مقال بعنوان نحو مجتمع بلا مدارس
مقال بعنوان مساهمة إميل دوركاييم في سوسيولوجيا التربية
المؤلف: محمد زيان ووجدي خيري نسيم
التصنيف: مقالات علمية
عرض PDFالوصف:
-وجدي خيري نسيم، نحو مجتمع بلا مدارس، مجلة كلية الآدب جامعة بور سعيد، العدد الثالث والعشرون، يناير 2023.
-محمد زيان، مساهمة إميل دوركاييم في سوسيولوجيا التربية، مجلة أنثروبولوجيا، العدد التاسع، المجلد الخامس، 2009.
نحو مجتمع بلا مدارس
المقدمة:
لم تحظ الأطروحات الفلسفية التي تتطرق إلى المدرسة بوصفها مؤسسة تعليمية وتربوية بالقدر الكافي من الاهتمام داخل حقل الدراسات الفلسفية في القرن العشرين. وربما يكون الفيلسوف الأمريكي جون ديوي هو الاستثناء الوحيد من هذه الفرضية، إذ أولى ديوي اهتماما كبيرا بفلسفة التربية بشكل عام، وبالمدرسة ودورها الاجتماعي بشكل خاص. وهذا ما نجده جليا في العديد من مؤلفاته التي عبر فيها عن تأملاته حول التربية الحديثة، وعن الدور الذي تلعبه المدرسة في هذا الخصوص. ومن أهم مؤلفاته ما يلي: المدرسة والمجتمع، ومدارس المستقبل، والديموقراطية والتربية الخبرة والتربية، والتربية اليوم والمبادئ الأخلاقية للتربية.
نلاحظ أن معظم مؤلفات ديوي تحمل عناوين المدرسة والتربية، فقد كان شغله الشاغل هو التأكيد على ضرورة تخلى التربية الحديثة عن الطرق التقليدية في التدريس، والقائمة على الحشو والتلقين وعلى العقاب البدني والنفسي للأطفال، ولتحقيق هذه المهمة دعا دیوى إلى ضرورة الاستعانة بأحدث الدراسات في علم نفس عند إعداد المناهج الدراسية الحديثة للارتقاء بالطفل نفسيا واجتماعيا " فقد أوضحت الدراسات النفسية أنه عندما يمتلك الطفل فرصة المشاركة في الأنشطة، سيذهب إلى المدرسة في حالة ملؤها البهجة والمتعة (..) وسينهمك جميع الطلاب في ممارسة هذه الأنشطة، وتقل الفجوة بين الحياة في المدرسة وخارجها " (1). يشدد ديوي في هذا النص على فكرتين أساسيتين، الفكرة الأولى: إيمان ديوي بالدور الهام الذي تلعبه الدراسات النفسية في معرفة التوجهات السيكولوجية للطلاب، وفي مساعدة المدرسين على توظيف هذه التوجهات بما يعمل على نمو وتطور شخصية الطلاب جعل ديوي يطالب " قادة التربية بأن يكونوا على دراية بعلم النفس التربوي " (2). أما الفكرة الثانية: إصرار ديوي على ضرورة استثمار العمليات التربوية للخبرات والأنشطة اليومية للطفل، وتنقلها إلى داخل المدرسة كي لا يكون هناك
الهوامش:
الصفحة 345
اختلاف كبير بين ما يتعلمه الطلاب في المدرسة وما يوجد في المجتمع الخارجي.
لكن محاولة تطوير قدرات ومواهب الطلاب وجعلهم شركاء فاعلين في العملية التعليمية لن تؤتي ثمارها المرجوة حال استمرار انعزال المدرسة عن المجتمع. فالمدرسة، حسبما يرى ديوي، يجب أن تكون صورة مصغرة من المجتمع، فهي المؤسسة الاجتماعية التي يتشكل الطفل بداخلها، وينمو فيها ليكون قادرا فيما بعد على المساهمة الفعالة في تطوير مجتمعه والارتقاء به. فمن الصعب من وجهة نظر ديوي، التقاء الطفل بالمجتمع وأنظمته المعقدة والمتعددة دون المرور بالمدرسة، فهي البوابة الرئيسة للولوج إلى الأنظمة الاجتماعية. لذا يرى ديوي أنه من الضروري أن تكون البيئة المدرسية وما يتعلمه الأطفال بداخلها وثيق الصلة بحياتهم الاجتماعية المعاشة وليس منفصلا عنها. وهذا ما طالب به قائلا:" يلزم أن نجعل في كل مدرسة من مدارسنا حياة اجتماعية مصغرة، أو حياة اجتماعية في بدايتها فعالة بأنواع مهنها التي تعكس حياة مجتمع أكبر (..) فعندما تقدم المدرسة كل طفل إلى عضوية المجتمع وتدربه، تجعله يتشرب روح الخدمة وتجهزه بأدوات التوجيه الذاتي الفعال. (1). يشدد ديوي في هذا النص على ربط التعليم بسوق العمل، فالأنشطة والمهارات والحرف، كالنجارة والحياكة والزراعة يجب تعلمها وممارستها داخل المدرسة، بحيث لا يجد الطلاب فجوة بين ما يتعلمونه داخل المدرسة وبين مجالات العمل في المجتمع.
إذا نظرنا إلى نصوص ديوي في مجال التعليم سنجده مفكرا متحررا، حاول تخليص التعليم من الطرق التقليدية والبالية، واستحدث طرقا جديدة تقوم على المشاركة الإيجابية والنشطة للطلاب في عملية تشكيل وصياغة المعارف، وممارسة المهارات. هذا التجديد الذي أحدثه ديوي هو ما أبرزه باتريك ريلي Patrick Riley قائلا:" عاملت المدارس الطلاب على أنهم أوعية يجب ملؤها بالأفكار الصحيحة، بدلا من جعلهم يتسألون ويستفسرون، وهذا ما رفضه ديوي عندما أعطى الأولوية للاستفسار والنقد، وتعليم الحرف التي تمكنهم من تقنيات الاكتشاف " (2).
الهوامش :
الصفحة 346
نقول نعم تعد تصورات ديوي بالفعل رائدة في مجال التعليم، وقد أحدثت أفكاره نقلة نوعية كبري في هذا المجال، بل وتدين العديد من الأنظمة التعليمية في تطورها لأفكار ديوي بالكثير . لكننا لا يمكننا أن نغض الطرف عن أن ما قدمه ديوي هو نموذج تعليمي يتماشى مع متطلبات الأنظمة الرأسمالية، ويهدف إلى تطورها وتحقيق مصالحها، فجعل المدرسة صورة مصغرة من المجتمع، يهدف حسبما نرى، إلى تشكيل وصياغة عقول الطلاب لقبول المجتمعات الراهنة، وإعدادهم ليكونوا أفراد فاعلين فيها، كما أن دعوته لتعلم الحرف والصناعات في المدارس ما هي إلا وسيلة لجعل الطلاب يتكيفون مع الحياة في المجتمع الصناعي المعاصر.
لهذا فإننا نرى أنه إذا كان ديوي قد نجح من حيث الشكل في تحرير عقول الأطفال من التبعية للمناهج العقيمة القائمة على التلقين والانضباط والصرامة، وأدخل اللعب والأنشطة وتعلم المهارات ضمن مناهجه الجديدة، فخلف كل هذا توجد وشائج خفية تهدف إلى توليد تبعية من نوع جديد، وهي التبعية لمتطلبات الأنظمة الرأسمالية. إن أفكار ديوي عن التعليم، وعن دور المدرسة كما تجلت في كتابه المدرسة والمجتمع هي إيديولوجيا جاهزة الصنع تهدف إلى قولبة العقول وصياغتها بطريقة جديدة تتماشي مع منطق الرأسمالية وتطورها. على أية حال، إذا كان ديوي قد دعا إلى ربط المدرسة بالمجتمع من أجل الحصول على تعليم حديث، فإننا نجد في المقابل أن الفيلسوف النمساوي إيفان إيليتش"
الهوامش :
*هو فيلسوف نمساوي ولد سنة 1926 في فيينا بالنمسا، وتربى في ضيعة جده في جزيرة براك على ساحل البحر الأدرياتيكي. والده بيرو أرستقراطي من كرواتيا، ووالدته هيلين ألمانية من عائلة يهودية، اعتنقت المسيحية الكاثوليكية فيما بعد، وقربته والدته من المثقفين مثل الفيلسوف اللاهوتي جاك ماريتان والشاعر ريليكه، والفيلسوف الصوفي رودلف شتاينر عندما مات والده سافر وهو وأسرته إلى إيطاليا، وفي فلورنسا أنهى إيليتش دراسته الثانوية في مدرسة ليوناردو دافنشي العلمية في عام 1944 قرر أن يصبح كاهنا، وبعد الحرب العالمية الثانية كان إيليتش يأمل في العودة إلى النمسا، لكنه لم يستطع بسبب عدم اكتمال أوراق السفر. حصل على الدكتوراه في فلسفة التاريخ بأطروحة عن مفهوم التاريخ العالمي عند أرنولد توينبي ومشكلة المعرفة في التاريخ وصل إيليتش إلى الولايات المتحدة عام 1951 لاستكمال دراساته، لكنه أصبح مفتونا بالمجتمع البورتريكي في نيويورك، وخدم في إيبراشية بورتريكو في نيويورك حتى أصبح نائبا لرئيس الجامعة الكاثوليكية، وفي عام ١٩٥٦ انتقل إلى كيورنيفكا في المكسيك، حيث أدار مركز التشكل بين الثقافات الذي تحول قيما بعد إلى مركز التوثيق بين الثقافات، وفي النهاية استقر به المطاف في ألمانيا، وتوفي عام 2002 . ومن أشهر مؤلفاته: مجتمع بلا مدارس Deschooling Society سنة 1970، والاحتفال بالوعي: دعوة لثورة مؤسسية Celebration of Awareness: A Call for Institutional Revolution سنة ،1971، أدوات للبهجة Tools for Conviviality 1973 ، والطاقة والعدالة Energy and Equity سنة 1974، واللعنة الطبية Medical Nemesis سنة 1976، وعدم التمكين للتخصص Disabling Profession سنة ،1977 ، والكنيسة والتغير والتطور The Church, Change, and
الصفحة 347
يرفض مثل هذا الربط، ويؤكد على أن التطور الحقيقي والحر للتعليم لن يحدث إلا بتحرر المجتمع من المدارس. المدارس هي العقبة الكبرى التي يجب إزاحتها من الطريق، إذا أردنا بلوغ تعليم مستقل ومتحرر من التبعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذه الأفكار هي ما روج لها في كتاباته عامة، وفي كتابه مجتمع بلا مدارس خاصة.
عيوب التعليم المدرسي لدى إيليتش:
يعلن إيليتش منذ البداية عداءه الشديد للتعليم المدرسي، إذ يعتبره ظاهرة عبثية غير معقولة يجب تفكيكها والتخلص منها، لأن وجودها يتنافى مع حرية التعليم الحقيقية. وهذا ما يؤكده قائلا: أن المدارس هي المكان الأسوأ للحصول على التعليم " (1). هذا الحكم العام الذي يصدره إيليتش تنتفي معه المطالبة بإمكانية إصلاح التعليم المدرسي، فمحاولات الإصلاح لديه تنطوي على إهدار للطاقات المادية والبشرية، دون وجود أي مردود حقيقي ومُجدٍ. فطالما أن مهمة المدرسة هي الدفع بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية قدما إلى الأمام، سيكون هم القائمين على التعليم هو ربط المعرفة بالمصلحة لإنتاج ذوات مفيدة اقتصاديا واجتماعيا، ولن يول هؤلاء اهتماما للذوات التي تتطلب المعرفة لذاتها، تلك الذوات الحرة التي لا تريد أن تخضع لما يمليه عليها الآخرون قسرا كما هو الحال في التعليم المدرسي " فالتعليم المدرسي الإلزامي ليس معقولا، ولن يكون أكثر معقولية إذا حاولنا بلوغه عن طريق تطوير مؤسسات بديلة، فلا البرامج التعليمية الإلكترونية ولا زيادة مسئولية المدرسين، سوف تحرر هذا النمط من التعليم " (2). هذا النزوع لرفض الإصلاح التعليمي، وضرورة البحث عن حلول راديكالية، هو ما عبر عنه إيليتش بصيغة أخرى عندما قال: " تتطلب أزمة التعليم الراهنة مراجعة جذرية لكل فكرة عن التعليم، بدلا من إعادة النظر في المناهج المستخدمة " (3).
الهوامش :
Development سنة 1970، والحق في البطالة المفيدة وأعدائها المتخصصين The Right to Useful Unemployment and its professional Enemies سنة 1978 ، وتاريخ الاحتياجات Toward A History of Needs سنة1978.
Todd Hartch, The Prophet of Cuernavaca: Ivan Illich and The Crisis of The West, Oxford, Oxford University Press, 2015, p:4-6
الصفحة 348
إن العاملين الأساسين اللذين يرتكز عليهما نقد إيليتش العنيف للمدرسة هما: إنتاجها لمعارف تهدف إلى خدمة الأوضاع القائمة، وفرضها القسري لأنماط من المعرفة على المتعلمين، دون الوضع في الاعتبار لرغباتهم وميولهم الخاصة. وسوف نعرض لهذين العاملين وما يرتبط بهما من عوامل أخرى بالتفصيل أثناء عرضنا لمساوئ التعليم المدرسي عند إيليتش، ومن أبرز هذه المساوئ ما يلي:
1-التكلفة الاقتصادية:
يستهل إيليتش نقده للتعليم المدرسي بنقد التكلفة الاقتصادية الهائلة التي تنفق في هذا المجال، إذ تنفق معظم الدول القدر الأكبر من ميزانياتها على المدارس، إذ يصل ما تنفقه إلى ثلث الميزانية لتحسين وتطوير جودة المنتج التعليمي، لكن من دون مردود حقيقي في المقام الأخير. وهذا ما توضحه الإحصائيات التي يستند إليها إيليتش، إذ " تنفق الولايات المتحدة ما يقرب من ثمانين بليون دولار سنويا على التعليم (..) وهو ما يعادل ميزانية وزارة الدفاع أثناء الحرب ضد فيتنام، ورغم ذلك لم تستطع أن تقدم تعليم مقبول ومتساوي للجميع (1).
ليست الدول الغنية وحدها من تنفق أموالا طائلة من ميزانياتها لتطوير التعليم، بل تحاول الدول الفقيرة اللحاق بها ؛ اعتقادا منها بأن تطوير التعليم سيحقق الازدهار والرخاء الاقتصادي. لكن توضح الممارسات الحقيقية زيف هذا الاعتقاد " ففي بيرو عندما تبين أن ثلث الميزانية العامة غير كافٍ لتقديم سنة من التعليم المقبول للجميع، قرر المجلس العسكري تأجيل الإنفاق على المدارس (2). إن ما يبرزه إيليتش في هذا النص هو أن زيادة ميزانية التعليم تكون على حساب التقليل من ميزانيات أخرى أكثر أهمية مثل: الصحة، والحد من الفقر والمجاعة، والحد من التلوث والحفاظ على البيئة، وهي أشياء يستفيد منها البشر أكثر من استفادتهم من التعليم المدرسي بنظامه الراهن. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع نفقات التعليم أصبح عبئا ثقيلا ليس على ميزانية الدول فحسب، بل على ميزانية الأسر والمواطنين بما تفرضه عليهما من ضرائب لتعليم التطوير.
الهوامش :
الصفحة 349
ليس إيليتش وحده من ينتقد التكاليف الاقتصادية الهائلة المقترنة بسيادة التعليم المدرسي في المجتمعات الغربية المعاصرة، بل يتفق معه المفكر التربوي إيفريت ريمر Everett Reimer مؤلف كتاب موت المدرسة، والذي يرى في المدارس " الشكل الأكثر عدوانية للضرائب، والتي يتم دعمها بواسطة أموال الفقراء " (1).
إعادة توجيه هذه الأموال وتحويلها إلى دعم نقدي مباشر يصل إلى أيدي الراغبين في التعليم؛ لينفقوه على ما يريدون تعلمه بعيدا عن إشراف المدارس والقائمين على العملية التعليمية برمتها، وإحلال نموذج تعليمي بديل جديد كلية هو مطلب إيليتش للتغلب على المساوئ الاقتصادية الناجمة عن التعليم المدرسي " فالحل الأفضل هو أن يتم توجيه الاستحقاقات التعليمية والمنح الدراسية إلى أولياء الأمور والطلاب للإنفاق علـى مـا يختارونه من تعليم، فما نحتاجه هو ضمان حق كل مواطن في الحصول على المصادر التعليمية المشتقة من الضرائب " (2). أن ما يريده إيليتش هو أن تصب أموال النفقات التعليمية المأخوذة من دافع الضرائب في خدمة الطلاب وتعزيز استقلالهم المعرفي وشعورهم بذواتهم، وتطوير قدراتهم ومواهبهم الخاصة، لا أن تصب من أجل التوسع في المنشأت التعليمية وتطوير المناهج الدراسية واستخدام وسائل تكنولوجية متقدمة في عملية التعليم، فهذا كله يعمل في المقام الأخير على تحقيق مصالح الأنظمة وليس على تحقيق مصالح الطلاب والراغبين في التعليم.
