعقيد في المجتمعات المعاصرة فإنه يمكن للمواطنين وبكل بساطة انتخاب ممثليهم الذين يحكمون ويتخذون القرار، فالديمقراطية الممثلة هي هذه التي ترتكز على انتخابات ليبرالية حرة منظمة وشريفة وتعددية، وهي التي تجعل من الحكومة مسؤولة أمام الشعب، وفي هذه الديمقراطية فإن الحكومة توجد لخدمة الشعب وليس العكس؛ وبافتراض أن الحكومات الديمقراطية لطة تغيير تستمد سلطاتها من اتفاق المحكومين فإن هؤلاء المحكومين يمتلكون س الحكومة بطرق سلمية، وذلك عندما يفقدون ثقتهم بها وذلك دون عنف أو إكراه.
ويعد مفهوم الديمقراطية من المفاهيم المركبة لأنه يشتمل بذاته على منظومة من المفاهيم والأفكار حول الحرية والعدالة والتكافؤ والمساواة، كما أنه يرتكز على طائفة أخرى من الممارسات والإجراءات الديمقراطية التي تشكلت عبر تاريخ الإنسانية.
ومفهوم الديمقراطية مفهوم بنيوي لا ينفصل عن مضامينه السياسية وأبعاده الاجتماعية، وهو يشكل كيانا لا يقبل التجزئة إلا لاعتبارات تجريدية، وض من هـ ذا السياق التجريدي يمكننا أن نبحث في مفهوم الديمقراطية بوصفه مفهوما مركبا تنتظم ي فيه كينونة من الممارسات والعلاقات والمبادئ الحرة التي يمكن أن تؤصل في الإنسان قيم العدالة وحرية التفكير ، وقيم النقد والحوار والعدالة، واحترام الآخر وقبول مبدأ، والمشاركة على مبدأ المساواة، ويتضمن هذا التصور الديمقراطي كل القيم التي تؤكد على نماء الإنسان وتطوره، وعلى مبدأ الشعور بالكرامة والحرية والمشاركة والتنمية الذاتية والإبداع. وإذا كان من إمكانية لتعريف الديمقراطية يمكن أن نقول بأنها منظومة القيم الإنسانية التي تقوم على مبدأ الحرية والتواصل والحق والقبول والتي تسعى إلى تحقيق الذات الإنسانية بكل ما تنطوي عليه من طموحات الوجود والحضور والابتكار والإبداع.
الصفحة114
الديمقراطية التربوية
يطرح مفهوم الديمقراطية التربوية نفسه بوصفه مفهوما مركبا وغامضا في الآن الواحد. وهو يتضمن صيغا ودلالات متعددة تؤدي إلى صعوبة السيطرة عليه وامتلاك ناصية المعاني التي يمتلك عليها. ومن أجل تبديد الغموض الذي يحيط به يمكن تفكيكه إلى ثلاثة عناصر أساسية تكشف عن مكوناته الأساسية وتبدد الغموض الذي الت ي
ينطوي عليها، وتتمثل هذه العناصر في التالي:
ديمقراطية المدرسة أو تكافؤ الفرص التعليمية.
الديمقراطية في المدرسة أو الممارسة الديمقراطية في الوسط المدرسي.
الوعي الديمقراطي أو تعليم الديمقراطية في المدرسة.
ديمقراطية التعليم أو تكافؤ الفرص التعليمية
يجد مفهوم تكافؤ الفرص التعليمية نفسه ويتمثل في صيغة مدرسة تفتح أبوابها للجميع على مبدأ التكافؤ والمساواة دونما تمييز بالمطلق. وتقتضي هـذه الصيغة أن تقوم المدرسة باستيعاب جميع الأطفال في سن الدخول إلى المدرسة دون اعتبارات عرقية أو دينية أو طائفية أو جغرافية أو لأي اعتبار آخر.
ي يرتكز مفهوم تكافؤ الفرص التعليمية إلى تصور قوامه أن التحصيل العلم والمعرفي يشكل نوعا من الخيرات المادية والروحية، وبالتالي في إن الديمقراطية التربوية تتجسد في التوزيع العادل للخيرات التربوية بين أفراد المجتمع. فديمقراطية التعليم لا تتحقق في توفير الفرص التربوية المتكافئة فحسب، وإنما في ي توفير الإمكانيات المتكافئة للتحصيل التربوي بين أفراد المجتمع وهذا هو جوهر الديمقراطية التربوية (99). وبناء على هذا فإن غياب تكافؤ فرص التعليم يمثل انتهاكا للديمقراطية
الهوامش :
99- علي وطفة علم الاجتماع التربوي وقضايا الحياة التربوية المعاصرة، مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع، الكويت، 1998 ، ص 217
الصفحة115
التربوية كما يعلن المفكر الفرنسي روجيه جيرو Roger Giro ويشكل في الأمر توزيعا غير عادل للخيرات المادية والروحية في المجتمع (100). ي نهاية
فالتربية هي نوع من الخيرات المادية والروحية في أن واحد، وهذا يعني في نهاية الأمر أن المساواة، في ميدان التربية والتعليم، تتجسد في عملية التوزيع المتكافئ لهذه الخيرات، وتمكين أفراد المجتمع كافة من الحصول على نصيب متكافئ منها.
إن التحديد الذي سقناه لمفهوم تكافؤ الفرص التعليمية يتباين إلى حد ملحوظ مع عدد كبير من التحديدات التي تعبر عن وجهات نظر مختلفة، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى تحديد غاستون ميالاريه Miliaret Gaston الذي ينظر إلى المساواة التربوية بوصفها : إمكانية متاحة، أمام الأطفال كافة، من أجل الحصول على تعليم متكافئ يتكيف مع استعداداتهم العقلية الخاصة، وذلك بشكل مستقل عن تأثير الشروط الاجتماعية الخارجية : كالوضع الاقتصادي والاجتماعية لعائلاتهم (101). ومن الملاحظ ي أن تحديد ميالاريه يركز على أهمية الاستعدادات العقلية والـ ذكاء كمب دأ أساس لديمقراطية التربية، وهو بذلك يتجاهل طبيعة العلاقة الجدلية القائمة بين الاستعدادات العقلية وجذورها الضاربة في ارض الحياة الاجتماعية.
لقد أثار مفهوم التكافؤ في فرص التعليم جدلا فكرياً واسعا بين مختلف الاتجاهات الفكرية والفلسفية ولا سيما فيما يتعلق بالدور الاصطفائي للمدرسة في المراحل العليا من التعليم، حيث تقوم المدرسة بعملية اصطفاء وفقا لمعايير الذكاء والاجتهاد ولعوامل اجتماعية مختلفة. وهذا يعني أن شروط الدخول المتكافئ إلى المدرسة لا تضمن تأكيدا للممارسة الديمقراطية في المدرسة. فالأطفال يدخلون إلى المدرسة ولكن شريحة منهم واسعة تغادرها كرها لأنها لا تستطيع أن تواكب سيروراتها المدرسية وعوامل الاصطفاء فيها. فالمدرسة تفتح أبوابها للجميع ولكنها تترك مجال الاستمرار فيها لمن
الهوامش:
100 - Giraud Roger, Inégalités sociales, P.U.F., Paris, 1984, p. 3.
101- Melarit Gaston, Vocabulaire de l'éducation et des sciences de l'éducation,
Paris, M.O.F., 1979, p. 199.
الصفحة116
ي انتظمت يمتلك القدرة على الاستمرار، وهذا يكرس في نهاية الأمر مبدأ البقاء للأقوى والأصلح والأقوى والأصلح، والأقوى هم في غالب الأمر هـ ؤلاء الت شروط حياتهم في أفضل تجلياتها، أما الأضعف فهم هؤلاء الذين خرجوا من مستنقع الحياة إلى دائرة صراع لا يملكون لها غير الضعف والعجز والهزيمة.
لقد تطور مفهوم تكافؤ الفرص التعليمية وأصبح يتجلى في مفاهيم جديدة اليوم مثل : إلزامية التعليم ومجانيته، وبدأت كثير من البلدان تعتمد إجراءات متطورة لتدعيم تكافؤ الفرص مثل صفوف التقوية، ووضع برامج خاصة للطلاب الذين يجدون صعوبات دراسية، وتقديم مساعدات مدرسية ومادية للأطفال الذي يتحدرون من أوساط اجتماعية . )102( متدنية
التفاعل الديمقراطي
ساد في أدبيات علم الاجتماع التربوي ولا سيما في مرحلة الستينات والسبعينات ي تعريف للديمقراطية التربوية قوامه: أن الديمقراطية تعني تكافؤ الفرص التعليمية في الوصول إلى التعليم والاستمرارية في دوراته المختلفة. ولكن المفهوم الجديد المعاصر بدأ يتجاوز هذه الحدود ويؤكد الأهمية الكبيرة للقيم الديمقراطية في السلوك في داخل المؤسسات المدرسية، بما تنطوي عليه هذه المفاهيم من حقوق المشاركة، والحرية في إبداء الرأي والنقد، والإدارة الديمقراطية للمدرسة، وتأسيس الحياة المدرسية على تقدير الفرد من قبل الآخرين وتقديره لنفسه، واعتباره قيمة عليا في ذاته وتعويده على المناقشة الحرة المنظمة (103). ی
الهوامش :
102 انظر: شبل بدران ديمقراطية التعليم في الفكر التربوي المعاصر، دار قباء للطباعة
. 147-119 والنشر، القاهرة 2000، صص
103 - اليونيسكو، ستقبل التعليم في المنطقة العربية خلال العقدين 1980-2000، مجلة التربية الجديدة، مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في البلاد العربية، العدد 21، 1981، ص 107.
الصفحة117
فالديمقراطية ليست شيئا يودع في عقول الأفراد، بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم وهذه الاستجابة يجب أن تتم وتحدث في داخل المدرسة وفي سياق علاقات التفاعل القائمة بين أفرادها (104). والمدرسة بدورها نسيج من العلاقات الاجتماعية والثقافية يقوم بين مكونات وجودها ، وفي إطار هذا النسيج يمكن للعلاقات الاجتماعية، من حيث طبيعتها، أن تأخذ اتجاهين مختلفين فهي إما أن تأخذ اتجاها يتميز بالمرونة أو طابعا يتصف بالتصلب. فالعلاقات المدرسية قد تأخذ صورة علاقات ديمقراطية تتميز بالمرونة والعفوية أو صورة علاقات تسلط تتميز بطابع التصلب والجمود. ويتأسس على ذلك أن غياب العلاقات الديمقراطية في المدرسة يفسح المجال لنماء علاقات التسلط والاستبداد، وعلى خلاف ذلك فإن غياب علاقات التسلط والإكراه يعني بالضرورة حضور القيم الديمقراطية في الجامعة.
فالأداء الديمقراطي للمدرسة يشكل الدورة الدموية للحياة المدرسية بما تنطوي
عليه من وظائف متنوعة، وبالتالي فإن دراسة الأداء الديمقراطي للمدرسة يشكل مقدمة ضرورية لتقصي مستوى الحياة الديمقراطية وطابعها في المجتمع بصورة عامة، وذلك انطلاقا من أهمية العلاقات الوشيجة بين المدرسة والمجتمع، فالمجتمع يشكل الحاضن الأساسي للمدرسة وهي بالتالي تمثل الصورة المستقبلية التي سيكون عليه هذا المجتمع
في معارج نمائه وتطوره الداخلي.
لم يعد دور المؤسسات التربوية في إطار المجتمع المعاصر مجرد تقديم معرفة أو ثقافة إنسانية عامة وشاملة، بل أصبح هذا الدور معنياً بأداء مهمات جديدة تستجيب لحاجات متجددة أبرزها: بناء الخصائص الحضارية للإنسان الذي يمكنه أن يتجاوب مع طابع تطور الحياة على نحو يأخذ فيه الذكاء الاجتماعي أهمية متزايدة ومتنامية. لقد بدأت المهمة الأساسية للمؤسسات التربوية تتمحور حول بناء الإنسان المواطن Citoyen الذي يستطيع أن يتجاوب مع معطيات الحضارة وقيمها المتجددة.
