المدرسة والمجتمع



المؤلف: جون ديوي

التصنيف: كتب أخرى

عرض PDF

الوصف:

جون ديوي، المدرسة والمجتمع،ترجمة أحمد حسن الرحيم و دار مكتبة الحياة للنشر والطباعة، الطبعة الثانية 1978.


تقديم



حين منحت جامعة باريس الفيلسوف والمربي الأمريكي" جوي ديوي"  درجة الدكتوراه الفخرية عام 1930 قالت عنه بانه يمثل " أعمق وأكمل تعبير للعبقرية الأمريكية " " "1والحقيقة أن جون ديوي الاستاذ والمربي والكاتب والفيلسوف الامريكي الذي عاش وانتج خلال النصف الاخير من القرن الماضي والنصف الاول من القرن الحاضر " "2قد لعب دوراً كبيراً في الحياة الفكرية والسياسية الامريكية ، كما انه من الجهة الاخرى كان عاملا فعالا في تطوير المفاهيم الفكرية والسياسية التي نقلها الشعب الامريكي من العالم القديم ، ولكنه هذبها وحسنها واعاد تكوينها لتجابه اوضاعه ولتفي حاجاته في العالم الجديد. وفي مقدمة هذه المفاهيم الديمقراطية والحرية والتربية والفكر أو التفكير والاخلاق . ويقرن اسم جون ديوي عادة بالمذهب العملي او البراكماتيكي او مذهب الذرائع وهو المذهب الفلسفي الذي بدأه قبله بيرس ووليم جيمس والذي ينظر الى الاشياء والحوادث كما هي في عالم متغير باستمرار والى الحقيقة والخير والجمال كما تنعكس او تظهر من خلال التطبيق او العمل.وهكذا اصبحت الفلسفة عند جون

الهوامش :

 "1"فان وسب . . الحكماء السبعة . ص195 .. 

"2" ولد ديوي عام 1859 وتوفي عام   .1952

الصفحة 13 

ديوي شيئاً عملياً من صميم الحياة اليومية وليست متعة أو نزهة عقلية يقوم بها الفيلسوف من برجه العاجي . وقد وصف أحد الكتاب هذه النزهة عند ديوي بقوله : « وفي اسلوب قوي مقنع ؛ يرينا ديوي ان جميع المثاليين والكثير من الواقعيين لا يزالون يقتفون آثار اليونان في التفتيش عن يقين لا يتغير . ويعتبر ان الانتقال من البحث عن اليقين الى قبول النظرة بعالم متغير هو احد الاحداث الخطيرة في تاريخ الحضارة الانسانية . «" "1

والذي يهمنا بصورة خاصة في هذه المقدمة التى نكتبها للترجمة الجديدة لكتاب جون ديوي « المدرسة والمجتمع » هو دور المؤلف في التربية عامة وفي التربية في الولايات الامريكية المتحدة بصورة خاصة . ان اهتمام جون ديوي بالتربية والتعليم عظيم جداً . وهو يشبه في هذا اهتمام الفيلسوف اليوناني الشهير افلاطون الذي كرس جزءاً مهما من كتابه " الجمهورية " لمعالجة شؤون التربية اعتقاداً منه بان الضمان الاكيد لبقاء الدولة او الجمهورية هو تربية ابنائها والتعليم وبناتها تبعاً لمخطط يحدد لكل منهم الدور الذي يقوم به وفقاً لاستعداده . ونجد ان ديوي يعالج شؤون التربية والتعليم في الكثير من مؤلفاته العديدة ولكن اشهر كتاب له في هذا الحقل هو كتاب الديمقراطية والتربية "2" . ويربط ديوي بين الفلسفة والتربية – تماماً كما فعل افلاطون قبله - ربطاً قوياً . وهو يقول في هذا المعنى : " وفي الحق ان كل نظرية فلسفية لا تؤدي الى تبديل في العمل

الهوامش :

"1" فان وسب . الحكماء السبعة ص . 198

"2" قام المربي العربي المعروف الدكتور مقى عقراوي بالاشتراك مع الاستاذ زكريا ميخائيل بنقل هذا الكتاب القيم الى اللغة العربية بعنوان الديمقراطية والتربية وقد قامت لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة بطبع هذا الكتاب عام  1365هـ- 1946م . 

"3" الديمقراطية والتربية . ص 336

الصفحة 14 

التربوي لا بد أن تكون مصطنعة . ذلك بان وجهة نظر التربية تعيننا على تفهم المشاكل الفلسفية في منابتها التي نشأت فيها وزكت ، أي في مواطنها الطبيعية حيث يؤدي قبولها أو رفضها إلى تبديل في الناحية العملية في التربية "3" ثم يضيف:

"واذا رضينا بفهم التربية على انها عملية تكوين النزعات الأساسية الفكرية والعاطفية في الإنسان تلقاء الطبيعة وأخيه الانسان لم نخش حينئذ تعريف الفلسفة بانها النظرية العامة للتربية . وما لم يكن المراد بقاء الفلسفة رمزية أو لفظية أو لهوا عاطفياً لفئة قليلة من الناس أو مجرد عقائد تحكمية، فلا بد من أن تؤثر القيم التي تضعها وان تؤثر فحصها للخبرة السابقة على السلوك. ولقد تستطيع الدعاية وتهييج الرأي العام والتدابير التشريعية والادارية احداث ما تجيزه الفلسفة من تبديل في النزعات، ولكن ذلك لا يحدث الا بمقدار ما تكون هذه الوسائل تربوية أي بالمقدار الذي تبدل فيه مواقف الأفراد الفكرية والخلقية"  ""1

وبناء على هذه النظرة الواسعة إلى التربية عند ديوي اي اعتبار الفلسفة النظرية العامة للتربية - فلا غرابة اذا ما اعار المدرسة وما يجري فيها من نشاط ثقافي وتربوي كبير اهتمامه. ولم يقتصر هذا الاهتمام على الناحية النظرية كما هو متوقع عند فيلسوف ومفكر كبير مثله وانما تعداه إلى الناحية التطبيقية وهذا ما حدا يجون ديوي عندما عين استاذاً بجامعة شيكاغو الشهيرة إلى أن ينهمك بشؤون المدرسة الابتدائية التابعة للجامعة المذكورة وأن يترجم بالتعاون مع زوجته وغيرها من المدرسات في المدرسة المذكورة - الفلسفة التربوية التي كان يدعو اليها الى فعاليات ومناهج وسلوك تلمس أثارها بين جدران تلك المدرسة

 الهوامش :

"1" الديمقراطية والتربية ص 336  

الصفحة 15 

وفي محيطها. وقد وصف ديوي ما جرى في تلك المدرسة التطبيقية والأسس الفلسفية التي تستند عليها في كتابين : احدهما. ويهتم بالناحية العملية - بعنوان مدارس الغد، ولست أعرف ما اذا كان قد ترجم هذا الكتاب الى اللغة العربية ام لا . وثانيهما، ويهتم بالناحية الفلسفية والنفسية - بعنوان «المدرسة والمجتمع وقد سبق أن قام الاستاذ الفاضل أمين مرسي قنديل بتعريبه. 

فما هي الاشياء التي يدعو اليها جون ديوي في عالم التربية والتعليم والتي ترى صورة منها في كتاب المدرسة والمجتمع ؟

1 - لعل أول الأمور التي اهتم بها ديوي هي ربط المدرسة بالمجتمع. وانه على الرغم من أن هذه الفكرة ليست جديدة في التربية فان ديوني أكد عليها من جديد، وأوضح أن المدرسة جزء لا يتجزأ من المجتمع ، وأنها ينبغي أن تكون مجتمعاً مصغراً مشذبا من الشوائب التي تجدها في المجتمع الكبير، واضافة الى ذلك فانه نظر إلى أن دور المدرسة في المجتمع هو النظر في الثقافة بمعناها الواسع أي بآدابها وعلومها وفنونها وعاداتها وتقاليدها ونواحيها المادية والتكنيكية واعادة بنائها بحيث أن المدرسة تلعب دورين أساسيين في خدمة المجتمع الذي تنشأ فيه : او لهما نقل التراث بعد تخليصه من الشوائب وثانيها اضافة ما ينبغي اضافته لكي يحافظ المجتمع على حياته ، أي تجديد المجتمع او تغييره بشكل مستمر . ونجد كثيراً من الشواهد على ذلك في الفصل الأول المعنون المدرسة والتقدم الاجتماعي.

2 - يرى ديوي ايضا ان عملية التربية والتعليم ليست عملية اعداد للمستقبل بل انها عملية حياة. وقد تظهر هذه العبارة غامضة لغير المشتغلين بالتعليم ولذا فلا بد من توضيحها أولا لكي يسهل الوقوف على رأي جون ديوي في هذا الأمر.

الصفحة 16 

ان التلاميذ كثيراً ما يسألون معلميهم : ما الفائدة من دراسة هذا الموضوع أو ذاك في المنهج ؟ فيجيبهم معلموهم أن فائدة هذا الموضوع أنه بعدكم أو يهينكم لكي تصبحوا كذا أو كذا ، أو لكي تفهموا أو تقوموا بكذا أو كذا . وبعبارة أخرى أن عملية التربية والتعليم تتراءى لنا وكأنها عملية ترتبط بالمستقبل أكثر مما ترتبط بالحاضر وبناء على هذه النظرة إلى التربية يهون كل شيء يحدث في الحاضر اذا كان يضمن بحسبما نرى قيمة أو فائدة للمستقبل. فالعقاب البدني مقبول - ان لم يكن حقا- اذا كان يحقق هدفاً في المستقبل، ومسايرة رغبات التلاميذ عمل مكروه - ان لم يكن ممنوعاً - لانه لا يحقق هدفا في المستقبل وهكذا.

ونظر ديوي إلى هذا النمط الشائع في المدارس ورأى بثاقب فكره واستناداً إلى نتائج البحوث النفسية ان هذا النمط يظلم المتعلم ويضحي بحاضره في سبيل مستقبل غامض . ولعل الدافع الأول فيما ذهب اليه ديوي بهذا الصدد هو نظرته الانسانية إلى المتعلم - تلك النظرة التي لا تتساهل في اعتبار حياة الانسان في مرحلة ما وسيلة لغاية أخرى.

ان هذا الرأي هو الذي دعا جون ديوي الى الاهتمام بحاضر المتعلم واعتبار ذلك محققاً لأهداف التربية الحاضرة والمستقبلة معاً ، كما أن هذا الرأي هو الذي يفسر لنا اهتمام ديوي بمبدأ اللذة واللعب في عملية التربية والتعليم وقد عالجت بعض فصول المدرسة والمجتمع هذا الشأن يشكل مفصل.

3 - كذلك اهتم ديوي بالعمل كعملية تربوية، ودعا إلى ضرورة العناية بالاعمال اليدوية والمهنية في المنهج المدرسي وعدم الاقلال من شأنها كما دعا إلى مبدأ الفعالية Activity في الحصول على الخبرة والتعلم. ولا يبدو الاهتمام بالنواحي العملية بالنسبة العرب وفيلسوف براكماتيكي كجون ديوي بالأمر الغريب ، فما

" م " 3 

الصفحة 17 

دامت التجربة هي التي تظهر صدق أرائنا وفرضياتنا أو خطأها فالتربية العملية بمختلف اشكالها هي التي ينبغي أن تكون لها الأسبقية في المنهج . أن هذا الرأي طبق باشكال عدة في المدارس التي اخذت بتعاليم جون ديوي ومن ابرز هذه الاشكال رفع مكانة الموضوعات المهنية والعملية والنظر اليها على قدم المساواة مع الموضوعات النظرية التقليدية . وان هذه الفكرة أخذة في الانتشار في الولايات الأمريكية المتحدة وفي البلدان الأوروبية، وبدأت ريحها تهب على بلادنا العربية وبهذه المناسبة يجدر بنا أن نقول أن نظام التربية والتعليم في الاتحاد السوفياتي قد طبق هذه الفكرة على أوسع مجال . أما فكرة الفعالية في التربية التي دعا اليها ديوي فقد تبلورت فيما سمي بطريقة المشروع  وخلاصة هذه الطريقة أن المواضيع تدرس على اساس نفسي وليس على الأساس التقليدي المألوف من تنظيم المواد بشكل منطقي - وان دراستها تكون عملية تجريبية اختبارية، وهكذا حين يدرس التلاميذ موضوعاً ما - ولنقل الحليب مثلا - فانهم لا يدرسونه مستقلا عن النواحي العملية التي يرتبط بها ضمن ما يسمى بالصحة او الاشياء في المنهج التقليدي من الكتاب في الغالب . وانما يدرسونه ضمن وحدة دراسية متماسكة الأجزاء والنقل التغذية. وفي مثل هذه الدراسة بحسب طريقة المشروع يبدأ التلاميذ الاهتمام بالتغذية كفعالية حياتية ومن هذا الاهتمام - أو الرغبة - يبدأون بدراسة التغذية في بيئتهم المباشرة والواسعة أي بلادهم فمنطقتهم فالعالم - كما يدرسون التغذية تاريخيا وكيفية ايصال المواد الغذائية من مراكز انتاجها إلى المستهلكين وكل ما يتصل بالتغذية بصورة عامة وبالحليب بصورة خاصة.

ان جون ديوي يبرر هذا الاسلوب التعلمي بأكثر من سبب ويفضله على الأسلوب التقليدي الذي يعتمد على المواضيع الجاهزة

والمصنفة تصنيفاً منطقياً

الصفحة 18 

الا أنه تصنيف مصطنع ونجد في طيات كتاب المدرسة والمجتمع ما يجعل هذا الاسلوب مفضلا عند جون ديوي . 

4 - واخيراً ، وليس آخرا ، ربط جون ديوي بين التربية والديمقراطية ربطاً قوياً ولعل عنوان كتابه التربوي الأول -الديمقراطية والتربية ، خير ممثل لنزعته هذه ، والديمقراطية عند جون ديوي - كما هي عند غيره من المفكرين المحدثين اسلوب في الحياة ، وليست مجرد تطبيق سياسي لمفهوم قديم يرجع عهده إلى اليونان في العصور القديمة.

فالديمقراطية، وقد قال ديوي في هذا الصدد:

  "قليست الديمقراطية مجرد شكل للحكومة ، وانما هي في أساسها أسلوب من الحياة المجتمعة والخبرة المشتركة المتبادلة"  "1" وعلى هذا الاساس فللديمقراطية عند ديوي اشكال عدة فهي مساواة بين الأفراد في تهيئة فرص متكافئة لهم دونما أي تمييز بينهم، وهي تكافل اجتماعي، وهي عدالة اجتماعية، وهي حرية في الاعتقاد، والقول والنشر والاجتماع وهي علاقات انسانية تتسم بالأخذ والعطاء وتغليب الذكاء البشري والخيرة في حل الخلافات والمشكلات ولو اردنا أن تترجم هذه المفاهيم إلى مواقف وسلوك وفعاليات في المدرسة وخارجها لاحتجنا إلى قائمة طويلة جداً. ولكن يكفى أن نقول أن المدرسة الديمقراطية يعيش فيها المتعلمون والمعلمون والعاملون الآخرون كلهم زملاء متعاونين لتحقيق هدف مشترك . وأن هذا الهدف المشترك يخدم الاغلبية الساحقة ان لم يكن يخدم جميع أعضاء المدرسة.

اننا بطبيعة الحال لم تستعرض الآراء التربوية لجون ديوي بكاملها ، ولكننا

الهوامش :

"1" الديمقراطية والتربية ص 90

الصفحة 19 

اكتفينا بأهم هذه الآراء والتي يمكن تلخيصها في

 "1" ربط المدرسة بالمجتمع

 "2" التربية عملية حياتية وليست عملية اعداد للمستقبل

 "3" الاهتمام بالموضوعات العملية والمهنية وبمبدأ الفعالية بصورة عامة. 

 "4" العلاقة بين الديمقراطية والتربية. 

ان آراء ديوي هذه وغيرها قد صادفت هوى عند كثير من المربين والمعلمين في الولايات الأمريكية المتحدة وفي خارجها من بلدان العالم الأخرى، وقد كانت احدى الجمعيات التربوية التي است على نطاق عالمي - واسعها رابطة التربية الحديثة - من الدعاة للتربية الحديثة التي نبه ديوي اليها الاذهان ودعا اليها. وقد كان مقر هذه الرابطة في لندن ، وكان لها فروع في كثير من بلدان العالم. اما فرعها في الولايات المتحدة فكان يسمى يجمعية التربية التقدمية . وكان الرابطة التربية الحديثة فرع في القطر المصري كما كان لها فرع في القطر العراقي. وقد قامت حركة التربية الحديثة بنشاط في كثير من بلدان العالم لاعادة النظر في نظم التربية. وجعلها تساير العصر الحديث. كما نشطت هذه الحركة - عن طريق اعضائها أو غيرهم - بتعريب مؤلفات جون ديوي إلى كثير من اللغات. وقد كان حظ اللغة العربية غير قليل من نقل آثار ديوي اليها ونرجو ان توجه العناية إلى تعريب المؤلفات المهمة الأخرى له إلى لغتنا.

وانتشرت شهرة جون ديوي في التربية ، فدعي الى كثير من أقطار العالم لدراسة نظمها والاطلاع عليها او لاستشارته في تعديل نظمها - فزار الصين

الصفحة 20 

والاتحاد السوفياتي وتركيا واليابان وكثيراً من الاقطار الأوروبية والأمريكية.

وقد وصلت شهرة جون ديوي إلى ذروتها في داخل الولايات المتحدة في حوال الاربعينات من القرن الحاضر ، ولكن ما كانت الحرب العالمية الثانية تبدأ ويظهر في أولها التفوق للألمان وبعد ذلك التفوق العلمي للاتحاد السوفياتي حتى بدأت حملة نقد - تزداد من يوم الآخر ومن شهر لآخر ومن عام لاخر - ضد الاراء التربوية الجون ديوي وليس معنى هذا أن جون ديوي أخرس كل صوت قبل الاربعينات ، كلا ، فإن اتباع الكنيسة الكاثوليكية في الولايات الأمريكية المتحدة - وتدير هذه الكنيسة وتشرف على عدد كبير من المدارس - لم يسلموا بقسم من أراء جون ديوي في التربية والتعليم ، أو في الأقل أنهم 

لم يسايروه الى المدى الذي ذهب اليه في التأكيد على مبدأ الرغبة ، و الضبط الداخلي . . . كما أن الكنيسة الكاثوليكية ترفض من حيث الأساس الفلسفة البراكماتيكية التي يمثلها ديوي، وتسير على هدى الفلسفة المثالية كما أن عدداً غير قليل من العربين الأمريكان وقفوا الجون ديوي بالمرصاد وعارضوا أراءه التربوية . ومن أشهر هؤلاء المربين وليم سي - باكلي - الذي كان احد اعضاء لجنة مونرو التي استقدمتها الحكومة العراقية عام 1932 لاستشارتها حول التربية والتعليم في العراق. وقد كان المرحوم باكلي وقتنذ استاذا للتربية في جامعة كولمبيا - ذات الجامعة التي كان جون ديوي فيها ، وكان باكلي يرى أن عملية التربية عملية نقل التراث الاساسي والمحافظة على الجذور الثقافية للمجتمع والتمسك بالقيم والمثل الروحية الاساسية على أن لا يحول ذلك كله دون تطور المجتمع وتقدمه.

ومن الذين عارضوا أراء جون ديوي في التربية والتعليم الدكتور هتجنس

الصفحة 21 

 Hutchins رئيس جامعة شيكاغو سابقاً وعدد آخر من المفكرين الذين يرون ان عملية التربية هي عملية نقل التراث من الجيل القديم الى الجيل الجديد وتدريب أبناء الجيل الجديد على التفكير عن طريق الدراسات الأساسية التي ثبتت فائدتها كالفلسفة والمنطق والرياضيات والدراسات الانسانية. ويهاجم الدكتور هتجنس نوع التربية التي يدعو جون ديوي اليها . في كتابه الشهير " التعليم العالي في امریکا" 

ولا تزال المعركة محتدمة الى اليوم في الصحف اليومية وفي المجلات التربوية في الولايات الامريكية المتحدة دفاعاً عن جون ديوي او هجوماً عليه الا ان الملاحظ ان التعليم الأمريكي الذي تأثر الى حد كبير بآراء جون ديوي في التربية والتعليم قد اصبح اكثر وعياً الان مما كان في الماضي نحو التأثر بالأنماط التربوية ونحن لا نقول هذا لأن آراء ديوي كانت انماطاً في التربية . ان ديوي نفسه احتقر الانماط في التربية . ولكننا نقول ذلك لان كثيراً من الذين كانوا يريدون تطبيق افكار جديدة في التربية والتعليم كانوا يصفونها بانها افكار " حديثة " وافكار" تقدمية " والافكار " الحديثة " و " التقدمية " في التربية تعني افكار جون ديوي وقد حاول ديوي ابان حياته ان يدافع عن نفسه ضد من كانوا يشوهون افكاره وآراء.. وقد نجح الى حد ما في وضع حد للتطرف الذي دعا اليه البعض في التأكيد على الرغبة و " الفعالية"  مما كان يجعل من المدرسة مجتمعاً لا هدف له ولا خطة  .

ان آراء ديوي الأساسية – غير المشوهة - لما تنتشر في العالم العربي ولمــــا تطبق في اي مكان فيه على نطاق واسع. ولكن ديوي ترك اثره في تفكير كثير من المربين المعاصرين في البلاد العربية . وان ما يدعو اليه هؤلاء المربون

الصفحة 22 

من تغليب للروح الديمقراطية في المجتمع العربي بصورة عامة وفي المدرسة صانعة المجتمع العربي الجديد بصورة خاصة ومن تحقيق لمبدأ تكافؤ الفرص امام الاطفال جميعا دون تمييز ، ومن ربط المدرسة بالمجتمع وجعلها عاملا من عوامل استقراره من جهة وتغييره وتقدمه من جهة أخرى ، ومن ضرورة زيادة الاهتمام بالدروس العملية الى جانب الاهتمام بالدروس النظرية ، ومن جعل الحياة المدرسية حياة سعيدة للاطفال يتمتعون فيها بالنشاط والحرية وتتهيأ لهم فيها الفرص للأبداع ، ان كل هذا الذي يدعو اليه هؤلاء المربون انما قد تأثروا به من جون ديوي و امثاله من المربين الاوربيين والامريكيين المعاصرين منهم والقدامى . على أن جون ديوي يعتبر من بين المربين المعاصرين وكأنه علم في رأسه نار . ونحن نرجو أن يدرس مربونا الحاضرون والطالعون منهم آثار هذا المربي الكبير لكي نطعم بما نفيد من افكاره ثقافتنا وحضارتنا المتفتحتين لكل ما هو مفيد في حضارات وثقافات الشعوب الاخرى .

الدكتور محمد ناصر

الصفحة 23 





كلمة المترجم



ليس بين المعنيين بشؤون التربية والفلسفة " الحديثتين " في ارجاء العالم كله ، من يجهل بالفيلسوف الامريكي جون ديوي ومن لم يطلع على مقدار ولو محدود من آرائه ونظرياته . فقد ثابر هذا المربي على الخدمة الفعالة في حقلي التربية والفلسفة منذ سنة  1882م ، اذ نشر أول مقال له بعنوان  "الافتراضات الميتافيزيائية في المذهب المادي " ، واستمر على التأليف والتبشير بمذهبه في التربية والحياة ، فكان آخر ما نشر له كتاب ألفه بالمشاركة مع زميله الاستاذ « ارثر بنتلي «، وهو كتاب " التعرف والمعروف " ، صدر سنة 1949 وقد بحثا فيه جملة من المسائل الفلسفية المعقدة. أما كتابه المترجم هـــذا :  "المدرسة والمجتمع "فقد نشر سنة 1989 ثم اعيد طبعه سنة 1915 وهو من أبرز ما كتب في التربية الابتدائية ، وقد تركت نظرياته وآراؤه اثراً واضحاً في ميدان التربية والتعليم وحققت كثيراً مما قصد منها . 

لقد اصبح جون ديوي رئيساً للمدرسة البراكماتية الامريكية بعد وفاة زميله وليم جيمس سنة 1910 ومن ابرز ما عرفت به فلسفة ديوي افكاره الثنائية ، کما يلاحظ ذلك قراء كتبه ، ولا سيما كتابه القيم " الديمقراطية والتربية " فهو لا يعتقد بوجود معلومات مدرسية واخرى للمحيط الخارجي ، كما لا يعتقد بفلسفة للمنهج المدرسي وفلسفة اخرى للحياة ، وله في هذا أقوال تردد ، منها قوله : "التربية حياة " ، و " التربية كفاية اجتماعية " ، وبهذا قد رفع الحدود القديمة القائمة بين الفلسفة والحياة وسار نحو هذا العرض بوعي واف وضمن اطار من الآراء المتماسكة 

الصفحة  25 

وقد جانب ديوي اسلوب القطعية والجزاء سواء اكان ذلك بالنفي او الايجاب ، وذلك لالتزامه بالاسلوب العلمي المتين . اذ ان في كل قرار يقطعه أو تشخيص يؤديه مجالا لوجه بل لأوجه اخرى من النمو والتقدم والتغيير وتأكيداً على طلب الاصلح فالاصلح وعنده وفقاً لمذهبه البراكمتي ان الحقائق تصنع ثم يعاد صنعها . وقد أشار الى التزامه بالمنهج العلمي في كتابه

 "تجديد في الفلسفة " فقال " المعنى الحقيقي هو المعنى العلمي " ويبدو من هذا ان ليس للتربية حد تقف عنده، لان العلم لا يقف عند حد معين. وهو بهذا يؤيد ما تقوله الفلسفة المثالية في الغاية المطلقة ، لولا انها تترسم هيئة مدرك عقلي ، في حين انه يمتح من تجربة في واقع . 

وبعد فقد اعتزل ديوي الكفاح التربوي في 1 حزيران 1952 ، اذ وافــــاه اجله بعد حياة انسانية مثمرة بدأت في فرمونت20  تشرين الاول1859 

كلية التربية – بغداد

احمد الرحيم

الصفحة 26 



كلمة المؤلف



كلمة المؤلف

ان اعادة طبع هذا الكتاب تقدم فرصة طيبة لنتذكر ان هذا الكتاب الصغير أمارة تعاون افكار وعواطف لاشخاص عديدين . وان دينه الى السيدة  "امونس بلين  " مشار اليه جزئياً في كلمة الاهداء . وقـــــد قدم صديقي السيد جورج هربرت ميد وزوجته الرغبة والانتباه الدائب الى التفاصيل والذوق الفني الذي حث حتى في غيابي على اعادة صياغتها بعض الملاحظات غير الاختصاصية حتى صارت صالحة للطبع . ومن ثم فقد رأيا نتائج ذلك في الصحافة مع هذه النتيجة الجذابة ، وهذا نمط من التأليف الميسر اتمناه للآخرين ممن لهم التوفيق الكافي ليكون لهم هذا النوع من الاصدقاء . ومن الاسباب ان اذكر قائمة تتضمن اسماء كل الاصدقاء الذين جعلوا وجود المدرسة  " 1 "ممكناً بكرمهم الدائم الموافي في أوانه . وقد أوفى صنيعهم هذا بما في هذه الصفحات من آراء ودقة . ان هؤلاء الاصدقاء سيكونون – من دون شك –  اول من يميز وجاهة ابتدائي باسم السيدة جارلس كرين والسيدة وليم  ر . لن والمدرسة نفسها بعملها التربوي لیست الا مشروعاً تعاونياً شارك الكثيرون في تأسيسه . وان اثر ذكاء زوجتي المدرب قد ظهر في كل جانب من جوانب المدرسة . كما ان حكمة معلمي المدرسة وحصافتهم وولاءهم قد نقلت خطط المدرسة الاصلية غير المتبلورة الى شكل ومادة متميزين بحياتهم وحركتهم الخاصة .

ومهما يكن موضوع الآراء المقدمة في هذا الكتاب ، فسيدوم الرضا الذي

الهوامش : 

"1" يقصد المدرسة الابتدائية التي اتخذها حقلا لتجريب طرقه ونظرياته - المترجم

الصفحة 27 

يسببه تعاون آراء واعمال مختلفة ، يقوم بها اشخاص يعملون لتوسيع حياة الطفل . 

"جون ديوي  "

ملاحظة الناشر : القى المؤلف الفصول الثلاثة الاولى من هذا الكتاب محاضرات على جمع من الاباء والمعنيين بشؤون المدرسة الابتدائية التابعة لجامعة شيكاغو وذلك في نيسان 1899

الصفحة 28 

 "كلمة المؤلف للطبعة الثانية   "

تحتوي هذه الطبعة على بعض تغييرات لغوية طفيفة اجريت على المحاضرات الثلاث التي تكون القسم الاول من الكتاب . اما القسم الثاني منه فقد اضيف لاول مرة وهو مأخوذ من مقالات قدمها المؤلف الى مجلة " سجل المدرسة الابتدائية " بعد احداث بعض التغييرات ، وقد نفدت نسخ تلك المجلة منذ آمد بعيد .

والمؤلف يرجو ان يسمح له بتبيان اغتباطه بأن وجهة النظر التربوية المبينة في هذا الكتاب لم تعد جديدة كما كانت قبل خمس عشرة سنة مضت .. وهو يرغب ان يعتقد بان التجربة التربوية التي كان هذا الكتاب ثمرة لها لم تخل من اثر في التغيير المنشود .

مدينة نيويورك تموز 1915                                                                                    ج. د. 

الصفحة 29 



المدرسة والتقدم الاجتماعي



اننا ميالون إلى النظر الى المدرسة من وجهة نظر فردية بوصفها شيئاً بين المعلم والطالب ، أو بين المعلم والوالدين ، لأن أكثر ما يثير اهتمامنا هو ـ بالطبع - التقدم الذي يحرزه طفل من معارفنا في نموه الجسدي الاعتيادي وتقدمه في القدرة على القراءة والكتابة والحساب ومعلوماته في الجغرافية والتاريخ وتحسن طباعه وعاداته في التهيؤ والاستعداد للأشياء ، وفي النظام والمواظبة ، فبمثل هذه المعايير نقيس عمل المدرسة ، واننا على حق في هذا . ومع ذلك فان مدى نظرتنا هذه بحاجة الى توسع ، لأن ما يريده أفضل والد لطفله يجب أن يستهدفه المجتمع لكل اطفاله ، واي نموذج آخر لمدارسنا غير هذا يكون ناقصاً وغير مقبول ، ولو انه طبق ، لحطم ديموقراطيتنا . فكل ما انجز المجتمع لنفسه قد وضع – برعاية المدرسة ــ ، رصيداً لاعضائه في المستقبل ، والمجتمع يأمل ان يحقق افضل الآراء عن نفسه خلال الامكانات الجديدة التي تتفتح في المستقبل " 1 " حيث تتحد الروح الفردية والاجتماعية ، ولا يمكن للمجتمع ان يكون صادقاً مع نفسه بأية صورة من الصور الا اذا كان صادقاً في تيسيره النمو التام لجميع الافراد الذين يؤلفون ذلك المجتمع . وليس في هذا التوجيه الذاتي الذي قدمناه شيء يعتبر مهما كالمدرسة ، فهي كما يقول -هوراس مان- -حيثما ينمو شيء ما فان مؤسساً أو منشئاً واحداً يعادل الف مصلح او مجدد- 

الهوامش : 

 "1"يقصد ان اعضاء المجتمع في حاضرهم يأملون ان يكون لدى الاجيال القابلة – وهي ابناؤهم - قدرة افضل على فهم مشاكل المجتمع التي يعاني منها الجيل الحاضر وحلها - المترجم .

الصفحة 31 

وعندما نروم بحث حركة جديدة في التربية ، فمن الضروري جداً ان ناخذ وجهة نظر واسعة جداً او اجتماعية . والا فان التغييرات التي تحدث في المؤسسات المدرسية وفي التقاليد سينظر اليها على انها تبديلات تعسفية معينة يقوم بها المعلمون، هذا على اسوأ الأهواء الطارئة . اما على افضلها فيقال عنها انها مجرد تحسينات في تفاصيل خاصة . وهذا هو المستوى الذي تقدر بموجبه -بصورة تقليدية ـ التغييرات التي تحدث في المدرسة . وهو في منطقيته قاصر قصور اعتبارنا القطار او اللاسلكي وسائل شخصية . لأن التغييرات التي تحدث في طريقة التربية ومناهجها هي من نتاج الحالة الاجتماعية المتغيرة، وهي ـ لذلك - جهد يسد حاجات المجتمع الجديد الآخذ بالتكون ، ولهذا فهي مشابهة في نمطها للتغييرات التي تحدث في الصناعة والتجارة " 1 " فهذا هو - اذن ـ ما اسألكم ان توجهوا اليه انتباهكم بصورة خاصة ، وهو بعبارة اخرى إدراك ما يمكن ان نطلق عليه بصورة اجمالية اصطلاح : -التربية الحديثة- في ضوء تغييرات اوسع تحدث في المجتمع . فهل نستطيع ان نربط  -التربية الحديثة- هــذه بمسير او جريان الحوادث العام ؟ ! فاذا استطعنا ذلك فانها تفقد انعزاليتها ويستحيل عليهـــا كذلك ان تكون امراً لا تنتجه الا ادمغة المربين لتخص به جماعة من الطلبة ، لأنها ستبدو جزءاً من التطور الاجتماعي بكامله ، كما يبدو من المستحيل الاستغناء عنها ولو عندما تكون في اكثر صفاتها عمومية في الأقل . فلنسأل إذن: ما اهم اوجه الحركة الاجتماعية ؟ ثم نلتفت بعد ذلك الى المدرسة لنرى ما البيئة التي تقدمها من جهدها دليلا على انها سائرة في الدرب ذاته ؟ ! وبما انه من المستحيل تماماً ان اخوض هذا الحقل كله ، فسألزم نفسي في هذا الفصل بصورة عامة بشيء معين من حركة المدرسة الحديثة، وهو ما يسمى بالتدريب اليدوي آملا - اذا ظهرت علاقة التدريب اليدوي بالظروف الاجتماعية المتغيرة ـ ان يكون 

الهوامش :

" 1 " اي من حيث انها تغييرات استدعتها ظروف جديدة – المترجم . 

الصفحة 32 

استعدادنا للرضى بهذه النقطة او المسألة كاعتبارنا للتجديدات التربوية الأخرى . ولا اجدني بحاجة الى الاعتذار عن اختصار الكلام في التغييرات الاجتماعية التي هي قيد البحث ، لأن ما اذكر منها قد كتب بصورة مسهبة تمكن الراغب من الاطلاع عليه . والتغيير الذي يخطر على الذهن اولاً هو التغيير الصناعي ، وهو الذي يلقي بظله على التغييرات الاخرى ، بل ويتحكم فيها . ونقصد بالتغيير الصناعي تطبيق العلم الذي نتجت عنه الاختراعات العظيمة التي استغلت قوى الطبيعة على مدى واسع ورخيص الكلفة فاتسعت سوق عالمية بوصفها من هدف الانتاج ووجدت مراكز صناعية واسعة لتجهيز هذه السوق بوسائل اتصال و وسائل توزيع سريعة ورخيصة . وحتى اذا رجعنا الى اضعف بدايات هذا التغيير فانه ليس أقدم من قرن في مداه . اما اذا نظرنا الى جوانبه المهمة فانه ينحصر في مدة قصيرة .