لكن ثمة مجموعة من التساؤلات تطرح نفسها في هذا المضمار وهي: ما الذي يدفع بالدول إلى تعليم مواطنيها وإنفاق كل هذه الأموال على التعليم؟ هل السبب هو حبها لمواطنيها ورغبتها في أن يكونوا مثقفين وسعداء؟ أم أن هدفها هو ترقية الوجود الحسن لهم وجعلهم يعيشون حياتهم بحسب ماهيتهم الحقيقية، وهو ما لا يتحقق إلا بفضل التعليم؟ أم أن هدفها يتجاوز أماني الأفراد ورغباتهم إلى الحفاظ على مصالح الأنظمة السياسية والاقتصادية للدول وتحقيق وحدة الدولة وتجانسها؟ هذا ما سنوضحه في الصفحات القادمة.
الهوامش :
الصفحة 350
2- خدمة الدولة القومية :
إذا نظرنا إلى مجمل أعمال إيليتش فلن نجده يتطرق بالتفصيل إلى الدور الذي أدته المدرسة لخدمة الدولة القومية، بل اكتفى بأنها عملت على دعم الفكر القومي وترسيخه في العقول. ويرجع إيليتش بداية ظهور التعليم المدرسي إلى نشأة الدولة القومية، وصعود البرجوازية، فالهدف من تأسيس المدارس منذ القرن السادس عشر هو تحقيق مصالح الدول القومية وهو ما وضحه قائلا: " لقد تبنت الدول القومية التعليم الإلزامي وفرضته على كل المواطنين (1). إن ما ينوه إليه إيليتش في هذا النص هو أن المدارس قد لعبت دورا بالغ الأهمية في تقوية دعائم الدولة القومية، عندما عملت من خلال توحيد المناهج الدراسية على تحقيق التجانس والوحدة السياسية والاجتماعية بين المواطنين، وصهرهم جميعا في بوتقة الدولة المركزية القادرة على إنهاء الصراعات الناجمة عن الاختلافات العرقية والدينية واللغوية؛ لتحقيق الأمن والاستقرار، وبالتالي، فإن دعم الدولة للتعليم هو جزء لا يتجزأ من سياستها الداخلية للحفاظ على وحدتها، وتحقيق أمنها واستقرارها.
هذا الدور الهام الذي أدته المدرسة في استقرار وتطور الدول القومية هو ما أبرزه ريمير بشكل أكثر وضوحا من إيليتش عندما تحدث عن الأهمية الكبرى للمدارس في دعم وترقية التوجهات القومية في ألمانيا. ويقول ريمير في هذا الصدد:" قامت المدارس بتدريس اللغة الألمانية وجعلتها اللغة الرسمية للتعليم واللغة الموحدة للدولة، وتم تصميم المناهج الدراسية لخدمة الاحتياجات العسكرية والسياسية للأمة الألمانية، لقد عملت المدارس على إنتاج مواطن يتناسب مع متطلبات الدولة القومية الألمانية " (2). يبرز ريمير في هذا النص كيف أن المدارس تشكل أدوات مهمة في يد الدول والأنظمة، تعمل من خلالها على قولبة وصياغة وعي المواطنين وتشكيله بما يتناسب مع مقتضيات هذه الأنظمة. فهدف التعليم هو إعداد المواطن الصالح المتعاون ليكون في خدمة وطنه، وليس إعداد الفرد المتفرد والمستقل الذي يدرك العالم والأشياء من حوله وفقا لتصوراته، وليس وفقا للتصورات التي تم غرسها في عقله عن طريق التعليم؛ لذا تتجلى خطورة استغلال المدارس في تحقيق
الهوامش:
الصفحة 351
أهداف السياسات القومية، عندما ترسخ في عقول الطلاب ضرورة أن يتنازل الفرد عنحريته وإرادته لصالح الكل، وهو ما يؤدي إلى قمع الفردية والاستقلال الشخصي.
إن طغيان المدرسة على الحرية لخدمة المصالح القومية هو ما يكشف عنه جودمان Goodman الذي يرى أن التعليم المبني على تحقيق المصالح القومية سيقمع بالضرورة حريات الأفراد لصالح الأنظمة " فالمدارس بسبب طبيعتها المؤسسية تقمع الفردية عندما تخضعها للاحتياجات القومية (1).
تكمن خطورة سيطرة الدولة على التعليم وتكريسه لخدمة أغراضها فيم يلي: وأد التفكير النقدي الذي يتعارض مع توجهات الأنظمة السائدة، وغرس قيم الخضوع والتبعية في الطلاب، وتربية النشء على الإذعان للسلطات والتماهي معها. وقد عبر رسل عن بالغ قلقه من هيمنة الدولة وتدخلها في رسم السياسات التعليمية، لأن هذا سيؤدي إلى انتشار التعصب والحروب. ويستشهد رسل على ذلك بما حدث في ألمانيا النازية التي استغلت المناهج التعليمية في ترقية النوازع القومية والحروب العنصرية، وهو ما ترتب عليه " انتشار القوميات المتعصبة، فلم يعد للبشر في بلد ما قواسم مشتركة مع الآخرين في البلدان الأخرى، وغابت فكرة الحضارة المشتركة التي تقف في وجه الحروب الضروس "·(2)
ليس الفلاسفة وحدهم من يساورهم التخوف من استغلال أنظمة التعليم القومية المتعصبة في ترقية الحروب والنزاعات، بل يشاركهم العديد من الأدباء في هذا التخوف، إذ يحذر العديد من الأدباء من مغبة سيطرة الدولة على التعليم وتدخلها في وضع مقررات تساعدها على تحقيق سياستها الداخلية والخارجية. وهذا ما نجده في رواية كل شيء هادئ في الميدان للأديب الألماني إريك ماريا ريماك الذي يحمل مواد التاريخ والتربية الوطنية المسئولية عن الحروب والدمار وقتل الأبرياء، فالتعليم يكون على حساب الحق والسلام، وهذا ما يوضحه ماريا على لسان أحد أبطال روايته قائلا:" إن الموضوع يبدو عجيبا إذا فكر فيه الإنسان. فنحن هنا للدفاع عن وطننا، والفرنسيون والإنجليز هناك
الهوامش :
الصفحة 352
للدفاع عن أوطانهم، فأين الحق إذن في الجانبين؟ ولماذا تنشأ الحروب؟ أرجعوا إلى كتبكم المدرسية " (1).
على أية حال، لم تتوقف المدارس عند تحقيق مصالح الدول القومية فحسب، بل تم استغلالها أيضا لتحقيق مصالح البرجوازية. فبحلول القرن التاسع عشر اضطلعت المدرسة بتحقيق هدف آخر وهو تعزيز التطور الصناعي، عن طريق تعليم المواطنين ليشكلوا جيوشا من العمال والموظفين المتخصصين لتلبية الاحتياجات المدنية والعسكرية وأصبحت المدرسة هي بوابة العبور إلى المجتمع الصناعي الحديث. هذا الدور الذي لعبته المدرسة في التخديم على المجتمع الصناعي هو ما أبرزه إيليتش قائلا: " منذ قرنين كانت المدرسة هي المؤسسة التي دمجت الإنسان في الدولة الصناعية (...) فكان التعليم المدرسي هو الوسيلة الضرورية لأن تصبح عضوا مفيدا في المجتمع الصناعي " (2). ويؤكد إيليتش على نفس المعنى في موضع آخر عندما يقول:" يتشكل الأطفال في المدارس لخدمة المجتمعات الصناعية" (3).
يشدد إيليتش في النصين السابقين على أن التعليم المدرسي قد أصبح منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن وسيلة لتحقيق مصالح الطبقات المسيطرة، وقد نجحت هذه الطبقات في استغلال المدارس لتحقيق مصالحها الاقتصادية وفرض قيمها المتعلقة بزيادة الاستهلاك من خلال المناهج الدراسية. وكل هذا يرفضه إيليتش الذي يؤكد دائما على أن التعليم ينبغي أن يكون غاية في حد ذاته وليست وسيلة مرتبطة بتحقيق أية منافع أو فوائد بعيدة عن شخص المتعلم ذاته، وهو ما يعجز التعليم المدرسي بنظامه الحالي عن تحقيقه لأسباب إيديولوجية " فالمدرسة هي عملية مخطط لها، تسعى لتشييد عالم مخطط له، ولتشكيل إنسان يؤدي أدوارا محددة في هذا العالم " (4).
تعد المدرسة وفقا للنص السابق، مؤسسة للسيطرة والضبط الاجتماعي، فهي تعمل على تنشئة إنسان متكيف مع الأنظمة القائمة، يقوم بتأدية أدوار محددة ومرسومة.
الهوامش :
1985، ص 15
الصفحة 353
سلفا بواسطة المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتعليمية لكن يرفض إيليتش هذا التصور، ويؤكد في المقابل على ضرورة احترام المجتمع لحق المتعلم في تعليم حر، إذ " يجب أن يضمن المتعلم حريته في التعليم الذي يريده دون الالتزام أمام المجتمع بتعليم محدد، وعلى المجتمع احترام خصوصية كل إنسان في التعليم "(1).
إذا كان إيليتش يرفض ربط التعليم بتحقيق غايات أخرى تتجاوز الاهتمامات الشخصية الخالصة، فإن ديوي يحتفي في المقابل بربط المدرسة بالمجتمع والاقتصاد، ويؤكد على أن التطورات الاقتصادية الحادثة في القرن التاسع عشر قد اقترنت بظهور أنماط جديدة من المدارس، غرضها النهوض بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات، مثل " المدارس الفنية، كمدارس الهندسة وغيرها، ومدارس إعداد المعلمين. أما الأولى فكانت لتلبية احتياجات التطور التجاري والصناعي والثانية للتدريب المهني واكتساب الثقافة " .(2). هذه المدارس هي ما اعتبرها ديوي خطوة كبرى في سبيل التقدم والتطور الاقتصادي، لكنه أخذ عليها افتقارها إلى الورش والمعامل والمختبرات التي تربط التعليم النظري بالممارسات العملية.
نحن إذن أمام فيلسوفين على طرفي نقيض، يرى ديوي أن ربط التعليم بالمجتمع من خلال المدارس يؤدي إلى التطور الاقتصادي والاجتماعي، بينما يرى إيليتش أن الربط بينهما يؤدي إلى التردي الاجتماعي، وقمع حرية المتعلم لصالح أطراف أخرى هي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما سيؤدي إلى حدوث تفاوت هائل بين المتعلمين وغير المتعلمين.
3- التعليم المدرسي والتفاوت الطبقي :
لا يقف نقد إيليتش للتعليم المدرسي عند اعتباره خطرا يهدد حرية المتعلم فحسب، بل يمضي لأبعد من ذلك عندما يرى في التعليم وسيلة لتكريس التفاوت الطبقي والتمايز الاجتماعي بين المتعلمين وغير المتعلمين. إذ يحظى المتعلمون بامتيازات اقتصادية وطبقية لا تتوافر لغير المتعلمين فلقد أصبح التعليم المدرسي مطلبا ضروريا لتبوأ أي
الهوامش :
الصفحة 354
مكانة اجتماعية، كما أصبح معيارا حاسما للحصول على فرصة عمل، حيث " يعتمد الالتحاق بوظيفة ما على مدة الحضور في المدرسة، فالأدوار الاجتماعية يتم تخصيصها بناء على المناهج والمقررات التي يجب أن يجتازها المرشح للوظيفة " (1).
إن الالتحاق بأي وظيفة يكون مشروطا بالمدة الزمنية التي يقضيها المتعلم في المدرسة، ومقرونا بالمقررات والمناهج التي يتلقاها، وكلما زادت عدد الساعات والمناهج كلما زادت فرص المتعلم في اللحاق بسوق العمل. وهذا هو المعيار للأفضلية بين البشر فاثنتا عشرة سنة من التعليم المدرسي في مدينة نيويورك تُعد شرطا ضروريا للعمل في الصرف الصحي (2).
لقد أصبح التمايز بين المتعلمين وغير المتعلمين في المجتمعات المعاصرة قاعدة راسخة تبررها وتفعلها التشريعات القانونية، التي بدلا من أن تشرع للمساواة بين البشر أصبحت تسن قوانينا للمحاباة والتمايز بين المتعلمين وغير المتعلمين. ويروى إيليتش إحدى الوقائع التي تؤكد محاباة التشريعات والقوانين للمتعلمين، فيقول:" في الثامن من مارس سنة 1971أصدر رئيس محكمة قرارا ضد شركة دك Duck، يقضي بتعيين الحاصلين على المؤهلات الدراسية الأعلى، ويؤكد أن الدرجة المدرسية هي التي تقيس قدرة الإنسان على أداء الوظيفة، فالشهادة هي المعيار الحاسم للأداء الوظيفي " ("3). أن ما ينوه إليه إيليتش في هذا النص هو أن حصر الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية في المتعلمين وحدهم دون سواهم هو ما يؤسس لمجتمع طبقي تختفي منه كل ملامح المساواة والعدالة بين المتعلمين وغير المتعلمين والسبيل الوحيد لدى إيليتش، للتخلص من هذا المجتمع الطبقي هو القضاء على المدارس.
إن تصورات إيليتش عن اقتران التعليم المدرسي بتأسيس مجتمعات طبقية، يجعل ثمة التقاء بينه وبين العديد من المقاربات الماركسية عن التعليم، صحيح أن الفلاسفة الماركسيين لم يؤكدوا على أهمية التعليم في عملية التغير الاجتماعي، ولم يعزوا له دورا كبيرا بقدر ما عزوا إلى الصراع الطبقي والفعل الثوري، إلا أن تحليلاتهم للمجتمع تلقي
الهوامش :
الصفحة355
بالضوء على الأبعاد الاجتماعية والسياسية للتعليم، ودوره في إعادة إنتاج المجتمعات الرأسمالية، إذ تعمل المؤسسات التعليمية في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة على السيطرة والاستغلال، وهذا ما يؤكده ألتوسير قائلا: " تميل الطبقات المسيطرة التي تعمل على تحقيق مصالحها الخاصة إلى تغيير المناهج الدراسية لجعلها أكثر انسجاما مع متطلبات رأس المال (..) ولهذا تتطلب أجهزة الدولة الإيديولوجية الحضور الإجباري للطلاب في المدارس، كي تغرس في عقولهم إيديولوجيا الطبقات الحاكمة والمسيطرة " .(1). نلاحظ في هذا النص وجود تشابه كبير إيليتش وألتوسير في رؤيتهما بأن التعليم يمثل قوة إيديولوجية ناعمة تعمل لصالح طبقات بعينها، وترسخ لقيم ومبادئ هذه الطبقات.
لكن ثمة اختلاف جوهري بين إيليتش والماركسيين فيما يتعلق بالطرح الذي يقدمه كل منهما لمواجهة المخاطر الناتجة عن التعليم المدرسي، إذ لا يطالب الماركسيون بتخليص المجتمع من التعليم المدرسي كما هو الحال لدى إيليتش، بل يطالبون بوجود مؤسسات تعليمية بديلة في ظل المجتمعات المعاصرة، لا تقوم في بنيتها على أساس التفاوت، والقمع، والسيطرة كما هو حال المؤسسات التعليمية البرجوازية، بل تعمل على الطلاب بالأنماط الاشتراكية للتنظيمات والعلاقات الاجتماعية العادلة، وهذا تطوير وعي ما يؤكده مايك كول Mike Cole في كتابه الماركسية ونظرية التعليم عندما يقول: " سيكون الاهتمام الأعظم للتعليم هو تطوير الوعي الاشتراكي " (2).
لكن لا يرى إيليتش فروقا جوهرية في طبيعة التعليم المدرسي بين النظامين البرجوازي والاشتراكي، فبنية المدرسة ومناهجها موسومة بالاستبداد والتفاوت مهما اختلفت الأنظمة، فهي من إنتاج الأنظمة السائدة وتعمل على تحقيق مصالحها. لذا " لا يهم إن كان المنهج مصمما لتعليم مبادئ الليبرالية أو الاشتراكية أو الفاشية. ولا يهم إن كان هدف المدرسة هو تخريج مواطنين سوفييت أو أمريكان طالما أن الأنظمة لا تضفي قيمة
الهوامش:
الصفحة 356
على المواطن إن لم يكن حاصلا على شهادة (1'). إن ما يشدد عليه إيليتش في هذا النص هو استحالة أن يحقق التعليم المدرسي العدالة والمساواة بين المواطنين، فالمدرسة الوعاء الذي يتشكل بداخله الامتياز والتفاوت بين البشر، فهي جزء لا يتجزأ من أي نظام وتعمل لصالحه، ولهذا ينتهي إيليتش إلى رأى حاسم لا ريب فيه وهو أن النظام المدرسي يعد خطوة على طريق الأنظمة الشمولية والاستبدادية، وهذا ما يعلنه بوضوح قائلا: " إن المحافظة على نظام المدرسة يشكل خطوة جادة على طريق الفاشية الموحى بها بواسطة نظام يعقلن التمييز الهائل الناتج عن التعليم المدرسي " (2).