الهوامش :
104 باولو فراريري، تعليم المقهورين، ترجمة يوسف نور عوض دار القلم، بيروت، 1980، ص 58.
الصفحة118
وتأسيسا على هذا يمكن القول بأن الديمقراطية التربوية تقوم على أساسين هما:
- احترام قيمة الفرد وذاتيته كغاية في حد ذاتها.
بناء قدرة الأفراد على تنظيم أمور حياتهم وتوجيهها نحو تحقيق المصالحالمشتركة لكل من الأفراد والمجتمع. وعلى هذا الأساس ينبغي أن تتاح لهم الفرصة والحرية في ممارسة هذه القدرة وهذا التوجه الإنساني (105).
تعليم الديمقراطية
يقول توماس جيفرسون TomasJefferson: إذا أرادت أمة ما أن تكون حرة وجاهلة في دولة مدنية فهي تطلب المستحيل" وعلى خلاف ما يجري في المجتمعات التسلطية التي تريد أن تطبع شعوبها بسمة الخضوع والسلبية في إن هدف التعليم الديمقراطي هو بناء الإنسان القادر على تحقيق استقلاله، والقادر على ى أن يطرحأسئلة وأن يحلل الأشياء بدرجة عالية من الذكاء مع دراية واسعة بمبادئ الديمقراطية وأساليب ممارساتها.
يقول تشيستر فين Chester.E.Finn: يستطيع أي إنسان أن يعلن حاجته الفطرية إلى الحرية ولكن لا يمكن لأي إنسان أن يولد وهو مزود بمعرفة حول ما يمكن للمؤسسات السياسية والاجتماعية أن تفعله من أجل أن تجعل الحرية ممكنة بصورة دائمة له ولأطفاله. فهذه الأشياء يجب أن يكتسبها المرء ويجب أن يتعلمها أيضا. ومن هذه الزاوية لا يكفي القول بأن واجب المعلمين في مجتمع ديمقراطي أن يتجنبوا عملية التطبيع الخاصة بالأنظمة الشمولية وأن يقدموا ثقافة حيادية في مجال القيم السياسية، لأن ذلك غير ممكن ولأن أي تعليم يعمل على غرس قيم وأيديولوجيات وتطلعات ذات طابع سياسي. ومع ذلك في إن التلاميذ يمكنهم أن يتعلم وا مبادئ الديمقراطية وأن يكونوا لأنفسهم خصائص روح منفتحة ومتحررة، وهذه الروح تع ]
الهوامش :
105 سيد محمد الجيار، التربية ومشكلات المجتمع مجموعة دراسات دار القلم الكويت 1985، ص 100.
الصفحة119
ضرورية ولا تقدر بثمن بالنسبة للنظام الديمقراطي. وهنا يجب تشجيع الأطفال على أن يعيدوا النظر في الفكر التقليدي وفق حجج عقلية وعبر بحث منظم كما أنه يمكن للمقررات الدراسية أن تقدم بمنهجية ديمقراطية تمكن الأطفال في المستقبل من فهم الأحداث السياسية واتخاذ المواقف الديمقراطية إزاءها.
مهما تكن رغبة الإنسان في امتلاك الحرية، فإن هذا لا يكفي لامتلاكها حيث يتوجب عليه أن يتعلمها ويدرك أسرارها. وإن أي مجتمع يريد أن يبقى حرا عليه أن يؤكد على الأهمية الكبيرة للتعليم الديمقراطي وإدراك المبادئ الديمقراطية. وعلى عاتق المدرسة يقع جانب كبير من مسؤولية تعليم الأطفال على القيم الديمقراطية عبر الحياة المدرسية والتفاعل التربوي الديمقراطي الحر.
والتعليم لا يجب أن يقف عند حدود تعريف الأفراد بالمبادئ الديمقراطية أو كيفيات ممارستها فحسب، بل يجب أن يمتد إلى توليد معاني الحرية والقيم الديمقراطية في نفوس التلاميذ. فالديمقراطية يجب أن تعلم ومن ثم يجب توليد قيمها ومشاعرها في ي ي نفوس الطلاب والتلاميذ عبر الممارسة الحية الخلاقة في حياتهم المدرسية. وتعليم الديمقراطية يجب أن يرتبط بمختلف الموضوعات التي يباشرها الطلاب في المدرسة وأن يرتبط أيضا بما يحدث خارج المدرسة، وباختصار فإن تعليم الديمقراطية يش كل جوهر الحياة الثقافية والاجتماعية.
هذا ويمكن لعملية التربية الديمقراطية أن تأخذ أشكالا مختلفة ومتنوعة جدا. فالمدرسة تشكل الإطار العام للعملية الديمقراطية في المستوى التربوي، ومع ذلك فهي ليست المجال الوحيد لتعلم الديمقراطية، ففي المجتمع الديمقراطي يمتلك المواطنون الحق في ثقافة ديمقراطية وليس من حق أحد أن يجعل من هذه القضية مجرد موضوع للدعاية السياسية الحكومية السائدة.
ومع ذلك فإنه لا بد من تأكيد حرية المؤسسات الدينية في بناء المدارس الدينية، وحق الأفراد أيضا والمؤسسات الأخرى في تأسيس مثل هذه المدارس، كما يمتلك
الصفحة120
الآباء الحق في تعليم أطفالهم في المنزل، ومثل هذا التنوع يشكل مصدرا ض رورياً للتنوع والاختلاف والتعددية في المجتمع الديمقراطي.
تأخذ المناهج الديمقراطية في المدرسة أشكالا وصيغا مختلفة، والمواد الديمقراطية يمكن أن تدرس بصورة منفصلة أو بطريقة مدمجة (مع مواد أخرى مثل الجغرافي .
والتاريخ والأدب والعلوم الاجتماعية، فالمبادئ الديمقراطية يمكن أن تشكل موضوعا تدور حوله المناهج الاجتماعية والتاريخية، ومهما تكن طريقة تدريس هذه المبادئ فإنه يجب التركيز على بعض الموضوعات الأساسية التي تمكن الطلاب من فهم المعاني الديمقراطية :
أصل الديمقراطية وتجليانها الأولى حيث يتوجب على الشباب معرفة طبيعة نمو وتطور الأفكار الديمقراطية.
ي ي - معرفة مسار وظروف الأفكار الديموقراطية، ولاسيما في العصور القديمة الإغريقية والرومانية وعند المسلمين والمسيحيين، وبالتالي في العصور الوسطى وعصر النهضة والإصلاح والثورة الفرنسية، ومن ثم في عصر التنوير والثورة الأمريكية والفرنسية، ويجب على هذا المنهج أن يتضمن دراسة بعض الوثائق الهامة مثل ، إعلان حقوق الإنسان، والدساتير الديمقراطية، والإعلان الفرنسي حول حقوق الإنسان.
- يجب على الطلاب أن يقوموا بمساعدة المدرسين على تحليل مستويات الممارسة العملية للنظريات الديمقراطية، وذلك في مختلف العصور، وهنا يجب دراسة تطور المجتمعات الديمقراطية القديمة والحديثة، دون تجاهل بعض القضايا التي تطرح نفسها مثل: أين ازدهرت الديمقراطية وأين أخفقت ولماذا ؟ وما الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عززت مسيرة الحياة الديمقراطية والتي اعتمدت عليها الأنظمة الديمقراطية ؟ ما الأوضاع والصعوبات التي اعترضت نمو هذه الديمقراطيات وازدهارها؟ من الذي دافع عن الديمقراطية ومن الذي حاو لهزيمتها ؟ وكيف استطاعت الحكومات الديمقراطية أن تنظم نفسها من أجل تأكيد احترام مبدأ الأكثرية وتأكيد
الصفحة121
الحقوق الفردية. وهذا يعني بالضرورة أن الديمقراطية التربوية هي هذه التي تنمي عند الإنسان قيم الحرية والحق والمشاركة والعدل والمساواة (106).
ويمكن لنا أن نميز في هذا التركيب الديمقراطي المعقد عدة جوانب :
قيم الحرية من حرية القول والتفكير والتغير والممارسة.
قيم التواصل الاجتماعي، التي تؤكد قيم قبول الآخر على ى مبدأ الاختلاف والتواصل مع الآخر على مبدأ الحوار والمشاركة.
- قيم العدالة الاجتماعية، الت تتض من قيم الحق والمساواة والكرامة الإنسانية (107). ي
المبادئ الديمقراطية ودورها في بناء الإنسان
تنطلق التربية الديمقراطية من قيم الحب والتسامح، وترتكز إلى المبادئ التربوية الحديثة ذات الطابع الإنساني، وتسقط معها الحواجز النفسية بين أطراف العملية التربوية، وتتنافى فيها كل أشكال العنف والقسر والإكراه في العمل التربوي.
ومن هذا المنطلق يعتمد الآباء الديمقراطيون أساليب التبصر والتفهم التربوي العميق لطبيعة الأطفال ومشكلاتهم ويتبنون المبادئ التربوية الحديثة. فالتربية التي يعتم دونها هي التربية الحرة التي ترسخ مبدأ مركزية الطفل وغائية له، حيث يكون الطفل محور العملية التربوية وغايتها. فالتربية الديمقراطية تعتمد مبدأ النمو الذاتي الحر للطفل وهي تنطلق من أهمية الخصوصية السيكولوجية والجسدية للتلاميذ التي تشكل منطلق المربي في عمله التربوي.
الهوامش :
عمر محمد خلف، ديمقراطية التعليم العالي في الدول العربية، مجلة اتحاد الجامعات 106
100العربية، عدد 21 مارس / آذار، 1986، صص (81-104)، ص
107 عبد العزيز الحر، مدرسة المستقبل، مكتب التربية العربي لدول الخليج، دار الكتب القطرية الدوحة، 2001، ص 28 .
الصفحة122
وتقوم التربية الديمقراطية على المبادئ التالية
1 - مبدأ الحرية
الحرية هي المبتدأ والخبر في التربية الديمقراطية، ويأخذ هذا المبدأ صيغا متنوعة تتمثل في الحرية النفسية والحرية الجسدية والحرية العقلية.
ونعني بالحرية النفسية أن لا يكره الطفل على تبني مواقف واتجاهات عاطفية أو انفعالية ولا سيما السلبية منها مثل مشاعر الحقد والكراهية والنفور، وأن يترك للطفل حرية التكوان السيكولوجي وفقا لمعايير موضوعية قوامها التسامح والتضحية والعطاء .
ويقصد بالحرية العقلية أن لا يشحن ذهن الطفل فيما لا يرغب فيه وأن يفكر فيما ليس من شأنه وأن يكره على تبني معتقدات وقيم خارجة على إرادته أو اهتماماته الطفولية.
أما الحرية الجسدية فتتمثل في أن يترك للطفل ولا سيما في مراحل حياته الأول حرية اللعب والحركة والانطلاق دون قيود أو حدود تعيق عملية نموه وازدهاره. ی
وتشير الدراسات الجارية في ميدان الحياة التربوية أن الحرية التربوية هي من أكثر العوامل خطورة في بناء الفكر ونمو المنطق واللغة والروح النقدية. وتشير هذه الأبحاث أيضا إلى أن الحرية التربوية المتاحة هي الفضاء الذي ينم و فيه التكامل الإنساني برمته وأنه من غير هذه الحرية، ينحدر الوجود الإنساني للطفل إلى مستوياته الدنيا، ويفقد الفرد واحدا من أهم معانيه الإنسانية. فالمعاملة الديمقراطية التربوية تعني إطلاق حرية الطفل ليسأل ويجيب، ليخطئ ويصحح . خطأه ليشارك في مجرى الدرس
وليعبر عن عن أحاسيسه ومشاعره (...) إنها تعني مراعاة حاجات الطفل وإقناعه وليس قسره وإكراهه (108).