ولذا فمن الصعب على المرء ان يصدق بوجود ثورة في التاريخ على هذا النحو من السرعة والاتساع والكمال ، فيها تحول وجه الأرض ، واصاب هذا التحول حتى شكلها الطبيعي والحدود السياسية كما لو كانت في الحقيقة خطوطاً على خارطة من الورق . وحتى السكان اخذوا يتجمعون من اقاصي الأرض بسرعة لينشئوا المدن . وكذلك تغيرت عادات المعيشة بصورة مذهلة من السرعة والجودة . اما طلب حقائق الطبيعة فقد أثير ويسر بصورة عظيمة ، ولم يصبح تطبيق هذه الحقائق عملياً وحسب بل صار ضرورياً كذلك من ناحية تجارية . وحتى آراؤنا في الاخلاق والدين والاولاع - وهي اشد ما فينا محافظة ، لأنها مستقرة في اعمق اعماق طبيعتنا - اصابها هذا التأثر بصورة عميقة ، لهذا فان القول بان هذه الثورة لا يلزم ان تمس التربية إلا مسأ شكلياً وسطحياً قول لا يمكن فهمه . يرجع النظام الصناعي في اصله الى نظام المعمل المؤسس في بيت او

 "م" 3 

الصفحة 33 

في محلة ، فان الذين معنا اليوم في هذا المكان لا يحتاجون إلا ان يعودوا القهقرى الى جيل أو جيلين او ثلاثة على اندر الاحوال ليتذكروا الوقت الذي كان فيه اعضاء الأسرة - بصورة فعلية - المركز الذي ينتج او تتجمع حوله كل انواع الاحتراف الصناعي . فالقماش الذي كان يلبس كان في اغلب الاحوال مصنوعاً في البيت ، كما ان اعضاء الأسرة كانوا في العادة قد ألفوا جز الصوف وتمشيطه وغزله وتشغيل آلة النساجة . 

وعوضاً عن الضغط على زر يغمر البيت بالضوء الكهربائي . فقد كانت عملية الأضاءة بكاملها ذات طول عمل وذلك ابتداء من ذبح الحيوان واختيار الشحم الى صنع الفتائل وتغطيسها في الشمع . وكان التزود بالطحين وقطع الوقود والطعام ومواد البناء واثاث المنزل وحتى الاسلاك المعدنية والمسامير ومفاصل الابواب المعدنية والمطارق .. الخ .. كله من انتاج المحلة مباشرة في دكاكين كانت دائماً عرضة للتفتيش ، وغالباً ما كانت مراكز لتجمع سكان المحلة . فالعملية الصناعية بكاملها تظهر جلية من حين إنتاج المواد الأولية في المزرعة الى حين استعمال الادوات المصنوعة . وليس هذا وحسب ، بل ان كل عضو في الأسرة اخذ حصته من العمل بصورة فعلية ، فالاطفال ، وقد ازدادت قوتهم وملكاتهم ، اخذوا يتدربون تدريجياً على خفايا عمليات عديدة . وقـــــــد قضية الاهتمام الشخصي في مسألة المشاركة الفعلية ، كما اننا لا نستطيع ان نغفل عوامل الضبط وبناء الخلق المتضمنة في هذا النوع من الحياة كالتدريب على عادة النظام والمواظبة وفكرة المسؤولية والالتزام بعمل شيء ما او انتاج شيء ما في العالم . وقد كان هناك دائماً شيء ما يحتاج حقاً الى ان يصنع ، كما كانت ضرورة حقيقية تحتم ان يقوم كل فرد من سكان الدار بحصته من العمل باخلاص وتعاون مع الآخرين .

الصفحة 34 

ان الشخصيات التي اصبحت ذات كفاية في العمل ، كانت قد كونت وجربت في وسط العمل نفسه ، اقول مرة ثانية اننا لا نستطيع ان نتغاضى عن اهمية اهداف تربوية ذات صلة قريبة متصلة اخذت عن الطبيعة مباشرة بأشياء وعدد حقيقية ، وبعمليات ممارسة فعلية لتلك الاشياء ، وبمعرفة استعمالاتها وضروراتها. وقد كان في كل هذه العمليات تدريب مستمر على الملاحظة والتفنن والتخيل البناء والتفكير المنطقي وادراك الواقع ، وكل ذلك محصل بالاتصال المباشر بالوقائع . وكانت القوى التربوية للغزل والحياكة المنزليين، ومحلات نشر الاخشاب والطحانة ، ودكاكين النحاسين والحدادين تعمل عملها باستمرار . وليس من درس في الاشياء ينهض بمهمته - وهي تقديم المعلومات – بمستطيع ان يقدم حتى ولا شبه بديل عن معرفتنا بالنباتات وحيوانات الحقل والحديقة ، وهي المعرفة التي ننالها بالعناية بهذه النباتات والحيوانات والعيش على مقربة منها . كما ان ليس من تدريب للحواس يقدم في المدارس من اجل التدريب ذاته بمستطيع ان ينافس الشعور بالحياة بما فيه من تيقظ وامتلاء ، وهو الشعور الذي نناله بتمرسنا وولعنا بالمهن المعروفة ، فان الذاكرة اللفظية يمكن ان تدرب بانجاز واجبات معينة ، كما ان ترويضاً معيناً لقوى التعليل يمكن الحصول عليه بدروس في العلم والرياضيات ، ولكن هذا العمل، بعد هذا التدريب كله ، بعيد ومبهم الى حد ما اذا قيس بتدريب الانتباه والحكم الذي يتم عند اضطرارنا الى ان نقوم بعمل أشياء بدافع حقيقي في داخلنا ونفع خارجي امامنا     .

وفي الوقت الحاضر نجد ان تركيز الصناعة وتقسيمات العمل قضت فعلا على الحرف البيتية والمحلية لاغراض تربوية في الاقل . ومن غير النافع ان نندب فراق الأيام السالفة الطيبة ، ايام احتشام الاطفال ووقارهم وطاعتهم الظاهرية اذا كنا لا نتوقع من ندبنا وحثنا الا ان نعيد تلك الايام ، لان ظروفاً جذرية قد تغيرت

الصفحة 35 

فنتجت عنها تغييرات تربوية تساوي في جذريتها تلك الظروف . ومن الواجب ان نعرف ما استفدناه من ذلك ؛ وهو زيادة في التسامح وانتعاش في الحكم الاجتماعي واتساع في تعرفنا على الطبيعة البشرية وانتباه حاد في تمييز الطباع وتفسير المواقف الاجتماعية، ودقة أعظم في التكيف للشخصيات المختلفة واتصال بفعاليات تجارية أوسع فهذه الاعتبارات ذات معنى غزير لطفل اليوم الناشيء في مدينة . ومع ذلك فتوجد مشكلة حقيقية ، وهي كيف يمكن ان نبقي عــــــلـى هذه المزايا مع تقديمنا للمدارس شيئاً يمثل الجانب الآخر من الحياة ، اما ذلك الشيء فهو المهن ذات المسؤولية الشخصية التي تدرب الطفل على علاقته بوقائع الحياة الطبيعية . فاذا التفتنا الى المدارس وجدنا أن احد الاتجاهات الواضحة في الوقت الحاضر هو الاتجاه لتقديم ما يسمى بالتدريب اليدوي والعمـــل المهني التطبيقي والفنون المنزلية كالخياطة والطبخ. ولم يصنع هذا 

 -بصورة مقصودة -وبشعور تام بأن المدارس في الوقت الحاضر يجب ان تقدم . ذلك العامل من التدريب الذي سبق أن اهتمت به البيوت ، ولكن ذلك كان على الارجح بالغريزة وبالتجريب والوقوف على أن هذا النوع من العمل ذو هيمنة حيوية على الطلبة ، وهو يمنحهم شيئاً ما لم يكن لينال بطريقة أخرى أيا كانت . وان الوعي بأهميته الحقيقية تلك ما يزال ضعيفاً ، حتى ان القيام به يجري برغبة ضعيفة وتشكك ، وبطريقة لا تمت اليه بصلة .

أما الاسباب التي تذكر لتبرير ذلك فهي غير مقنعة الى حد مؤلم ، واحياناً ما نراها واضحة الخطأ . واذا أردنا ان نتثبت من أولئك الذين هم على أتم استعداد لتقديم هذا العمل الى نظام مدارسنا ، فمن المتوقع كما أتصور أن نجد بصورة عامة أن الاسباب الرئيسة لذلك هي أن هذا النوع من العمل يشغل انتباه الاطفال وولعهم التلقائي كله ، ويجعلهم منتبهين ومغالين بدلاً من ان

الصفحة 36 

يكونوا سلبيين ومستسلمين ، كما يجعلهم أكثر نفعاً وقدرة، وعلى ذلك، فسيصبحون أكثر ميلا إلى المساعدة في البيوت ، أي ان يهيئهم - الى حد ما - للواجبات الفعلية في حياتهم المقبلة ، فتصبح الفتيات اكثر قدرة على تدبير البيوت ان لم يصبحن بصورة فعلية طباخات وخياطات . كما يهيء البنين الى مهن المستقبل ، "وقد سبق لنظامنا التربوي ان حول بصورة كبيرة الى مدارس حرفية " وأنا لا اقلل من شأن هذه الاسباب .

أما ما يخص اتجاه الاطفال المتغير فمن المؤكد أن لدي ما اقوله عنه في الفصل القابل عندما أتكلم مباشرة عن العلاقة بين المدرسة والطفل ، ولكن وجهة النظر هذه ـ بصورة عامة - ضيقة من دون موجب ، لاننا يجب أن نفهم اعمال الخشب والمعدن والحياكة والخياطة والطبخ على أنها من طرق المعيشة والتعلم ، لا على انها دراسات محددة. ويجب أن ندركها ضمن أهميتها الاجتماعية بصفتها أنواعاً من العمليات التي يستطيع بها المجتمع أن يسير نفسه ؛ وبصفتها وسائل تعود على الطفل ببعض الضرورات الاساسية في حياة المجتمع ، وطرقاً سدت بها حاجات المجتمع بتنمية بعد نظر الانسان وبراعته. وبالاختصار بصفتها وسائل تجعل المدرسة صورة أصلية لحياة المجتمع الفعالة بدل أن تكون مكاناً منعزلاً يجري فيه تعليم الدروس .

فالمجتمع عدد من الناس المرتبطين ببعضهم لأنهم يعملون ضمن خطوط عامة عامة ويلتقون بأهداف عامة كذلك . والحاجات والاهداف العامة وبروح . تتطلب تبادلا نامياً في الافكار ووحدة نامية في الشعور الودي . وان السبب الاساسي الذي لا تستطيع به المدارس في الوقت الحاضر ان تنظم نفسها لتصبح وحدة اجتماعية طبيعية هو فقدان هذا العنصر لا غير ، وهو الفعالية الانتاجية العامة . ففي ألعاب التسلية والرياضة يحصل التنظيم الاجتماعي فوق أرض الملعب

الصفحة 37 

بصورة تلقائية وحتمية ، لأنه يوجد شيء ما ليعمل ، وفعالية ما لتنفذ. 

وكلاهما يتطلبان تقسيمات عمل طبيعية واختيار قادة واتباع في تعاون ومنافسة متبادلين . وفي الصفوف يكون وجود الدافع وتماسك التنظيم الاجتماعي ناقصين كذلك . اما الجانب الخلقي فضعف المدارس فيه ، وهو ضعف محزن متأت من انها تحاول ان تعد أعضاء النظام الاجتماعي المقبل في وسط تنقصه الروح الإجتماعية الى درجة كبيرة . وان الفرق الذي يبدو عند جعل المهن الفعالية البارزة في الحياة المدرسية ليس شيئاً يسهل وصفه بالكلمات ، لأنه فرق في الدافع وفي الروح والجو. فاذا دخل أحدنا مطبخاً مشغولا فيه جماعة من الاطفال تسعي بنشاط لتحضير الطعام فان الفرق النفسي والتغيير من حالة ردع وتسلم سلبية وجامدة متفاوتة في الزيادة والنقصان من حين إلى آخر الى حالة طاقة ظاهرة ومبهجة شيء واضح يفرض علينا الاحساس به . وفي الحقيقة ان هذا التغير يسبب هزة لاولئك الذين لديهم فكرة صارمة عن المدرسة ، كما ان التغير في الاتجاه الاجتماعي سيكون على درجة من الوضوح مساوية لذلك . لأن الاستيعاب المجرد للوقائع والحقائق مسألة فردية الى درجة كبيرة ، حتى انها تميل بصورة طبيعية جداً الى ان تصبح أنانية . فليس من دافع اجتماعي لتحصيل العلم المجرد، وليس من كسب اجتماعي واضح في النجاح فيه . والحقيقة ان المقياس الوحيد للنجاح هو - في الغالب - مقياس تنافسي على الوجه السيء من معنى هذه الكلمة، وذلك بمقارنة النتائج في اعادة المعلومات أو في الامتحانات لنرى أي طفل نجح في التقدم على أقرانه يجمع وتكديس اكبر كمية من المعلومات وهكذا بصورة محكمة ، أصبح الجو السائد ان مساعدة الطفل لطفل آخر في

الصفحة 38 

مهمته يعد جناية مدرسية " 1 " . لأن عمل المدرسة يستمر بتعلم سهل للدروس وباستعانة متبادلة عوض أن يكون أصح صورة للتعاون والارتباط ، بل قد جهداً خفياً لاراحة زميل مامن واجبه الشرعي.  " 2 "ولكن عندما يشرع بالعمل الفعال تتغير كل هذه الاوضاع . فمساعدة الآخرين بدل ان تكون نوعاً من الصدقة يفقر من يسدى اليه ، إن هي إلا عون في تحرير طاقات الشخص المساعد وتقوية دافعه . وان روح الاتصال الحر وتبادل الآراء والاقتراحات ونتائج ما نجحنا او خبنا فيه في خبرتنا السابقة هي ابرز ما يلاحظ الافتقار اليه في التلقي او اعادة المعلومات . فاذا ادخلنا المباراة فلتكن مقارنة الافراد لا من حيث كمية المعلومات التي استوعبوها شخصياً بل بالنظر الى نوعية العمل المقدم . فهي معيار القيمة الصحيح في المجتمع . واذا شئنا ان نقولها بصورة غير رسمية اي على نحو اشمل وأعم ، قلنا على الحياة المدرسية ان تنظم نفسها على قاعدة اجتماعية . نضمن هذا التنظيم نرى مبدأ الضبط او النظام ، ومن الطبيعي ان النظام ، ببساطة ، إن هو الا شيء متعلق بغاية . فاذا كانت الغاية التي اشرنا اليها هي ان يكون لك اربعون او خمسون طفلا عليهم ان يتعلموا مجموعة من الدروس ليؤدوها امام المعلم فان الضبط الذي نأخذ بـه ينبغي ان يخصص لاحراز هذه النتيجة . اما اذا كانت الغاية المشار اليها تنمية روح التعاون الاجتماعي وحياة المجتمع فالواجب ان يكون الضبط نامياً من هذا الهدف وعائداً إليه .

وقد يشاهد قليل من نوع واحد من النظام عندما تكون الاشياء في عملية

الهوامش :

"1" يقصد أن يشتركا في تفهم المشاكل وايجاد الحلول معاً ، لا ان ينفرد بذلك احدهما وينتحل الثاني جهد الآخر - المترجم. 2"" يشير الى قيام بعض الطلبة بالواجبات المدرسية خفية بدل اصحابها - المترجم .

الصفحة 39 

بناء ،كما يوجد اضطراب او فقدان نظام معين في كل معمل مشغول ، فلا صمت ، ولا اشخاص مشغولون بالمحافظة على وضعيات جسدية ثابتة ، فليست اذرعهم منثنية وليسوا ممسكين بكتبهم بصورة رتيبة "1" لأنهم يعملون اشياء متنوعة ، فهناك الالتباس واللغط الذي ينتج من الفعالية . وينتج عن وعن القيام بعمل أشياء تصدر عنها نتائج ، وعن عمل هذه بطريقة اجتماعية وتعاونية ينتج نظام فريد في نوعه ونموذجه . وعندما ندرك وجهة النظر هذه فان مفهومنا عن النظام المدرسي يتغير بكامله . وفي اللحظات الحرجة ندرك كلنا ان النظام الوحيد الذي يلازمنا والتدريب الوحيد الذي يتحول الى بصيرة ما حصلنا عليه من الحياة نفسها . وما نتعلمه من الخبرة ومن الكتب أو من أقوال الآخرين ، عندما تكون ذات صلة بالخبرة فقط ، وليست مجرد أقوال . ولكن المدرسة قد افردت وعزلت عن الظروف الاعتيادية ودوافع الحياة فصارت المحل الذي يرسل اليه الاطفال من أجل النظام ، المحل الوحيد في العالم الذي اصبح فيه تحصيل الخبرة ، وهي أم النظام - أصعب من تحصيلها في أي مكان آخر . ولا يكون ذلك الا حين تسيطر على المدرسة صورة للضبط المدرسي التقليدي بضيقها وجمودها فتصبح في خطر من اهمال النظام العميق والواسع جداً الذي ينتج من انجاز جزء ما في عمل بناء ، ومن تقديم نتائج اجتماعية في روحها ، فليس شيء أقل وضوحاً وتلمساً من النظام او الضبط في شكله هذا ، ومن ثم فهو في شكل لا يمكن اصدار حكم دقيق ومتقن عليه إلا بالنظر الى مسؤوليته.

فالشيء المهم الذي يجب ان نحتفظ به في ذهننا في ما يخص ادخــــــال أنواع متعددة من المهن الفعالة الى المدارس هو ان بواسطة هذه المهن تتجدد روح المدرسة

الهوامش : 

"1" يشير المؤلف بهذه الصورة الى حالة الاطفال في المدارس ذات الطرق الجامدة - المترجم

الصفحة 40 

بكاملها . وتنال فرصة لتربط نفسها بالحياة وتصبح بيئة الطفل ، حيث يتعلم من العيش المباشر بدل ان تكون مجرد محل لتعليم دروس ذات صلة بعيدة ومجردة بحياة قد تقع في المستقبل . وتنال كذلك فرصة لتصبح صورة مصغرة للمجتمع او مجتمعاً في بدء تكونه . وهذه حقيقة اساسية ومنها تنبعث طرق بناء منتظمة ففي النظام الصناعي الذي مر بنا وصفه ، نجد ان الطفل يشارك في العمل لا من اجل المشاركة المجردة ، ولكن من أجل الانتاج ، وان النتائج التربوية التي يحصل عليها حقيقة ، ومع ذلك فهي عرضية واعتمادية . ولكن في المدارس نجد ان المهن المتبعة متحررة من الضيق الاقتصادي، فالهدف ليس القيمة الاقتصادية ولكن تنمية القوة الاجتماعية وبعد النظر . فالتحرر من المنافع الضيقة وتفتح امکانات الروح البشرية هو ما يجعل هذه الفعاليات العملية في المدرسة حليفة للفن والمراكز العلم والتاريخ . وفي الجغرافية تتحقق وحدة العلوم كلها ، وأهميتها في كونها تعرفنا على الارض وهي الدار الازلية لمهن الانسان ، واذا فقد العالم علاقته بالفعاليات الانسانية أصبح اقل من عالم . كما أن مواظبة الانسان وانجازه اذا عزلا عن جذورهما في الأرض فهما أقل من عاطفة ، ولا يكادان يستحقان تسمية ما . فالأرض هي المصدر النهائي لطعام الانسان بكامله . وهي حاميته وملجؤه الدائم والمادة الخام لفعالياته كلها ، وهي البيت الذي تعود كل انجازات الانسان الى تهذيبه وتصوره كمال الاشياء فيه وهي الحقل العظيم والمنجم العظيم والمصدر العظيم لكل طاقات الحرارة والضوء والكهربائية كما انها المسرح العظيم للمحيط والساقية والجبل والسهل الذي ما زرعاتنا كلها واستخراجنا المعادن وقطعنا الاخشاب الا عناصر وعوامل جزئية منه. 

وبالمهن التي حددها المحيط استطاع النوع الانساني ان يصنع تقدمه التاريخي والسياسي ، وبهذه المهن كذلك تطورت التفسيرات الانفعالية والذكائية التي تخص

الصفحة 41 

الطبيعة . فيما نصنع من العالم وبمعونة العالم نفسه نستطيع ان تفهم معنى العالم . ونقيش قيمه . ومعنى هذا ، بتعبير تربوي، أن هذه المهن يلزم ألا تكون في المدارس وسائل عملية فقط ، أو أنماطاً من روتين الاستخدام ، او تحصيلاً لمهارة فنية أرقى من الطبخ أو الخياطة او النجارة ، وانما يجب ان تكون مراكز فعالة لبعد نظر علمي في المواد والعمليات الطبيعية ونقاط تحول حيث يؤخذ بيد الاطفال الى ادراك النمو التاريخي للانسان . وان المغزى الفعلي لهذه المسألة يمكن ان يبين بتمثيل واحد مأخوذ من عمل فعلي في مدرسة ما ، فذلك أوضح من أن يجري في مباحثة عامة . وليس من شيء يثير استغراب المشاهد الاعتيادي في ذكائه أكثر من رؤيته بنين وبنات في العاشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من العمر مشغولين بالخياطة والحياكة . فاذا نظرنا الى ذلك من وجهة نظر مؤداها اعداد البنين لخياطة الازرار ورتق الشقوق فقد اتخذنا مفهوما ضيقاً ونفعياً ، وهو مفهوم – اذا اتخذ قاعدة - فانه لا يكاد يبرر الامتياز المعطى لهذ النوع من العمل في المدارس . ولكن اذا نظرنا اليه من ناحية اخرى فاننا نجدا أن هذا العمل يقدم لنا نقطة التحول التي يستطيع الطفل من خلالها ان يعين ويتابع تقدم النوع الانساني في التاريخ ، وأن ينال نظراً أبعد في المواد المستعملة و المبادىء الميكانيكية الداخلة في العمل . وثمة شيء آخر له علاقة بهذه المهن ، ان النمو التاريخي للأنسان يعيد نفسه بصورة مختصرة . مثال ذلك ان الاطفال يعطون أول الأمر المواد الخام كالكتان والقطن والصوف كما يؤتي من به من الاغنام "واذا استطعنا ان نأخذهم الى المكان الذي يجز فيه صوف الاغنام فذلك افضل كثيراً" ثم تجري دراسة على هذه المواد لترى صلاحيتها للاستعمالات التي تراد لها ، مثال ذلك ان تقارن شعرة القطن بشعرة الصوف . ولم أكن أعلم حتى اخبرني الأطفال بأن السبب في نمو صناعة الانسجة القطنية مؤخراً اذا

الصفحة42 

قورنت بصناعة الانسجة الصوفية هو ان القطن يصعب جداً حلجه باليد .

فقد اشتغلت جماعة من الاطفال ثلاثين دقيقة في عزل القطن عن بذوره وقشوره فلم يحصلوا الا على أقل من "30" غراماً من القطن المحلوج "1" واستطاعوا ان يفهموا بسهولة ان شخصاً واحداً لا يستطيع ان يحلج بيده اكثر من باوند واحد "2" من القطن يومياً ، كما استطاعوا ان يدركوا أيضا تم لبس اسلافهم الملابس الصوفية بدل القطنية . وكان من بين الاشياء الاخرى التي اكتشفوها بوصفها ذات تأثير في مصالحهم نسبياً ، قصر شعرة القطن اذا قورنت بشعرة الصوف ، فبينما يكون معدل طول شعرة القطن ، ولنقل ثلث الانج ، نجد ان طول شعرة الصوف تبلغ ثلاثة ،انجات، وكذلك نجد ان شعر القطن ناعم لا يلتصق ببعضه بينما يحتوي الصوف على بعض الخشونة التي تساعد في التصاق شعراته فيسهل غزله . وقد توصل الأطفال الى هذه الميزات بأنفسهم ، وجرى ذلك باستخدام المواد الفعلية وان ساعدتهم أسئلة المعلم وتوجيهاته . فهم قد تابعوا ـ اذن ـ العمليات الضرورية لصنع الملابس ابتداء من شعرة القطن والصــــــوف . وقد اعادوا صنع اول اطار لمشط الصوف مؤلف من خشبتين لهما دبابيس حادة تستعمل للحك . كما اعادوا القيام بأسهل عملية لغزل الصوف ، وهي ان يؤتى بحجر مثقوب او أي ثقل آخر يمر خلاله يسحب الصوف وعندما يدور هذا الحجر الصوف شيئاً فشيئاً فيتجمع الغزل قرب البداية التي تم غزلها وألقيت على الارض في الوقت الذي يجعل الاطفال الصوف في أيديهم ليسحب تدريجـــــا و يبرم . ثم يقدم الاطفال الى اختراع آخر يأتي بعد تقدم في التسلسل التاريخي فيستعملونه تجريبياً ويرون ضرورته ويتعقبون تأثيراته ليس في صناعة معينة

الهوامش : 

  - 1في الاصل اونس وهو يساوي "280" غراما – المترجم

 - 2الباوندوزن انكليزي . كل 2020"" باوند تعادل كيلو غراماً واحداً .

الصفحة 43 

واحدة بل في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية. وهكذا يمرون في استعراض العملية كلها منذ بدايتها الى آلة النسج الكاملة في الوقت الحاضر ، وكل ذلك يساير تطبيق العلم في خدمة قوانا المتيسرة في عصرنا هذا . وليست بي الى الكلام حاجة عن العلم المتضمن هذه المسألة، مثل دراسة شعر الصوف والقطن والظواهر الجغرافية والظروف التي تنمو بها المواد الأولية ومراكز الانتاج والتوزيع الواسعة والفيزياء المستخدمة في مكائن الانتاج ، ولا اراني – وأقولها مرة ثانية - بحاجة الى الكلام على الجانب التاريخي ، كالتأثير الذي تركته هذه الاختراعات في الانسانية. فبامكانك ان توجز تاريخ الجنس البشري كله بتطور الكتان والقطن والصوف الى انسجة . ولا اقصد بهذا أنه التطور الوحيد ، او انه احسن مراكز التطور، ولكن من الصحيح ان يقال ان بعض السبل الواقعية والهامة في اعتبار التاريخ قد فتحت على هذه الصورة ، وذلك ان عقل الانسان يتعرف – بهذه الكيفية - على كثير من التأثيرات الاساسية السائدة ، بصورة اوضح مما تذكره السجلات السياسية والزمنية التي نطلق عليها عادة اسم -التاريخ-  . والآن فان ما يصدق على هذا المثل الشعر المستعمل في النسيج " والحق اني لم اتكلم الا على جانب أو جانبين مهمين من ذلك " يصدق كذلك - بالقياس - على كل مادة مستعملة في اية مهنة ، وعلى العمليات المطبقة . 

فالمهنة تجهز الطفل بدافع حقيقي وتعطيه خبرة مباشرة وتهيء له الاتصال بالأمور الواقعية. 

وعلاوة على صنع كل هذا فانها تحرر العقول بالافصاح عن قيمها التاريخية والاجتماعية ، وعما يقابل او يعادل ذلك علمياً. ومع نمو عقل الطفل في القوة والمعرفة لا تصبح المهنة ملذة وحسب، بل تصبح أكثر فأكثر وسيلة او اداة للفهم

الصفحة 44 

وعند ذلك تتغير هيئتها . ولهذه الهيئة او الحالة بدورها ارتباط بتدريس العلم . فالواجب يقضي بأن يدير كل فعالية يراد لها النجاح في الظروف الحاضرة ، في مكان ما وعلى كيفية ما ، عالم متخصص ، لانها مسألة علم تطبيقي . وعلى هذه العلاقة ان تمدد مكانها في التربية "1" . فليست المهن وحدها ، او ما يسمى بالعمل اليدوي او الصناعي في المدارس ، تعطي الفرصة لتقديم العلم الذي ينير تلك المهن ويجعل منها مادة مثقلة بالمعنى بدلاً من ان تكون مجرد وسائل تستعمل فيها اليد والعين ، ولكن بعد النظر العلمي الذي يحصل عليه يصبح أداة لا يمكن الاستغناء عنها في مشاركة حرة وفعالة في الحياة الاجتماعية الحديثة .. وقد وصف افلاطون العبد في مكان ما من مؤلفاته بأنه الشخص الذي لا يعبر عن رأيه في افعاله ، بل عن آراء شخص آخر . وقد اصبحت هذه المشكلة الآن أشد خطورة مما كانت عليه زمن افلاطون ، فالواجب هو وجود الطريقة والهدف والفهم في وعي من يقوم بالعمل اذا أريد لفعاليته ان تكون ذات معنى له "2" فاذا فهمت المهن في المدارس على هذا النحو من الاتساع والسماح فعند ذلك أقف مشدوها اذ أُعجب من الاعتراضات التي تسمع غالباً ، وهي الاعتراضات القائلة باخراج المهن من المدارس لأنها مادية نفعية ، بل وحتى دنيئة في اتجاهاتها وقــــد يخيل الي احياناً ان هؤلاء الذين يقولون بهذه الاعتراضات عليهم ان يعيشوا في عالم آخر .

لأن في العالم الذي نعيش فيه نداء من مهنة او من اي شيء آخر لكل واحد منا ليلبيه . فبعضنا مديرون وآخرون يلونهم في الأهمية ، ولكن الشيء المهم لكل منا هو ان كل شخص ينبغي ان ينال التربية التي تمكنه من ان يرى ضمن

الهوامش : 

 "1"يقصد : ان علينا ان نعين اهمية هذه المسألة في التربية و في مسألة الادارة المختصة_المترجم 

 "2"اي اذا اردنا ان يفهم ما يقوم به - المترجم

الصفحة 45 

عمله اليومي كل ما في عمله من أهمية انسانية عظيمة . فكم من العمال اليوم من هم ليسوا إلا تبعاً للمكائن التي يديرونها . وقد يكون هذا نتيجة من وجــــه ما الى الماكنة نفسها ، أو نتيجة الى النظام الذي يضع اهمية كبيرة على نتاج الماكنة . ولكنه من دون شك نتيجة الى حد كبير لهذه الحقيقة ، وهي ان العامل لا يمتلك فرصة لينمي خياله وبعد نظره بالنسبة الى القيم الاجتماعية والعلمية الموجودة في عمله . وفي الوقت الحاضر نجد ان الدوافع التي ترتكز على قاعدة النظام الصناعي إما مهملة بصورة فعلية او مشوهة بصورة ايجابية في مرحلة التدريس . والى ان تهيمن ميولنا نحو الانتاج والبناء على سنوات الطفولة والشباب بصورة منتظمة ، والى ان تدرب تلك الميول في اتجاهات اجتماعية ، وتغتني او تتوسع بالتفسيرات التاريخية ويسيطر عليها ، او تنور بالطرق العلمية ، سنظل بالتأكيد في موقف لا نستطيع فيه حق ان نعين مصدر نواقص او شرور اقتصادنا ، فضلا معالجتها بصورة فعالة . واذا رجعنا بالتاريخ الى عدة قرون خلت ، وجدنا احتكاراً فعلياً للتعلم، وان استعمال تعبيد " امتلاك "، التعلم عوضاً عن احتكاره تعبير ملطف ، لان التعلم كان مسألة طبقية ، وتلك نتيجة حتمية للظروف الاجتماعية . فلم يكن يومذاك وجود لأية وسيلة يستطيع بها الجمهور ان يجد طريقاً الى المصادر الفكرية ، اذ كانت هذه المصادر مخزونة ومخفية في المخطوطات وحتى هذه المخطوطات لا يوجد منها في احسن الظروف الا القليل ، اضافة الى انها كانت تتطلب استعداداً طويلاً ومضنياً قبل الاستفادة منها . وكانت القيمومة السامية في التعلم - لتصون كنز الحقيقة ولا تهب منه الجماهير الا بتقتير وتحت شروط صارمة – مظهراً لا بد منه في هذه الظروف ، وقد تغير ذلك كله نتيجة للثورة الصناعية التي تكلمنا عنها آنفاً

فقد اخترعت الطباعة وجعلت تجارية. كما ان الحاجة دعت الى ظهور تبادل

الصفحة 46 

لا تصال بالبريد والبرق بصورة سريعة ورخيصة ومتيسرة، نتيجة لوجود وسائل الانتقال واللاسلكي. وصار السفر سهلاً ، كما سهلت للغاية حرية التنقل التي يصحبها تبادل الآراء ، ونتج عن ذلك كله ثورة عقلية . فأخذ التعلم في الانتشار . ومع انه ما تزال - ومن المحتمل ان توجد دائماً طبقة معينة تتهيأ لها مهنة البحث، بصورة خاصة ، فان مسألة ظهور طبقة متميزة بثقافتها اصبحت منذ الان مسألة خارجة عن البحث لانها خطأ في تسلسل الحوادث . "1" فالمعرفة لم تعد مادة جامدة غير قابلة للنقل، لانها قد اذيت واخذت تنتقل بحيوية في كل تيارات المجتمع ، ومن السهل أن ترى ان هذه الثورة - بالنظر الى مواد المعرفة – قد أخذت تحمل معها تغيراً ملحوظاً في اتجاه الفرد. فالمنبهات الفكرية أخذت تصب فينا من كل الجهات .

اما الحياة العقلية المحضة ، حياة التعلم والعلمية المجردة فقد نالت تغيراً شديداً في قيمتها . فأصبح اصطلاح اكاديمي ومدرسي سبة بعد ان كان عنوان شرف ، وهذا كله يعني تغيراً ضرورياً في موقف المدرسة ، ما نزال بعيدين عن ادراك جزء واحد منه ادراكاً تاماً . فطرق التدريس ، والى حد بعيد مناهجنا، وكلها فائق الاهمية وموروث عن المرحلة التي كان فيها التعلم إتقان رموز معينة تقدم كما لو كانت المدخل الوحيد للثقافة . فمثل هذه المرحلة لا تزال مؤثرة الى حد بعيد ، وحتى عندما تكون الاساليب الظاهرة والدروس قد تغيرت ، فاننا نسمع احيانا بوجود التدريب اليدوي والفن والعلم في المدارس الابتدائية . وقد ندمت المدارس لأنها اتجهت نحو تكوين المتخصصين واستخفت او حطت من قدر نظام حضارتنا الراهنة على سماحها وتحررها .

والمغزى من هذا الاعتراض مضحك ، ان لم يحدث له تأثير شديد – كما هي

الهوامش : 

 "1" يقصد ان تيسر وسائل الثقافة للجميع لن : لطبقة ما ان تختص بالثقافة وحدها كما يهي كانت الحال سابقاً . وقوله خطأ تسلسل الحوادث اي ان انتشار وسائل الثقافة لا ينتج عنه احتكارها عند فئة معينة ، فذلك ليس من منطق الاشياء كما يقال - المترجم.