بينما يحمل إيليتش المدرسة المسئولية عن التفاوت الطبقي، نجد أن هاري بريجهاوس Harry Brighouse لا يرجع هذا التفاوت إلى بنية المدارس ومناهجها، بل يخلي مسئولية المدارس عن غياب العدالة الاجتماعية والمساواة بين المتعلمين وغير المتعلمين، ويرجع هذا التفاوت إلى عجز الدولة والأنظمة القائمة وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات مواطنيها، فإلقاء اللوم على المؤسسات التعليمية أو المناهج الدراسية يخفي الأسباب الحقيقية المسئولة عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية البائسة التي تؤدي إلى تفشي الظلم والجهل والجريمة وهو ما يحذر منه بريجهاوس قائلا: " إن العقاب على اقتراف الجرائم يتضمن إنكارا للحقوق غير المغتربة التي أخفقت الدولة في أن تقدمها لتعليم مواطنيها، لتجعلهم يصلون إلى مستوى يتجنبون معه البطالة والانحطاط الاجتماعي("3).
ليس بريجهاوس وحده من يبرأ ساحة المدارس من المسئولية عن غياب العدالة والمساواة بين البشر، بل يتفق معه أيضا عالم الاقتصاد الأمريكي صامويل باولز Samuel Bowles الذي يرفض تصورات إيليتش لأنها تغض الطرف عن السياق الاقتصادي الذي تنشأ فيه المدارس. ويؤكد باولز على أنه لا سبيل لتغيير التعليم إلا بالقضاء على الاقتصاد الرأسمالي القائم في جوهره على الاستغلال والتفاوت، فمحاولات تقديم نموذج تعليمي جديد قبل الإطاحة بالرأسمالية لا طائل من ورائها؛ لأنها تحاول
الهولمش :
الصفحة 357
معالجة العرض دون المساس بأصل المرض المتمثل في شرور الرأسمالية، وهذا ما يبرزه باولز قائلا:" أخفقت حركة الإصلاح التعليمي بسبب رفض مساءلة السلطة والملكية في الاقتصاد الرأسمالي (..) فالمفتاح للإصلاح التعليمي الحقيقي هو التحول الديموقراطي للعلاقات الاقتصادية " (1).
بالتأكيد، لن ترق تصورات بريجهاوس وباولز لإيليتش المؤمن دائما بوجود صلة وثيقة بين التعليم المدرسي والانحطاط الاجتماعي. فإصلاح الأوضاع يبدأ لديه بإلغاء المدارس، فهي الخطوة الأولى للتخلص من الشرور الاقتصادية والاجتماعية السائدة وليس العكس؛ ولهذا يطالب إيليتش بسن قوانين تعمل على القضاء على المدارس، وما يترتب على وجودها من آثار بالغة السوء، كالتفاوت الطبقي وغياب العدالة والمساواة. وفي هذا الصدد يقول إيليتش: " يجب سن القوانين التي تمنع التفاوت على أساس التعليم (..) فحماية المواطن من أن يكون غير مؤهل لشغل وظيفة ما بسبب المدرسة، يجعل من إلغاء المدارس اتجاها ضروريا " (2).
على أية حال، لا تتوقف خطورة التعليم المدرسي عند تكريس التفاوت الطبقي وإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، القائمة، بل يضيف إيليتش بعدا سلبيا جديدا للتعليم، ويتمثل هذا البعد في أن المدارس تربي النشء منذ صغرهم على الامتثال
والخضوع للسلطة.
4- التعليم المدرسي والسلطة :
يرى إيليتش أن التعليم المدرسي يقوم في جوهره على ترقية مبدأ السلطة الأعلى للمعلمين، والتي يجب أن يذعن لها الآخرون، فالعلاقة بين المدرسين والطلاب، من وجهة نظر إيليتش، ليست علاقة بين ذوات متفاعلة ومتشاركة في صنع العملية التعليمية، بل هي علاقة الوصي والمرشد والمتخصص بالقاصر الذي لا إرادة له، ولا قدرة له على الاختيار أو التمييز بين الصواب والخطأ . هذه العلاقة التي يمارس من خلالها المدرسون السلطة على الطلاب تعطي لهم الحق في اقتحام أخص خصوصياتهم وانتهاكها تحت اسم
الهوامش:
الصفحة 358
الوصاية والإرشاد. وهذا ما يميط عنه إيليتش اللثام "قائلا: المدرسون هم الوحيدون المخول لهم التنقيب في الشئون الخاصة لطلابهم، كما لو كانوا يتعاملون مع جمهور من الأسرى "(1) .
ولا يتوقف إيليتش عند الكشف عن سلطة المدرسين، بل يمضي لأبعد من ذلك عندما يقوم بحصر أشكال السلطات المتعددة التي يمارسها المدرسون على الطلاب، إذ تتنوع سلطتهم ما بين سلطة أخلاقية تحدد لهم معايير الخير والشر، والصواب والخطأ، والحق والباطل. وفي هذه الحالة يفرض المدرسون رؤيتهم وتصوراتهم الخاصة للقيم الأخلاقية على الطلاب. وهناك أيضا السلطة النفسية التي يمارسها المدرسون على الطلاب وأولياء الأمور عندما يحددون بالنيابة عنهم أنسب الطرق التي تؤدي إلى تطوير الحياة الشخصية للطلاب وأفضل المناهج التي يرونها مناسبة للارتقاء بهم عقليا ونفسيا " فأمام سلطة المدرسين يصبح التلاميذ بلا حماية(2).
إن استغلال المدرسين لسلطاتهم، يجعل من وجود المدرسة عقبة في طريق الممارسات الليبرالية أمام الطلاب ويحول دون تحقيق المبادئ الراسخة لحماية الحقوق والحريات الفردية؛ لذا فالمدرسة والليبرالية من وجهة نظر إيليتش، على طرفي نقيض. وهذا ما يؤكده قائلا المطلب بأن المجتمعات الليبرالية يمكن تأسيسها على أعتاق المدارس الحديثة هو مطلب ينطوي على مفارقة، فكل الوسائل لحماية الحريات قد تم إلغاؤها في تعامل المدرسين مع الطلاب (..) فسلطات المدرسين تساهم في تشويه الطلاب أكثر من القوانين التي تحد من حريتهم في الاجتماع والمسكن " ("3). إن ما يحذر منه إيليتش في هذا النص هو أن طغيان سلطة المدرسين على الطلاب تمنع استقلالهم الذاتي، وتغرس فيهم قيم التبعية والخضوع الدائم للسلطات. فتربية النشء على الخضوع لسلطات المدرسين هي الركيزة الأولى لإعداد مواطن يخضع للسلطات السياسية والاجتماعية فيما بعد.
ليس إيليتش وحده من ينبهنا إلى خطورة سلطة المدرسين على المجتمعات
الهوامش:
الصفحة 359
الليبرالية، بل يتفق معه أيضا بول هـ. هيرست Paul H. Hirst الذي ينطلق في تعريفه للتعليم الليبرالي من أنه " التعليم الذي لا يخضع لبلوغ أي غاية أخرى سوى الاستقلال العقلي والشخصي للطلاب " (1). وهو ما لا يتحقق في ظل أنظمة التعليم الراهنة بسبب سيادة النزعات السلطوية لدى المدرسين.
لكن إذا كان إيليتش يقرن بين التعليم المدرسي وغياب الليبرالية، فهناك تيار مناهض لأفكار إيليتش تمثله أطروحات برتراند رسل شيخ الليبراليين المعاصرين، الذي لا يقيم تعارضا بين التعليم المدرسي ومبادئ. الليبرالية. صحيح أنه يحذرنا كثيرا من المخاطر المتأصلة في عملية التعليم مثل تربية النشء على الخوف، والخضوع لسلطة المدرسين الذين أصبحوا بدورهم موظفين في الدولة، ينفذون أوامرها التي تمليها عليهم، إلا أنه يشدد أيضا على ضرورة منح قدر من السلطة للمدرسين، لكن السلطة التي يقصدها رسل ليست قائمة في جوهرها على الاستبداد وقمع حريات الطلاب كتلك التي يتحدث عنها إيليتش، بل أنها تشبه السلطة الأبوية في حبها واعتنائها بموضوعها، وبفضل ممارسة هذه السلطة الرشيدة يعزو رسل للمدرسين دورا جوهريا في الارتقاء والنهوض بالحضارة، يقول رسل: " المدرسون هم حراس الحضارة أكثر من غيرهم (...) ولا يمكن لإنسان أن يكون مدرسا جيدا إن لم يمتلك مشاعر حب جياشة تجاه تلاميذه، وإن لم يمنحهم القيم التي يؤمن بها " (2). وهكذا نخلص إلى أنه إذا كان للمدرسين دور هدام لدى إيليتش، لكونهم مصدرا للتشويه العقلي والنفسي للطلاب، فدورهم الإيجابي والبناء لا يمكن إنكاره لدى رسل، والذي لا يرى غضاضة في الجمع بين سلطتهم المحدودة وآليات عمل المجتمعات الليبرالية.
ولا يعد رسل وحيدا في المطالبة بضرورة منح المدرسين قدرا من السلطة، بل يتفق معه أيضا فيلسوف التربية الإنجليزي ريتشارد ستانلي بيترز R.S Peters الذي يرى أن قدرا من السلطة ضروري باعتباره مصدرا للتوجيه والإرشاد لا للسيطرة والتحكم. ويمضي بيترز لأبعد من ذلك حينما يطالب بتأجيل إعطاء الحرية للصغار حتى تنضج عقولهم أثناء عملية التعلم وتحصيل المعرفة، حيث " يجب إرجاء الحرية في حالة الأطفال لتصبح
الهوامش:
الصفحة 360
فيما بعد حرية أعظم (...) فالسلطة ضرورية، وليست معارضة لمصلحة الطلاب الذين يوشكون على الدخول في أشكال الحياة المتنوعة " (1). إن ما يشدد عليه بيترز في هذا النص هو أن تأجيل منح الحرية للأطفال ينبع من قصورهم وافتقادهم إلى القدرة على التمييز بين الأشياء، فهم في حاجة إلى وصي أو مرشد لكي يأخذ بأيدهم على الطريق الصحيح.
أما دوركايم فلا يذهب إلى أن السلطة هي مجرد جزء من عملية التعليم، بل يميل إلى الاعتقاد بأن السلطة هي العنصر الجوهري الذي لا غنى عنه، فمن دونها لا يمكن أن تساهم عمليات التعليم بقدر فعال في التنشئة الاجتماعية. ولهذا يطالب دوركايم بضرورة منح المدرسين سلطة أخلاقية على الطلاب كي يغرسوا فيهم قيم الطاعة والانضباط والصرامة، فهذه القيم هي التي تخلق فيما بعد مواطنين يتمتعون بالحرية والإرادة المستقلة فالحرية واستقلال الإرادة لدى دوركايم نتاج للانضباط ورغم تأكيده على أهمية السلطة فلا يقصد دوركايم أن تكون سلطة المدرسين على الطلاب سلطة قهرية واستبدادية، بل لابد أن يقلل من حدتها الحنان حتى لا تتحول إلى نوع من القسوة والجفاء، وهذه ما يطالب به قائلا:" إن السلطة هي الصفة الأساسية للمعلم، وليس ذلك لأنها تحقق النظام الخارجي فحسب، بل لأن عليها تتوقف الحياة الأخلاقية في الفصل (...) وهل بنا من حاجة لأن نؤكد أننا حين نتكلم عن سلطة المعلم وعن دور هذه السلطة، فلسنا نعني بأي حال أنه يجب أن يقود الفصل كما تُقاد الكتيبة العسكرية ؟ " .(2). فلا مجال، إذن، لدى دوركايم للتعارض بين سلطة المدرسين وحرية المجتمعات، فالانضباط هو السبيل لبلوغ الحرية المسئولة.
ومن جهتنا نميل إلى الاعتقاد بأنه لا تعارض بين السلطة ومبادئ الليبرالية فسلطة الحد الأدنى على حد تعبير أئمة الليبرالية مثل: لوك ومل ورسل وبوبر... مطلوبة لحماية الحريات الفردية والاستقلال الشخصي، وتسيير شئون الأفراد والمجتمعات، فغياب سمة من سمات المجتمعات الفوضوية وليست الليبرالية. أما فيما يتعلق بعلاقة
الهوامش :
الصفحة 361
المدرسين بالطلاب ووسم هذه العلاقة بالسلطة الاستبدادية كما هو الحال لدى إيليتش، فهو في تصورنا توصيف يجانب الصواب، فالعلاقة بين المدرسين والطلاب ليست قائمة في جوهرها على ممارسة السلطة المطلقة، بل أنها مقترنة بحقبة زمنية محددة، يلتقي بعدها الطلاب بالمجتمع وبالمجال العام ليكتسبوا معارفا وحقائقا جديدة، ويمارسون أشكالا جديدة من السلوك، فهذه العلاقة ليست مبنية على السلطة بقدر ما تقوم على العناية بالذوات الصغرى والمسئولية عنها، هذه الذوات التي تحمل كل إمكانيات الوجود الفعال بالقوة، وتحتاج إلى كل مقومات الرعاية حتى تتحول إلى ذوات مستقلة وفاعلة، ولن يتسنى لها هذا إذا تُركت لشأنها من دون رعاية وتوجيه وإرشاد.
ومن جانب آخر، فإننا نعتقد أنه في كل الأنظمة سواء أكانت ليبرالية أم شمولية ما كان لعملية تلقين وغرس أفكار بعينها أن تتم بواسطة الممارسات السلطوية والتعسفية، لأن هذه الممارسات تولد في نفوس الطلاب قدرا من الكراهية والتمرد، فمحاولة إدماج الطلاب في النظام وتشربهم بأيديولوجيته لن تحدث إلا عن طريق الإقناع، وليس بواسطة فرض الرأي بالقوة أو بممارسة السلطة، وقد عبر رسل بعبارة شديدة الإيجاز، لكنها بالغة الدلالة عن أن استخدام القوة والعنف مع الأطفال لن يؤد إلى النتائج المرغوبة، بل يأتي دائما بنتائج عكسية " فالأطفال المجبرون على الطعام يكرهون الطعام، والأطفال المجبرون على التعليم يكرهون المعرفة (1).
-5احتكار المعرفة.
يضيف إيليتش إلى العيوب السابقة التي يعزوها إلى التعليم المدرسي عيبا جديدا وهو احتكار المدارس للمعرفة، إذ يروج المدرسون والقائمون على السياسات التعليمية أن المدارس هي المؤسسات الوحيدة القادرة على إنتاج معارف ذات قيمة، فالتعليم الحقيقي والفعال هو نتاج للحضور المدرسي، وأن كل المحاولات لتحصيل المعرفة خارج إطار المؤسسات التعليمية لا جدوى من ورائها، بل يجب مقاومتها والتصدي لها، لأنها نتاج للهواة وغير المتخصصين. هذا التوجه السائد في أنظمة التعليم المعاصرة هو ما يبرزه
إيليتش قائلا:" يحدد المدرسون للمجتمع ما الذي يجب تعلمه، ويصنفون كل ما يتم تعلمه
الهوامش :
الصفحة 362
خارج المدرسة على أنه بلا قيمة " ( 1).
لقد أصبحت المدارس، من وجهة نظر إيليتش، أشبه بالمشاريع الرأسمالية الاحتكارية التي تستغل المستهلكين المتعلمين)، وأصبحت المعرفة أشبه بالسلعة التي تُباع وتشترى، ولا تسمح هذه المؤسسات التعليمية الاحتكارية بأي شكل من أشكال المنافسة، بل تسعى إلى القضاء على من يسعون إلى تحصيل المعرفة بطرق أخرى غير المدارس، فهي تقيد من فرصهم طالما أنهم غير حاصلين على شهادات مدرسية معتمدة تقيس مقدار ما تعلموه في المدارس، فيتم تهميشهم ،اجتماعيا، وإقصاؤهم اقتصاديا هذا النزوع للتقليل من قيمة التعليم غير المدرسي هو ما يكشف إيليتش النقاب عنه قائلا:" يوسم التعليم القائم بالاعتماد على الذات بالسطحية وعدم المصداقية(2).
لاقت عملية تحول المعرفة إلى سلعة قابلة للاحتكار، الكثير من الانتقادات التي تنطلق من فكرة أن السلعة هي أحد أشكال الملكية الخاصة التي تعطي لصاحبها الحق في استثناء الآخرين من استخدامها بدون مقابل، وإذا انتقلنا بمفهوم السلعة إلى مجال التعليم، سيؤدي هذا إلى الحد من انتشار المعرفة واحتكارها لتحقيق الحد الأقصى من الفوائد. لذا يرفض جون أونيل John Neill الهبوط بالمعرفة إلى مستوى السلعة، فالمعرفة ليست أحد أشكال الملكية الخاصة، بل أنها ملكية عامة وميراث مشترك للبشرية، ولهذا لا يمكن أن تنسحب قوانين الملكية الخاصة بأي حال على المعرفة " فنظرية النسبية لأينشتين ليست ملكا لفرد خاص، بل ملكية مشتركة " (3).
لكن إذا كان أونيل ينطلق من الأبعاد الاقتصادية في رفضه لاحتكار المعرفة، فإن إيليتش يشدد على أبعاد أخرى وهي خطورة هذا الاحتكار على خيال الإنسان وعقله. فهو عقبة كئود أمام مبادرات الإنسان الحرة في تحصيل المعرفة، ويشل قدراته العقلية والإبداعية، ويجعله تابعا يعتمد على المؤسسات التي تستغله في كل شيء. وينتهي إيليتش إلى رأي حاسم يصف به ممارسات هذه المؤسسات التعليمية الاحتكارية بأنها " أقرب إلى
الهوامش :
الصفحة 363
سلوك العصابات والمافيا " (1).