الهوامش :
بو علي ياسين على دروب الثقافة الديمقراطية، حوران للنشر ، دمشق، 1994، ص 206. 108
الصفحة123
2 - مبدأ الحب
الحب حاجة إنسانية أصيلة تضرب جذورها في العمق الإنساني، وهي تشكل منطلق نمو الفرد وازدهاره، وقديما قيل بالحب يحيا الإنسان والحب عامل ازدهار وتكون وصيرورة إنسانية ومن غيره تصبح حياة الإنسان جحيما تقتل فيه مكامن الإبداع والعطاء. والحب قيمة إنسانية تعانق الحرية وتنمو بها وتتنافى مع كل صيغ القسر والإكراه، ومن هنا فإن التربية الديمقراطية تناشد الحب الشامل وتنميه في قلوب الأطفال وتحيطهم به بلا حدود، لأنها تشكل الركن الأساسي وحجر الزاوية في ي أية تربية ديمقراطية خلاقة.
ويعد الحب من أهم الحاجات الانفعالية التي يجب إشباعها عند الأطفال، وعن دما ي يحرم الطفل من إشباع هذه الحاجة يفقد عنصر تكامله النفسي والإنساني ولا سيما في المراحل الأولى من حياته. وتشير الدراسات الجارية في هذا الخصوص أن أكثرية المنحرفين والمجرمين هم هؤلاء الذين قد نشؤوا في بيئات أسرية متسلطة حرمتهم من أهم الحاجات الإنسانية إلحاحا وأهمية وهي الحاجة إلى الحب.
والحقيقة أن الطفل في تنشئته الأولى بحاجة إلى أن ينهل من حب الآخرين من جهة ي وإلى أن يغدق حبه على الآخرين من جهة أخرى. والأسرة الديمقراطية هـ الت ي تستطيع أن تحقق التوافق النفسي لأطفالها في هذا المجال، حيث توفر له م الحب وتجعلهم قادرين على بذله وعطائه للآخرين.
3 - مبدأ التجربة الذاتية للطفل
تنطلق التربية الديمقراطية من مبدأ التجربة الذاتية التي تؤكد أهمية النمو الذاتي الحر للطفل، حيث يترتب على الأبناء أن يعتمدوا على تجربتهم الشخصية في ي بناء تصوراتهم وقيمهم وفعالياتهم وعلى مبدأ المشاركة مع غيرهم من أفراد الأسرة في بناء التجربة الخلاقة والمبدعة.
الصفحة124
ومن هذا المنطلق تسعى التربية الديمقراطية إلى دفع الأطفال إلى دائرة الاعتماد
ی ي على الإمكانيات الذاتية الخاصة بهم وعلى مبدأ النتائج الطبيعية لسلوكهم وذلك في حدود الإمكانيات المتاحة التي لا تلحق الأذى بالأطفال. وهنا يترتب على الطفل أن ينمو وفقا لمعاناته الخاصة ولتجربته الإنسانية المتفردة مع الأشياء التي تحيط به. ومن هنا أكدت التربية الطبيعية على أهمية هذا المبدأ وعلى مبدأ التربية السلبية التي تركز على أهمية الجهد الخاص للطفل بعيدا عن تجارب الراشدين وانطباعاتهم.
فالإنسان بطبعه ميال إلى الاعتماد على تجربته الذاتية ليثبت وجوده، وهذه الحاجة تجسد لديه حالة الشعور بالاستقلال والقوة، ومن هذا المنطلق يسعى الطفل إلى أن يحقق ذاته وأن يمتحنها في ميادين الحياة وفي خضم التجارب المتاحة له. ويمكن القول في هذا المستوى إن الحاجة إلى الاعتماد على الذات تشكل منطلقا ركنيا من منطلقات الوجود الإنساني ومن أسس إحساسه بالوجود.
4 - مبدأ الحوار
يعد الحوار منطلق التجربة الديمقراطية في عملية التواصل التربوي، ويقوم هـ ذا المبدأ على أساس من حرية النقد وإبداء الرأي بعيدا عن قيم الخجل والخوف والوجل والإرهاب. ووفقا لهذا المبدأ يترتب على الأطفال أن يعلن وا عن آرائهم وقيمهم وانتقاداتهم وأن يطرحوا أسئلتهم في أجواء حرة متكاملة تدفع بهم إلى مزيد من النم و والعطاء نفسياً وعقلياً.
لقد بينت التجارب التربوية الأصيلة أن الحوار بين أفراد الأسرة ينمي ملكات الطفل الفكرية والعقلية والانفعالية. فالحوار هو العملية التي ينتقل بها العقل الإنساني من
حالة السكون إلى حالات النشاط التي تدفع به إلى النماء والتطور.
فالعقل يتطور في فضاءات يضمنها أسلوب الحوار والنقد والتساؤل. ومن جهة أخرى تشير الخبرات التربوية أن اللغة لا تنمو إلا من خلال الحوار النشط الذي يقوم
الصفحة125
بين الطفل والمحيطين به، وأن الأطفال الذين لا تتاح لهم هذه الفرصة يعانون من خصاء ذهني ومن ضمور شديد لإمكانياتهم العقلية والنفسية والوجدانية.
5 - مبدأ المسؤولية
وهو المبدأ الذي يمنح كل فرد إحساسا عميقا بمسؤولياته الخاصة دونم ما قي ود أو رقابة غير رقابة الضمير والقناعات الراسخة في النفس. فالسلوك الديمقراطي ينبع من الذات الإنسانية وهو يرتكز على مبدأ الإحساس بالمسؤولية، والإنسان في هذا المستوى يحقق ذاته بعيدا عن كل أشكال الرقابة والخوف، وفي مثل هذه الأجواء الحرة المسؤولة تتم عملية بناء الشخصيات قادرة على تحقيق التفوق والابتكار.
ويعد مبدأ المسؤولية وثيق الصلة بمبدأ الحرية، فالحرية هي الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان وجدانياً ونفسياً وانفعاليا ، ومن هذا المنطلق يمكن القول بـ أن مبدأ المسؤولية يترابط مع مبدأ الضرورة وهو يعني في نهاية الأمر قدرة الفرد على تحمل نتائج أفعاله وأن يكون قادرا على تقدير المدى الذي يجب أن تنساب فيه حريته.
6 - الاحترام والتوازن
تقوم علاقات التسلط التربوية على مبدأ الإكراه وعلى علاقات التبعية : كالعلاقة بين السيد والمسود، والغالب والمغلوب، وبين القوي والضعيف. ويكون الاحترام في إطار هذه العلاقة موجه من الطرف الأضعف إلى الأقوى، ويتمثل هذا في ي المبدأ التقليدي المعروف الذي ينص على احترام الكبير والعطف على الصغير. وعلى خلاف ذلك كله تؤكد التربية الديمقراطية على أهمية الاحترام باتجاهاته المتوازنة والمتكافئة، ومع أن الطفل ليس راشدا صغيرا كما يؤكد العرف الديمقراطي فهو كيان متكامل جدير بكل احترام وتقدير، والتقدير والاحترام هنا هما حاجة أصيلة ضاربة الجذور في العمق السيكولوجي عند الأطفال.
الصفحة126
فالتربية الديمقراطية تربية تسعى إلى تلبية الحاجات الأساسية للإنسان وهي الحاجة إلى الحب والحنان الحاجة إلى التقدير، الحاجة إلى الإحساس بـ الأمن، الحاجة إلى الإحساس بالانتماء الحاجة إلى بناء التجربة الذاتية، وأخي را الإحساس بالأهمية والوجود. وتمثل هذه الحاجات قوام الإحساس بالهوية والوجود ومقومات الشخصية المتكاملة.
7 - مبدأ الاستقلال
ي تنطلق التربية الديمقراطية من مبدأ التربية الاستقلالية والتربية الاستقلالية هـ التربية التي تعمل على تربية الطفل وفقا لمبدأ الاعتماد على الذات في حل مشكلاته وفي قضاء حاجاته وذلك بالقدر الذي تسمح له قدراته.
قضاء فالتربية الاتكالية لا تتيح للطفل الاعتماد على نفسه في حل مشكلاته وفي حاجاته وذلك على الرغم من تمتعه بالقدرات التي تعينه على القيام بها، بل تعود الطفل على الاتكال والاعتماد على الآخرين في الوصول إلى غاياته، وعلى هذا الأساس ينشأ ضعيف الشخصية كثير التبرم بالحياة متشائما . وإذا واجهته صعوبة من الصعوبات لجأ إلى من يعينه على مواجهتها مهما بلغ به العمر وبذلك يعجز عن مواجهة صعوبات الحياة ويحاول أن يتهرب منها بكل ما أوتي من وسيلة وحيلة.
نتائج التربية الديمقراطية وعواقبها
تعمل التربية الديمقراطية على بناء الإنسان المتوازن المتكامل نفس ياً واجتماعياً وعقلياً. ومن هنا لا يمكن أن نتحدث عن آثار سلبية للتربية الديمقراطية لأن قوام هـ ذه التربية هو العمل على تلبية الحاجات النفسية والعقلية والاجتماعية للأطفال، ومبدؤها يتمثل في تحقيق الازدهار والتكامل في الشخصية الإنسانية. ومن هذا المنطلق يمكننا أن نشير إلى بعض الخصائص الإيجابية التي تنميها مثل هذه التربية في الشخصية الإنسانية. ي
الصفحة127
تنمي التربية الديمقراطية في الإنسان مجموعة من السمات والخصائص الإنسانية الخلاقة. فهي تعمل على تنمية الذكاء وقدرة الفرد على الإبداع والتعلم والتفوق في ميادين التحصيل العلمي والمعرفي، وتعزز قيم الإنجاز والعمل في كافة ميادين الحياة. وتؤدي التربية الحرة، في المستوى النفسي، إلى تحقيق الذات وقبولها، وإلى تعميق مشاعر الثقة بالنفس، وتحقيق التوافق النفسي في صيغه المتكاملة، وإلى بناء قيم الحب الإنساني الشامل والميل إلى المبادرة والتكيف والإحساس بقيمة الآخر، وتعزيز القيم الإنسانية القائمة على أسس الحوار والحرية والتفاهم والتفاعل الإنساني الخلاق والشامل. ی
لقد بينت الأبحاث التي أجراها من وللر Muller-Wolf في ه ذا الميدان أن السلوك ي الديمقراطي يضع أسس الرضا ونمو الإبداع والاستقلالية، والاتزان الانفعالي، والميول الاجتماعية عند الفرد وعلى خلاف ذلك بينت هذه الأبحاث أن التسلط يؤدي إلى انخفاض الدافعية عند الطفل، وضعف قدرته على التركيز، وزيادة في توتره الداخلي، وميله إلى الثورة والغضب وإلى المسايرة؛ وتؤيد هذه النتائج بحوث أخرى كثيرة. وقد كشفت نتائج الأبحاث التي تناولت التنشئة الاجتماعية عن جوانب عديدة منها:
ي - يعاني الأطفال الذين ينشؤون في بيوت متشددة من مظاهر الخوف والانطواء والاضطراب النفسي والاعتماد على الغير. أما أطفال الآباء الديمقراطيين الذين ينشؤون في بيوت متزنة في أسلوب التنشئة الاجتماعية يكونون أكثر اعتدادا بالذات، وأكثر قدرة على التعبير عن أنفسهم وأكثر قدرة وحرية وميلا إلى الاستقلال. ی
يكون الأطفال الذين نشؤوا في إطار تربية متسلطة أكثر ميلا للعدوان وأكثر سلبية وأقل قدرة على التنافس وعلى التوافق الاجتماعي. أما الأطفال الذين ينشؤون في بيوت متسامحة فإنهم يتميزون بالمثابرة ويكونون أكثر قدرة على المنافسة وأكثر استقلالا وتعاونا مع الغير.
يتميز الأطفال الذين ينتمون لأمهات محبات وعاطفيـات بـ الاتزان والشعور بالأمان والاطمئنان والإحساس بالسعادة والرضى، وعلى خلاف ذلك يشعر أطفال الأمهات المسيطرات بالبؤس ويعانون من سرعة الاستثارة وكثرة الحركة. هذا ويعد تقبل الأم لطفله ا شرط ضروري لتنشئته تنشئة اجتماعية سليمة. والنقص في هذا التقبل يحبط حاجة الطفل إلى الحب ويزيد من مقاومته لتمثل قواعد المجتمع الذي يعيش فيه.