الصفحة 47 

الحال في الغالب - فيصبح محزناً، لان تربيتنا الراهنة ضيقة وذات جانب واحد وطابع اختصاصي الى درجة عالية ، فهي تربية يسيطر عليها - بكاملها تقريباً - مفهوم القرون الوسطى في التعلم . والظاهر ان هذا يعجب ، في الغالب الجانب العقلي في طبائعنا ورغبتنا في التعلم وتكديس المعلومات واحراز السيطرة على رموز التعلم لا على دوافعنا وميولنا في الصنع والخلق والانتاج ، سواء أكان ذلك بصورة نفعية ام فنية . والحقيقة الواقعة هي ان التدريب اليدوي والفن والعلم معترض عليها جميعاً اذا اصبحت للفن ذاته ، وميالة نحو التخصص البحث وهذه بينة حسنة يمكن تقديمها بشأن هدف التخصص الذي يسيطر على تيار تربيتنا . ولو لم تكن التربية قد اقترنت فعلياً بتتبعات عقلية مفرطة وبتعلم مفرط في الناحية العقلية "1" كذلك لكانت كل هذه المواد والطرائق مرحباً بها ومتقبلة بأوسع اكرام . وبينما يعد التدريب على مهنة التعليم نوعاً من الثقافة او يعد تربية حرة ، فان تدريب الميكانيكي والموسيقي والمحامي والطبيب والفلاح السكك يعتبر فنياً وحرفياً خالصاً ، فتكون نتيجة ذلك ان والتاجر ومدير نشاهد في كل مكان ان ينقسم الناس الى مثقفين وعمال وذلك فصل بين النظرية والتطبيق . ولا يكاد واحد في المئة من مجموع طلبة المدارس يصل الى ما يسمى بالدراسة العالية . ويصل خمسة في المئة الى الدراسة الثانوية ، بينما يترك اكثر من نصف الطلبة عند اكمال الصف الخامس الابتدائي او قبل ذلك . والسبب الاساسي لهذه الحالة هي ان الولع العلمي المجرد ليس ابرز ولا اقوى ولع عند الكثرة الغالبة من الناس اذ ان لدى الكثرة ما يسمى بالدافع او الاستعداد العملي ، وكثير ممن وهبتهم الطبيعة ولعاً عقلياً متيناً تحول الظروف الاجتماعية دون ان ينالوا ادراكاً كافياً للامور ونتيجة لكل ذلك تترك الكثرة الغالبة من

الهوامش :

"1" يقصد بالعقلية المجردة عكس ما يقصد بالعقلية العملية او التطبيقية - المترجم

الصفحة 48 

الطلبة المدرسة حالما تحصل على فتات من التعلم ، وحالما تحصل على ما يكفيها من تعلم رموز القراءة والكتابة والحساب ذات النفع العملي في المعيشة . وبينما يتكلم قادة التربية عندنا على الحضارة وعلى تنمية الشخصية الخ. بوصف ذلك غاية وغرضاً ، فان الكثرة الغالبة من الذين يدفعون أجوراً دراسية يعتبرون ذلك وسيلة عملية صعبة يستطاع بها الحصول على معيشة تخفف من قسوة الحياة الضنكة . فلو تهيأ لنا ان ندرك غايتنا وغرضنا التربويين بطريقة أقل افراطاً ، ولو تهيأ لنا ان نقدم في العمليات التربوية الفعاليات التي تجذب اولئك الذين أبرز اولاعهم العمل والصنع ، لوجدنا ان المدرسة تفيض على اعضائها بصورة اكثر حيوية واطول مدى واغنى حضارة. ولكن لم وجب علي ان اقوم بهذا التقديم المتعب ؟! الحقيقة البارزة ان حياتنا الاجتماعية قد عانت تغيراً قوياً واساسيا، فاذا اريد لتربيتنا ان تحتوي على معنى للحياة ايا كان فعليها ان تجتاز تبدلاً مساوياً تقريباً للتبدل السابق . على ان هذا التبدل ليس شيئاً ما يبدو فجأة او ينفذ في يوم لغرض مقصود لانه آخذ في التقدم من السابق ، وان هذه التعديلات في نظام مدارسنا التي لا تبدو غالباً " حتى لأولئك الذين تخصهم بصورة قوية فضلا عمن يشاهدونها وحسب " الا تغييرات بحتة في التفاصيل ، و تحسينات مجردة داخل ميكانيكية المدرسة ما هي في الحقيقة علامات وبينات على التطور . اما تقديم مهن عملية ودراسة الطبيعة ومبادىء العلوم والفن والتاريخ وجعل التعلم الرمزي والشكلي ذا منزلة ثانوية ، والتغير في جـو المدرسة الخلقي اي في علاقة الطلبة بالمعلمين - وهي الناحية التهذيبية- وتقديم عوامل اكثر فعالية وتعبيراً وتوجيهاً للذات ، فان هذه جميعاً ليست حوادث مصادفة ، بل ضرورات لتطور اجتماعي أوسع . ولم يبق الا ان تنظم هذه العوامل جميعاً وأن نقدرها بامتلائها ومعناها، وأن نجعل نظام مدارسنا يمتلك ما فيها من افكار

 " 4 "م

الصفحة 49 

و مثل ، بصورة كاملة وبدون مساومة . ولتنفيذ هذا يلزم ان نجعل في كل مدرسة من مدارسنا حياة اجتماعية مصغرة أو حياة اجتماعية في بدايتها فعالة بأنواع مهنها التي تعكس حياة مجتمع أكبر ، وتتقدم بروح من الفن والتاريخ والعلم فعندما تقدم المدرسة كل طفل الى عضوية المجتمع وتدربه داخل مجتمع صغير من هذا النوع فتجعله يتشرب روح الخدمة ، وتجهزه بأدوات التوجيه الذاتي الفعال ، يكون لنا حينذاك أعمق واحسن ضمان لمجتمع اكبر ذي قيمة و حسن وانسجام .

الصفحة 50 



المدرسة وحياة الطفل



حاولت في الفصل السابق ان اعرض العلاقة بين المدرسة والحياة الواسعة في المجتمع ، وحاولت ان ابين الضرورة التي توجب تغييرات معينة في طريقة المدرسة ومواد عملها لعلها تصبح اكثر ملاءمة للحاجات الاجتماعية الراهنة . وهنا ارغب في ان انظر الى المسألة من جانب آخر وان اتأمل في علاقة المدرسة بحياة الطلاب الذين فيها ونموهم . ولصعوبة ربط المبادىء العامة بأشياء ذات كيان الى حد بعيد ، كالاطفال الصغار مثلاً ، فقد سمحت لنفسي بتقديم مقدار وافر من المادة التوضيحية من عمل المدرسة الابتدائية الملحقة بالجامعة لعل القارىء يستطيع - بتدبير ما - ان يقدر الطريقة التي قدمت بها هذه الآراء وكيفية القيام بعملها في التطبيق الفعلي. لقد كنت قبل سنين قليلة أبحث في مخازن التجهيزات المدرسية في المدينة محاولاً ايجاد مناضد وكراسي يبدو انها تلائم الى درجة حسنة حاجات الاطفال من النواحي الفنية والصحية والتربوية ، فجابهنا صعوبة شديدة في الحصول على ما احتجنا اليه . واخيراً قال احد الباعة ، وكان أنبه جماعته : -اني اخشى ألا تجد عندنا ما تريده ، لانك تريد اثاثاً يستطيع ان يعمل عليه الاطفال ، بينما كل ما تراه عندنا مصنوع للاصفاء  -، وهذا ما يقص علينا حكاية التربية التقليدية كلها ، تماماً كما يأخذ المتخصص عظماً او عظمين فيجبر كسر الحيوان ، لذلك فاننا اذا وضعنا أمام -عين العقل- ، غرفة الدراسة الاعتيادية

الصفحة 51 

بصفوفها من المناضد الكريهة مرتبة في نسق هندسي ومزدحمة جميعاً بصورة لا تترك الا أقل مجال ممكن للحركة ، مناضد كلها من حجم واحد يكفي لاستيعاب الكتب والاقلام والورق ، وأضف الى ذلك منضدة وبعض الكراسي والجدران العارية ، ومن الممكن ان توجد بعض الصور القليلة . اذا نظرنا الى هذا كله استطعنا ان نتصور الفعالية التربوية الوحيدة التي يمكن ان تجري في محل كهذا :

-ان كل ما تراه عندنا مصنوع للاصغاء- ، لأن التدريس بلا كتاب ليس الا نوعاً من الاصغاء يبين اعتماد عقل على آخر . والاتجاه الى الاصغاء يعني الكلام المقارن ، الانفعال والتسلم ، أي وجود مواد معينة ومهيأة من السابق أعدها مدير المعارف ومجلس المعارف والمعلم ، وعلى الطالب أن يمتص منها اكبر قدر ممكن في أقل وقت ممكن . لذا فلا يوجد في غرفة الدراسة التقليدية الامجـــــال ضئيل للعمل . فالمصنع والمختبر والمواد والادوات التي يمكن أن ينشيء بهــــا الطفل شيئاً ما أو ينتجه او يتحراه بصورة فعالة ، وحتى المجال المتطلب لذلك مسبقاً ، كلها يفتقر اليها في اغلب الأحيان وليس للاشياء التي تتصل بهذه العمليات اهمية ، حتى ولو مكان واضح المعالم في التربية . فهي ما تسميه السلطات التربوية التي تكتب الافتتاحيات في الصحف اليومية بـ « البدع » و «الزخارف» وقد أخبرتني احدى السيدات أمس أنها زارت مدارس مختلفة محاولة أن تجد مدرسة واحدة تكون فيها الفعالية التي يقوم بها الأطفال تتجاوز اعطاء المعلم المعلومات للتلاميذ ، أو أن للتلامذة دافعاً يتطلب المعلومات ، ولكنها قــــــد ذكرت أنها زارت اربعاً وعشرين مدرسة قبل ان تجد مدرسة واحدة على ما ارادت . ومن الواجب أن أضيف أن تلك المدرسة ليست في هذه المدينة . وشيء آخر توحي به غرف الدراسة هذه بمناضدها المرصوفة هو أن كل شيء فيها

الصفحة 52 

مرتب بحيث يمكن التعامل مع أكبر عدد مستطاع من الاطفال لأن التعامل مع الطلبة على هيئة جماعات أو وحدات متجمعة واقولها مرة ثانية يتضمن أن يعاملوا بصورة سلبية ، ولكن في اللحظة التي يعمل فيها الاطفال يميزون فرديتهم ويكفون عن أن يصبحوا كتلة ، وانما يصبحون كائنات متميزة الى درجــــة كبيرة ، وهي الكائنات التي نعرفها خارج المدرسة ، في البيت والأسرة والملعب والجيرة ، وعلى هذا الاساس نفسه يمكن توضيح وحدة الطريقة والمنهج . واذا ترتب كل شيء على قاعدة  -الاصغاء- صار من الميسور توحيد المادة والطريقة . فحاسة السمع والكتاب الذي ينعكس عليها يكونان وسيلة متماثلة للجميع ، ولا يوجد الا شيء ضئيل ، يكاد يساوي العدم ، من التكيف للمتطلبات والقابليات المختلفة لوجود مقدار معين أو كمية معينة ذات انجاز ونتائج مهيأة يلزم على الاطفال جميعاً أن يقتبسوها بطريقة واحدة وفي وقت واحد . وبتجاوب وهذا الأمر ومسايرته انشئت المناهج ابتداء من الدراسة الابتدائية فصاعداً ... الى الكلية . هذا مع وجود كثير من المعرفة المرغوب فيها وكثير من الحاجة الى الانجازات الفنية في العالم . ثم تأتي المشكلة الحسابية ، مشكلة تقسيم المنهج على ست سنوات أو اثنتي عشرة سنة أو ست عشرة سنة من سني الحيـاة المدرسية ، والآن اعط الاطفال في كل سنة جزءاً مناسباً من المنهج بكامله ، قبالانجاز أو الفراغ من قواعد كثيرة في هذه الساعة أو هذا اليوم أو الاسبوع أو السنة يأتي كل شيء مع مجرى الحوادث بصورة تامة بشرط ألا يكون الاطفال قد نسوا ما سبق لهم أن تعلموه. 

ان حاصل كل هذا بيان ورد في تقرير ماتيو أرنولد وقدرفعه اليه بفخر احد التربويين المسؤولين في فرنسا ومؤداه ان الافاً عديدة من الاطفال كانت تدرس في ساعة معينة ولنقل الساعة الحادية عشرة درساً معيناً

الصفحة 53 

في الجغرافية . وفي احدى مدثنا الغربية كان من المعتاد ان يعيد احد مديرني المعارف هذا الفخر السامي على العديد من الزوار ، ولعلي قد أسهبت نوعاما لكي أوضح النقاط الشائعة في التربية القديمة بسلبيتها في الاتجاه، وميكانيكيتها في حشد الاطفال ، وتجانسها في المناهج والطريقة . ومن الممكن ان يلخص كل ذلك بالقول بأن مركز الجاذبية واقع خارج نطاق الطفل، انه في المعلم .. في الكتاب المدرسي .. بل قل في أي مكان تشاء عدا أن يكون في غرائز الطفل وفعالياته بصورة مباشرة . وعلى تلك الاسس فليس هناك مما يقال عن حياة الطفل ، وقد يمكن ذكر الكثير عما يدرسه الطفل الا ان المدرسة ليست المكان الذي يعيش فيه. و في الوقت الحاضر نرى ان التغير المقبل في تربيتنا هو تحول مركز الجاذبية ، فهو تغير او ثورة ليست غريبة عن تلك التي احدثها كوبرنيكس عندما تحول المركز الفلكي من الأرض الى الشمس ففي هذه الحالة يصبح الطفل الشمس التي تدور حولها تطبيقات التربية وهو المركز الذي تنظمها حوله .

واذا اخذنا مثلا من بيت مثالي حيث الوالد نابه الى درجة تجعله يميز ما هو صالح لطفله ، وهو قادر على تجهيزه بما يحتاج اليه حقاً ، فاننا نجد الطفل يتعلم من التخاطب الاجتماعي ومن تركيب الأسرة اذ توجد عدة نقاط معينة ذات ولع وقيمة له في المحادثات الجارية حوله . فحين تؤلف جمل وتثار استفهامات وتبحث مسائل يتعلم الطفل بصورة مستمرة ، وهو يقرر خبراته فيصحح ما يخطأ فيه من المعاين - وأقول مرة ثانية ان الطفل يشارك في مشاغل أعضاء الاسرة فيكتسب عندذاك عادة المواظبة والنظام واحترام حقوق الآخرين وآرائهم ، وثمة شيء اساس ، هو جعل فعالياته ذات منزلة ثانوية من أجل الرغبة العامة الموجودة لدى اعضاء الأسرة ، فتصبح المشاركة في أعمالهم فرصة لتحصيل المعرفة . ومن الطبيعي أن يكون للبيت المثالي محل محل صغير تحفظ فيه بض الادوات حيث

الصفحة 54 

يستطيع الطفل ان يعبر عن غرائزه البناءة . ويكون فيه مختبر صغير قد يستطيع الطفل فيه أن يوجه ما لديه من تبعات . وستتسع حياة الطفل خارج البيت فتتجه الى الحديقة والى الحقول المجاورة والغابات ، وستكون له رحلاته ونزهاته وأحاديثه التي تفتح أمامه العالم الواسع . فاذا نظمنا الآن وعممنا كل هذه الاشياء فقد حصلنا على المدرسة المثالية  "1"وليس في هذا غموض أو اكتشاف عجيب في النظرية التربوية .. انها ، بسهولة ، مسألة العمل بانتظام وبطريقة رحبة كيسة قادرة يمكن أداؤها في اغلب البيوت بصورة عفوية وضيقة نسبياً لاسباب مختلفة . ولذا يجب في المقام الأول توسيع البيت المثالي ، كما يجب أن نوسع اتصال الطفل بالبالغين وبالاطفال لكي تكون حياته الاجتماعية أكثر حرية وغنى . وعلاوة على ذلك نجد أن وظائف محيط البيت وعلاقاته ليست منتقاة بصورة خاصة لنمو الطفل ، لأن الغرض الرئيسي منها شيء آخر وكل ما يناله الطفل منها انما هو شيء عرضي. وهنا تظهر الحاجة الى المدرسة. وفي هذه المدرسة تصبح حياة الطفل الغرض الوحيد المسيطر .. وهناك تتركز البيئات الضرورية لتقدم نمو الطفل . وماذا يقال عن التعلم ؟ إنه موجود بكل تأكيد ولكن الحياة هي الشيء الاساس ، أما التعلم فيأتي عن طريق علاقته بالحياة وخلالها . وعندما نجعل حياة الطفل متمركزة ومنظمة على هذه الصورة فلا نجد الطفل مخلوقاً للاصفاء بالدرجة الأولى بل نجده على النقيض من ذلك. على أن التعبير الذي كثيراً ما نسمعه ، وهو التعبير القائل بأن التربية معناها 

الهوامش : 

 "1" يقصد بالمدرسة المثالية المدرسة التي نصبو اليها لا المدرسة التي تستمد أسسها ومبادئها من الفلسفة المثالية وهي الفلسفة ذات الاسس العقلية التي شرعها أو نماها افلاطون - المترجم

الصفحة 55 

-الاستخراج- "1"، تعبير ممتاز اذا اردنا أن نعارضه بسهولة مع عملية- السكب- ،"2"  ، ولكن بعد هذا كله نجد من الصعب ان تربط بين فكرة الاستخراج وما يعمله الطفل بصورة اعتيادية وهو في السنة الثالثة او الرابعة او السابعة أو الثامنة من العمر ، لأنه مأخوذ ومغمور بفعاليات من كل الانواع . وليس هو مجرد كائن متخف على البالغ ان يتعامل معه بحذر ومهارة لكي يستخرج منه جرثومة الفعالية المختفية . لأن الطفل بطبيعته فعال الى درجة شديدة ومسألة التربية هي مسألة الهيمنة على فعالياته وامدادها بالتوجيه ، فبالتوجيه والاستعمال المنظم تميل فعالياته نحو النتائج القيمة بدلا من ان تصبح مبعثرة أو متروكة فتعبر تعبيراً طائشاً محضاً . فاذا جعلنا هذا نصب أعيننا فالصعوبة القصوى المستقرة في أدمغة كثير من الناس حول ما يسمى بالتربية الحديثة تحل لا بل تختفي . وكثيراً ما يثار هذا السؤال : اذا كنت تبـدأ بأفكار الطفل ودوافعه وأولاعه وكلها فجة وارتجالية ومبعثرة وضئيلة في روحها وتبلورها ، فكيف يستطيع ان يحوز على النظام والثقافة والمعلومات الضرورية ؟ فلو لم تكن من طريق مفتوحة امامنا الا ان نثير وننهمك في دوافع الطفل لحق أن يسأل هذا السؤال .. اذ ليس لنا الا ان نتجاهل فعاليات الطفل ونكبتها ، أو أن نسايرها . ولكنن ان كان لدينا تنظيم للمواد والتجهيزات فهذه طريق أخرى مفتوحة أمامنا . اننا نستطيع ان نوجــــــه فعاليات الطفل وان نمنحها تدريباً ضمن خطوط معينة فنتمكن بهذه الصورة من ان نصل الى الهدف الذي يقف منطقياً في نهاية الطرق المتبعة . ولو كانت

الهوامش : 

"1"يقصد « بالاستخراج » قيام المعلم بتوجيه الطفل لحمله على كسب المعرفة والخبرة بنفسه . 

"2" يقصد « بالسكب » قيام المعلم بتقديم الخبرة والمعرفة الى الطفل مباشرة .

الصفحة 56 

الأماني خيولا لامتطاها الشحاذون " "1وبما أنها ليست كذلك ، وبما ان اشباع الدافع أو الولع يعني تنفيذه ، وان تنفيذه يشمل التغلب على العقبات وان التعرف على المواد معناه أن تبدي مهارة وصبراً ومواظبة وانتباهاً ، فهذا بالضرورة يتضمن ضبطاً - اي تنظيماً للقوى - واكسابا للمعرفة . خذ مثلا الطفل الصغير الذي يريد أن يصنع صندوقاً ، فاذا وقف عاجزاً في خياله أو أمنيته فمن المؤكد انه لا يكتسب نظاماً ، ولكنه عندما يحاول أن يحقق دافعه فهنا عندئذ تنشأ مسألة جعل فكرته محدودة ووضعها في خطة ثم اختيار أحسن أنواع الخشب الملائمة ، وأخذ قياس الاجزاء المطلوبة وفق النسب الضرورية.. الخ .. كما يشمل ذلك تحضير المواد ونشر الخشب وتخطيطه وتحضير الورق الرملي "2" وجعل الزوايا جميعاً متطابقة. وهكذا فمعرفة الادوات والعمليات شيء ولا يستغنى عنه. فاذا حقق الطفل غريزته "3" وصنع الصندوق فلديــــــه فرصة وافرة لاكتساب النظام والمثابرة وممارسة جهد في التغلب على العقبات وبلوغ مقدار وافر من المعلومات . وهكذا فمما لا شك فيه أن الطفل الصغير الذي يفكر في الطبخ ليست عنده اية فكرة عما تعنيه هذه العملية او تكلفه او تتطلبه ، انما يفعل ذلك بكل سذاجة رغبة في الانغماس بالعمل وربما في تقليد فعاليات الكبار . ومما لا شك فيه أن من المستطاع أن نهبط الى ذلك المستوى وان نساير بسهولة ذلك الولع . ولكن هنا ايضاً عند تنفيذ الدافع او ممارسة تنفيذه والانتفاع به يصطدم الطفل بعالم الظروف الواقعية الصعبة التي يجب على الدافع ان يكيف نفسه بموجبها ، وهنا يدخل عاملا النظام والمعرفة للمرة الثانية

الهوامش : 

 "1"مثل اميركي - المترجم "2" - هو الورق الخشن المستعمل للتنعيم وهو المعروف بـ « كاغد جام أو كاغد سنباده » - المترجم " "3-  يستعمل المؤلف لفظ غريزة ويقصد به الميل - المترجم .

الصفحة 57 

وقد ينفد صبر احد الاطفال سريعاً عندما يحاول أن يصنع شيئاً بأسلوب التجريب الطويل فيقول : لماذا نزعج أنفسنا بهذا ؟ لنتبع وصفة طبخ من احد الكتب . وعندما يسأل المعلم الاطفال عن مصدر وصفة الطبخ هذه تظهر المحادثة بينه وبينهم بأنهم اذا تابعوا الأمر على هذا النحو فلن يفهموا اسباب ما قاموا به وحينذاك يصبحون راغبين جداً في الاستمرار بالعمل التجريبي ، فالاستمرار في هذا العمل يعطي في الحقيقة تصويراً دقيقاً لهذه المسألة التي هي قيد البحث . ذلك لقد كان عملهم اليوم سلق البيض بوصفه مرحلة بين طبخ الخضراوات وطبخ اللحوم ، ومن أجل إيجاد اساس للمقارنة ، فقد لخصوا أولاً العناصر الجوهرية الموجودة في الخضراوات وقارنوها بالعناصر الغذائية الموجودة في اللحم ، فوجدوا أن الالياف الخشبية او السليلوز الموجود في الخضراوات يقابل النسيج الضام او الرابط في اللحم ، ذلك النسيج الذي يعطي المادة شكلها وبنيتها.

ووجدوا كذلك ان النشاء والمنتوجات النشوية من خصائص الخضراوات ، وان الاملاح المعدنية موجودة في كلتا المادتين "1" كما توجد مادة دهنية في كل منها ولكن بكمية قليلة في الخضراوات وكبيرة في اللحوم. ثم أصبحوا بعد ذلك مهيئين لدراسة « الالبومين  "2" «بوصفه صفة لازمة من . صفات الطعام الحيواني تقابل النشاء في الخضراوات وصاروا مستعدين كذلك لتقدير الظروف الضرورية لمعالجة الالبومين ، فأخذ البيض مادة للتجربة . وبدأت التجربة اولاً بأخذ كميات من الماء في درجات حرارة مختلفة ليعرفوا متى يسخن الماء ومتي يأخذ بالأزيز ومتى يغلي ، وتأكدوا من ذلك بتأثير درجات الحرارة المختلفة في بياض

الهوامش : 

"1" الخضراوات واللحوم .

 "2"الآح اي بياض البيض .

الصفحة58 

البيض. فلما نجحوا في ذلك أصبحوا مستعدين لا لسلق البيض وحسب  ، بل لفهم المبادىء المتضمنة في ذلك...

أنا لا ارغب الآن في ان اضيع الناحية العامة في حادثة خاصة ، فاذا رغب الطفل بسذاجة في ان يسلق بيضة فألقى بها في ماء يغلي لمدة ثلاث دقائق ثم اخرجها منه عندما طلب اليه ذلك فهذه العملية ليست عملية تربوية . ولكن اذا حقق دافعه الخاص بمعرفة الحقائق والمواد والظروف المتطلبة ثم نظم دافعه وفق تلك المعرفة فتلك عملية تربوية وهنا يكمن الفرق الذي ارغب في الاصرار عليه بين اثارة ولع او انهماك به ، وبين تحقيق ذلك الولع بتوجيهه.

ويوجد ميل آخر للطفل هو استعمال القلم والورق . فالاطفال جميعاً يرغبون في التعبير عن انفسهم باللون والشكل . فاذا اجزت الظهور لهذا الولع بسهولة ، وذلك بالسماح للطفل بالانطلاق بصورة غير محدودة فلا يحصل له من النمو إلا ما كان عرضياً . ولكن دع الطفل يعبر أولاً عن الدافع الذي في نفسه ثم الفت انتباهه الى ما يصنع والى ما يحتاج الى صنعه بالنقد والاسئلة والاقتراحات فهنا ستكون النتيجة شيئاً مختلفاً تماماً . فهنا مثلا في " شكل واحد " صورة رسمها طفل عمره سبع سنوات ، وهي ليست عملاً اعتيادياً بل انها افضل رسم من بين رسوم الاطفال الصغار يمثل المبدأ الخاص الذي تكلمت عنه. فقـــد ند تكلم الاطفال عن الظروف البدائية في الحياة الاجتماعية عندما كان الناس يعيشون في الكهوف فوجدت فكرة الطفل تعبيراً عن نفسها بهذه الصورة اذ رسم الكهف بأناقة فوق سفح تل ولكن بصورة مستحيلة "1" ، وأنت ترى صورة الشجرة المألوفة لدى الطفولة وهي عبارة عن خط عمودي واغصان افقية من كلا الجانبين

الهوامش : 

 "1" يقصد ان الكهوف لا توجد فوق صفيح التلال- المترجم

الصفحة 59 

ولو سمح للطفل ان يستمر في اعادة هذا النوع من العمل يوماً بعد يوم لأوغل فيميله الفطري بدلاً من ان يمرنه ولكن الطفل سئل بعد ذلك ان ينظر بدقة الى

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة 60 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

الاشجار وان يقارن ما يراه منها بتلك الشجرة التي رسمها وان يمحص بوعي اكثر ظروف عمله ، فرسم بعد ذلك اشجاراً كما لاحظها. 

واخيراً ر رسم مرة اخرى من مجموع ملاحظته وذاكرته وتخيله تصويراً حراً عبر فيه عن افكاره التخيلية الخاصة ، و كان ذلك مقيداً بدراسته التفصيلية الاشجار الحقيقية . 

وكانت النتيجة منظراً يصور قسماً من الغابة كما هو واضح في " شكل رقم 2  " والى الحد الذي بلغته الصورة يبدو لي أن فيها كثيراً من

الصفحة 60 

الاحساس الشاعري ، كما لو كانت من عمل شخص بالغ . وفي الوقت نفسه تبدو أشجارها ذات نسب معقولة لا مجرد رموز. واذا أردنا ان تصنف دوافع الطفل الظاهرة في حياته المدرسية فمن الممكن وضعها تحت أربعة أقسام . منها ، الغريزة الاجتماعية لدى الاطفال ، والتي يعبرون عنها بالمحادثة والاتصال الشخصي والمراسلة . وكلنا يعلم كم يكون الطفل

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة16 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

مركزي الذات عندما يكون في الرابعة أو الخامسة من عمره فاذا عرض موضوع ما وقال شيئاً عنه قال « لقد رأيت ذلك ، 

او ان ذلك لأن أفقه- أبي أو أمي قد أخبرني او أخبرتني عن ذلك  . . -والواجب ان تسعى الخبرة اليه مباشرة اذا أريد له ان يتولع بها الى درجة مرضية ، وان يربطها بالخبرات الاخرى ويسعى الى غيم

الصفحة61 

مقابل ذلك . وعلى كل فالولع الاناني المحدود والموجود لدى الاطفال الصغار بهذه الصورة قابل لتوسع غير محدود . وغريزة اللغة أسهل شكل من التعبير الاجتماعي لدى الطفل ومع ذلك فهي عظيمة ، بل لعلها اعظم جميع المصادر التربوية. وتوجد كذلك غريزة الصنع وهي الدافع البناء الذي يدفع الطفل الى ان يصنع ويجد تعبيراً عما يصنع في اللعب والحركة والاشارة والتخيل بالدرجة الاولى ، ثم يصبح اكثر محدودية . وتتطلب غريزة الصنع هـذه منفذاً لجعل الاشياء ذات اشكال مفهومة وتجسيدات ثابتة وليس للطفل مقدار وافر من غريزة البحث المجرد. 

 والظاهر أن غريزة البحث تنمو من تركيب دافع البناء او الانشاء مع الدافع الى المحادثة ، وليس من فرق لدى الاطفال الصغار بين العلم التجريبي والعمل المنجز في دكان نجار على ان العمل الذي يمكنهم أن يقوموا به في الفيزياء والكيمياء ليس لغرض القيام بتعميمات فنية أو حتى التوصل الى حقائق مجردة .

فالاطفال عادة يرغبون في أن يصنعوا اشياء ثم يرقبوا ما ينتج عنها . وهذا شيء يمكن الاستفادة منه . فمن الممكن ان يوجــــه الى طرائف ذات نتائج قيمة ، لا ان يترك ليجري اعتباطاً . وهكذا نجد ايضاً ان الدافع التعبيري لدى الاطفال ، اي غريزة الفن ، تنشأ ايضاً من غريزتي الاتصال والانشاء "1" فهي خلاصتها ومظهرهما الكامل . فاذا جعلت ما تصنعه مرضياً ومليئاً وحراً ومرناً وأعطيته دافعاً اجتماعياً وشيئاً ما لتخبر عنه فقد صار لديك

الهوامش : 

 "1" يلاحظ أن ديوي يقول بوجود غريزة فنية ، ويستعمل أحياناً اصطلاح « دافع » بدل

-غريزة -  -المترجم .

الصفحة 62 

عمل فني . خذ على ذلك مثلاً ذا علاقة بنسج الأقمشة ، وهو الخياطة والنساجة . فقد صنع الاطفال آلة نسيج بدائية في عملها، وهنا أثيرت غريزة الانشاء ، ثم رغبوا في ان يعملوا شيئاً ما بتلك الآلة . لقد كانت آلة نسيج هندية وقد شاهدوا اغطية "بطانيات" صنعها الهنود الحمر . فصنع كل طفل تصميماً قريباً في فكرته الى تصميم أغطية نافاكو. فاختير منها ما بدا أنه اكثر الجميع ملاءمة للعمل الراهن . وقد كانت المصادر الفنية محدودة ، إلا ان التلوين والهيئة كانا من عمل الاطفال. 

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة 63  ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

الصفحة 63 

وقد دل عمل هؤلاء الاطفال الذين هم في سن الثانية عشرة -- لدى فحصه- وحسب على الصبر والجودة والمواظبة . ولم يتضمن ذلك العمل نظاماً ومعلومات ، وان كان كلاهما ذا طبيعة تاريخية وعناصر تصميم فني ، ولكن تضمن الى جانب ذلك شيئاً من روح الفن في فكرة استوفيت الى درجة حسنة . ويوجد مثل آخر على صلة الفن بالجانب الانشائي ، وهو ان الاطفال كانوا يدرسون تمشيط الصوف وغزله بصورتيها البدائيتين عندما كان احدهما وهو في الثانية عشرة من عمره يرسم صورة طفل يغزل " شكل رقم "3" . وهنا توجد ايضاً قطعة فنية اخرى ليست من النوع الاعتيادي تماماً ، لأنها أرقى من ذلك ، وهي صورة يدين تسحبان الصوف ليكون حاضراً للغزل " صورة رقم" 4  وقد صنعها طفل في الحادية عشرة من عمره وعلى كل حال فان الدافع الفني خصوصاً لدى الاطفال مرتبط بصورة رئيسية بالغريزة الاجتماعية التي تعني الرغبة في التحدث والتمثيل . والان اذا تذكرنا هذه الاولاع الأربعة ، وهي الولع بالتحدث او بالاتصال والولع بالبحث او باكتشاف الاشياء والولع بصنع الاشياء او بإنشائها ثم الولع بالتعبير الفني .. اذا تذكرناها ، امكن القول بوجود مصادر وهي رأس مال غير مستثمر وعلى وجودها يرتكز النمو طبعية الفعال للطفل .

وهنا ارغب في ان اقدم مثلاً او مثلين ، اولهما من صنع اطفال في السنة السابعة من العمر ، وهو يمثل بصورة ما رغبة الاطفال الواضحة في الكلام خصوصاً عن الناس وعن اشياء ذات علاقة بالناس . فلو لاحظت الاطفال الصغار لوجدت أنهم ذوو ولع بعالم الاشياء ، ولا سيما بارتباطها مع الناس لجعل ذلك اساساً ووسيلة للشؤون الانسانية . وقد اخبرنا كثير

الصفحة 64 

من علماء الاجناس البشرية " الانثروبولوجيا " عن وجود مطابقات معينة بين اولاع الاطفال والأولاع الموجودة في الحياة البدائية . فيوجد نوع من التكرار الطبيعي في عقل الطفل مماثل للفعاليات الشائعة لدى الشعوب البدائية . وللتحقق من ذلك شاهد الكوخ الذي يرغب الطفل في بنائه في ساحة الدار واعمال الصيد التي يقوم بها بالقسي والسهام والحراب وهامجرا .

وللمرة الثانية يأتي هذا السؤال : ماذا نحن فاعلون بهذا الولع؟ انتجاهله ام نثير ه ونظهر ما كمن منه ؟ ام نقبض عليه ونوجهه نحو شيء قادم .. شيء افضل ؟ إن

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة 56 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

"م ه"

الصفحة 65 

بعضاً من العمل الذي وضع لاطفال السنة السابعة تضمن هذه الغاية في وجهته ، وهي الانتفاع بهذا الولع ليصبح وسيلة لمشاهدة تقدم النوع الانساني فيبدأ الاطفال بتصور الاوضاع الحاضرة منتزعة من اصلها الى ان يصبحوا بتماس مباشر مع

الطبيعة . وهذه تعود الى الصيادين والشعوب التي تعيش في بهم الكهوف وبين الاشجار وتأخذهم هزة صيد الحيوانات والاسماك . ويتصورون قدر الامكان الظروف الطبيعية الخارجية الموجودة في ذلك النوع من الحياة ، مثل منحدر مكسو بالاشجار على مقربة من الجبال وقرب نهر يكثر فيه السمك يأخذون في تصور العصر نصف الزراعي بتصورهم الصيد ثم ينتقلون من العصر البدوي الى العصر الزراعي المستقر . والنقطة التي ارغب في ذكرها هي وجود فرصة وافرة ، مهيأة للدراسة الفعلية و للبحث ينتج عنها اكتساب المعرفة . وهكذا فبينما تكون الغريزة مشغوفة بالجانب الاجتماعي بصورة اساسية، نجد ان ولع الطفل بالناس و بما يصنعون محقق في عالم الفسيح . مثال ذلك ان الاطفال قد اكتسبوا فكرة ما عن الاسلحة البدائية والرؤوس الحجرية للسهام .. الخ .. وهـذ یہیں مناسبة او فرصة لفحص المواد من حيث هشاشتها وشكلها وتركيبها .. الخ .. وينتج عن ذلك درس في علم المعادن عندما يختبرون احجاراً مختلفة ليجدوا ايها يلائم غرضهم أكثر من غيره . اما بحث العصر الحديدي فقد اثار حاجة الى انشاء موقد سباكة مصنوع من الطين وذي الاطفال على رسومهم صحيحة في اول الامر ، حجم مناسب . ولم يحصل فصار فم الموقد لا يناسب منفذه "1" في - حجمه ولا في مكانه . واستدعى ذلك اكتساب معلومات في أسس الاحتراق وطبيعة الوقود والرسوم ، ومع ذلك

الهوامش : 

 "1" منفذ الموقد ثقب في جانبه من الاسفل يصنع لدخول الهواء - المترجم

الصفحة 66 

فان المعلومات لم تكن موجودة من السابق بل احتيج اليها آنيا ثم توصل اليها بصورة تجريبية . وقد اخذ الأطفال بعض المعادن كالنحاس واستمروا في سلسلة من التجارب كتذويب المعدن وصنع اشياء منه ، ثم أجريت تجارب مماثلة على الرصاص والمعادن الأخرى وصار في عملهم هــــذا درس مستمر في الجغرافية لأن الاطفال أخذوا يتصورون ويصطنعون

الظروف الطبيعية الموجودة في الانواع المختلفة من الحياة الاجتماعية . واذا سئلوا عن الظروف الصالحة لحياة قس كنيسة أو عن شروع في زراعة أو صيد سمك أو عن الطريقة الطبيعية للتبادل بين الناس فعليهم ان يمثلوا ما يتوصلون اليه من نقاط في محادثتهم بخرائط واشكال من الرمل . وبهذه الطريقة عينها اكتسبوا اراء مختلفة عن تكوين الأرض . وفي الوقت نفسه شاهدوا علاقة تلك الآراء بفعالية الانسان وهكذا فهي ليست آراء خارجية ساذجة ، ولكنها قد انصهرت والتحمت بالمفاهيم الاجتماعية التي تخص حياة الانسانية وتقدمها . 