إن مكمن الخطورة في الأنظمة التعليمية الراهنة هو أنها تتعامل مع المعرفة والتعليم على أنهما سلعتان مطروحتان للاستهلاك، لا يجب أن يفلتا من قبضة السوق في المجتمعات الرأسمالية والاستهلاكية، ويوضح إيليتش الآلية التي تتم بواسطتها إنتاج هذه السلعة المسماة بالتعليم وكيفية وتوزيعها ، فيقول : يبدأ إنتاج المناهج بالبحث العلمي الذي يتبناه المهندسون التربويون، انطلاقا من تنبؤهم بمطالب المستقبل، وفي حدود الميزانية المقررة، ثم تبيع المدارس المناهج التي هي عبارة عن حزمة من المعلومات، إذ يسلم المدرس - الموزع - المنتج النهائي للطالب المستهلك " .(2). هكذا، تتحول عملية إنتاج المعرفة والمناهج الدراسية إلى صناعة هدفها الأول والأخير هو الربح، وإنتاج ما يحتاجه السوق من متطلبات، بغض النظر عن قيمة هذه المعرفة.
وكلما زاد استهلاك الطالب للسلع التي تنتجها المؤسسات التعليمية، كلما ارتفعت أسهمه في سوق العمل، فحصوله على شهادة معتمدة تفيد امتلاكه لهذه السلع المعرفية هو الضامن لحياة أفضل ولمستوى معيشة أرقى " فبقدر ما يستهلك الفرد من تعليم، بقدر ما يحصل على مخزون أكبر من المعرفة التي تجعله يرتقي في سلم الهيراركية الرأسمالية والسمو الاجتماعي " (3).
إن اقتران الحصول على السلع المعرفية بالرقي الاجتماعي والازدهار الاقتصادي يجعل من وجود المؤسسات التعليمية مطلبا جماهيريا، وسوقا كبيرا لاستقبال الزبائن الطموحين إلى المزيد من التقدم ولا تترك هذه المؤسسات عملية جذب الزبائن للصدفة أو لرغبات الأفراد، بل تفرض عليهم اللحاق بهذا السوق عندما ترسخ في عقولهم أن الحصول على المعرفة هو مفتاح الخلاص الدنيوي بالنسبة لهم، إذ " تدفع المدارس الطلاب إلى استهلاك المناهج والمعارف الأكثر ، والتقدم للمستويات الأعلى، أنها تعلمهم مطابقة رغباتهم مع قيم السوق والرفاهية " (4).
وينتهي إيليتش من تحليله الاقتصادي لظاهرة المدرسة إلى أنها لا تختلف في
الهوامش :
الصفحة 364
بنيتها عن المشاريع والاستثمارات الرأسمالية الكبرى التي تهدف إلى تحقيق الحد الأقصى من الأرباح " فالمدرسة هي المثال الأفضل على وجود نوع جديد من المشاريع خلفا للمصانع والشركات " .(1). تختلف السلع التي تنتجها المؤسسات التعليمية عن السلع الأخرى في أنها سلع غير مادية، وغير مرئية، لكنها تضفي على هذه السلع قيمة هامة عندما تربطها بالحياة الأفضل ومستوى المعيشة الأعلى.
لقد استطاعت المؤسسات التعليمية أن تخلق لدى البشر دافعا ذاتيا للإقبال على التعليم، فلم يعد التعليم مفروضا على البشر بواسطة القوانين الإلزامية، بل أصبح هدفا يسعى الجميع لبلوغه لتحقيق سعادتهم ورفاهيتهم. فالبشر يتسارعون للحاق بالمدارس بسبب ارتفاع مستويات الاستهلاك والرفاهية لمن يحظون بامتلاك الشهادات الدراسية الأعلى للدرجة التي أصبحوا يمثلون معها نموذجا يسعى الكـل إلى محاكاته فـي المجتمعات المعاصرة، إذ " يحدد الاستهلاك الذي يستهلكه خريجو الجامعات في كل بلد معيار استهلاك الآخرين، فالكل يطمح في نفس معدل استهلاك خريجي الجامعات " (2). وبالتالي، تلعب الجامعة دورا كبيرا في فرض معايير للاستهلاك، وهو ما يعد تعضيدا لاستمرارية الرأسمالية، فكلما ازدادت الفجوة بين خريجي الجامعات وغير المتعلمين في معدلات الاستهلاك، كلمـا انـدفـع غير المتعلمين إلى التعليم للحاق بنفس المستوى الاستهلاكي.
لكن يرفض إيليتش هذه النظرة ويؤكد في مقابل إيديولوجيا المؤسسات الاحتكارية على أن معظم المعارف يتم تحصيلها واكتسابها خارج المدرسة ومن دون مساعدة المدرسين " لقد تعلمنا معظم معارفنا خارج المدرسة، وينجز الطلاب القدر الأكبر من تعلمهم بدون مدرسيهم وخارج العملية التعليمية المخطط لها (..) إذ يتعلم الإنسان كيف يفكر ويعيش ويحب ويشعر بدون المدارس " .(3). إن ما يشدد عليه إيليتش في هذا النص. أنه ليس للمدرسة ولا للمدرسين فضلا كبيرا في اكتساب الطلاب لمعارف أو مهارات جديدة، فخبراتهم ومعارفهم تنتج من تفاعلهم مع الأسرة، ومع الرفاق، وفي المجتمع الذي
الهوامش :
1--ibid., p:48
2- ibid., p : 35
3-ibid, p:29
الصفحة 365
يعيشون فيه، فهؤلاء هم المصدر الأساسي الذي يستمد منه الطلاب معارفهم وقيمهم. كذلك نلاحظ في النص السابق أن إيليتش يعطي الأولوية للحياة والحب والمشاعر على تعلم العلوم الطبيعية والرياضية، التي لا يرد ذكرها لديه كثيرا، ولا يعني هذا أنه يغفل دورهما في الرقي والتقدم، لكنهما يحتلان لديه مكانة ثانوية إذا ما تمت مقارنتهما بترقية مشاعر الحب والحياة.
ولا يتوقف إيليتش عند دحض إيديولوجيا احتكار المعرفة، بل يمضي لأبعد من ذلك عندما ينظر إلى المعارف التي تقدمها المدارس والمدرسين على أنها تفتقر إلى الدقة والكفاءة التي يحظى بها غير المتخصصين في الكثير من الفروع المعرفية " فمعظم الفنون والحرف أقل مهارة وإبداع من الحرفي الأصلي، كما أن معظم مدرسي اللغات الاسبانية والفرنسية لا يتحدثون اللغة بطلاقة ودقة كما يتحدثها طلابهم بعد نصف عام من التدريب الكفء (1).
افتقاد الكثير من المدرسين إلى الكفاءة والمعرفة الموسوعية هو ما جعل الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير Jacques Ranciere يدعو في كتابه المدرس الجاهل إلى ضرورة الاعتراف بالجهل المشترك بين الطلاب والمدرسين لتقويض فكرة احتكار المدرسين للمعرفة الدقيقة. فهو يرى أن هذا الاحتكار ينتج عنه علاقة غير متساوية بين المدرسين والطلاب، هذه العلاقة رغم أنها تشوه عملية التعليم برمتها إلا أنها قد تم الاحتفاء بها بدلا من تفكيكها، وهذا ما يوضحه رانسيير بالمثال التالي قائلا : " عندما يسأل الطالب مدرسه عن شيء ما لا يعرفه سيجيبه المدرس أن هذا السؤال سابق لأوانه، أو أنك لم تفهم الدرس جيدا، أو أنك سوف تأخذه في مقررات السنة الدراسية القادمة " (2). يشير رانسيير في هذا النص إلى غطرسة المعلمين واعتقادهم بأنهم وحدهم الذين يحتكرون المعرفة التي لا يمكن لأحد غيرهم أن يمتلكها. لكن ما يريده رانسيير هو أن تقوم عملية التعليم على المعرفة المتبادلة والبحث المشترك بين المدرس والطالب، لا أن تقوم على الاستعلاء والتباهي المزعوم بامتلاك واحتكار ما لا يعرفه الآخرون.
الهوامش :
الصفحة 366
على أية حال، إن تصدي إيليتش لاحتكار المعرفة ليس مجرد تأمل فلسفي، بل حركة ثورية تتطلب حشد الجهود للتحرك على مستويين: الأول، هو السعي لإنارة وعي الأفراد بزيف هذه الإيديولوجيا، وحثهم على التعلم الذاتي والحر، ثم اتساع دائرة الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي تمهيدا للمطالبة بالتخلص من ظاهرة المدارس، وما تنتجه من آثار ضارة على المستويين الفردي والاجتماعي هذه الخطوة الأولى هي ما يطالب بها إيليتش قائلا:" كل منا مسئول شخصيا عن تحرره من المدرسة ولا أحد يتم عذره إذا أخفق في هذا " (1).
أما الخطوة الثانية فتتمثل في اتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية لدعم المبادرات الفردية للتعليم الحر بواسطة الإجراءات القانونية والتشريعية، بحيث يصبح القانون هو الضامن لحرية التعليم، وتصبح قوانين منع الاحتكار قوانينا ملزمة للجميع ولا يجب انتهاكها، وأن تتشكل أحزاب سياسية تتبنى مطالب التعليم الحر والغاء المدارس، وهذا المطلب هو ما يعلنه إيليتش قائلا: " ينبغي تعديل الدستور بحيث يمنع احتكار التعليم المدرسي " (2).
على أية حال، إن الدور الذي تعزوه المؤسسات التعليمية لنفسها في الارتقاء بالبشر اقتصاديا واجتماعيا، وفي تحقيق خلاصهم الدنيوي، جعل إيليتش يرى أن ثمة تشابه بين دور المدرسة والمدرسين في عصرنا الراهن ودور الكنيسة ورجالها في العصور الوسطى، فمثلما كان الانتماء إلى الكنيسة هو الضامن للخلاص الأبدي، كذلك فإن الانتماء إلى المدرسة هو الضامن للتخلص من الفقر والجهل، وهو السبيل للانتماء إلى جماعة المتعلمين الذين يحظون بكل الامتيازات، فإذا كانت الكنيسة هي بوابة العبور إلى مملكة السماء، فإن المدرسة هي بوابة الالتحاق بالمملكة الأرضية، وهذا ما يبرزه إيليتش قائلا: " حلت المدرسة محل الكنيسة (..) وأصبحت أكثر صرامة مما كانت عليه شعائر الكنيسة في الأيام الأسوأ لمحاكم التفتيش " (3).
ثمة سؤال يطرح نفسه وهو: أنه إذا كانت المدارس، بالنسبة لإيليتش، تمثل امتدادا
الهوامش :
الصفحة 367
للاستبداد الديني الذي كان سائدا في العصور الوسطى، بل وبذرة للتفاوت الطبقي وتكريس للسيطرة والاستغلال، فلماذا لا يثور عليها البشر ويتحرروا منها كما تحرروا من السلطات الدينية والسياسية في العصور السابقة؟ ولماذا لم يقوموا بتحطيمها كما حطموا سجن البساتيل رمز الاستبداد والقهر؟
يرى إيليتش أن هناك سببين يعوقان عملية القضاء على المدارس والتحرر منها، يرجع السبب الأول إلى أنه قد ترسخ في الوعي الجمعي أن التعليم هو السبيل إلى الرقي الحضاري والثقافي، وإلى سمو الأفراد والمجتمعات، وأنه لا غنى عن المدارس في أي مجتمع متمدن ومتحضر، فلم تكن المدارس أبدا رمزا للقهر مثل السجون والمعتقلات. ولهذا السبب نجد أن كل الانتقادات التي يتم توجيهها إلى السياسات التعليمية عامة، وإلى المدارس والجامعات خاصة ، يكون غرضها هو تحسين وتطوير أداء هذه السياسات، ومحاولة تلافي العيوب النفسية والاجتماعية الناجمة عنها، ولهذا تختفي تماما الأصوات المطالبة بالثورة على المدارس والدعوة لإلغائها، ولا يتم تمثيلها على المستوى التشريعي أو السياسي، فالمطالبة بإلغاء المدارس مرادفة للعودة إلى المجتمعات البربرية، وفي نظر إيليتش يحدث نوع من الإحراج الاجتماعي لمن يرفع مثل هذا الشعار، وهذا ما يؤكده قائلا: " إن الإنسان الذي يشكك في الحاجة إلى المدارس يتم الهجوم عليه واتهامه بالقسوة البربرية(1) .
أما السبب الآخر الذي يعوق عملية التحرر، فيعود إلى إرادة الأنظمة التعليمية وقدرتها على تزييف وتضليل الوعي الفردي والتلاعب به من خلال ما يسميه إيليتش المناهج الخفية "، إذ تعمل هذه المناهج بطريقة ضمنية لتحقيق أهداف الأنظمة القائمة، إذ ترسخ في عقول المتعلمين أنهم أحرار، وأن الأنظمة تعمل على صيانة حرياتهم والدفاع عنها، فتحدث بذلك تماهيا بين مصلحة الأفراد ومصلحة الأنظمة.
-6 المنهج الخفي :
عند مقاربة المنهج الخفي عند إيليتش سنجده لا يقدم له تعريفا واضحا، بل يتوقف عند الكشف عن آليات عمله من خلال عرض دوره الوظيفي في المنظومة التعليمية، وهو
الهوامش:
الصفحة 368
ما يمكنه من أن يضع يديه على دوره في تزييف الوعي، ودوره في تكريس هيمنة النظام القائم. لكن قبل ذلك، لابد أن نوضح أن المنهج الخفي هو النقيض التام للمنهج الواضح أو العلني، هذا المنهج الذي يعرفه كريستوفر وينش Christopher Winch بأنه " الخطة أو الاستراتيجية الموضوعة لإنجاز الأهداف التعليمية التي تتنوع ما بين عمليات صياغة المعرفة، وتطور الاستقلال الشخصي، وتطور المهارات والاتجاهات بطريقة عمدية وواضحة " (1). يشير وينش في هذا النص إلى أن المنهج العلني هو عبارة عن تصورات واعية، تتسم بوضوح الهدف والرؤية اللذين تضعهما المؤسسات، ويجب أن يلتزم بتنفيذهما القائمون على العملية التعليمية لبلوغ الأهداف المرجوة.
أما المنهج الخفي فلا يتم التخطيط له علانية، ولا يوضع بطريقة واعية وصريحة أمام القائمين على تنفيذ السياسات التعليمية سواء أكانوا مدرسين أم مديرين. أنه بالأحرى نتاج لتوجهات وإيديولوجيات غير معلنة يريد أن يغرسها النظام في عقول الطلاب بواسطة التعليم. ويعمل هذا المنهج بطريقة مستقلة عن وعي الأفراد وإرادتهم، فهو الذي يخضعهم لأهدافه وليس العكس، وهذا ما يوضحه إيليتش قائلا: " يؤسس المنهج الخفي سياقا للتعليمات التي تعمل فيما وراء تحكم المدرس أو مجلس المدرسة " (2).
ولا يقف إيليتش عند كشف طريقة عمل المنهج الخفي فحسب، بل يوضح متطلباته التي يمكننا أن نحدد انطلاقا منها أهدافه المستترة، حيث يتطلب المنهج الخفي أن " يجتمع طلاب مرحلة عمرية محددة، في مجموعات مؤلفة من ثلاثين طالب، تحت سلطة مدرس متخصص لعدد كبير من مرات الحضور، وأن يحضر المتعلم الحد الأدنى لسنوات الدراسة كي يحصل على حقوقه المدنية " (3). يتضمن هذا النص مجموعة محددات وهي: تحديد الفئة العمرية للمتعلمين، وأعدادهم، وعلاقتهم بالسلطة، وعدد مرات الحضور، والحقوق المدنية. وتهدف المحددات السابقة إلى تحديد أعداد المتعلمين في كل سنة بما يتطلبه سوق العمل المستقبلي، كما تهدف إلى تنشئة الطلاب على الاعتراف بوجود السلطة التي يمثلها المدرسون والتي يجب الإذعان لها وعدم مخالفتها. ويشير عدد مرات
الهوامش :
الصفحة 369
الحضور إلى ضرورة الالتزام والخضوع. فهذه هي الشروط الضرورية للعضوية في المجتمع المعاصر والتمتع بمزاياه وبدون استيفاء هذه المحددات يكون المرء عبئا على المجتمع ولا يحق له المشاركة في الحقوق التي يكفلها للمتعلمين. أن الوظيفة الجوهرية للمنهج الخفي، حسبما يراها إيليتش، هي ربط المتعلم بالأنظمة السائدة، وجعله يتماهى معها ولا يتمرد عليها، إذ " تعمل المناهج الخفية كطقس لتعليم الوجود في مجتمع الاستهلاك " (1).
ولا تختلف رؤية هنري جروكس Henry A. Giroux لوظيفة المنهج الخفي عن التصور الذي قدمه إيليتش، إذ يرى جروكس أن المنهج الخفي لا يتجلى في الأهداف المعلنة لأسس المدرسة، ولا في الموضوعات التي يطرحها المدرسون، لأنه وسيلة " للسيطرة الاجتماعية، والترقية التماثل الطبقي، إضافة إلى دوره الكبير في ارتباط الطلاب بالنظام السياسي " (2).