الصفحة128
الفصل السادس: بين المدرسة والأسرة
بين المدرسة والأسرة
تعد دراسة العلاقة بين المدرسة والأسرة من الموضوعات المطانية لما تشتمل عليه هذه العلاقة من تنطوي على متغيرات كبيرة، وهذا يعني أنه لا يمكن تحديد طبيعة هذه العلاقة على نحو قطعي لأن مياها جديدة دائمة تتحرك في عمق التفاعل بين المؤسستين. ومن أجل تقديم صورة لدرجة التعقيد الممكنة سنحاول أن نقدم تصورا لمنظومة كبيرة من المتغيرات التي تحكم العلاقة بين المؤسستين.
إذا كاقت التربية فقا، فإن هذا الفن لا يعمل في مادة جامدة، كفن القحت بل ديناميات تعكس علاقات الإنسان في مادة حية قطوي في ذاتها على مبدأ قموها بالوجود. فالأسرة كما المدرسة توما الإكويقي
فالتلميذ ينتمي في الوقت الواحد إلى عالمين عالم المدرسة من جهة، وعالم الأسرة من جهة أخرى. والطفل يشكل صلة وصل بين عالمين قد يكونا مختلفين أو متقاربين إلى حد كبير . فالعلاقة بين المدرسة والأسرة علاقة بالغة التعقيد والخطورة لأن كلاهما يعملان على تحقيق هدف واحد مشترك هو التربية والتنشئة الاجتماعية بكل ما تنطوي عليه هذه العملية من صعوبات ومخاطر وتحديات. فالتناقض بين المؤسستين إمكانية
دائمة وبالتالي فإن شخصية الطفل هي التي يترتب عليها أن تحتوي صدمات التناقض ومخاطر الاختلاف ومن هنا تأتي خطورة مسألة العلاقة بين المؤسستين المعنيتين.
الصفحة131
وتمثل كل من المدرسة والأسرة نظاماً تربوياً يتميز بطابع الاستقلال النسبي، وكل منهما ينطوي في داخله على منظومة من المتغيرات الدينامية المعقدة المتكاملة في صورتها العامة. وهذا يعني أن كل متغير يستجلب تحولات جديدة في بنية النظام العام وفي بنية العلاقات القائمة بين هذا النظام والأنظمة التربوية أو الاجتماعية الأخرى.
ومن أجل توضيح هذه الفكرة يمكن القول بأن الأسرة تتكون من عدة متغيرات أهمها : الوضع الاقتصادي والوضع الثقافي للأبوين، وطبيعة السكن، وعدد الأطفال ومهنة الأبوين، وفلسفة الأبوين في تربية الأطفال. وفي المقابل نجد بـ أن المدرسة تتكون من عدة متغيرات مثل: المعلمون والتلاميذ والإدارة والمناهج والفلسفة التربوية التي تتبناها المدرسة والمستوى الثقافي والعلمي الذي بلغه المعلمون.
وبين المدرسة والأسرة رة هناك نظام آخر يتشكل ويتمثل هذا النظام في الطفل النامية الذي يتكون من جوانب نفسية ومعرفية وأخلاقية وجسدية. ي شخصية
ويمكن تحديد العلاقة بين الأنظمة الثلاثة على الشكل التالي:
ي الأسرة والمدرسة تعملان على إحداث تغيرات في شخص الطفل في المستوى المعرفي كما في المستوى القيمي والأخلاقي، وهو ما يمكن أن يطلق عليه عملية التنشئة الاجتماعية والإعداد للحياة المهنية والاجتماعية.
ووفقا لهذه الصورة ومن أجل دراسة العلاقة بين المؤسستين يمكن أن ندرس العلاقة الخطية بين التأثير العام لكل منظومة في شخصية الطفل كما يمكن أن ندرس تأثير كل متغير من المتغيرات ذات الصلة في بناء شخصية الطفل. مثال ذلك: تأثير ثقافة الوالدين في بناء شخصية الطفل، أو تأثير عمل الأم سلبا أو إيجابا في بناء هـ ذه الشخصية. وينسحب هذا على متغير عدد الأطفال داخل الأسرة، والقيم التربوية الت ي يتبناها الأبوين في العملية التربوية للطفل.
الصفحة132
وفي مستوى المدرسة يمكن أن نتحدث عن متغيرات متعددة مثل: مستوى تأهيل المعلم، والمناهج المستخدمة، والغايات التربوية، والعلاقة بين الطفل والمعلم. فه ذه المتغيرات تؤثر أيضا في العملية التربوية للطفل.
وعلى أساس الصورة التي قدمناها لأنساق المتغيرات يمكننا أن ندرس تأثير كل متغير من متغيرات الأسرة والمدرسة في مسار بناء شخصية الطفل وص يرورته ي الاجتماعية. ويمكننا أن نعالج بعض اتجاهات التناقض والتوافق بين المؤسس تين في العملية التربوية ومدى تأثير ذلك في عملية نماء الطفل وتكونه. كما يمكننا أن ندرس في النهاية مفاصل العلاقة القائمة بين المؤسستين وإمكانية إحداث نوع من التوافق التربوي بينهما في عملية التفاعل المفترض بينهما.
بنية الأسرة ومكوناتها
يعرف أرنست بورجيس الأسرة بأنها وحدة من الشخصيات المتفاعلة (109). ويعرفها إجبيرن بأنها رابطة اجتماعية تتكون من زوج وزوجة وأطفال، أو بدون أطفال، أو من زوج بمفرده، أو زوجة بمفردها مع أطفالها (110). وفي هذا السياق نفسه ين درج تعريف برجس Burgess ولوك Lock إذ يعرفان الأسرة بأنها "بأنها مجموعة من قف الأشخاص يرتبطون معا بروابط الزواج أو الدم أو التبني، ويعيشون معا تحت س واحد ويتفاعلون وفقا لأدوار محددة (111) . فالأسرة بالنتيجة جماعة أولية تتميز بمكان إقامة مشترك وتعاون اقتصادي ووظيفة تكاثرية، ويوجد بين اثنين من أعضائها، على الأقل، علاقة جنسية مشروعة "(112).
الهوامش :
109- عز الدين دياب ميادين علم الاجتماع، جامعة دمشق، مطابع الوحدة، 1978 ، ص 299 .
110 عبد الله الرشدان، علم الاجتماع التربوي، دار عمان عمان، 1984، ص 13 .
111 عبد الله الرشدان، علم الاجتماع التربوي، المرجع السابق، 13 ص
112 عبد الله الرشدان، علم الاجتماع التربوي، مرجع سابق، ص 130
الصفحة133
ويمكن لنا على أساس التعريفات السابقة التي قدمنا للأسرة أن نحدد مكوناتها الأساسية على النحو التالي:
1. على المستوى المادي: تتكون الأسرة من أفراد كالزوج والزوجة والأطفال يعيشون في مكان واحد (المنزل).
2. تشكل الأسرة على المستوى الاجتماعي : وحدة اقتصادية ثقافية اجتماعية تربط بين أفرادها علاقة اجتماعية تعاونية وروحية.
-3- تمارس الأسرة وظائف متعددة بيولوجية (إنجابية)، تربوية (تنشئة اجتماعية) واقتصادية (تأمين الحاجات المادية).
-4- تشتمل الأسرة على منظومة من المراكز والأدوار مثل: مركز الأم، ومركز الأب، ومركز الطفل، ومركز الزوجة، ومركز الأخ والأخت وتقوم بين هذه المراكز نسق من الأدوار المتكاملة التي تعكس طبعة التفاعل بين أعضاء الأسرة.
5- يوجد في الأسرة نمط خاص من المعايير والقيم والمفاهيم التي توجه سلوك أفرادها وتنظم تفاعلاتهم المختلفة.
ولن نستطيع عبر مجموعة محددة من الصفحات أن نتناول جوانب العلاقة بين الأسرة والتنشئة الاجتماعية للطفل، وذلك لأن متغيرات الأسرة متعددة جداً ولا نستطيع أن نتناول جميع هذه المتغيرات بالدراسة ، مثل : حجم الأسرة، ومرتبة الطفل بين أخوته وثقافة الأم، وأسلوب التنشئة الاجتماعية المتبع في التربية، ومكان السكن، وغير ذلك من المتغيرات المتعددة، والأمر نفسه ينسحب على شخصية الطفل حيث يمكن أن نميز جوانب متعددة في شخصيته على المستوى الانفعالي والجنس والعمر ... الخ.
ولكننا إذا حاولنا أن نجمل هذه المتغيرات في نسق واحد يمكن أن نتحدث عن شخصية الأسرة وشخصية الطفل، وعن الجدل الذي يقوم بينهما، والعوامل الاقتصادية والثقافية، والتفاعلية للأسرة التي تشكل ما يسمى بوحدة المستوى الاجتماعي. ونعذي هنا بالمستوى الاجتماعي ذلك المركب الدينامي من سمات الأسرة وخصائصها ثقافياً
الصفحة134
واجتماعياً، ولغوياً، واقتصادياً. وعندما ننظر هنا إلى المستوى الاجتماعي للأسرة کنسق متكامل، يمكن لنا أن نصنفه في فئات، أو في ت درجات مئوية تبدأ من مستويات دنيا إلى مستويات عليا، وهذا يعني أن الأسرة التي تستجمع في بنيتها الشروط النموذجية (مستوى مادي ثقافي تفاعلي) هي الأسرة التي تستطيع أن تشكل المناخ النموذجي لتربية نموذجية متكاملة وهي الأسرة التي تستطيع أن تحقق أفضل الشروط الممكنة لتربية أصيلة متكاملة.
دور الأسرة وتأثيرها في مسار الحياة المدرسية للطفل
عندما يصل الطفل إلى المدرسة يكون قد أنجز حيزا كبيرا من نمائه العاطفي والنفسي والمعرفي. وبعض المفكرين يقدرون ذلك بصورة مبالغ فيها أحيانا، وهم بذلك ينطلقون من الأهمية الخاصة لمرحلة الطفولة على المستوى البيول وجي والنفسي والاجتماعي.
تؤثر الأسرة في بناء شخصية الطفل بفضل عاملين أساسيين هما:
النمو الكبير الذي يحققه الطفل خلال سنواته الأولى جسدياً ونفسيا ؛
قضاء الطفل لمعظم وقته خلال سنواته الأولى في عملية التعليم (113).
ويشير بلوم في هذا الصدد أن الطفل يكتسب 33% من معارفه وخبراته ومهاراته في السادسة من العمر، ويحقق 75% من خبراته في الثالثة عشرة من عمره. ويصل هذا الاكتساب إلى أتمه في الثامنة عشرة من العمر (114).
ويشير علماء البيولوجيا أيضاً أن دماغ الطفل يصل إلى 90 % من وزنه في السنة الخامسة من العمر، وإلى أن 95% من وزنه في العاشرة من العمر (115). ويؤكد غلين
الهوامش :
113 عبد الرحيم صالح عبد الله، الأسرة كعامل تربوي وتعاونها مع المدرسة في تربية
الأطفال، الاتحاد العام لنساء العراق، بغداد، 1979، ص 8.
114- عبد الرحيم صالح عبد الله، الأسرة كعامل تربوي، المرجع السابق، ص 9.
115 فاطمة جيوشي، التربية العامة، جامعة دمشق الوحدة دمشق، 1982 ، ص 27 .
الصفحة135
دومان أن 89% من حجم الدماغ الطبيعي ينمو خلال السنوات الخمس الأولى (116).