والنتيجة حسب ما أرى تبرر بصورة تامة اقتناعي بأن الاطفال خلال سنة يقضونها بعمل من هذا النوع  "خمس ساعات أسبوعياً بصورة عامة " يتعرفون بصورة واسعة على حقائق العلم والجغرافية وعلم " الانثروبولوجيا " اكثر مما ينالون. حيث اعطاء المعلومات الغرض والغاية المعترف بها وهم مرصوفون لتلقي الحقائق في دروس ثابتة لا غير. 

اما في ما يخص النظام فانهم يكتسبون تدريباً في الانتباه وفي القدرة على التفسير وفي الاستقصاء والملاحظة الحادة والفهم الممحص المستمر اكثر مما لو كانوا قد وضعوا ليحلوا مشاكل اعتباطية لوجه النظام وحسب . 

الصفحة 67 

وعلى ذكر هذه النقطة اود ان اشير الى اداء الدروس التي يعدها الطلبة لا لقائها امام المعلم  .اننا جميعاً نعلم بوجود محل يقف فيه الطفل ليظهر القاء الدروس امام المعلم والاطفال الآخرين مقدار المعلومات التي نجح في تمثلها او استيعابها من الكتاب المقرر . فمن وجهة النظر هذه يصح المعدة فرصة ممتازة لالتقاء اجتماعي . وهو في المدرسة كالمحادثة التلقائية في البيت ، عدا انه يمتاز بتنظيم اكثر ومتابعة خطوط معينة . فهو دار مقايضة اجتماعية وهو عرضة للانتقاد لتصحح منه المفاهيم غير الصحيحة و توضع فيه خطوط جديدة للفكر والبحث . وان التبادل في الالقاء ابتداء من الاختبار في المعلومات التي تم تحضيرها الى عمل غريزة الاطفال في الاتصال الحر ، يؤثر في عمل المدرسة اللغوي .

وفي النظام القديم كان اعطاء الاطفال استعمالا لغوياً حراً وتاما مسألة واضحة الخطورة ، وكان سبب ذلك واضحاً فقد كان من النادر تهيئة دافع لتعلم لغوي. وقد عرفت اللغة في كتب التربية المقررة بأنها وسيلة التعبير عن التفكير ، فصارت بهذا التعريف ، الى حد ما ، للبالغين ذوي العقول المدربة وقلت الحاجة الى ان يقال فيها بأنها شيء اجتماعي ووسيلة ننقل بها خبرتنا الى الآخرين ونأخذ منهم خبرتهم مقابل ذلك . ولا غرابة ومعقدة في التدريس عندما تستبعد عن هدفها الطبيعي . ولنتأمل سخافة تدريس اللغة بوصفها شيئاً قائماً لذاته . واذا وجد شيء ما يقوم به الطفل قبل ان يذهب الى المدرسة فهو ان يتكلم عن الاشياء التي يحبها . ولكن عندما لا توجد اولاع حيوية تجذب الطفل في المدرسة وعندما تستعمل اللغة لاعادة الدروس لا غير ، فليس من ان تصبح اللغة مشكلة صعبة المستغرب ان يصبح التعليم بلغة الأم من المشاكل البارزة في عمل المدرسة .

الصفحة 68 

وبما ان اللغة تدرس بطريقة غير طبيعية وغير منبثقة عن الرغبة الحقيقية في التعبير عن اقتناع وانطباعات حيوية ، فان حرية الاطفال في استعمالها تختفي تدريجاً الى ان يبتكر اخيراً مدرس المدرسة الثانوية وسائل عديدة ليعين في الحصول على استعمال كامل وتلقائي في اللغة ، وعلاوة على ما تقدم، اذا أثيرت غريزة اللغة أو جذبت بطريقة اجتماعية حصل اتصال مستمر بالواقع . وتكون النتيجة أن للطفل دائماً شيئاً ما ليقوله ، أي ان له فكرة ليعبر عنها ، وليست الفكرة فكرة ما لم تكن خاصة بصاحبها . وقد كان على الطفل في الطريقة التقليدية ان يقول شيئاً تعلمه من الكتب . 

ومن الواضح وجود فرق جسيم جداً بين أن يكون لك شيء تقوله وبين ان تحفظ شيئاً لتعيده . فالطفل الذي لديه انواع عديدة من المواد والحقائق يريد ان يتكلم عنها ، وتصبح لغته منتقاة وغنية لأن الوقائع تسيطر عليها وتمدها بالمعلومات . ومن الممكن ان تدرس القراءة والكتابة و استعمال اللغة الشفهي على هذا الاساس. كما يمكن ان يجعل ذلك بصورة ارتباطية ، اي بأن يوجه دائماً نحو رغبة الطفل الاجتماعية في ان يحصي خبراته ويكتسب مقابلها خبرات الآخرين، نحو الاتصال بالوقائع والقوى التي تحدد الحقيقة المعبر عنها . وليس لي مجال هنا للكلام على الاطفال الكبار ، فهم ذوو غرائز انشاء واتصال اصيله ، ولكنها غير ناضجة ، وقد نمت الى شيء قريب من الاستقصاء العلمي الموجه . وسأذكر مثلاً لاستعمال اللغة بعد الفراغ من ذكر هذا العمل التجريبي ، وهو عمل على قاعدة من تجربة بسيطة ذات نوع شائع جداً تقود الاطفال تدريجياً الى دراسة جغرافية وجيولوجية . وان الجمل التي سأذكرها تبدو لي شاعرية ، كما انها

الصفحة 69 

علمية ، وهي قبل زمن موغل في القدم عندما كانت الأرض حديثة التكوين ، كانت حمما سائلة Lava ولم يكن على الارض ماء آنذاك ، وقد احاط بالارض بخار مع الهواء .

وكان في الهواء كثير من الغازات منها ثاني اوكسيد الكربون ، فصار البخار سحباً لان الارض أخذت تبرد وبعد مدة اخذت تمطر تلك السحب ، فنزلت المياه وأذابت ثاني أوكسيد الكربون من الهواء. 

 فمن المحتمل وجود مقدار كثير من العلم في هذا التصوير أوفر مما ظهر في التصوير السابق، وهو يستغرق مدة ثلاثة أشهر في عمل أو دراسة يقوم بها الطفل. وقد احتفظ الطلبة بمذكرات يومية واسبوعية ، وكان ذلك قسماً من تلخيص دروس الفصل الدراسي . وانني اصف هذه اللغة بأنها لغة شاعرية لأن الطفل يأخذ منها صورة واضحة وشعوراً شخصياً عن الوقائع المتخيلة . وسأذكر جملا موجزة من دفتري مذكرات طالبين آخرين لأبين بصورة أوسع الاستعمال الحي للغة عندما توجد خبرة حية تمد ذلك الاستعمال ، فأقول مقتبساً: «عندما اصبحت الأرض باردة الى درجة تكفي لتكثيفها ، سحب الماء، بمساعدة ثاني اوكسيد الكاربون ، الكلسيوم من الصخور ، الى مقادير كبيرة من المياه حيث تستطيع الحيوانات الصغيرة تحصيله. وجاء في دفتر المذكرات الثاني عندما بردت الأرض كان الكلسيوم في الصخور . فاتحد الماء وثاني اوكسيد الكربون وكونا محلولاً وعندما سال ذلك المحلول انتزع الكلسيوم وحمله الى البحر لتستطيع تحصيله حيوانات صغيرة تعيش هناك وان استعمال كلمات «سحب» «وانتزع» وهي ذات  صلة بعمليات التركيب الكيماوي يدل على ادراك شخصي يفرض تعبيره الملائم الخاص به . ولولا اني قد اخذت مجالاً كثيراً في الأمثلة الاخرى لرغبت ان أظهر كيف ان الأطفال يبدأون بمواد ساذجة جداً ، فيمكن الأخذ

الصفحة 70 

بیدهم الى حقول واسعة من الاستقصاء والتنظيم العقلي التي ترافق هذا النوع من البحث ، وسأشير بسهولة الى تجربة بدأ بها العمل . وقد تضمنت صنع طباشير مترسب يستعمل لتلميع المعادن فاذا استطاع الاطفال بعدة ساذجة مؤلفة من قدح وحامض الليمون وماء وانبوب زجاجي ان يرسبوا كربونات الكلسيوم خارج الماء . ثم استمروا من هذه البداية في دراسة العمليات التي تكونت بها الصخور بانواعها المختلفة كالصخور البركانية والرسوبية وغيرها على سطح الارض ودرسوا المحلات التي وجدت بها ، ثم انتقلوا الى نقاط في جغرافية الولايات المتحدة وفي هواي  و بورتريكو ثم الى تأثيرات هذه الاجسام المتنوعة من الصخور في تكوين هذه البلاد المختلفة وفي المهن الانسانية الى ان يكون السجل الجيولوجي في هذه التجربة قد وسع نفسه اخيراً حتى شمل حياة الانسان في العصر الحاضر

اذا استطاع الاطفال ذلك شعروا بالرابطة بين هذه العمليات الجغرافية التي حدثت في عصور سحيقة من القدم وبين الظروف الطبيعية التي تحدد المهن الصناعية في العصر الحديث وشاهدوها . ومن كل الامكانات المحتواة في هذا الموضوع : «المدرسة وحياة الطفل » لم اختر الا شيئاً واحداً لاني وجدت ان ذلك يعسر القضية على الناس ويصبح مجموعته اكثر من اي شيء آخر . وقد يكون المرء مستعداً للاعتراف بأن احب شيء في المدرسة هو ان تصبح محلا يعيش فيه الاطفال حقيقة ويكتسبون فيه خبرة حياتية يجدون فيه ابتهاجا ومعنى .

ولكننا عندئذ نسمع هذا الاستفهام : كيف يستطيع الطفل - بناء

الصفحة 71 

على هذه القاعدة - ان يحصل على ما يحتاج اليه من المعلومات ؟ وكيف يتقبل النظام او التهذيب المطلوب ؟ نعم ولقد وصلنا الى هذه الأسئلة، فإن كثيراً من الناس ان لم اقل اغلبهم يرون ان العمليات الطبيعية في الحياة تبدو مناقضة او مخالفة للحصول على المعلومات وعلى النظام . 

ولذا فقد حاولت ان ابين بصورة عامة جداً وغير وافية " لان بإمكان المدرسة وحدها بعملياتها اليومية ان تقدم تفصيلات قيمة " كيف تحل المشكلة نفسها ، وكيف ان من الممكن ان نقبض على الغرائز الاولية في الطبيعة البشرية ، لان تهيئة وسيلة صالحة للسيطرة على التعبير عن هذه الغرائز ، لا تعني تيسير نمو الطفل وحسب وانما تعني ايضا أن تقدم اليه النتائج نفسها ، واكثر من هذا ان نقدم اليه المعلومات الفنية والتهذيب او النظام اللذين كانا مثال التربية في الماضي. 

 وقد اخترت كذلك هذه الطريقة الخاصة في المنهج لانها وسيلة الى مسألة اوشكت ان تثار على مستوى عالمي " ، ولا اجدني راغباً في ان اترك المسألة في هذه الحالة السلبية قلت او كثرت ، وهي حالة مقتصرة على التفسير فقط ، ، فالحياة بعد كل هذا شيء عظيم ، وحياة الطفل في عصره وقيمته لا تقل عن حياة البالغ. 

 ومن الغريب حقاً ان يكون الانتباه الجدي الحصيف الى ما يحتاج اليه الطفل في حاضره وما هو قادر عليه في حياة ثمينة وقيمة وواسعة متعارضاً الى حد ما مع الحاجات والامكانيات التي تأتي بعد ذلك في حياة البلوغ . وان المثل الذي يقول «لنعش مع اطفالنا » يعني بكل تأكيد وقبل كل شيء ان اطفالنا سيحيون ، او لكي يكونوا مشوشين ومذهولين بدفع كل انواع الظروف وابعد الاعتبارات التي منها اللياقة ، الى حياة

الصفحة 72 

الطفل الحاضرة. 

واذا كنا نطلب ملكات السموات ، فستوهب من جهة تربوية كل شيء ، ومعنى ذلك لدى تفسيره ، اننا اذا قرنا انفسنا بغرائز الطفولة الحقيقية وحاجاتها وتتبعنا تحقيقها ونموها الى اقصى مدى ممكن فان النظام او التهذيب والمعلومات وثقافة حياة البلوغ ، كل ذلك يأتي في اوانه المناسب .

وإذا اذكر الثقافة فان ذلك يذكرني على حال ، بأنني كنت اتكلم عن شيء خارج فعالية الطفل ، وعن تعبير بعيد عن دوافعه في الكلام والصنع والاكتشاف والخلق . لان الطفل الطبيعي ، وهذا قول يكاد يستغني عن الذكر ، يعيش في عالم القيم الخياليه، والافكار التي لا تجد تجسيد ناقص في الخارج . 

وفي الوقت الحاضر كثيراً ما نسمع عن رعاية خيـــال الطفل . ثم ننقص كثيراً من قولنا وعملنا وذلك باعتقادنا ان ليس الخيال الا جزءاً من الطفل يجد اشباعه في اتجاه واحد لا غير هو بصورة عامة ، الوهم والتظاهر الكاذب الموجود في الخرافات والقصص المختلفة . والخيال هـو الوسيلة التي يعيش بها الطفل ، فيجد في كل مكان وفي كل شيء يمثله وفعاليته قيمة ومغزى كبيرين في كل الاحوال . وان قضية علاقة المدرسة بحياة الطفل هي في اساسها وبسهولة كما يأتي : أنتجاهل وضع الطفل الفطري وميله فلا نتعامل مع الطفل الحي مطلقاً بل مع الصورة الميتة التي نصبناها له ، ام نهيىء لهما " وضع الطفل الفطري وميله " دوراً واشباعاً ؟! فاذا اعتقدنا بالحياة ، وبحياة الطفل بصورة خاصة ، فان المهن والفوائد التي تكلمنا عنها ، وان التاريخ والعلم وما يتصل بها تصبح جميعاً ادوات جذابة ومواد ثقافية لخياله ، وبذلك يصل

الصفحة 73 

الى اغناء حياته . وحيث لا نشاهد الآن إلا الفعل الظاهر والانتاج الظاهر فان خلف النتائج المنظورة تعديل الاتجاه الفكري والاحساس بالقوة النامية والقدرة الراغبة في اقتران كل من بعد النظر والقابلية برغبات العالم والانسان . وما لم تكن الثقافة طلاء سطحياً او قشرة على خشبة اعتيادية ، فهي بكل تأكيد كذلك في نمو الخيال في المرونة والاتساع والعطف الى أن توسع ثقافياً الحياة التي يحياها الفرد بحياة الطبيعة والمجتمع وعندما يمكن للطبيعة والمجتمع ان يعيشا في غرفة الدراسة ، وعندما تخضع انواع وأدوات التعلم لمادة الخبرة فستكون حينذاك فرصة لهذا التعرف ، و ستصبح الثقافة جواز المرور الى الدمقراطية .

الصفحة 74 



التلف في التربية



بحث الفصل الأول موضوع المدرسة بأوجهها الاجتماعية ، كما بحث التغيير الضروري الذي يجب ان يقام به لكي تصبح ذات تأثير في الظروف الاجتماعية الراهنة . وبحث الفصل الثاني علاقة المدرسة بنمو الاطفال كأفراد . ويبحث الفصل الثالث الآن المدرسة بوصفها مؤسسة ذات علاقة بالمجتمع وبأعضائها ، وهم الاطفال . وهو يبحث كذلك مسألة التنظيم لأن

التلف في التربية جميعه نتيجة لنقص في التنظيم . وان الدافع المستقر وراء التنظيم هو الزيادة في الاقتصاد والكفاية ، كما أن مسألة التلف ليست مسألة واحدة من مسائل التلف في المال او الاشياء . ومع ان هذه الاشياء ذات اهمية ، الا ان التلف الرئيسي هو ما كان في حياة الانسان وفي حياة الاطفال وهم ما يزالون في المدرسة ، وفي ما ينتج من فقدان التنظيم بعد ذلك من نقص وفساد في الإعداد .

ولهذا فعند الكلام عن التنظيم فاننا لا نتكلم عن الاشياء الخارجية التي نسميها نظام المدرسة وحدها ولا عن مجلس المدرسين في المدرسة أو عن مدير المعارف او البناية او حصص المعلمين وترفيعاتهم .. الخ .. مع ان هذه الاشياء داخلة في النظام، ولكن التنظيم الاساس هو تنظيم المدرسة نفسها بوصفها مجتمع افراد ذا علاقة بأوجه اخرى من الحياة الاجتماعية . وان التلف

الصفحة 75 

كله ناشيء عن عزل المدرسة عن هذه الأوجه فالتنظيم ليس الا ربط الاشياء الواحد بالآخر لكي تجري في عملها بسهولة ومرونة وكمال، ولهذا فعند الكلام عن مسألة التلف في التربية ، أرغب في ان اوجه انتباهكم إلى العزلة التي تعانيها اوجه عديدة من نظام المدرسة . والى النقص في توحيد اهداف التربية وفي ترابط والتئام دراساتها وطرق التدريس فيها . وقد وضعت مصوراً او درساً ايضاحياً "رقم 1" آمل عند الكلام عن عزل نظام المدرسة ، ان يساعد في جذب الانتباه وان يوفر قليلا من الوقت الذي يعرف عادة في التفسيرات الشفوية هذا مع ان صديقاً مازحاً يقول : ليس من شيء شديد في غموضه كالرسم الايضاحي . ومن المحتمل جداً انني في محاولتي تصوير وجهة نظري هذه أكون قد برهنت بسهولة على المعنى الوارد في عبارته . 

" انظرـ الصورة ـ الموجودة في الصفحة 76 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

الصفحة 76 

على ان العقبات التي تمثل عناصر مختلفة في نظام المدارس تميل الى ان تبين بصورة تقريبية طول الوقت المخصص لكل قسم وكذلك التداخل الحاصل في الوقت وفي الموضوعات التي تدرس وفي الاجزاء الخاصة بالنظام. وفي كل عقبة نجد الظروف التاريخية التي اثارتها والمثال المحتذى السائد فيها . فالنظام المدرسي بصورة عامة قد نشأ من القمة الى القعر ، ففي القرون الوسطى وجدت بصورة جوهرية مجموعة من المدارس المهيئة المختصة بالقانون واللاهوت وقد جاءتنا الجامعات من تلك القرون ولا اقول ان الجامعة في الوقت الحاضر مؤسسة مع مؤسسات القرون الوسطى، ولكنني اقول انها اخذت جذورها من تلك القرون دون ان تستعيد تقاليد القرون الوسطى في التعلم .

اما رياض الاطفال التي ظهرت في هذا القرن فهي توحيد بين مدرسة الحضانة وفلسفة شلنك  او ترويج للدمى والالعاب التي تحملها الام مع اطفالها إلى فلسفة شلنك ذات الرموز والرومانتيكية العالية ، على ان المبادىء التي انحدرت من دراسة حياة الطفل الواقعية مدة استمرار الحضانة قد بقيت قوة جالبة للحياة في التربية كلها ، وقد صنعت عوامل فلسفة شلنك حاجزاً بينها وبين نظام المدارس كله. 

 ان الخط الممتد في الأعلى يبين وجود ترابط بين روضة الاطفال والمدرسة الاولية . لانه بالقدر الذي تكون فيه المدرسة الاولية غريبة في روحها عن الأولاع الطبيعية في حياة الطفل فستبقى معزولة عن الروضة ولهذا فمن المشاكل الماثلة في الوقت الحاضر ان تقدم اساليب روضة الاطفال او طرائقها الى المدرسة الاولية ، وهي  المشكلة التي تدعى «صف الارتباط«

الصفحة 77 

والعقوبة متأتية من تكونهما ليسا شيئاً واحداً منذ البداية ولاجل ايجاد ارتباط بينهما على المعلم ان يتسلق من الجدار بدل من ان يدخل من الباب . اما من جهة الاهداف فان مثال روضة الاطفال او هدفها هو النمو الخلقي ، وهو المثال الذي يؤكد عليه بعض الاحيان الى درجة عاطفية . 

وقد نمت المدرسة الأولية بصورة فعلية من الحركة الشعبية في القرن السادس عشر حيث اصبح تعلم الكتابة والقراءة والحساب عملا ضروريا تمشاً مع اختراع الطباعة ونمو التجارة ، ولذا كان الهدف عملياً بصورة متميزة ، وقد كانت الفائدة المتوخاة مثل ارسال في طلب ادوات ومعرفة رموز التعليم ، لا لأجل التعلم نفسه بل لأنها فتحت طريقاً الى مهن في الحياة

لولاها لما وجدت تلك المهن . اما القسم الذي يلي المدرسة الاولية فهو المدرسة النحوية l واصطلاح المدرسة النحوية قليل الاستعمال في الغرب "1" ولكنه شائع في الولايات الشرقية ، وهو يعود بتأريخه الى عص احياء التعلم أو النهضة ، وربما يعود الى ما قبل الزمن الذي نشأت فيه المدرسة الأولية بقليل ، وحتى قبل الزمن الذي كان لهما فيه مثالان مختلفان في وقت واحد . ان هذه المدرسة تأخذ دراسة اللغة باعلى معنى ، لأن اللغتين اللاتينية واليونانية ربطنا الناس بحضارة الماضي، بعالمي الرومان واليونان . وكانت اللغات الكلاسيكية السبيل الوحيدة للتهرب من حدود القرون الوسطى. وهكذا انبثقت المدرسة النحوية النموذجية وهي ذات حرية اوسع من الجامعة " التي كانت ذات طابع مهني " ، وكان غرضها ان تضع في ايدي الناس مفتاح الثقافة القديمة لعلهم يرون العالم بافق اوسع . وقد اتخذت الثقافة

الهوامش : 

"1" يقصد القسم الغربي من الولايات المتحدة الامريكية - المترجم

الصفحة 78 

الهدف الرئيس لذلك . اما الهدف الثاني فقد كان النظام أو التهذيب. 

 وقد كانت المدرسة النحوية القديمة اكثر تمثيلاً لهذين العنصرين من المدرسة النحوية في الوقت الحاضر ، وكانت العنصر الحر في الكلية الذي نتج عنه بعد ان امتد به الزمن الاكاديمية والمدرسة الثانوية وهكذا فالمدرسة الثانوية ما تزال من وجه ما كلية صغرى ليس غير "وهي ذات منهج أوسع من منهج كلية قبل بضعة قرون " أو أنها قسم تمهيدي للكلية . وهي من وجـه آخر تجميع لفوائد المدرسة الابتدائية. 

وهنا يظهر – اذن - انتاجان للقرن التاسع عشر ، وهما المدارس الفنية ومدارس اعداد المعلمين اما المدارس الفنية كمدارس الهندسة وغيرها فانها قد نشأت بالطبع وبصورة رئيسية نتيجة للظروف التجارية في القرن التاسع عشر . ونشأت مدارس المعلمين نتيجة لضرورة عداد المعلمين مع فكرة ذات شقين احدهما التدريب المهني والآخر كتساب الثقافة . 

ومن دون امعان في التفاصيل نجد ان لنا ثمانية اقسام مختلفة من انظمة المدارس كما تظهر في الرسم ، وكلها ظهرت في أوقات مختلفة تاريخياً، و لوجهات نظرها مثل مختلفة ، فنتج عن ذلك ان صارت لها طرق مختلفة ، ولا أرغب في ان أوحي بقولي ان العزل والفصل اللذين كانا بين الاقسام انظمة المدارس لا يزالان مستمرين ، ولكن الواجب ان نعترف بأنها لم يلتنا قط ليصبحا كياناً واحداً . ومن الصعوبة بمكان على الادارة التربوية ان توحد هذه الأقسام المختلفة . 

ولننظر الى مدارس اعداد المعلمين ، فهي تحتل في الوقت الحاضر مركزاً.

الصفحة 79 

غير مألوف نوعما . وهي وسط بين المدرسة الثانوية والكلية لأنها تتطلب الاعداد الثانوي وتشمل مقداراً معيناً من عمل الكلية . 

ولكن هذه المدارس محرومة من مناهج الكليات في الدراسة لأن غرضها على العموم تدريب بعض الاشخاص كيف يعلمون لا ماذا يعلمون. 

 فاذا ذهبنا الى الكلية فاننا نجد الجانب الآخر من هذا العزل وهو تعلم ما سوف يعلمونه مع عناية زهيدة بطرق التدريس . فالكلية قد حيل بينها وبين الاتصال بالاطفال والشباب "1" واكثر أعضائها مغتربون عن أهليهم وقد نسوا طفولتهم وأصبحوا معلمين يتقنون مقداراً كبيراً من المادة تحت الطلب ، ولكن معرفتهم قليلة بما يربط هذه المادة العلمية بأذهان اولئك الذين سيدرسونهم . 

وفي هذا التفريق بين ما يعلم وبين كيفية تعليمه يعاني كل قسم منها كثيراً من العزل ، ومن الممتع ان تلاحظ العلاقة المتبادلة بين المدارس النحوية والثانوية . فقد ازدحمت المدرسة الابتدائية واخذت تدرس الدروس التي سبق للمدرسة النحوية في نيو انکلند 1 "  "ان درستها .

اما المدرسة الثانوية فقد خفضت موضوعاتها فوضع درسا اللغة اللاتينية والجبر في الصفوف العليا من المدرسة ، حتى ان الصف السابع والثامن هما بعد ذلك كل ما بقي تقريباً من المدرسة النحوية القديمة ، فهما نوع غريب من المحلات المشتركة، وقد صارا محلاً يذهب اليه الاطفال ليستمروا من وجه ما في تعلم ما سبق لهم ان تعلموه في القراءة والكتابة والحساب كما صارا من وجه آخر محلاً يعد الطلبة للدراسة الثانوية .

الهوامش : 

1 - يقصد بالشباب الاعداد الغفيرة منهم لا الافراد القلائل المنتسبين الى الكلية، المترجم

الصفحة 80 

وكان اسم هذه الصفوف العليا في بعض اقسام نيو إنكلند "1" المدرسة المتوسطة وكانت هذه التسمية محببة، اذ كان عمل المدرسة- ⁠بسهولة- توسطاً بين شيء ما حدث وشيء آخر متوقع وليس لها من معنى معين خاص بها . وحينما تتصل الاجزاء تختلف المثل في النمو الخلقي والمنفعة العملية والثقافة العامة والنظام وكذلك في التدريب المهني . وان كلا من هذه الاهداف ممثل بصورة خاصة في قسم متميز من نظام التربية ، وعند حصول التداخل المطرد بين الاجزاء فان المتوقع من كل منها أن يقدم مقداراً معيناً من التحضر والنظام والمنفعة . ولكن يشاهد النقص الاساسي في هذه الحقيقة ، وهي ان احدى الدراسات ما تزال تعتبر نافعة للنظام ، والاخرى للثقافة ، وبعض موضوعات الحساب مثلاً نافعة للنظام وأخرى للاستعمال، والأدب نافع للثقافة والنحو للنظام ، والجغرافية بعضها يفيد للمنفعة وبعضها للثقافة وهكذا ، اما التربية فهي مبددة ، اذ أصبحت الدراسات آلة عزل بعضها يضمن هذه الغاية والبعض الآخر يضمن تلك حتى صارت الدراسة كلها مساومة محضة وممراً بين الاهداف المقصودة والدراسات المجزأة . فالمشكلة الكبيرة في التربية من الوجهة الادارية هي ان تحرز الوحدة بين الجميع بدل ما ينتج بين الاقسام غير المترابطة احياناً والمتداخلة في احيان اخرى ، وبهذا يخفض التلف الحاصل من التجزئة والاعادة والانتقال التي لا تتصل فيا بينها اتصالا لائقاً . وفي هذا الرسم الرمزي الثاني أرغب في ان اقترح الطريقة الوحيدة لتوحيد اجزاء النظام ، وهي أن نوحد كلا منها مع الحياة ،

الهوامش : 

 "1"هي الولايات الشرقية من الولايات المتحدة التي استوطنها المستعمرون الانكليز و أطلقوا عليها هذا الاسم ،

"م2 "

الصفحة 81 

فاذا قصرنا تفرسنا على نظام المدرسة نفسه فلا نحصل الا على وحدة اصطناعية . فالواجب أن ننظر اليه بوصفه قسماً من حياة اجتماعية أوسع .

فالقسم "أ" الواقع في الوسط يمثل نظام المدرسة بكامله ، ويلاحظ على أحد الجانبين ، اما السهمان فيمثلان التبادل الحر الحاصل بين حياة البيت والمدرسة في التأثيرات والمواد والافكار .

وفي القسم "2" نلاحظ في الاسفل علاقة المدرسة بالمحيط الطبيعي وهو واسع بكل معنى الكلمة. 

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة 82 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

اما بناية المدرسة فان لها تقريباً محيطها الطبيعي . فمن الواجب ان تكون في حديقة ، وان يؤخذ الاطفال من الحديقة الى الحقول المجاورة ومن ثم الى الريف الواسع بكل حقائقه وقواه .

الصفحة 82 

اما القسم "3" في الاعلى فانه يمثل الحياة التجارية وضرورة التعامل الحر بين المدرسة وبين حاجات وقوى الصناعة .

ويمثل القسم "4" مكان الجامعة بمجالاتها المختلفة ومختبراتها ومصادرها من مكتبات ومعارض ومدارس مهنية. 

فالتلف او الضياع الكبير في التربية - من وجهة نظر الطفل – متأت من عجزه عن الانتفاع بما يكتسب من الخبرات خارج محيط المدرسة انتفاعاً تاماً وحراً يجري داخل المدرسة نفسها . وهو في الوقت ذاته يرى نفسه عاجزاً عن استعمال ما يتعلمه من المدرسة في حياته اليومية . وهذه هي عزلة المدرسة ، انها انعزال عن الحياة . فاذا دخل الطفل الصف فعليه أن ينزع من ذهنه قسماً كبيراً من الافكار والاولاع والفعاليات السائدة في بيته وجيرته . ولهذا فالمدرسة ، وقد أصبحت عاجزة عن استثمار الخبرات اليومية ، تنهض بصورة مؤلمة وبخطة عمل أخرى ووسائل مختلفة لتثير في الطفل ولعاً في الدراسات المدرسية .. وقد كنت مرة ازور مدينة Moline قبل بضع سنين ، فأخبرني مدير المعارف انهم يجدون في كل سنة كثيراً من الطلبة يستغربون اذ يعلمون ان لنهر المسيسيبي المذكور في الكتاب المقرر علاقة ما بساقية الماء التي تجري وراء بيوتهم ، لأن الجغرافية كانت لديهم تخص الصف وحده بينما هي ليس الى حد ما ، غير تنبيه او توعية لكثير من الاطفال اذ يجدون ان المسألة بكاملها ليست الا صياغة رسمية ومحددة للوقائع التي نراها ونحسها ونلمسها كل يوم . فاذا فكرنا بأننا نعيش فوق الأرض، واننا نحيى في جو ، وان كل قطرة من حياتنا تمسها تأثيرات من التربة والنباتات والحيوانات الخاصة ببلادنا كما تمسها تاثيرات من الضوء والحرارة ، اذا فكرنا بكل

الصفحة 83 

هذا ثم تأملنا ما تقدمه المدارس في الجغرافية أدركنا الفكرة النموذجية التي تصور الفجوة الحاصلة بين خبرات الطفل اليومية والمادة المعزولة التي تقدمها المدرسة على مدى واسع . وليس هذا الا مثلاً واحداً ، وهو مثل عند النظر فيه قد يتأمل اكثرنا طويلا قبل أن يبحث مشكلة المدرسة في الوقت الحاضر ، لأن المدرسة اكثر من مسألة درس أو حاجة ، وعلى الرغم من وجوب وجود رابطة عضوية بين المدرسة والحياة التجارية ، فان هذا لا يعني أن على المدرسة أن تعد الاطفال لتجارة معينة ، ولكن يجب وجود رابطة طبيعية لحياة الطفل اليومية بالمحيط التجاري الذي يكتنفه . ومن شأن المدرسة أن توضح وتحرر هذه الرابطة لتخلق بها وعياً ، لا بتقديم دراسات خاصة كالجغرافية التجارية ؛ ولكن بالاحتفاظ بروابط هذه العلاقة حية على الدوام . وان موضوع المشاركة في التجارة المركبة لم يعد موجوداً في كتب الحساب في الوقت الحاضر على الرغم من انه كان موجوداً فيها قبل قرن مضى ، وذلك لأن مؤلفي الكتب المقررة سابقا ظنوا أن لن يستطيعوا بيع كتبهم لو تركوا موضوعاً من الحساب أياً كان ، وان موضوع المساهمة المشاركة في التجارة المركبة قد نشأ منذ القرن السادس عشر كما أن الشركات المساهمة لم تكن يومذاك قد ابتكرت. فلما نمت تجارة واسعة بين الامريكيين وجزر الهند صار من الضروري تجميع رأس المال لمعالجة هذه الحالة . فقد قال أحد المسهمين « سأضع هذا المبلغ لمدة ستة اشهر« ، وقال آخر " سأضع مبلغي لمدة سنتين " 

وهكذا فباشتراك رؤوس المال تجمعت لديهم نقود لتيسير مشاريعهم التجارية ، وكان من الطبيعي عند ذاك أن يدرس موضوع « المشاركة المركبة في المدارس » . ولما أنشيء رأس المال المشترك اختفت المشاركة المركبة، ولكن

الصفحة 84 

المسائل الحسابية التي تخصها بقيت في درس الرياضيات مدة قرنين من أجل الترويض العقلي ، وهي - كما نعلم - مسائل شديدة الصعوبة ، وان قسماً كبيراً مما يعرف اليوم في الرياضيات بعنوان  -النسبة المئوية- ، مماثل لها ، فاطفال السنة الثانية عشرة والثالثة عشرة يقومون بعمليات حسابية في الربح والخسارة وبأنواع مختلفة من التنزيلات المصرفية معقدة لدرجة ان

موظفي البنوك أنفسهم قد استغنوا عنها منذ وقت طويل . ولكن عندما يقال أن التجارة لا تدرس بهذه الصورة يرد علينا مرة ثانية بما يسمى- بالترويض العقلي- ، هذا مع وجود روابط حقيقية كثيرة بين خبرة الاطفال والظروف التجارية التي تدعو الحاجة إلى توضيحها والافادة منها. 