أما ميشيل أبل Michael Apple فيشير إلى بعد آخر مختلف عما قدمه جروكس، وهو أن المنهج الخفي لم يعد مجرد حيلة تستخدمها الأنظمة لتدجين الطلاب وتربيتهم على الخضوع للسلطة فحسب، بل يكمن دوره الأكثر خطورة في تهيئة الطلاب لقبول الامتيازات الطبقية، وسيطرة طبقة على باقي الطبقات وبالتالي، لم يعد المنهج الخفي وسيلة لتحقيق التجانس الاجتماعي والسياسي، بل أصبح دوره هو فرض التكيف مع الأوضاع الاجتماعية السائدة واعتبارها أمرا طبيعيا. فالمنهج الخفي " عنصر مهم في الإبقاء على الامتيازات الاجتماعية السائدة، وفي الإبقاء على المصالح التي غالبا ما تكون مصالح للفصيل الأقوى من السكان " (3).
على أية حال، إن اتفاق العديد من المفكرين على خطورة التعليم المدرسي ومناهجه بوضعهما الراهن، لم ينتج عنه اتفاق في تشخيص الدواء اللازم لعلاج هذه المشكلة، بل نجد اختلافا جذريا بين إيليتش الذي يدعو إلى التخلص من المدارس نهائيا، وبين العديد من المفكرين الذين يطالبون بالإبقاء على التعليم المدرسي بشرط التحرر من
الهوامش :
الصفحة 370
الرأسمالية لتحقيق العدالة والمساواة والحرية الذين تلاشوا تماما في ظل الأنظمة الرأسمالية.
فإذا كان العديد من المفكرين أمثال : صامويل باوليز، وميشيل أبل، وهنري جروكس، يرون أن نقطة البداية في الإصلاح التعليمي هي تغيير النظام الاقتصادي، فإن إيليتش يرى أن التغير الاقتصادي والاجتماعي إنما يبدأ بالقضاء على المدارس. فهي النواة الأولى التي تعمل على تلبية احتياجات الرأسمالية واستقرارها من الناحيتين الايديولوجية والاقتصادية. فإذا تم القضاء على المدارس فلن تقوم للرأسمالية قائمة، فمن وجهة نظر إيليتش " يجب أن تبدأ أي حركة للتحرر الإنساني بالتخلص من المدارس " (1).
وفي حالة تحرر المجتمع من المدارس سيتأسس مجتمع يطلق عليه إيليتش اسم المجتمع المبهج Convival Society الذي لا يقوم في جوهره على تراكم رؤوس الأموال، وترقية قيم التنافس والصراع والتفاوت الطبقي، بل يقوم على ترقية قيم الاستقلال، وتأكيد الذات، والعفوية والتلقائية والإعلاء من شأن هذه القيم على حساب قيم الاستهلاك.
والسؤال الآن، كيف يمكن تحرير المجتمعات من المدارس؟ هل عن طريق الثورات العنيفة التي تطيح بالمؤسسات التعليمية عامة وبالمدارس خاصة؟ أم عن طريق إنارة الوعي بعقم التعليم المدرسي وبؤس أهدافه؟
في الحقيقة، ورغم صعوبة المهمة، يجتهد إيليتش ليقدم لنا نموذجا بديلا عن التعليم المدرسي، يعتمد هذا النموذج على ترقية تعليم حر يقوم على رغبة المتعلم في اختيار ما يتعلمه، تعليم في ذاته ولذاته تعليم يحقق لذة ومتعة المعرفة المنزهة عن المصلحة، تعليم ليس موجها لتحقيق إيديولوجيات الأنظمة، ولا إلى التلاعب بالبشر وتضليل وعيهم لتحقيق مصالح طبقة على حساب باقي الطبقات الأخرى. والسبيل لبلوغ هذا النموذج التعليمي الجديد ليست الثورات العنيفة، والدامية، فإيليتش يرفض اللجوء إلى العنف كوسيلة للتغيير: " فالثورات ضد المدرسة ليست مرعبة (..) ولن يكون التحرر من قبضة المدارس مصحوبا بالدماء (2).
إن الثورة التي يريدها إيليتش هي ثورة ثقافية ثورة في الوعي البشري ضد المؤسسات التي تقدم خدماتها إلى الجمهور على أنها سلع يجب اقتناؤها، ثورة ضد
الهوامش :
الصفحة 371
الممارسات الاحتكارية للمعرفة والأدوات ثورة تهدف إلى " تغيير الواقع الشخصي والعام، وتجدد رؤيتنا لما ينبغي أن تمتلكه وتريده الموجودات البشرية " (1). نلاحظ في هذا النص أن ثورة الوعي التي ينشدها إيليتش تهدف إلى تغيير علاقة البشر بالملكية وعالم الأدوات اللتين أصبحتا بمثابة الأوثان التي خلقها البشر ثم خروا لها ساجدين، واعتبروها مصدرا لشعورهم بالسعادة والطمأنينة والاستقرار، لكن بدلا من يتحكم البشر في توجيهها لغايات إنسانية، أصبحت هي التي تتسيد عليهم، وتتحكم فيهم، وتوجههم حيثما تريد رغما عنهم ودون إرادتهم. ولهذا يدعو إيليتش إلى قلب وعكس هذه العلاقة، بحيث يسترد الإنسان ذاته المستلبة في الأدوات، والخطوة الأولى لبلوغ هذا الغرض هو التحرر من الوعي الزائف الذي تم غرسه في عقول الأفراد في مراحل التعليم عن طريق المدارس.
تمهيدا لهذه الثورة، ولإثارة الوعي بمخاطر التعليم المدرسي، يطرح إيليتش مجموعة من الأسئلة التي تحفز الذهن وتدفعه إلى إعادة مساءلة ومراجعة الأمور البديهية التي كانت بمنأى عن الشك، والهدف من هذه الأسئلة المصيرية هو إظهار خطورة التحدي المفروض علينا. فيتساءل قائلا: " هل سيستمر البشر في التعامل مع التعليم على أنه سلعة يجب اقتناؤها؟ أم إننا سنسعى إلى تحقيق استقلالية المتعلم ومبادراته الخاصة في تقرير ما سيتعلمه، بدلا من أن يتعلم ما هو مفيد للآخرين؟ (2). وسينطلق إيليتش في مواجهته لهذا التحدي برسم ملامح نظام تعليمي جديد يطلق عليه اسم التعليم الشبكي.
7-التعليم الشبكي:
للوصول إلى التعليم الحر الذي يطرحه إيليتش باعتباره بديلا جديدا عن التعليم السائد، نجده يضع استراتيجية تقوم في جوهرها على ما يسميه بالتعليم الشبكي Educational Web. ولا يقصد إيليتش بهذا المصطلح التعليم عبر شبكة الانترنت، فلم تكن هذه التقنية قد تطورت آنذاك لتسمح بالتبادل الحر والمفتوح للمعارف والمعلومات كما يحدث الآن بل أن ما يقصده بالتعليم الشبكي هو تبادل مصادر المعرفة بين الأفراد وبعضهم البعض. فمن يمتلك مصدرا للمعارف ينبغي أن يجعله في متناول الآخرين، ومن
الهوامش :
الصفحة 372
يتقن مهارة ما فعليه أن يعلمها للآخرين. التعليم الشبكي عند إيليتش هو التعليم التشاركي الذي يقوم على المشاركة المتبادلة والفعالة بين الأفراد وبعضهم البعض في عملية التعلم. هذه الشبكة هي ما يوضح إيليتش هدفها قائلا: توفر الشبكة التعليمية مصادر المعرفة وتجعلها في متناول الأفراد، بحيث تضمن استقلالية وحرية المتعلم في استخدام هذه المصادر " (1). هكذا يصبح نموذج التعليم الجديد مشروعا مجتمعيا قائما على إرادة الأفراد وحريتهم، ويصبح تعليما للجميع بواسطة الجميع، فالهدف من الشبكات التعليمية هو العمل على تقويض احتكار المعرفة ومصادر التعلم وجعلها في متناول الجميع.
بجانب الأهداف السابقة للتعليم الشبكي يضيف إيليتش هدفا جديدا يتمثل في تحقيق المساواة بين البشر ، وإتاحة الفرصة لكل إنسان في أن يتعلم، فالهدف من النظام التعليمي الجديد هو القضاء على التفاوت الطبقي ومنح الامتيازات بسبب التعليم، إذ " يهدف التعليم الشبكي إلى إعطاء الفرص المتساوية للجميع في التعليم والتدريس " (2).
إن أهداف التعليم الشبكي عند إيليتش هي النقيض التام لما تقوم عليه، وتنتجه المؤسسات التعليمية الراهنة. فإذا كان التعليم المدرسي قائما على الحضور الإلزامي، وفرض المناهج على الطلاب، واحتكار المعرفة، وتكريس التفاوت الطبقي، فإن التعليم الشبكي يقوم على ترقية حرية المتعلم في اختيار أوقات التعلم، وفي اختيار المحتوى المعرفي الذي يريده، كما أنه يقوم على إتاحة مصادر المعرفة للجميع وعدم احتكارها. وبالتالي " فإن معكوس المدرسة هو شيء ممكن، فبدلا من توظيف المدرسين وإجبار الطلاب على إيجاد الوقت والإرادة للتعلم، يمكننا أن نزود المتعلم بروابط جديدة لمعرفة العالم من خلال التعليم الشبكي المطور لذاته " ("3). ويؤكد إيليتش على نفس الأهداف في موضع آخر عندما يرى أن النسق التعليمي الجديد يجب أن يرتكز على توجهات مضادة للتعليم المدرسي، يجملها فيما يلي: ((4
الهوامش :
الصفحة 373
لكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو من الذي سيتكفل بالإنفاق على تمويل هذا المشروع التعليمي الجديد؟
تتنوع مصادر تمويل التعليم الجديد وآليات تنفيذها على أرض الواقع لدى إيليتش ما بين " زيادة ميزانية التعليم إلى حدها الأقصى، إضافة إلى الاستفادة من أموال المدارس والتجهيزات المدرسية لتصب في مصلحة التعليم الجديد، وكذلك إعادة توجيه الأموال التي يتم إنفاقها على الإعلانات نحو التعليم الشبكي " ('1).
عندما نتأمل مصادر تمويل التعليم الشبكي عند إيليتش يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: كيف يمكن أن تتوفر هذه التمويلات؟ هل ستقدمها الأنظمة طواعية للحصول على نظام تعليم يؤذن بأفولها حال تطبيقه؟ أم سينتزعها المواطنون من الأنظمة بالقوة؟ في الحقيقة يتركنا إيليتش دون إجابة شافية على هذا السؤال لكننا نعتقد من مجمل فلسفة إيليتش أن توفير مصادر لتمويل التعليم الشبكي تفترض ضمنا وجود موافقة مجتمعة كبرى للضغط على الأنظمة لتوفير التمويلات اللازمة ولإحداث تعديلات تشريعية وقانونية وتأسيس أحزاب سياسية للتحرر من التعليم المؤسسي. وهذا ما نستنتجه من النص الذي يقول فيه " يجب ترجمة أهداف التعليم الشبكي إلى ضمانات دستورية وقانونية " (2).
على أية حال، يمضي إيليتش ليوضح آليات تنفيذ الشبكة التعليمية في الواقع، إذ ستمكننا التمويلات من الحصول على الأدوات التعليمية وانتشارها على نطاق واسع لخدمة المتعلمين " فالمال مطلوب لتشييد مكتبات كبيرة من أشرطة الكاسيت المسجل عليها المعارف والمعلومات، مع ضرورة وجود منافذ في القرى البعيدة تحوي أشرطة للتعليم (…) وهذه الأدوات يجب أن تتوافر في المكتبات والوكالات المؤجرة والمعامل والمتاحف والمسارح وفي أماكن الاستخدام اليومي للمصانع والمزارع لكي تكون متاحة للطلاب " (3).
إن ما يشدد عليه إيليتش في هذا النص هو ضرورة عدم تركيز الأدوات والوسائل التعليمية في أيدي أقلية تحتكرها لتحقيق مصالحها الخاصة، بل يدعو إلى انتشارها على نطاق
الهوامش :
الصفحة 374
واسع، وبدون مقابل، كي تسهل عملية التعلم لمن يريد، وفي أي وقت يريد.
ويدعو إيليتش إلى الإفادة من منجزات التكنولوجيا ودورها الرائد في تسهيل انتشار المعرفة وتبادلها، لكن لن يتسنى هذا من دون إعادة توجيه دفة التكنولوجيا وجعلها في خدمة الإنسان. فبدلا من استخدامها في زيادة السلطة والسيطرة، يجب استخدامها لزيادة قدرات البشر على التواصل والتفاعل الإيجابي والبناء مع الآخرين " فمثل هذا الاستخدام يؤسس البديل المركزي في التعليم (...) فالإلكترونيات الحديثة، ومطابع الأوفست، وأجهزة الكمبيوتر، والهواتف، يمكنها أن تقدم معنى جديدا للحرية " (1). ينضم إيليتش بهذا النص إلى زمرة الفلاسفة القائلين بحياد التكنولوجيا، فهو يرى أنه في حالة تحرير التكنولوجيا من سيطرة الرأسمالية ستكون وسيلة لتحرر البشرية وتقدمها الحقيقي، وهو بهذا يسير على خطى ماركس والعديد من الماركسيين أمثال: ماركيوز وفروم، الذين يؤكدون على أن التكنولوجيا ستكون أداة لتحرير الطبقات العاملة حال انتزاعها من البرجوازية.
هناك نقطة أخرى يبرزها إيليتش وهي أن التعليم سيحررنا من قبضة سوق العمل، ومن خدمة مصالح الأنظمة الرأسمالية، وستزدهر الفنون والآداب بعـد طـغـيـان النظرة المادية والكمية على شتى مناحي الحياة الإنسانية. سيتحول التعليم إلى فاعلية ونشاط إنساني أكثر ثراء وتنوع، وسيهدف إلى تحقيق البهجة والسعادة الشخصية، وهذا ما نستنتجه من النص الذي يقول فيه إيليتش: " مع تحرير التعليم سيتخصص البعض في الموسيقى الكلاسيكية، والآخرون في الألحان الشعبية وموسيقى الجاز، وتتنافس دور السينما الواحدة مع الأخرى، وستكون هناك شبكة لتداول الأعمال الفنية " (2).
لكننا نجد أنفسنا بصدد السؤال التالي: إذا كان التعليم الشبكي هو التعليم الحر الذي لا يخضع للرقابة أو السيطرة الاجتماعية، والذي يركز فيه إيليتش على تعلم الموسيقى والفنون والآداب، فماذا عن الفروع المعرفية الأخرى التي يحتاج إليها المجتمع لضمان تطوره واستمراره والتي تعد ضرورية لتأسيس المجتمعات الحديثة؟
تتطلب الإجابة على هذا السؤال أن نوضح في البداية طبيعة وشكل المجتمع الذي يرغب فيه إيليتش بعد تحرره من المدارس والتعليم والإلزامي. يدعو إيليتش إلى
الهوامش :
الصفحة 375
تأسيس مجتمع مبهج، وهو مجتمع بسيط من حيث بنيته، وليس معقد كالمجتمع الصناعي، يحقق الأفراد فيه احتياجاتهم بأنفسهم، وبالتعاون فيما بينهم، وليس باللجوء إلـى المتخصصين الذين يقدمون خدماتهم على أن سلع يجب شراؤها ، وتتسم احتياجات الأفراد في هذا المجتمع بأنها لا تنزع نحو الاستهلاك المفرط، والوفرة، والرفاهية " فالبهجة تشير إلى عكس الإنتاجية الصناعية، فهي تعبير عن التفاعل المبدع والمستقل بين البشر، وبين البشر وبيئتهم، وهذا بالتعارض مع المطالب المفروضة عليهم بواسطة الآخرين " (1).
إن المجتمع الذي يقترحه إيليتش المتسم بالبساطة والمحدودية، يعتمد في تطوره واستمراريته على ما يسميه إيليتش بالمهارات Skills والتي يضعها بديلا عن التخصصات السائدة في المجتمعات المعاصرة والمهارة لديه أشبه بالحرفة أو الصنعة التي يتعلمها الإنسان من أصحاب المهارات، أو يتعلمها بالاعتماد على نفسه من خلال لجوئه إلى المصادر المتوفرة للتعليم الذاتي مثل أشرطة الكاسيت أو الأفلام. ويتسع مفهوم المهارة عند إيليتش ليشمل تعلم العديد من الممارسات بداية من إصلاح الساعات والسيارات إلى تشييد المنازل، بالإضافة إلى تعلم التمريض والجراحة " فلو تم تشجيع الممرضات على تدريب الممرضات الأخريات فلن يكون هناك نقص في العاملين بالتمريض (...) فلا أرى ما يمنع تعلم المهارات المعقدة مثل الجراحة بنفس الطريقة التي نتعلم بها العزف على الكمان " (2). ويؤكد على نفس المعنى في موضع أخر عندما يقول:" ليس هناك سبب يمنع أن يكون لدى المرء القدرة على قيادة السيارة، وإصلاح التليفزيون، وأن يكون في نفس الوقت مثل القابلة " (3).