وهذا من شأنه أن يؤكد أهمية مرحلة الطفولة المبكرة في حياة الإنسان على المستوى البيولوجي. ومن المعروف أن نمو الدماغ أثناء الطفولة يترافق بزيادة مرموقة في القدرات العقلية عند الأطفال (117). ي
وليراجع علماء النفس غالبا الأمراض النفسية من مخاوف واضطرابات، وعقد نفسية إلى مرحلة الطفولة المبكرة، وإلى الخبرات النفسية القاسية التي يعيشها الطفل في هذه المرحلة. فإذا وجد الطفل خلال هذه المرحلة في كنف الأسرة، فإن للأسرة دورا حاسما في تحديد شخصية الطفل، وتحديد مستوى نمائه وتكامله على مختلف المستويات الانفعالية والمعرفية والجسدية والاجتماعية.
حيث يلاحظ زازو في هذا السياق :Zazo: أن الطفل يكون في غضون السنوات الثلاث الأولى من عمره قد حقق ما يلي:
1. يكون قد أنجز الجانب الأساسي من تراثه الوراثي.
2 اكتسب الوقوف على قدميه
3. لكتسب اللغة.
4. تكونت لديه خصائص انفعالية متنوعة (118).
فالطفل يصل إلى المدرسة وقد تبلور تربوياً إلى حد كبير . وهذا يعني أن المدرسة عندما تباشر دورها فإنها لا تباشره في أطفال على مبدأ الصفحات البيضاء فالطفل يحمل قيما وأفكارا وله شخصية محددة. ويمكن القول في هذا الصدد أن شخصية الطفل هي مجمل نتاج التأثيرات الأسرية السابقة للحياة المدرسية.
الهوامش :
116- خالد الطحان، دراسة حول بعض العوامل التي تسهم في التحصيل الدراسي ودور الأسرة فيها، المعلم العربي، السنة الحادية والثلاثون، العدد السابع، تموز، 1978 ) صص 5358) ، ص 505.
117 فاخر عاقل، علم النفس، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1977 ، ص 220.
1 118 فريق من الباحثين، علم النفس وميادينه، ترجمة وجيه أسعد مؤسسة الرسالة، بيروت، . 78بيروت 1993، ص
الصفحة136
فشخصية الطفل ومعارفه ومهاراته تمثل المنطلق الأول للعلاقة بين الأسرة والمدرسة والمدرسة بالتالي تمارس تأثيرها انطلاقا من معطيات أسرية سابقة.
وتأثير المدرسة سيواجه أو سيعزز بما يكون عليه الطفل قبل وصوله إلى المدرسة.
وهذا يعني أن تأثير المدرسة سيكون مرهونا بحصاد الفعل الأسري السابق. وهذا الحصاد قد يعزز نجاح التلميذ ونماءه، أو قد يشكل عقبة في مسار التطلعات المدرسية.
فالطفل الذي تلقى عناية في أسرته وأحيط بالرعاية قد يجد في المدرسة تشجيعا أكبر لأن حصاد التربية الأسرية يعزز مسار التوجهات المدرسية : الطفل الذي تعلم بعض ا من مبادئ القراءة والكتابة في البيت يمكنه أن يحقق نجاحا أكبر في المدرسة قياسا إلى الأطفال الذين لم تسنح لهم مثل هذه الفرص. فالأطفال يدخلون إلى المدرسة على مبدأ المساواة، ولكن الأقوى هو الذي يصبح أكثر قوة وأكثر قدرة على تحقيق النجاحوالتفوق. فالتلميذ ليعرف بماضيه وله سيرة سابقة لحياته المدرسية وهذا الماضي يشكل مع بدء الحياة المدرسية إرثا يمارس دوره الكبير في سيرته المدرسية ونجاحه المدرسي. ي
ي عندما يدخل الطفل إلى المدرسة لا يتوقف تأثير الأسرة بل يستمر قوياً فاعلا في مستوى نجاح التلميذ ومستوى تحصيله بصورة عامة. فعوامل الحياة الأسرية تمارس تأثيرها بفعالية كبيرة في السيرة المدرسية للطفل. ومن أهم العوامل الأسرية المؤثرة يشار إلى ثقافة الوالدين وتحصيلهما المدرسي، ثم اهتمامهما وعنايتهما بالطفل. فوضعية الأسرة تمارس تأثيرا دينامياً في حياة الطفل المدرسية بصورة عامة وعلى امتداد سنوات الدراسة. فالأب يستمر في الإشراف على أوضاع أطفاله المدرسية وقد يساعدهم في كثير من جوانب حياتهم المعرفية والعلمية.
وفي هذا المستوى تبرز أهمية التواصل بين الأسرة والمدرسة للعناية بالطفل وتنمية قابلياته الروحية والنفسية. إذ يجب على الأب في هذه المرحلة أن يولك ب مختلف تجليات الحياة المدرسية لأطفاله وأن يتعرف عن مستوى تقدم الطفل ومشكلاته ومعاناته، ويتم له ذلك بطرق متعددة من خلال الحوار مع الطفل أو من خلال
الصفحة137
الاتصال بالمعلم والمشرف الاجتماعي أو الإدارة. وهنا يتوجب أيضا على المعلم أن يعرف ظروف حياة الطفل النفسية والاجتماعية وأن يقدر تأثير هذا الواقع في حياة الطفل ليتاح له أن يقدم إمكانيات أفضل من أجل تنمية إمكانيات الطفل وتحقيق ازدهاره
إشكالية العلاقة بين الأسرة والمدرسة
تسعى كل من المؤسستين إلى تحقيق نماء الطفل وازدهاره وعندما يتعرض ازدهار الطفل ونماؤه للتراجع، أو عندما لا يتحقق له ذلك، فإن العلاقة بين المؤسستين تطرحنفسها بقوة من أجل ضمان تربية حقيقية مرغوبة للطفل. فتنظيم العلاقة بين المؤسستين يأخذ أهمية خاصة ودائمة لضمان مسار العملية التربوية بصورة صحيحة.
في نسق العلاقة بين المؤسستين يمكن التمييز بين عوامل متعددة يكون بعضها مرجعيا مؤثرا في مستوى تقدم الطفل مثل: ثقافة الأبوين ودخلهما، ومستوى المدرسة ونوعيتها، وطبيعة المناهج التربوية المستخدمة. في كل الأحوال في إن إيجاد صيغة للتنسيق تبرز بصورة كبيرة عندما يتعرض الطفل لصعوبات وإكراهات تؤثر في مسار حياته المدرسية والعلمية والشخصية.
فبعض العوامل والمتغيرات الأسرية أو المدرسية قد تتدخل للتأثير سلبا على مسار نماء الطفل : فالطفل الذي يتعرض لتسلط المعلم، أو هذا الذي يتعرض لتسلط أبيه، قد يعاني تراجعاً تربوياً وتحصيلياً في حياته المدرسية. وهنا يجب التدخل لمعرفة أسباب التأخر الدراسي عند الطفل، وتحديد منشأ هذا التأخر سواء أكان مدرسيا أو أسريا. ومثل هذا التدخل يجب أن يتم وينظم بين ذوي الطفل والإدارة المدرسية لتحديد طبيعة المشكلة. وفي هذا المجال يمكن القول بأن مشكلات الأطفال النفسية والتحصيلية تعود إلى ثلاثة مجموعات من العوامل هي:
أولا: عوامل مدرسية مثل: استبداد المعلمين، طريقة التعليم (التلقين)، مضامين المناهج ومدى علاقتها بحياة الطفل، القطيعة بين المدرسة وحاجات الطفل، غياب
الصفحة138
أجواء التفاعل الودي بين الأطفال والمعلمين، إهمال الجوانب النفسية عند الطفل، عدم قدرة المعلم على فهم وضعية الطفل النفسية والاجتماعية.
ثانيا: عوامل أسرية مثل : تصلب الأسرة في معاملة الطفل، غياب الوالدين، عمل الأم خارج المنزل، عدد الأخوة، مساحة المنزل، تأمين حاجات الطفل الأساسية والترويحية، إهمال الأبوين، تفكك الأسرة، ضعف مستوى تعليم الأبوين، التأكيد على أهمية الجانب التحصيلي على الجانب النفسي عند الطفل. ی
ثالثا : عوامل مدرسية وأسرية في الآن الواحد : قد تجتمع هذه العوامل دفعة واحدة فيصبح الطفل بين فكي الكماشة : الأسرة من جهة والمدرسة من جهة أخرى. وهذا يتحول الطفل إلى ضحية تربوية حيث تأتي التحديات الت ي يواجهها على ى حياته التحصيلية والنفسية في الآن الواحد.
تكمن إشكالية العلاقة بين المؤسستين في منظومة من التناقضات الحيوية التي تفصل بينهما. فالأسرة هي البيئة الطبيعة للطفل حيث يجد الحنان والحب والرعاية والتسامحغالبا. وعلى خلاف ذلك يجد الطفل في المدرسة عالم المواظبة والإلزام والعمل والانصياع للنظام. ويمكن تحديد هذه التناقضات على النحو التالي:
في الأسرة يستخدم الطفل مستويات لغوية مختلفة عن هذه التي يتكلمها في المدرسة.
في الأسرة يكون الطفل مركزا لاهتمام العائلة ولكنه في المدرسة يجد نفسه على مبدأ المساواة مع الآخرين. ی
للأسرة معايير تختلف عن هذه التي تسود في المدرسة.
الأسرة تلبي احتياجات الطفل بينما لا يجد ذلك في عالم المدرسة.
في الأسرة يجب عليه أن يتصرف وفقا لمعايير تختلف عن هذه الت ي توجد ف المدرسة. ي
وتبين لنا هذه التناقضات القائمة بين علمي الأسرة والمدرسة أهمية بناء جسور من الاتصال بين العالمين لتحقيق عالما أفضل للطفل يكون فيه التجانس بين المؤسستين أكثر قدرة على أن يأخذ بيد الطفل إلى بر الأمان.
الصفحة139
فالعلاقة بين المؤسستين كما بينا تخضع لمنظومة من العوامل والمتغيرات المستقلة والمتحولة والوسيطة في دينامية التأثير التربوي للمؤسستين. وقد اتضح لنا أيضا أن وضعية العلاقة بين المؤسستين تأخذ صيغ معادلات بسيطة أحيانا ومعقدة في أغلب الأحيان. وهذا يعني أن كل طفل يأخذ وضعية خاصة به في دائرة علاقته ي بالمدرسة والأسرة. وفي كل علاقة بين المدرسة والأسرة نجد صيغة علاقة ثلاثية أي بين أنظمة ثلاثة هي: النظام الأسري بكل مكوناته، والنظام المدرسي بكل فعاليات له، والنظام الشخصي للطفل بكل وضعياته النفسية والمعرفية.
ويمكن لنا الآن أن نقدم تصورا افتراضيا لطبيعة هذه العلاقة عبر نموذج متخيل أو معادلة تربوية مفترضة على النحو التالي:
إذا كان لدينا طفل ينتمي إلى أسرة تشتمل كل شروط الازدهار واليسر الثقافي والاقتصادي من تعليم الوالدين ومستوى دخلهما ، ومستوى السكن، وعدد أفراد أسرة المناسب، وإذا كان هذا الطفل يدرس في مدرسة ابتدائية حديثة بمستوياتها التربوية والاجتماعية فإنه يمكن لنا أن نتنبأ بأن هذا الطفل سيحقق نجاحاً تربوياً وعلمياً كبيرين. ولو افترضنا أيضا أنه يتابع دراسته في مدرسة متواضعة فإنه سيحقق نجاحا أقل وهذه النتيجة تنسحب على أغلب الأطفال الذين يعيشون مثل هذه الوضعية.
وعلى خلاف ذلك إذا كان لدينا طفل ينتمي إلى أسرة تفتقر إلى مختلف شروط الحياة الثقافية والاقتصادية من انخفاض تعليم الوالدين، ومستوى دخلهما، وتدني مستوى السكن؛ وافترضنا بالتالي أن الطفل يدرس في مدرسة ابتدائية تقليدية متدنية بمستوياتها التربوية والاجتماعية، فإنه يمكن لنا أن نتنبأ بأن هذا الطفل لن يحقق أي نجاح تربوي مفترض، وأن مصيره هو الخروج المبكر من المدرسة إلى سوق العمل. ولو افترضنا أيضا أنه يتابع دراسته في مدرسة حديثة فإننا سنصل إلى نتيجة مماثلة أيضا وهذه النتيجة تنسحب على أغلب الأطفال الذين يعيشون مثل هذه الوضعية أيضا.