ومن الواجب أن يدرس الطفل الحساب والجغرافية التجارية ولكن ليس بوصفها أشياء معزولة بنفسها ، ولكن بالاشارة أو بالرجوع الى محيطها الاجتماعي . والشبان يحتاجون الى التعرف على المصرف بوصفه عاملا في الحياة الحديثة ، وأن يعرفوا ما يؤدي من عمل وكيف يقام به . ومن ثم فان عمليات حساب مناسبة تكون ذات معنى له مغاير تماماً للامثلة التي تستهلك الوقت وتقتل الذهن ، وهي الأمثلة الموجودة في النسبة المئوية ودفع أجور الاعمال ذات الوقت غير الكامل ، وغير ذلك مما هو موجود في كل دروس الحساب عندنا.  أما العلاقة بالجامعة كما معبر عنها بالرسم فلا حاجة بي الى الخوض في موضوعها ، ولا أرغب - وأقولها بيسر - في ان أبين ان من الواجب وجود ترابط بين كل اقسام نظام المدرسة . على ان المشاهد وجود كثير من التفاهة الواضحة في موضوعات الدراسة الابتدائية والثانوية . فاذر حصناها وجدنا أنها ملأى باشياء تدرس ولكنها ليست بحقائق ، بل الواجب ان ينسى تعلمها بعد ذلك . وسبب هذا في وقتنا هذا ان الاقسام الدنيا من

الصفحة 85 

نظامنا ليست بذات ارتباط حيوي بالاقسام العليا . فالجامعة أو الكلية ، كما يقال فيها ، محل بحث حيث تجري البحوث ، فهي محل مكتبات ومعارض ، حيث توجد افضل مصادر الماضي مجموعة ومحفوظة ومنظمة . وما يصدق على الجامعة من ان روح البحث لا تحصل الا بالاتجاه في البحث ، يصدق على المدرسة ايضاً ، فعلى الطالب الا يتعلم الا ما كان ذا معنى له ، وما يوسع أفقه عوض ان يكون مجرد توافه . لذا فالواجب ان يتعرف الطالب على الحقائق بدلاً من التعرف على اشياء كان يعتقد أنها حقائق قبل خمسين سنة أو نحو ذلك ، أو انها تعتبر مفيدة بفضل سوء فهم بعض انصاف المثقفين من المعلمين. ومن الصعب أن نرى كيف يمكن ان تحصل هذه الغايات إلا اذا اصبح لأعلى قسم في نظامنا التربوي ارتباط كامل مع اكثر ميولنا فطرية .

اما الرسم أو المصور القادم فهو توسيع للمصور الثاني ، فقد توسعت المدرسة اذا شئت القول ، ولكن ما يحيط بها كالبيت والحديقة والريف وعلاقــــــة المدرسة بالتجارة وبالجامعة ، كل ذلك بقي على حاله ، والغرض من كل هذا أن اظهر الواجب الملقى على عاتق المدرسة هو ان تخرج من عزلتها لتضمن ارتباطاً عضوياً بالحياة الاجتماعية التي سبق لي ان تكلمت عنه. وليس مــــــا نريد أن نوضحه هو الخريطة التي نأمل ان يرسمها مهندسنا للمدرسة ، ولكنه التصوير الذي يمثل الفكرة التي نريد تجسيمها في بناية المدرسة . ففي الجانب الاسفل تشاهد غرفة الطعام والمطبخ وفي الأعلى توجد المصانع الصغيرة للخشب والمعدن و معمل الحياكة والخياطة . اما المركز فانه يمثل مجيء الجميع الى المكتبة ومعنى هذا انهم يأتون جميعاً الى المكتبة ومجيئهم يعني تجمع المصادر الفكرية بكل انواعها ، وهي المصادر التي تلقي ضوءاً على العمل الفعلي يمنحه معنى وقيمة حرة . واذا كانت الزوايا الاربع تمثل التطبيق الجاري ، فان القسم الداخلي يمثل الفعاليات

الصفحة 86 

الواقعية . وبعبارة أخرى اننا نرى ان الغرض من هذه الاشكال في التطبيق المدرسي غير موجود بصورة رئيسة في الاشكال نفسها ولا في المهارة الفنية لدى الطباخين والنجارين والبنائين ، ولكن بارتباطها من الناحية الاجتماعية بالحياة الخارجية . وهي من ناحية الفرد تشير الى حاجة الطفل الى العمل والتعبير والرغبة في صنع شيء ما والى ان يكون انشائياً أو بناءله القدرة على خلق شيء ما بدلاً من ان يكون سلبياً تابعاً لا غير. ومغزاها الجسيم أن تحفظ التوازن بين الجانبين الاجتماعي والفردي .

وهذا المصور يرمز بصورة خاصة الى العلاقة بالجانب الاجتماعي ، فهنا البيت على احد الجانبين ، وهنا خيوط الاتصال تروح جيئة وذهاباً بصورة طبيعية بين البيت والمطبخ وغرفة النسيج في المدرسة . وان بامكان الطفل ان يحمل معه ما تعلمه في البيت لينتفع به في المدرسة كما يطبق في بيته الاشياء التي تعلمها في المدرسة . وهذان هما الشيئان العظيمان لفصم العزلة وايجاد العلاقة او الصلة ، وهما ان يجيء الطفل الى المدرسة بكل خبراته التي حصل عليها من محیطه خارج المدرسة ويخرج منها بشيء ما يستعمله في حياته اليومية بصورة مباشرة .

ان الطفل يدخل المدرسة التقليدية بجسم صحيح وعقل غير راغب في التعليم الى حد ما ، وعلى الرغم من انه في الحقيقة لا يأتي بجسمه وعقله معاً ، فانه يضطر الى ان يترك عقله خارج المدرسة ، لأنه لا يجد حالة ما لاستعماله فيها. 

فلو كان له عقل مجرد تماماً لاستطاع ان يأتي به معه الى المدرسة ، ولكن له عقلا يتعامل مع الاشياء المحسوسة ، ولن يستطيع ان يأتي بعقله معه ما لم

الصفحة 87 

تدخل هذه الاشياء الى حياة المدرسة ، فما نريده هو أن يأتي الطفل الى المدرسة بجسمه وعقله كاملين و أن يغادر المدرسة بعقل أغنى وجسم أصح .

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة 88 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه" 

ان الكلام على الجسم يوحي الي انه على الرغم من فقدان محل مخصص للتربية البدنية " او الجمنازيوم " في هذه الرسوم، فان الحياة الفعالة المطبقة بين زواياه الاربع تسبب تمريناً بدنياً مستمراً بينما التمرينات البدنية المناسبة تتصل ببعض نواحي الضعف عند الاطفال لتعديلها وتحاول بوعي اوسع ان تبني جسماً متيناً بوصفه مقر العقل السليم . اما صلة غرفة الطعام والمطبخ بالريف وما يجري فيه من العمليات والانتاج فقل ان نحتاج الى ذكرها . ومن الممكن تدريس الطبخ من دون ذكر صلته بحياة الريف وبالعلوم التي يجمعها درس الجغرافية ، ولعله قد درس بصورة عامة من دون هذه الروابط التي تربطه بصورة حقيقية، ولكن الريف اصل المواد التي تدخل المطبخ . وهي تأتي من التربة وتكتسب

الصفحة 88 

حالتها الطبيعية بتأثيرات من الضوء والماء كما أنها تمثل اختلافاً واسعاً بين البيئات المحلية ، وبهذه الرابطة وهذا الامتداد من الحديقة الى عالم أوسع ينال الطفل أحسن تقدم لدراسة العلوم باسئلة من هذا النوع : أين تنبت هذه الاشياء ؟ وماذا كان ضرورياً لنموها ؟ وما صلتها بالتربة ؟ وما تأثير تقلبات الجو المختلفة فيها ؟ ! .. كما يمكن تقديم أسئلة غير هذه ، وكلنا يعلم ما كانت عليه دروس علم النبات سابقاً ، فهي من جهة قطف ورود جميلة وخلابة ثم وضعها في مجموعة ، ومن جهة اخرى تجزئة لهذه الورود واطلاق اسماء علمية على أجزائها المختلفة ثم تحري أوراقها المتنوعة لذكر أسماء لكل أنواعها واشكالها ، لقد كانت دراسة نباتات من دون رجوع الى ترتيبها او الى مكانها أو نموها ، وعلى النقيض من هذا تكون الدراسة الحقيقية للنبات لأنها ترجع بها الى محيطها الطبيعي وأوجه الانتفاع بها لا باعتبارها طعاماً وحسب بل بكل أوجه الافادة منها في حياة الانسان الاجتماعية . ويصبح الطبخ كذلك أفضل واسطة طبيعية لدراسة الكيمياء ، لأنه يجهز الطفل بشيء ما يستطيع حالا ادخاله في خبرته اليومية .

وقد سمعت مرة امرأة نابهة جداً تقول إنها لا تستطيع ان تفهم كيف يمكن تدریس الاطفال الصغار موضوع العلوم ، وذلك لانها لم تستطع أن تدرك كيف يستطيع الاطفال أن يفهموا الذرة والجزيء . وبعبارة اخرى ، ان هذه السيدة لم تشاهد المستوى العالي في تقديم الحقائق المجردة البعيدة عن خبرة الاطفال اليومية ، ولكنها لم تستطع ان تفهم كيف يمكن تدريس العلوم بدون مشاهدة نهائية . 

وقبل أن نبتسم لهذه الملاحظة نحتاج الى ان نسأل انفسنا عما اذا كانت هذه

الصفحة 89 

المرأة هي الخارجي الشخص الوحيد الذي يرى هذا الرأي ، أو انها قد عبرت بسذاجة عن القاعدة الشائع تطبيقها في أغلب مدارسنا "1" هذا وان علاقات بالعالم مماثلة للعلاقات السابقة موجودة في معامل النجارة والنسيج ، فهي ذات صلة بالريف لأنه مصدر موادها وذات صلة بالفيزياء ، لأن علم الفيزياء هو علم تطبيق الطاقة ، كما انها ذات علاقة بالتجارة والتوزيع والفن وتطور علم الهندسة المعمارية والزخرفة . ولها كذلك رابطة وثيقة بالجامعة بسبب المدارس الصناعية والهندسية فيها، وبسبب وجود المختبر وطرقه ونتائجه العلمية . واذا رجعت الى المربع الذي يشير الى المكتبة " في الصورة رقم  3المشار اليه بالحرف أ " وتصورت غرفاً بعضها في الزوايا الاربع وبعضها في المكتبة ، فقد أدركت فكرة عن غرفة المناقشة او الالقاء ، هي المحل الذي يأتي اليه الاطفال بخبراتهم وأسئلتهم ووقائعهم الخاصة التي وجدوها ليبحثوها أو يناقشوا فيها لعل وجهة نظر جديدة تلقى عليها ، خصوصاً اذا كانت وجهة النظر هذه من خبرة الآخرين أو من حكمة البشرية المجتمعة التي ترمز اليها المكتبة . فهنا توجد الصلة العضوية بين النظرية والتطبيق ، فالطفل لا يعمل اشياء وحسب ،بل له فكرة عما يعمله، وله من البداية مفهوم عقلي يدخل في التطبيق فيوسعه ، بينما تجد كل فكرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة استعمالا في الخبرة وتأثير أفي الحياة. وهذه وهذا قول أكاد أستغني عن كره ثبتت مركز الكتاب المقرر أو القراءة المطلوبة في التربية، وكلاهما وان كانا مضرين اذا اصبحا تعويضاً عن الخبرة ، فانها على غاية الاهمية في التفسير وتوسيع الخبرة .

الهوامش :

1"" يقصد تدريس العلوم نظرياً – المترجم

الصفحة 90 

أما الرسم الباقي وهو الرسم الرابع فانه يصور الفكرة عينها بصورة دقيقة ، لأنه يرمز الى الطابق الاعلى من هذه المدرسة المثالية . ففي الاركان العليا توجد المختبرات وفي الاركان السفلى توجد استوديوهات الاعمال الفنية التصويرية والسماعية. امـــا

" انظرـ الشكل ـ الموجود في الصفحة 91 ـ ضمن نسخة بدف اعلاه "

الاسئلة والمشكلات الجسدية والعلاجية التي تظهر في المطبخ وفي المعمل فانها تؤخذ الى المختبرات لتوجد لها الحلول . فمن أمثلة ذلك انه بينما كان احــــــد الاطفال الكبار من احدى المجموعات يقوم بعمل تطبيقي في النسيج يستدعي استعمال عجلة الغزل في الاسبوع الماضي ، قد تمكن من إدراك الرسوم التي توضح اتجاه القوى الناتجة من المدوس والعجلة ونسبة سرعة الحركة بين المجلة والمغزل. وبالطريقة ذاتها نجد أن النباتات التي يطبخها الطفل تصبح اساساً لولع ملموس في علم النبات ، ولعله يأخذها ويدرسها كلها ، وقد استمرت دراسة نمو نبات القطن في احدى المدارس في بوسطن  مدة خمسة اشهر، ومع ذلك فقد كان شيء جديد يبرز للدراسة كل يوم . واننا لنأمل أن نقوم بشيء مماثل لهذا في دراسة كل انواع النباتات التي تمدنا بالمواد الأولية للخياطة والحياكة، لان هذه الاشياء تحمل - كما آمل - صلة المختبرات الى المدرسة بكاملها. 

الصفحة 91 

فالرسم والموسيقى ، أو التصوير والفنون السمعية يمثلان السمو وتبلور المثل واعلى درجة من التقاء في العمل المنفذ . وانني اعتقد أن كل شخص ليس له وجهة نظر ادبية بحتة يعترف بأن الفن الأصيل ينمو من عمل الفنان نفسه ، النهضة كان عظيماً لأنه نما من اعمال الحياة اليدوية ، فلم يظهر فان فن عصر من جو معزول مهما كان ذلك الجو نموذجياً او مثالياً ، ولكنه نقل الى عمليات الناس الروحية الزاخرة بالمعنى والموجودة في اشكال الحياة اليومية الدميمة فعلى المدرسة ان تلاحظ هذه الصلة ، فالناحية الفنية المحصنة ضيقة ، والفن الخالص اذا أخذ بنفسه وتغذى من لا شيء فانه يميل الى ان يصبح قسرياً و فارغاً ووهمياً . ومن الطبيعي انني لا اعني ان العمل الفني كله يلزم ان يتصل بتفاصيل عمل المدرسة . ولكني اعني بيسر ان روح الاتحاد بينها تمنح الفن حيوية وتمنح العمل الآخر عمقاً وغنى . 

وان الفن كله يشمل الاعضاء الجسدية : العين واليد والأذن والصوت ومع ذلك فهو شيء اكثر من المهارة الفنية المحصنة المحصلة بالتعبير العضوي ، لأنه يتضمن الرأي والفكر ونقل الاشياء عقلياً ، ومع ذلك فهو أكثر من تعدد الافكار نفسها لأنه توحيد حي بين الفكرة وأداة التعبير . وان هذا التوحيد تعبر عنه المدرسة المثلى "1" بالقول بان العمل الفني يمكن ان يعتبر بأنه يأتي من المعامل فيمر خلال انبيق "2" المكتبة والمعرض ثم يرجع الى العمل مرة ثانية وخذ على هذا مثلاً من معمل النسيج ففيه مثل هذا التوحيد . وانني اذ أتكلم عن مدرسة المستقبل ، المدرسة التي نأمل ان تكون لنا في وقت قابل فالحقيقة

الهوامش : 

1 - يقصد المثلى الراقية او المقصودة تربوياً وقد تقدمت الاشارة الى ذلك ـ المترجم

2 ⁠-الانبيق : آلة تقطير. 

الصفحة 92 

الجوهرية في معمل النسيج انه غرفة لصنع اشياء عملية في الخياطة والغزل والحياكة ليحصل الاطفال على اتصال مباشر بالمواد وبانواع مختلفة من الحرير والقطن والكتان والصوف . ثم تظهر المعلومات التي تخص هذه الاشياء : اصلها وتاريخها ، اتخاذها لاستعمالات خاصة ، ثم المكائن المختلفة التي يستفاد بها من المواد الخام ، وينبثق النظام من التعامل مع هذه المشاكل بنوعيها العملي والنظري ومن هنا تنهض الحضارة ، اذ ينشأ بعضها من رؤية كل هذه الاشياء تعكسها ظروفها وارتباطاتها العلمية والتاريخية حيث يقدرها الطفل بوصفها انجازات فنية وافكاراً تسهم في العمل وينشأ بعضها الآخر بسبب من تقديم الفكرة الفنية في غرفة العمل نفسها . وفي المدرسة المثلى يوجد شيء من هذا النوع وهو ، قبل كل شيء ، معرض صناعي كامل ليعطي نماذج من المواد في مختلف ادوارها من الصناعة والالات من أيسر أنواعها إلى أشدها تعقيداً ، وقد وضعت للممارسة أو التطبيق ، ثم مجموعة من الرسوم الفوتوغرافية والصور التي تمثل المناظر الخارجية والمشاهد التي جاءت منها المواد ، أي نبتها الاصلي وصور اخرى تبين محلات صنعها في المعامل . وان مجموعة من هذا النوع تصبيح درساً حياً ومستمراً في توحيد الفن والعلم والصناعة . كما سيكون هناك كذلك نماذج من النسيج ارقى في صنعه مما صنع في المعمل ، كأن يكون من الاقمشة الايطالية والفرنسية واليابانية والشرقية . وستكون هناك أيضاً اهداف تبين الاسباب التي دعت الى التصميم والزخرفة اللذين استعملا في الانتاج. اما الأدب فسيقوم بقسطه في تمثيل عالم الصناعة عقلياً مثل بنلوب "1" في الاوذيسة ، وهي من الأدب الكلاسيكي ، لأن الخلق تجسيد لجانب تجاري معين في الحيـــاة

الهوامش : 

"1" زوجة اودسيوس الوفية - المترجم .  

الصفحة 93 

الاجتماعية وهكذا فمن زمن هو ميروس الى العصر الحاضر وجد موكب مستمر من الحقائق المترابطة التي ترجمت الى لغة الفن ، كما أن الموسيقى تقدم حصتها أو دورها من الاغنية الاسكوتلندية على العجلة الدائرة الى أغنية مركزيت في اثناء الغزل أو مقطوعة فاكثر الموسيقية المعمل معرضاً يصور أخشاباً ويصبح وتصاميم جميلة ، وهو من جهة أخرى يقدم مجملاً للتطور التاريخي لفن الهندسة المعمارية في رسومه وصوره. 

وها أنذا حاولت أن أبين كيف يمكن للمدرسة أن تربط بالحياة بصورة تجعل الخبرة التي اكتسبها الطفل بصورة مألوفة وشائعة تنتقل الى المدرسة وتستعمل فيها ، كما أن ما يتعلمه الطفل في المدرسة يرجع به ليستعمله في الحياة اليومية ، فتصبح المدرسة كلا عضوياً بدلاً من ان تكون خليطاً من أشياء منفصلة ويختفي حينذاك انعزال الدراسات عن بعضها كما تختفي أقسام النظام المدرسي . وسيصبح للخبرة ناحيتها الجغرافية ، وجوانبها المؤلفة من الجانب الفني والأدبي والعلمي والتاريخي . فكل الدراسات تنبثق من أوجه أرض واحدة وحياة واحدة عاشت عليها . وليس لدينا طبقات من أرضين منضدة بعضها فوق بعض احداها رياضية والاخرى طبيعية والاخرى تاريخية وهلم جرا. فلا نستطيع أن نعيش في أي منها اذا أخذت وحدها . فاننا نعيش في عالم كل جوانبه مرتبطة معاً . كما ان كل الدراسات تنشأ من علاقاتها في عالم واحــــــد مشترك كبير . 

وعندما يعيش الطفل علاقات مختلفة وملموسة بالعالم المشترك فمن الطبيعي ان تتوحد دراساته ولا يصبح من الصعب ربطها ببعضها . وليس المعلم مضطراً الى اللجوء الى كل انواع الوسائل ليدمج قليلاً من الرياضيات في درس التاريخ

الصفحة 94 

وما شاكل ، بل ليربط المدرسة بالحياة ، وسترتبط كل الدراسات ببعضها بالضرورة . وعلاوة على ما تقدم ، فاننا اذا ربطنا المدرسة كلها بالحياة كلها فان مثلها واهدافها المختلفة في الثقافة والنظام والمعلومات ، والافادة لا تصبح متفرفة وان كنا نختار لأحداها دراسة واحدة وللأخرى دراسة أخرى . وان نمو الطفل في اتجاه الخدمة والمقدرة الاجتماعية واتحاده بالحياة بصورة اوسع واكثر حيوية ، ليصبح هدف التوحيد كما يأخذ النظام والثقافة والمعلومات محلها في أوجه هذا النمو . 

وهنا أود ان اضيف كلمة واحدة عن علاقة مدرستنا الخاصة بالجامعة ، فالمشكلة هي أن نوحد وننظم ونجمع معاكل العوامل المتفرقة بوضعها جميعاً في اتحاد عضوي بالحياة اليومية . وان ما يكمن وراء الجامعة بوصفها مؤسسة تربوية انما يمثل ضرورة صنع شيء ما ليستعمل نموذجاً لهذا التوحيد وامتداداً لعمل ابتداء من الطفل في السنة الرابعة من عمره الى الدراسات العليا في الجامعة وقد سبق أن قلنا كثيراً عن مساعدة الجامعة في العمل العلمي المنظم الذي يذكر تفصيلاته رؤساء الاقسام احياناً . فطالب الدراسة العليا يأتي الينا ببحوثه وطرقه في البحث مقترحاً افكاراً ومشكلات . وهو يرى المكتبة والمعرض في خدمته . ونحن نريد ان نوحد الاشياء جميعاً وان نحطم الحواجز التي تفصل تربية الطفل الصغير عن تعليم الشاب الناضج ، ونقرن التربية الدنيا بالتربية العليا فلا يبدو للعيان منها أقسام عالية واخرى واطئة لأنها جميعاً تربية وحسب . وعند الكلام بصورة اخص عن الجانب التربوي من العمل اظن ان اقدم كرسي للتربية في قطرنا يبلغ عشرين سنة من القدم تقريباً وهو كرسي التربية في جامعة مشيكان ، فقد اسس في السبعينيات

الصفحة 95 

المتأخرة   "1"ومع . ذلك فلا توجد الا جامعة او جامعتان حاولتا ان تجعلا رابطة بين النظرية والتطبيق . لأن الجامعات تصرف معظم الوقت بالنظريات والمحاضرات والرجوع الى الكتب اكثر مما تدرس بالعمل الفعلي نفسه . وفي جامعة كولومبيا " في كلية المعلمين " توجد رابطة متينة وواسعة بين الجامعة واعداد المعلمين . وقد انجز عمل من هذا النوع في محل أو محلين آخرين. ولكننا نريد هنا اتحاداً اكثر التئاماً حتى تضع الجامعة كل مصادرها الثقافية رم رصيداً للمدرسة الابتدائية وتسهم في تطور موارد منهجية قيمة وطرق دراسية سليمة. وتصبح المدرسة مختبراً يرى فيه طلبة التربية النظريات والآراء في دور تطبيقها واختبارها ونقدها وتنفيذها كما يرون تطور الحقائق الجديدة . اننا نريد ان تكون المدرسة في علاقتها بالجامعة نموذجاً فعالا لتربية موحدة ، وهنا اقول عن صلة المدرسة بالاولاع التربوية بصورة عامة . لقد سمعت ان احد المعلمين اعترض على اتخاذ طريقة معينة تستعمل في مدرستنا ، وقد جاء الاعتراض في قوله : " انكم تعلمون انها مدرسة تجريبية ، فطلابها لا يعملون في الظروف ذاتها التي نعمل نحن فيها ."  والظاهر من قوله ان الغرض من اجراء تجربة هو ان الناس الآخرين لا يحتاجون اليها أو في الأقل لا يحتاجون كثيراً من التجارب لأنهم يريدون ان يكون بأيديهم شيء معين وواضح ليمارسوه . فالتجربة تتطلب ظروفاً مساعدة خاصة لكي تحصل النتائج بصورة مضمونة وغير مقيدة ، وعلى مطبق التجربة أن يعمل من دون تشويش ، وان تكون كل المصادر الضرورية في متناول يده ، وقد اصبحت المختبرات اليوم كل المشاريع التجارية الواسعة والمعامل الكبيرة والسكك الحديدية والقاطرات البخارية . ومع ذلك فالمختبر

الهوامش : 

1"" اي خلال العقد السابع من القرن التاسع عشر " من 1875 ، الى 1879 " – المترجم

الصفحة 96 

ليس مشروعاً تجارياً ، ولا يهدف الى ان يضمن لنفسه ظروف الحياة التجارية. كما أن الممارسة التجارية لا تتطلب المختبر لوجود فرق بين تنفيذ واختبار حقيقة جديدة أو طريقة جديدة وبين تطبيقها على مجال واسع وجعلها حاضرة لاستعمال الناس، اي تجارية . ولكن الشيء الأول هو ان نكتشف الحقيقة وأن نهيىء التسهيلات الضرورية لأن هذا الشيء سيصبح أوسع تطبيقاً في العالم على المدى البعيد . واننا لا نتوقع ان تقلدنا المدارس الاخرى حرفياً ، فالمثال الفعال لا يعني شيئاً ما يستنسخ ولكنه شيء يقدم تطبيقاً في يسر المبدأ وفي الطرق التي تجعله سهلا ، وهكذا فإننا " اذا أردنا الرجوع الى نقطتنا " نريد ان نحل مشكلة التوحيد وتنسيق نظام المدرسة نفسه وان تقوم بهذا بربطه بصورة قوية الى الحياة لنبرهن على امكان تنظيم من هذا النوع في التربية كلها وضرورته .

"م "7

الصفحة 97 

- 4 -  

نفسانية "كلمة " التربية الابتدائية

من الطبيعي أن أكثر الجمهور مهتم بما يجري يوماً بعد يوم في المدرسة ، وهو ذو صلة مباشرة مع الاطفال . وان هذا يصدق على الآباء الذين يرسلون أولادهم وبناتهم لاحراز نتائج شخصية يرغبون في احرازها لا من اجل تحسين نظرية التربية ، وهو في الغالب يصدق كذلك على زائري المدارس الذين يميزون بدرجات مختلفة ما يقام به عملياً امام عيون الاطفال ، ولكن قل ان تكون لهم الرغبة او الوقت لاعتبار علاقة العمل المدرسي بالمشاكل التي منحت العمل المدرسي اهميته . والمدرسة لا تستطيع أن تغفل النظر الى هذه الناحية من عملها ، لأنها بالالتفات اليها فقط تستطيع ان تبقي على ثقة القائمين على شؤونها وحضور طلبتها . وعلى كل حال فان مدرسة يديرها قسم في الجامعة يلزم ان يكون لها وجه آخر . واهم قسم في عمل المدرسة هو القسم العلمي حسب وجهة نظر الجامعة ، فهو الذي يقدم التفكير التربوي ، ولكن الغرض تربية عدد معين من الاطفال لا يكاد يبرر انفصال الجامعة عن التقليد الذي يقصر عملها على اولئك الذين انهوا تعليمهم الثانوي . فالهدف العلمي وحـــــــده واجراء التجارب في المختبر على شرط ان يكون مماثلا لغيره من المختبرات العلمية هو السبب في ان يكون للجامعة مدرسة ابتدائية . لأن مدرسة من هذا النوع

الصفحة 98 

ما هي الا مختبر لعلم النفس التطبيقي ، وهو العلم الذي يفسح مجالاً لدراسة العقل كما يظهر وينمو في الطفل ، كما انه يبحث عن مواد ووسائط يتوقع منها اكثر من غيرها ان تملأ وتوسع ظروف النمو الطبيعي . فهي ليست دار معلمين ولا قسماً لاعدادهم ، انها ليست مدرسة نموذجية لأنها لا تنوي ان تطبق اية فكرة أو وجهة نظر معينة ، ولكن مهمتها هي مشكلة استعراض تربية الطفل في ضوء مبادىء الفعالية العقلية وعمليات النمو التي اصبحت معلومة باستخدام علم النفس الحديث. وان هذه المشكلة نفسها لمشكلة غير محدودة ، فكل ما تستطيع ان تقوم به مدرسة مهما كانت ، هو ان تساعد طلبتها في هذا المجال وذاك ، وان تنهض لابراز اهمية التربية نظرياً وعملياً على هذا الهدي والرأي ، و لما كان هذا هو الهدف فعلى ظروف المدرسة - طبعاً ان تقبله . وما الكفاح في دراسة عملية النمو وقوانينه في ظروف اصطناعية كهذه وهي ظروف تعوق كثيراً من الحقائق الرئيسية عن اظهار نفسها في حياة الطفل ، الا سخافـــــة واضحة كما ان مشكلة المختبر من ناحيتها التطبيقية تظهر بشكل انشاء منهج دراسة ينسجم مع التاريخ الطبيعي لنمو الطفل في المقدرة والخبرة .

فالمسألة اذن هي اختيار عدد من الموضوعات متنوعة ومتناسبة تستجيب بصورة محددة لحاجات وقوى فترة معينة من النمو ، كما تستجيب كذلك الى أنماط من اعمال الانسان التي تربط المواد الدراسية المختارة بصورة حيوية في النمو . واننا لا نستطيع ان نعترف الى اقصى حد واوسع حرية بقصور معرفتنا وعمق جهلنا في هذه المسائل ، فليس من احد له هيمنة علمية تامة على الحقائق النفسية الهامة في اية سنة من سني الطفل.  ومن الافتراض البحث ان ندعي ان مواد معينة هي افضل مواد مناسبة لترقية نمو الطفل، كما تمت

الصفحة 99 

ماطة نام عن ذلك"1"   وان الافتراض القائم في المختبر التربوي هو ان ما نعرفه عن ظروف وانماط النمو هو على الارجح كاف لجعل القيــــــام ببحث حصيف ممكناً ، كما اننا بالاعتماد على ما سبقت لنا معرفته نستطيع ان نوسع معرفتنا وان نعرف المزيد . والنقطة الرئيسية هي ان تجربة من هذا النوع ستضيف او تزيد في اقتناعاتنا المعقولة فما نحتاج اليه هو ان نضمن تنظيمات تسمح لحرية البحث وتشجعها تنظيمات تتقدم ضماناً بان الحقائق المهمة لن تفسر على الانزواء كما تضمن وجود ظروف تمكن التطبيق التربوي الذي يقول به البحث لينفذ بإخلاص من دون تحريف او طمس ينجمان من اعتماد غير صحيح على آراء تقليدية سبق ان اخذنا بها . فبهذا المعنى تصبح المدرسة مركز تجريب في التربية . اذن فما الفرضية الفعالة التي اتخذها علم النفس ؟ وما الذي اتخذته الجهات التربوية المقابلة ليكون الى حد ما مسايراً لما اتخذه علم النفس ؟!

ان بحث هذه النقاط يمكن ان يتحقق بمقارنة بين علم النفس المعاصر وعلم النفس القديم ، وان هذه المقارنة ذات ثلاثة اوجه. فعلم النفس القديم اعتبر العقل مسألة فردية محصنة ذات اتصال مباشر ومجرد بالعالم الخارجي ولم يثر الا سؤالا واحداً ، هو مسألة الطرق التي يتم بها تبادل الاتصال بين كل من العقل والعالم الخارجي . وقد اعترف بعملية واحدة من عمليات العقل ، كما لو كان من وجهة نظرية عقل واحد يعيش في هذا العالم .

اما في الوقت الحاضر فان الميل السائد هو اعتبار عقل الفرد وظيفة للحياة

الهوامش : 

1 - يقصد أن طبيعة الانسان غير معروفة معرفة تامة ، لذا فكل ما يقدم لترقية نمو الانسان وعقله من مبادىء ومواد لا يعتقد بفائدته بصورة يقينية ولكن بصورة حدسية . المترجم

الصفحة  100 

الاجتماعية ، اي انه غير قادر على العمل او النمو بنفسه بل انه يتطلب تنبيها مستمراً من وسائل اجتماعية ويجد غذاءه في ما يمده به المجتمع ، وقد جعلت فكرة الوراثة الفكرة القائلة بأن كيان الانسان الجسدي والعقلي ارث من الرس فكرة مألوفة. اي ان ذلك الكيان رأس مال ورثة الفرد من الماضي وهو يمسكه بثقة لمستقبله . اما فكرة التطور فقد جعلت هذه الفكرة مألوفة ، وهي الفكرة القائلة بأن عقل الانسان لا يمكن ان يعتبر ملكية فردية محتكرة ولكنه يمثل حلولاً في كفاح الانسان وتفكير الانسانية . اي انه قدما في محيط اجتماعي كما هو طبيعي . وان الاهداف والحاجات الاجتماعية كانت أقوى مؤثر في تكوينه ـ وعلى هذا فالفرق الرئيس بين الهمجية والتمدن لا يقع في الطبيعة المجردة التي يجابهها كل منهما ، ولكن في كل من الوراثة الاجتماعية والوسائل الاجتماعية . وقد جعلت الدراسات التي أجريت على الطفولة هـــــذه النقطة واضحة كالنقطة السابقة وهي ان الوراثة التي تكتسب اجتماعياً لا تؤثر في الفرد إلا بمؤثرات اجتماعية حاضرة . والطبيعة تمدنا حقيقة بالمنبهات الطبيعية كالضوء والصوت والحرارة .. الخ .. ولكن القيمة المتعلقة بهذه المنبهات والتفسيرات التي تخصها تعتمد على الطرق التي يتعامل بها المجتمع الذي يعيش فيه الطفل مع هذه الاشياء . وليس المنبه الحقيقي للضوء هو الحقيقة التامة ، ولكن التفسير الذي يسبغه عليه التفكير والفعاليات الاجتماعية يمنحانه ثروته في المعنى . فبالتقليد والايحاء والتعليم المباشر ، واكثر من هذا ما يحدث بالبصيرة اللاشعورية واللامباشرة حيث يتعلم الطفل تقدير الظرف والتصرف ازاء المنبه الطبيعي المجرد . وبالوسائل الاجتماعية استطاع الفرد ان يعيد باختصار في سنين قليلة التقدم الذي استغرق الجنس الانساني كله في بنائه قروناً طويلة . وان التطبيق التربوي قد أظهر تكييفاً غير واع وانسجاماً مع

الصفحة 101 

علم النفس السائد وقد نشأ كلاهما من تربة واحدة "1" . وكما افترض سابقاً ار العقل يمتلىء من الاتصال المباشر بالعالم فقد افترض كذلك ان حاجات الانسان الى التعلم يمكن ان تلبي باتصاله مباشرة بمجموعات مختلفة من الحقائق الخارجية يطلق عليها اسم الجغرافية والحساب والنحو .. الخ ..

وبما ان هذه المجموعات من الحقائق قد اختيرت من الحياة الاجتماعية في الماضي الذي اهمل واغفل ، فقد اعتبر مساوياً لذلك ان تولد من المواقف الاجتماعية لتقدم الحلول المطلوبة للحاجات الاجتماعية . ولم يتحقق العنصر الاجتماعي في المادة العلمية ولا في التشويق العملي الذي انشىء للطفل اذ جعل ذلك موضوع خارجي تماماً يتعلق بالمعلم وبالتشجيع والتحذير والحث وبالوسائل التعليمية التي تجعل الطفل يعالج مادة هي نفسها لم يلق عليها شعاع من الاهمية الاجتماعية الا عن طريق المصادفة . فقد نسي بان اقوى تشويق واتم معنى في حياة الطفل لا يمكن ان يحصلا الا عندما تكون الدراسات المقدمة ليست دراسات خارجية مجردة ، ولكنها تقدم من اجل العلاقة التي تربطها بحياة المجتمع . ونسي ايضاً انه لأجل ان تصبح هذه الدراسات اجزاء داخلة في التصرف والخلق ان تمثل ، لا ان تكون مجرد مقادير من المعلومات ، وانما تكون أجزاء عضوية من حاجات الطفل واهدافه الحاضرة التي هي أهداف اجتماعية. 

ومن جهة ثانية فان علم النفس القديم لم يكن إلا علم نفس معرفة نظرية ، علم نفس العقل . اما العاطفة والكفاح فلم يكن لهما الا محل عرضي وثانوي .