إن ما يريد أن يقوله إيليتش في النصين السابقين هو أن تعلم المهارات سيحرر المجتمع من أصحاب النزعات التخصصية ضيقة، الأفق، ومن تقييم المرء بناء على المقررات والشهادات التي يحصل عليها فلا فارق من وجهة نظره، بين الإنسان الحاصل على شهادة في الطب، وبين أي إنسان تعلم هذه المهنة ويمارسها من دون الالتحاق بكلية الطب. فالفارق بينهما سيحدده المرضى الذين يتم علاجهم وينحاز إيليتش في المقام
الهوامش :
الصفحة 376
الأخير إلى ممارسات غير المتخصصين. ففي المجال الطبي، على سبيل المثال، يرى إيليتش أن التقدم الحادث في صحة البشر ، وتقليل أعداد الوفيات، وزيادة متوسط عمر الفرد يعود إلى النظافة، وشرب المياه النقية، أكثر مما يعود إلى وفرة المستشفيات والأطباء المتخصصين اللذين ينظر إليهم دائما على أنهم أصحاب سلطة، ويقدمون سلع خدمية غير مفيدة للمرضى هدفها الوحيد تحقيق المكاسب للأطباء.
إن هدف إيليتش هو أن يتحول تعليم المهارة إلى مشروع مجتمعي يشارك فيه كل أعضاء المجتمع. ولهذا يدعو إلى ضرورة تأسيس مراكز لتعلم المهارات المتنوعة. فكل إنسان يريد أن يتعلم مهارة ما ينبغي أن يذهب إلى مركز لتعليم المهارات، ويبحث عن معلم لهذه المهارة. وكل صاحب مهارة يريد أن يُعلم مهارته ينبغي أن يبحث عن الأفراد المهتمين بهذه المهارة والتعميم الفائدة وانتشارها على نطاق كبير بين قطاعات عريضة من السكان يطالب إيليتش بإنشاء " مراكز تعليم المهارات في أماكن العمل نفسه (1).
كذلك لا يستثني إيليتش الأطفال من هذا المشروع، فهو لا يريد أن يقيد التعليم في فئة عمرية محددة، ولا أن يُختزل في طبقة اجتماعية بعينها، بل يجب تقديمه لكل البشر من كل الأعمار ولكل الطبقات، لذا يدعو إلى ضرورة مشاركة الأطفال حتى يتعلموا ممارسة هذه المهارات منذ الصغر. وهذا ما يطالب به قائلا: ينبغي صرف حوافز ضريبية خاصة للذين يوظفون الأطفال من سنة الثامنة إلى الرابعة عشر ساعتين يوميا في ظل ظروف عمل إنسانية " (2). إن ما يريد أن يقوله إيليتش في هذا النص هو أن التعليم مشروع مفتوح يبدأ منذ الطفولة ويمتد إلى آخر الحياة، ولا يجب أن تحده أي معوقات في أي مرحلة من مراحل الحياة.
الهوامش :
الصفحة 377
الخاتمة :
هكذا أوشكت رحلتنا مع إيليتش على الانتهاء، وهي رحلة جديدة مليئة بالمحطات الخصبة. اتفقنا معه أحيانا واختلفنا معه أحيانا أخرى لكننا إذا نظرنا إلى مجمل إسهامات إيليتش النقدية للتعليم المدرسي، سنجد أن ما ينشده في مجتمع بلا مدارس، هو ضمان الحد الأقصى من الحريات الفردية. فالحرية والعدالة والمساواة هي المقولات المركزية التي تظهر من وراء نقده للتعليم المدرسي. فما يريده إيليتش هو أن تسود الحرية الحقيقية وليست الحرية المزيفة شتى مناحي الحياة الإنسانية حرية أن يقرر الإنسان مصيره وأن أهدافه وأمنياته لنفسه وبنفسه دون أي تدخل من أحد.
إن قناعات إيليتش، وهو في ذلك ليس استثناء بل يتفق معه غالبية الفلاسفة المعاصرين التواقين إلى الحرية هي أن هذه الحرية مستحيلة المنال في ظل الأنظمة السائدة التي جعلت من الإنسان صنما لا روح، له ولا عقل ولا إرادة، واختزلته في ترس آلة الإنتاج والاستهلاك، لا هم له سوى السعي إلى المزيد من الاستهلاك والامتلاك وبلوغ الوفرة والرفاهية.
أصبحت المجتمعات الغربية المعاصرة، من وجهة نظر إيليتش، أشبه بحلبة المنافسة التي لا يحكمها سوى قوانين القوة والصراع والبقاء للأصلح ولهذا فليس من المستغرب أن يتم طرح الفقراء والضعفاء والمهمشين خارج إطار المنافسة، إذ تنظر إليهم هذه المجتمعات على أنهم حجر عثرة على طريق التقدم، ينبغي إزاحته والتخلص منه. لكن هذه المجتمعات القائمة على التنافس والصراع، وعدم نظرتها بعين الاعتبار للطبقات الدنيا وحرمانها من المزايا الاقتصادية والاجتماعية، يتطلب مساءلتها لعدم قدرتها على توفير الشروط الملائمة لبلوغ مجتمع يصبح الإنسان فيه غاية في حد ذاته.
هذه المساءلة النقدية للمجتمعات والأنظمة المعاصرة هي ما تتجلى في كل كتابات إيليتش، والذي يرى فيها أن المدرسة جزء من النظام وتعبر عن مصالحه، فهي التي ترسخ في عقول النشيء تصورات عن المواطن الصالح الذي ينبغي أن يحب وطنه ويحقق مصالحه لكن خدمة الوطن هي دعوة زائفة لتحقيق أغراض أخرى، فالخدمة الحقيقية لن تكون للأوطان، بل ستكون للأنظمة السائدة، فالوطن والنظام أصبحا
الصفحة 378
مترادفين، وتم اختزال الوطن في الأنظمة والحكومات، فالمدارس وأنظمة التعليم الراهنة تعمل على إنتاج مواطنين يتماهون مع الأنظمة.
كذلك فإننا نتفق مع إيليتش في أن الهدف من ربط التعليم المدرسي بالسوق ومجتمع الاستهلاك هو تحقيق مصالح البرجوازية ودعم الأنظمة الرأسمالية التي تستثمر أموالها في التعليم. لكن جعل المدارس والتعليم أدوات في أيدي الأنظمة تحقق مصالحها، جعل إيليتش يرى أنه لا مندوحة لنا من تقويض الأساس الذي يزود الرأسمالية بالموارد البشرية والعقلية إذا أردنا التحرر من مجتمعات القمع والاستغلال.
ولن يتسنى لنا هذا التحرر إلا بإعادة تربية النشء، وتعليمهم بطريقة مغايرة، لبلوغ أهداف مغايرة للأهداف التي رسختها المدارس في عقولهم. إذن، يأتي تغيير التعليم في البداية ويعقبه التغير الاجتماعي والاقتصادي، فما ينبغي أن يرقيه التعليم الجديد هو تغيير التوجهات والاحتياجات البشرية لتأسيس مجتمع جديد يقوم على أنقاض المجتمعات الرأسمالية المعاصرة.
كذلك فإننا نرى أن المجتمع الجديد الذي يلقبه إيليتش بالمجتمع المبهج أو المفرح أشبه بالمجتمعات العضوية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ترى أن المجتمع مثل الكائن الحي الذي يقوم في جوهره على التآزر والتعاضد بين الأعضاء، فهو مجتمع يحقق الاكتفاء الذاتي والضروري من الحاجات لأعضائه، إن مشروع إيليتش يستهدف الإطاحة بالمجتمعات القائمة مجتمعات الوفرة والبذخ والرفاهية، وتشييد مجتمعات جديدة ملؤها الحرية والحب والسعادة والإنسانية.
لكن رغم أهمية وجدارة أطروحات إيليتش حول تحرير التعليم من التبعية للأنظمة التي عملت على إنتاج إنسان متكيف مع عالم الصناعة والتكنولوجيا، إلا أن أطروحاته قد تخللها العديد من النقاط التي نختلف معه فيها. وتأتي في مقدمة هذه النقاط اختزاله لكل مراحل التعليم في التعليم المدرسي، وكأن عقل الطلاب يتوقف عند التعليم المدرسي ولا يكون بعدها قادرا على تطوير نفسه. فلم يتعامل إيليتش مع التعليم المدرسي على أنه مرحلة مؤقتة وانتقالية وغض الطرف عن أن الطلاب ينتقلون بعد ذلك إلى مراحل أعلى من التعليم تتطور فيها عقولهم ووعيهم وطريقة رؤيتهم للعالم. فما نريد أن نقوله هو أن سلبيات التعليم المدرسي مثل ممارسة السلطة على الطلاب والوصاية على عقولهم،
الصفحة 379
سيتم تجاوزها وسيتحرر منها الطلاب في مراحل التعليم اللاحقة فالعقل والوعي الإنسانيين لا يتسمان بالسكون أو الوقوف عند نظرة ثابتة ومتحجرة للعالم والأشياء. ولا يمكن أن تستمر هذه النظرة على نفس الوتيرة منذ بدايات التعليم المدرسي وحتى المراحل المتأخرة من الحياة، بل أنهما ديناميكيان يتطوران بتطور الحياة والمواقف الإنسانية.
كذلك نظر إيليتش إلى إرادة الإنسان وحريته في ظل المجتمعات المعاصرة على أنهما بلا جدوى ولا يمكن أن يغيرا من الأمر شيئا. لكن هذه النظرة السلبية تضع الإنسان في موضع المفعول به لا الفاعل، وتنفي عنه كل إرادة أو قدرة على تغيير واقعه المليء بالتناقضات والصراعات. فلم ينظر إيليتش إلى الإنسان على أنه الفاعل الذي يمكن أن يغير العالم بفضل ملكاته العقلية والنقدية والإبداعية.
إن تاريخ الإنسان هو تاريخ النضال والكفاح المستمران، سواء أكان هذا النضال نضالا ضد الطبيعة أم ضد السلطات الدينية والسياسية. وقد نال الإنسان الحديث بفضل كفاحه ونضاله الكثير من الحقوق والحريات التي ما كان لأحد من أسلافنا أن يسمع عنها أو يحلم بها من قبل. فالطبيعة البشرية تتضمن في جوهرها قوى سالبة ونافية تتمرد دائما على الأوضاع الجائرة. وخير دليل على ذلك هو ما قامت به حركات الطلاب في فرنسا في مايو ۱۹٦٨ عندما ثاروا على أنظمة التعليم ومناهجها التي كانت سائدة آنذاك، وعندما تمردوا على مجتمع الاستهلاك الذي حول الدولة إلى مجموعة من المشروعات الكبرى التي تحقق مصالح أصحابها. فرفض الطلاب أن يكونوا مجرد أدوات تتلاعب بها الأنظمة، وتم الرضوخ لمطالب الطلبة التي عمت مظاهراتهم فرنسا والعديد من الدول الأوربية. إن ما نريد أن نقوله هو أنه إذا كان التعليم أداة لصياغة إيديولوجيات بعينها، فهو يتضمن بداخله عنصرا ثوريا يكمن في الوعي.
أما فيما يتعلق بأطروحاته حول منح الحرية للطلاب في اختيار ما يريدون تعلمه، فهي في الحماية والتنشئة لا يمكن أن تنطبق بحال من الأحوال على الأطفال الذين تقل أعمارهم، وفقا لاتفاقية حقوق الطفل عن ثمانية عشر عام، فلن يستطع الأطفال استخدام هذه الحرية بشكل رشيد، ولذلك أعطت الاتفاقية للوالدين حق المسئولية عن أطفالهما، ومنحت لهما الوصاية عليهم.
الصفحة 380
كذلك ذهب العديد من الفلاسفة المدافعين عن الحرية إلى وضع قيود على ممارسة الطفل لحريته بنفسه وبدون معونة أو إرشاد من أحد فروسو وكانط طالبا بضرورة وجود وسائط بين الطفل وعالمه ومن أهم هذه الوسائط الأسرة والمدرسة. فروسو يعهد بتربية إميل إلى مربي حكيم ينمي فيه الطبيعة الفطرية " فالإنسان إذا تُرك منذ ميلاده إلى نفسه بين الآخرين، فإنه سيكون أشد الكائنات تشوها (..) فالنبات يُشكل بالفلاحة، والناس يشكلون بالتربية (1). وكذلك يعهد كانط بالتربية إلى الأسرة أو إلى المربي الخصوصي في حالة التربية الخاصة، وإلى المدارس في حالة التربية العامة " ومهمة التعليم العام في المدارس هي تكميل التربية المنزلية بتكوين رجال مهرة "(2).
أما فيما يتعلق بالحل الذي قدمه إيليتش والمتمثل في إلغاء المدارس، فهو في تصورنا حل مجاف للواقع الموضوعي وبعيدا عن إمكانية التحقيق الفعلي. وهو من وجهة نظرنا غير مرغوب، إذ تلعب المدارس، رغم تحفظنا على استغلالها كأداة فـي أيـدي الأنظمة، دورا لا يمكن إنكاره في اكتساب الطلاب لمهارات وخبرات اجتماعية أكثر مما يكتسب في الأسرة، إضافة إلى المهارات المعرفية. كذلك فإن قيم الولاء والانتماء التي يتعلمها الطلاب في المدارس لها أهمية كبرى في المحافظة علـى وحـدة الدولـة وعـدم انقسامها، لكن كل هذا يجب أن يتزواج مع حرية الفرد واستقلاله الذاتي، اللذين إن لم يتحققا في مراحل التعليم الأولى، سيتحققان في مراحل التعليم الجامعي.
صحيح، لم يعد التعليم في عصرنا الراهن حبيس المؤسسات التعليمية التقليدية كالمدارس والجامعات. فهناك مجالات جديدة للتعليم خارج إطار المدرسة مثل: التعليم عن بعد، والتعليم المفتوح، وبالفعل تسمح هذه المجالات بقدر أكبر من الحرية للمتعلم في اختيار ما يريد تعلمه، وأصبحت عملية وضع المقررات والمناهج الدراسية تخضع إلى معايير عالمية واتفاقيات دولية، لتجاوز النزعات القومية ضيقة، الأفق، ولتوفير فرص عمل للبشر خارج أوطانهم، إلا أن هذا يخضع في المقام الأخير لتحقيق مصالح الدول الكبرى.
إننا لسنا في حاجة إلى إلغاء المدارس، بقدر ما نحن في حاجة إلى إحداث
الهوامش :
الصفحة 381
تعديلات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية والسياسية السائدة. نحن في حاجة إلى أنظمة تعمل على ترقية وتفعيل قيم العدالة والمساواة وتقليل حدة التفاوتات الطبقية، نحن في حاجة إلى تعليم يُعلي من قيم السلام والتآرز بين البشر. تعليم إنساني يكون الإنسان فيه هو الألف والياء، والقيمة الكبرى التي تسبغ على سائر القيم كل ما لها من قيمة، ولن يتسن لنا بلوغ هذه الأهداف في ظل الأنظمة القائمة في جوهرها على الصراع. لكن عندما يحل محل هذه الأنظمة أنظمة أخرى أكثر عدلا ستكون المدارس هي المؤسسات التي النشء على قيم العدل والحب والسلام.
وأخيرا، فإن اختلافنا مع إيليتش في العديد من النقاط لا يقلل من قيمة وجدة الطرح الذي قدمه لنا، ففلسفة إيليتش في جوهرها تشكل نقدا عنيفا للرأسمالية، لكنه قدم هذا النقد بطريقة جديدة، فلم يسر على نفس الدرب الذي سار عليه كثيرون. فلم ينطلق في نقده للرأسمالية من العامل الاقتصادي كما فعل ماركس والماركسيون، بل انطلق من تحليل ظاهرة المدرسة للكشف عن خطورة الدور الذي تمارسه في استمرار الرأسمالية وتطورها.
الصفحة 382
قائمة المصادر والمراجع:
انظر الصفحة 383 و384
مساهمة إميل دوركايم في سوسيولوجيا التربية :
1. المقدمة :
ظهرت السوسيولوجيا في القرن 19 وقد استوحت مبادرتها مباشرة من الفلسفة. وعموما من فلسفة الأنوار في القرن 18، حيث عرفت تلك الفترة العديد من الفلاسفة الذين اهتموا بدراسة الظواهر الاجتماعية، خاصة بعد سقوط النظام الإقطاعي، نتيجة الضربات التي تلقاها على يد التصنيع والثورة الديموقراطية، نذكر منهم على سبيل المثال لا العرض مونتسكيو صاحب مؤلف روح القوانين 1748 وجون لوك وجان جاك روسو مؤلف كتاب العقد الاجتماعي عام 1762 والذي تناول فيه مسألة الرباط الفردي ودوتكوفيل وإدمون بوك وفرديريك لوبلاي...وغيرهم، ويعد أوجست كونت (1748-1857) المؤسس الفعلي لهذا العلم بابتداعه مصطلح السوسيولوجيا (Sociologie) ثم يأتي كبار المؤسسين للسوسيولوجيا المعروفين إميل دوركايم (1858-1917)، کارل ماركس (1818-1883)، وماكس فيبر ما بين (1920-1864).