يشير المثالان السابقان إلى حتمية الشروط الأسرية في عملية النماء والتطور العرفي عند الأطفال وبالتالي إلى محدودية الشروط المدرسية بصورة واضحة.
الصفحة140
أما المعادلات المعقدة فهي عندما يجد الأطفال شروطا استثنائية في طبيعة حياتهم الأسرية أو المدرسية مثال: طفل ينتمي إلى أسرة فقيرة بمختلف المعايير إلا أن الأم تملك وعياً تربوياً وثقافياً عالياً يمكن أن يكون الأب في هذا المثال ) وقد يصادف أن الطفل يقع بين أيدي معلمين من ذوي الخبرات العالية فقد يمكن للطفل عبر عمليات التشجيع المستمر أن يحقق نجاحا مدرسياً كبيرا أو مقبولا على الأقل. ومع ذلك في إن الحالات الاستثنائية تبقى إلى حد كبير استثنائية.
عندما يعاني الطفل يجب العمل على تحديد عناصر معاناته، وقد يكون في الحوار بين المدرسة والمنزل أهمية كبيرة لمصلحة الطفل. ولكن وكما يقال فإن درهم وقاية خير من قنطار علاج إذ يجب أن نواجه التحديات بصورة مستمرة وألا ننتظر وقوع الأطفال في مشكلات تتطلب التدخل.
وقبل بناء أنساق التعاون والتكامل بين المؤسستين يجب على الأبوين والمعلمين أن يدركوا الآثار الكبيرة التي تتركها عوامل الحياة الأسرية في حياة الأطفال وفي مدى قدرتهم على التحصيل والمتابعة وتحقيق النجاح، وعليهم في الوقت نفسه أن يدركوا أيضا تأثير العوامل المدرسية أيضا في تحديد مستويات نجاح الطفل واس تمرارية تقدمه.
العوامل الأسرية وتأثيرها في حياة الطفل المدرسية
يتوقف أثر الأسرة، في عملية التنشئة الاجتماعية، كما بينا سابقا، على نسق من العوامل البنيوية المكونة لها : كالأصل الاجتماعي، ومستوى الدخل، والمستوى التعليمي للأبوين، وعدد أفراد الأسرة، والعلاقات القائمة بين أعضاء الأسرة، والمفاهيم والقيم التي تتبناها الأسرة، وعلى الخصوص المفاهيم التي تتصل بأساليب التنشئة الاجتماعية.
الصفحة141
ويؤكد بيرت على أهمية هذه العوامل الأسرية بقوله: إن ألله يع العوامل وأكثره .
خطرا وتدميرا على حياة الفرد هي العوامل التي تدور حول حياة الأسرة في .)119( الطفولة
ويمارس كل عامل أسري دورا خاصا في عملية التنشئة الاجتماعية، ويتكامل ذلك الدور مع جملة التأثيرات التي تمارسها العوامل الأخرى. وتحقق هذه العوامل المختلفة للأسرة نوعا من التوازن والتكامل في التأثير في شخصية الأطفال.
ويمكن للباحث أن ينظر إلى تأثير الأسرة على أفرادها بوصفها نظاما متكاملا، أو من خلال تأثير بعض جوانب هذا النظام على الأطفال في نواحي متعددة، أهمها: الجانب الانفعالي، والجانب المعرفي، والجانب الاجتماعي في شخصية الطفل
يتمثل الجانب الانفعالي، عند الطفل في جملة من الخصائص النفسية الخوف، والخجل، والجرأة والإحجام، والغضب، والثقة بالنفس، والإحساس بـ الأمن العاطفي والنزعة إلى الاستقلال، أو التسلط والكراهية والعدوان الحب أو الحق د، سرعة الانفعال، القلق، الاستسلام، الخضوع، المبادرة، الروح النقدية.
ويتمثل الجانب المعرفي في مستوى ذكاء الطفل مستوى تحصيله المدرسي ومستوى خبراته ومعارفه عن الوسط وقدراته التحصيلية.
ويتمثل الجانب الاجتماعي في قدرة الطفل على تمثل المعايير السلوكية الخاصة بحياة الجماعة، وعلى التكيف في منظومة العلاقات الاجتماعية القائمة في يوسط الجماعة. حيث يتميز سلوك الطفل بالمرونة الاجتماعية والقدرة على إقامة علاقات اجتماعية متوازنة في إطار الجماعات التي يترتب عليه أن يعيش في Oui .
ومما لاشك فيه أن الجوانب المذكورة تشكل وحدة أساسية هي: شخصية الفرد أو الكائن الاجتماعين، وذلك حين أخذ بعين الاعتبار أن الشخصية هي: نظام متكامل من
الهوامش :
119 أحمد عزت راجح أصول علم النفس، المكتب المصري الحديث، الإسكندرية، 1970, ص534.
الصفحة142
النزعات الثابتة نسبياً، والتي تميز فرداً معيناً، وهي التي تقرر الأساليب المميزة لتكيفه مع بيئته المادية والاجتماعية (120).
ونعني بشخصية الطفل، الوحدة الدينامية التي تتشكل من الجوانب الانفعالية والمعرفية والاجتماعية. ويتبين مما سبق أننا أمام نظاميين: أسروي، وشخصي، كل منهما يؤثر في تكوين الآخر ويحده. فالأسرة بوصفها نظاما متكاملا يسعى إلى خلق نظام جديد هو شخصية الطفل التي تتكون في إطار الأسرة. والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه هنا هو : كيف تؤثر الأسرة في تحديد شخصية الطفل وما العوامل الت تباشر تأثيرها؟ je
العامل الثقافي للأسرة
يتحدد العامل الثقافي في الأسرة، على المستوى الإجرائي، بمستوى تحصيل الأبوين المدرسي، ومستوى الاستهلاك الثقافي الذي يتمثل في عدد الساعات التي يقضيها الأبوان في قراءة الكتب والمجلات كما في نوع المواد المقروءة. حيث بينت الدراسات الجارية في هذا الخصوص، أن هناك تباينا في أساليب التنشئة الاجتماعية بين الأسر بتباين المستويات الثقافية للأم والأب. وقد تبين أيضا أن الأبوين يميلان إلى استخدام الأسلوب الديمقراطي في التنشئة الاجتماعية وإلى الاستفادة من معطيات المعرفة العلمية في العمل التربوي كلما ارتفع مستوى تحصيلهما المعرفي أو التعليمي. وعلى العكس من ذلك يميل الأبوان إلى استخدام أسلوب الشدة كلما تدنى مستواهما التعليمي.
وتبين نتائج الدراسة التي أجراها صفوح الأخرس في سوريا على عينة واسعة تقدر بأربعمائة أسرة سورية أن هناك علاقة ارتباطية قوية بين مستوى Le taux d'intérêt est de 7 à 6 % par rapport à la quantité totale d'argent. إلى استخدام الشدة في التربية مقابل 25% عند الآباء الأميين. Le taux d'intérêt est de 48,9% Le taux d'intérêt est de 15 %
الهوامش :
120 أحمد زكي صالح، علم النفس التربوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1972, ص 30.
الصفحة143
فقط عند الآباء الأميين. وتشير الدراسة إلى نتائج مماثلة فيما يتعلق بأسلوب التربية ومستوى تعلم الأم. (121).
وفي سياق آخر تبين الدراسات الجارية أن مستوى تحصيل الأطفال أبناء الفئات التعليمية العليا يكون أفضل من مستوى تحصيل أبناء الفئات التعليمية الدنيا. وتلك هي النتيجة التي توصل إليها الباحث الفرنسي بول كليرك Paul Clerc في دراسة له حول دور الأسرة في مستوى النجاح المدرسي في فرنسا على عينة وطنية من التلاميذ، في مستوى المرحلة الإعدادية وذلك عام 1963 ، حيث يعلن أن النجاح المدرسي للأطفال يكونون على وتيرة واحدة بالنسبة للأطفال الذين يكونون لآباء ذي مستوى تحصيل واحد وذلك مهما يكن التباين في مستوى دخل العائلة الاقتصادي، وعلى خلاف ذلك، إذا كانت دخول العائلة المادية متفاوتة فإن نجاح الأطفال يتباين بمستوى تباين المستوى التحصيلي لآبائهم (122). وفي هذا الخصوص يعلن كل من بيير بوردی و Bourdieu وباسرون Passoron في جلّ أعمالهما عن الدور الكبير الذي يلعبه العامل الثقافي على مستوى التحصيل المدرسي للأطفال (123).
.)124( لـ لأب وقد تبين لنا في دراسة أجريناها عام 1985 حول عينه من طلاب جامعة دمشق أن عدد الطلاب في التعليم العالي يميل إلى التزايد وفقا لتدرج ثقافة الأب الحاصلة وأنه م يتوزعون في الفروع العلمية الهامة كلما تم التدرج في السلم التعليمي وتشير نتائج دراسات أخرى إلى أهمية العلاقة بين المستوى الثقافي لـ لأب وحاصل الذكاء عند الأطفال، ونمط شخصياتهم ومدى تكيفهم، وتدل هذه الدراسات إلى ارتباط قوي بين طموح الأطفال العلمي والمهني، والمستوى التعليمي لرب الأسرة. ويعود
الهوامش :
-121 - صفوح الأخرس، علم الاجتماع العام، المرجع السابق، ص 214، انظر جدول رقم (5).
122- Watfa Ali, Les inégalités sociales dans l’enseignement supérieur du français, Caen, 1988, p. 640.
123 Watfa Ali, Inégalité des chances ; Etude de la question dans la société syrienne aujourd'hui, Université de Caen, Caen, 1985, p. 48.
-124- ملكة أبيض، علم الاجتماع التربوي، مطابع مؤسسة الوحدة ، جامعة دمشق، 1982، ص 81.
الصفحة144
تأثير العامل الثقافي إلى جملة عوامل: كمستوى التوجيه العلمي للأبوين، وأنماط اللغة المستخدمة ومستوى التشجيع الذي يقوم به الآباء نحو أطفالهم.
العامل الاقتصادي للأسرة
يتم تحديد العامل الاقتصادي للأسرة بمستوى الدخل المادي الحاصل، ويقاس ذلك من خلال الرواتب الشهرية أو الدخول السنوية التي يتقاضاها أفراد الأسرة. وغالباً ما تحسب نسبة الدخل بتقسيم الدخول المادية على ی عدد الأفراد. ويقاس المستوى الاقتصادي أحيانا بقياس مستوى ممتلكات الأسرة من غرف، أو منازل، أو سيارات أو عقارات أو من خلال الأدوات التي توجد داخل المنزل : كالتلفزيون والفيديو... الخ.
وتتباين هذه المؤشرات بتباين مناهج البحث المستخدمة في هذا المجال. ويلعب الوضع المادي للأسرة دورا كبيرا على مستوى التنشئة الاجتماعية للأطفال، وذلك في مستويات عديدة على مستوى النمو الجسدي والذكاء ، والنجاح المدرسي وأوضاع التكيف الاجتماعي.
وتبين الدراسات العديدة أن الوضع الاقتصادي للأسرة يرتبط مباشرة بحاجات التعلم والتربية. فالأسرة التي تستطيع أن تضمن لأبنائها حاجاتهم المادية بشكل جيد من غذاء، وسكن، وألعاب، ورحلات علمية، وامتلاك الأجهزة التعليمية : كالحاسب، والفي ديو، والكتب، والقصص . تستطيع أن تضمن من حيث المبدأ الشروط الموضوعية لتنشئة اجتماعية سليمة، وعلى العكس من ذلك فإن الأسر التي لا تستطيع أن تضمن لأفرادها هذه الحاجات الأساسية لن تستطيع أن تقدم للطفل إمكانيات وافرة لتحصيل علمي، أو معرفي في مكافئ. وبالتالي فإن النقص والعوز المادي سيؤدي إلى شعور الأطفال بالحرمان والدونية، وأحياناً إلى السرقة والحقد على المجتمع. ويلعب هذا العامل دوره بوضوح عندما تدفع بعض العوائل أطفالها للعمل المبكر، أو الاعتماد على مساعداتهم وهذا من شأنه أن يكرس لدى الأطفال مزيداً من الإحساس بالحرمان والضعف ويحرمهم من فرص تربوية متاحة لغيرهم.