الهوامش :

 - 1 لعله يقصد ان التطبيقات في التربية قد نشأت من الظروف نفسها التي حتمت ظهور علم النفس – المترجم

الصفحة102 

وقد قيل شيء كثير عن الاحساسات ، ولكن ما قيل عن الحركات لم يكن الا شيئاً ضئيلا يكاد يساوي العدم. كما جرت مناقشات حول الافكار ، وهل هي وليدة الاحساسات ام وليدة ملكة عقلية خفية ، ولكن امكانية تولدها من الحاجة الى العمل أهملت . كما اعتبر تأثيرها في التصرف والسلوك شيئاً ذا علاقة خارجية .

اما الآن فإننا نعتقد باننا اذا استعملنا كلمات وليم جيمس بأن العقل او مجال الاحساسات والافكار ، ليس الا « منطقة وسطى لا نعتبر غيرها احياناً فنخيب ان نرى وسط اختلاف الاستطاعة الهائل وتعقيدات التأمل التي قد تملأ العقل ان ليس له الا وظيفة جوهرية واحدة هي تعيين الاتجاه الذي تأخذه فعاليتنا . سواء كانت قريبة ام بعيدة . « 

وهنا وجد انسجام سابق في تكوينه بين التطبيق التربوي والنظرية النفسية. وقد عزلت المعرفة في المدارس وجعلت غاية في ذاتها فأصبحت الوقائع والقوانين والمعلومات قوام المنهج . ونشأ الخلاف في التطبيق التربوي والنظرية التربوية بين الذين يعتمدون اعتماداً كبيراً على عنصر الحاسة في طلب المعرفة ، وعلى التماس بالاشياء ودروس عن الاشياء وبين الذين يؤكدون على الاداء المجرد والتعليمات الخ... او ما يسمى بالعقل ، وليس هو في الواقع الا آراء اناس صبت في كتب . وليس لدى اي من الفريقين محاولة لربط تدريب الحاسة او لربط العمليات المنطقية بالمشاكل وبرغبات الحياة ذات الصفة الطبيعية . 

وهنا للمرة الثانية يظهر التغير او التحول التربوي اذا افترضنا ان نظرياتنا النفسية مهمة بحقائق الحياة ايا كانت . اما النقطة الثالثة في المقارنة فانها مستقرة في المفهوم الحديث للعقل بوصفه جوهرياً بانه عملية نمو وليس شيئاً ثابتاً .

الصفحة 103 

أما بموجب النظرة القديمة فقد عرف العقل بأنه عقل وانتهت قصته كلها . وقد قيل عن العقل بأنه مجرى ثابت عند كل الناس لأنه متجانس مع تشكيلة الملكات العقلية ذاتها سواء ذلك عند الطفل والبالغ ، فإذا أشير إلى فرق ما فان ذلك يعني بيسر أن بعضاً من هذه الملكات الجاهزة او المهيأة من السابق كالذاكرة مثلا قد باشرت عملها في وقت مبكر بينما بقيت ملكات اخرى، كملكة اصدار الحكم والاستدلال، دون ان تظهر الا بعدان أرغم الطفل بالتدريب على التذكر على ان يعتمد اعتماداً تاماً على آراء الآخرين . ولم يكن من فرق مهم اعترف به  الا الفرق في الكمية والمقدار "1" فقد عد الطفل رجلاً صغيراً وعـــد عقله صغيراً كذلك في كل شيء عدا الحجم اذ اعتقدوا أن لعقل الطفل ما لعقل البالغ من الحجم ، وأنه . مزود كذلك بالملكات ، كملكة الارادة والانتباه والذاكرة الخ.. اما الآن فإننا نعتقد ان العقل شيء نام ، ولذا فهو في جوهوه متغير ، ومعبر عن اوجه متميزة في القابلية والولع في مراحل مختلفة من الزمن ، وهي كلها واحدة وذات نمط واحد من وجهة استمرار الحياة ، ولكنها جميعاً مختلفة ؛ لأن لكل منها مسائله ووظائفه المختلفة . " فالورقة اولا ثم السنبلة ثم الذرة كاملة في السنبلة "2" . وليس من السهل التأكيد على اتفاق التربية وعلم النفس على هــــــذه النقطة فان محتويات الدراسة يسيطر عليها الى درجة كافية – وان تكن غير واعية الزعم القائل: اذا كان العقل وملكاته شيئاً ثابتاً فإن مادة الدراسة للبالغين، اي المادة التي رتبت حقائقها ومبادئها ترتيباً منطقياً، وهي الدراسة الطبيعة للطفل اذا سهلت ويسرت " طبعاً " واذا وجب تخفيف الريح عن الحمل

الهوامش : 

 1- يقصد الفرق بين ملكات الصغار والكبار ـ المترجم

2 - لعله يشير بهذا الى التدرج في النمو والادراك المترجم

الصفحة 104 

المجزوز صوفه  "1"وكان ناتج هذا منهج الدراسة التقليدي الذي قرن فيه بصوره مطلقة عقل الطفل بعقل البالغ للمرة الثانية، عدا النظر الى المادة من حيث المقدار ودرجة القوة . فقد قسم مدى الكون الى أقسام سمیت مباحث او دراسات ، وقسم كل من هذه المباحث الى اجزاء ، وخصص كل جزء لسنة دراسية معينة ، ولم يعترف بأي نظام للنمو اكتفي بتيسير الاقسام الأولى من المناهج . ونستعمل القول المناسب الذي فاه به و.س جاكمن في تصوير سخافة هذا النوع من المناهج، قال: « لا بد انه أن قد بدا لمدرسي الجغرافية ان السماء ابتسمت لهم عندما تعين للدراسة اربع او خمس قارات . فاذا بدأت بالدراسة مبكراً ، وذلك امر سهل بدا من الطبيعي حقيقة ان تدرس قارة في كل صف ، فاذا وصلت الى السنة الثامنة تكون قد انتهيت من كل القارات » : واذا عدنا يجد مرة ثانية الى فكرة العقل بوصفه نمواً ، فان هذا النمو يحمل سمات نموذجية متميزة عن ادواره المختلفة. 

ومن الواضح للمرة الثانية ظهور تحول او تغير تربوي . ومن الواضح كذلك ان الاختيار والتدرج في مواد الدراسة ينبغي ان يكونا بالرجوع الى  تغذية سليمة للاتجاهات السائدة في الفعالية في مرحلة معينة ، لا بالرجوع الى اقسام او اجزاء مقطعة من عالم رفة معبأ . وطبيعي ان من السهل نسبياً ان نضع اقتراحات كالاقتراحات السابقة ، ومن السهل استعمالها في نقد ظروف مدرسية قائمة ، ومن السهل ايضاً اعتماداً على تلك الاقتراحات،

الهوامش : 

"1" كناية عن أن الاطفال لا يحتملون الكبارة كما لا يحتمل الريح الباردة الحمل الذي جـز صوفه - المترجم .

الصفحة 105 

ان تلح في ضرورة ايجاد شيء جديد مختلف ، ولكن الفن واسع ، والصعوبة في جعل هذه المفاهيم فعالة ، وذلك بمعرفة أي المواد واي الطرائق يحتاج اليها، وفي اية نسبة وترتيب يمكن ان تكون متيسرة ومساعدة في وقت معين .

وهنا ينبعي ان نعود الى فكرة المختبر ، ولا يوجد مقدماً جواب لهذه الاسئلة ، فالتقاليد لا تعطي ذلك الجواب لأن التقاليد مبنية على علم نفس مختلف اختلافاً كبيراً ، كما لا يمكن للعقل المجرد ان يعطي ذلك الجواب لأنه مسألة واقع وليس من سبيل الى ان توجد تلك الاشياء بالتجريب . فاذا رفضنا التجريب والتزمنا التقليد بصورة عمياء ، لأن البحث عن الحقيقة يشمل الاختبار في حقل المجهول ، فمعنى ذلك اننا نرفض الخطوة الوحيدة التي تهب التربية اقتناعاً عقلياً .

ان الفقرة الآتية تعرض بيسر عدة سطور من بحث بدىء به في السنوات الخمس الاخيرة وظهرت له نتائج نشرت قبل مدة قليلة ، ذكرت و ان هذه النتائج لا تزعم انها اكثر من حصيلة تجربة ، مؤملة جهدها المزيد من الوعي المحدد لطبيعة المشاكل وممهدة السبيل لعمل يتسم بالذكاء في القابل من الايام ، لذا فهي تقدم محدود ، ومن الواجب كذلك ان نقول انه لم يتهيأ في كثير من الحالات ، من وجهة عملية ، تطبيق افضل فكرة متوصل اليها بسبب من صعوبات ادارية ناجمة عن نقص في المبالغ المخصصة - صعوبات ناجمة عن الحاجة الى بناية لائقة والى جهاز ، وعن العجز عن دفع المبالغ الضرورية لضمان وقت المعلمين كله في مجالات او وجهات مهمة . والحقيقة انه مع ازدياد عدد المدارس و بازدياد اعمار الطلبة ونضجهم اصبح علينا تعيين الوقت الذي يمكن بــــه استمرار التجربة من دون الحصول على تسهيلات مناسبة أمراً صعباً. واذا

الصفحة 106 

جئنا الآن الى الكلام على الاجوبة التربوية التي طلبناها للفرضيات النفسية فمن المناسب ان نبدأ الكلام بمسألة النمو . فالدور الاول " من ادوار الطفل ، ولنقل البالغ من العمر اربعاً الى ثماني سنوات " متميز الى الرغبات الشخصية والاجتماعية ، وبتوجيه وترقية العلاقة بين الانطباعات والافكار والفعل . وان الحاجة لمنفذ حركة للتعبير حاجة ماسة ومباشرة ، لهذا فان مادة الدراسة لهذه السنوات يلزم ان تنتخب من أوجه الحياة الداخلة في محيط الطالب الاجتماعي ، وان تكون لها القابلية قدر الامكان على ان ينتج الطفل منها شيئاً ما ذا طابع اجتماعي في الرياضة والمهن والفنون الصناعية والقصص وتخيل الصور والمحادثة. 

وان هذه المواد موجودة من البداية في اقرب الأمكنة الى الطفل ، في حياة الأسرة وفيما هو موجود في جيرته ، ثم تجاوز ذلك الى شيء بعيد نوعما كالمهن الاجتماعية " خصوصاً تلك المهن ذات العلاقة بالتعاون الحاصل بين حياة الريف والمدينة" ثم تمتد الى التطور التأريخي للمهن الشائعة وللأوجه الاجتماعية المرتبطة بها . ولا تقدم المادة على هيئة دروس او على هيئة شيء يجري تعليمه ، ولكن على هيئة شيء يدخل في خبرة الطفل خلال الفعاليات التي يقوم بها في النسج والطبخ والاشتغال في المعمل وفي المسبك والتمثيليات والمحادثة والمناقشة والقصص . فهذه بدورها وسائل مباشرة . وكلها انواع من الفعالية الحركية او التعبيرية . وقد أكد عليها لتسود منهج المدرسة ، عسى ان يمكن الحصول على صلة قوية بين المعرفة والعمل ، وهي الصفة التي تميز حياة الطفل في هذه الفترة .

فليس اذن الهدف من ذهاب الطفل الى المدرسة هو الذهاب الى محل

الصفحة 107 

منعزل ، بل انه يذهب الى المدرسة ليلخص او يركز أوجها نموذجيــــة من خبرته خارج المدرسة لكي يوسعها ويغنيها ثم يشكلها تدريجاً. 

وفي المرحلة الثانية التي تمتد من السنة الثامنة او التاسعة الى الحادية عشرة او الثانية عشرة نجد الهدف هو ان نميز ونستجيب للتغيير الذي يصيب الطفل نتيجة نمو ادراكه لامكان الحصول على نتائج موضوعية وثابتة ولضرورة السيطرة على وسائل المهارة اللازمة للوصول الى هذه النتائج .

وعندما يميز الطفل غايات متميزة ودائمة تقف بنفسها وتتطلب انتباهاً لقيمتها الخاصة فان الغموض السابق ووحدة الحياة الجارية ينجليان . تستطيع مزاولة الفعالية لأجل الفعالية ذاتها " "1ان ترضي الطفل بصورة مباشرة ، فالواجب أن يترك الطفل لينجز شيئاً ما ، وليقود نفسه نحـــــو ناتج محدد ومقصود. 

اذن فالواجب اتباع قواعد التصرف ، وهي الوسائل المنظمة المناسبة لنيل نتائج دائمة وذات قيمة في اتقان عمليات خاصة للحصول على مهارة عند ممارسة تلك الوسائل . ومن ثم تكون المشكلة من وجهــة تربوية فيما يخص مادة الدرس أن نجزىء وحدة الخبرة الغامضة الى أوجه أو الى جوانب نموذجية متميزة ، ونختار منها ما . يصور أهمية النوع البشري في الهيمنة على وسائل معينة وطرائق تفكير وعمل في تحقيق اسمى غاياته، أما المشكلة من وجهة الطريقة فهي مشابهة لما مر. وهي ان نهيىء الطفل لأن يدرك ضرورة نمو مماثل داخل نفسه ، اي الحاجة الى أن يضمن لنفسه

الهوامش : 

"1" اي من دون هدف - المترجم

الصفحة 108 

سيطرة فعلية وعقلية في اساليب من هذا النوع في العمل والبحث ، لأنها هي التي تمكنه من ان يحقق لنفسه النتائج المطلوبة. واذا نظرنا من ناحية اكثر تماساً مع الجانب الاجتماعي ، فان التاريخ الامريكي " وخصوصاً ما كان منه يخص المرحلة التي كانت فيها امريكا مستعمرة " قد اختير ليقدم نموذجا رائعا في الصبر والشجاعة والبراعة والرأي المستقر في تكييف الوسائل للغايات حتى في وجه العوائق والمخاطرات العظيمة ، بينما المادة نفسها محددة وحية وانسانية بدرجة تدخل مباشرة في مدى الخيال الانشائي والروائي للطفل ، وهكذا فانها من وجهة استبداله في الأقل جزءاً من وعيه الخاص الواسع ولأن الهدف ليس الفراغ من المنهج ولكن.معرفـــــة العمليات الاجتماعية المستعملة في ضمان نتائج اجتماعية ، فلم يقم احــــــد بمحاولة تدريس تاريخ أمريكا كله وفق تسلسله الزمني . بل أخذت منه مختارات متنوعة مثل شيكاغو والجانب الشمالي الغربي من وادي المسيسيبي ، ولاية فرجينيا ونيويورك ، المتطهرون وزوار الاماكن المقـــدسة في نیوانگلند .

وكان القصد ان تمثل انواعاً مختلفة من الظروف المحلية والمناخية لتظهر المختلفة الانواع من العوائق والاحوال المساعدة التي وجدها الناس ، كما تظهر انواعاً مختلفة من التقاليد التاريخية والعادات والاغراض لدى الاقوام المختلفة . وقد احتوت الطريقة على تقديم مقدار كبير من التفاصيل ودقائق البيئة والادوات والملابس والآنية التي يستعملها الناس والاطعمة وانماط المعيشة اليومية لكي يستطيع الطفل ان يعيد انتاج المادة بصورة حية لا بصورة معلومات تاريخية. فبهذه الطريقة تصبح العمليات الاجتماعية والنتائج وقائع ملموسة .

الصفحة 109 

وعلى ذلك وفي ما يخص تعرف الطفل بصورة شخصية او نقلية على الحياة الاجتماعية المدروسة والتي هي من خصائص المرحلة الاولى " لانه قد تجاوز الآن التعرف بصورة نظرية " يضع نفسه في مركز المشكلات التي يتوجب حلها ليكتشف مرة ثانية قدر امكان الطرائق التي تحل بها تلك المشكلات . وان وجهة النظر العامة القائلة بتكييف الوسائل للغايات تسيطر على العمل ايضاً . وللسهولة ، فان هذه قد تعتبر الآن منشطرة الى قسمين ، وهما القسم الجغرافي والقسم التجريبي ، ولأن العمل التاريخي ذلك قبل قليل-  يعتمد كما مر على تقدير أو تقييم المحيط الطبيعي ، لأنه يقدم المصادر او المواد ويمثل المشكلات الملحة ، فان انتباهاً مناسباً يوجه نحو طبيعة الأرض كالجبال والانهار والسهول والخطوط الطبيعية للسفر والتبادل والنباتات والحيوانات الخاصة بكل مستعمرة ، وكانت كل هذه مرتبطة برحلات الى الريف عسى أن يستطيع الطفل الحصول على معلومات اولية Data ما يستطيع عليه من الملاحظة ليستعملها في تخيل بنائي وفي تصور محيطات أو بيئات أبعد . يخصص الجانب التجريبي نفسه لدراسة العمليات التي تثمر نتائج فائقة ذات قيمة للبشرية . وفي المرحلة الأولى تكون فعالية الطفل فعالية انتاجية بصورة مباشرة اكثر من كونها فعالية بحث ، وما التجارب التي يقوم بها سوى انماط من عمل مستمر كما هي الحال في الغالب في ما يقوم به من لهو وألعاب ، ولكنه اخيراً يحاول ان يكتشف كيف ان وسائل او مواد مختلفة يمكن استعمالها للحصول على نتائج معينة . وهي بهذا متميزة بصورة واضحة عن التجريب بالمعني العلمي لأن هذا الاخير يوافق المرحلة الثانية حين يكون الغرض اكتشاف حقائق وتثبتاً من صحة مبادىء . ثم لان الولع في التجريب هو العامل السائد ؛ فان

الصفحة 110 

ما يقوم به حينذاك يقع في حقل العلم التطبيقي أكثر من وقوعه في حقل العلم النظري. مثال ذلك ان العمليات التي اختيرت قد وجد انها كانت ذات اهمية في مرحلة الاستعمار ، وهي مثل قصارة الاقمشة وصبغها وصناعة الصابون والشمع وصنع أوان من الزنك وتحضير الخل وعصير التفاح . وقد ادت كلها الى دراسة بعض الوسائل الكيمياوية كالزيوت والشجرم ومبادىء التعدين .

اما الفيزياء فبدىء بها بداية عملية ايضاً . فقد شرع بدراسة لاستعمال طاقة عجلة الغزل وآلات النسيج وتحويلها . واهتم بالمبادىء الميكانيكية المستعملة في الحياة اليومية كما في الاقفال والموازين وغيرها حتى تطورت الحال فصارت آلات ووسائل كهربائية كالجرس الكهربائي والتلغراف وغيرها . وقد أكد على العلاقة بين الوسائل والغايات في مجالات أخرى من العمل ففي الفن وجه اهتمام الى المسائل العملية في علم المرئيات والنسب في المجالات والكتل والتوازن وتأثير امتزاج الالوان وتعارضها وغير ذلك . 

وفي الطبخ شملت الدراسة قوانين تركيب الاطعمة وتأثير الوسائل المختلفة في هذه القوانين . وكان الغرض من ذلك ان يستنتج الاطفال قدر امكانهم المبادىء بأنفسهم .

وفي الخياطة عني بأنماط تفصيل الاقمشة وملاءمتها للاجسام " تجرب اولا على الدمى " ثم تدرج ذلك الى الخياطة الفنية . ومن الواضح ان ازدياد الاختلاف بين مجالات العمل والاولاع أدى الى فردية اوسع واستقلال في دراسات عديدة ، فالواجب تخصيص عناية كبيرة ليحصل التوازن بين الفصل والعزل غير الضروريين من جهة والاهتمام العرضي والمتنوع الاسباب بعـدد

الصفحة 111 

كبير من المسائل من دون تأكيد كاف او تمييز لاي منها ، من جهة ثانية.  فالمبدأ الاول يجعل العمل ميكانيكياً ورسمياً او شكلياً ويطلقه من خبرة الطفل في الحياة ومن التأثير الفعال على السلوك . والثاني يجعله ضيقـــــا وغامضاً ويترك الطفل من دون سيطرة محددة على قواه ومن دون وعي تام بأغراضه . وربما لم يظهر المبدأ الخاص ، مبدأ العلاقة الواعية بين الوسائل والغايات ، بوصفه المبدأ الموحد في هذه المرحلة إلا في هذه السنة الماثلة . والمرجو ان تأكيداً على هذا المبدأ في جميع العمل سيكون له تأثير موحد ومتزايد في نمو الطفل . ولم اقل شيئاً حتى الآن عن شيء من اهم الوسائل والوسائط التي توسع الخبرة وتسيطر عليها وهو اتقان الرموز التقليدية او الاجتماعية ، وهي رموز اللغة وبضمنها الرموز الكمية . وان اهمية هذه الاداتيات * عظيمة جداً ، حتى ان المنهج التقليدي أو منهج الراءات الثلاث "1" خصص لها نسبة تبلغ من 60٪ الى 80٪ من الوقت المخصص للسنوات الاربع ، أو الخمس من سني الدراسة الابتدائية . وان نسبة ال 60٪ التي سبق ذكرها لا تحتل معدل الوقت المخصص في المدارس كلها ولكنها تمثل مقداراً منها في مدارس قليل . ان هذه الموضوعات اجتماعية من معنيين او ناحيتين ، فهي الآلات التي طورها المجتمع في الماضي لتكون وسائل أو أدوات في التتبع العقلي ، تمثل المفاتيح التي تفتح امام الطفل رأس المال الاجتماعي المختبىء وراء محدودية خبرته الشخصية . وفي الوقت الذي

الهوامش : 

 *يقصد بالادانيات الوسائل المؤدية الى الغايات المطلوبة.

 - 1منهج الراءات الثلاث منهج سهل يحتوي على مواد في تعليم « القراءة والكتابة والحساب » وقد سمي بهذا الاسم لان حرف الراء يرد في كل كلمة من هذه الكلمات الثلاث في الإنكليزية . المترجم

الصفحة 112 

يلزم فيه ان تمنح هاتان النقطتان مركزاً ممتازاً في التربية لهذه الفنون فانها تجعل من الضروري ملاحظة ظروف خاصة في تقديمها واستعمالها . وعلى العموم فلا يوجد في التطبيق المباشر لهذه الدراسات اعتبار لهذه الظروف . 

لذا فان أبرز مشكلة تخص مناهج الراءات الثلاث في الوقت الحاضر هي اقرار هذه الظروف وتكييف العمل لها . ومن الممكن تخفيض الظروف الى شيئين ، وهما : "1" الحاجة الى ان يكون للطفل في خبرته الشخصية الحية أساس متنوع من التماس والتعرف على الامور الواقعية الاجتماعية والطبيعية وهذا أمر ضروري لمنع الرموز من أن تغدو بالية ، وتعويضاً تقليديا عن الواقع "2" الحاجة الى ان المزيد من الخبرات الاعتيادية والشخصية لدى الطفل سيزوده بعدد من المشكلات والدوافع والاولاع التي تحتم الرجوع الى الكتب لغرض وجدان حل ورضا واستقصاء ، وإلا فان الطفل سيتناول الكتاب من دون جوع فكري ولا يقظة ، ولا اتجاه استفساري ، فتكون النتيجة هي النتيجة العامة المأسوف عليها . وإن هذا الاعتماد المزري على الكتب يضعف ويعوق حيوية الفكر والبحث ويختلط بالمطالعة من أجل تنبيه الخيـــال اعتباطاً ، او من دون هدف ، وبالانهماك العاطفي والهرب من عالم الواقع الى ارض الوهم . فالمشكلة اذن كما يأتي :

 "1"ان تزود الطفل بمقدار كاف من الفعاليات الشخصية في المهن والتعبير والبناء والتجريب لكي لا تضيع فرديته الخلقية والعقلية في مقدار غير متناسق أو متناسب من خبرات الآخرين التي تزوده بها الكتب

 "2"فاذا وجهت هذه الخبرة الاكثر تماساً بالواقع بهذه الصورة لتجعل الطفل يشعر بحاجة الرجوع الى سلطة الوسائل الاجتماعية التقليدية أو قيادتها فزوده

"م8 "

الصفحة 113 

بالدوافع لتجعل رجوعه الى هذه الوسائل حاذقاً بالاضافة الى ما عنده من قوی ، عوضاً من الاعتماد الذليل . فاذا حلت هذه المشكلة فان دراسة اللغة والأدب والحساب لن تصبح خليطاً من تمرين آلي وتحليل رسمي وتحريك ولو بصورة لا واعية الى الاولاع الحسية ، وسوف لا يكون أدنى سبب للخوف من تلك الكتب وما يتعلق بها ، لأنها لن تحتل المكان المرموق الذي نالته سابقاً . ويكاد غنياً عن البيان ان يقال ان هذه المشكلة لم تحل بعد . فالشكوى العامة من أن تقدم الاطفال في دراسات المدارس التقليدية قد ضحي به من أجل الموضوعات الجديدة التي أدخلت على المنهج إن هي إلا بينة كافية على أن التوازن التام لم يحصل بعد. 

 فالخبرة بحالتها الراهنة في المدرسة ، وان لم تتضح بعد ، تنبىء عن النتائج المحتملة الآتية، وهي أن المزيد من أنواع الفعالية المباشرة البناءة في الأعمال المهنية والملاحظة العلمية والتجريب الخ يقدم مزيداً من الفرص والمناسبات في الاستعمال الضروري للقراءة والكتابة « بضمنها الاملاء » والاعمال الحسابية وان هذه الاشياء ستقدم حينذاك لا بوصفها دراسات منعزلة بل بوصفها نمواً عضوياً في خبرة الطفل . فالمشكلة في الاستفادة أو في استغلال هذه المناسبات بصورة نظامية وتقدمية .

2"" ان الحيوية الاضافية والمعنى الذي تتضمنه هذه الدراسات تجعل من الممكن تخفيض الوقت المخصص لها بصورة اعتيادية الى درجة ملحوظة، 

"3" ان الاستعمال الغائي لهذه الرموز سواء أكان في القراءة والحساب أم في الانشاء ، اکثر حذقاً وأقل آلية وأكثر فعالية وأقل يصبح تسلماً واكثر في زيادة القوى وأقل في ان يكون نوعاً من اللهو وحسب ،

الصفحة 114 

ومن ناحية أخرى يبدو أن زيادة الخبرة تجعل النقاط الآتية واضحة ، وهي :

 1"" من الممكن في السنوات الأولى عند تدريس تمييز الرموز واستعمالها ان نشوق مقدرة الطفل على الانتاج والخلق من جهة مبدئية أو عامة قدر ما هو متحقق في المجالات الاخرى من مجالات العمل التي تبد. اكثر مساساً بأمور الحياة . وفي هذا توجد الإفادة من النتيجة المحددة المعنية التي يستطيع بها الطفل أن يعيش تقدمه. 

 "2" ان الخيبة الشديدة في الاهتمام بهذه الحقيقة الناتجة عن التسويف غير الضروري في بعض أوجه مجالات العمل هذه مع تأثير ان الطفل قد تقدم عقلياً الى مستوى اكثر رقياً تجعلنا نشعر بأن ما عد سابقاً بانه شكل من القوة والابداع قد أصبح مهمة مملة .

 "2" توجد حاجة الى التركيز والتغيير من وقت الى آخر في وقت المنهج المخصص للدراسة وفي كل الدراسات ، حيث ان اتقان التكنيك او الطريقة الخاصة شيء منصوح به. ومعنى هذا انه عوضاً عن تدريس الموضوعات كلها في وقت واحد وخلال مدة متساوية في المنهج ، فالواجب يقضي بالرجوع احياناً بأحد الطلاب الى القسم الأول من الموضوع والرجوع باخرين الى الموضوع الاصلي في الدرس حتى نصل بالطفل الى نقطة يدرك فيها أن له حاليا قوة ومهارة يستطيع بها الآن ان يتقدم ويستقل في استعمالهما . اما المرحلة الثالثة من الدراسة الابتدائية فهي ملاصقة للمرحلة الثانوية ، وهي تأتي عند ما يكون للطفل تعرف كاف ذو اتصال مباشر الى حد ما بأنواع عديدة من الواقع وبأنماط من الفعالية ، وذلك عندما يكون قد أتقن الى درجــــــة كافية طرائق التفكير والبحث والفعالية الملائمة لأوجه مختلفة من الخبرة

الصفحة115 

ووسائلها ليكون قادراً على الانتفاع من التخصص في دراسات متميزة وفي فنون من اجل غايات فنية وعقلية . وفي الوقت الذي يكون المدرسة فيه عدد من الاطفال في هذه المرحلة فانها لا تكون بالطبع موجودة منذ وقت طويل لكي تتمكن من الاستعانة السليمة بالمراجع القيمة . ومن المؤكد وجود سبب يبعث على الأمل ، على كل حال ، باننا بشعورنا بالمصاعب والحاجات والمصادر المحصلة بالخبرة خلال خمس السنوات الأولى من العمر ، نستطيع تنشئة الاطفال في هذه المرحلة من دون تضحية بالاتقان والتهذيب الفكري وضبط الوسائل الفنية للتعلم مع اتساع ايجابي في الحياة ، والنظر اليها نظرة اوسع واكثر حرية .

الصفحة 116 



مبادئ فروبل التربوية



يعود حد التقاليد في المدرسة الابتدائية التابعة لجامعة شيكاغو الى زائرة جاءت الى الجامعة المذكورة في اول ايامها لترى روضة الاطفال ، لما أخبرت ان الجامعة لم تؤسس بعد روضة اطفال ، سألت عما اذا كان لا يوجد هناك غناء ورسم وتدريب يدوي وألعاب وتمثيليات واهتمام بعلاقات الاطفال الاجتماعية. 

ولما اجيب سؤالها بالايجاب ، اضافت بنفور وامتعاض بان ذلك هو ما تفهمه في روضة الاطفال ، ولذا فانها لم تفهم معنى اخبارها بان ليس للجامعة روضة اطفال . وقد كان للملاحظة ما يبررها بالروح ان لم يكن لها ما يبررها بالقول . ففي كل الحوادث اقترح - بصورة خاصة ان تبذل المدرسة قصارى جهدها - وهي الآن تقبل الاطفال بين الرابعة والثالثة عشرة – في تطبيق مبادىء خاصة ربما كان فروبل أول من عرضها بوعي . واقول وانا ما ازال اتكلم بصورة عامة ان هذه المبادىء هي : -

 1- ان مهمة المدرسة الاولى ان تدرب الاطفال على الحياة التعاونية ذات المساعدة المتبادلة لتغذي فيهم الوعي بالاعتماد المتبادل وتساعدهم عملياً في خلق التوافق لتطبيق هذه الروح في اعمال ظاهرة .

الصفحة 117 

 - 2أن الاساس او الجذر الأولي في الفعالية التربوية مستقر في الاتجاهات الفطرية الانبعائية ، وفي فعاليات الطفل لا في تقديم او استعمال المادة الخارجية، سواء أكان ذلك بآراء الآخرين ام بالحواس . وعلى ذلك فان هذا الاساس أو الجذر المشار اليه يقع في ما لا يحصى من فعاليات الاطفال التلقائية كالتمثيليات والالعاب والعاب التقليد وحتى في ما يبدو لا معنى له من حركات الاطفال الصغار وهي الأعمال الظاهرة التي سبق لها ان اهملت بوصفها عبثاً وعقماً ، أو ذمت بوصفها شراً مؤثراً، فكل هذه عرضة للاستعمال التربوي ، بل يمكن عدها احجار الزوايا في الطريقة التربوية .

 -3 تنظم الميول الفردية والفعاليات وتوجه عن طرق استخدامها ، لتكون قوام العيش التعاوني الذي سبق ان تكلمنا عليه وان يفاد منها لانتاج اعمال حسنة ومهن لأعظم مجتمع وانضجه في مستوى الطفل ، وهو المجتمع الذي تقدم نحوه اخيراً ، فبالانتاج والاستعمال الابداعي تنال المعرفة القيمة وتثبت . وبقدر ما تستطيع هذه الجمل ان تمثل فلسفة فروبل التربوية بصورة صحيحة ، فعلى المدرسة ان تعتبر موضحة لقوة هذه المبادىء . وقد اجريت محاولة ، على كل حال ، لتطبيق هذه المبادىء، وكان في تطبيقها من الايمان والاخلاص ليفيد منها اطفال السنة الثانية عشرة قدر ما وضع فيها من ذلك ليفيد منها اطفال السنة الرابعة . فهذه المحاولة - اذا استأنفنا على كل حال ما يسمى بالاتجاه الروضي "1" خلال المدرسة كلها ، تجعل من الضروري القيام بتغييرات في العمل الذي يزاول خلال ما يسمي فنياً بمرحلة الروضة ، وهي المرحلة الواقعة بين الرابعة والسادسة من اعمار الاطفال . ومن الضروري ذكر

الهوامش :

"1" نسبة الى روضة الاطفال.

الصفحة 118 

اسباب تبين ان على الرغم من ان قسماً من هذه المبادىء ذو صفة تطرفية فانها مطابقة لروح فروبل .

قيمة اللهو والالعاب

يلزم الا نقرن اللهو بأي شيء يفعله الطفل في الخارج ،لأن الطفل على الاغلب يخصص اتجاهه العقلي بصورة مجموعة وموحدة . ولهوه حر او لهو تتداخل فيه كل قوى الطفل : افكاره وحركات جسده بشكل مجسم ومرض وفيه تصوراته واولاعه. واذا وصفناه سلبياً فهو الحرية من الضغط الاقتصادي، اي من ضرورات تحصيل العيش واعالة الآخرين، والحرية

من المسؤوليات الثابتة المتعلقة بالمهن الخاصة بالبالغين. اما اذا وصفناه ايجابياً فمعناه ان غاية الطفل العليا هي كمال النمو، كمال في ادراك قواه المتفتحة وهو الادراك الذي يحمله بصورة مستمرة من مستوى الى آخر . وهذه العبارة عامة جداً ، فاذا اخذناها على عموميتها هذه فانها غامضة جداً الى درجة انها خلو من المدلول العملي ، وان نقرأها بالتفصيل والتطبيق يعني على كل حال امكانية في أوجه عديدة ، في ضرورة احداث تغييرات اساسية جداً في نظام روضة الاطفال واذا عبرنا عن ذلك يجرأة ، فالحقيقة هي ان اللعب ينبيء عن اتجاه الطفل النفسي لا على انجازاته الخارجية . ويدل على تحرر تام من ضرورة اتباع اي نظام مفروض او موصوف او ما يترتب على تقديم الهدايا او التمثيليات او المهن . كان المعلم الفطن يطلب من دون شك اقتراحات تخص الفعاليات التي ذكرها فروبل في كتابه اللعب في البيت ، وفي غيره من مؤلفاته

 " Mother Play"والفعاليات التي عرضها اتباعه بتفصيلات دقيقة ، ولكن عليه ان يتذكر ايضاً ان مبدأ اللعب يتطلب منه ان يتحقق من هذه الاشياء وان

الصفحة 119 

ينتقدها ليقرر ان كانت تلك الفعاليات تلائم طلابه حقيقة أم أنها مجرد اشياء كانت حيوية في الماضي لاطفال عاشوا في ظروف اجتماعية مختلفة. 