لقد أحدثت الثورة الفرنسية تغييرات عميقة في النظام اليومي للفرنسيين، وعن طريق إرادة فهم هذه التحولات تطورت منهجها في البحث السوسيولوجي جعلت السوسيولوجيا علماً قائماً بحد ذاته متجاوزة بذلك كل التفسيرات الإيديولوجية والنفسية والبيولوجية، حيث تميز ذلك العصر ببروز بوادر التفكير في مجتمع مغاير في طور النشأة وبرفض الفكرة في الوقت ذاته تزعزعت أوربا بفعل الثورة الفرنسية والمحاولات الثورية التي تعالت في القرن 19 والتحولات العميقة التي أدخلتها التطورات الصناعية والتي حركها النموذج الأنجلوساكسوني، وأخيرا الأنماط التفكيرية الجديدة التي أفرزها تطور العلوم الطبيعية1».
نحاول في هذه المقالة التطرق لعلاقة السوسيولوجيا بالتربية عند دوركايم ودوره في تهيئة هذا الفرع المعرفي للظهور بفرنسا في خضم ظروف سوسيوتاريخية وسياسية صعبة، وذلك من خلال مؤلفاته التي اعتمدناها في إعداد المقال: (قواعد المنهج السوسيولوجي، التربية والمجتمع، التربية والسوسيولوجيا التربية الأخلاقية تقسيم العمل) والحاملة لأفكار هذا العالم التي تتمحور حول دور التربية في توازن المجتمع عن طريق الأخلاق، وذلك بطرح الإشكالية التالية ما هي طبيعة مساهمة دوركايم في سوسيولوجيا التربية؟
تكمن أهداف دراستنا في تقديم مساهمة نظرية تستند إلى ما أنتجه تفكير دوركايم الإصلاحي والمحافظ في مواجهة المشكلات الأخلاقية والاجتماعية التي برزت أثناء عهده
الصفحة 114
الجمهورية الثالثة بفرنسا ( حيث كانت أفكار البرجوازية الصغيرة تسيطر على هذه الجمهورية) مع محاولة تبيان لمسته السوسيولوجية في التوجيه الأخلاقي لإقامة نموذج مجتمع مختلف عن نموذج ماركس. وعليه نأمل أن تكون هذه المحاولة إضافة جديدة تتقصى أهم أفكاره السوسيولوجية في سياقها التاريخي والثقافي فما أحوجنا إلى تكثيف الجهود الفكرية والعلمية للنهوض بالتعليم والأخلاق في بلداننا العربية التي تعاني منذ فترة طويلة من التهميش للعلوم الاجتماعية والإنسانية في تناول القضايا الثقافية والسياسية والاقتصادية، وعلم الاجتماع التربوي على وجه الخصوص ليس بمنأى عن هذا التجاهل.
2. تحديد موضوع السوسيولوجيا:
يعرف دوركايم موضوع السوسيولوجيا بـ أنه العلم الذي يدرس الظواهر الاجتماعية». حيث يبين «إمكانية وضرورة وجود علم اجتماع كعلم موضوعي على غرار العلوم الأخرى. وبرأيه، لكي يقوم هذا العلم وينهض لابد من توافر شرطين رئيسيين:
الصفحة 115
لقد ألح دوركايم منذ الانطلاقة الأولى لتفكيره السوسيولوجي التربوي، على أهمية الجوانب الاجتماعية للعملية التربوية وكان يشعر بالحاجة إلى تحرير التربية من أغلالها بوصفها عملية سيكولوجية بالدرجة الأولى تسعى إلى تحرير طاقات الفرد الكامنة، بل نظر إليها بأنها شيء اجتماعي بالدرجة الأولى
3 أهداف السوسيولوجيا نحيل إلى هدفين أساسين:
أولا: وصف الظواهر الاجتماعية: حيث أن السوسيولوجيا تريد أن تستوعب هذه الظواهر كما هي في الواقع بتطبيق المنهج العلمي عليها، ويبرر فيبر هذا المنطلق بالحياد البديهي، وبعبارة أخرى لغرض فهم العالم الاجتماعي من الضروري التمييز بين:
فالأحكام الواقعية هي التي يستند عليها التفكير السوسيولوجي وتتمثل مهمة الباحث حيالها في جمع الآراء المحدودة عن كل فرد وتخليصها من الطابع الذاتي والسعي لتحقيق الموضوعية مع استخدام المقاربة الكمية الإحصاءات..) والمقاربة النوعية من خلال المقابلات والملاحظة أو بالجمع بين المقاربتين، كما يستعين الباحث بالمقارنة لضمان الموضوعية ومراعاة التنوع العالم الاجتماعي الذي يُمكن الباحث من فهم وشرح الأشياء المشتركة بين الأفراد.
ثانيا: وهو الفهم والتفسير، انطلاقا من الأوصاف التي يحصل عليها السوسيولوجي (معطيات سوسيولوجية)، فيحاول تفسير الحالات المدروسة وهي ليست وحيدة وعامة، أي أنها جزئية ومتعددة، حيث يميز روبرت ميرتون بين النظريات العامة والنظريات متوسطة المدى، والتمييز بين العلوم الصعبة التي تسمح بإنشاء حقائق متغيرة وعالمية وما يسمى العلوم اللينة مثل: العلوم الإنسانية والاجتماعية بسب القدرة الانعكاسية للإنسان.
الصفحة 116
4. الإطار المفاهيمي :
1 -4 التنشئة الاجتماعية:
يمكن تعريف التنشئة الاجتماعية بأنها تعليم وتلقين طرق العمل لخصائص الجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد، وبفضلها يستدمج الفرد المعايير والقيم الخاصة بالبيئة الاجتماعية (قوانين ولوائح..) ومن خلال الجزاء والعقاب والقيم (الاحترام....) ليس لها خاصية ملموسة ملزمة إنها تمثل الأسس التي يسترشد بها الأفراد من أجل التصرف في معيشهم اليومي
2-4 التنشئة الاجتماعية الأولية:
تتم أثناء الطفولة وتتعلق بكل المعارف والمكتسبات السلوكية والعامة، وتحدث في أحضان الأسرة والمدرسة وجماعة الرفاق ووسائل الإعلام، فالطفل يتعلم من دون شك ودون أن يطرح تساؤلات حول المسافة الحرجة بين ما يتعلمه بفضل إشراكه في مختلف الجماعات الاجتماعية ناقل لنظام معياري وتفسيري للواقع يعمل دور البوصلة في نشاطه اليومي وتتوقف المعرفة التي يكتسبها الطفل بناء لطبيعة البيئة التي تجري فيها التنشئة الاجتماعية الأولية (أسرة مدرسة وعلى المهارات التي يوفرها له الكبار المساهمين في التنشئة. مثال: تعلم الأسر التي تعيش في أوساط شعبية أبناءها بأساليب تنشئة تعسفية وتسلطية على غرار الأسر التي تنتمي لأوساط اجتماعية راقية، فتتصرف حيالهم بأساليب الحوار والنقاش التي يمنحهم هامشاً من الحرية.
3-4 التنشئة الاجتماعية الثانوية:
تجري في مرحلة سن الرشد في فترة تكون فيها التنشئة غير مكتملة أو ناجحة، ويتم ذلك من خلال تعليم الأفراد الراشدين أساليب أكثر خصوصية، فالفرد يكون في مرحلة تكوين الذات، وقابل لمخالفة القواعد والقيم بسبب اشتراكه مع فئات اجتماعية أخرى. وعلى العموم تجري عملية التنشئة الاجتماعية في اتجاهين هما:
الصفحة 117
يمكن القول أن التنشئة الاجتماعية تجري في اتجاه مزدوج في تعريف الفرد بمجموعته عن طريق الانتماء والتمييز.
4-4 التنشئة الاجتماعية المدرسية:
عرف هذا النوع من التنشئة الاجتماعية في أوربا في القرن 18 حيث كان يُنظر للأطفال على أنهم كائنات غير ناضجة ويجب ترويضها، لذلك كانت تنشئتهم تتم ضمن العلاقة التربوية بين المعلم والتلميذ بنقل المعارف ضمن نظام تعليمي مجاني وإجباري. ويمكن تحديد هذه التنشئة بأنها مجموع المعارف المتحصل عليها في إطار نظام تعليمي ومعرفي، وكذلك في اعتبارها بمثابة مجموع الخبرات في تشكيل المدرسة، حيث تتبنى التنشئة الاجتماعية المدرسية تقريرا تربويا بالرضوخ لعدد من القوانين والسلوكيات والعلاقات التشاركية في الوضعيات المدرسية وضمن السياق الموضوعي للتجربة المدرسية والناتج هو بلوغ « مهنة تلميذ» التي باتت غير موجودة حسب تعبير فيليب بيرنو، الذي يثير الانتباه لفقدان أو غياب معنى المدرسة لدى أغلب التلاميذ فالعمل المدرسي ليس كبقية الأعمال، حيث لا نتساءل في المدرسة كثيراً عن كيفية مساعدة التلاميذ، وإعطائهم معنى لمهمتهم، فمهنة التلميذ هي مهنة معرفية تساعدهم في التعامل مع الواقع، ببساطة، ووضوح، بدون اشكالات، في حقل معياري أكثر منه تحليلي»".
5-4 الثقافة :
تعتبر الثقافة نتاج عملية التنشئة الاجتماعية ) ولا نقصد معناها الفني أو أدبي) والتعريف الأنثروبولوجي واسع النطاق، فكل فرد له ،ثقافته وكذلك المجتمع، فهي بمثابة الإسمنت الأساسي لكل المجتمعات ويمكن تعريفها بأنها طريقة حياة الأفراد، ومجموع الأفكار والعادات التي يتعلمها الفرد ويتقاسمها وينقلها جيلا بعد جيل ونميز فيها بين العناصر اللامادية التي تقع ضمن العمليات العقلية والسلوكية التي يتم تصنفيها ضمن ثلاث مجموعات :
إن الثقافة ليست كلا وحيدا أو منقسماً، إذ تتألف من مجموعة من الخصائص والممارسات الثقافية المتعددة حسب كل طبقة اجتماعية والنوع والجنس والسن والمعتقدات
الصفحة 118
الدينية، وعن ثقافة فرعية لمجموعة معينة داخل مجتمع عالمي أو ثقافة مضادة إذا كانت مجموعة معينة في نزاع مع الثقافة المهيمنة، وبالتالي يمكن القول أن «الثقافة انعكاس المجتمع الذي تنمو في كنفه وكلاهما متلازمان، إذ لا يمكن أن يوجد مجتمع دون ثقافة، ولا يمكن لثقافة أن تنمو دون جماعات داخل مجتمع، فهي الأساس الذي يرتقي به البشر من الكيان البيولوجي إلى المستوى الإنساني فالاجتماعي»8.
6-4البنية الاجتماعية :
المجموعة الاجتماعية عبارة عن مجموعة من الأفراد يعملون على الحفاظ على علاقات مستمرة ضمن سياق سلوكي متماثل ومع أهداف ومعتقدات وقيم مشتركة لوجود المجموعة الاجتماعية كما ينبغي أن تكون على درجة من الوعي لتحديد وتماسك إجراءات التكامل المتبادل بين أعضائها )أسرة طبقة اجتماعية... وغيرها).
7-4المؤسسات الاجتماعية :
هي الوحدة المكونة لهيكل المجتمع، وتهدف لتنظيم العلاقات بين أفراده وهي مجموعة من المعايير وقواعد السلوك التي تنظم نشاط المجتمع، مثال: المؤسسات الاجتماعية السابقة = الممارسات الاجتماعية التي تتمتع بمعنى ذا أهمية وتتعلق بالقرابة، والتكاثر، وإنتاج السلع، وما شابه ذلك، والمؤسسة الأسرية (الزواج( والتعليم ( القوانين التربوية)، الاقتصاد (عقد العمل( السياسة (المبادئ الديمقراطية).
8-4الحقل :
يقصد بمصطلح الحقل champ حسب بيار بوردیو (P. Bourdieu) جزء من العالم الاجتماعي (المسمى فضاء اجتماعي( مسير بمجموعة من القوانين جزء منها يمثل خاص والجزء الآخر عمومي في مجمل المجتمع. مثال: الحقل السياسي الديني العلمي، المدرسي....وغيرها. «فالمجال الاجتماعي يتشكل بنائياً، بحيث يتم توزيع الأفراد والمجتمعات داخله على أساس توزيع إحصائي، على أساس مصدرين وخاصة في المجتمعات الحديثة المتقدمة هما رأس المال الاقتصادي ورأس المال الثقافي»9.
الصفحة 119
5. مستويات بناء الموضوع المجتمعي الماكرو والميكرو سوسيولوجي :
1-5السيوسيولوجيا الكلية (الماكرو سوسيولوجي) :
هي تحليل العلاقات الاجتماعية داخل الفئات الاجتماعية الكبرى مثل تلك الموجودة في بلد ما أو مجموعة من الدول، وهو ما يسمى بالمجتمع العالمي مثال: في المجال التعليمي حيث نتحدث عن النظام التعليمي ككل أي على صعيد عالمي فمع هذا النموذج، ترتسم معالم الطريق المؤدية إلى القطع (Rupture) مع النظرة الشائعة التي ترتب العلوم الإنسانية حسب عوالم (Mondes) متعددة يحوي كل واحد منها عددا من الظواهر الخاصة. كما ترتسم مع هذا النموذج أيضا معالم الطريق المؤدية إلى الحقل النظري الخاص بالمستويات Niveaux)، مع ما يوجهنا إليه من وعي تمييزات تفترض واقعا مجتمعيا واحدا يمكن النظر إليه ومعالجته ارتكازاً على مقاربات (Approches) متنوعة ومتعددة»10 .
2-5السوسيولوجيا الجزئية (الميكروسوسيولوجي):
هي دراسة التفاعلات الاجتماعية داخل المجموعات الاجتماعية الصغيرة، وهذا يعني عينة صغيرة في مجال التعليم على سبيل المثال: يهتم الباحث بمؤسسة أو فئة أو حتى مجموعة من التلاميذ على وجه الخصوص.
6. ماهية سيوسيولوجيا التربية عند دوركايم :
تعني سوسيولوجيا التربية بدراسة البنى والعمليات والتطبيقات من منظور علم الاجتماع، وهذا يعني أن النظريات ومناهج البحث والتساؤلات السوسيولوجية المواتية تستخدم من أجل تحقيق فهم للعلاقة بين الأنظمة التربوية والمجتمع، سواء كان الأمر على المستوى الماكرو أم المستوى الميكرو»11، وتعرف أيضا بكونها علم يدرس التأثيرات الاجتماعية التي تؤثر على مستقبل الدراسي للأفراد كما هو الشأن بالنسبة لتنظيم المنظومة السياسية، وميكانيزمات التوجيه والمستوى السوسيو ثقافي لأسر المتمدرسين وتوقعات المدرسين والآباء وإدماج المعايير والقيم الاجتماعية من قبل التلاميذ ومخرجات الأنظمة التربوية»12.
تقوم سوسيولوجيا التربية حسب أحمد أوزي « بدراسة أشكال الأنشطة التربوية للمؤسسات، كأنشطة المدرسين والتلاميذ والإداريين داخل المؤسسات المدرسية. كما يقوم بوصف طبيعة العلاقات والأنشطة التي تتم بينهم : كما يهتم علم الاجتماع التربوي بدراسة
الصفحة 120
العلاقات التي تتم بين المدرسة وبين مؤسسات أخرى كالأسرة، والمسجد، والنادي. كما يهتم بالشروط الاقتصادية والطبيعية التي تعيش فيها هذه المؤسسات وتؤثر في شروط وجودها وتعاملها»13 ، وتجدر الإشارة أن هناك تعاريف لا مجال لحصرها لكنها تعالج في نظرنا علاقة المدرسة بالمحيط الاجتماعي، وكل التفاعلات الاجتماعية داخل المؤسسات التربوية والاهتمام بكل الأدوار والنشاطات المدرسية ومختلف العلاقات بين )المدرسين التلاميذ الأولياء، الإداريين..( وآلياتها التعليمية والبيداغوجية ومخرجاتها )التقويم والاصطفاء والانتقاء( .وقد يطول حديثنا إلى سرد علاقة المدرسة بالسياسة والاقتصاد والثقافة وكلها تنطوي تحت ما يسمى بـ السوسيولوجيا التربية هذا العلم الذي يفصح عنه دوركايم في دراسة التربية بقوله: بوصفي عالم اجتماع ومن خلال علم الاجتماع أحدثكم عن التربية، وبعيداً عن التحيز والمواربة إنني مقتنع بأنه لا يوجد منهج آخر أكثر كفاءة من منهج علم الاجتماع، في استجلاء حقيقة الأشياء وتحديد طبيعتها، فالتربية شيء اجتماعي بالدرجة الأولى"14.
يهدف علم الاجتماع التربية عموماً لدراسة عمليات التنشئة الاجتماعية المدرسية. والمحددات الاجتماعية للنتائج والتوقعات والاحتمالات المدرسية والتقارير البيداغوجية الخصائص والمؤسسات وموظفي التعليم والعلاقات بين الشهادات والوظائف والمشكلات التي يعاني منها كالرسوب والعنف... وغيرها في ظل المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي كانت تعاني منها فرنسا بعد الثورة الفرنسية.