الصفحة145
تشير الدراسة التي قام بها المعهد العالي في هينو بفرنسا، التي أجريت على تسعة وعشرين صفاً، وعلى عينة تقدر بحوالي 620 طالباً وذلك من أجل تحديد مستوى الذكاء وفقاً لمستوى دخل أسرة التلاميذ، إلى وجود علاقة ترابط قوية بين المستوى الاقتصادي للأسرة، وحاصل الذكاء عند التلاميذ. وتشير نتائج هذه الدراسة إلى فوارق كبيرة بين حاصل الذكاء بين هؤلاء الطلاب، حيث بلغ متوسط الفروق المئوية للمتوسطات بين أبناء الفئة الميسورة والفئة الفقيرة (37) نقطة، وهي ( 20) نقطة لصالح أبناء الفئة الميسورة، و (170) نقطة عند أبناء الفئة الفقيرة، وقد بلغ هـ ذا التباين (85) نقطة في اختيار القراءة، و (96) نقطة في اختبار الإملاء، و (45) نقطة في اختيار الحساب (125).
وقد بينت الدراسة نفسها أن الأطفال الذين يتعرضون للرسوب هم في الأغلب من أبناء الفئات الفقيرة حيث بلغت نسبة الرسوب عند أبناء الفئة الميسورة 5،5 % و %28.2 % عند أبناء الفئة المتوسطة، و 47.4 % عند أبناء الفئات الفقيرة (126). ويذهب كثير من الباحثين اليوم في مجال علم الاجتماع التربوي، إلى الاعتقاد بـ أن الطلب التربوي من قبل الأسرة يتم عبر مفاهيم التوظيف والاستثمار، وبالتالي في إن الأسر الميسورة تستطيع أن تمول دراسة أبنائها وتحصيلهم من أجل تحقيق مزيد من النجاح والتفوق (127).
تدفع الأسر الفقيرة أبناءها إلى سوق العمل في مراحل مبكرة من حياتهم وقبل إتمام دراستهم. وفي هذا الصدد يذهب المفكر الأمريكي ايليتش إلى الاعتقاد بأن اللامساواة المدرسية تنبع من اللامساواة الاقتصادية بشكل مباشر . ويؤكد على أهمية هذه الفكرة أيضا المفكر الفرنسي بيير بودون Boudon حيث يذهب إلى القول بـ أن العام ل
الهوامش :
125- Watfa Ali, L'inégalité des chances ; ouv. La Ville, p. 56.
126 - Watfa Ali, Inégalité des chances ; ouv. La Ville, p. 56.
127- Watfa Ali, L'inégalité des chances ; ouv. La Ville, p. 52.
الصفحة146
الاقتصادي للأسرة يلعب دوراً محدداً على مستوى نجاح أبنائها "(128)، ويرى جاك هالاك في هذا السياق أن الأسرة توظف بعضاً من دخلها في عملية التربية والتعليم وذلك من شأنه أن يعطي للأطفال الذين ينحدرون من أسر غنية في رص أفضل في متابعة تحصيلهم المدرسي والعلمي (129).
تأثير الوضع المهني للأب
ي عند يلاحظ الباحثون وجود ترابط وثيق بين مهنة الأب ومستوى النمو العقل الأطفال. ويتمثل القانون الناظم للعلاقة بين المهنة وحاصل الذكاء، في ي أن حاصل الذكاء يرتفع تدريجياً كلما تم الصعود في السلم المهني للأب. ومن أهم الدراسات التي أجريت في هذا المجال البحث الذي أشرف علية المجلس الاسكوتلاندي للبحوث التربوية الذي تناول عينة واسعة قدرت بحوالي سبعين ألف طفل. وقد بلغ عدد الأطفال الذين أظهروا حاصل ذكاء عالي ( 113 وما فوق 20% من مجموع عدد أفراد العينة. وتم توزيع هؤلاء الأطفال وفقاً للفئات المهنية لآبائهم وقد تبين أن 66 % من أبناء أساتذة الجامعة والمهن الحرة ينتمون إلى فئة الأطفال الأذكياء مقابل 10 % من أبناء العمال المهنيين غير المؤهلين (130).
وقد بينت الدراسة التي أجريناها في فرنسا عام 1988 حول اللامساواة الاجتماعية في التعليم العالي الفرنسي أن الالتحاق بالجامعة والنجاح فيها واختيار الفروع العلمية الهامة (الطب الهندسة ) أمور مرهونة إلى حد كبير بالانتماء الاجتماعي المهني للطلاب وقد توصلت الدراسة إلى النتائج التالية:
الهوامش :
128- Jacques Hallaq, À qui profite l'école, P.U.F., Paris, 1974, p. 128.
129- Jack Hallaq, Celui qui a gagné l'école, même source, p. 82.
130- Syrien du souvenir d'aujourd'hui du D.E.A. Université de Caen.,
Caïn, 1985, p. 52.
الصفحة147
1 - أبناء الفئات المهنية العليا (أطر عليا ومهن حرة أكثر التحاقاً وتواجدا في الجامعة من أبناء الفئات المهنية الدنيا عمال زراعيين).
2- تزداد نسبة نجاح الطلاب كلما توجهنا صعوداً في السلم الاجتماعي المهني.
3 - تزداد نسبة التحاق الطلاب في الفروع العلمية الهامة كلما توجهنا نحو الفئات المهنية العليا والعكس صحيح. أي أن أبناء العمال والمزارعين والموظفين غالبا ما يتواجدون في الفروع العلمية الأقل أهمية . حيث تبين الدراسات الجارية في فرنسا اليوم أهمية الانتماء المهني للأب في تحديد مصير الطلاب على مستوى التحصيل العلم في المدارس العامة وفي الجامعات (131). ي
الصدمة المدرسية اللقاء الأول بين الطفل والمدرسة
يشكل اللقاء الأول بين الطفل والمدرسة نوعا من الصدمة الوجودية بالنسبة للطفل حيث ينتقل وللمرة الأولى إلى عالم جديد تسوده قوانين وقيم غير هذه التي عرفها في إطار أسرته. في أجواء هذه الصدمة النفسية يجد الطفل نفسه في غمرة علاقات جديدة تتطلب منه وإلى حد كبير الاعتماد على ذاته في التكيف مع الآخرين كما تتطلب منه إدراكا لحدود حريته وعلاقته بالآخر. فالحدث المدرسي يترك في نفس الطفل انطباعات مؤلمة تترك بصماتها في وجدان الطفل وفي بنيته السيكولوجية على مدى الحياة.
وبقدر ما يستطيع الطفل تجاوز هذه الصدمة يستطيع في المستقبل أن يحقق توافق ا ی كبيرا مع عالم المدرسة ومع مقتضيات النجاح فيها. وفي هذه المرحلة يتوج ب على ذوي الأطفال وعلى المعلمين أيضا أن يبذلوا قصارى جهدهم في تقديم الدعم العاطفي والإنساني لمساعدة الأطفال على تجاوز الصدمة الفطامية الأولى: قد تكون هي المرة
الهوامش :
131- Watfa Ali, Les inégalités sociales dans l’enseignement supérieur, Caen, 1988, p. 640.
الصفحة148
الأولى التي يغادر فيها الطفل منزله ويترك أبويه للتكيف مع عالم جديد وغريب ومختلف عن عالمه الأسري إلى حد كبير أو صغير.
ويدرك الأهل غالبا أن دخول الطفل إلى المدرسة سيشكل بداية لمعاناة جديدة، حيث تبدأ الصعوبات غالبا مع هذه المرحلة العمرية. ويعتقد اليوم أغلب الباحثين أن المدرسة الابتدائية تلعب دورا حاسما في حياة الطفل وفي تحديد مسار حياته المدرسية. فالسنوات الخمس أو الست الأولى التي يقضيها الطفل في أحضان المدرسة الابتدائية تساعد الطفل في عملية لكتساب الأدوات الأساسية للمعرفة كالتعبير الشفوي والكتابي والقراءة والحساب والحس النقدي والقدرات الفيزيائية والرياضية.
وفي هذه المرحلة يتوجب على الآباء والمعلمين تحقيق درجة عالية من التنسيق في سبيل احتواء الصعوبات التي يواجهها الطفل في المدرسة وتمكين الطفل من السيطرة على عالمه الجديد وامتلاك معايير السلوك والتكامل مع وسط المدرسة بما ينطوي عليه هذا الوسط من تناقضات وإشكاليات.
المجالس التربوية مخمدات العلاقة بين المدرسة والأسرة
في نسق الإشكاليات التي تطرحها العلاقة بين المؤسستين تطرح المجتمعات الحديثة أهمية المجالس التربوية التي تشكل صورة متقدمة لآليات التفاعل بين المؤسستين وتحقيق نوع من التنسيق التربوي المتكامل بينهما . لقد تطورت هذه المجالس بصورة واسعة في البلدان الغربية وتركت ممارسة المجالس هذه تراثا غنياً بعطاءاته الفكرية والاجتماعية. ومن أهم هذه المجالس يشار:
- مجالس المعلمين
- مجالس الآباء ومجالس الأمهات أيضا .
- مجالس الطلاب والتلاميذ.
مجالس الآباء والمعلمين.
الصفحة149
ولكل من هذه المجالس وظيفتها وأهميتها ولكن الوظيفة الأساسية لهذه المجالس تكمن في تحقيق التوازن والتكامل بين الأسرة والمدرسة في تحقيق تكامل العملية التربوية من أجل نمو الأطفال وازدهارهم.
وقد بدأت هذه المجالس تأخذ بعين الاعتبار المبدأ الديمقراطي في اختيار أعضائها وممثليها ومن ثم اختيار ممثلين لكل مجلس من المجالس الأخرى.
فعلى سبيل المثال يشمل مجلس المعلمين على ممثلين من مجالس الأولياء ومن مجالس الطلاب والتلاميذ. وكذلك هو الحال بالنسبة إلى مجالس الأولياء. والهدف من هذا التمثيل زيادة درجة الاتصال وفاعلية التنسيق بين هذه المجالس التي أصبحت مؤسسات ضرورية وفاعلة في بنية العمل التربوي بصورة عامة.
النشاطات التربوية بين عالم الأسرة وعالم المدرسة
تبين وقائع الحياة التربوية أن إحدى كبريات المشكلات التي يعانيها العمل التربوي في المدرسة يتمثل في الهوة التي تفصل بين عالم المدرسة وعالم الأسرة؛ ومن هـذا المنطلق فإن المدارس الحديثة تسعى اليوم إلى هدم هذه الهوة عن طريق المشاركة الحقيقية للآباء والمعلمين والتلاميذ في نشاطات متنوعة فنية واجتماعية وتربوية ومن هذه النشاطات يشار إلى:
1 - احتفالات وندوات رحلات نشاطات يشارك فيها الآباء إلى جانب المعلمين والأطفال.
2 - مشاركة الآباء - كل حسب اهتماماته - في تقديم بعض الدروس والمحاضرات عن طبيعة مهنهم أطباء ومهندسون وتجار وموظفون بنكيون ورجال سياسة وجنود.. الخ. فقد يقتضي الأمر إعداد برنامج زمني يحضر فيه الآباء على اختلاف مهنهم ليحاوروا الأطفال ويقدمون لهم تصورات عن طبيعة مهنهم ويجاوبونهم عن أسئلتهم كل فيما يتعلق بمهنته . وهذه هي إحدى أهم الأساليب المعتمدة في هدم الهوة القائمة بين المدرسة والحياة.
الصفحة150
3- قد يمكن لبعض الأسر أن تنظم نشاطات اجتماعية أو حفلات تربوية تغطيها من التبرعات أو من مشاركة رمزية من قبل الأطفال.