وبقدر ما تخلد المهن والالعاب وغيرها ببساطة مبادىء فروبل و اتباعـــــه الأوائل فمن الانصاف أن يقال ان افتراضاً يقف ضدها وهو الافتراض القائل : بعبادة الاشياء الخارجية التي بحثها فروبل ينقطع اخلاصنا لمبدئه . فالواجب أن يكون المعلم حراً في تحصيل اقتراحات من كل مصدر أيا كان ، وان يسأل نفسه هذين السؤالين :

 "1"هل يبدو للطفل هذا النمط من اللعب كأنه لعبته الخاصة ؟ وهل هو شيء ذو جذور غريزية في نفسه ؟! وسيعمل على تنضيج القابليات التي تكافح من أجل التعبير عن نفسها ؟! ثم يسأل للمرة الثانية عما اذا كانت الفعالية المقترحة تزوده بنوع من التعبير عن هذه الدوافع التي ستحمل الطفل الى مستوى اعلى من الوعي والعمل عوضاً عن ان تثيره ثم تتركه على حالته في المكان الذي كان فيه سابقاً اضافة الى مقدار من الاجهاد العصبي والرغبة في المزيد من الاثارة في المستقبل . ولدينا بينات كثيرة على ان فروبل درس بدقة أو درس باستقراء ، كما يمكن ان يقال الآن ، ألعاب الاطفال وألعاب التسلية

التي كانت الامهات يلعبنها مع أطفالهن في زمانه . كما عانى كثيراً كذلك في كتابه " العاب للامهات " او -العاب البيت -، ليبين ان مبادىء ذات اهمية كبيرة قد اشتملت عليها تلك الألعاب . وقد رأى لزاماً ان يبين لجيله الحقيقة بأن هذه الاشياء لم تكن عبثاً محضاً وصبيانية لأن الاطفال يقومون بها ، بل انها ذات عوامل جوهرية في نموهم . وانا لا ارى أضعف بينة على ان فروبل اقترح هذه الالعاب وحدها وان في هذه الالعاب معنى لا يوجد في غيرها ،

الصفحة 120 

وإلا فلن يكون لتفسيره الفلسفي اي دافع وراء ما اقترحه من الألعاب . بل على النقيض من هذا فانا اعتقد انه توقع من اتباعه ان يظهروا اقتداءهم بمبادئه وذلك باستمرارهم في دراسة الظروف الراهنة والفعاليات ، لا ان يتبعوه حرفياً في الالعاب التي اقترحها . وعلاوة على ذلك فان فروبل ذاته لم يجهد نفسه في ان يدعي بأن ما قام به كان اكثر من الافادة من الأدراك النفسي والفلسفي المتيسر في زمانه .

ومن الممكن ان نفترض انه لو ادرك عصرنا هذا لكان أول من يرحب بنشوء علم نفس احسن واوسع من سابقه سواء أكان ذلك علم النفس العام ام التجريبي ام علم نفس الطفل . ولاغتنم نتائجه لاعادة تفسير الفعاليات ، ولبحثها بصورة اكثر صرامة في انتقادها ، ولتقدم من وجهة النظر الجديدة هـذه الى اسباب اخرى تزيد في قيمتها التربوية .

الرمزية

من الواجب ان نتذكر ان كثيراً من رمزية فروبل لم يكن الانتاج ظرفين غريبين في حياته. ففي المقام الاول انه باعتماده على معرفة ناقصة في حقائق علم الفسلجة وعلم النفس واسس نمو الطفل صار مضطراً إلى الرجوع الى تفسيرات موروثة وسطحية تشيد بالقيمة المنسوبة الى التمثيليات وغيرها . فالناظر غير المتحيز يرى ان كثيراً من عباراته ثقيلة ومطاطة ، تعطي اسباباً فلسفية مجردة لاشياء يمكن ان تقبل الان بيسر في اصطلاح الحياة اليومية . وفي المقام الثاني كانت الظروف العامة السياسية والاجتماعية في المانيا "1" بحالة تجعل من المستحيل. 

الهوامش : 

"1" بلد فروبل - المترجم

الصفحة 121 

ادراك الاستمرارية بين حياة اجتماعية حرة تعاونية وبين العالم الخارجي . وبناء على ذلك فلم يستطع فروبل اعتبار المهن في غرفة الدراسة انتاجات تقليدية للمبادىء الخلقية المشمولة في حياة المجتمع ، فقد كانت الاخيرة ضيقة جداً ومتحكمة بصورة لا يمكن معها ان تكون قدوات قيمة ، ولذا فقد اضطر الى اعتبارها رموزاً لمبادى ، فلسفية خلقية مجردة . ومن المؤكد وجود تغييرات كافية وتقدم كاف في الظروف الاجتماعية في الولايات المتحدة اليوم اذا قورنت بالظروف التي كانت سائدة في المانيا زمن فروبل ، وان هذه التغييرات وهذا التقدم تبرر جميعاً جعل فعاليات روضة الاطفال اكثر طبيعية واكثر تماساً بالحياة واحسن تمثيلاً لمجراها مما قام به اتباع فروبل. وحتى لو اخذت كما كانت فان التفاوت بين فلسفة فروبل ومثل المانيا السياسية ، جعل السلطات في المانيا ترتاب في رياض الاطفال التي كانت بلا شك قوة عاملة في تحويل سهولتها الاجتماعية الى تكنيك عقلي مطبق .

اللعب والخيال

لا شك ان التأكيد الشديد على الرمزية يؤثر في استعمال الخيال . وطبيعي ان من الصواب القول بأن الطفل يعيش في عالم خيال . فهو من جهة ما لا يقدر الاعلى الوهم ولا تمثل او تعتمد فعالياته الاعلى الحياة التي يراها جارية حوله . فمن الممكن وصفها بأنها رمزية لانها تمثل بهده الصورة ، ولكن من الواجب ان نتذكر ان هذا الخيال او الرمزية ذو علاقة بالفعاليات المقترحة. وما لم تكن هذه واقعية ومحددة للطفل ، كما هي فعاليات البالغ ، فان النتيجة التي لا مفر منها ، وان كانت نتيجة مصطنعة ، هي تأزم عصي ، وتهيج جسدي او عاطفي او انطفاء في القوى . ولقد وجد ميل تكلفي غير محدود تقريباً نحو روضة الأطفال

الصفحة122 

افترض ان قيمة الفعالية مستقرة في ما يهم الطفل ، لذا فان المواد المستعملة ينبغي ان تكون مصطنعة قدر الامكان ، وعلى هذا فالواجب الابتعاد عن المواد الواقعية والافعال الواقعية في ما يخص الطفل ، لهذا فقد اخذنا نسمع بفعاليات بستنة اتخذ فيها عدد قليل من الحصيات على انها بذور وسمعنا بطفل يكنس ويزيل الغبار عن غرف وهمية بمكنسة وقطع قماش وهمية. ويفرش قطعة من الورق المسطح يحسبها منضدة وعليها الصحون او قل قطعة من الورق قصت على تصميم هندسي للمنضدة لتحسب منضدة وأواني عوضاً عن عدة الشاي غير الحقيقية التي يلعب بها الطفل خارج الروضة " "1. فالدمى واللعب المتحركة والقطارات ذات العربات وما شاكلها ممنوعة ، لانها جميعها كبيرة في حالتها الطبيعية وعلى هذا فلا تنمي خيال الطفل . وهذا كله مجرد خرافة لان اللعب التخيلي الذي يبدعه عقل الطفل يتأتي من جملة اقتراحات وذكريات وتوقعات تتجمع حول الاشياء التي يستعملها ، وكلما كانت هذه الاشياء طبيعية وقوعية صارت قاعدة ثابتة لاستدعاء وتجمع كل الاقتراحات المترابطة أو المتجانسة التي تجعل لعبه التخيلي يمثله في الواقع .

ويمكن القول ان الطبخ اسهل وغسل الأواني والقيام بالتنظيف وغيرهـا من الاعمال التي يقوم بها الاطفال ليست اكثر تفاهة او نفعاً لهم من لعبة العرسان الخمسة ، لان هذه الاشغال اصبحت باهظة في ثقلها بسبب معنى من القيم الغامضة المتعلقة بكل ما يخص اولياءهم . لهذا فالواجب ان تكون المواد واقعية ومباشرة

الهوامش :

 "1" يقصد ان الطفل خارج الروضة يلعب بعدة شاي مصطنعة وفي الروضة يجد ان القائمين على شؤونها يقدمون له الورق ليتخذ منه اواني شاي تخيلية وهكذا فالطفل استعاض بالتخيلي عن الاصطناعي وكلاهما لا يقدم خبرة حقيقية على رأي ديوي- المترجم

الصفحة123 

وقويمة بقدر ما تسمح به الفرصة . ولكن المبدأ لا ينتهي هنا ، فالواجب ان يستقر الواقع المرموز اليه في قوى التقدير الفني التي يملكها الطفل . وقد يظن احياناً ان استعمال الخيال نافع اذا بلغ الدرجة التي ندرك بها المبادىء الميتافيزيائية والروحية البعيدة . وفي اغلب هذه الحالات نجد من سداد الرأي ان نقول بأن البالغ يخدع نفسه ، لانه عارف بكل من الواقع والرمز ، ومن ثم فهو عارف بما بينهما من علاقة . وبما ان الحقيقة أو الواقع الممثل او المصور أبعد من ان يناله الطفل ، فان الرمز المفترض لا يراه رمزاً على الاطلاق لانه يراه – بيسر شيئاً ايجابياً قائماً بنفسه . وان اغلب ما ينال منه بصورة عملية ، هو معناه المادي والحسي ، يضاف الى ذلك في الغالب سهولة جارية في التعبير والاتجاهات التي يتعلمها الطفل والتي يتوقعها من المعلم من دون مقاومة عقلية على كل حال. واننا كثيراً ما نعلم النفاق ونغرس النزعة العاطفية ونغذي الاحساسية عندما نعتقد اننا نعلم الحقائق الروحية بالرموز فالوقائع التي يعيد تأليفها الطفل يلزم ان تكون مألوفة لديه ومباشرة وواقعية في صفتها قدر الامكان . وهذا على الاكثر السبب الذي يجمع عمل رياض الاطفال حول اعادة انتاج حياة البيت والجيرة . ولا شك ان هذا الموضوع يقودنا الى مسألة المادة الدراسية.

المادة الدراسية

ان حياة البيت بما فيها من بناية وأثاث وأوان وغير ذلك بالاضافة الى المهن المتخذة في البيوت ، تقدم بحالتها هذه ، مادة ذات علاقة مباشرة وواقعية بالطفل . لذا فمن الطبيعي ان يميل الى اعادة صنعها بشكل تخيلي . ومما يدل دلالة كافية على العلاقات الخلقية والواجبات الادبية الموحية ان نهيىء للجانب

الصفحة 124 

الخلقي في شخصية الطفل غذاء وافياً . ان المنهج البيتي غير واسع نسبيا اذا قيس بمناهج كثير من رياض الاطفال ، ولكن مما يشك فيه الا يكون لضيق مواد المنهج فوائد ايجابية معينة ، فاذا درست مواد كثيرة " كما هو جار في الوقت الحاضر في البيئات الصناعية وفي الجيش والكنيسة وغيرها " نشأ ميل الى ان يصبح العمل موغلا في الرمزي 1" " لذا فان كثيراً من هذه المادة لا يقع دون خبرة ومقدرة الطفل ذي الاربع السنوات او الخمس السنوات ، وكل ما يناله منها بصورة عملية ليس غير رد الفعل الجسدي والعاطفي ، لانه لا ينفذ نفوذاً حقيقياً في المادة نفسها . كما يوجد – علاوة على ما . مر خطر في هذه المناهج الواسعة ، لان لها رد فعل غير مرغوب فيه من ناحية الاتجاه العقلي لدى الطفل . فاذا أنهى مقداراً من دراسة -العالم بأجمعه- ، "2" بصورة وهميه محصنة ، اصبح متخماً وقد اضاع تعطشه الطبيعي الى الاشياء اليسيرة ذات الخبرة ، واخذ يتناول المواد الدراسية في الصفوف الاولى من المدرسة الابتدائية وهو يشعر انه سبق له ان اخذ كل هذه المواد . ان للسنين الاخيرة من حياة الطفل حقوقها الخاصة ، ومن المحتمل ان تعجلاً سطحياً وعاطفياً في الاشياء يوقع بالطفل اصابة خطرة . وقد يسبب اضافة الى ذلك عادة عقلية ، هي القفز سريعاً من موضوع الى آخر .

وللطفل مقدار طيب من الصبر والاحتمال من نوع معين ، ومن الحق انه يحب الخبرة والتنوع ، ولكن هذا الحب ينفذ سريعاً في فعالية لا تقود الى حقول

الهوامش :

 -1 يقصد ينشأ ميل عند وجود مادة كثيرة للاختصار والتركيز فتصبح المادة غامضة على الطفل - المترجم ، 2 - يشير الى منهج الجغرافية الذي يتضمن دراسة القارات والمحيطات كلها – المترجم 

الصفحة 125 

جديدة ولا تفتح طرقاً جديدة للرياضة او الاستكشاف وانا على كل حال لا اشكو الرقابة لوجود تنوع كاف في الفعاليات والتأنيثات وادوات البيوت التي جاء منها الاطفال ليكونوا تغايراً مستمراً ، وان هذا التغاير يمس الحياة المدنية والصناعية من نقطة هنا ونقطة هناك. 

ومن الممكن التنويه بهذا التغاير او الاختلاف عند ما يكون ذلك مرغوباً فيه من دون الخروج على وحدة الموضوع الاصلي. ولهذا توجد لديك فرصة لتغذي بها ذلك الاحساس المستقر في اساس الانتباه والنمو العقلي كله ، الا وهو الاحساس بالاستمرارية . هذه الاستمرارية التي تعرفها غالباً الوسائل ذاتها التي تهدف الى الحصول عليها . واذا أخذنا بوجهة نظر الطفل فانه يعتبر الوحــــــدة متحققة في مادة الدرس . وفي هذه الحالة الراهنة أمامه نجده يتعامل دائما في الواقع مع شيء واحد هو الحياة البيتية . على ان التأكيد ينتقل دائماً من وجه من اوجه هذه الحياة الى آخر ، ومن قطعة اثاث الى قطعة أخرى، ومن علاقة الى علاقة ثانية ، وغير ذلك ، ليجذب الانتباه ، ولكنها جميعاً تتجمع لتبني نمطاً واحداً من الحياة ، هذا ان هذه الاوجه المختلفة قد جعلت حالة التغير هذه دائمة . ان الطفل يعمل كل وقته ضمن وحدة معينة، مقدماً نقاطاً مختلفة

لوضوح العمل وحدوده ، واضعاً تلك النقاط - في ارتباط متلازم - بعضها مع البعض الآخر . واذا وجد تفاوت كبير في مادة الدراسة فان الاستمرارية يطلب تحقيقها بسهولة شكلياً . وهذا يعني بمنطق النتائج -مدارس عمل- "1" اي منهجاً صار مـــا للتنمية يتبع في كل موضوع -فكرة اليوم- ، التي يفترض الا

الهوامش :

 -1يقصد « بمدارس عمل » عكس الشيء المطلوب وهو -عمل المدارس- اي ان المدارس تحولت الى مراكز عمل لا تعليم، ينظر فيها الى الناتج المفروغ منه لا الى الشخص الذي تراد تربيته – المترجم

الصفحة 126 

يشذ عنها العمل . وكقاعدة فان نتيجة كهذه مسألة عقلية بحتة لا يدركها الا المعلم وحده الذي يمر بهدوء على مقربة من رأس الطفل . ولهذا فان المنهج السنوي أو نصف السنوي أو الشهري أو الاسبوعي ألخ .. ينبغي أن يوضع على اساس تقدير كمية المادة الدراسية التي يمكن ان يفرغ منها في تلك المدة لا على اساس من مبادىء عقلية أو خلقية . فهذه تجمع كلاً من الثبات والمرونة .

الطريقة

ان المشكلة الغريبة في الصفوف الاولى هي بالطبع مشكلة الهيمنة على غرائز الطفل الفكرية ودوافعه ، والافادة منها لكي يؤخذ بيد الطفل الى مستوى أعلى في الادراك والحكم ، وليزود بعادات أكفأ لكي يوسع شعوره ويعمقه ويزيد من سيطرته على قوى التعرف . وعندما نتوصل الى هذه النتيجة فان اللعب يصبح تسلية وحسب ، وليس نمواً مثقفاً. 

 وعلى الاجمال فان عمل المدرسة البناء يبدو  "مع تغيير مناسب في القصة والاغاني والالعاب التي يمكن ان تربط - حسب رغبتنا - بالآراء التي يشتمل عليها الانشاء او البناء " أكثر ملاءمة من اي شيء آخر لضمان شيئين وهمــــا ثبت لدافع الطفل الخاص وانجاز على مستوى أعلى . انه يجذب الطفل الى الاتصال بانواع عديدة من المواد كالصوف والزنك والجلد والغزل، ويزوده بدافع لاستعمال هذه المواد بطرائق واقعية عوضاً عن المضي في تمارين ليس لها معنى سوى رمز بعيد ، وهو ايضاً يدعو الى حدة الملاحظة والى انتباه دائب في الحواس يتطلب براعة و ابتكاراً في التخطيط ، ويحتم ضرورة التركيز في الانتباه والمسؤولية الشخصية في التنفيذ ، هذا في الوقت الذي تكون فيه النتائج بصورة واضحة تمكن الطفل من ان يتوصل الى حكم على عمله وتحسين

الصفحة 127 

لمقاييسه ، ومن الواجب هنا ذكر كلمة عن نفسانية " سكلجة " التقليد والايحاء في عمل رياض الاطفال ، فمما لا شك فيه ان الطفل الصغير على درجة عالية من التقليد وتقبل الايحاء ، ومما لا شك فيه ايضا ان قواه الخام وشعوره غير الناضج بحاجة الى ان يوسعا ويوجها عن طريق التقليد والايحاء ، ولكن ما دمنا بهذا العدد فمن الضروري ان نفرق بين استعمال التقليد و الايحاء استعمالا خارجياً حق يصبح الا يعد داخلا في علم النفس وبين استعمالهما الذي تبرره صلتهما العضوية بفعاليات الطفل الخاصة. كمبدأ عام يجب الا تنشأ فعالية على التقليد ، فالواجب ان تأتي البداية من الطفل . اما النمط المحتذى Copy فربما يهياً لكي يساعد الطفل في تخيل اكثر تحديداً لما يريده فعلا . فقيمته ليست متأتية من كونه نمطاً يحتذى ، بل بوصفه دليلا الى الوضوح والمتانة في الادراك . وسيبقى الطفل مستعبداً ومعتمداً غير نام الى ان يستطيع التخلص منه الى تخيله او تصوره الخاص عندما يحين اوان التنفيذ . فالتقليد يؤتى به للتقوية والمساعدة لا للابتكار .

وليس من اساس للشك بالرأي القائل بأن المعلم ينبغي الا يوحي بأي شيء للطفل لكي يعبر الطفل بصورة واعية عن حاجته في اتجاه معين ، لان من المحتمل جداً ان المعلم الذي يشارك الطفل في عواطفه يعرف بصورة واضحة عن غرائز الطفل الخاصة وعن مراميها اكثر مما يعرف الطفل نفسه ولكن يلزم في ايحائه ان يوافق النمط السائد في نمو الطفل ، اي ان يعمل بيسر كمنبه في ان يربي بصورة أعلى من الكفاية ما كان الطفل يرمي الى تنميته ، ولكن من دون اهتداء الى ما كان يقوم به ، ولا نستطيع ان نتبين ان كانت اقتراحاتنا تعمل بوصفها لترقية نمو الطفل او انها تكليفات خارجية تعسفية تعوق النمو الطبيعي الا بعد ملاحظة الطفل ومشاهدة الاتجاه الذي يتخذه نحو ما نقترحه عليه. 

الصفحة 128 

وهذا المبدأ نفسه ينطبق بصورة أقوى على ما يسمى بالاملاء أو الغرض . وليس وسط بين الطفل الخيالاته غير شيئاً اسخف الافتراض بأنه لا توجد حالة . الموجهة واشتهاءاته وبين السيطرة على فعالياته بتوجيهات مفروضة رسمياً ، وبصورة مستمرة . فمن مهمة المعلم - كما اشرت قبل قليل – ان يعرف أية قوى تجاهد للظهور في مرحلة معينة من مراحل نمو الطفل ، وأية انواع من الفعالية تهييء لها تعبيراً معيناً لكي تزودها عندئذ بالمنبه المطلوب والمواد المحتاج اليها و إن الاقتراح بعمل بيت دمى "1" اقتراح متأت من رؤية اشياء سبق ان صنعت لتوضع في ذلك البيت ، ومن رؤية اطفال آخرين وهم يعملون ، وهو اقتراح يكفي تماماً لتوجيه فعاليات طفل سوي في الخامسة من عمره ، ويدخل فيه التقليد والايحاء بصورة طبيعية لا مفر منها ، ولكن بوصفها وسيلتين تساعدان الطفل في تنفيذ رغباته وافكاره فقط . انها تجعلانه يدرك – ويعي – ما سبق له أن جاهد في طلبه ، ولكن بصورة غامضة ومرتبكة ، ومن ثم غير فعالة ولعل من الممكن ان يقال بصورة سليمة من وجهة نفسية ان المعلم اذ يضطر الى الاعتماد على سلسلة من التوجيهات المفروضة فانما ذلك لأن الطفل لا يملك صورة لما يلزم ان يقوم به ولا سبباً للقيام به، وبناء على ذلك فعوضاً عن تحصيل قوة سيطرة بالامتثال للأوامر فانه في الواقع يخسر ذلك يصبح شخصياً معتمداً على مصدر خارجي .

وفي الختام يمكن ان يشار الى ان المادة الدراسية من هذا النوع ، وهذه الطريقة تتصلان مباشرة بعمل أطفال السنة السادسة من العمر . " وذلك يقابل عمل الصف الأول من المدرسة الابتدائية " وان اعادة عمل محتويات الحياة

الهوامش :

⁠ -1بيت الدمى بيت صغير يضعه الاطفال ويضعون فيه أثاثاً ودمى تمثل السكان ـ المترجم

"م9 "

الصفحة129 

البيتية باللعب يؤدي طبعاً الى دراسة اوسع واكثر جدية تتناول المهن الاجتماعية التي يعتمد عليها البيت ، بينما الطلبات المستقرة في زيادتها الموجهة الى ملكة الطفل الخاصة لكي يخطط وينفذ تؤدي به الى استعمال انتباه يتسم بمزيد من السيطرة على موضوعات عقلية اكثر تميزاً من غيرها . ومن الواجب ألا ننسى ان التوافق الذي نحتاج اليه ليضمن الاستمرارية بين الروضة والصف الأول الابتدائي لا يمكن ان تحدثه المدرسة الابتدائية تماماً ، فالتغير المدرسي يلزم ان يجري بصورة تدرجية وغير محسوسة، كما هي الحال في نمو الطفل . وهذا عمل مستحيل ما لم يخضع عمل ما دون المدرسة الابتدائية مهما كان العائق ، فيقبل بسخاء كل المواد والمصادر التي تساير النمو الكامل لقوى الطفل ، ومن ثم تجعله مهيناً دائماً للعمل القابل الذي عليه ان يقوم به .

الصفحة 130 

- 6 -

نفسانية "سكلجه" المهن

لا يقصد بالمهن اي نوع من العمل الشاغل او التمرينات التي تعطي للطفل لكي تحول بينه وبين الخبث والكسل عندما يطول جلوسه على مقعده . ولكني اقصد بالمهن نوعاً من الفعالية يقوم به الطفل وينتج عنه نوع من العمل او انــه يوازي نوعاً من العمل الذي يمارس في الحياة الاجتماعية . وفي المدرسة الابتدائية التابعة للجامعة تمثل هذه المهن في المصانع بالخشب والآلات وبالطبخ والخياطة والنسيج التي سبق لنا ان ذكرناها. 

 والنقطة الاساسية في نفسانية المهن انها تحفظ التوازن بين الخبرة الفكرية والجوانب العملية من الخبرة فاذا وجدت مهنة عمل أو حركة فانها تجــــد تعبيراً عن نفسها بالاعضاء الجسدية كالعيون والايدي وغيرها ولكنها ايضاً تشمل ملاحظة مستمرة للمواد وتخطيطا مستمراً كذلك وتأملا لكي يطبق الجانب العملي او التنفيذي بنجاح . فاذا فهمت المهنة على هذا النحو وجب ان نميزها باعتناء عن العمل الذي يكون اول هدفنا منه ان نتعلم به التجارة ، وهي تختلف لأن غايتها بذاتها في النمو الذي يتأتى من التداخل المستمر بين الافكار وبين تجسدها بأفعال لا في منفعة خارجية . 

الصفحة 131 

ومن الممكن تنفيذ هذا النوع كله في مدارس التجارة لكي يقع التأكيد كله على الجانب اليدوي أو البدني. ففي هذه الحالات يخفض . العمل الى عادة أو روتين محض فتضيع قيمته التربوية . وهذا ميل لا مفر منه حينما يكون - كما في التدريب اليدوي مثلاً في أدوات معينة او انتاج أشياء معينة قد جعل الغاية الرئيسية ، ولم يعط الطفل – حينما يكون ذلك ممكناً مسؤولية فكرية لاختيار المواد والأدوات التي توافقه اكثر من غيرها ، كما لم يعط فرصة ليفكر في النمط الذي يتبعه والخطة التي يتخذها في عمله فتقوده الى ادراكه اخطاءه ليتولى تصحيحها ، وكل ذلك يقع طبعاً ضمن مدى قابلياته . وما دامت النتيجة الخارجية معني ببحثها اكثر من الحالات الخلقية والعقلية ومن النمو المشمول في عمليات الوصول الى النتيجة فمن الممكن ان نسمي العمل يدوياً ولكن لا يمكن تسميته مهنة اذا توخينا الصحة . ومن الطبيعي أن الميل الى العادة المحصنة

والروتين والعرف ينتج عنه لا محالة فعل آلي وغير واع ، بينما علينا في المهنة أن نضع الجد الاعلى من الشعور أو الوعي فيما نعمله أيا كان ، وبهذا يمكننا أن نفسر التأكيد الموضوع في هذه المسألة من وجهين وهما :

 "1" التجريب الشخصي والتخطيط والابتكار وهي الاشياء المرتبطة بصنع النسيج .

 "2" موازاة أو مسايرة هذه الاشياء لخطوط التقدم التاريخي ، فالقسم الأول يتطلب من الطفل أن يكون سريعاً في تفكيره ومنتبها لكل نقطة لكي يستطيع ان يقوم قياماً صحيحاً بالقسم الخارجي من عمله . امـــــا الثاني فانه يغني ويعمق العمل المنجز باشباعه بالقيم المقترحة من الحياة

الصفحة132 

الاجتماعية المجملة . فالمهن على هذا الاعتبار- تزودنا بفرص مثالية في تدريب الحواس وضبط الفكر . وان الضعف في الدروس الاعتيادية في الملاحظة وفي ما يعد لتدريب الحواس متأت من انها ليس لها منفذ وراء نفسها ، ومن ثم فليس لها دافع ضروري . اما الآن فيوجد دائماً في الحياة الطبيعية للفرد وللنوع الانساني كله سبب للملاحظة الحسية ، أو حاجة ما متأتية من غاية يراد نيلها ، وهذه الحال تجعل الشخص ينظر حوله ليكتشف ويميز ما يساعده .

وان الاحساسات الطبيعية تعمل بوصفها أدلة أو وسائل مساعدة أو منبهاً في توجيه الفعالية الى ما يجب أن نعمله فهي ليست غاية في ذاتها ، واذا عزل تدريب الحواس عن الحاجات والدوافع الحقيقية اصبح مجرد تمرين رياضي " جمناستك " من السهل أن يهبط فلا يتطلب اكثر من مهارة وحيل في الملاحظة أو مجرد اثارة لاعضاء الحواس . وهذا المبدأ نفسه يطبق في التفكير السوي ، وهو لا يحدث لوجهه الخاص وليس غاية في ذاته ، لأنه منبعث من الحاجة الى مواجهة صعوبة ما ومن التأمل في احسن طريقة للتغلب على تلك الصعوبة. وهذا يؤدي الى التخطيط ووضع مشروع فكري للنتيجة التي يراد نيلها والتعميم او العزم على الخطوات الضرورية وعلى نظامها المتسلسل .

فهذا المنطق الملموس في العمل قد سبق منذ أمد بعيد منطق التأمل الخالص أو التحقيق المجرد ، بالعادات العقلية التي يكونها قد حاز خير الاستعدادات لهذا الاخير . وهناك نقطة تربوية أخرى ألقى عليها علم نفس المهن ضوءاً مساعداً ، وهي مكانة الولع في العمل المدرسي ، فان الاعتراضات التي توجه

الصفحة 133 

بانتظام ضد تخصيص محل واف او ايجابي لولع الطفل في عمل المدرسة هو الاعتراض القائل باستحالة وجدان قاعدة لاختيار سليم لهذا الولع . فللطفل - كما يقال - كل انواع الاولاع الجيد والرديء والولع الذي لا یکترث به .

فمن الضروري ان نميز الاولاع ذات الأهمية الحقيقية والاولاع التافهة ونعرف ما هو مساعد وما هو مضر وما هو وقتي او متسم باثارة مباشرة وما هو باق وثابت في تأثيره منها. 

والظاهر أننا ملزمون بأن نذهب أبعد من الولع لنحصل على اساس للافادة منه . ومما لا شك فيه الآن ان العمل يحتوي على ولع شديد للطفل فالقاء نظرة على اية مدرسة حيث يقام بعمل من هذا النوع يزودنا ببينة مقنعة بهذه الحقيقة . اما خارج المدرسة فان مقداراً كبيراً من ألعاب الاطفال هو الى حد ما صورة مصغرة أو محاولات ارتجالية للقيام بالمهن التي يزاولها المجتمع .

ولدينا اسباب خاصة تدعو الى الاعتقاد بأن نوع الولع الذي ينبثق مصاحباً هذه المهن لهو الى درجة حسنة ذو طبيعة ثابتة ومثقفة بصورة حقيقية واننا اذ تخصص محلا وافياً للمهن فاننا نضمن طريقة ممتازة ، أو لعلها أفضل طريقة ، لخلق جاذبية تثير الولع التلقائي في الطفل ويكون لنا في الوقت نفسه ضمان بأننا لم نشغل أنفسنا بشيء عابر او بما يقدم لنا السرور والاثارة لا غير .

وفي المقام الأول ينمو كل ولع من غريزة مــا او من عادة ما ، وهي

الصفحة 134 

بدورها تعتمد على غريزة اصلية . وليس معنى هذا ان للغرائز كلها قيمة متساوية ، او اننا لا نرث كثيراً من الغرائز التي تطلب التحويل فضلا عن الاشباع لكي تكون نافعة في الحياة . ولكن الغرائز التي تجد منفذاً واعياً وتعبيراً في المهنة مقدر لها ان تكون من الطراز الاساسي والدائم .

ومن المحتم ان توجه فعاليات الحياة الى وضع مواد الطبيعة وقواها تحت سيطرة اغراضنا وجعلها ذات منفعة لغايات الحياة، فإن على الناس ان يعملوا ليعيشوا ، وهم في عملهم وعن طريقه سيطروا على الطبيعة وصانوا واغنوا ظروف حياتهم الخاصة ، وايقظوا معنى قدراتهم الخاصة واقتيدو الى الاختراع والتخطيط والابتهاج في ما احرزوا من مهارة .

ومن الممكن ان يقال بصورة اجمالية ان المهن جميعاً يصح أن توصف بأنها تجمع . علاقات الانسان الاساسية حول العالم الذي يعيش فيه ، وان هذا التجمع يحدث لغرض تحصيل الطعام للمحافظة على الحياة وضمان الثياب للوقاية والصيانة والتجميل . واخيراً لايجاد بيت دائم يمكن ان تتركز فيه كل الاولاع السامية والراقية في روحها .

ومن الصعب ان نخطىء اذا افترضنا ان الاولاع التي لها تاريخ يسندها لا بد ان تكون من النوع القيم . وعلى كل حال فهذه الاولاع التي تنمو في الطفل لا تلخص أهمية فعاليات النوع البشري في ماضيه وحسب، ولكنها تعيد صنع محيط الطفل في حاضره وهو يرى الكبار دومــــا مشغولين في مزاولتها وتتبعها . وعليه يوميا ان يعمل باشياء هي في حقيقتها من انتاج هذه المهن ، ويواجه حقائق ليس لها معنى سوى عائديتها الى هذه المهن .

الصفحة 135 

فلو اخذت هذه الاشياء من الحياة الاجتماعية الحاضرة لرأيت كم تبقى الحياة ضئيلة ، ليس من الناحية المادية فقط ؛ ولكن من الناحية الفكرية والفنية والفعاليات الخلقية ، لأن هذه الاشياء مرتبطة بالمهن الى حد كبير وبصورة حتمية . ولهذا فان اولاع الطفل الفطرية في هذا الاتجاه تزداد قوة بصورة مستمرة بما يرى ويشعر ويسمع مما يجري حوله ، فتنهال عليه الاقتراحات باستمرار ثم توقظ الدوافع وتثار الطاقات للعمل .

وليس من غير المعقول - واقولها مرة ثانية - ان نفترض ان الاولاع ذات العلاقة الدائمة بنواح عديدة تعود الى نوع قيم ودائم من الاولاع . 

وفي المقام الثالث " "1نجد ان احد الاعتراضات المقدمة ضد مبدأ الولع في التربية هو الاعتراض القائل ان الولع في التربية يميل الى تشتيت الاقتصاد العقلي بسبب من اثارتنا الطفل بصورة مستمرة في هذه الناحية او تلك فنحطم بذلك الاستمرارية والجودة ، ولكن المهنة " كمهنة النسيج وقد اشير اليها في هذا الكتاب سابقاً " هي بالضرورة شيء مستمر ، وهي ، تستمر لأيام بل لشهور وسنين ، ولا تثير طاقات معزولة وسطحية ولكنها تثير قوى لتنظيم ثابت ومستمر يوازي اتجاهات عامة معينة . وهــذا يصدق بالطبع على كل المهن الاخرى كالطبخ والاشتغال بالآلات . فالمهن

الهوامش :

 - "1" ذكر المؤلف النقطة الاولى في هذا الفصل وهي نمو كل ولع من غريزة ثم ذكر النقطة الثالثة فيه وهي ، ان كثرة الاولاع تشتت فعالية الطفل وطاقته ولم يشر بوضوح إلى النقطة الثانية بل تركها لانتباه القارىء – المترجم

الصفحة 136 

تربط انواعاً عديدة من الدوافع - التي تكون عادة منعزلة وعاطفية ـ وتشنجية في هيكل عظمي بعمود فقري وثابت. 

ومن المحتمل كثيراً ان يشك الناس ، اذا ابتعدنا عن بعض انماط العمل المنظمة والتقدمية الممتدة اسساً في ارجاء المدرسة كلها ، إن كان من السليم دائماً أن تمنح مبدأ "الولع" ، مكانا رحباً في عمل المدرسة .

الصفحة 137 

- 7 -

تنمية الانتباه

ان قسم دراسات ما دون المستوى الابتدائي أي قسم رياض الاطفال آخذ في دراسة مشاكل تربوية نجمت عن محاولة ربط عمل رياض الاطفال بعمل المدرسة الابتدائية بصورة متينة واعادة تكييف المواد واسلوب استعمالها لتلائم الاحوال الاجتماعية الراهنة ومعرفتنا بعلم وظائف الاعضاء " الفسيولوجيا " . وبعلم النفس في الوقت الحاضر .

ان للاطفال الصغار ملاحظاتهم وافكارهم الموجهة بصورة اساسية نحو الناس : فهم يلاحظون ما يعمل الكبار وكيف يتصرفون وما يشغلهم ثم ما ينتج عما يعملون . فولعهم شخصي اكثر مما هو موضوعي او ذو نوع عقلي . ويقابل الولع العقلي الولع القصصي لا المشكلة او المهمة ذات الغاية التي حددت بوعي والمقصود بالنوع القصصي شيء نفساني وهو تجميع اشخاص مختلفين واشياء وحوادث ضمن فكرة عامة تعبىء الشعور وليس منفذاً خارجياً لحكاية . فأفكار هم تبحث عن الاشياء الكلية التي تختلف في الحادثة والتي يبعث فعلها الحياة وتحددها السمات البارزة .