لقد وضع دوركايم من خلال سوسيولوجيا التربية أساسيات برنامج التحليل السوسيولوجي يأخذ بعين الاعتبار الواقع التربوي، حيث يميز بوضوح بين سوسيولوجيا التربية والبيداغوجيا، فالأولى ترتكز على ظواهر مثبة أو أدلة أي علمية والثانية قائمة على السلوكات المشجعة، ومن خلالها حدد علم التربية "science du l'education" على نحو بالغ الوضوح بأنه علم اجتماعي، إن ما يعنيه دوركايم بالبيداغوجيا "pédagogie" ليس نشاطاً تربوياً أو علماً تأملياً بل ما يعنيه بالبيداغوجيا هو تأثير الجانب الثاني (التأمل) في الجانب الأول النشاط، وهذا يعني أن المهمة الأساسية للتأمل الفكري تكون في عملية البحث التي تجري في إطار معطيات علم النفس وعلم الاجتماع عن المبادئ الأساسية للسلوك الإنساني من أجل الإصلاح التربوي والبيداغوجيا، وفقا لذلك التصور يمكن أن تكون مثالية من غير أن تنتهي إلى مصائد الإيتوبيا»15، وبالتالي يمكن القول أن التربية لا تعني على حد تعبير علي أسعد وطفة البيداغوجيا، «فالبيداغوجيا كما يراها ،دوركايم نظرية تطبيقية نقدية تعمل على توجيه الحياة التربوية، وهدايتها نحو آفاق محددة وعمليات ،معلنة وهي تشكل منظومة من المبادئ والرؤى والمناهج التي توجه العملية التربوية ومع ذلك فإن البدياغوجيا هي التي تعطي التربية
الصفحة 121
معناها ودلالاتها، ومن غير البيداغوجيا (نظرية التربية( تتحول التربية إلى فعل عشوائي يفقد دلالاته ومعناه 16. »
عليه يمكن القول أن هذا التمييز نابع من نقد الواقع وأعمال السابقين من فلاسفة وباحثين في الشأن التربوي حيث تأخذ بعين الاعتبار أهم المقومات الأساسية للتربية في بناء المجتمع بدأ بتناوله لفطرة النفس البشرية وميولها ونوازعها ثم ميراثها التاريخي والاجتماعي، وما يجب توفيره من متطلبات واحتياجات للنشء لكي يعيش الحاضر.
وتنقسم التوجهات النظرية في سوسيولوجيا التربية إلى ثلاث اتجاهات :
بعد أن كانت سوسيولوجيا التربية ضمن السوسيولوجيا الجزئية منذ سنوات طويلة، فقد تطور بشكل ملحوظ على مستوى سوسيولوجيا (تحليل الأدوار والتفاعلات) وعلى مستوى السوسيولوجيا الكلية تحليل العلاقات بين النظام وبقية أنساق المجتمع) والرابطة المتوسطة (الواسطة المؤلفة من تحليل المنظمات والمؤسسات المدرسية (مثال: المدرسة).
1-6التربية الأخلاقية عند دوكايم :
انطلق دوركايم في تناوله لمفهوم «التربية الأخلاقية» بطرحها كمشكلة برزت في ظروف خاصة مرت بها فرنسا وكانت سببا في أزمة عانى منها النظام التقليدي للتربية فيقول « هذه المشكلة كما قلت هي سبب الأزمة التي يعانها نظام التقليدي للتربية، وهي التي تهزه هزا قد يبلغ أحيانا درجة كبيرة من العنف والخطورة، إذ لا يخفى أن كل ما من شأنه أن يضعف التربية الخلقية، وكل من يخشى من التشكيك في رسالتها يهدد في الوقت نفسه الخلق العام في صميمه، ولهذا فإن هذه المسألة تقتضي المربين كثيرا من العناية والاهتمام وتتطلب فهم علاجا سريعا»17، وعلى هذا الأساس شدد على طبيعة التربية الأخلاقية العقلية التي يعني بها
الصفحة 122
«التربية التي لا تستند إلى المبادئ التي تقوم عليها الديانات المنزلة وإنما ترتكز فقط على أفكار ومبادئ يبررها العقل وحده أي أنها في كلمة واحدة تربية عقلية خالصة»18.
كما خصص دوركايم في صميم ما أسماه بـ علم الأخلاق مكاناً لسوسيولوجيا التربية، وبدلا من أن يطيل الكلام عن القيم الكونية والحضارة بالطريقة الكلاسيكية للفلاسفة الأوربيين، فقد تبنى دوركايم منذ البداية موقفا نسبيا يؤسس لإمكانية علم للتربية، لكل مجتمع نظامه التربوي الخاص به ويشارك في تحديد .فرادته للتربية وظيفة اجتماعية أساسية وهي تقديم الأفكار التي توجهنا في وجودنا في العالم، الهدف الأول للتربية هو ربط الطفل بالمجتمع، وبعدئذ، فإن عمل دوركايم هو من جهة نظري تعريف التربية وصلتها بالأخلاق؛ ومن جهة أخرى تطبيقي توجيه أصول التربية الحديثة».19
من منطلقات اشتغاله الفكري الاهتمام بالتعليم الذي يعرفه بأنه ظاهرة اجتماعية بارزة، وهو عمل الأجيال البالغة على أولئك الذين لم ينضجوا بعد للحياة الاجتماعية. وهدفه إثارة وتنميه الطفل في عدد معين من الجوانب المادية والفكرية والأخلاقية المطلوبة منه ومن المجتمع السياسي ككل والبيئة الخاصة التي يستهدفها بصفه خاصه، لذلك فهو يعتبر التعليم واجب مقدس، كما رأى في العديد من طلبته نوعا من الولاء لمستقبل التعليم في فرنسا، وبالإضافة إلى التعليم والبحث وجد دوركايم متسعا من الوقت ليؤسس مع العديد من زملائه أول مجلة سوسيولوجية وهي حولية علم الاجتماع، وبناء لذلك حدد دوركايم وظيفتين رئيسيتين للمدرسة وهما الإدماج الاجتماعي والسياسي للأجيال المقبلة، وبالتالي إدماجها في التقسيم الاجتماعي للعمل.
2-6الوظائف الاجتماعية للتربية حسب دوركايم :
1-2-6دوركايم (1858-1917) وتحديد السياق التاريخي :
ولد دوركايم في مدينة إيبنال بفرنسا في 15 أفريل 1858 توفي عام 1917، إذ يعتبر أحد المنظرين المشهورين في النظرية الوضعية بعد أوجست كونت، وأحد أهم رواد الحركة العلمية في عصره وهو أول عالم اجتماع أكاديمي في فرنسا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ويرجع ذلك، وبصفة خاصة إلى ارتباط جوانب حياته كلها بعمله الأكاديمي، ومع ذلك. فقد كان معنيا بمشكلات المجتمع الفرنسي ومتصلا بها اتصالا وثيقا. لكن اهتمامه بهذه المشكلات كان مختلفا عن اهتمام غيره وذلك نظرا لوضعه المهني والعلمي المستقر ومكانته الراسخة بحيث يمكننا أن نقول أن دوركايم على خلاف المفكرين السابقين له، وشأنه شأن
الصفحة 123
اللاحقين، قد صارع في المسرح الفكري والاجتماعي ذاته وهو يرتكز على وضع أكاديمي وعلمي ولم ينطلق في صراعه هذا من داخل الشارع السياسي والفكري والاجتماعي ذاته»21، شغل كرسي علم الاجتماع والتربية في جامعتي بوردو ،والسربون ويمكن اختصار أهم محطاته التاريخية المؤثرة مساره الفكري، كما يلي:
2-2-6السياق الاقتصادي والثقافي :
يقول موريس ديبوس (Marise Debesse كان دوركايم كأي كلاسيكي مرآة شمولية لعصره وعقيدته انعكاساً للمرحلة التاريخية التي عاشها، وهي مرحلة الجمهورية الثالثة عصر التعليم العلماني، الذي ساد نظامنا التعليمي العام وعصر التطور الصناعي الكبير، وهو العصر الذي شهدت فيه العلوم الإنسانية عهد ازدهارها وتطورها24»، وبالتالي عرف السياق التاريخي والثقافي العناصر التالية
الصفحة 124
لذلك يثير دوركايم المسألة الرئيسية والمفتاحية لعلاقة الإنسان بالجماعة وأساس المجتمعات، حيث يعتقد أنه من أجل بناء علم اجتماعي علمي من الضرورة بمكان التغلب على الإيديولوجيات السياسية والاجتماعية والسعي لتحديد ظروف وجود مجتمع يحترم الأفراد وتطوير المدارس والتربية.
من ضمن الآثار العلمية التي تركها دوركايم قبل مماته منشوراته الرئيسية الثلاث التي أمكننا الإطلاع عليها بفضل عناية تلميذه بول فوكونيه (Paul Faucounet)* وهي:
7. دوركايم ووظائف التربية في المجتمع :
کرس دوركايم كل جهوده في تناول التطور البيداغوجي بفرنسا عن طريق كتابة مجموعة من النصوص في التربية ففي نص كتبه عام 1911 في القاموس البيداغوجي لـ فردیناند بویسون يميز التربية كضرورة تتكون في كل مجتمع من قاعدة مشتركة من المعارف والأفكار والعناصر المتنوعة، غير منفصل عن الروح لدى دوركايم من خلال إسهام المدرسة لنوع من التوافق الاجتماعي، فالمدرسة لها وظيفة النقل من جيل لآخر للقيم المشتركة وتمثل المحرك الأساسي للاستمرارية الاجتماعية والثقافية»25، أي أن وظيفتها ضرورية في المجتمع، حيث من خلالها تورث السمات السائدة الحاملة لتراث الأمة وتاريخها والمحافظة على كيانها من التفكك والانزلاقات والعنف ومختلف المشكلات الاجتماعية فالتربية «تنشئة اجتماعية تمارسها الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة، وفي سياق آخر انطلاقا من ملاحظة الوقائع
الهوامش :
* يمكن الإشارة أن هناك أعمال أخرى نشرت بعد وفاة دوركايم مثل الاشتراكية (1928)، علم الاجتماع والفلسفة (1924) دروس في علم الاجتماع (1950)، مونتسكيو وروسو (1953)، وغير ذلك من المقالات والأعمال.
الصفحة 125
ودراسة الأنظمة وتحليل البنى المعرفية يعرف دوركايم التربية بأنها الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم ترشد بعد، وذلك من أجل الحياة الاجتماعية»26.
كما استدل دوركايم بالملاحظة التاريخية مؤكدا على أن كل مجتمع، بحاجة في زمن محدد من تطوره لنظام تربوي ضروري للأفراد، ويحدد كل مجتمع تمثيلا أو تصورا مثالياً للفرد، عن ما يجب أن يكون عليه من وجهة نظر فكرية، فيزيقيا وأخلاقيا. وهذا التصور المثالي للسلوك الفردي يحدد عن طريق مجتمع تنشده المجموعات الاجتماعية المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية. فالمجتمع لا يمكن أن يعيش بمعزل عن أعضاءه؛ وبالتالي تسمح التربية باستمرار يته وتضمن ديمومته عن طريق تثبيت الروح والعناصر الضرورية للحياة الجماعية، ويؤكد ذلك بقوله: «لكل مجتمع في الواقع وفي لحظة ما من مستويات تطوره، نظام تربوي، يفرض نفسه على الأفراد عبر قوة لا تقاوم، ومن الخطأ أن نعتقد بأننا نستطيع تربية أطفالنا بالطريقة التي ترغب فيها أو نريدها، فهناك عادات وأعراف يجب علينا أن نخضع لحكمها، وعندما نحاول أن نخرج عنها بقوة فإن ذلك ينعكس سلباً على حياة أطفالنا»، فهو يحيل صراحة لأهمية الوعي الجمعي في تكوين شخصية الفرد عن طريق نقل الموروث الثقافي الجماعي، مع تأكيده على خاصية القهر والإكراه، لذلك فالفرد هو نتيجة طبيعية للمجتمع. وعن طريق التربية يتحول إلى كائن اجتماعي، وهي حسب هذا الطرح بمثابة «المؤسسة المنوطة بالصراع في المجتمع، فمن ناحية تقيم التربية وتدعم الإجماع والتضامن عبر وظيفتها الخاصة بالتنشئة الاجتماعية ومن ناحية أخرى فإن المصلحة الذاتية للأفراد والجماعات تتطلب تنظيم التربية، وهو يقر بأن التربية مسؤولة عن إنتاج البالغ المثالي، كما نوه إلى أن التربية هي مهمة أولئك الذين يشاركون في هذه العملية».28
يمكن القول أن التنشئة الاجتماعية تتم منذ الولادة ولكنها تحدث في المدرسة بشكل نسقي منتظم، بحيث تصبح مركزا للاستمرارية الاقتصادية عندما يتعلق الأمر بنقل القيم والقواعد والمعارف والخبرات لكن كل مجتمع يتغير مع الزمن، وتأخذ المدرسة عبر التاريخ بعين الاعتبار الاحتياجات البارزة والتي لا تزال بعيدة عن الطابع المؤسساتي في المجتمع السياسي العام، ورغم أن دوركايم أبرز أن التعليم يتغير على إيقاع التغيرات الاجتماعية، إذ يقول: تكون التحولات الاجتماعية دائما نتاجا ومؤشرا لتحولات اجتماعية قادرة على أن تفسر ما يجري في مجال التربية ومع ذلك فإنه لم يدرس الجوانب العكسية، أي دور التغير التربوي في حياة المجتمع»29.
الصفحة 126
8. الخاتمة :
استطاع دوركايم التأكيد على أنه كلما تنوع المجتمع ازداد عدد الأفراد المتخصصين وزاد اعتمادهم على بعضهم البعض وبالتالي فالثقافة المستوعبة من طرف الأفراد هي التي تكفل اندماجهم في المجتمع المعاصر وتجعل تماسكهم ممكنا. وفي هذه الفترات التي تعرف تغيرات اجتماعية قوية يمكن أن تؤدي إلى إضعاف الوصول لمؤسسات تعليمية وتحيلها إلى مؤسسات تعيش حالة من الأنوميا (ضعف القواعد الاجتماعية التي تترك فرد يواجه لوحده المؤثرات والعواطف دون تنظيم جماعي وعليه فالمجتمع بحاجة لنظام أخلاقي يكفل توازن المجتمع ويحميه من التفكك والتصدع، ويكون ذلك عن طريق المدرسة.
كما توصلنا من خلال هذا المقال لنتيجة هامة مفادها ضرورة طرح أسئلة جديدة تكون بمثابة محاولات تحاكي الواقع التعليمي الذي تعيشه الدول العربية والجزائر على وجه الخصوص، وهي كذلك أسئلة تسترشد بالقضايا والمشكلات التي يعاني منها قطاع التربية، لنحيل بذلك للعلاقة بين المجتمع والسياسة والاقتصاد للإعراب عن آمالنا الموضوعية كباحثين في الشأن السوسيولوجي في بلورة نموذج تربوي ينبغي إتباعه لتعليم التلاميذ ويساعد المعلمين والمربين في تجاوز مشكلاتهم النظرية والميدانية وفي الوقت ذاته، يعني بالتواصل مع الآخرين في نقل المعرفة العلمية والأدبية، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: كيف يمكن للمدرسة أن تؤدي وظيفة حفظ النظام العام وفي ذات الوقت تساهم في التغيير؟.
الهوامش :
الصفحة 127
9- عثمان إبراهيم عيسى النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار الشروق للنشر والتوزيع، الأردن، 2008 ص 171.
10 - عبد الله إبراهيم علم الاجتماع، مرجع سابق، ص.76
11- لورنس ج. ساها المدرسة والمجتمع التمدرس واللاتمدرس دراسات مترجمة في أصول التربية، تر: عصام الدين علي هلال و محمد ابراهيم المنوفي و أميرة عبد السلام زايد دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، مصر، 2018، ص 09
12 - عبد الكريم غريب المنهل التربوي، ج 2، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، 2006، ص 863 13- أحمد أوزي، المعجم الموسوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، 2006، ص.167 -14- إميل دوركايم التربية والمجتمع، تر: على أسعد وطفة دار معد للطباعة والنشر، دمشق، ط5، 1996، ص
15- المرجع نفسه، ص 28
16- علي أسعد وطفة، مرجع سابق، ص.62
17- إميل دوركايم، التربية الأخلاقية تر: محمد بدوي المركز القومي للترجمة، القاهرة، ص.05
18 - المرجع نفسه، ص.05
19- فيليب كابان وجان فرانسوا دورتیه، مرجع سابق، ص.59
20- والاس رث النظرية المعاصرة في علم الاجتماع تمدد أفاق النظرية الكلاسيكية، تر: محمد عبد الكريم الحوراني، دار المجدلاوي للنشر، الأردن، 2012 ص 56.
21- محمود عودة، تاريخ علم الاجتماع، دار النهضة العربية، لبنان: (د. ت)، ص.189
22 -إميل دوركايم التربية والمجتمع، مرجع سابق، ص.11
23- علي أسعد وطفة، مرجع سابق، ص.49
24- إميل دوكايم التربية والمجتمع، مرجع سابق، ص 10
25 - Pierre Paul Zalio, Durkheim, Ed HACHETTE, Paris, 2001, pp 106-107.
26- علي أسعد وطفة أصول التربية، مرجع سابق، ص.49
-27 إميل دوركايم التربية والمجتمع، ص 20 ص 21
28-لورنس ج. ساها، مرجع سابق، ص.13 29
29- علي أسعد وطفة أصول التربية، مرجع سابق، ص 217
الصفحة 128
المراجع بالعربية :
انظر الصفحة 128 و 129