4- يمكن ومن خلال التعاون بين الأولياء وإدارة المدرسة إقامة بعض المشروعات الاقتصادية التي يشارك فيها التلاميذ وأوليائهم ومعلميهم مثل : مكتبة وقرطاسية في داخل جدران المدرسة، كافتيريا ، صيدلية، دكان حلاقة وقص شعر التلاميذ، وأشياء أخرى من هذا القبيل ويمكن رصد جزء من ريع وأرباح هـذه المشاريع لصالحالنشاطات الطلابية المشتركة.
ماذا يجب على الآباء والمعلمين في مواجهة تحديات المدرسة والأسرة يلاحظ أن أغلب المعلمين يهملون الجوانب النفسية والاجتماعية عند الأطفال ويركزون على أهمية الجوانب التعليمية الخالصة مثل الرياضيات واللغات وغير ذلك. وغني عن البيان أن نجاح الطفل الشامل ليس مرهونا بالجوانب التعليمية فحسب وعلى خلاف ذلك فإن الاقتصار على الجوانب التعليمية يؤدي إلى الحد من إمكانيات الطفل وقدراته الإبداعية. فذكاء الطفل يصطدم بالحواجز التقليدية التي تحاصره ولا سيما التركيز على المواد المدرسية التقليدية التي تعرض بصورتها المملة المعارضة لكل إمكانيات الإبداع والابتكار.
إن المهمات الأولى للآباء الذين يرغبون في أن يحققوا لأطفالهم فرص نمائية واسعة تكمن في إعطاء الطفل فرص اكتشاف العالم : عالم الفن والرسم والموسيقى والسينما والحفلات. فمثل هذه الجوانب تنمي في الطفل أحاسيسه الإنسانية وتنهض بذكائه العام.
ويضاف إلى ذلك أنه يجب أن نعرف الطفل بالأسس العامة للثقافة التي ينتمي إليها، ويمكن لمثل هذا العمل أن يبدأ بصورة متواضعة ومبسطة لكنها قادرة على إيقاظ رغبة الطفل في الكشف والاستطلاع والإبداع. وهذا من شأنه في النهاية أن ينمي في الطفل اتجاهات ثقافية ضرورية له من أجل متابعة دراساته الثانوية والجامعية.
الصفحة151
الطفل سيبدي بالضرورة مزيدا من الاهتمام ودرجة أكبر من النجاح عن دما ي يمارس لكتشافاته للعالم بمختلف جوانبه مع والديه فعندما يشارك الأب طفله في قراءة لوحة فنية وعندما يستمع مع طفله إلى موسيقى معينة، فإن هذا يعطي الطفل إمكانية كبيرة في تنمية ذكائه وتكثيف طموحاته في الكشف والاستطلاع والإبداع.
لقد بينت التجربة العلمية والأبحاث الجارية في ميدان الطفولة، بـ أن الأطفال المبدعين والمتميزين في المدرسة ، هم أولئك الذين يوجدون في حالة انهماك دائم وهم مشغولون دائما بنشاطات رياضية وفنية وثقافية واجتماعية، لأن مثل هذه النشاطات تؤدي إلى بناء الشخصية وتنمية القدرة على الفعل والأداء الجيد.
ويقترح بعض المفكرين في حالة الإخفاق المدرسي، أنه يجب أن نعلم الطفل ممارسة نشاطات رياضية أو فنية، لأن ذلك يمثل أداة رائعة من أجل إخراج الطفل من دائرة الإحباط والقلق وتجنيبه الألم، ولأن ذلك يؤدي إلى تأكيد ثقته بنفسه ويساعده في الكشف عن جوانب أخرى من الكفاءات الإنسانية والمواهب.
الاستماع إلى الطفل
من أجل أن نعرف الطفل جيدا يجب أن نستمع إليه، وعندما يكون الطفل صغيرا فإن الأم يمكنها أن تفهمه جيدا. وعندما يكبر الطفل فإن كل شيء يصبح ممكنا ومع ذلك فإن الآباء غالبا لا يملكون الوقت الكافي ليحدثوا أطفالهم ويناقشونهم بما فيه الكفاية.
فالطفل بحكاياته وشغبه وأقاصيصه يبدو رائعا ولا سيما إذا أتيح له أن ينطلق في أجواء المحبة العائلية والقبول العائلي. وإنه لمن الضرورة بمكان أن نعرف بـ أن الاستماع إلى الطفل أمر في غاية الأهمية، وذلك لأن حرية الطفل في الحوار أمر ضروري لنمائه وتطوير قدرته على التعبير والإبداع، وبالتالي فإن قدرته هذه مرهونة بما يتاح له من حرية الحوار والمناقشة وإبداء الرأي.
الصفحة152
فالحب والحرية يجب أن يشكلا قاعدة أساسية في سلوكنا مع الأطفال، ومن
المفيد جدا أن يتحدث الطفل عن يومه المدرسي وعن علاقاته في داخل المدرسة: ما قام به في المدرسة، ردود فعل المعلم نحو سلوكه ما درسه ما شاهده، ما فهمه وما لم يفهمه. والطفل عندما يتحدث فإنه يشعر بالارتياح ويتحرر بالتالي من الشحنات النفسية الضاغطة التي سببتها بعض ظروف الحياة المدرسية، وهذا يساعده بالتالي في الاستعداد لممارسة نشاطه اليومي بصورة فاعلة ومتجددة.
وعندما يستمع الآباء إلى الطفل يجب عليهم ألا يصدروا الأحكام حول ما قام به الطفل لأن ذلك يؤثر سلبا في مشاعر الطفل، ويكفي أن يتم التعليق بهدوء ومحبة على بعض ما يقوله، وأن يجعلونه يدرك بأن ما يقوله قد فهم جيدا ، وأن الاهتمام موجه نحو ما يقوله. وإذا كان الطفل في حاجة لمساعدة أو تدخل فيجب على الكبار ألا يترددوا في تقديم المساعدة الممكنة. فعندما يحتاج الطفل إلى مساعدة في حل مشكلة مع معلمته أو مع أحد رفاقه فيجب أن تقدم له المساعدة والمشورة في كيفية العمل. قد نقترح عليه مثلا إجراء حوار موضوعي مع المعلمة وذلك لتفادي صراع قد يقع بينه وبين بعض رفاقه في المدرسة.
الاتصال مع المعلمين الاتصال مع ذوي الأطفال
وقد يحدث أن تكون بعض المشكلات التي يواجهها الأطفال على درجة عالية من الصعوبة والتعقيد وأنه لا يمكن للحوار مع الطفل أن يؤدي إلى إيجاد الحلول المناسبة. وفي مثل هذه الحالات المستعصية يجب على الآباء التدخل والتواصل مع المعلمين وإدارة المدرسة من أجل التوصل إلى الحلول المناسبة.
ي وعندما يريد الآباء التدخل يجب عليهم أن يأخذوا بعض الاعتبارات الهامة الت تتصل بوضعية المعلمين والمدرسين. فالمعلمون غالبا ما يتعرضون لهجوم الآباء، وهذا يجعلهم مع دورة الزمن بالغي الحساسية فيما يتعلق بالآباء وذوي الأطفال، وقد يصعب عليهم تحمل المضايقات الصغيرة بسبب حساسيتهم المفرطة، وذلك لأنهم لا
الصفحة153
يحصلون دائما على الاحترام الذي يستحقونه من قبل الآباء . وهذا يعني أن أي تدخل واتصال مع المعلم يجب أن يكون مبررا كفاية، وأن يعرض بطريقة موضوعية ومن غير عنف أو حساسية ووفقا لمبادئ الاتصال الجيد والإدراك الجيد للوضع العام.
وفي المقابل عندما يشعر المعلمون بأن بعض الأطفال يعانون بعض المشكلات المعقدة أو الصعبة، يجب عليهم استدعاء أولياء التلاميذ، وأن يحاوروا الآباء بـ ذكاء وعناية يتجنبون معها إيذاء مشاعرهم. وفي كل الأحوال فإن تبادل الاتصال بين الطرفين يعد عملية تربوية ضرورية لسلامة العمل التربوي وتجنيب الأطفال مغبة الانحراف وتوجيههم في المسار الصحيح.
الواقع التربوي للطفل العربي بين الأسرة والمدرسة
ي تعيش الأسرة العربية أزمة تربوية شاملة تفوق إلى حد كبير حدود الأزمة الت تعيشها المدرسة. فالأسرة العربية ببنيتها التربوية ما زالت تشكل المناخ الأفضل والأكثر قدرة على تشويه الطفل روحياً ونفسياً وعقلياً. فالأسرة العربية أسرة أبوية بطرياركية تعتمد التسلط في عملية التنشئة الاجتماعية. وهذا بدوره يؤدي إلى إخصاء الطفل نفسياً وعقلياً.
تعطل الأسرة العربية في الطفل كل إمكانيات الإبداع والتفكير وتقتل فيه كل نوازع العبقرية عبر أواليات تربوية متنوعة تؤكد في الطفل عنصر الطاعة والخضوع والامتثال. وهي تعمل على أن تغرس في نفس الطفل كل رواسب الماضي السحرية والخرافية والأسطورية وذلك يعود إلى انتشار الأمية وانخفاض مستوى الوعي التربوي.
تهمل الأسرة العربية بصورة عامة الجوانب النفسية للطفل وتتبنى كما هو الحال في المدرسة العربية كل المبادئ التقليدية لتربية مثل : الطفل راش د صغير، الطفل صفحة بيضاء، الطفل ينطوي على نزعة شريرة في طبيعته وأنه على التربية أن تستأصل هذا الشر الأصيل، تؤكد الأسرة على مبدأ التعليم وليس مبدأ التربية المتكاملة.
الصفحة154
وكما بينا سابقا تعزز المدرسة العربية هذه القيم ذاتها. ومن هنا يقع الطفل بـين
شركين وبين مطرقتين وبين إكراهين وبين عالمين كلاهما يجسد العبودية والإكراه والتسلط والقهر، وكلاهما يعمل على اعتقال العقل وهدم الطاقة الذهنية ودفع الطفل العربي وبلا حدود إلى ظلمات العبودية والخضوع والامتثال.
فالتربية ما بين المدرسة والأسرة تمثل إكراها وجودياً يدفع الطفل إلى جحيم المعاناة ي الإنسانية التي لا حدود لها على الإطلاق. وإذا كانت المدرسة والأسرة يتكاملان في العالم المتقدم على حماية الطفل ورعايته وتحقيق نمائه وازدهاره فإن هذا التعاون بين المؤسستين يتجه إلى تدبير كل الوسائل التي تقمع الطفل وتؤدي بذكائه وإمكانيات تفتحه وعطائه في عالمنا العربي.
ومع أن المجالس التربوية قد ولدت تحت تأثير الحاجة إلى العناية بالطفل وتحقيق نمائه، إلا أن هذه المجالس في حال وجودها في مدارسنا بدأت تلعب دورا تسلطياً جديدا في المدرسة العربية يضيق الخناق على عنق الطفل. فهاجس هذه المجالس هو كيف يمكن أن نجعل الطفل أكثر صمتا ومطواعية وأكثر هدوءا وخضوعا باختصار تركز هذه المجالس على مبدأ ترويض الطفل وتشديد مراقبته بين الأسرة والمدرسة.
وخلاصة القول أن رعاية الطفل في نسق التعاون بين المدرسة والأسرة يحتاج إلى نمو كبير وتاريخي في مستوى الوعي الاجتماعي والتربوي بالنسبة للآباء والمعلمين. وهذا يعني أنه يجب على كل المؤسسات التربوية والإعلامية والعلمية أن تنهض بوعي أفراد المجتمع أولياء ومعلمين وقادة وجندا وأطفالا بأهمية التربية القائمة على معطيات المعارف العلمية والنفسية الحديثة في مجال التربية التي تهدف إلى بناء الإنسان الحر المتكامل القادر على بناء الحضارة الإنسانية.
الصفحة155