الصفحة 139 

ويلزم ان يكون فيها انطلاق وحركة وشعور باستعمال واجراء في تمحيص اشياء معزولة عن الفكرة التي تطبق عليها تلك الاشياء . فالتحليل المنفصل لشكل او كيان ليس له جاذبية ولا قبول عند الاطفال ، وان المواد التي تجهز بايجاد مهن اجتماعية يجب ان تقدر وتخمن لتفي بهذا الغرض وتغذيه . ففي السنوات السابقة كان الاطفال معنيين بمهن البيوت واتصال بعضها ببعض وبالحياة الخارجية .

اما الآن فهم يأخذون المهن المعروفة في مجتمعهم بصورة ارحب ، وهذه خطوة اوسع لانتقالها عن ولع الطفل المتمركز في ذاته والمتشرب بنفسه انه يتعامل مع شيء شخصي يمسه ومن الممكن ملاحظة الصفات الآتية من وجهة نظر تربوية وهي :

 - 1ان دراسة الاشياء الطبيعية كالعمليات والعلاقات شيء مغروس في التركيب الانساني . وفي خلال السنة جرت ملاحظة واسعة في تفاصيلها على الحبوب ونموها والنباتات والاشجار والاحجار والحيوانات من بعض اوجه تركيبها وعاداتها ، كما جرت ملاحظة على الاحوال الجيولوجية في الاصقاع والجو وعلى تنظيم الارض والسقي .

وان مشكلتنا التربوية هي ان نوجه قوة الملاحظة لدى الطفل وننمي له ولعاً ودياً نحو الصفات الخلقية في عالمه الذي يعيش فيه ، ونقدم له مواد موضحة لغرض الدراسات المقبلة ذات التخصص الاعمق . وفوق كل هذا نزوده بوسط يحتوي على حقائق منوعة وآراء بتوسط العواطف التلقائية السائدة لديه .

الصفحة140 

وليس من فصل اطلاقاً بين الجانب الاجتماعي للعمل ، اي الاهتمام بفعاليات الناس وبالاعتماد المتبادل بينهم ، وبين اهتمام العلم بالحقائق والقوى الطبيعية . لأن الفصل او التفريق الواعي بين الانسان والطبيعة هو نتيجة تأمل وتجريد متأخرين ، وان اجبارنا الطفل على ذلك ليس معناه ان نجيب في ان نشغل كل طاقته العقلية وحسب ولكننا نربكه ونحيره . فالمحيط هو دائماً ما جرت فيه الحياة وتغيرت في اثنائه . اما ان نعزله او ان تجعله ، بعدد ضئيل من الاطفال ، موضع ملاحظة وتعليق لذاته فمعني ذلك اننا نعامل الطبيعة البشرية من دون اعتبار لها . وفي الاخير يتحطم اتجاه العقل وهو الاتجاه الحر المتفتح نحو الطبيعة وتهبط الطبيعة فتصبح كتلة من التفاصيل الخالية من المعنى . وكثيراً ما يفوت على نظرية التربية الحديثة في غمرة من تأكيدها على ما هو ملموس وشخصي ، ادراك الحقيقة القائلة بأن وجود أو تمثيل الشيء الطبيعي بمفرده كالحجر او البرتقالة او القطة ليس ضمانة للحاله المادية ، لان الحالة النفسية مهما كانت هي ما يظهر للعقل ككل او بصورة عامة بوصفها مركزاً للولع والانتباه . وان رد الفعل لوجهة النظر الخارجية هذه والميتة الى حد ما يفترض غالباً ان التغطية بالمغزى الانساني المحتاج اليها لا تتأتى الا من اسباغ شخصية مباشرة على الاشياء . 

ولذا فقد دأبنا على اعطاء رمز للنبات والسحاب والمطر ، فلم يحصل من ذلك الا تزييف العلم . وهو عوضاً عن ان يكون حبا للطبيعة فقد حول الولع الى اشياء مصاحبة معينة ذات صبغة احساسية وانفعالية تركت الطبيعة اخيراً معزولة ومهجورة. وحق الميل للاتصال بالطبيعة بوسط ادبي كالتعرف على شجرة الصنوبر بالحكاية الخرافية "الصنوبرة الجشعة" ، الخ ..

الصفحة 141 

فمع اعترافنا بالحاجة الى الترابط الانساني فاننا نخيب في ان نلاحــــظ وجود طريق أقصر وأقوم بين العقل والشيء ، طريق مباشرة تتصل بالحياة نفسها ، وهكذا فالعقيدة والقصة والعبارة الادبية لها مكانتها في التعزيز أو التقوية والتصويرات، ولكنها ليست احجاراً أساسية . فالمطلوب اذن - بعبارة اخرى ليس أن نرسخ اتصال عقل الطفل بالطبيعة ، بل ان نهيىء تعاملاً حراً ومؤثراً للاتصال الموجود بينها من السابق .

 - 2وهذا يعرض علينا فوراً الاسئلة العملية التي تبحث عادة تحت اسم - مسائل الترابط- ، وهو ترابط بين مواد عديدة مدروسة وبين قوى على وشك التحصيل ظناً ان ذلك يجنبنا التلف ويحقق لنا وحــــــدة النمو العقلي .

أما من وجهة النظر التي اتبناها فالمشكلة مسألة تفريق اكثر مما هي ترابط كما فهمت بصورة عادية ، فوحدة الحياة كما تمثل نفسها للطفل تربط وتحمل معها المهن المختلفة والتنوع في النباتات والحيوانات والظروف الجغرافية والرسم والسبك والالعاب والعمل البنائي والحسابات العددية وكلها سبل تنقل ملامح معينة منها الى الترقية والرضا العقلي والعاطفي ولم يوجه كثير من الاهتمام في هذه السنة الى القراءة والكتابة ولكن من الواضح ، انها كانتا معدودتين من الاشياء المرغوب فيها ، فالمبدأ نفسه يطبق عليهما . واستمرارية مادة الدراسة وعموميتها هي التي تنظم وتربط ، ولا يأتي الترابط بوسائل من التعليم يستخدمها المعلم محاولاً ربط اشياء مشتتة في ذاتها .

الصفحة 142 

 - 3يوجد مطلبان ينظمان الدراسة الابتدائية هما في الغالب غير موحدين او اذا شئت فقل -متضادان -، وهما الحاجة الى الشيء المألوف الذي سبقت للطفل خبرته لاتخاذه قاعدة تتحرك منها الى المجهول البعيد ، وهذا أمر غني عن التوضيح ، اما الشيء الثاني فهو استدعاء خيال الطفل بوصفه عاملا بدأنا في الاقل في تنظيمه . ومشكلتنا إعمال هاتين القوتين معاً عوضاً عن ان تكونا منفصلتين وغالباً ما يعطى الطفل تمرينات بأشياء وآراء مألوفة ليفي ذلك بحاجة المبدأ الاول ، ولكنه في الوقت نفسه يقدم - باتجاه مواز للاتجاه السابق الى اشياء مستهجنة وغريبة ومستحيلة لتفي بحاجة المبدأ الثاني. ولا تحتاج نتيجة ذلك الي إسهاب في القول ، فهي خيبة مزدوجة . وليس من سبيل الى ربط خاص بين غير الواقعي ، الخرافة ، القصص الاسطورية وبين إعمال التصور العقلي وليس التخيل مسألة موضوعات مستحيلة ولكنه طريقة بناءة في التعامل المادة الدراسية تحت تأثير فكرة شاملة . وليس من المهم ان تمر في دروس الاشياء بإعادة مضجرة على اشياء مألوفة وفائت أوانها لغرض ان تبقي الحواس موجهة نحو اشياء سبق ان عرفت ولكن لتحيي وتنور الاشياء العادية والشائعة والدميمة وذلك باستعمالها في انشاء وتذوق مواقف كانت غريبة ولم يسبق لها ان عرفت . وهذا كذلك من ثقافة التخيل . وهو ان لدى الكتاب انطباعاً بأن ليس لتخيل الطفل من منقذ الا بالخرافة والقصص الاسطورية عن العصور القديمة والامكنة النائية او في نسج تلفيقات غريبة عن الشمس والقمر والنجوم ، وقد دافع هؤلاء الكتاب عن حلة خرافية تكسو كل العلوم ، ليكون في ذلك ارضاء للخيال السائد لدى الطفل .

الصفحة 143 

ولم تكن هذه الاشياء - لحسن الحظ - الا استثناءات واثارات وتسلية للطفل الاعتيادي ؛ وليست مما يقتفي أثره ، ان سعيداً وفاطمة اللذين يعرفها أغلبنا يدعان تخيلاتها تدور عن العلاقات الجارية المألوفة وعن حوادث الحياة كما تدور عن الام والاب والصديق والبواخر والمركبات والغنم وعن البقر وقصص الحقل والغابة والساحل والجبل .

وان ما نحتاج اليه هو - بايجاز - تقديم مناسبة يتحرك فيها الطفل ليستخلص ويتبادل مع الآخرين ما يدخر من التجارب ومقدار ما يملك من المعلومات بملاحظات جديدة تصحح خبراته السابقة وتوسعها ، لكي تجعل تخيلاته متنقلة لكي يجد راحة عقلية وارضاء في ادراك محدد وحي . لما هو جديد اوسع من الخبرات. ومع تنمية الانتباه الفاحص أو الممحص جاءت الحاجة الى امكان تغيير في طريقة تعليم الطفل . وقد عنيت بالفقرات السابقة بالاتجاه المباشر التلقائي الذي يتسم به الطفل حتى السنة السابعة  :-سعيه للخبرات الجديدة ورغبته في اكمال خبراته الناقصة وذلك بخلق تصورات ثم التعبير عنها باللعب. وهذا الاتجاه مطابق لما يسميه الكتاب بالانتباه التلقائي ، وهو ما يسميه آخرون بالانتباه اللاإرادي. 

والطفل شديد الانشغال - بسذاجة - في ما يعمل ، اذ يسيطر عليه الشغل الذي هو فيه سيطرة تامة ، فيهب نفسه دون تحفظ، فيصرف كثيراً من الطاقة ولكن جهده غير واع. ومع ان له نية لاحكتار العمل فليس له انتباه واع . ومع فكرة تنمية الحواس من اجل غايات أبعد وفكرة الحاجة الى توجيه الافعال لجعلها وسائل لهذه الغايات "وهي القضية التي بحثت في الفصل الثاني"  فان لدينا تحولاً الى ما يسمى بالانتباه اللامباشر او الاختياري

الصفحة 144 

كما يفضل ان يسميه بعض الكتاب . ويمكن تصور نتيجة ذلك اذا شاهد الطفل ما هو امامه او ما يقوم به هو بصفة مباشرة فذلك يساعده في تحصيل النتيجة .

فاذا اخذنا الشيء او الفعل بنفسه فقد لا يكترث به الطفل وقد يكرهه ولكنه يسبب الشعور بأن يعود الى شيء قيم ومرغوب فيه تصل اليه جاذبية وقوة ارتباط من ذلك الشيء .

وان هذا التحول الى الانتباه الارادي هو تحول في الاسم لان الانتباه الارادي يحدث بصورة تامة عندما يستقبل الطفل النتائج على هيئة مشكلات او اسئلة ويطلب حلها بنفسه. 

وفي المرحلة الوسطى " وهي المرحلة التي يكون فيها الطفل من الثامنة الى الحادية عشرة او الثانية عشرة " عندما يوجه الطفل سلسلة من الفعاليات المتداخلة على اساس من غاية يرغب في الوصول اليها . فهذه الغاية شيء ما ، يحتاج الى عمل أو صنع أو هي نتيجة ملموسة يراد الوصول اليها ، ففي هذه الحالات تكون المشكلة صعوبة عملية اكثر منها مسألة فكرية. ولكن مع نمو قدرة الطفل فانه يستطيع ان يدرك الغاية على انها شيء ما يوجد او يكتشف ، كما يستطيع ان يسيطر على افعاله وتصوراته لكي تساعده في البحث وايجاد الحل ، فهذا هو الانتباه الفاحص السليم .

وفي تدريس التاريخ حدث تحول من القصة وتاريخ السير ، ومن بحث المسائل العارضة الى تكوين اسئلة ، فصارت النقاط التي يمكن ان تختلف

"م 10 "

الصفحة 145 

فيها وجهات النظر والمسائل التي تحتاج الى خبرة وتأمل وغيرها عرضة للحدوث على الدوام في هذا الدرس. 

ولكن استعمال المناقشة لتطوير الشك والاختلاف الى مشكلة محــــــددة وتهيئة الطفل الى أن يشعر بماهية تلك المشكلة والالقاء به الى المصادر للحصول على مادة تخص النقطة التي يبحثها ثم توجيهه الى حكمه الشخصي لفهمها أو لوجدان حل لها مسألة ذات تقدم فكري بارز . وفي العلم يوجد تحول كذلك من الاتجاه العقلي في صنع أو استعمال آلات التصوير الى اعتبار المشكلات المتضمنة فكرياً فيها كأسس الضوء وقياسات الزوايا وغيرها التي تمنحنا النظرية أو توضح التطبيق . والنمو بصورة عامة عملية طبيعية ولعل استعماله وتمييزه بصورة سلمية اخطر مشكلة في التعليم من وجهة عقلية . والشخص الذي له قدرة في الانتباه الفاحص ، وهي القدرة التي تمسك بالمشكلات والمسائل امام العقل ، هو الى هذا الحد ، اذا تكلمنا من وجهة فكرية ، رجل مثقف . فبدون هذه القدرة يبقى العقل تحت رحمة التقليد والايحاءات الخارجية . ومن السهل تشخيص بعض المصاعب بعزوهــا الى خطأ مسيطر على التعليم الاعتيادي في نوعيته . ومن الغالب كذلك ان يفترض ان الانتباه يمكن ان يوجه مباشرة الى اية مادة دراسية اذا ساعدت على ذلك الارادة السليمة والاستعداد .

وعلى هذا فقد اعتبرت الخيبة " الرسوب " دليلا على فقدان الرغبة والعناد. فوضعت دروس الرياضيات والجغرافية والنحو امام الطفل وطلب منه ان يصغي لكي يتعلم . ولكن من دون وجود سؤال ما أو شك ما ماثل في العقل يكون حدوث الانتباه الفاحص مستحيلا . فاذا وجد ولع داخلي كاف بالمواد ،

الصفحة 146 

فقد وجد انتباه تلقائي مباشر ، هو شيء ممتاز في طبيعته هذه ، ولكنه اذا أخذ لذاته فلن يمنح قوة في التفكير او سيطرة عقلية داخلية . فاذا لم توجد قوة جاذبة اصلية في المادة فحينئذ اما ان يحاول المعلم " حسب مزاجه وتدريبه وتقاليد المدرسة وتوقعاتها " ان يحيط المادة بجاذبية خارجية وذلك بأن يفرض امراً أو يقدم رشوة يجعل الدرس شائقاً للمحافظة على الانتباه او انه يلجأ الى التخويف " كالدرجات الواطئة والتهديد بالرسوب والبقاء في المدرسة بعد انصراف الطلبة والاستهجان الشخصي ، ويعبر عنه بأنواع عديدة من الطرائق كاللوم أو تنبيه الطفل بصورة مستمرة الى الانتباه وغير ذلك " ومن المحتمل ان يستعمل بعضاً من الطريقتين . ولكننا نحد دائماً :

 - "1"ان الانتباه الذي يحصل بهذه الطريقة ليس الا انتباهاً جزئياً وموزعاً .

 - "2"يبقى على الدوام معتمداً على شيء خارجي ، لذا فعندما تزول الجاذبية او يزول الضغط فلن يتحقق الاجزء من السيطرة العقلية الداخلية او لا شيء على الاطلاق .

 - "3"ان انتباهاً من هذا النوع هو دائماً من اجل « التعلم» "1" الخ . أي

الهوامش :

 "1" اشارة الى ما يقوله اصحاب هذه الطريقة من ان هذه الاساليب نافعة للتعلم والتهذيب

المترجم -

الصفحة 147 

حفظ اجابات مهيأة لاسئلة يضعها شخص خارجي ويحتمل ان ترد في الامتحان. 

اما الانتباه المؤثر فهو من جهة اخرى يشتمل دائماً على الحكم والمداولة وهو يعني ان للطفل مسألة تخصه وهو مشغول بفعالية في طلب واختيار مادة ملائمة عيء بها الجواب .

وهو آخذ بنظر الاعتبار نتائج هذه المادة وعلاقاتها والحل الذي تؤدي اليه . فالمشكلة تعود للشخص نفسه ، وعلى هذا فالقوة المحركة والدافع الى الانتباه يعود الى الشخص نفسه ايضاً. 

ولذا فالتدريب الذي يناله يعود اليه ، بضبطه وحيازه على القوة المسيطرة ، وهذه عادة النظر في المشكلات

ومما لا يحتاج الى اسهاب في الكلام ان نبين ان تأكيداً شديداً وضع في التربية القديمة على ان تقدم الى الطفل مادة جاهزة " كتب ـ دروس موضحة - محاضرات الخ " وقد وضع الطفل بصورة خاصة ليتحمل مسؤولية اعادة هذه المادة فلم يبق لديه من فرصة او دافع لتنمية الانتباه الفاحص الا ما جاء بصورة عرضية . وقد وجه الى « الضرورة الاساسية » اهتمام ضئيل يكاد لا يذكر ، مع انها هي التي تقود الطفل الى ادراك المشكلة كما لو كانت مشكلته الخاصة فيصبح مرغباً ذاتياً في الانتباه لكي يجد الحل .

وهكذا فقد أهملت الظروف التي يتمثل فيها الفرد نفسه وسط المشكلات . وعلى ذلك فان فكرة الانتباه الارادي ذاتها عكست بصورة أساسية . وقد

الصفحة 148 

اعتبرت بعد ان قيست بفقدان الرغبة في بذل الجهد ، بأنها فعالية تستدعى بمادة غريبة وكريهة تحت ظروف من التأزم عوضاً عن ان تكون جهداً تبدأه النفس ذاتها .

واعتبرت كلمة  -اختياري- ، على انها تعني التردد والاختلاف عوضاً عن الحرية والتوجيه الذاتي بولع شخصي وقوة وادراك.

الصفحة 149 

- 8 -

الغاية من تدريس التاريخ في الدراسة الابتدائية

اذا اعتبرنا التاريخ سجل الماضي ، فمن الصعب ان نجد اسساً أياً كانت ، لادعائنا بوجوب ان يكون له دور في مناهج الدراسة الابتدائية. فالماضيات ولنترك الميت بسلام يخفي ظلمته ، ولدينا في الوقت الحاضر كثير من المتطلبات الضرورية وكثير من النداءات على عتبة المستقبل ، لا تسمح للطفل ان يغرق أو يغوص في شيء مر الى الأبد .

وليس الامر كذلك عندما يعتبر التاريخ بيانا او حساباً لقوى الحياة الاجتماعية وانواعها ، والحياة الاجتماعية معنا على الدوام ولا يهمها التفريق بين الماضي والحاضر ، فما عاش هنا او هناك مسألة ذات اهمية زهيدة لأن الحياة من أجل كل ما فيها ، وهي تظهر الدوافع التي توحد الناس و تفرقهم وتصف ما هو مرغوب فيه وما هو مؤلم .

وعلى الرغم مما يعتبره المؤرخ من التاريخ فالواجب ان يكون التاريخ للمربي علم اجتماع بصورة غير مباشرة – اي دراسة للمجتمع بعد ان يكشف عملياته في الصيرورة وانماطه في التنظيم . فالمجتمع القائم شديد القرب من الطفل وشديد التعقيد عليه ، فلا يجد اشارات في متاه تفاصيله ، ولا يستطيع

الصفحة150 

أن يرتفع ليمجد أو يعجب بوجهة نظر في التنظيم . فاذا كان الهدف من تدريس التاريخ ان نمكن الطفل من تقدير قيم الحياة الاجتماعية وأن يرى بتخيله القوى المفضلة التي تسمح للناس بالتعاون المستمر بعضهم مع بعض ، وان يفهم انواع الخلق التي تساعد في التقدم او تعوقه ، فالأمر الجوهري في تقديمه ان نجعله محركاً ومتحركاً. فلا ينبغي أن يقدم التاريخ على انه جهود أو نتائج متراكمة او عبارات مجردة عما حدث ، ولكن على انه شيء مؤثر مليء بالقوة .

فالدوافع ، اي المحركات هي ما يجب ان يهتم به . ودراسة التاريخ لا تعني كتلة من

المعلومات ولكنها تعني استعمال المعلومات في خلق صورة حية وبناءة لما قام به الناس ، وكيف قاموا به ، ولماذا قاموا به على هذه الصورة ، وكيف نالوا نجاحهم أو منوا بالخيبة في عملهم . وعندما يفهم التاريخ على انه متحرك ومحرك يقع تأكيد على جوانبه الصناعية والاقتصادية .

وليست هذه الا اصطلاحات فنية تعبر عن المشكلة التي شغلت بها البشرية دون انقطاع ، وهي : كيف نعيش ؟ وكيف نسيطر ونستفيد من الطبيعة بصورة تجعلها ذات نفع في اغناء الحياة البشرية ؟ .. فتقدم البشرية قد جاء من المواقف التي عبر فيها الذكاء عن نفسه فرفعت الانسان عن خضوعه المقلق الى الطبيعة ، وألهمته كيف ان من الممكن ان يجعل قواها تتعاون مع اغراضه الخاصة ، وان العالم الاجتماعي الذي يعيش فيه الطفل الآن غني جداً ومليء جداً لدرجة ليس من السهل تقدير قيمته او رفة مقدار الجهد والفكر اللذين جاءا به. 

الصفحة 151 

وللانسان ترکیب هائل جاهز للاستعمال ومن الممكن ان يقاد الطفل لتحويل هذه المصادر الجاهزة الى عبارات ونصوص فياضة . ومن الممكن ان يقاد ليرى الانسان وجهاً لوجه مع الطبيعة من دون رأس مال موروث و من دون آلات ومواد مصنوعة ومن الممكن ان يتابع خطوة فخطوة العمليات التي استطاع بها الانسان ان يعرف حاجات وضعه وينتج الاسلحة والآلات التي مكنته من تلك الحاجات ، ويتعلم كيف ان تلك المصادر الحديثة قد فتحت آفاقاً جديدة من النمو وخلقت مشكلات جديدة . وان تاريخ الصناعة ليس مسألة مادية او نفعية محضة ، ولكنه مسألة ذكاء ، سجلها هو سجل : كيف تعلم الانسان ان يفكر، وكيف يفكر ليؤثر، وكيف يحول ظروف الحياة ولتصبح الحياة نفسها شيئاً عن سابقه ، وهو كذلك سجل اخلاقي اي سجل تقدير الظروف التي قام بها الناس بصبر لتخدم غاياتهم .

وان مسألة كيف تعيش الكائنات البشرية تمثل في الواقع الولع السائد الذي يستطيع به الطفل ان يتوصل الى المادة التاريخية. وان هذه النقطة "1" هي التي جاءت بأولئك الذين عملوا في الماضي باتصال الذين اقترن الماضي باسمهم على الدوام واسبغ عليهم منحة الخلود . والطفل المولع بالطريقة التي يعيش بها الناس وبالالات التي يعملون بها والاختراعات الجديدة التي صنعوها ، وبتغييرات الحياة التي نشأت من الطاقة فسببت

الهوامش :

"1" - يقصد حالة المعيشة

الصفحة 152 

الفراغ، متعطش الى ان يعيد عمليات مماثلة لتلك الطريقة بفعله الخاص وان يعيد صنع الاثاث وانتاج العمليات واستعمال المواد ، ولما كان يفهم مشكلاتها وسبل نجاحها ، بالنظر الى عوائقها ومصادرها التي اخذتها من الطبيعة ، فهو لهذا السبب مولع بالحقل والغابة والبحر والجبل والنبات والحيوان ، وبتكوينه مفهوماً عن المحيط الطبيعي الذي يعيش فيه الناس الذين درسهم يضع قبضته على انماط حياتهم ، وهو لا يستطيع ان يقوم بهذا الانتاج المعاد الا اذا تعرف على القوى والاشكال الطبيعية التي تحيط به. ويعطيه الولع بالتاريخ المزيد من الطابع الانساني ومغزى اوسع لدراسته الخاصة للطبيعة ، كما ان معرفته بالطبيعة تمنح دراسته التاريخ مغزى ودقة. 

وهذا هو « الترابط » الطبيعي بين التاريخ والعلم . وهذه الغاية هي نفسها تعميق تقدير الحياة الاجتماعية ، تقرر مكانة عنصر التراجم او السير في تعليم التاريخ وتلك المادة التاريخية "1" تبدو للطفل في غاية الكمال والحيوية ، بلا ريب عندما تقدم اليه بصورة فردية وتلخص حياة "  "2بعض الشخصيات التاريخية واعمالها . ومع ذلك فقد تستعمل التراجم بصورة تصبح فيها مجموعة حكايات مجردة ، وقد تكون الى درجة اثارة النزعة العاطفية ولكنها مع ذلك لا تقرب الطفل من ادراك

الحياة الاجتماعية وهذا يحدث عندما يكون الشخص الذي هو بطل القصة معزولا عن محيطه الاجتماعي وعندما لا يكون الطفل قــــــد

الهوامش :

 "1" يقصد التراجم Biographies – المترجم

2"" جمع حياة

الصفحة 153 

هيء ليشعر بالمواقف الاجتماعية التي استدعت افعال ذلـ البطل ولا التقدم الاجتماعي الذي تخدمه اعماله. 

فاذا قدمت السيرة او الترجمة الشخصية اختصاراً روائياً للافعـــال الاجتماعية والانجازات ، واذا صور خيال الطفل العيوب والمشكلات التي تهيب بالناس ، والطرق التي يستجيب بها الفرد للضرورة ، ففي هذه الحالة تصبح السيرة اداة في الدراسة الاجتماعية ، وان وعينا بالغرض الاجتماعي للتاريخ يمنع اي ميل نحو اغراق بالخرافة والقصص الاسطورية والنقل الادبي الصرف ، وانني لا استطيع ان أتجنب الشعور بان الاكثار من التاريخ ، كما صنعت المدرسة الهربارتية لتوسع المنهج الابتدائي بالاتجاه التاريخي. قد عكس في الغالب العلاقـــة الحقيقية القائمة بين التاريخ والادب وبالمعنى نفسه نجد ان الدافع نحو تاریخ اميركا في الفترة التي كانت فيها مستعمرة ، وقصة دي فو المعروفة بقصة روبنسن كروزو قد صنعا الشيء نفسه . فكل منهما يمثل الانسان الذي اقام حضارة واحرز نضجاً معيناً في التفكير وانشأ مثلا ووسائل للعمل ولكنه يلقى به فجأة الى مصادره الخاصة ليكافح طبيعة فجة وغير ودية وليحرز ثانية توفيقاً بالذكاء المحض وثبات الخلق. ولكن عندما يمدنا روبنسن كروزو بمادة المنهج للصف الثالث او الرابع ابتدائي ألسنا نكون قد وضعنا العربة امام الحصان "1" ؟ فلماذا لا نقدم الطفل للواقع بمجاله الأوسع وبقواه الاشد وقيمه الاكثر حيوية والادوم في الحياة ، مستعملين روبنسن كروزو نموذجاً خياليا في حالة خاصة لها

الهوامش :

"1" مثل انكليزي معناه ترتيب اشياء بصورة معكوسة – المترجم 

الصفحة 154 

المشكلات والفعاليات ذاتها. 

وأقول مرة ثانية مهما تكن قيمة دراسة الحياة الوحشية بصورة عامة ودراسة حياة الهنود في امريكا الشمالية بصورة خاصة فلمــــــاذا ينبغي ان يقدم ذلك بصورة ملتوية بهيوات  "2"عوضاً عن ان نقدم ذلك بصورة مباشرة مستعملين الشعر ليمدنا بلمسات متجمعة ومتبلورة لسلسلة من الكفاح والاحوال التي سبق للطفل أن ادركها بشكل اوضح.  فأما ان تمثل حياة الهنود بعضاً من المسائل والعوامل في الحياة الاجتماعية او ينبغي الا يكون لها الا محل ضئيل جداً في مخطط التعليم فاذا كانت لها قيمة فيجب ان تبقى اعتماداً على اهميتها الخاصة بدل ان تبقى مضاعة في رقة وجمال عرض ادبي محض . وان هذا الهدف نفسه هو فهم الخلق والعلاقات الاجتماعية في اعتمادها الطبيعي على بعض ، يمكننا - كما اظن من ان نقرر الاهمية المعطاة للتسلسل الزمني في تدريس التاريخ . فقد وضع تأكيد قبل وقت قليل على الضرورة المفترضة في متابعة نشوء المدنية بخطوات متصلة كما حدثت اول امرها مبتدئين بوادي الفرات والنيل ثم الى بلاد الرومان واليونان الخ.. والمغزى المقصود من ذلك ان الحاضر يعتمد على الماضي وكل جانب من جوانب

الهوامش :

"1" هیوانا اسم زعيم من زعماء الهنود الحمر في امريكا ورد اسمه في بعض الاشعار الامريكية ونسجت حول اسمه بعض الاساطير من مصادر هندية . وللونك فلو الشاعر الاميركي المعروف قصيدة عنوانها هيواتا والظاهر ان اعتراض الفيلسوف جون ديون على ان الاطفال الاميركيين يكتفى بتدريسهم القصيدة عوضاً عن ان يروا ويتفهموا الحياة الهندية نفسها. 

الصفحة155 

الماضي يعتمد على جانب سابق . وهنا نقع في تصادم بين العرض المنطقي والعرض النفسي في التاريخ فاذا كان الغرض ان نقدر ما عليه الحياة الاجتماعية وكيف هي سائرة فمن المؤكد حينئذ وجوب ان يتعامل الطفل بما هو قريب من روحه لدفع ما هو بعيد عنه. 

فالصعوبة في الحياة البابلية والمصرية ليست في بعدها الزمني بقدر ما هي في بعدها عن اولاع الحياة الحاضرة واهدافها.

وهي لا تیسر الاشياء الى درجة كافية ، ولا تنظمها الى درجة كافية "1" او على الاقل لا تعمل على الوجه الصحيح ، لانها كانت تجري مع فقدان ما ذو هو مغزى في الوقت الحاضر لا بتقديم هذين العاملين "2" مرتبين على مراحل متدرجة في النزول ، وان ملامحها البارزة ليصعب ادراكها وفهمها حتى على الاختصاصيين ، وهي بلا شك قد منحت عوامل قدمت الحياة المتأخرة وغيرت في مجرى الحوادث عبر تيار الزمن، ولكن الطفل لم يصل بعد الى مستوى يستطيع فيه أن يقدر العوامل المجردة والتقدمات الاختصاصية .

فان ما يحتاج اليه هو صورة للعلاقات الشائعة والاحوال والفعاليات. 

فاذا أخذنا بوجهة النظر هذه رأينا أنه يوجد. كثير في حياة مــــا قبل التاريخ مما هو أقرب الى حياة الطفل من الحياة البابلية او المصرية المعقدة . وعندما يصبح الطفل قادراً على تقدير الانظمة يصبح قادراً على رؤية ما يدافع عنه كل شعب تاريخي من فكرة نظامية وتمييز ما قدمه كل عامل الى الانظمة المعقدة الحاضرة . ولكن هذه المرحلة لا تبدأ الا

الهوامش :

"1" يقصد ان الحياة البابلية و المصرية القديمة كانت معقدة وغير منظمة الى درجة كافية - المترجم 

"2" يقصد باليسر والتنظيم - المترجم .

الصفحة156 

عندما يكون الطفل قد أخذ في إدراك الاسباب المجردة لا في التاريخ وحده بل في المجالات الاخرى كذلك ، أو بعبارة أخرى عندما يكون قد وصل الى مرحلة التربية القانونية. 

وفي هذه الخطة العامة نتعرف على ثلاثة أوجه ، وهي أولاً ، التاريخ ذو الاستنتاجات العامة والمواد الميسرة ، وهو التاريخ الذي يصعب حسباته تاريخاً بالمعنى التام اذا نظرنا اليه من وجهة نظر التسلسل الزمني أو المحلي ، ولكنه يهدف الى اعطاء الطفل ادراكاً وتعاطفاً مع أنواع عديدة من الفعاليات الاجتماعية . وتشمل هذه المرحلة عمل أطفال السنة السادسة من العمر في دراسة المهن الشائعة بين الناس في المدينة والريف في الوقت الحاضر كما تشمل عمل أطفال السنة السابعة من العمر في دراسة تطور الاختراعات وتأثيرها في الحياة وعمل أطفال السنة الثامنة من العمر في تفهمهم الحركات العظيمة في الهجرة والريادة والاكتشاف ، وهي الحركات التي جعلت من العالم كله اسرة بشرية واحدة .

أما عمل السنتين الأوليين فهو مستقل تماماً - كما يبدو – عن اي شعب معين أو أي شخص معين ، فهو مواد تاريخية بالمعنى الضيق لاصطلاح «التاريخ» وفي الوقت نفسه نجد كثيراً من المجال ميسراً لتقديم العامل الشخصي بالتمثيل وان أهمية الرواد والمكتشفين العظام تنفع في خلق التحول الى ما هو محلي ومعين وما يعتمد على أشخاص معينين وخاصين عاشوا في أماكن وازمان معينة وخاصة. وهذا يأخذ بيدنا نحو المرحلة الثانية حيث الظروف المحلية والفعاليات المحدودة لشخصيات معينة من الناس أصبحت

الصفحة 157 

شهيرة ، وهذه المرحلة تقابل نمو الطفل في القوة التي تتعامل الحقيقة الايجابية المحددة .

ولما كانت شيكاغو "1" بل الولايات المتحدة كلها أقاليم يستطيع ان يتعرف عليها الطفل بسبب من طبيعة حالها ، الى أقصى حد من الكفاية ، فان المادة المقدمة في الثلاث سنوات التي امامه مشتقة بصورة مباشرة أو غير مباشرة من هذا المصدر . وهنا اقول مرة ثانية ان السنة الثالثة سنة تحول ، لأنها تربط الحياة الامريكية بالحياة الاوروبية . وحوالي هذا الأوان ينبغي ان يكون الطفل مستعداً للتعامل لا مع الحياة الاجتماعية بصورة عامة ولا الحياة الاجتماعية المألوفة لديه اكثر من غيرها ، ولكن انماط من الحياة الاجتماعية معينة ومتميزة او متفردة جداً ، مع انماط غريبة من الحياة الاجتماعية ذات مغزى خاص

واذا شئت فقل مع في خدمة أو هبة معينة قامت بها لتاريخ العالم كله .

وبناء على ذلك فان التسلسل الزمني في التاريخ يتبع في المرحلة القابلة مبتدئين بالعالم القديم حول البحر المتوسط ثم نهبط مرة ثانية خلال تاريخ اوربا الى عوامل خاصة ومتميزة في التاريخ الامريكي ، والمنهج لا يقدم بوصفه المنهج الوحيد الذي يحل المشكلة ولكن عملا لا تكون نتيجته بالفكر بل في تجريب بارز وتحول في الموضوعات من سنة الى سنة وفي مشكلة تقديم

الهوامش :

"1" يشير المؤلف الى شيكاغو بالذات باعتبار المدرسة الابتدائية مؤسسة فيها

الصفحة158 

المادة التي تملك قبضة حيوية على الطفل "1"وفي الوقت نفسه تقوده خطوة بعد خطوة الى معرفة اكثر جودة وأغزر دقة في كل من مبادىء وحقائق الحياة الاجتماعية وتكون بداية لدراسات تاريخية اختصاصية في وقت لاحق .

الهوامش :

"1" يقصد تثير ولع الطفل فجتذبه اليها - المترجم

الصفحة 159